الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5265 -
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ الْفَقِيرَ الْمُتَعَفِّفَ أَبَا الْعِيَالِ» ". (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .
ــ
5265 -
(وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ الْفَقِيرَ الْمُتَعَفِّفَ أَبَا الْعِيَالِ» ") . الْمَعْنَى أَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ صَاحِبَ الْعِيَالِ وَفَقِيرَ الْحَالِ وَكَسِيرَ الْبَالِ تَعَفَّفَ عَنِ السُّؤَالِ، فَهُوَ الْمُؤْمِنُ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، فَلِذَا أَحَبَّهُ ذُو الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .
5266 -
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ رضي الله عنه قَالَ: اسْتَسْقَى يَوْمًا عُمَرُ، فَجِيءَ بِمَاءٍ قَدْ شِيبَ بِعَسَلٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ لِطَيِّبٌ، أَسْمَعُ اللَّهَ عز وجل نَعَى عَلَى قَوْمٍ شَهَوَاتِهِمْ فَقَالَ:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] فَأَخَافُ أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا، فَلَمْ يَشْرَبْهُ. رَوَاهُ رَزِينٌ.
ــ
5266 -
(وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ)، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكَنَّى أَبَا أُسَامَةَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، مَدَنِيٌّ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ، سَمِعَ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ، وَرَوَى عَنْهُ الثَّوْرِيُّ، وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ. (قَالَ: اسْتَسْقَى) أَيْ: طَلَبَ الْمَاءَ (يَوْمًا عُمَرُ، فَجِيءَ بِمَاءٍ قَدْ شِيبَ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ: خُلِطَ (بِعَسَلٍ، قَالَ: إِنَّهُ) أَيْ: مَاءُ الْعَسَلِ (لَطَيِّبٌ)، أَيْ: طَعْمًا وَشَرْعًا وَرَفْعًا وَنَفْعًا (لَكِنَّنِي أَسْمَعُ اللَّهَ عز وجل : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: مُسْتَدْرَكٌ عَنْ مُقَدَّرٍ يَعْنِي أَنَّهُ لَطَيِّبٌ أَشْتَهِيهِ لَكِنِّي أُعْرِضُ عَنْهُ، لِأَنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ عز وجل (نَعَى) أَيْ: عَابَ (عَلَى قَوْمٍ شَهَوَاتِهِمْ) أَيِ: اسْتِيفَاءَهَا (فَقَالَ: أَذْهَبْتُمْ: بِهَمْزَةِ إِنْكَارٍ مُقَدَّرَةٍ وَهِيَ فِي قِرَاءَةٍ مَوْجُودَةٌ طَيِّبَاتِكُمْ أَيْ: أَخَذْتُمْ لَذَّاتِكُمْ {فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20] أَيْ: فِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ الدَّنِيَّةِ {وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] أَيْ: مُتَابَعَةً لِلشَّهَوَاتِ النَّفْسِيَّةِ وَمَا تَرَكْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَخِيرَةٍ لِلدَّارِ الْآخِرَةِ، (فَأَخَافُ أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا) أَيْ: مَثُوبَاتُهَا (عُجِّلَتْ بِنَا)، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ ثَوَابُ حَسَنَاتِنَا الَّتِي نَعْمَلُهَا نَسْتَوْفِيهَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ. قَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18] قُلْتُ: الْآيَتَانِ وَإِنْ كَانَتَا أُنْزِلَتَا فِي الْكُفَّارِ، لَكِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، (فَلَمْ يَشْرَبْهُ) . أَيْ: لَمْ يَشْرَبْ عُمَرُ ذَلِكَ الْمَاءَ تَوَرُّعًا وَمُخَالَفَةً لِلنَّفْسِ وَالْهَوَى. (رَوَاهُ رَزِينٌ) .
5267 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: مَا شَبِعْنَا مِنْ تَمْرٍ حَتَّى فَتَحْنَا خَيْبَرَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
5267 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا شَبِعْنَا) أَيْ: أَهْلُ بَيْتِ عُمَرَ، أَوْ نَحْنُ مَعْشَرَ الصَّحَابَةِ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ (حَتَّى فَتَحْنَا خَيْبَرَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
[بَابُ الْأَمَلِ وَالْحِرْصِ]
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5268 -
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: «خَطَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ، وَخَطَّ خُطُطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ، فَقَالَ: " هَذَا الْإِنْسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجُ أَمَلِهِ، وَهَذِهِ الْخُطُوطُ الصِّغَارُ الْأَعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَسَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَسَهُ هَذَا» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
[2]
بَابُ الْأَمَلِ وَالْحِرْصِ
الْجَوْهَرِيُّ: الْأَمَلُ الرَّجَاءُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْحِرْصُ فَرْطُ الشَّرَهِ فِي الْإِرَادَةِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ} [النحل: 37] أَيْ: إِنْ تُفْرِطْ إِرَادَتُكَ فِي هِدَايَتِهِمْ، وَفِي الْقَامُوسِ: أَسْوَأُ الْحِرْصِ أَنْ تَأْخُذَ نَصِيبَكَ وَتَطْمَعَ فِي نَصِيبِ غَيْرِكَ انْتَهَى. وَالْمُرَادُ بِالْأَمَلِ هُنَا طُولُ الْأَمَلِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا غَافِلًا عَنِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْمَوْتِ، وَزَادَ الْعُقْبَى كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ:{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} [الحجر: 3] وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فِي تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، فَمَحْمُودٌ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" «طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَقَالَ: لَوْ عِشْتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» " وَكَذَلِكَ الْحِرْصُ فِي أَمْرِ جَمْعِ الْمَالِ وَكَثْرَةِ الْجَاهِ وَالْإِقْبَالُ مَذْمُومٌ، وَإِلَّا فَالْحِرْصُ عَلَى الْقِتَالِ، وَعَلَى تَحْصِيلِ الْعُلُومِ، وَتَكْثِيرِ الْأَعْمَالِ، فَمُسْتَحْسَنٌ بِلَا نِزَاعٍ، ثُمَّ تَحْقِيقُ الْأَمَلِ عَلَى مَا حَقَّقَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ الْيَقِينِ مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ أَكْثَرُ عُلَمَائِنَا: إِنَّهُ إِرَادَةُ الْحَيَاةِ لِلْوَقْتِ الْمُتَرَاخِي بِالْحُكْمِ، وَقَصْرُ الْأَمَلِ تَرْكُ الْحُكْمِ
فِيهِ بِأَنْ يُقَيِّدَهُ بِالْإِسْنَادِ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَعِلْمِهِ فِي الذِّكْرِ، أَوْ بِشَرْطِ الصَّلَاحِ فِي الْإِرَادَةِ فَإِذَنْ إِنْ ذَكَرْتَ حَيَاتَكَ بِأَنْ أَعِيشَ بَعْدَ نَفَسٍ ثَانٍ، أَوْ سَاعَةٍ ثَانِيَةٍ أَوْ يَوْمٍ ثَانٍ بِالْحُكْمِ وَالْقَطْعِ فَأَنْتَ آمِلٌ، وَذَلِكَ مِنْكَ مَعْصِيَةٌ إِذْ هُوَ حُكْمٌ عَلَى الْغَيْبِ، وَإِنْ قَيَّدْتَهُ بِالْمَشِيئَةِ وَالْعِلْمِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ خَرَجْتَ عَنْ حُكْمِ الْأَمَلِ فَتَأَمَّلْ، وَإِنَّمَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي الْعُنْوَانِ لِتَلَازُمِهِمَا فِي الْإِمْكَانِ، وَقُدِّمَ الْأَمَلُ لِأَنَّهُ الْبَاعِثُ عَلَى تَأْخِيرِ الْعَمَلِ وَالْحِرْصِ عَلَى الزَّلَلِ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5268 -
