المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب قصة ابن صياد] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٨

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ الْحُبِّ فِي اللَّهِ وَمِنَ اللَّهِ]

- ‌[بَابُ مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنَ التَّهَاجُرِ وَالتَّقَاطُعِ وَاتِّبَاعِ الْعَوْرَاتِ]

- ‌[بَابُ الْحَذَرِ وَالتَّأَنِّي فِي الْأُمُورِ]

- ‌[بَابُ الرِّفْقِ وَالْحَيَاءِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ]

- ‌[بَابُ الْغَضَبِ وَالْكِبْرِ]

- ‌[بَابُ الظُّلْمِ]

- ‌[بَابُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ]

- ‌[كِتَابُ الرِّقَاقِ]

- ‌[بَابُ فَضْلِ الْفُقَرَاءِ وَمَا كَانَ مِنْ عَيْشِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[بَابُ الْأَمَلِ وَالْحِرْصِ]

- ‌[بَابُ اسْتِحْبَابِ الْمَالِ وَالْعُمُرِ لِلطَّاعَةِ]

- ‌[بَابُ التَّوَكُّلِ وَالصَّبْرِ]

- ‌[بَابُ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ]

- ‌[بَابُ الْبُكَاءِ وَالْخَوْفِ]

- ‌[بَابُ تَغَيُّرِ النَّاسِ]

- ‌[بَابُ التَّحْذِيرِ مِنَ الْفِتَنِ]

- ‌[كِتَابُ الْفِتَنِ]

- ‌[بَابُ الْمَلَاحِمِ]

- ‌[بَابُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ]

- ‌[بَابُ الْعَلَامَاتِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ وَذِكْرِ الدَّجَّالِ]

- ‌[بَابُ قِصَّةِ ابْنِ صَيَّادٍ]

- ‌[بَابُ نُزُولِ عِيسَى عليه الصلاة والسلام]

- ‌[بَابُ قُرْبِ السَّاعَةِ وَأَنَّ مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ]

- ‌[بَابُ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ]

- ‌[كِتَابُ صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ] [

- ‌بَابُ النَّفْخِ فِي الصُّورِ]

- ‌[بَابُ الْحَشْرِ]

- ‌[بَابُ الْحِسَابِ وَالْقِصَاصِ وَالْمِيزَانِ]

- ‌[بَابُ الْحَوْضِ وَالشَّفَاعَةِ]

- ‌[بَابُ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِهَا]

الفصل: ‌[باب قصة ابن صياد]

كَمَا لَا يَحْتَاجُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى، وَأَبْعَدَ الطِّيبِيُّ رحمه الله حَيْثُ قَالَ: مَعْنَاهُ: إِنَّا نَعْجِنُ الْعَجِينَ لِنَخْبِزَهُ، فَلَا نَقْدِرُ عَلَى خَبْزِهِ لِمَا فِينَا مِنْ خَوْفِ الدَّجَّالِ حِينَ خَلَعْتَ أَفْئِدَتَنَا بِذِكْرِهِ، فَكَيْفَ حَالُ مَنِ ابْتُلِيَ بِزَمَانِهِ؟ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: يُجْزِئُهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى يُسَلِّيهِمْ بِبَرَكَةِ التَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ، هَذَا وَفِي الْحَدِيثِ كَلِمَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عِبَادَةُ الْخَلْقِ، وَبِهَا يُقْطَعُ أَرْزَاقُهُمْ. رَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَمَعْنَى الْإِقْطَاعِ تَسْوِيغُ الْإِمَامِ مِنْ مَالِ اللَّهِ شَيْئًا لِمَنْ يَرَاهُ أَهْلًا لِذَلِكَ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ مَا يُعَيَّنُ لِلشَّخْصِ. (رَوَاهُ) : هُنَا بَيَاضٌ فِي الْأَصْلِ، وَأُلْحِقَ بِهِ: أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، وَقِيلَ: رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْهَا، وَانْفَرَدَ بِهِ هُنَا.

ص: 3483

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

5492 -

عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ: «مَا سَأَلَ أَحَدٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الدَّجَّالِ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلْتُهُ، وَإِنَّهُ قَالَ لِي: " مَا يَضُرُّكَ؟ " قُلْتُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَعَهُ جَبَلَ خُبْزٍ وَنَهَرَ مَاءٍ. قَالَ: " هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

5492 -

(عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: مَا سَأَلَ أَحَدٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الدَّجَّالِ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلْتُهُ) أَيْ: عَنْهُ، (وَإِنَّهُ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ أَوْ لِعَطْفِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْمَنْفِيَّةِ، وَالتَّقْدِيرُ وَقَالَ: إِنَّهُ، وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، وَالضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ أَوْ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ لِي:" مَا يَضُرُّكَ ") ؟ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْجُمْلَةُ حَالٌ، وَالْمَعْنَى: كُنْتُ مُولَعًا بِالسُّؤَالِ عَنِ الدَّجَّالِ، مَعَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا يَضُرُّكَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَافِيكَ شَرَّهُ. أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجُمْلَةَ إِخْبَارِيَّةٌ تَقْرِيرِيَّةٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ خَبَرِيَّةً لَفْظًا وَفِي الْمَعْنَى دُعَائِيَّةً، وَإِنَّمَا أَتَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِتَوَقُّعِ وَجُودِهِ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ. (قُلْتُ: إِنَّهُمْ) أَيِ: النَّاسَ، أَوْ أَهْلَ الْكِتَابِ، أَوِ الْيَهُودَ (يَقُولُونَ: إِنَّ مَعَهُ جَبَلَ خُبْزٍ) : بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ فَزَايٍ أَيْ: مَعَهُ مِنَ الْخُبْزِ قَدْرَ الْجَبَلِ، وَفِي نُسْخَةٍ جَبَلَ خُبْزٍ، وَهِيَ كَذَا فِي الْمَصَابِيحِ، وَكَأَنَّهُ تَصْحِيفٌ (وَنَهَرَ مَاءٍ) : بِفَتْحِ الْهَاءِ وَهُوَ أَفْصَحُ، وَتُسَكَّنُ وَهُوَ أَشْهَرُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ فِي زَمَانِهِ قَحَطَ الْمَاءُ أَيْضًا ابْتِلَاءً لِلْعِبَادِ، وَزَوَالًا لِلْبَرَكَةِ فِي الْبِلَادِ لِعُمُومِ الْفَسَادِ، وَهَذَا سُؤَالٌ مُسْتَقِلٌّ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ، وَأَبْعَدَ الطِّيبِيُّ رحمه الله فِي قَوْلِهِ: قُلْتُ: إِلَى آخِرِهِ اسْتِئْنَافُ جَوَابٍ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ أَيْ: سَأَلْتُهُ يَوْمًا، فَقَالَ لِي: مَا يَضُرُّكَ أَيْ: مَا يُضِلُّكَ؟ قُلْتُ: كَيْفَ مَا يُضِلُّنِي وَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَعَهُ جَبَلَ خُبْزٍ، (قَالَ:" هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ ") أَيِ: الدَّجَّالُ هُوَ أَحْقَرُ أَنَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يُحَقَّقُ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْيِيلٌ وَتَمْوِيهٌ لِلِابْتِلَاءِ، فَيَثْبُتُ الْمُؤْمِنُ وَيَزِلُّ الْكَافِرُ، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ آيَةً عَلَى صِدْقِهِ، وَلَا سِيَّمَا قَدْ جَعَلَ فِيهِ آيَةً ظَاهِرَةً فِي كَذِبِهِ وَكُفْرِهِ، وَيَقْرَأُهَا مَنْ لَا يَقْرَأُ. أَوْ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: مَعْنَاهُ هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدِهِ مُضِلًّا لِلْمُؤْمِنِينَ وَمُشَكِّكًا لِقُلُوبِهِمْ، بَلْ إِنَّمَا جَعَلَهُ اللَّهُ لِيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا، وَيُلْزِمَ الْحُجَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَنَحْوِهِمْ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 3483

5493 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «يَخْرُجُ الدَّجَّالُ عَلَى حِمَارٍ أَقْمَرَ، مَا بَيْنَ أُذُنَيْهِ سَبْعُونَ بَاعًا» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ (فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ) .

ــ

5493 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يَخْرُجُ الدَّجَّالُ عَلَى حِمَارٍ أَقْمَرَ» ") أَيْ: شَدِيدِ الْبَيَاضِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ حِمَارَهُ أَحْسَنُ مِنْ وَجْهِهِ، (" مَا بَيْنَ أُذُنَيْهِ) : صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِـ " حِمَارٍ "(سَبْعُونَ بَاعًا) ، وَهُوَ طُولُ ذِرَاعَيِ الْإِنْسَانِ وَمَا بَيْنَهُمَا. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ) .

