الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تُوجَدُ وَتَقَعُ (" فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ ") بِالرَّفْعِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّ " تَكُونُ " نَاقِصَةٌ وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا، وَالْمَعْنَى: ثُمَّ تَنْقَلِبُ النُّبُوَّةُ خِلَافَةً، أَوْ تَكُونُ الْحُكُومَةُ أَوِ الْإِمَارَةُ خِلَافَةً، أَيْ: بِنِيَابَةٍ حَقِيقِيَّةٍ (" عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ ") أَيْ: طَرِيقَتُهَا الصُّورِيَّةُ وَالْمَعْنَوِيَّةُ (مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ) أَيِ: الْخِلَافَةُ وَهِيَ ثَلَاثُونَ سَنَةً عَلَى مَا وَرَدَ.
(ثُمَّ يَرْفَعُهَا اللَّهُ، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا) أَيْ: يَعَضُّ بَعْضُ أَهْلِهِ بَعْضًا، كَعَضِّ الْكِلَابِ (" فَيَكُونُ ") أَيِ: الْمُلْكُ، أَيِ: الْأَمْرُ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ (مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا اللَّهُ تَعَالَى) أَيْ: تِلْكَ الْحَالَةَ (ثُمَّ تَكُونُ) أَيِ: الْحُكُومَةُ (مُلْكًا جَبْرِيَّةً) أَيْ: جَبْرُوتِيةٌ وَسُلْطَةٌ عَظَمُوتِيةٌ (فَيَكُونُ) أَيِ: الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ (" مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا اللَّهُ تَعَالَى) أَيِ: الْجَبْرِيَّةَ، (" ثُمَّ تَكُونُ ") أَيْ: تَنْقَلِبُ وَتَصِيرُ (" خِلَافَةً ") وَفَى نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ، أَيْ: تَقَعُ وَتَحْدُثُ خِلَافَةٌ كَامِلَةٌ (" عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ ") أَيْ: مِنْ كَمَالِ عَدَالَةٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا: زَمَنُ عِيسَى عليه الصلاة والسلام وَالْمَهْدِيِّ رحمه الله.
(ثُمَّ سَكَتَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (قَالَ حَبِيبٌ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ حَبِيبُ بْنُ سَالِمٍ، مَوْلَى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَكَاتِبُهُ، رُوِيَ عَنْهُ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ وَغَيْرِهِ، (فَلَمَّا قَامَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) أَيْ: بِأَمْرِ الْخِلَافَةِ، (كَتَبْتُ إِلَيْهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ أُذَكِّرُهُ إِيَّاهُ) بِتَشْدِيدِ الْكَافِ مِنَ التَّذْكِيرِ بِمَعْنَى: الْمَوْعِظَةُ (وَقُلْتُ: أَرْجُو أَنْ تَكُونَ) أَيْ: أَنْتَ أَوِ الْخَلِيفَةُ (أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ) وَفِي نُسْخَةٍ بِالْغَيْبَةِ، أَيْ: يَكُونُ الْمَوْعُودُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله:" أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ " خَبَرُ يَكُونُ، وَقَوْلُهُ:(بَعْدَ الْمُلْكِ الْعَاضِّ وَالْجَبْرِيَّةِ) : ظَرْفٌ لِلْخَبَرِ عَلَى تَأْوِيلِ الْحَاكِمِ الْعَادِلِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ} [الأنعام: 3] أَيْ: مَعْبُودٌ فِيهَا.
قُلْتُ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالتَّذْكِيرِ فِي يَكُونُ، وَبِالرَّفْعِ فِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: بَعْدَ الْمُلْكِ ظَرْفًا وَاقِعًا خَبَرًا لِيَكُونَ، (فَسُرَّ) بِضَمِّ السِّينِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ: فَرِحَ (بِهِ) أَيْ: بِهَذَا الْحَدِيثِ ; رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِي حَقِّهِ، (وَأَعْجَبَهُ) : عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ (يَعْنِي) أَيْ: يُرِيدُ الْقَائِلُ بِالضَّمِيرَيْنِ (عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ) أَيْ: فِي مُسْنَدِهِ (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ ") . وَفِي الْجَامِعِ: يَكُونُ أُمَرَاءُ يَقُولُونَ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ، يَتَهَافَتُونَ فِي النَّارِ، يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا:( «يَكُونُ لِأَصْحَابِي زَلَّةٌ يَغْفِرُهَا اللَّهُ تَعَالَى لِسَابِقَتِهِمْ مَعِي» ) .