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: ابْنِ مَسْعُودٍ (قَالَ: خَطَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَطًّا مُرَبَّعًا) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ بِيَدِهِ الْمُبَارَكَةِ عَلَى الْأَرْضِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْمُرَادُ بِالْخَطِّ الرَّسْمُ وَالشَّكْلُ (وَخَطَّ) أَيْ: خَطًّا كَمَا فِي نُسْخَةٍ مُصَحَّحَةٍ، وَالْمَعْنَى وَخَطَّ (خَطًّا) : آخَرَ (فِي الْوَسَطِ) أَيْ: وَسَطِ التَّرْبِيعِ (خَارِجًا مِنْهُ) أَيْ: حَالَ كَوْنِ الْخَطِّ خَارِجًا مِنْ أَحَدْ طَرَفَيِ الْمُرَبَّعِ (وَخَطَّ خُطُطًا) : بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالطَّاءِ الْأُولَى لِلْأَكْثَرِ وَجُوِّزَ فَتْحُ الطَّاءِ أَيْ: خُطُوطًا (صِغَارًا) : جَمْعُ صَغِيرَةٍ (إِلَى هَذَا) أَيْ: مُتَوَجِّهَةً وَمَائِلَةً وَمُنْتَهِيَةً إِلَى هَذَا الْخَطِّ (الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ) أَيْ: مِنْ جَانِبَيْهِ اللَّذَيْنِ فِي الْوَسَطِ، فَالْمُرَادُ بِالْمُفْرَدِ الْجِنْسُ (فَقَالَ:" هَذَا الْإِنْسَانُ ") أَيِ: الْخَطُّ الْوَسَطُ كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا مَرْكَزُ الدَّائِرَةِ الْمُرَبَّعَةِ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ لَهُ صُورَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فِي الْخَطِّ الظَّاهِرِيِّ، أَوِ الْمُرَادُ بِهَذَا مَجْمُوعُ التَّصْوِيرِ. الْمَعْلُومُ خَطًّا الْمَفْهُومُ ذِهْنًا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْأَمَلِ الْعَوَارِضِ الْمُنْتَهِيَةِ إِلَى الْأَجَلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِهَذَا، فَالتَّقْدِيرُ أَنَّ هَذَا الْخَطَّ الْمُصَوَّرَ مَجْمُوعَةً هُوَ الْإِنْسَانُ، (" وَهَذَا ") أَيِ: الْخَطُّ الْمُرَبَّعُ (" أَجَلُهُ ") أَيْ: مُدَّةُ أَجَلِهِ وَمُدَّةُ عُمُرِهِ (" مُحِيطٌ بِهِ ")، أَيْ: مِنْ كُلِّ جَوَانِبِهِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ وَالْفِرَارُ مِنْهُ، (" وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ ") أَيْ: مِنَ الْمُرَبَّعِ (" أَمَلُهُ ") أَيْ: مَرْجُوُّهُ وَمَأْمُورٌ لَهُ الَّذِي يَظُنُّ أَنَّهُ يُدْرِكُهُ قَبْلَ حُلُولِ أَجَلِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْهُ لِأَنَّ أَمَلَهُ طَوِيلٌ لَا يَفْرَغُ مِنْهُ وَأَجَلُهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْهُ، (" وَهَذِهِ الْخُطُطُ ") أَيِ: الْخُطُوطُ (" الصِّغَارُ الْأَعْرَاضُ ")، أَيِ الْآفَاتُ وَالْعَاهَاتُ وَالْبَلِيَّاتُ مِنَ الْمَرَضِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ وَهُوَ جَمْعُ عَرَضٍ بِالتَّحْرِيكِ (فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا) أَيْ: أَحَدُ الْأَعْرَاضِ (" نَهَسَهُ ") : بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ، وَقِيلَ: بِمُعْجَمَةٍ أَيْ: أَصَابَهُ وَعَضَّهُ (" هَذَا ") أَيْ: عَرَضٌ آخَرُ، وَعَبَّرَ عَنِ الْإِصَابَةِ بِالْفَقْرِ وَهُوَ لَدْغُ ذَاتِ السُّمِّ مُبَالَغَةً فِي الْمَضَرَّةِ (" وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا ") أَيْ: عَرَضٌ آخَرُ (" نَهَسَهُ هَذَا ") أَيْ: عَرَضٌ آخَرُ وَهَلُمَّ جَرًّا إِلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ، وَعَدَمِ انْتِهَاءِ الْأَمَلِ، وَصُورَةُ الْخَطِّ هَذِهِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ.
قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ رحمه الله: هَذِهِ الصِّفَةُ هِيَ الْمُعْتَدَّةُ، وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ، فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: هَذَا الْإِنْسَانُ إِلَى النُّقْطَةِ الدَّاخِلَةِ، وَبِقَوْلِهِ: وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ إِلَى الْمُرَبَّعِ، وَبِقَوْلِهِ: وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجُ أَمَلِهِ إِلَى الْخَطِّ الْمُسْتَطِيلِ الْمُنْفَرِدِ، وَبِقَوْلِهِ: وَهَذِهِ إِلَى الْخُطُوطِ وَهِيَ مَذْكُورَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ انْحِصَارُهَا فِي عَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: فِي حَدِيثِ أَنَسٍ بَعْدَهُ إِذْ جَاءَهُ الْأَقْرَبُ إِلَى الْخَطِّ الْمُحِيطِ بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي يُحِيطُ بِهِ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْخَارِجِ عَنْهُ، انْتَهَى. وَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ عَدَدُ الْخُطُوطِ سَبْعًا لِإِتْيَانِ هَذَا الْعَدَدِ كَثِيرًا عَلَى لِسَانِ الشَّارِعِ، وَلِأَنَّهُ عُشْرُ الْعَدَدِ الَّذِي يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْكَثْرَةِ مَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى الْأَعْضَاءِ السَّبْعَةِ لِلْإِنْسَانِ، وَالْأَطْوَارِ السَّبْعَةِ فِي مَرَاتِبِ الْإِيقَانِ، وَمُرُورِ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ عَلَى دَوَرَانِ الْأَفْلَاكِ السَّبْعَةِ الْمُحِيطَةِ بِالْأَرَاضِي السَّبْعَةِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مَا أَشَارَ الشَّيْخُ بِهِ إِلَى النُّقْطَةِ الدَّاخِلَةِ فَغَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنَ التَّصْوِيرِ النَّبَوِيِّ، وَلِذَا مَا صَوَّرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَّاحِ كَالطِّيبِيِّ رحمه الله، ثُمَّ رَأَيْتَ صُورَةً أُخْرَى غَيْرَ الصُّورَةِ الْمَسْطُورَةِ الْمَشْهُورَةِ وَهِيَ هَذِهِ: فَهَذِهِ الْهَيْئَةُ هِيَ الْمُطَابِقَةُ لِمَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَالْأَظْهَرُ فِي التَّصْوِيرِ فَتَدَبَّرْ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
5269 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «خَطَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خُطُوطًا فَقَالَ: " هَذَا الْأَمَلُ، وَهَذَا أَجَلُهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ الْخَطُّ الْأَقْرَبُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
5269 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: خَطَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خُطُوطًا) أَيْ: مُخْتَلِفَةٌ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُصَوَّرَةِ السَّابِقَةِ (فَقَالَ: " هَذَا ") أَيْ: أَحَدُ الْخُطُوطِ، وَهُوَ الْخَطُّ الْخَارِجُ مِنْ دَائِرَةِ التَّرْبِيعِ (الْأَمَلُ) أَيْ: أَمَلُ الْإِنْسَانِ (وَهَذَا) أَيِ: الْخَطُّ الْمُرَبَّعُ الْمُحِيطُ بِهِ (" أَجَلُهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ ") أَيْ: بَيْنَ أَوْقَاتٍ هُوَ أَيْ: أَمْرُهُ دَائِرٌ كَمَا صَوَّرَ فِي الدَّائِرَةِ بَيْنَ طَلَبِهِ الْأَمَلَ وَطَلَبِ الْأَجَلِ إِيَّاهُ (" إِذْ جَاءَهُ الْخَطُّ الْأَقْرَبُ ") . وَهُوَ الْأَجَلُ الْمُحِيطُ بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَأَخْطَأَهُ الْخَطُّ الْأَبْعَدُ الْخَارِجُ مِنْ دَائِرَةِ الْإِحَاطَةِ وَهُوَ خَطُّهُ مِنْ قُصُورِ الْأَمَلِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله قَوْلُهُ: فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ أَيْ: هُوَ طَالِبٌ لِأَمَلِهِ الْبَعِيدِ فَتُدْرِكُهُ الْآفَاتُ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ، فَتُؤَدِّيهِ إِلَى الْأَجَلِ الْمُحِيطِ بِهِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَى الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَرَزَ عَمُودًا بَيْنَ يَدَيْهِ. . . الْحَدِيثَ. قُلْتُ: حُمِلَ هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ التَّصْرِيحِ بِقَوْلِهِ: خَطَّ خُطُوطًا عَلَى الْغَرْزِ خَطًّا ظَاهِرًا لِأَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ أَنْ يَكُونَ الْخَطُّ خَطًّا ظَاهِرًا. (الْبُخَارِيُّ) .