ص: 3483

[بَابُ قِصَّةِ ابْنِ صَيَّادٍ]

ص: 3483

[4]

بَابُ قِصَّةِ ابْنِ صَيَّادٍ

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

5494 -

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه انْطَلَقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِهِ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ، حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ وَفِي أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ، وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ يَوْمَئِذٍ الْحُلُمَ، فَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ظَهْرَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: " أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَرَصَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ ". ثُمَّ قَالَ لِابْنِ الصَّيَّادِ: مَاذَا تَرَى؟ قَالَ: يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " خُلِّطَ عَلَيْكَ الْأَمْرُ ". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنِّي خَبَّأْتُ لَكَ خَبِيئًا " وَخَبَّأَ لَهُ: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] . فَقَالَ: هُوَ الدُّخُّ. فَقَالَ: " اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ ". قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَتَأْذَنُ لِي فِيهِ أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنْ يَكُنْ هُوَ لَا تُسَلَّطْ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَلَا خَيْرَ لَكَ مِنْ قَتْلِهِ ". قَالَ ابْنُ عُمَرَ: انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ الْأَنْصَارِيُّ يَؤُمَّانِ النَّخْلَ الَّتِي فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ، وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنِ ابْنِ الصَّيَّادِ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ، وَابْنُ صَيَّادٍ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا زَمْزَمَةٌ، فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ. فَقَالَتْ: أَيْ صَافُ - وَهُوَ اسْمُهُ - هَذَا مُحَمَّدٌ. فَتَنَاهَى ابْنُ صَيَّادٍ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ ". قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: " إِنِّي أُنْذِرُكُمُوهُ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ، لَقَدْ أَنْذَرَ نُوحٌ قَوْمَهُ، وَلَكِنِّي سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ، تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

[4]

بَابُ قِصَّةِ ابْنِ صَيَّادٍ

كَذَا فِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ وَأَكْثَرِ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: ابْنُ الصَّيَّادِ مُعَرَّفًا. فِي الْقَامُوسِ: ابْنُ صَائِدٍ أَوْ صَيَّادٍ الَّذِي كَانَ يُظَنُّ أَنَّهُ الدَّجَّالُ، وَقَالَ الْأَكْمَلُ: ابْنُ صَائِدٍ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَقِيلَ: صِيَافٌ. وَيُقَالُ: ابْنُ صَائِدٍ وَهُوَ يَهُودِيٌّ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: هُوَ دَخِيلٌ فِيهِمْ، وَكَانَ حَالُهُ فِي صِغَرِهِ حَالَ الْكُهَّانِ يَصْدُقُ مَرَّةً وَيَكْذِبُ مِرَارًا، ثُمَّ أَسْلَمَ لَمَّا كَبُرَ وَظَهَرَتْ مِنْهُ عَلَامَاتٌ مِنَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ ظَهَرَتْ مِنْهُ أَحْوَالٌ، وَسُمِعَتْ مِنْهُ أَقْوَالٌ تُشْعِرُ بِأَنَّهُ الدَّجَّالُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ تَابَ وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: بَلْ فُقِدَ يَوْمَ الْحَرَّةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله: اخْتَلَفُوا فِي حَالِ ابْنِ الصَّيَّادِ، فَقِيلَ: هُوَ الدَّجَّالُ، وَمَا يُقَالُ: إِنَّهُ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ لَمْ يَثْبُتْ، إِذْ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ فُقِدَ يَوْمَ الْحَرَّةِ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَمْ يُولَدْ لِلدَّجَّالِ، وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْبَلَدَيْنِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا، فَذَلِكَ فِي زَمَانِ خُرُوجِهِ، وَقِيلَ: لَيْسَ هُوَ الدَّجَّالُ، وَنُقِلَ أَنَّ جَابِرًا حَلَفَ بِاللَّهِ أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ، وَأَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَحْلِفُ ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُنْكِرْهُ، وَالظَّاهِرُ مِنْ قِصَّةِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الدَّجَّالُ، نَعَمْ كَانَ أَمْرُ ابْنِ الصَّيَّادِ ابْتِلَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ، فَوَقَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرِّهِ. أَقُولُ: وَلَا يُنَافِيهِ قِصَّةُ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَبْدَانٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَظَاهِرُهُ فِي عَالَمِ الْحِسِّ وَالْخَيَالِ دَائِرٌ مَعَ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَبَاطِنُهُ فِي عَالَمِ الْمِثَالِ مُقَيَّدٌ بِالسَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ، وَلَعَلَّ الْمَانِعَ مِنْ ظُهُورِهِ كَمَالَهُ فِي الْفِتْنَةِ وُجُودُ سَلَاسِلِ النُّبُوَّةِ وَأَغْلَالِ الرِّسَالَةِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

5494 -

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) : أُفْرِدَ الضَّمِيرُ لِكَوْنِهِ هُوَ الْأَصْلَ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ وَذِكْرُ ابْنِهِ تَبَعًا لَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ: عَنْهُمَا، وَهُوَ مُوهِمٌ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ الْخِطَابُ، وَهُوَ عُدُولٌ عَنِ الصَّوَابِ، (انْطَلَقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: ذَهَبَ عُمَرُ مَعَهُ (فِي رَهْطٍ) : وَهُوَ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ مِنَ الرِّجَالِ، وَالْمَعْنَى فِي جُمْلَةِ جَمْعٍ (مِنْ أَصْحَابِهِ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ) : بِكَسْرِ قَافٍ وَفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ أَيْ: جَانِبَهُ (حَتَّى وَجَدُوهُ) : قِيلَ: حَتَّى هُنَا حَرْفُ ابْتِدَاءٍ يُسْتَأْنَفُ بَعْدَهُ الْكَلَامُ، وَيُفِيدُ انْتِهَاءَ الْغَايَةِ، وَقَوْلُهُ:(يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ) حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ وَجَدُوهُ (وَفِي أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَيُضَمُّ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَنُقِلَ بِالضَّمِّ وَالْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ قَبِيلَةٌ، وَالْأُطُمُ بِضَمَّتَيْنِ الْقَصْرُ، وَكُلُّ حِصْنٍ مَبْنِيٍّ بِحِجَارَةٍ، وَكُلُّ بَيْتٍ مُرَبَّعٍ مُسَطَّحٍ، الْجَمْعُ آطَامٌ وَأُطُومٌ، كَذَا فِي الْقَامُوسِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْمَشْهُورُ مَغَالَةَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ. (وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ يَوْمَئِذٍ الْحُلُمَ) : بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ اللَّامُ أَيِ: الْبُلُوغَ بِالِاحْتِلَامِ وَغَيْرِهِ (فَلَمْ يَشْعُرْ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُمْ جَاءُوهُ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْهُ أَيْ: لَمْ يَتَفَطَّنْ بِمَأْتَانَا، (حَتَّى ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظَهْرَهُ) أَيْ: ظَهْرَ ابْنِ صَيَّادٍ (بِيَدِهِ) أَيِ: الْكَرِيمَةِ، (ثُمَّ قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ "، فَنَظَرَ إِلَيْهِ) أَيْ: إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَظَرَ غَضَبٍ أَوْ غَفْلَةٍ ; وَلِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ نَضْرَةٌ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198]، (فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ) . قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: يُرِيدُ بِهِمُ الْعَرَبَ ; لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ كَانُوا لَا يَكْتُبُونَ وَلَا يَقْرَءُونَ، وَمَا ذَكَرَهُ وَإِنْ كَانَ حَقًّا مِنْ

ص: 3484

قِبَلِ الْمَنْطُوقِ، لَكِنَّهُ يُشْعِرُ بِبَاطِلٍ مِنْ حَيْثُ الْمَفْهُومِ، وَهُوَ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْعَرَبِ غَيْرُ مَبْعُوثٍ إِلَى الْعَجَمِ، كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ الْيَهُودِ، وَهُوَ إِنْ قَصَدَ بِهِ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُلْقِي إِلَيْهِ الْكَاذِبُ الَّذِي يَأْتِيهِ وَهُوَ شَيْطَانُهُ انْتَهَى. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَسْمُوعُهُ مِنَ الْيَهُودِ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ، أَوْ هَذَا مِنْهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْحُكَمَاءِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ يَسْتَغْنُونَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ.

(ثُمَّ قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ) ؟ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الرِّسَالَةَ النَّبَوِيَّةَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُقَابَلَةُ الْكَلَامِيَّةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ الرِّسَالَةَ اللُّغَوِيَّةَ ; فَإِنَّهُ أُرْسِلَ مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى لِلْفِتْنَةِ وَالْبَلِيَّةِ، (فَرَصَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : بِتَشْدِيدِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: ضَغَطَهُ حَتَّى ضَمَّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4]، ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: فِي أَكْثَرِ نُسَخِ بِلَادِنَا: فَرَفَضَهُ بِالْفَاءِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْمَعْنَى: تَرَكَهُ وَقَطَعَ سُؤَالَهُ وَجَوَابَهُ وَجِدَالَهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَقَالَ شَارِحٌ: قَوْلُهُ: فَرَضَّهُ أَيْ كَسَرَهُ، وَقِيلَ: صَوَابُهُ بِالْمُهْمَلَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْعَصْرُ وَالتَّضْيِيقُ. (ثُمَّ قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ ") .

قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: هُوَ عَطْفٌ عَلَى فَرَصَّهُ، وَثُمَّ لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ، وَالْكَلَامُ خَارِجٌ عَلَى إِرْخَاءِ الْعِنَانِ أَيْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، فَتَفَكَّرْ هَلْ أَنْتَ مِنْهُمْ؟ انْتَهَى. وَفِيهِ إِيهَامُ تَجْوِيزِ التَّرَدُّدِ فِي كَوْنِهِ مِنَ الرُّسُلِ أَمْ لَا، وَلَا يَخْفَى فَسَادُهُ، فَالصَّوَابُ أَنَّهُ عَمِلَ بِالْمَفْهُومِ كَمَا فَعَلَهُ الدَّجَّالُ، فَالْمَعْنَى: إِنِّي آمَنْتُ بِرُسُلِهِ وَأَنْتَ لَسْتَ مِنْهُمْ، فَلَوْ كُنْتَ مِنْهُمْ لَآمَنْتُ بِكَ، وَهَذَا أَيْضًا عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِلَّا فَبَعْدَ الْعِلْمِ بِالْخَاتِمَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَيْضًا الْفَرْضُ وَالتَّقْدِيرُ بِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِأَنَّهُ لَوِ ادَّعَى أَحَدٌ النُّبُوَّةَ فَطَلَبَ مِنْهُ شَخْصٌ الْمُعْجِزَةَ كَفَرَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقْتُلْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَنَّهُ ادَّعَى بِحَضْرَتِهِ النُّبُوَّةَ ; لِأَنَّهُ صَبِيٌّ، وَقَدْ نَهَى عَنْ قَتْلِ الصِّبْيَانِ، أَوْ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ مُسْتَمْسِكِينَ بِالذِّمَّةِ مُصَالِحِينَ أَنْ يُتْرَكُوا عَلَى أَمْرِهِمْ، وَهُوَ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ حُلَفَائِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ ذِمَّةُ ابْنِ الصَّيَّادِ لِتُنْقَضَ بِقَوْلِهِ الَّذِي قَالَ، كَذَا قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنَ الشُّرَّاحِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَهْدَ الْوَالِدِ يُجْزِئُ عَنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَا ادَّعَى النُّبُوَّةَ صَرِيحًا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَتَشْهَدُ اسْتِفْهَامٌ لَا تَصْرِيحَ فِيهِ، وَفِيهِ تَأْيِيدٌ لِمَا قَدَّمْتُهُ مِنِ احْتِمَالِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فِي الرِّسَالَةِ.

(ثُمَّ قَالَ لِابْنِ صَيَّادٍ: " مَاذَا تَرَى ") ؟ ذَا زَائِدَةٌ، وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، أَيْ: مَا تُبْصِرُ وَتُكَاشِفُ مِنَ الْأَمْرِ الْغَيْبِيِّ، (قَالَ: يَأْتِينِي صَادِقٌ) أَيْ: خَبَرٌ صَادِقٌ تَارَةً (وَكَاذِبٌ) أَيْ أُخْرَى، أَوْ مَلَكَ صَادِقٌ وَشَيْطَانٌ كَاذِبٌ، وَقِيلَ: حَاصِلُ السُّؤَالِ أَنَّ الَّذِي يَأْتِيكَ مَا يَقُولُ لَكَ، وَمُجْمَلُ الْجَوَابِ أَنَّهُ يُحَدِّثُنِي بِشَيْءٍ قَدْ يَكُونُ صَادِقًا، وَقَدْ يَكُونُ كَاذِبًا، (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" خُلِّطَ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُشَدَّدًا لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْثِيرِ، وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهُ أَيْ شُبِّهَ (" عَلَيْكَ الْأَمْرُ ") أَيِ: الْكَذِبُ بِالصِّدْقِ. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: أَيْ مَا يَأْتِيكَ بِهِ شَيْطَانُكَ مُخَلَّطٌ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ تَارَاتٌ يُصِيبُ فِي بَعْضِهَا وَيُخْطِئُ فِي بَعْضِهَا ; فَلِذَلِكَ الْتَبَسَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنِّي خَبَّأْتُ ") أَيْ: أَضْمَرْتُ (" لَكَ ") أَيْ: فِي نَفْسِي (" خَبِيئًا ") أَيِ: اسْمًا مُضْمَرًا لِتُخْبِرَنِي بِهِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا امْتَحَنَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ ; لِيُظْهِرَ إِبْطَالَ حَالِهِ لِلصَّحَابَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَأْتِيهِ الشَّيْطَانُ فَيُلْقِي عَلَى لِسَانِهِ، (وَخَبَّأَ لَهُ:{يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10]، الْجُمْلَةُ حَالٌ بِتَقْدِيرٍ أَوْ بِدُونِهِ (فَقَالَ:" هُوَ الدُّخُّ ") : بِضَمٍّ فَتَشْدِيدٍ، وَقِيلَ: بِالْفَتْحِ، وَحُكِيَ الْكَسْرُ أَيْضًا، فَفِي النِّهَايَةِ: الدُّخُّ بِضَمِّ الدَّالِ وَفَتْحِهَا الدُّخَانُ ; لِأَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] ، وَقِيلَ إِنَّ عِيسَى يَقْتُلُ الدَّجَّالَ بِجَبَلِ الدُّخَانِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَهُ تَعْرِيضًا لِقَتْلِهِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الدَّخُّ وَيُضَمُّ الدُّخَانُ. أَقُولُ: وَلَوْ رُوِيَ بِضَمِّ الدَّالِ وَتَخْفِيفِ الْخَاءِ، لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ فِي أَنَّهُ رَمْزٌ وَإِشَارَةٌ إِلَى الدُّخَانِ وَتَصْرِيحٌ بِنُقْصَانِ إِدْرَاكِهِ، كَمَا هُوَ دَأْبُ الْكُهَّانِ.

ص: 3485

وَقَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: وَهُوَ بِضَمِّ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي الدُّخَانِ، وَمَعْنَى خَبَّأْتُ أَضْمَرْتُ لَكَ اسْمَ الدُّخَانِ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَضْمَرَ لَهُ آيَةَ الدُّخَانِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] . قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله: وَأَصَحُّ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي أَضْمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا بِهَذَا اللَّفْظِ النَّاقِصِ عَلَى عَادَةِ الْكُهَّانِ إِذَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ إِلَيْهِمْ بِقَدْرِ مَا يَخْطِفُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ الشِّهَابُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ الدَّارِمِيُّ عَنْهُ.

(فَقَالَ: " اخْسَأْ ") : بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ كُلُّهُ زَجْرٌ وَاسْتِهَانَةٌ أَيِ: امْكُثْ صَاغِرًا، أَوِ ابْعُدْ حَقِيرًا وَاسْكُتْ مَزْجُورًا، مِنَ الْخُسُوءِ وَهُوَ زَجْرُ الْكَلْبِ، (" فَلَنْ تَعْدُوهَا ") : بِضَمِّ الدَّالِ أَيْ: فَلَنْ تُجَاوِزَ (" قَدْرَكَ ") أَيِ: الْقَدْرَ الَّذِي يُدْرِكُهُ الْكُهَّانُ مِنَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى بَعْضِ الشَّيْءِ، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ لَا تَتَجَاوَزُ عَنْ إِظْهَارِ الْخَبِيآتِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، كَمَا هُوَ دَأْبُ الْكَهَنَةِ إِلَى دَعْوَى النُّبُوَّةِ، فَتَقُولُ: أَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ. أَقُولُ: وَحَاصِلُ الْجُمْلَةِ وَزُبْدَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّكَ وَإِنْ أَخْبَرْتَ عَنِ الْخَبِيءِ، فَلَنْ تَسْتَطِيعَ أَنْ تُجَاوِزَ عَنِ الْحَدِّ الَّذِي حُدَّ لَكَ، يُرِيدُ أَنَّ الْكَهَانَةَ لَا تَرْفَعُ بِصَاحِبِهَا عَنِ الْقَدْرِ الَّذِي عَلَيْهِ هُوَ، وَإِنْ أَصَابَ فِي كَهَانَتِهِ.

(قَالَ عُمَرُ) : فِيهِ الْتِفَاتٌ أَوْ تَجْرِيدٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ مُصَاحِبًا لَهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ فَقَالَ: قَالَ عُمَرُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَتَأْذَنُ لِي فِيهِ) أَيْ: فِي حَقِّهِ (أَضْرِبْ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَلْأَضْرِبْ، وَفِي أُخْرَى: أَنْ أَضْرِبَ (عُنُقَهُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ يَكُنْ هُوَ ") أَيِ: الدَّجَّالُ (" لَا تُسَلَّطْ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مَجْزُومًا، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ: لَا تَقْدِرْ (" عَلَيْهِ ") أَيْ: عَلَى هَلَاكِهِ ; لِأَنَّ الْمُقَدَّرَ أَنَّ قَاتِلَهُ عِيسَى عليه الصلاة والسلام فِيمَا سَيَأْتِي مِنَ الْأَيَّامِ (" وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ ") أَيْ: لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ كَوْنِهِ صَغِيرًا أَوْ ذِمِّيًّا، أَوْ كَوْنِ كَلَامِهِ مُحْتَمَلًا، أَقُولُ: وَأَوْسَطُهَا أَعْدَلُهَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَمَّا كَانَ فِيهِ قَرَائِنُ دَالَّةٌ عَلَى كَوْنِهِ الدَّجَّالَ، ذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَدِيثَ بِصُورَةِ الشَّدِّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ الْقَاضِي: قَوْلُهُ: إِنْ يَكُنْ هُوَ الضَّمِيرُ لِلدَّجَّالِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنْ يَكُنْ هُوَ فَلَسْتَ صَاحِبَهُ ; إِنَّمَا صَاحِبُهُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ، وَإِلَّا يَكُنْ هُوَ، فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَقْتُلَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ، وَهُوَ خَبَرُ كَانَ، وَاسْمُهُ مُسْتَكِنٌّ فِيهِ، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يُكِنَّهُ، فَوَضَعَ الْمَرْفُوعَ الْمُنْفَصِلَ مَوْضِعَ الْمَنْصُوبِ الْمُتَّصِلِ، عَكْسُ قَوْلِهِمْ: لَوْلَاهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِلْمُسْتَكِنِّ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفًا عَلَى تَقْدِيرِ: إِنْ يَكُنْ هُوَ هَذَا. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ إِنْ يَكُنْ هُوَ الدَّجَّالَ، وَهُوَ ضَمِيرُ فَصْلٍ أَوْ هُوَ مُبْتَدَأٌ، وَالدَّجَّالُ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ كَانَ انْتَهَى. وَعَلَى الْأَخِيرِ يَكُونُ فِي يَكُنْ ضَمِيرُ الشَّأْنِ كَمَا لَا يَخْفَى.