[كِتَابُ الْفِتَنِ]
[26]
كِتَابُ الْفِتَنِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5379 -
عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: «قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَقَامًا، مَا تَرَكَ شَيْئًا يَكُونُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا حَدَّثَ بِهِ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ، قَدْ عَلِمَهُ أَصْحَابِي هَؤُلَاءِ، وَإِنَّهُ لَيَكُونُ مِنْهُ الشَّيْءُ، قَدْ نَسِيتُهُ، فَأَرَاهُ فَأَذْكُرُهُ، كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إِذَا غَابَ عَنْهُ، ثُمَّ إِذَا رَآهُ عَرَفَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
[26]
كِتَابُ الْفِتَنِ
الْفِتَنُ: جَمْعُ الْفِتْنَةِ، وَهِيَ: الِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ بِالْبَلِيَّةِ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5379 -
(عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَامَ) أَيْ: خَطِيبًا أَوْ وَاعِظًا (فِينَا) أَيْ: فِيمَا بَيْنَنَا، أَوْ لِأَجْلِ أَنْ يَعِظَنَا وَيُخْبِرَنَا بِمَا سَيَظْهَرُ مِنَ الْفِتَنِ ; لِنَكُونَ عَلَى حَذَرٍ مِنْهَا فِي كُلِّ الزَّمَنِ (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقَامًا) : إِمَّا مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أَوِ اسْمُ مَكَانٍ، وَقِيلَ: اسْمُ زَمَانٍ، وَالْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ وَهِيَ قَوْلُهُ:(مَا تَرَكَ شَيْئًا) إِلَخْ: صِفَةٌ، وَقَوْلُهُ (يَكُونُ) بِمَعْنَى: يُوجَدُ صِفَةُ " شَيْئًا "، وَقَوْلُهُ:(فِي مَقَامِهِ) : مُتَعَلِّقٌ بِتَرَكَ، وَوُضِعَ " مَقَامِهِ " مَوْضِعَ ضَمِيرِ الْمَوْصُوفِ، وَقَوْلُهُ:(ذَلِكَ) : صِفَةُ " مَقَامِهِ "، إِشَارَةٌ إِلَى زَمَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلُهُ:(إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ) : غَايَةٌ لِيَكُونَ، وَالْمَعْنَى: قَامَ مَقَامًا مَا تَرَكَ شَيْئًا يَحْدُثُ فِيهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُخْبِرَ بِمَا يَظْهَرُ مِنَ الْفِتَنِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ (إِلَّا حَدَّثَ بِهِ) أَيْ: بِذَلِكَ الشَّيْءِ الْكَائِنِ (حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ)، أَيِ: الْمُحَدَّثُ بِهِ (وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ، قَدْ عَلِمَهُ) أَيْ: هَذَا الْقِيَامَ، أَوْ هَذَا الْكَلَامَ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ (أَصْحَابِي هَؤُلَاءِ)، أَيِ: الْمَوْجُودُونَ فِي جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ، لَكِنَّ بَعْضَهُمْ لَا يَعْلَمُونَهُ مُفَصَّلًا لَمَّا وَقَعَ لَهُمْ بَعْضُ النِّسْيَانِ الَّذِي هُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْإِنْسَانِ، وَأَنَا الْآخَرُ مِمَّنْ نَسِيَ بَعْضَهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ:(وَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الضَّمِيرَ لِقَوْلِهِ شَيْئًا (لَيَكُونُ مِنْهُ الشَّيْءُ قَدْ نَسِيتُهُ) صِفَةُ الشَّيْءِ، وَاللَّامُ فِيهِ زَائِدَةٌ، وَاللَّامُ فِي " لَيَكُونُ " مَفْتُوحَةٌ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ لِقَسَمٍ مُقَدَّرٍ، وَالْمَعْنَى: لَيَقَعُ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ نَسِيتُهُ، (فَأَرَاهُ فَأَذْكُرُهُ) أَيْ: فَإِذَا عَايَنْتُهُ تَذَكَّرْتُ مَا نَسِيتُهُ، وَالْعُدُولُ مِنَ الْمُضِيِّ إِلَى الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ حِكَايَةِ الْحَالِ، ثُمَّ شَبَّهَ الْمَوْصُوفَ بِالْمُعَايَنِ، فَقَالَ:(كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إِذَا غَابَ عَنْهُ)، أَيْ: ثُمَّ يَنْسَاهُ (ثُمَّ إِذَا رَآهُ عَرَفَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5380 -
وَعَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نَكَتَتْ فِيهِ نُكْتَةً سَوْدَاءَ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَتْ لَهُ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى يَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: أَبْيَضُ مِثْلُ الصَّفَا، فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مِرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجْخِيًّا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5380 -
(وَعَنْهُ)، أَيْ: عَنْ حُذَيْفَةَ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " تُعْرَضُ ") بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: تُوضَعُ وَتُبْسَطُ (" الْفِتَنُ ") أَيِ: الْبَلَايَا وَالْمِحَنُ، وَقِيلَ: الْعَقَائِدُ الْفَاسِدَةُ وَالْأَهْوَاءُ الْكَاسِدَةُ (" عَلَى الْقُلُوبِ ")، وَقِيلَ: تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَيْ يَظْهَرُ لَهَا وَيَعْرِفُ مَا يَقْبَلُ مِنْهَا وَمَا يَأْبَاهُ وَيَنْفِرُ مِنْهَا، مِنْ عَرْضِ الْعُودِ عَلَى الْإِنَاءِ إِذَا وَضَعَهُ عَلَيْهِ بِعَرْضِهِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ عَرْضِ الْجُنْدِ بَيْنَ يَدَيِ السُّلْطَانِ لِإِظْهَارِهِمْ وَاخْتِبَارِ أَحْوَالِهِمْ (" كَالْحَصِيرِ ") أَيْ: كَمَا يُبْسَطُ الْحَصِيرُ (عُودًا عُودًا) بِضَمِّ عَيْنٍ وَدَالٍ مُهْمَلَةٍ، وَنَصْبُهُمَا عَلَى الْحَالِ أَيْ: يُنْسَجُ الْحَصِيرُ حَالَ كَوْنِهِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: قَدْ رُوِيَ بِالرَّفْعِ، وَكَذَا نَرْوِيهِ عَنْ كِتَابِ مُسْلِمٍ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ، وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ عُودٌ عُودٌ، وَرَوَاهُ آخَرُونَ بِالنَّصْبِ، انْتَهَى. فَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُقَدَّرٍ، أَوِ التَّقْدِيرُ يُنْسَجُ عُودٌ عُودٌ، فَهُوَ مَفْعُولُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَفِي نُسْخَةٍ: عَوْذًا عَوْذًا بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ عَوْذًا بَعْدَ عَوْذٍ.
قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: هَذَانِ الْحَرْفَانِ مِمَّا اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، أَظْهَرُهَا وَأَشْهَرُهَا: ضَمُّ الْعَيْنِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَالثَّانِي: فَتْحُ الْعَيْنِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْضًا، وَالثَّالِثُ: فَتْحُ الْعَيْنِ وَالدَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَمَعْنَى تُعْرَضُ، أَيْ: تُلْصَقُ بِعَرْضِ الْقُلُوبِ، أَيْ: جَانِبِهَا، كَمَا تُلْصَقُ الْحَصِيرُ بِجَنْبِ النَّائِمِ وَتُؤَثِّرُ فِيهِ بِشِدَّةِ الْتِصَاقِهَا، وَمَعْنَى عُودًا عُودًا،
أَيْ: يُعَادُ وَيُكَرَّرُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، قَالَ ابْنُ السَّرَّاجِ رحمه الله: وَمَنْ رَوَاهُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ فَمَعْنَاهُ سُؤَالُ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهَا، كَمَا يُقَالُ: غُفْرًا غُفْرًا أَيْ: نَسْأَلُكَ أَنْ تُعِيذَنَا مِنْ ذَلِكَ وَأَنْ تَغْفِرَ لَنَا، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ: تَظْهَرُ عَلَى الْقُلُوبِ أَيْ تَظْهَرُ بِهَا فِتْنَةٌ بَعْدَ أُخْرَى، كَمَا يُنْسَجُ الْحَصِيرُ عُودًا عُودًا وَشَطِّيَّةً بَعْدَ أُخْرَى. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَعَلَى هَذَا تَتَوَجَّهُ رِوَايَةُ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ نَاسِجَ الْحَصِيرِ عِنْدَ الْعَرَبِ كُلَّمَا صَنَعَ عُودًا أَخَذَ آخَرَ وَنَسَجَهُ، فَشُبِّهَ عَرْضُ الْفِتَنِ عَلَى الْقُلُوبِ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى بِعَرْضِ قُضْبَانِ الْحَصِيرِ عَلَى صَانِعِهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، انْتَهَى. فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ (فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، يُقَالُ: أُشْرِبَ فِي قَلْبِهِ حُبَّهُ أَيْ: خَالَطَهُ، فَالْمَعْنَى: خَالَطَ الْفِتَنَ وَاخْتَلَطَ بِهَا، وَدَخَلَتْ فِيهِ دُخُولًا تَامًّا، وَلَزِمَهَا لُزُومًا كَامِلًا، وَحَلَّتْ مِنْهُ مَحَلَّ الشَّرَابِ فِي نُفُوذِ الْمَسَامِّ وَتَنْفِيذِ الْمَرَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 93] أَيْ: حُبُّ الْعِجْلِ، وَالْإِشْرَابُ: خَلْطُ لَوْنٍ بِلَوْنٍ كَأَنَّ أَحَدَ اللَّوْنَيْنِ شَرِبَ الْآخَرَ، وَكُسِيَ لَوْنًا آخَرَ، فَالْمَعْنَى: جُعِلَ مُتَأَثِّرًا بِالْفِتَنِ بِحَيْثُ يَتَدَاخَلُ فِيهِ حُبُّهَا كَمَا يَتَدَاخَلُ الصَّبْغُ الثَّوْبَ، (" نُكِتَتْ ") بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: نُقِطَتْ وَأَثَّرَتْ، (" فِيهِ ") أَيْ: فِي قَلْبِهِ (" نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ") ، وَأَصْلُ النَّكْتِ ضَرْبُ الْأَرْضِ بِقَضِيبٍ فَيُؤَثِّرُ فِيهَا، (" وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا ") أَيْ: رَدَّ الْفِتَنَ وَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا (" نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ ") أَيْ: إِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ ابْتِدَاءً وَإِلَّا فَمَعْنَى نُكِتَتْ أُثْبِتَتْ فِيهِ وَدَامَتْ وَاسْتَمَرَّتْ (" حَتَّى ") : غَايَةٌ لِلْأَمْرَيْنِ (" تَصِيرَ ") بِالْفَوْقِيَّةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّحْتِيَّةِ، أَيْ: تَصِيرُ قُلُوبُ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، أَوْ يَصِيرُ الْإِنْسَانُ بِاعْتِبَارِ قَلْبِهِ أَوْ يَصِيرُ قَلْبُهُ (" عَلَى قَلْبَيْنِ ") أَيْ: نَوْعَيْنِ أَوْ صِنْفَيْنِ (" أَبْيَضُ ") بِالرَّفْعِ، أَيْ: أَحَدُهُمَا أَبْيَضُ (" مِثْلُ الصَّفَا ") بِالْقَصْرِ أَيْ: مِثْلُ الْحَجَرِ الْمَرْمَرِ الْأَمْلَسِ مِنْ غَايَةِ الْبَيَاضِ وَالصَّفَا، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهِمَا عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ بَدَلُ الْبَعْضِ مِنْ قَلْبَيْنِ، وَالثَّانِي عَلَى الْحَالِ مِنْهُ، أَيْ: مُمَاثِلًا وَمُشَابِهًا لِلصَّفَا فِي النُّورِ وَالْبَهَاءِ، (" فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ ") وَظُلْمَةٌ وَبَلِيَّةٌ (مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) ; لِأَنَّهَا قُلُوبٌ صَافِيَةٌ قَدْ أَنْكَرَتْ تِلْكَ الْفِتَنَ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ، فَحَفِظَهَا عَنْهَا بَعْدَ تِلْكَ السَّاعَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، (وَالْآخَرُ) بِالرَّفْعِ، وَكَذَا قَوْلُهُ:(" أَسْوَدَ مِرْبَادًّا ") بِكَسْرِ الْمِيمِ وَبِالدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ: مِنِ ارْبَادَّ كَاحْمَارَّ، أَيْ صَارَ كَلَوْنِ الرَّ مَادِ، مِنَ الرُّبْدَةِ لَوْنٌ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْغَبَرَةِ، وَهُوَ حَالٌ أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الذَّمِّ، (كَالْكُوزِ)، أَيْ: يُشْبِهُ الْآخَرُ الْكُوزَ حَالَ كُوخٍ (" مُجْخِيًّا ") بِضَمِّ مِيمٍ وَسُكُونِ جِيمٍ وَخَاءٍ مَكْسُورَةٍ وَيَاءٍ آخِرَ الْحُرُوفِ مُشَدَّدَةٍ وَقَدْ تُخَفَّفُ، وَفِي النِّهَايَةِ: وَرُوِيَ بِتَقْدِيمِ الْخَاءِ عَلَى الْجِيمِ أَيْ مَائِلًا مَنْكُوسًا، مُشَبِّهًا مَنْ هُوَ خَالٍ مِنَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ بِكُوزٍ مَائِلٍ لَا يَثْبُتُ فِيهِ شَيْءٌ وَلَا يَسْتَقِرُّ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ:(" لَا يَعْرِفُ ") أَيْ: هَذَا