5270 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَشِبُّ مِنْهُ اثْنَانِ: الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ، وَالْحِرْصُ عَلَى الْعُمُرِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5270 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَهْرَمُ ") : بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ: يَشِيبُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَالْمَعْنَى يَضْعُفُ (" ابْنُ آدَمَ وَيَشِبُّ ") : بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: يَنْمُو وَيَقْوَى (مِنْهُ) أَيْ: مِنْ أَخْلَاقِهِ (" اثْنَانِ ") : فَفِي التَّاجِ لِلْبَيْهَقِيِّ، وَكَذَا فِي الْقَامُوسِ: أَنَّ الْهَرَمَ كِبَرُ السِّنِّ مِنْ بَابِ عَلِمَ، وَشَبَّ شَبَابًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ (" الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ ") أَيْ: عَلَى جَمْعِهِ وَمَنْعِهِ (" وَالْحِرْصُ عَلَى الْعُمُرِ ") . أَيْ: بِتَطْوِيلِ أَمَلِهِ وَتَسْوِيفِ عِلْمِهِ وَتَبْعِيدِ أَجَلِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله، قَوْلُهُ: يَشِبُّ اسْتِعَارَةٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّ قَلْبَ الشَّيْخِ كَامِلُ الْحُبِّ يَحْتَكِمُ احْتِكَامًا مِثْلَ احْتِكَامِ قُوَّةِ الشَّابِّ فِي شَبَابِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ وَالْمُطَابَقَةِ لِقَوْلِهِ: يَهْرَمُ أَيْ: بِمَعْنَى يَشِيبُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ مِيرَكُ: هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: يَكْبُرُ ابْنُ آدَمَ وَالْبَاقِي مِثْلُهُ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ انْتَهَى. فَقَوْلُهُ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى رِوَايَتِهِمَا فِي الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ فِي جَمِيعِ الْمَبْنَى، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ، وَإِلَّا فَلَفْظُ الْجَامِعِ أَيْضًا:" «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَبْقَى مِنْهُ اثْنَانِ الْحِرْصُ وَالْأَمَلُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ لَفْظَ " يَكْبُرُ " رِوَايَةٌ لِلْبُخَارِيِّ، وَأَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ رِوَايَاتٍ مُتَعَدِّدَةً كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ السَّخَاوِيِّ فِي الْمَقَاصِدِ حَدِيثُ:" «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَبْقَى فِيهِ اثْنَانِ الْحِرْصُ وَالْأَمَلُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي لَفْظِ: يَشِيبُ ابْنُ آدَمَ وَيَشِيبُ فِيهِ.
5271 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَا يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا فِي اثْنَيْنِ: فِي حُبِّ الدُّنْيَا وَطُولِ الْأَمَلِ» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
ــ
5271 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لَا يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا ") أَيْ: قَوِيًّا نَشْطَانًا (" فِي اثْنَيْنِ ") أَيْ: فِي أَمْرَيْنِ (" فِي حُبِّ الدُّنْيَا ") : وَيَلْزَمُ مِنْهُ كَرَاهَةُ الْأَجَلِ (" وَطُولِ الْأَمَلِ ") . وَهُوَ يَقْتَضِي تَأْخِيرَ الْعَمَلِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5272 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
5272 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَعْذَرَ اللَّهُ ") : قِيلَ: الْهَمْزَةُ لِلسَّلْبِ أَيْ: أَزَالَ اللَّهُ الْعُذْرَ مَنْهِيًّا (" إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ ") أَيْ: مُنْتَهَاهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: عُمُرَهُ (" حَتَّى بَلَّغَهُ ") : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ: أَوْصَلَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى بَلَغَ (" سِتِّينَ سَنَةٍ ") أَيْ: وَلَمْ يَتُبْ عَنْ ذُنُوبِهِ وَلَمْ يَقُمْ بِإِصْلَاحِ عُيُوبِهِ وَلَمْ يَغْلِبْ خَيْرُهُ شَرَّهُ، فَيَكُونُ مِمَّنْ لَمْ يُبْقِ اللَّهُ لَهُ عُذْرًا فِي تَرْكِ الطَّاعَةِ، وَفِيمَا ضَيَّعَ عُمْرَهُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مَنْ بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً، وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ وَلَمْ يَغْلِبْ خَيْرُهُ شَرَّهُ فَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: الْمَعْنَى أَنَّهُ أَفْضَى بِعُذْرِهِ إِلَيْهِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ عُذْرٌ، يُقَالُ: أَعْذَرَ الرَّجُلُ إِلَى فُلَانٍ أَيْ: بَلَغَ بِهِ أَقْصَى الْعُذْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ أَيْ: أَتَى بِالْعُذْرِ أَوْ أَظْهَرَهُ، وَهَذَا مَجَازٌ مِنَ الْقَوْلِ، فَإِنَّ الْعُذْرَ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَى اللَّهِ، وَبِمَا يَتَوَجَّهُ لَهُ عَلَى الْعَبِيدِ، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَتْرُكْ لَهُ سَبَبًا فِي الِاعْتِذَارِ يَتَمَسَّكُ بِهِ انْتَهَى. فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَزَالَ أَعْذَارَهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَكَأَنَّهُ أَقَامَ عُذْرَهُ فِيمَا يَفْعَلُ بِهِ بَيْنَ الْعُقُوبَةِ وَالْكُلِّيَّةِ. وَفِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ أَيْ: لَمْ يُبْقِ فِيهِ مَوْضِعًا لِلِاعْتِذَارِ حَيْثُ أَمْهَلَهُ طُولَ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَكَذَا أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ وَالرَّامَهُرْمُزِيُّ فِي الْأَمْثَالِ، وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا بَلَغَ الْعَبْدُ سِتِّينَ سَنَةً فَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي الْعُمْرِ» " وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ
فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر: 37] وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ: سِتِّينَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيٍّ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْعُمُرُ الَّذِي أَعْذَرَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ سِتُّونَ سَنَةً، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37] فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ الشَّيْبُ.