(قَالَ ابْنُ عُمَرَ: انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ الْأَنْصَارِيُّ) : بِالرَّفْعِ لِلْعَطْفِ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ لِلْمَعِيَّةِ (يَؤُمَّانِ النَّخْلَ) : مِنْ أَمَّهُ يَؤُمُّهُ إِذَا قَصَدَهُ أَيْ: يَقْصِدَانِ النَّخِيلَ (الَّتِي فِيهَا) أَيْ فِيمَا بَيْنَهَا أَوْ فِي بُسْتَانِهَا (ابْنُ صَيَّادٍ، فَطَفِقَ) : بِكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ: شَرَعَ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَّقِي) أَيْ: يَسْتُرُ نَفْسَهُ (بِجُذُوعِ النَّخْلِ) أَيْ: وَيَتَخَبَّأُ عَنِ ابْنِ صَيَّادٍ ; لِيَأْخُذَهُ عَلَى غِرَّةٍ وَغَفْلَةٍ، فَإِنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ أَدَلُّ عَلَى بُطْلَانِ الرُّهْبَانِ، (وَهُوَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَخْتِلُ) : بِسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ مِنَ الْخَتْلِ، وَهُوَ طَلَبُ الشَّيْءِ بِحِيلَةٍ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: يَخْدَعُ ابْنَ صَيَّادٍ (أَنْ يَسْمَعَ) أَيْ: لِيَسْمَعَ (مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ) أَيْ: يَعْلَمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ حَالَهُ فِي أَنَّهُ كَاهِنٌ أَمْ سَاحِرٌ وَنَحْوُهُمَا.

ص: 3486

قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: وَفِيهِ جَوَازُ كَشْفِ أَحْوَالِ مَا يُخَافُ مَفْسَدَتُهُ وَكَشْفِ الْأُمُورِ الْمُبْهَمَةِ بِنَفْسِهِ، (وَابْنُ صَيَّادٍ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ فِي قَطِيفَةٍ) أَيْ: دِثَارٍ مُخَمَّلٍ، وَقِيلَ لِحَافٍ صَغِيرٍ، (لَهُ فِيهَا زَمْزَمَةٌ) .

قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: هُوَ فِي مُعْظَمِ نُسَخِ مُسْلِمٍ بِزَاءَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ، وَفِي بَعْضِهَا بِرَائَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ، وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ بِالْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ صَوْتٌ خَفِيٌّ لَا يَكَادُ يُفْهَمُ أَوْ لَا يُفْهَمُ. قَالَ شَارِحٌ: هِيَ صَوْتٌ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ صَوْتُ الرَّعْدِ. (فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ. فَقَالَتْ: أَيْ) : لِلنِّدَاءِ (صَافُ -) : بِالضَّمِّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْكَسْرِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ صَافِي، فَحُذِفَ الْيَاءُ وَاكْتُفِيَ بِالْكَسْرَةِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ:(وَهُوَ اسْمُهُ -) : وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ بِمَعْنَى الْوَصْفِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ مِنْ نَحْوِ اللَّقَبِ وَالْعَلَمِ (هَذَا) أَيْ: وَرَاءَكَ (مُحَمَّدٌ) ، أَوْ جَاءَكَ فَتَنَبَّهْ لَهُ، (فَتَنَاهَى ابْنُ صَيَّادٍ) أَيِ: انْتَهَى عَمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الزَّمْزَمَةِ وَسَكَتَ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ تَرَكَتْهُ ") أَيْ: أَمُّهُ (" بَيَّنَ ") أَيْ أَظْهَرَ مَا فِي نَفْسِهِ، كَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: أَيْ بَيَّنَ لَكُمْ بِاخْتِلَافِ كَلَامِهِ مَا يُهَوِّنُ عَلَيْكُمْ شَأْنَهُ.

(قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) : الظَّاهِرُ أَنَّ مَا سَيَأْتِي حَدِيثٌ آخَرُ ذَكَرَهُ اسْتِطْرَادًا ; وَلِذَا لَمْ يَأْتِ بِعَاطِفَةٍ، وَقَالَ:(قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّاسِ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: " إِنِّي أُنْذِرُكُمُوهُ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ ") أَيْ: بَعْدَ نُوحٍ، (" لَقَدْ أَنْذَرَ نُوحٌ قَوْمَهُ ") أَيْ: قَبْلَ الْأَنْبِيَاءِ، (" وَلَكِنَّنِي سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ، تَعْلَمُونَ ") : خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ أَيِ: اعْلَمُوا (" أَنَّهُ أَعْوَرُ، وَأَنَّ اللَّهَ ") : بِالْفَتْحِ لِلْعَطْفِ، وَبِالْكَسْرِ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ حَالِيَّةٌ (" لَيْسَ بِأَعْوَرَ ") أَيْ: لَا بِالْأَمْرِ الْبَدِيهِيِّ فِي التَّنْزِيهِ الْإِلَهِيِّ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: يُحْتَمَلُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يُكَاشَفْ أَوْ يُخْبَرْ بِأَنَّهُ أَعْوَرُ، وَيُحْتَمَلْ أَنَّهُ أُخْبِرَ، وَلَمْ يُقَدَّرْ لَهُ أَنْ يُخْبِرَ عَنْهُ كَرَامَةً لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ بِهَذَا الْوَصْفِ دُحُوضَ حُجَّتِهِ الدَّاحِضَةِ وَيُبَصِّرُ بِأَمْرِهِ جُهَّالَ الْعَوَامِّ، فَضْلًا عَنْ ذَوِي الْأَلْبَابِ وَالْأَفْهَامِ.

وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالُوا: قِصَّتُهُ مُشْكِلَةٌ، وَأَمْرُهُ مُشْتَبِهٌ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ أَمْ غَيْرُهُ؟ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ دَجَّالٌ مِنَ الدَّجَاجِلَةِ. قَالُوا: وَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ وَلَا غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ بِصِفَاتِ الدَّجَّالِ، وَكَانَ لِابْنِ صَيَّادٍ قَرَائِنُ مُحْتَمِلَةٌ ; فَلِذَلِكَ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَقْطَعُ بِأَنَّهُ الدَّجَّالُ وَلَا غَيْرُهُ ; وَلِهَذَا قَالَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: لَا يُولَدُ الدَّجَّالُ وَقَدْ وُلِدَ لَهُ، وَأَنْ لَا يَدْخُلَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، وَابْنُ صَيَّادٍ قَدْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَكَّةَ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ صِفَاتِهِ وَقْتَ فِتْنَتِهِ وَخُرُوجِهِ فِي الْأَرْضِ.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي أَمْرِهِ بَعْدَ كِبَرِهِ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تَابَ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ، وَأَنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ كَشَفُوا عَنْ وَجْهِهِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ، وَقِيلَ لَهُمْ: اشْهَدُوا. قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَجَابِرٌ يَحْلِفَانِ أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ لَا يَشُكَّانِ فِيهِ، فَقِيلَ لِجَابِرٍ: إِنَّهُ أَسْلَمَ، فَقَالَ: وَإِنْ أَسْلَمَ، فَقِيلَ: إِنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: وَإِنْ دَخَلَ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: فَقَدْنَا ابْنَ صَيَّادٍ يَوْمَ الْحَرَّةِ، وَهَذَا يُبْطِلُ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى أَنَّهُ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ جَابِرًا حَلَفَ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ هُوَ الدَّجَّالُ، وَأَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَحْلِفُ ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُنْكِرْهُ.