الْقَلْبُ (" مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا)، وَالْمَعْنَى: لَا يَبْقَى فِيهِ عِرْفَانُ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَلَا إِنْكَارُ مَا هُوَ مُنْكَرٌ (" إِلَّا مَا أُشْرِبَ ") أَيِ: الْقَلْبُ (" مِنْ هَوَاهِ ")، أَيْ: فَيَتْبَعُهُ طَبْعًا مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ كَوْنِهِ مَعْرُوفًا أَوْ مُنْكَرًا شَرْعًا. هَذَا مُجْمَلُ الْكَلَامِ، وَتَفْصِيلُهُ مَا ذَكَرَهُ شُرَّاحُ الْكَنْزِ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: أَيْ حَتَّى يَصِيرَ جِنْسُ الْإِنْسِ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ ذُو قَلْبٍ أَبِيٍّ كَالصَّفَا، وَذُو قَلْبٍ أَسْوَدَ مُرْبَدًّا. قَالَ الْمُظْهِرُ: الضَّمِيرُ فِي يَصِيرُ لِلْقُلُوبِ أَيْ: تَصِيرُ الْقُلُوبُ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَبْيَضُ، وَثَانِيهُمَا: أَسْوَدُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: الصَّفَا: الْحِجَارَةُ الصَّافِيَةُ الْمَلْسَاءُ، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا النَّوْعُ الَّذِي صَفَا بَيَاضُهُ، وَعَلَيْهِ نَبَّهَ لِقَوْلِهِ أَبْيَضُ، وَإِنَّمَا ضُرِبَ الْمَثَلُ بِهِ ; لِأَنَّ الْأَحْجَارَ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَعْدِنِيَّةً لَمْ تَتَغَيَّرْ بِطُولِ الزَّمَانِ، وَلَمْ يَدْخُلْهَا لَوْنٌ آخَرُ، لَا سِيَّمَا النَّوْعَ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْمَثَلُ فَإِنَّهُ أَبَدًا عَلَى الْبَيَاضِ الْخَالِصِ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ كَدَرَةٌ، وَإِنَّمَا وَصَفَ الْقَلْبَ بِالرُّبْدَةِ ; لِأَنَّهُ أَنْكَرَ مَا يُوجَدُ مِنَ السَّوَادِ، بِخِلَافِ مَا يَشُوبُهُ صَفَاءٌ وَتَعْلُوهُ طَرَاوَةٌ مِنَ النَّوْعِ الْخَالِصِ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَيْسَ تَشْبِيهُهُ بِالصَّفَا بَيَانًا لِبَيَاضِهِ، لَكِنَّهُ صِفَةٌ أُخْرَى ; لِشِدَّتِهِ عَلَى عَقْدِ الْإِيمَانِ وَسَلَامَتِهِ مِنَ الْخَلَلِ، وَأَنَّ الْفِتَنَ لَمْ تَلْتَصِقْ بِهِ وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ كَالصَّفَا، وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَمْلَسُ الَّذِي لَا يُعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِرْبَادًّا فَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَتِنَا، وَأُصُولِ بِلَادِنَا، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله خِلَافًا فِي ضَبْطِهِ ; فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ ضَبَطَهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَى (مِرْبَئِدٍّ) بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَ الْبَاءِ، وَأَصْلُهُ أَنْ لَا يُهْمَزَ، وَيَكُونُ مُرْبَدًّا مِثْلَ مُسْوَدًّا وَمُحْمَرًّا ; لِأَنَّهُ مِنْ أَرْبَدَ، إِلَّا عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ احْمَأَرَّ بِهَمْزٍ بَعْدَ الْمِيمِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَيُقَالُ: ارْبَأَدَّ فَهُوَ مُرْبَئِدٌّ وَالدَّالُ مُشَدَّدَةٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: قَوْلُهُ: إِلَّا مَا أُشْرِبَ يَعْنِي: لَا يَعْرِفُ الْقَلْبُ إِلَّا مَا قِيلَ مِنَ الِاعْتِقَادَاتِ الْفَاسِدَةِ وَالشَّهَوَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مِنْ بَابِ تَأْكِيدِ الذَّمِّ بِمَا يُشْبِهُ الْمَدْحَ، أَيْ: لَيْسَ فِي خَيْرٍ الْبَتَّةِ إِلَّا هَذَا، وَهَذَا لَيْسَ بِخَبَرٍ ; فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ خَيْرٌ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5381 -
وَعَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ: حَدَّثَنَا: " «إِنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ» ". وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ: " «يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ ; فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلُ أَثَرِ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ ; فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ، فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، وَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ! وَمَا أَظْرَفَهُ! وَمَا أَجْلَدُهُ! وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5381 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ حُذَيْفَةَ (قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثَيْنِ)، أَيْ: فِي أَمْرِ الْأَمَانَةِ الْحَادِثَةِ فِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ ; وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ مُنَاسَبَةِ ذِكْرِهَا فِي الْبَابِ. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: الْأَوَّلُ: حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ، إِلَى آخِرِهِ، وَالثَّانِي: حَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا (رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا) : وَهُوَ نُزُولُ الْأَمَانَةِ (وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ) : وَهُوَ رَفْعُ الْأَمَانَةِ (حَدَّثَنَا) : وَهُوَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ (" إِنَّ الْأَمَانَةَ ") : وَهِيَ الْإِيمَانُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] وَعَبَّرَ عَنْهُ بِهَا لِأَنَّهَا مَدَارُ أَمْرِ الدِّيَانَةِ (" نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ") بِفَتْحِ الْجِيمِ وَيُكْسَرُ أَيْ: أَصْلِ قُلُوبِهِمْ، قَالَ شَارِحٌ: جَذْرُ كُلِّ شَيْءٍ أَصْلُهُ، أَيْ: إِنَّ الْأَمَانَةَ أَوَّلُ مَا نَزَلَتْ فِي قُلُوبِ رِجَالِ اللَّهِ وَاسْتَوْلَتْ عَلَيْهَا، فَكَانَتْ هِيَ الْبَاعِثَةُ عَلَى الْأَخْذِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى. قَوْلُهُ:(" ثُمَّ عَلِمُوا ") أَيْ: بِنُورِ الْإِيمَانِ (" مِنَ الْقُرْآنِ ") أَيْ: مِمَّا يَتَلَقَّوْنَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاجِبًا كَانَ أَوْ نَفْلًا، حَرَامًا أَوْ مُبَاحًا، مَأْخُوذًا مِنَ الْكِتَابِ أَوِ الْحَدِيثِ، وَقَوْلُهُ:(" ثُمَّ مِنَ السُّنَّةِ ")، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ، فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَأْخِيرِ رُتْبَةِ الْمَأْخُوذِ مِنَ الْحَدِيثِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى نَصِّ كَلَامِ الْقَدِيمِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمَانَةِ التَّكْلِيفُ الَّذِي كَلَّفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عِبَادَهُ، وَالْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ صَاحِبُ التَّقْرِيرِ: الْأَمَانَةُ فِي الْحَدِيثِ هِيَ الْأَمَانَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] وَهِيَ عَيْنُ الْإِيمَانِ، انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَهْدِ فِي كَلَامِ النَّوَوِيِّ: الْعَهْدُ الْمِيثَاقِيُّ، هُوَ الْإِيمَانُ الْفِطْرِيُّ، فَذَكَرَ قَوْلَ صَاحِبِ التَّقْرِيرِ لِبَيَانِ مَزِيدِ تَحْرِيرِ التَّقْرِيرِ، لَا لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُوَافِقٍ لِصَدْرِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَكَذَا مَا يَأْتِيهِ مِنْ خَتْمِ الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ اللَّاحِقِ، حَيْثُ قَالَ: وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مَنْعُ الْأَمَانَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ» " فَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْكَمَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ.