5273 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5273 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ ") أَيْ: فَرْضًا وَتَقْدِيرًا (" وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ ") : وَفِي رِوَايَةٍ: مِنْ ذَهَبٍ (" لَابْتَغَى ") أَيْ: لَطَلَبَ (ثَالِثًا)، أَيْ: وَادِيًا آخَرَ أَعْظَمَ مِنْهُمَا ذُخْرًا وَهَلُمَّ جَرًّا كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (" وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ ") أَيْ: بَطْنَهُ أَوْ وَسَطَ عَيْنِهِ (" إِلَّا التُّرَابُ ")، أَيْ: تُرَابُ الْفَقْرِ، فَفِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْبُخْلَ الْمُوَرِّثَ لِلْحِرْصِ مَرْكُوزٌ فِي جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ سُبْحَانَهُ فِي الْقُرْآنِ حَيْثُ قَالَ أَبْلَغَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَالْمَقَالِ:{قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: 100] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حِرْصَ ابْنِ آدَمَ وَخَوْفَهُ مِنَ الْفَقْرِ الْبَاعِثِ لَهُ عَلَى الْبُخْلِ حَتَّى عَلَى نَفْسِهِ أَقْوَى مِنَ الطَّيْرِ الَّذِي يَمُوتُ عَطَشًا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ خَوْفًا مِنْ نَفَادِهِ، وَمِنَ الدُّودَةِ الَّتِي قُوتُهَا التُّرَابُ وَتَمُوتُ جُوعًا خَشْيَةً مِنْ فَرَاغِهِ، لِأَنَّ مَا ذُكِرَ مِنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ فِي جَنْبِ خَزَائِنِ رَحْمَةِ رَبِّ الْأَرْبَابِ كَقَطْرَةٍ مِنَ السَّحَابِ. (" وَيَتُوبُ اللَّهُ ") أَيْ: يَرْجِعُ بِالرَّحْمَةِ (" عَلَى مَنْ تَابَ ") . أَيْ: رَجَعَ إِلَيْهِ بِطَلَبِ الْعِصْمَةِ أَوْ يَتَفَضَّلُ اللَّهُ بِتَوْفِيقِ التَّوْبَةِ وَتَحْقِيقِ اسْتِعَاذَةِ الْعُقْبَى عَلَى مَنْ تَابَ أَيْ: مِنْ مَحَبَّةِ الدُّنْيَا وَالْغَفْلَةِ عَنْ حَضْرَةِ الْمَوْلَى.
قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَزَالُ حَرِيصًا عَلَى الدُّنْيَا حَتَّى يَمُوتَ وَيَمْتَلِئَ جَوْفُهُ مِنْ تُرَابِ قَبْرِهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ خَرَجَ عَلَى حُكْمِ غَالِبِ بَنِي آدَمَ فِي الْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنَ الْحِرْصِ الْمَذْمُومِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَذْمُومَاتِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ إِنَّ بَنِي آدَمَ كُلَّهُمْ مَجْبُولُونَ عَلَى حُبِّ الْمَالِ وَالسَّعْيِ فِي طَلَبِهِ، وَأَنْ لَا يَشْبَعَ مِنْهُ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَوَفَّقَهُ لِإِزَالَةِ هَذِهِ الْجِبِلَّةِ عَنْ نَفْسِهِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، فَوُضِعَ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ مَوْضِعَهُ إِشْعَارًا بِأَنَّ هَذِهِ الْجِبِلَّةَ الْمَرْكُوزَةَ فِيهِ مَذْمُومَةٌ جَارِيَةٌ مَجْرَى الذَّنْبِ، وَأَنَّ إِزَالَتَهَا مُمْكِنَةٌ، وَلَكِنْ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَتَسْدِيدِهِ وَنَحْوَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] أَضَافَ الشُّحَّ إِلَى النَّفْسِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهَا غَزِيرَةٌ فِيهَا وَبَيَّنَ إِزَالَتَهُ لِقَوْلِهِ: يُوقَ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ:{فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] ، وَهَهُنَا نُكْتَةٌ دَقِيقَةٌ فَإِنَّهُ ذَكَرَ ابْنَ آدَمَ تَلْوِيحًا إِلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ التُّرَابِ، وَمِنْ طَبِيعَتِهِ الْقَبْضُ وَالْيُبْسُ، فَيُمْكِنُ إِزَالَتُهُ بِأَنْ يُمْطِرَ اللَّهُ عَلَيْهِ السَّحَائِبَ مِنْ عَمَائِمِ تَوْفِيقِهِ، فَيُثْمِرَ حِينَئِذٍ الْخِصَالَ الذَّكِيَّةَ وَالشَّمَائِلَ الرَّضِيَّةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى جل جلاله:{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف: 58] فَمَنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ التَّوْفِيقُ وَتَرْكُهُ وَحِرْصُهُ لَمْ يَزْدَدْ إِلَّا حِرْصًا وَتَهَالُكًا عَلَى جَمْعِ الْمَالِ، وَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ مَوْقِعُ رُكُوزِ الْجِبِلَّةِ وَنِيطَ لَهُ حُكْمٌ أَشْمَلُ وَأَعَمُّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا يَشْبَعُ مَنْ خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ إِلَّا بِالتُّرَابِ، وَمَوْقِعُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ مَوْقِعُ الرُّجُوعِ يَعْنِي: أَنَّ ذَلِكَ الْعَسِيرَ صَعْبٌ، وَلَكِنْ يَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَحَقِيقٌ أَنْ لَا يَكُونُ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ، بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ خَالِقِ الْقُوَى وَالْقَدَرِ.
رَوَيْنَا عَنِ التِّرْمِذِيَّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة: 1] وَقَرَأَ فِيهَا: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ الْمُسْلِمِيَّةُ لَا الْيَهُودِيَّةُ وَلَا النَّصْرَانِيَّةُ وَلَا الْمَجُوسِيَّةُ، وَمَنْ يَعْمَلْ خَيْرًا فَلَنْ يُكْفَرَ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ: لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى إِلَيْهِ ثَانِيًا وَلَوْ أَنَّ لَهُ ثَانِيًا لَابْتَغَى إِلَيْهِ ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ» . انْتَهَى (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)
قَالَ مِيرَكُ نَاقِلًا عَنِ التَّصْحِيحِ حَدِيثَ: " لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ " إِلَى آخِرِهِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَمُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَبِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ هَذَا كَانَ قُرْآنًا فَنُسِخَ خَطُّهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ: فَلَا نَدْرِي أَشَيْءٌ أُنْزِلَ أَمْ شَيْءٌ كَانَ يَقُولُهُ؟ وَلْأَنَسٍ عَنْ أُبَيٍّ قَالَ: كُنَّا نَرَى هَذَا مِنَ الْقُرْآنِ حَتَّى نَزَلَ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ انْتَهَى. فِي الْجَامِعِ " «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى إِلَيْهِ ثَانِيًا، وَلَوْ أَنَّ لَهُ وَادِيَانِ لَابْتَغَى لَهُمَا ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَحْمَدُ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالْبَزَّارُ عَنْ بُرَيْدَةَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ جَابِرٍ وَلَفْظُهُ:" «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ مِنْ نَخْلٍ لَتَمَنَّى مِثْلَهُ ثُمَّ تَمَنَّى مِثْلَهُ حَتَّى يَتَمَنَّى أَوْدِيَةً، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ» ".