ص: 3487

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ " الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ ": اخْتَلَفُوا فِي أَمْرِ ابْنِ صَيَّادٍ اخْتِلَافًا كَثِيرًا هَلْ هُوَ الدَّجَّالُ أَمْ لَا، فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُهُ احْتَجَّ بِحَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ فِي قِصَّةِ الْجَسَّاسَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَافَقَ صِفَةُ ابْنِ صَيَّادٍ وَصِفَةُ الدَّجَّالِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ أَشْبَهَ النَّاسِ بِالدَّجَّالِ عَبْدُ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ، وَلَيْسَ هُوَ هُوَ. قَالَ: وَكَانَ أَمْرُ ابْنِ صَيَّادٍ فِتْنَةً ابْتَلَى اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ، فَعَصَمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا الْمُسْلِمِينَ وَوَقَاهُمْ شَرَّهًا. قَالَ: وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ تَمِيمٍ، هَذَا كَلَامُ الْبَيْهَقِيِّ، قَدِ اخْتَارَ أَنَّهُ غَيْرُهُ، وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ أَنَّهُ الدَّجَّالُ، فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَقْتُلْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَنَّهُ ادَّعَى بِحَضْرَتِهِ النُّبُوَّةَ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ، ذَكَرَهُمَا الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ غَيْرَ بَالِغٍ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله هَذَا الْجَوَابَ، وَالثَّانِي أَنَّهُ كَانَ فِي أَيَّامِ مُهَادَنَةِ الْيَهُودِ وَحُلَفَائِهِمْ، وَجَزَمَ الْخَطَّابِيُّ بِالْجَوَابِ الثَّانِي، قَالَ: لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ كَتَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَهُودِ كِتَابَ الصُّلْحِ، عَلَى أَنْ يُتْرَكُوا عَلَى حَالِهِمْ، وَكَانَ ابْنُ صَيَّادٍ مِنْهُمْ أَوْ دَخِيلًا فِيهِمْ.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَأَمَّا امْتِحَانُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا خَبَّأَهُ لَهُ مِنْ آيَةِ الدُّخَانِ ; فَلِأَنَّهُ كَانَ يَبْلُغُهُ مَا يَدَّعِيهِ مِنَ الْكَهَانَةِ وَيَتَعَاطَاهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي الْغَيْبِ، فَامْتَحَنَهُ لِيَعْلَمَ حَقِيقَةَ حَالِهِ، وَيُظْهِرَ إِبْطَالَ حَالِهِ لِلصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُ كَاهِنٌ سَاحِرٌ يَأْتِيهِ الشَّيْطَانُ، فَيُلْقِي عَلَى لِسَانِهِ مَا يُلْقِيهِ الشَّيَاطِينُ إِلَى الْكَهَنَةِ فَامْتَحَنَهُ، ثُمَّ قَالَ: فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ، أَيْ: لَا تَتَجَاوَزُ قَدْرَكَ وَقَدْرَ أَمْثَالِكَ مِنَ الْكُهَّانِ الَّذِينَ يَحْفَظُونَ مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ كَلِمَةً وَاحِدَةً مِنْ جُمْلَةٍ كَثِيرَةٍ، بِخِلَافِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِنَّهُ يُوحِي اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ مَا يُوحِي ; فَيَكُونُ وَاضِحًا جَلِيًّا كَامِلًا، وَبِخِلَافِ مَا يُلْهِمُ اللَّهُ الْأَوْلِيَاءَ مِنَ الْكَرَامَاتِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.

ص: 3488

5495 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «لَقِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما يَعْنِي ابْنَ صَيَّادٍ - فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ " فَقَالَ هُوَ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " آمَنْتُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، مَاذَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى عَرْشًا عَلَى الْمَاءِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَرَى عَرْشَ إِبْلِيسَ عَلَى الْبَحْرِ وَمَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى صَادِقَيْنِ وَكَاذِبًا، أَوْ كَاذِبَيْنِ وَصَادِقًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لُبِسَ عَلَيْهِ، فَدَعُوهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

5495 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَقِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - يَعْنِي) أَيْ: يُرِيدُ أَبُو سَعِيدٍ بِالضَّمِيرِ الْبَارِزِ (ابْنَ صَيَّادٍ -) : وَالْمَعْنَى لَقُوهُ (فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ " فَقَالَ هُوَ) أَيِ: ابْنُ صَيَّادٍ وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي فَقَالَ: (أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ "، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " آمَنْتُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ") : تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، (" مَاذَا تَرَى؟ " قَالَ: أَرَى عَرْشًا عَلَى الْمَاءِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَرَى عَرْشَ إِبْلِيسَ عَلَى الْبَحْرِ ") ، أَقُولُ: قَدْ جَرَى لِبَعْضِ الْمُكَاشَفِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَهُ (" وَمَا تَرَى؟ ") أَيْ: غَيْرَ هَذَا (قَالَ: أَرَى صَادِقَيْنِ وَكَاذِبًا، أَوْ كَاذِبَيْنِ وَصَادِقًا) أَيْ: يَأْتِينِي شَخْصَانِ يُخْبِرَانِي بِمَا هُوَ صِدْقٌ، وَشَخْصٌ يُخْبِرُنِي بِمَا هُوَ كَذِبٌ، وَالشَّكُّ مِنِ ابْنِ الصَّيَّادِ فِي عَدَدِ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ يَدُلُّ عَلَى افْتِرَائِهِ ; إِذِ الْمُؤَيَّدُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) أَيْ: لِأَصْحَابِهِ (" لُبِسَ ") : بِضَمِّ لَامٍ وَكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ مُخَفَّفَةٍ، وَلَوْ شُدِّدَ لَأَفَادَ التَّأْكِيدَ وَالتَّكْثِيرَ أَيْ: خُلِطَ (" عَلَيْهِ الْأَمْرُ ") : فِي كَهَانَتِهِ (" فَدَعُوهُ ") أَيْ: فَاتْرُكُوهُ فَإِنَّهُ لَا يُحَدِّثُ بِشَيْءٍ يَصْلُحُ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 3488

5496 -

وَعَنْهُ: «أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ تُرْبَةِ الْجَنَّةِ فَقَالَ: " دَرْمَكَةٌ بَيْضَاءُ، مِسْكٌ خَالِصٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

5496 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تُرْبَةِ الْجَنَّةِ) أَيْ: مَا تُرَابُهَا (فَقَالَ: " دَرْمَكَةٌ ")، فِي الْقَامُوسِ: الدَّرْمَكُ كَجَعْفَرٍ دَقِيقُ الْحُوَّارَى، وَالتُّرَابُ النَّاعِمُ، (" بَيْضَاءُ ") : صِفَةٌ مُؤَكَّدَةٌ (" مِسْكٌ خَالِصٌ ") : خَبَرٌ ثَانٍ. وَفِي النِّهَايَةِ: الدَّرْمَكَةُ الدَّقِيقُ الْحُوَّارَى، شَبَّهَ تُرْبَةَ الْجَنَّةِ بِهَا لِبَيَاضِهَا وَنُعُومَتِهَا، وَبِالْمِسْكِ لِطِيبِهَا انْتَهَى. وَيُقَالُ: دَقِيقُ حُوَّارَى بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، هُوَ مَا حُوِّرَ أَيْ بُيِّضَ مِنَ الطَّعَامِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 3488

5497 -

وَعَنْ نَافِعٍ، قَالَ:«لَقِيَ ابْنُ عُمَرَ ابْنَ صَيَّادٍ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ قَوْلًا أَغْضَبَهُ، فَانْتَفَخَ حَتَّى مَلَأَ السِّكَّةَ، فَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى حَفْصَةَ وَقَدْ بَلَغَهَا، فَقَالَتْ لَهُ: رَحِمَكَ اللَّهُ مَا أَرَدْتَ مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ غَضْبَةٍ يَغْضَبُهَا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

5497 -

(وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: لَقِيَ ابْنُ عُمَرَ ابْنَ صَيَّادٍ) أَيْ: رَآهُ (فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ) أَيِ ابْنُ عُمَرَ لَهُ (قَوْلًا أَغْضَبُهُ) أَيِ: الْقَوْلُ مَجَازًا، أَوِ ابْنُ عُمَرَ، (فَانْتَفَخَ) أَيْ: صَارَ ذَا نَفْخٍ مِنَ الْغَضَبِ (حَتَّى مَلَأَ) أَيْ: جَسَدُهُ الْمُنْتَفِخُ (السِّكَّةَ) : بِكَسْرٍ فَتَشْدِيدٍ أَيِ: الطَّرِيقَ (فَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى حَفْصَةَ) : وَهِيَ أُخْتُهُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ (وَقَدْ بَلَغَهَا) أَيْ: وَقَدْ وَصَلَ إِلَيْهَا مَا جَرَى بَيْنَهُمَا، (فَقَالَتْ لَهُ) أَيْ: لِأَخِيهَا (رَحِمَكَ اللَّهُ) : جُمْلَةٌ دُعَائِيَّةٌ دَالَّةٌ عَلَى جَوَازِ مِثْلِهَا لِلْأَحْيَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْعُرْفُ الْآنَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ (مَا أَرَدْتَ) : مَا: اسْتِفْهَامٌ مَفْعُولُ أَرَدْتَ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ قَصَدْتَ (مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ) ؟ أَيْ: حَيْثُ أَغْضَبْتَهُ فِي الْكَلَامِ (أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّمَا يَخْرُجُ ") أَيِ: الدَّجَّالُ حِينَ يَخْرُجُ (" مِنْ غَضْبَةٍ ") : بِسُكُونِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: مِنْ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْغَضَبِ (" يَغْضَبُهَا ") : الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْجَرِّ وَالضَّمِيرُ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ، أَيْ: أَنَّهُ يَغْضَبُ غَضْبَةً فَيَخْرُجُ بِسَبَبِ غَضَبِهِ فَيَدَّعِي النُّبُوَّةَ ; فَلَا تُغْضِبْهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ وَلَا تَتَكَلَّمْ مَعَهُ كَيْلَا يَخْرُجَ فَتَظْهَرَ الْفِتَنُ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي إِنَّمَا يَخْرُجُ الدَّجَّالُ حِينَ يَغْضَبُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 3489