(وَحَدَّثَنَا) : وَهُوَ الْحَدِيثُ الثَّانِي (عَنْ رَفْعِهَا) أَيِ: ارْتِفَاعُ ثَمَرَةِ الْإِيمَانِ وَانْتِقَاضُهُ، فَإِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدَ عَصْرِهِ فِي عَصْرِ أَصَحَابِهِ (قَالَ:" يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ ") : وَهِيَ إِمَّا عَلَى حَقِيقَتِهَا فَمَا بَعْدَهُ أَمْرٌ اضْطِرَارِيٌّ، وَأَمَّا النَّوْمَةُ كِنَايَةٌ عَنِ الْغَفْلَةِ الْمُوجِبَةِ لِارْتِكَابِ السَّيِّئَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى نَقْصِ الْأَمَانَةِ وَنَقْصِ الْإِيمَانِ (" فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ ") أَيْ: بَعْضُهَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، وَالْمَعْنَى: يُقْبَضُ بَعْضُ ثَمَرَةِ الْإِيمَانِ (مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ) بِفَتَحَاتٍ فَتَشْدِيدُ لَامٍ، أَيْ: فَيَصِيرُ (" أَثَرُهَا ") أَيْ: أَثَرُ الْأَمَانَةِ وَهُوَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ (" مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ ") بِفَتْحِ الْوَاوِ وَإِسْكَانِ الْكَافِ وَبِالْفَوْقِيَّةِ: وَهُوَ الْأَثَرُ الْيَسِيرُ كَالنُّقْطَةِ فِي الشَّيْءِ (" ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ ") أَيِ: الْأُخْرَى (" فَتُقْبَضُ ") أَيِ: الْأَمَانَةُ أَيْ بَعْضُ مَا بَقِيَ مِنْهَا (" فَيَبْقَى ") : مَعْرُوفًا، وَقِيلَ مَجْهُولًا (" أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْمَجْلِ ") بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَتُفْتَحُ، وَهُوَ أَثَرُ الْعَمَلِ فِي الْيَدِ (كَجَمْرٍ) أَيْ: تَأْثِيرًا كَتَأْثِيرِ جَمْرٍ، وَقَالَ شَارِحٌ: أُبْدِلَ مِنْ مِثْلِ أَثَرِ الْمَجْلِ، أَيْ: يَكُونُ أَثَرُهَا فِي الْقَلْبِ كَأَثَرِ جَمْرٍ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ يَعْنِي أَثَرَ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ (" دَحْرَجْتَهُ ") أَيْ: قَلَّبْتَهُ وَدَوَّرْتَهُ (" عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ ") بِكَسْرِ الْفَاءِ، ذُكِرَ الضَّمِيرُ فِيهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ:(" فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا ") بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: مُنْتَفِخًا، مَعَ أَنَّ الرَّجُلَ مُؤَنَّثٌ سَمَاعِيٌّ عَلَى إِرَادَةِ الْمَوْضِعِ الْمُدَحْرَجِ عَلَيْهِ الْجَمْرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: إِيَّاكُمْ وَالتَّخَلُّلَ بِالْقَصَبِ، فَإِنَّهُ الْفَمُ يَنْتَبِرُ مِنْهُ، أَيْ: يَرِمُ وَيَنْتَفِطُ، قِيلَ: الْمَعْنَى: يُخَيَّلُ إِلَيْكَ أَنَّ الرَّجُلَ ذُو أَمَانَةٍ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَثَابَةِ نُقْطَةٍ تَرَاهَا مُنْتَفِطَةً مُرْتَفِعَةً كَبِيرَةً لَا طَائِلَ تَحْتَهَا، وَفِي الْفَائِقِ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَكْتِ وَالْمَجْلِ: أَنَّ الْوَكْتَ النُّقْطَةُ فِي الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ لَوْنِهِ، وَالْمَجْلَ غِلَظُ الْجِلْدِ مِنَ الْعَمَلِ لَا غَيْرَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا (" وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ ") أَيْ: صَالِحٌ، بَلْ مَاءٌ فَاسِدٌ.
وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَمَانَةَ تَزُولُ عَنِ الْقُلُوبِ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَإِذَا زَالَ أَوَّلُ جُزْءٍ مِنْهَا زَالَ نُورُهَا وَخَلِفَتْهُ ظُلْمَةٌ كَالْوَكْتِ، وَهُوَ اعْتِرَاضُ لَوْنٍ مُخَالِفٍ لِلَوْنِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَإِذَا زَالَ شَيْءٌ آخَرُ صَارَ كَالْمَجْلِ، وَهُوَ أَثَرٌ مُحْكَمٌ لَا يَكَادُ يَزُولُ إِلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ، وَهَذِهِ الثُّلْمَةُ فَوْقَ الَّتِي قَبْلَهَا، ثُمَّ شَبَّهَ زَوَالَ ذَلِكَ النُّورِ بَعْدَ وُقُوعِهِ فِي الْقَلْبِ وَخُرُوجِهِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ فِيهِ، وَاعْتِقَابِ الظُّلْمَةِ إِيَّاهُ بِجَمْرٍ يُدَحْرِجُهُ عَلَى رِجْلِهِ حَتَّى يُؤَثِّرَ فِيهَا، ثُمَّ يَزُولُ الْجَمْرُ وَيَبْقَى النَّفْطُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ نَفَطَ وَلَمْ يَقُلْ نَفَطَتِ اعْتِبَارًا بِالْعُضْوِ، انْتَهَى.