5274 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِبَعْضِ جَسَدِي فَقَالَ: " كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَعُدَّ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
5274 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِبَعْضِ جَسَدِي) أَيْ: بِمَنْكِبِي كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَنُكْتَةُ الْأَخْذِ تَقْرِيبُهُ إِلَيْهِ وَتَوَجُّهُهُ عَلَيْهِ، لِيَتَمَكَّنَ فِي ذِهْنِهِ مَا يُلْقَى لَدَيْهِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ الرَّضِيَّةَ لَا تُوجَدُ إِلَّا بِالْجَدْبَةِ الْإِلَهِيَّةِ (قَالَ:" كُنْ ") أَيْ: عِشْ وَحِيدًا وَعَنِ الْخَلْقِ بَعِيدًا (" فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ ") أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُمْ لِعَدَمِ مُؤَانَسَتِكَ بِهِمْ وَقِلَّةِ مُجَالَسَتِكَ مَعَهُمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله أَيْ: لَا تَرْكَنْ إِلَيْهَا وَلَا تَتَّخِذْهَا وَطَنًا وَلَا تَتَعَلَّقْ مِنْهَا إِلَّا بِمَا يَتَعَلَّقُ الْغَرِيبُ فِي غَيْرِ وَطَنِهِ انْتَهَى. وَذَلِكَ لِأَنَّ الدُّنْيَا دَارُ مُرُورٍ وَجِسْرُ عُبُورٍ، فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، وَأَنْ يَنْتَظِرَ الْمُسَافَرَةَ عَنْهَا سَاعَةً فَسَاعَةً مُتَهَيِّئًا لِأَسْبَابِ الِارْتِحَالِ بِرَدِّ الْمَظَالِمِ وَالِاسْتِحْلَالِ، مُشْتَاقًا إِلَى الْوَطَنِ الْحَقِيقِيِّ، قَانِعًا فِي سَفَرِهِ بِبُلْغَةٍ وَسُتْرَةٍ، مُسْتَقْبِلًا لِلْبَلِيَّاتِ الْكَثِيرَةِ فِي سَفَرِهِ، غَيْرَ مُشْتَغِلٍ بِمَا لَا يَعْنِيهِ مِنَ الْأَمَلِ الطَّوِيلِ وَالْحِرْصِ الْكَثِيرِ (" أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ ") أَيْ: مُسَافِرٌ لِطَرِيقِ، وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ أَوْ بِمَعْنَى بَلْ لِلتَّرَقِّي، وَالْمَعْنَى بَلْ كُنْ كَأَنَّكَ مَارٌّ عَلَى طَرِيقٍ قَاطِعٌ لَهَا بِالسَّيْرِ وَلَوْ بِلَا رَفِيقٍ، وَهَذَا أَبْلَغُ مِنَ الْغُرْبَةِ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْكُنُ الْغَرِيبُ فِي غَيْرِ وَطَنِهِ، وَيُقِيمُ فِي مَنْزِلٍ مُدَّةَ زَمَنِهِ، فَلِلَّهِ دُرُّ طَائِفَةٍ رَفَضُوا الدُّنْيَا وَتَوَجَّهُوا إِلَى الْعُقْبَى شَوْقًا إِلَى لِقَاءِ الْمَوْلَى، وَاعْتَزَلُوا بِالْكُلِّيَّةِ عَنِ النَّاسِ، فَإِنَّ الِاسْتِئْنَاسَ بِالنَّاسِ عَلَامَةُ الْإِفْلَاسِ، وَتَجَرَّدُوا عَمَّا عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَثْقَالِ وَالْإِلْبَاسِ، بَلْ صَارُوا حُفَاةً عُرَاةً حَاسِرِي الرَّأْسِ وَهُمُ الْعُقَلَاءُ الْأَكْيَاسُ الْخَارِجُ فَضْلُهُمْ عَنْ حَدِّ الْحُدُودِ وَمِقْيَاسِ الْقِيَاسِ:
إِنْ لِلَّهِ عِبَادًا فُطُنَا
…
طَلَّقُوا الدُّنْيَا وَخَافُوا الْفِتَنَا
نَظَرُوا فِيهَا فَلَمَّا عَرَفُوا
…
أَنَّهَا لَيْسَتْ لِحَيٍّ وَطَنَا
جَعَلُوهَا لُجَّةً وَاتَّخَذُوا
…
صَالِحَ الْأَعْمَالِ فِيهَا سُفُنَا
(" وَعُدَّ نَفْسَكَ ") : بِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الدَّالِّ الْمُشَدَّدَةِ أَيِ: اجْعَلْهَا مَعْدُودَةً (" فِي أَهْلِ الْقُبُورِ ") أَوْ عُدَّهَا كَائِنَةً أَوْ سَاكِنَةً فِيهِمْ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ:" مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ " أَيْ: مِنْ جُمْلَتِهِمْ وَوَاحِدَةٌ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قِيلَ: مُوتُوا قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا، وَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
قَالَ مِيرَكُ: فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الَّذِي أَوْرَدَهُ هُوَ لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ، وَلَفَظُ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:«أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِمَنْكِبَيَّ فَقَالَ " كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» " وَلَيْسَ فِي الْبُخَارِيِّ: "«وَعُدَّ نَفْسَكَ فِي أَهْلِ الْقُبُورِ» " بَلْ هُوَ فِي التِّرْمِذِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ. أَقُولُ: وَفِي الْجَامِعِ: "«كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. زَادَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ: "«وَعُدَّ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ» " وَزَادَ النَّوَوِيُّ فِي أَرْبَعِينِهِ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَخُذْ مِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. وَزَادَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ قَوْلَهُ: «فَإِنَّكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَدْرِي مَا اسْمُكَ غَدًا» ، وَجَعَلَ صَدْرَ الْحَدِيثِ مَرْفُوعًا بِأَنْ قَالَ: قَالَ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: " إِذَا أَصْبَحْتَ " إِلَى آخِرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الْفَصْلُ الثَّانِي
5275 -
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: «مَرَّ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا وَأُمِّي نُطَيِّنُ شَيْئًا، فَقَالَ: " مَا هَذَا يَا عَبْدَ اللَّهِ؟ " قُلْتُ: شَيْءٌ نُصْلِحُهُ. قَالَ: " الْأَمْرُ أَسْرَعُ مِنْ ذَلِكَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
5275 -
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (قَالَ: مَرَّ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا وَأُمِّي نُطَيِّنُ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ: نُصْلِحُ (شَيْئًا) أَيْ: مَكَانًا أَوْ جُزْءًا (مِنَ الْبَيْتِ فَقَالَ: " مَا هَذَا ") أَيِ: اسْتِعْمَالُ الطِّينِ (" يَا عَبْدَ اللَّهِ ") أَيْ: لَا عَبْدَ الْهَوَى (قُلْتُ: شَيْءٌ) أَيْ: مِنَ الْبَيْتِ (نُصْلِحُهُ) أَيْ: خَوْفًا مِنْ فَسَادِهِ، أَوْ زِيَادَةً عَلَى اسْتِحْكَامِهِ وَاسْتِبْدَادِهِ (قَالَ:" الْأَمْرُ أَسْرَعُ مِنْ ذَلِكَ ") أَيِ: الْأَمْرُ الَّذِي يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُعَمِّرَهُ، وَعَلَى تَعْمِيرِ بِنَاءِ الْقُدَمَاءِ نَعْتَبِرُهُ أَعْجَلَ مِمَّا ذَكَرْتَهُ مِنْ أَنْ تُصْلِحَهُ وَتُعَمِّرَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عِمَارَتَهُ لَمْ تَكُنْ ضَرُورِيَّةً، بَلْ كَانَتْ نَاشِئَةً عَنْ أَمَلٍ فِي تَقْوِيمِهِ، أَوْ صَادِرَةً عَنْ مَيْلٍ إِلَى زِينَتِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله أَيْ: كَوْنُنَا فِي الدُّنْيَا كَعَابِرِ سَبِيلٍ، أَوْ رَاكِبٍ مُسْتَظِلٍّ تَحْتَ شَجَرَةٍ أَسْرِعُ مِمَّا أَنْتَ فِيهِ مِنِ اشْتِغَالِكَ بِالْبِنَاءِ. وَقَالَ شَارِحٌ أَيِ: الْأَجَلُ أَقْرَبُ مِنْ تَخَرُّبِ هَذَا الْبَيْتِ أَيْ: تُصْلِحُ بَيْتَكَ خَشْيَةَ أَنْ يُهْدَمَ قَبْلَ أَنْ تَمُوتَ، وَرُبَّمَا تَمُوتُ قَبْلَ أَنْ يُهْدَمَ فَإِصْلَاحُ عَمَلِكَ أَوْلَى مِنْ إِصْلَاحِ بَيْتِكَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْمُنْذِرِيِّ: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ رحمه الله: هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ لَمْ أَجِدْهُ فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ، وَلَكِنْ أَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: مَرَّ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نُعَالِجُ خِصَالَنَا قَالَ: " مَا هَذَا "؟ فَقُلْنَا: قَدْ وَهِيَ فَنَحْنُ نُصْلِحُ، فَقَالَ:" مَا أَرَى الْأَمْرَ إِلَّا أَعْجَلَ مِنْ ذَلِكَ " وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ حَسَنٌ.