5498 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «صَحِبْتُ ابْنَ صَيَّادٍ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ لِي: مَا لَقِيتُ مِنَ النَّاسِ؟ ! يَزْعُمُونَ أَنِّي الدَّجَّالُ، أَلَسْتَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إِنَّهُ لَا يُولَدُ لَهُ "؟ وَقَدْ وُلِدَ لِي، أَلَيْسَ قَدْ قَالَ: " هُوَ كَافِرٌ؟ " وَأَنَا مُسْلِمٌ، أَوَلَيْسَ قَدْ قَالَ: " لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ وَلَا مَكَّةَ؟ " وَقَدْ أَقْبَلْتُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَنَا أُرِيدُ مَكَّةَ، ثُمَّ قَالَ لِي فِي آخِرِ قَوْلِهِ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ مَوْلِدَهُ وَمَكَانَهُ وَأَيْنَ هُوَ، وَأَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، قَالَ: فَلَبَسَنِي، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، قَالَ: وَقِيلَ لَهُ: أَيَسُرُّكَ أَنَّكَ ذَاكَ الرَّجُلُ؟ قَالَ: فَقَالَ: لَوْ عُرِضَ عَلَيَّ مَا كَرِهْتُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

5498 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: صَحِبْتُ ابْنَ صَيَّادٍ إِلَى مَكَّةَ) أَيْ: مُتَوَجِّهِينَ إِلَيْهَا (فَقَالَ لِي: مَا لَقِيتُ) : مَا: اسْتِفْهَامُ تَعْجِيبٍ، أَيْ: شَيْئًا عَظِيمًا لَقِيتُ (مِنَ النَّاسِ) ؟ أَيْ مِنْ كَلَامِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ:(يَزْعُمُونَ أَنِّي الدَّجَّالُ) أَيْ: وَلَسْتُ إِيَّاهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَوْلُهُ: يَزْعُمُونَ اسْتِئْنَافٌ، كَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: مَا لَقِيتُ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ لَقِيتُ مِنَ النَّاسِ؟ قِيلَ لَهُ: مَاذَا تَشْكُو مِنْهُمْ؟ فَقَالَ يَزْعُمُونَ، أَوْ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ لَقِيتُ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ لَقِيتُ مِنَ النَّاسِ وَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ كَذَا أَيْ: يَتَرَدَّدُونَ فِي أَمْرِي، وَيَشُكُّونَ فِيهِ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ (أَلَسْتَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ:" لَا يُولَدُ لَهُ " وَقَدْ وُلِدَ لِي، أَلَيْسَ قَدْ قَالَ:" هُوَ كَافِرٌ؟ " وَأَنَا مُسْلِمٌ، أَوَلَيْسَ قَدْ قَالَ:" لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ وَلَا مَكَّةَ " وَقَدْ أَقْبَلْتُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَنَا أُرِيدُ مَكَّةَ) ، وَقَدْ سَبَقَ تَأْوِيلَاتُ الْجُمَلِ الْمَذْكُورَةِ، (ثُمَّ قَالَ لِي فِي آخِرِ قَوْلِهِ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ) أَيْ: لَأَعْرِفُ (مَوْلِدَهُ) أَيْ: زَمَانَ وِلَادَةِ الدَّجَّالِ (وَمَكَانَهُ) أَيْ: حِينَئِذٍ (وَأَيْنَ هُوَ) أَيِ: الْآنَ (وَأَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ) : فِيهِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا وَصَادِقًا فِيهِ، (قَالَ) أَيْ: أَبُو سَعِيدٍ (فَلَبَسَنِي) بِتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: هُوَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْ جَعَلَنِي أَلْتَبِسُ عَلَى أَمْرِهِ، وَأَشُكُّ فِيهِ، يَعْنِي حَيْثُ قَالَ أَوَّلًا: اعْلَمْ أَنَا مُسْلِمٌ، ثُمَّ ادَّعَى الْغَيْبَ بِقَوْلِهِ: إِنِّي لَأَعْلَمُ، وَمَنِ ادَّعَى عِلْمَ الْغَيْبِ فَقَدْ كَفَرَ ; فَالْتَبَسَ عَلَيَّ إِسْلَامُهُ وَكُفْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَلَبَّسَنِي مِنَ التَّلْبِيسِ أَيِ التَّخْلِيطِ ; حَيْثُ لَمْ يُبَيِّنْ مَوْلِدَهُ وَمَوْضِعَهُ، بَلْ تَرَكَهُ مُلْتَبِسًا فَلُبِّسَ عَلَيَّ، أَوْ مَعْنَاهُ: أَوْقَعَنِي فِي الشَّكِّ بِقَوْلِهِ: وُلِدَ لِي،: وَبِدُخُولِهِ الْمَدِينَةَ وَمَكَّةَ، وَكَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ الدَّجَّالُ.

(قَالَ) أَيْ: أَبُو سَعِيدٍ (قُلْتُ لَهُ) أَيْ: لِابْنِ صَيَّادٍ (تَبًّا) : بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ هَلَاكًا وَخُسْرَانًا (لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ) أَيْ: جَمِيعَ الْيَوْمِ أَوْ بَاقِيَهُ، أَيْ: مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْيَوْمِ قَدْ خَسِرْتَ فِيهِ، فَكَذَا فِي بَاقِيهِ، (قَالَ) أَيْ: أَبُو سَعِيدٍ (وَقِيلَ لَهُ) أَيْ: لِابْنِ صَيَّادٍ (أَيَسُرُّكَ) أَيْ: أَيُوقِعُكَ فِي السُّرُورِ وَيُفْرِحُكَ وَيُعْجِبُكَ (أَنَّكَ ذَاكَ الرَّجُلُ) أَيْ: تَكُونُ الدَّجَّالَ، (قَالَ) أَيْ: أَبُو سَعِيدٍ (فَقَالَ) أَيِ: ابْنُ صَيَّادٍ (لَوْ عُرِضَ عَلَيَّ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: لَوْ عُرِضَ عَلَيَّ مَا جُبِلَ فِي الدَّجَّالِ مِنَ الْإِغْوَاءِ وَالْخَدِيعَةِ وَالتَّلْبِيسِ عَلَيَّ (" مَا كَرِهْتُ ") أَيْ: بَلْ قَبِلْتُ، وَالْحَاصِلُ رِضَاهُ بِكَوْنِهِ الدَّجَّالَ، وَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى كُفْرِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُظْهِرُ وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّرَّاحِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 3489

5499 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: لَقِيتُهُ وَقَدْ نَفَرَتْ عَيْنُهُ فَقُلْتُ: مَتَى فَعَلَتْ عَيْنُكَ مَا أَرَى؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، قُلْتُ: لَا تَدْرِي وَهِيَ فِي رَأْسِكَ؟ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ خَلَقَهَا فِي عَصَاكَ، قَالَ: فَنَخَرَ كَأَشَدِّ نَخِيرِ حِمَارٍ سَمِعْتُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

5499 -

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَقِيتُهُ) أَيِ: ابْنَ صَيَّادٍ (وَقَدْ نَفَرَتْ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ أَيْ: وَرِمَتْ (عَيْنُهُ) : كَأَنَّ الْجِلْدَ يَنْفِرُ مِنَ اللَّحْمِ لِلدَّاءِ الْحَادِثِ بَيْنَهُمَا. قَالَ شَارِحٌ: وَرُوِيَ بِالْقَافِ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيِ: اسْتُخْرِجَتْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْقَافِ، أَيْ: وَرِمَتْ وَنَتَأَتْ، وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله وُجُوهًا أُخَرَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَصْحِيفٌ. (قُلْتُ: مَتَى فَعَلَتْ عَيْنُكَ) : أَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الْعَيْنِ مَجَازًا، وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ، وَالْمَعْنَى مَتَى فَعَلَ اللَّهُ بِعَيْنِكَ (مَا أَرَى) ؟ أَيِ: الَّذِي أَرَاهُ فِيهَا مِنَ الْوَرَمِ، وَكَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى ابْنِ صَيَّادٍ يَخْتَبِرُهُ أَوْ يُوَافِقُهُ أَوْ يُخَالِفُهُ، (قَالَ: لَا أَدْرِي، قُلْتُ: لَا تَدْرِي) : بِتَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ (وَهِيَ فِي رَأْسِكَ) ؟ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَهَذَا اسْتِبْعَادٌ بِحَسَبِ الْعَادَةِ، وَإِلَّا فَمِنَ الْإِمْكَانِ، بَلْ مِنْ أَبْدَعِ مَا كَانَ أَنَّهُ يَحْدُثُ فِي عَيْنِهِ شَيْءٌ وَلَا يَدْرِي ; فَإِنَّهُ إِذَا جَاءَ الْقَدَرُ عَمِيَ الْبَصَرُ، لَا سِيَّمَا وَكُلُّ أَحَدٍ أَعْجَمِيٌّ فِي عَيْبِ نَفْسِهِ، بَصِيرٌ بِعُيُوبِ غَيْرِهِ، يَرَى الْقَذَى فِي عَيْنِ النَّاسِ، وَلَا يَرَى الْجِذْعَ فِي بَاصِرَتِهِ. (قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ خَلَقَهَا) أَيْ: هَذِهِ الْعِلَّةَ أَوْ هَذِهِ الْعَيْنَ الْمَعِيبَةَ (فِي عَصَاكَ) أَيْ: بِحَيْثُ لَا تَدْرِي بِهَا، وَهِيَ أَقْرَبُ شَيْءٍ إِلَيْكَ. قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: قَوْلُ ابْنِ صَيَّادٍ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ خَلَقَهَا فِي عَصَاكَ فِي جَوَابِ قَوْلِهِ: لَا تَدْرِي وَهِيَ فِي رَأْسِكَ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ بِحَالٍ لَا يَكُونُ لَهُ شُعُورٌ بِحَالِهَا، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُسْتَغْرِقًا فِي أَفْكَارِهِ بِحَيْثُ يَشْغَلُهُ عَنِ الْإِحْسَاسِ بِهَا، وَالتَّذَكُّرِ لِأَحْوَالِهَا؟ قُلْتُ: وَنَظِيرُهُ قَطْعُ عُضْوٍ مَأْكُولَةٍ مِنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ حَالَةَ كَوْنِهِ مِنَ الْمُصَلِّينَ، مُسْتَغْرِقًا فِي بُلُوغِ مَدَارِجِ مُشَاهَدَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَطُلُوعِ مِعْرَاجِ مُنَاجَاةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَمَا يُشَاهَدُ مِنْ آحَادِ النَّاسِ أَنَّهُ لَا يَحِسُّ بِأَلَمِ الْجُوعِ فَرَحًا أَوْ حُزْنًا وَغَيْرِ ذَلِكَ. (قَالَ) أَيِ: ابْنُ عُمَرَ (فَنَخَرَ) أَيِ: ابْنُ صَيَّادٍ، وَهُوَ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: صَوَّتَ صَوْتًا مُنْكَرًا، (كَأَشَدِّ نَخِيرِ حِمَارٍ)، قَالَ شَارِحٌ: هُوَ صَوْتُ الْأَنْفِ، يَعْنِي مَدَّ النَّفَسِ فِي الْخَيْشُومِ، (سَمِعْتُ) : بِالضَّمِّ أَيْ: سَمِعْتُ مِنْهُ صَوْتًا مُنْكَرًا، فَإِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: كَأَشَدِّ نَخِيرٍ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ نَخَرَ نَخْرَةً إِلَى آخِرِهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 3490