5276 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُهَرِيقُ الْمَاءَ فَيَتَيَمَّمُ بِالتُّرَابِ، فَأَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ الْمَاءَ مِنْكَ قَرِيبٌ، يَقُولُ: " مَا يُدْرِينِي لَعَلِّي لَا أَبْلُغُهُ» ". رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ (الْوَفَاءِ) .
ــ
5276 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُهَرِيقُ الْمَاءَ) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ وَيُسْكَنُ أَيْ: يَصُبُّ، وَالْمَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ الْبَوْلِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يَبُولُ أَحْيَانًا (فَيَتَيَمَّمُ بِالتُّرَابِ) أَيْ: أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ لِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ اكْتَفَى بِوَضْعِ يَدِهِ عَلَى الْجِدَارِ حَالَ التَّيَمُّمِ مِنْ غَيْرِ وُجُودِ الْغُبَارِ، (فَأَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ الْمَاءَ مِنْكَ قَرِيبٌ) ، أَيْ: فَالتَّيَمُّمُ حِينَئِذٍ غَرِيبٌ (يَقُولُ) : اسْتِئْنَافٌ (" مَا يُدْرِينِي ") : مَا لِلِاسْتِفْهَامِ (" لَعَلِّي ") : لِلْإِشْفَاقِ أَيْ: أَخَافُ (" لَا أَبْلُغُهُ ") أَيْ: لَا أَصِلُ الْمَاءَ لِمُسَارَعَةِ أَجَلِي مُبَادِرًا فَأُحِبُّ أَنْ أَكُونَ حِينَئِذٍ طَاهِرًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَمَا أَبْعَدَ قَوْلَ الْأَشْرَفِ، وَمَا أَقْرَبَهُ إِلَى الْوَجْهِ الْأَضْعَفِ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَعْنًى غَيْرِ مُنَاسِبٍ بَابًا وَمَبْنًى حَيْثُ قَالَ أَيْ: يُسْتَعْمَلُ الْمَاءُ قَبْلَ الْوَقْتِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ تَيَمَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ) أَيِ الْبَغَوِيُّ (" فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " كِتَابِ الْوَفَاءِ ") : اسْمُ كِتَابٍ لَهُ أَظُنُّهُ فِي شَرَفِ الْمُصْطَفَى عليه الصلاة والسلام.
5277 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: هَذَا ابْنُ آدَمَ وَهَذَا أَجَلُهُ " وَوَضَعَ يَدَهُ عِنْدَ قَفَاهُ، ثُمَّ بَسَطَ، فَقَالَ: " وَثَمَّ أَمَلُهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
5277 -
(وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " هَذَا ابْنُ آدَمَ ") : الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ حِسِّيَّةٌ إِلَى صُورَةٍ مَعْنَوِيَّةٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ:(" وَهَذَا أَجَلُهُ ") : وَتَوْضِيحُهُ أَنَّهُ أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى قُدَّامِهِ فِي مِسَاحَةِ الْأَرْضِ أَوْ فِي مِسَاحَةِ الْهَوَاءِ بِالطُّولِ أَوِ الْعَرْضِ، وَقَالَ: هَذَا ابْنُ آدَمَ، ثُمَّ أَخَّرَهَا وَأَوْقَفَهَا قَرِيبًا مِمَّا قَبْلَهُ وَقَالَ: هَذَا أَجَلُهُ. (وَوَضَعَ يَدَهُ) أَيْ: عِنْدَ تَلَفُّظِهِ بِقَوْلِ: هَذَا ابْنُ آدَمَ وَهَذَا أَجَلُهُ (عِنْدَ قَفَاهُ) أَيْ: فِي عَقِبِ الْمَكَانِ الَّذِي أَشَارَ بِهِ إِلَى الْأَجَلِ (ثُمَّ بَسَطَ)، أَيْ: نَشَرَ يَدَهُ عَلَى هَيْئَةِ فَتْحٍ لِيُشِيرَ بِكَفِّهِ وَأَصَابِعِهِ، أَوْ مَعْنَى بَسَطَ وَسَّعَ فِي الْمَسَافَةِ مِنَ الْمَحَلِّ الَّذِي أَشَارَ بِهِ إِلَى الْأَجَلِ (فَقَالَ:" وَثَمَّ ") : بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ: هُنَالِكَ وَأَشَارَ إِلَى بُعْدِ مَكَانِ ذَلِكَ (" أَمَلُهُ ") . أَيْ: مَأْمُولُهُ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ ظَرْفٌ قُدِّمَ عَلَيْهِ لِلِاخْتِصَاصِ وَالِاهْتِمَامِ، وَخُلَاصَةُ الْعِبَارَاتِ وَالِاعْتِبَارَاتِ أَنَّ هَذِهِ الْإِشَارَاتِ الْمُؤَيَّدَةَ بِالْبِشَارَاتِ الْمُؤَكَّدَةِ بِالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، الْمُطَابِقَةِ لِمَا سَبَقَ مِنَ التَّصَوُّرَاتِ الصُّورِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ لِلْإِشَارَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ الْمُنَبِّهَةِ مِنْ نَوْمِ الْغَفْلَةِ الْمُبَيِّنَةِ أَنَّ أَجَلَ ابْنِ آدَمَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ أَمَلِهِ، وَأَنَّ أَمَلَهُ أَطْوَلُ مِنْ أَجَلِهِ كَمَا قَالَ لِلَّهِ دَرُّ قَوْلِهِ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ
…
وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
هَذَا مَا سَنَحَ لِي فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ تَوْضِيحِ الْمَرَامِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله، مُمْتَازًا عَنْ سَائِرِ الشُّرَّاحِ الْفِخَامِ: قَوْلُهُ: وَوَضَعَ يَدَهُ الْوَاوُ لِلْحَالِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَهَذَا أَجَلُهُ لِلْجَمْعِ مُطْلَقًا فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ أَيْضًا مُرَكَّبٌ، فَوَضْعُ الْيَدِ عَلَى قَفَاهُ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ الَّذِي يَتْبَعُهُ أَجَلُهُ هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ، وَبَسْطُ الْيَدِ عِبَارَةٌ عَنْ مَدِّهَا إِلَى قُدَّامَ انْتَهَى الْكَلَامُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
5278 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَرَزَ عُودًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَآخَرَ إِلَى جَنْبِهِ، وَآخَرَ أَبْعَدَ مِنْهُ. فَقَالَ: " أَتُدْرُونَ مَا هَذَا؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " هَذَا الْإِنْسَانُ وَهَذَا الْأَجَلُ " أُرَاهُ قَالَ: " وَهَذَا الْأَمَلُ، فَيَتَعَاطَى الْأَمَلَ فَلَحِقَهُ الْأَجَلُ دُونَ الْأَمَلِ» ". رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) .
ــ
5278 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَرَزَ) أَيْ: أَدْخَلَ فِي الْأَرْضِ (عُودًا) أَيْ: خَشِنًا طَوِيلًا (بَيْنَ يَدَيْهِ، وَآخَرَ إِلَى جَنْبِهِ) أَيْ: وَغَرَزَ عُودًا آخَرَ إِلَى جَنْبِ الْعُودِ الْأَوَّلِ (وَآخَرَ أَبْعَدَ مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الثَّانِي أَوْ مِنْهُمَا (فَقَالَ: " أَتَدْرُونَ مَا هَذَا ") ؟ أَيْ مَجْمُوعُ مَا فَعَلْتُ، وَالْمَعْنَى أَتَعْلَمُونَ مَا الْمُرَادُ بِهَذَا الْغَرْزِ وَالتَّقْرِيرِ، وَمَا الْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّصْوِيرِ؟ (قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) أَيْ: بِمَا فِي الضَّمِيرِ (قَالَ: " هَذَا الْإِنْسَانُ ") أَيِ: الْعُودُ الْأَوَّلُ مِثَالُهُ (" وَهَذَا الْأَجَلُ ") أَيْ: وَهَذَا الْعُودُ الثَّانِي الْمُتَّصِلُ إِلَى جَنْبِهِ أَجَلُهُ أَيِ: انْتِهَاءُ عُمُرِهِ وَانْقِطَاعُ عَمَلِهِ (أُرَاهُ) : بِضَمِّ الْهَمْزِ أَيْ: قَالَ الرَّاوِي: أَظُنُّ (قَالَ: " وَهَذَا الْأَمَلُ ") أَيْ: هَذَا الْعُودُ الْأَبْعَدُ هُوَ طُولُ أَمَلِهِ وَمَآلُ آمَالِهِ، (" فَيَتَعَاطَى ") أَيْ: يَتَنَاوَلُ الْإِنْسَانُ (" الْأَمَلَ ") : بِأَنْ يُبَاشِرَهُ وَيَسْتَعْمِلَهُ، وَيَشْتَغِلَ بِمَا يَأْمُلُهُ، وَيُرِيدُ أَنْ يُحَصِّلَهُ (" فَلَحِقَهُ الْأَجَلُ ") أَيْ: فَيَلْحَقُهُ الْمَوْتُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَهُ، وَعَبَّرَ عَنِ الْمُضَارِعِ بِالْمَاضِي مُبَالَغَةً فِي تَحَقُّقِ حَالِ وُقُوعِهِ (" دُونَ الْأَمَلِ ") أَيْ: قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ أَمَلُهُ وَيَكْمُلَ عَمَلُهُ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: دُونَ الْأَمَلِ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ أَيْ: لَحِقَهُ وَهُوَ مُتَجَاوِزٌ عَمَّا قَصَدَهُ مِنَ الْأَمَلِ قَالَ أُمَيَّةُ:
يَا نَفْسُ مَا لَكِ دُونَ اللَّهِ مِنْ وَاقِي
(رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي: " شَرْحِ السُّنَّةِ ") .
5279 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " عُمُرُ أُمَّتِي مِنْ سِتِّينَ سَنَةً إِلَى سَبْعِينَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ــ
5279 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " عُمُرُ أُمَّتِي ") أَيْ: غَالِبًا (" مِنْ سِتِّينَ سَنَةً إِلَى سَبْعِينَ ") . قِيلَ: مَعْنَاهُ آخِرُ عُمُرِ أُمَّتِي ابْتِدَاؤُهُ إِذَا بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً، وَانْتِهَاؤُهُ سَبْعُونَ سَنَةً. وَقَلَّ مَنْ يَجُوزُ سَبْعِينَ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ بِدَلِيلِ شَهَادَةِ الْحَالِ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ سِتِّينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجُوزُ سَبْعِينَ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله، وَفِيهِ أَنَّ اعْتِبَارَ الْغَلَبَةِ فِي جَانِبِ الزِّيَادَةِ عَلَى سَبْعِينَ وَاضِحٌ جِدًّا، وَأَمَّا كَوْنُ الْغَالِبِ فِي آخِرِ عُمُرِ الْأُمَّةِ بُلُوغَ سِتِّينَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْغَرَابَةِ الْمُخَالِفَةِ لِمَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي الْمُشَاهَدَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ عُمُرَ الْأُمَّةِ مِنْ سِنِّ الْمَحْمُودِ الْوَسَطِ الْمُعْتَدِلِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ غَالِبُ الْأُمَّةِ مَا بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ مِنْهُمْ سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَكَابِرُ الْخُلَفَاءِ كَالصَّدِيقِ وَالْفَارُوقِ وَالْمُرْتَضَى، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ مِمَّا يَصْعُبُ فِيهِ الِاسْتِقْصَاءُ وَيَعْسُرُ الِاسْتِحْصَاءُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .
5280 -
وَعَنْهُ، قَالَ:«قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِتِّينَ إِلَى السَبْعِينَ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
وَذُكِرَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ فِي (بَابِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ) .