5500 -

وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ:«رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ ابْنَ الصَّيَّادِ الدَّجَّالُ، قُلْتُ: تَحْلِفُ بِاللَّهِ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

5500 -

(وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) : تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ، رَوَى عَنْهُ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ مِمَّنْ جَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ، (قَالَ: رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ ابْنَ الصَّيَّادِ) : بِكَسْرِ الْهَمْزِ، وَتَعْرِيفُ صَيَّادٍ فِي الْأُصُولِ (الدَّجَّالُ) أَيْ: هُوَ الدَّجَّالُ (قُلْتُ: تَحْلِفُ بِاللَّهِ) ؟ أَيْ: أَتَحْلِفُ مَعَ أَنَّهُ أَمْرٌ مَظْنُونٌ غَيْرُ مَجْزُومٍ بِهِ.

(قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ) أَيْ: عَلَى أَنَّ ابْنَ الصَّيَّادِ الدَّجَّالُ (عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَقْطُوعًا لَأَنْكَرَهُ، أَيْ: وَلَمْ يَجُزِ الْيَمِينُ عَلَى مَا يَغْلِبُ بِهِ الظَّنُّ لِمَا سُكِتَ عَنْهُ، قِيلَ: لَعَلَّ عُمَرَ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ ابْنَ الصَّيَّادِ مِنَ الدَّجَّالِينَ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ، فَيَدَّعُونَ النُّبُوَّةَ، أَوْ يُضِلُّونَ النَّاسَ وَيُلْبِسُونَ الْأَمْرَ عَلَيْهِمْ، لَا أَنَّهُ الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَدَّدَ ; حَيْثُ قَالَ: إِنْ يَكُنْ هُوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ، وَلَكِنْ فِيهِ أَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ مِنْ إِطْلَاقِ الدَّجَّالِ هُوَ الْفَرْدُ الْأَكْمَلُ، فَالْوَجْهُ حَمْلُ يَمِينِهِ عَلَى الْجَوَازِ عِنْدَ غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ثُمَّ رَأَيْتُ شَارِحًا قَالَ: قَوْلُهُ: فَلَمْ يُنْكِرْهُ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَفَ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ حَذَّرَ النَّاسَ عَنْهُ مِنَ الدَّجَّالِينَ بِقَوْلِهِ: " «يَخْرُجُ فِي أُمَّتِي دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِينَ» "، وَابْنُ صَيَّادٍ لَمْ يَكُنْ خَارِجًا مِنْ جُمْلَتِهِمْ ; لِأَنَّهُ ادَّعَى النُّبُوَّةَ بِمَحْضَرٍ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَكُنْ حَلِفُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مُخَالِفًا لِلْحَقِيقَةِ، أَوْ يُرِيدُ أَنَّ فِيهِ صِفَةَ الدَّجَّالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 3490

الْفَصْلُ الثَّانِي

5501 -

عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَشُكُّ أَنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ ابْنُ الصَّيَّادِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ) .

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

5501 -

(عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَشُكُّ) أَيْ: لَا أَتَرَدَّدُ (أَنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ ابْنُ صَيَّادٍ) أَيْ: هُوَ هُوَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِاللَّامِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيْ: فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ) .

ص: 3491

5502 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَدْ فَقَدْنَا ابْنَ صَيَّادٍ يَوْمَ الْحَرَّةِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

5502 -

(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَدْ فَقَدْنَا ابْنَ صَيَّادٍ)، وَفِي نُسْخَةٍ: قَدْ فُقِدَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَضَمِّ ابْنِ صَيَّادٍ (يَوْمَ الْحَرَّةِ) : هُوَ يَوْمُ غَلَبَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمُحَارَبَتِهِ إِيَّاهُمْ. قِيلَ: هَذَا يُخَالِفُ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى أَنَّهُ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ، وَلَيْسَ بِمُخَالِفٍ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله، وَهُوَ مُخَالِفٌ ; إِذْ يَلْزَمُ مِنْ فَقْدِهِ الْمُحْتَمَلِ مَوْتُهُ بِهَا وَبِغَيْرِهَا، وَكَذَا بَقَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا إِلَى حِينِ خُرُوجِهِ عَدَمُ جَزْمِ مَوْتِهِ بِالْمَدِينَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيْ: بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.

ص: 3491

5503 -

وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يَمْكُثُ أَبَوَا الدَّجَّالِ ثَلَاثِينَ عَامًا، لَا يُولَدُ لَهُمَا وَلَدٌ، ثُمَّ يُولَدُ لَهُمَا غُلَامٌ أَعْوَرُ أَضْرَسُ، وَأَقَلُّهُ مَنْفَعَةً، تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ ". ثُمَّ نَعَتَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَوَيْهِ، فَقَالَ:" أَبُوهُ طُوَالٌ ضَرْبُ اللَّحْمِ، كَأَنَّ أَنْفَهُ مِنْقَارٌ، وَأُمُّهُ امْرَأَةٌ فِرْضَاخِيَّةٌ طَوِيلَةُ الْيَدَيْنِ ". فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: فَسَمِعْنَا بِمَوْلُودٍ فِي الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ، فَذَهَبْتُ أَنَا وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَبَوَيْهِ، فَإِذَا نَعْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِمَا، فَقُلْنَا: هَلْ لَكُمَا وَلَدٌ؟ فَقَالَا: مَكَثْنَا ثَلَاثِينَ عَامًا، لَا يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ، ثُمَّ وُلِدَ لَنَا غُلَامٌ أَعْوَرُ أَضْرَسُ، وَأَقَلُّهُ مَنْفَعَةً، تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ. قَالَ: فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمَا، فَإِذَا هُوَ مُنْجَدِلٌ فِي الشَّمْسِ فِي قَطِيفَةٍ، وَلَهُ هَمْهَمَةٌ، فَكَشَفَ عَنْ رَأْسِهِ فَقَالَ: مَا قُلْتُمَا؟ قَالَ: هَلْ سَمِعْتَ مَا قُلْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

5503 -

(وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ) : بِالتَّاءِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَمْكُثُ أَبَوَا الدَّجَّالِ ") أَيْ: وَالِدَاهُ (" ثَلَاثِينَ عَامًا ") ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ أَحَدُ الدَّجَّالِينَ ; فَلَا يُنَافِيهِ مَا سَبَقَ، وَلَا مَا يَأْتِي مِنَ الْكَلَامِ (" لَا يُولَدُ لَهُمَا وَلَدٌ، ثُمَّ يُولَدُ لَهُمَا غُلَامٌ أَعْوَرُ أَضْرَسُ ") أَيْ: عَظِيمُ الضِّرْسِ، وَهُوَ السِّنُّ، وَالْمُرَادُ بِهِ النَّابُ لِمَا سَيَأْتِي، (" وَأَقَلُّهُ ") أَيْ: وَأَقَلُّ غُلَامٍ (" مَنْفَعَةً ")، وَالْمَعْنَى: لَا غُلَامَ أَقَلُّ مِنْهُ نَفْعًا. قَالَ الْجَزَرِيُّ: قَوْلُهُ: أَضْرَسُ كَذَا فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ أَيْ عَظِيمُ الضِّرْسِ، أَوِ الَّذِي يُولَدُ وَضِرْسُهُ مَعَهُ، وَلَا شَكَّ عِنْدِي أَنَّهُ تَصْحِيفُ أَضَرُّ شَيْءٍ، وَكَذَا هُوَ فِي كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ الَّذِي أَخَذَهُ الْمُؤَلِّفُ مِنْهُ، وَبِهَذَا يَصِحُّ عَطْفُ وَأَقَلُّهُ مَنْفَعَةً عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَعَسُّفٍ وَلَا تَكَلُّفِ تَقْدِيرٍ، وَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى شَيْءٍ، أَيْ: أَقَلُّ شَيْءٍ مَنْفَعَةً.

قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ أَوْرَدَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ حَدِيثَ أَبِي بَكْرَةَ نَاقِلًا عَنْ أَبِي دَاوُدَ، وَفِيهِ: غُلَامٌ أَعْوَرُ أَضَرُّ شَيْءٍ وَأَقَلُّهُ نَفْعًا، (" تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ ")، قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: أَيْ لَا تَنْقَطِعُ أَفْكَارُهُ الْفَاسِدَةُ عَنْهُ عِنْدَ النَّوْمِ ; لِكَثْرَةِ وَسَاوِسِهِ وَتَخَيُّلَاتِهِ وَتَوَاتُرِ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ إِلَيْهِ، كَمَا لَمْ يَكُنْ يَنَامُ قَلْبُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَفْكَارِهِ الصَّالِحَةِ ; بِسَبَبِ مَا تَوَاتَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَحْيِ وَالْإِلْهَامِ.

(ثُمَّ نَعَتَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَوَيْهِ فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (" أَبُوهُ طُوَالٌ ") : بِضَمِّ الطَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ مُبَالَغَةُ طَوِيلٍ، وَالْمُشَدَّدُ أَكْثَرُ مُبَالَغَةً، لَكِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الرِّوَايَةُ (" ضَرْبُ اللَّحْمِ ") أَيْ: خَفِيفُهُ، وَفِي النِّهَايَةِ: هُوَ الْخَفِيفُ اللَّحْمِ الْمُسْتَدَقُّ، وَفِي صِفَةِ مُوسَى عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الرِّجَالِ (" كَأَنَّ ") : بِتَشْدِيدِ النُّونِ (" أَنْفَهُ مِنْقَارٌ ") : بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ: فِي أَنْفِهِ طُولٌ بِحَيْثُ يُشْبِهُ مِنْقَارَ طَائِرٍ، (" وَأُمُّهُ امْرَأَةٌ فِرْضَاخِيَّةٌ ") : بِكَسْرِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ: ضَخْمَةٌ عَظِيمَةٌ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَفِي الْفَائِقِ: هِيَ صِفَةٌ بِالضَّخْمِ، وَقِيلَ بِالطُّولِ، وَالْيَاءُ مَزِيدَةٌ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ كَأَحْمَرِيٍّ، وَفِي الْقَامُوسِ: رَجُلٌ فِرْضَاخٌ ضَخْمٌ عَرِيضٌ أَوْ طَوِيلٌ، وَهِيَ بِهَاءٍ، وَامْرَأَةٌ فِرْضَاخَةٌ أَوْ فِرْضَاخِيَّةٌ عَظِيمَةُ الثَّدْيَيْنِ، وَفِي النِّهَايَةِ: فِرْضَاخِيَّةٌ ضَخْمَةٌ عَظِيمَةُ الثَّدْيَيْنِ، (" طَوِيلَةُ الْيَدَيْنِ ") أَيْ: بِالْإِضَافَةِ إِلَى عَادَةِ نِسَائِهَا، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِرِ أَعْضَائِهَا.

ص: 3491

(فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: فَسَمِعْنَا بِمَوْلُودٍ فِي الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ، فَذَهَبْتُ أَنَا وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ) : بِالرَّفْعِ أَوِ النَّصْبِ (حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَبَوَيْهِ، فَإِذَا نَعْتُ رَسُولِ اللَّهِ) أَيْ: وَصْفُهُ (- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمَا، فَقُلْنَا: هَلْ لَكُمَا وَلَدٌ) ؟ بِالرَّفْعِ أَيْ: وُلِدَ وَلَدٌ، (فَقَالَا: مَكَثْنَا) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا أَيْ: لَبِثْنَا (ثَلَاثِينَ عَامًا لَا يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ ثُمَّ وُلِدَ لَنَا غُلَامٌ أَعْوَرُ أَضْرَسُ) ، فِيهِ مَا تَقَدَّمَ (وَأَقَلُّهُ مَنْفَعَةً، تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ) ، وَلَعَلَّهُ كَانَ يَظْهَرُ بَعْضُ آثَارِ قَلْبِهِ عَلَى صَفْحَةِ قَالِبِهِ، أَوْ هُوَ أَخْبَرَهُمَا عَنْ بَعْضِ مُدْرَكَاتِ قَلْبِهِ حَالَ نَوْمِهِ.

(قَالَ) أَيْ: أَبُو بَكْرَةَ (فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمَا، فَإِذَا هُوَ) أَيِ: الْغُلَامُ (مُنْجَدِلٌ) بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ: مُلْقًى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ مُلْقًى عَلَى الْجَدَالَةِ، وَهِيَ الْأَرْضُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ:" «أَنَا خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَآدَمُ الْمُنْجَدِلُ فِي طِينَتِهِ» ". قُلْتُ فَفِيهِ تَجْرِيدٌ أَوْ تَأْكِيدٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سَاقِطٌ أَوْ وَاقِعٌ (فِي الشَّمْسِ فِي قَطِيفَةٍ) أَيْ: دِثَارٍ مُخْمَلٍ، وَقِيلَ لِحَافٍ صَغِيرٍ، (لَهُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، (وَلَهُ هَمْهَمَةٌ) أَيْ: زَمْزَمَةٌ، وَقَالَ شَارِحٌ: أَيْ كَلَامٌ غَيْرُ مَفْهُومٍ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ تَرْدِيدُ الصَّوْتِ فِي الصَّدْرِ، أَيْ: كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي الْفَرَسِ عِنْدَ جَرَيَانِهِ، وَفِي النِّهَايَةِ: وَأَصْلُ الْهَمْهَمَةِ صَوْتُ الْبَقَرِ، (فَكَشَفَ) أَيِ: ابْنُ صَيَّادٍ (عَنْ رَأْسِهِ) أَيْ: غِطَاءَهُ (فَقَالَ: مَا قُلْتُمَا) ؟ كَأَنَّهُ وَقَعَ كَلَامٌ بَيْنَهُمَا فِيهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ، (قُلْنَا: وَهَلْ سَمِعْتَ مَا قُلْنَا؟ قَالَ نَعَمْ، تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ.

ص: 3492

5504 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه «أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ وَلَدَتْ غُلَامًا مَمْسُوحَةٌ عَيْنُهُ، طَالِعَةٌ نَابُهُ، فَأَشْفَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكُونَ الدَّجَّالَ، فَوَجَدَهُ تَحْتَ قَطِيفَةٍ يُهَمْهِمُ، فَآذَنَتْهُ أُمُّهُ فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! هَذَا أَبُو الْقَاسِمِ، فَخَرَجَ مِنَ الْقَطِيفَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا لَهَا قَاتَلَهَا اللَّهُ؟ لَوْ تَرَكَتْهُ لَبَيَّنَ ". فَذَكَرَ مِثْلَ مَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: ائْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَأَقْتُلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنْ يَكُنْ هُوَ فَلَسْتَ صَاحِبَهُ، إِنَّمَا صَاحِبُهُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ، وَإِلَّا يَكُنْ هُوَ فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَقْتُلَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ " فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُشْفِقًا أَنَّهُ هُوَ الدَّجَّالُ» . رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) .

ــ

5504 -

(وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ وَلَدَتْ غُلَامًا مَمْسُوحَةٌ عَيْنُهُ) أَيِ: الْيُمْنَى، وَقِيلَ: الْيُسْرَى، (طَالِعَةٌ نَابُهُ) ، هَكَذَا هُوَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَالظَّاهِرُ طَالِعًا نَابُهُ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ وَالتَّعَدُّدُ فِيهِ عَلَى التَّمَحُّلِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله فَالْمَعْنَى طَالِعَةٌ أَنْيَابُهُ.

وَفِي الْقَامُوسِ: النَّابُ السِّنَّةُ خَلْفَ الرُّبَاعِيَّةِ مُؤَنَّثٌ، فَالتَّعَدُّدُ بِاعْتِبَارِ الطَّرَفَيْنِ وَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَقَلَّ يَكُونُ لِاثْنَيْنِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يُقَوِّي رِوَايَةَ: أَضْرَسُ. فِيمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(فَأَشْفَقَ) أَيْ: خَافَ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ سَلَّمَ -) أَيْ: عَلَى أُمَّتِهِ (أَنْ يَكُونَ) أَيْ: هُوَ (الدَّجَّالَ، فَوَجَدَهُ تَحْتَ قَطِيفَةٍ يُهَمْهِمُ) .

أَيْ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ غَيْرِ مَفْهُومٍ، (فَآذَنَتْهُ) : بِالْمَدِّ أَيْ أَعْلَمَتْهُ (أُمُّهُ) أَيْ: بِمَأْتَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيَّاهُ (فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ!) : يَحْتَمِلُ الْعَلَمِيَّةَ وَالْوَصْفِيَّةَ (هَذَا أَبُو الْقَاسِمِ) أَيْ: حَاضِرٌ أَوْ حَضَرَ، فَتَنَبَّهْ لَهُ وَتَهَيَّأَ لِكَلَامِهِ، (فَخَرَجَ مِنَ الْقَطِيفَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَا لَهَا ") : مَا: لِلِاسْتِفْهَامِ مُبْتَدَأٌ، وَلَهَا: خَبَرُهُ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ لَهَا؟ (" قَاتَلَهَا اللَّهُ ") دُعَاءٌ عَلَيْهَا زَجْرًا لَهَا: (" لَوْ تَرَكَتْهُ لَبَيَّنَ ") أَيْ: لَأَظْهَرَ مَا فِي ضَمِيرِهِ.

ص: 3492