ــ
5280 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِتِّينَ إِلَى السَبْعِينَ» ")، أَيْ: نِهَايَةُ إِكْثَارِ أَعْمَارِ أُمَّتِي غَالِبًا مَا بَيْنَهُمَا (" وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ ") . أَيِ: السَبْعِينَ، فَيَصِلُ إِلَى الْمِائَةِ وَمَا فَوْقَهَا، وَأَكْثَرُ مَا اطَّلَعْنَاهُ عَلَى طُولِ الْعُمُرِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الْمُعَمِّرِينَ فِي الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ سِنُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَإِنَّهُ مَاتَ وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ مِائَةٌ وَثَلَاثُ سِنِينَ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ مَاتَتْ وَلَهَا مِائَةُ سَنَةٍ، وَلَمْ يَقَعْ لَهَا سِنٌّ، وَلَمْ يُنْكَرْ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ، وَأَزْيَدُ مِنْهُمَا عُمُرًا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، مَاتَ وَلَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، عَاشَ مِنْهَا سِتِّينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَسِتِّينَ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَكْثَرُ مِنْهُ عُمُرًا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ فَقِيلَ: عَاشَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَلَاثَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، ثُمَّ مِنْ تَارِيخِ مَوْتِهِ يُفْهَمُ أَنَّهُ عَاشَ فِي الْإِسْلَامِ قَلِيلًا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ أَنَّهُ مَاتَ بِالْمَدَائِنِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، وَقَدْ أَدْرَكْنَا سَيِّدَنَا السَّيِّدَ زَكَرِيَّا وَسَمِعْنَا مِنْهُ أَنَّ عُمُرَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) . وَكَذَا أَبُو يَعْلَى فِي مَسْنَدِهِ عَنْ أَنَسٍ. قَالَ ابْنُ الرَّبِيعِ: وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: إِنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا:" «مُعْتَرَكُ الْمَنَايَا مَا بَيْنَ السِتِّينَ إِلَى السَبْعِينَ» " انْتَهَى. لَكِنْ فِي الْجَامِعِ أَسْنَدَهُ إِلَى الْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَذُكِرَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ) : بِكَسْرِ الشِّينِ وَالْخَاءِ الْمُشَدَّدَةِ الْمُعْجَمَتَيْنِ، وَضُبِطَ فِيمَا سَبَقَ بِدُونِ لَامِ التَّعْرِيفِ. (فِي بَابِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ) أَيْ: فِي أَوَاخِرِ الْفَصْلِ الثَّانِي، وَهُوَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَثَلُ ابْنِ آدَمَ " أَيْ: صُوِّرَ وَإِلَى جَنْبِهِ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ مَنِّيَةً أَيْ: مُهْلِكَةً إِنْ أَخْطَأَتْهُ الْمَنَايَا وَقَعَ فِي الْهَرَمِ حَتَّى يَمُوتَ» انْتَهَى. وَلَا شَكَّ أَنَّ مُنَاسَبَتَهُ هُنَا أَظْهَرُ مِنْ هُنَاكَ فَإِنْ حَمَلُوهُ إِلَيْهِ فَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أُسْقِطَ عَنْ تَكْرَارٍ فَقَدْ يَسْلَمُ لَدَيْهِ.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5281 -
عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «أَوَّلُ صَلَاحِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْيَقِينُ وَالزُّهْدُ، وَأَوَّلُ فَسَادِهَا الْبُخْلُ وَالْأَمَلُ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5281 -
(عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أَوَّلُ صَلَاحِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْيَقِينُ» ") أَيْ: فِي أَمْرِ الْعُقْبَى (" وَالزُّهْدِ ") أَيْ: فِي شَأْنِ الدُّنْيَا (" وَأَوَّلُ فَسَادِهَا الْبُخْلُ ") : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَبِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ الْأَنْسَبُ هُنَا لِمُشَاكَلَةِ قَوْلِهِ: (" وَالْأَمَلُ ") . فَالْأَمَلُ إِنَّمَا هُوَ الْغَفْلَةُ عَنْ سُرْعَةِ الْقِيَامَةِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى، وَالْبُخْلُ إِنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: صَلَاحُ الدِّينِ الْوَرَعُ وَفَسَادُهُ الطَّمَعُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: مَعْنَاهُ أَنَّ الْيَقِينَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ الْمُتَكَفِّلُ لِلْأَرْزَاقِ {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] فَمَنْ تَيَقَّنَ هَذَا زَهِدَ فِي الدُّنْيَا فَلَمْ يَأْمُلْ وَلَمْ يَبْخَلْ ; لِأَنَّ الْبَخِيلَ إِنَّمَا يُمْسِكُ الْمَالَ لِطُولِ الْأَمَلِ وَعَدَمِ الْيَقِينِ.
رُوِيَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: تَلَوْتُ عَلَى أَعْرَابِيٍّ وَالذَّارِيَاتِ فَلَمَّا بَلَغْتُ قَوْلَهُ: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] قَالَ: حَسْبُكَ، وَقَامَ إِلَى نَاقَتِهِ فَنَحَرَهَا وَوَزَّعَهَا عَلَى مَنْ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، وَعَمَدَ إِلَى سَيْفِهِ وَقَوْسِهِ فَكَسَرَهُمَا وَوَلَّى، فَلَقِيتُهُ فِي الطَّوَافِ قَدْ نَحَلَ جِسْمُهُ وَاصْفَرَّ لَوْنُهُ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَاسْتَقْرَأَ السُّورَةَ، فَلَمَّا بَلَغْتُ الْآيَةَ صَاحَ وَقَالَ: قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، قَالَ: وَهَلْ غَيْرُ هَذَا؟ فَقَرَأْتُ: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات: 23] فَصَاحَ وَقَالَ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ! مَنْ ذَا الَّذِي أَغْضَبَ الْجَلِيلَ حَتَّى حَلَفَ فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ بِقَوْلِهِ حَتَّى أَلْجَأَهُ إِلَى الْيَمِينِ، قَالَهَا ثَلَاثًا وَخَرَجَتْ مَعَهَا نَفْسُهُ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ") .
5282 -
وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ: لَيْسَ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا بِلُبْسِ الْغَلِيظِ وَالْخَشِنِ، وَأَكْلِ الْجَشِبِ، إِنَّمَا الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا قِصَرُ الْأَمَلِ. رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) .
ــ
5282 -
(وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ) أَيِ: الْكُوفِيِّ إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَحُجَّةِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ أَجْمَعِينَ، جَمَعَ زَمَنَهُ بَيْنَ الْفِقْهِ وَالِاجْتِهَادِ فِيهِ وَالْحَدِيثِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْوَرَعِ وَالْعِفَّةِ، وَإِلَيْهِ الْمُنْتَهَى فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ، أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى دِينِهِ وَزُهْدِهِ وَوَرَعِهِ، وَثِقَتِهِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ وَأَحَدُ أَقْطَابِ الْإِسْلَامِ وَأَرْكَانِ الدِّينِ، وُلِدَ فِي أَيَّامِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، سَمِعَ خَلْقًا كَثِيرًا. وَرَوَى عَنْ مَعْمَرٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَمَالِكٍ وَشُعْبَةَ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، وَخَلْقٍ كَثِيرٍ سِوَاهُمْ، مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَ: لَيْسَ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا بِلُبْسِ الْغَلِيظِ) أَيْ: فِي الْغَزْلِ (وَالْخَشِنِ)، بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ أَيْ: فِي النَّسْجِ (وَأَكْلِ الْجَشِبِ)، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: وَلَا بِأَكْلِ الْغَلِيظِ الْجَشِبِ مِنَ الطَّعَامِ، وَقِيلَ: غَيْرُ الْمَأْدُومِ (إِنَّمَا الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا قِصَرُ الْأَمَلِ) . بِكَسْرِ قَافٍ فَفَتْحِ صَادٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيِ: اقْتِصَارُ الْأَمَلِ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْأَجَلِ بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الزُّهْدَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ مَا يَكُونُ فِي الْحَالِ الْقَلْبِيِّ مِنْ عُزُوفِ النَّفْسِ عَنِ الدُّنْيَا وَمَيْلِهَا إِلَى الْعُقْبَى، وَلَيْسَ الْمَدَارُ عَلَى الِانْتِفَاعِ الْقَالَبِيِّ فَإِنَّهُ يَسْتَوِي الْأَمْرَانِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ كَانَ التَّقَشُّفُ فِي اللُّبْسِ وَالتَّقَلُّلِ فِي كَمِّيَّةِ الْأَكْلِ وَكَيْفِيَّتِهِ لَهُ تَأْثِيرٌ بَلِيغٌ فِي اسْتِقَامَةِ الْعَبْدِ عَلَى الطَّرِيقَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ حُبَّ الدُّنْيَا فِي الْقَلْبِ هُوَ الْمُهْلِكُ لِلْهَالِكِ لَا وُجُودَهَا عَلَى قَالَبِ السَّالِكِ، وَشَبَّهَ الْقَلْبَ بِالسَّفِينَةِ حَيْثُ إِنَّ الْمَاءَ الْمُشَبَّهَ بِالدُّنْيَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} [يونس: 24] إِنْ دَخَلَ دَاخِلَ السَّفِينَةِ أَغْرَقَهَا مَعَ