وَقَالَ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا: يُرِيدُ أَنَّ الْأَمَانَةَ تُرْفَعُ عَنِ الْقُلُوبِ ; عُقُوبَةً لِأَصْحَابِهَا عَلَى مَا اجْتَرَحُوا مِنَ الذُّنُوبِ، حَتَّى إِذَا اسْتَيْقَظُوا مِنْ مَنَامِهِمْ لَمْ يَجِدُوا قُلُوبَهُمْ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَيَبْقَى فِيهِ أَثَرٌ، تَارَةً مِثْلَ الْوَكْتِ وَتَارَةً مِثْلَ الْمَجْلِ، وَهُوَ انْتِفَاطُ الْيَدِ مِنَ الْعَمَلِ، وَالْمَجْلُ وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَاهُنَا نَفْسُ النَّفَطَةِ، وَهَذَا أَقَلُّ مِنَ الْمَرَّةِ الْأُولَى ; لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِالْمُجَوَّفِ بِخِلَافِ الْمَرَّةِ الْأُولَى، أَرَادَ بِهِ خُلُوَّ الْقَلْبِ عَنِ الْأَمَانَةِ مَعَ بَقَاءِ أَثَرِهَا مِنْ طَرِيقِ الْحِسَابِ.
(" وَيُصْبِحُ النَّاسُ ") أَيْ: يَدْخُلُونَ فِي الصَّبَاحِ أَوْ يَصِيرُونَ (" يَتَبَايَعُونَ ") أَيْ: يَجْرِي بَيْنَهُمُ التَّبَايُعُ، وَيَقَعُ عِنْدَهُمُ التَّعَاهُدُ (" وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ ") ، بَلْ يَظْهَرُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمُ الْخِيَانَةُ فِي الْمُبَايَعَةِ وَالْمُوَاعَدَةِ وَالْمُعَاهَدَةِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ حِفْظَ الْأَمَانَةِ أَثَرُ كَمَالِ الْإِيمَانِ، فَإِذَا نَقَصَ الْأَمَانَةُ نَقَصَ الْإِيمَانُ وَبَطَلَ الْإِيقَانُ، وَزَالَ الْإِحْسَانُ، (" فَيُقَالُ ") أَيْ: مِنْ غَايَةِ قِلَّةِ الْأَمَانَةِ فِي النَّاسِ (" إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا ") أَيْ: كَامِلُ الْإِيمَانِ وَكَامِلُ الْأَمَانَةِ (وَيُقَالُ) أَيْ: فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ (" لِلرَّجُلِ ") أَيْ: مِنْ أَرْبَابِ الدُّنْيَا مِمَّنْ لَهُ عَقْلٌ فِي تَحْصِيلِ الْمَالِ وَالْجَاهِ، وَطُبِعَ فِي الشِّعْرِ وَالنَّثْرِ، وَفَصَاحَةٍ وَبَلَاغَةٍ، وَصَبَاحَةٍ وَقُوَّةٍ بَدَنِيَّةٍ، وَشَجَاعَةٍ وَشَوْكَةٍ، (مَا أَعْقَلَهُ! وَمَا أَظْرَفَهُ! وَمَا أَجْلَدَهُ ") ; تَعَجُّبًا مِنْ كَمَالِهِ، وَاسْتِغْرَابًا مِنْ مَقَالِهِ، وَاسْتِبْعَادًا مِنْ جَمَالِهِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَمْدَحُونَهُ بِكَثْرَةِ الْعَقْلِ وَالظَّرَافَةِ وَالْجَلَادَةِ، وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ، وَلَا يَمْدَحُونَ أَحَدًا بِكَثْرَةِ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
(" وَمَا فِي قَلْبِهِ ") : حَالٌ مِنَ الرَّجُلِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ (مِثْقَالُ حَبَّةٍ) أَيْ: مِقْدَارُ شَيْءٍ قَلِيلٍ (" مِنْ خَرْدَلٍ ") : مِنْ بَيَانِيَّةٌ لِحَبَّةٍ، أَيْ: هِيَ خَرْدَلٌ (" مِنْ إِيمَانٍ ") أَيْ: كَائِنًا مِنْهُ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ نَفْيَ أَصْلِ الْإِيمَانِ وَكَمَالِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: لَعَلَّهُ إِنَّمَا عَلَى حَمْلِهِمْ عَلَى تَفْسِيرِ الْأَمَانَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ بِالْإِيمَانِ، لِقَوْلِهِ آخِرًا: وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنَ الْإِيمَانِ، فَهَلَّا حَمَلُوهَا عَلَى حَقِيقَتِهَا لِقَوْلِهِ: وَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، فَيَكُونُ وَضْعُ الْإِيمَانِ آخِرًا مَوْضُوعَهَا ; تَفْخِيمًا لِشَأْنِهَا وَحَثًّا عَلَى أَدَائِهَا، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" «لَا دِينَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ» "، قُلْتُ: إِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ آخِرًا وَمَا صَدَرَ أَوَّلًا مِنْ قَوْلِهِ: نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، فَإِنَّ نُزُولَ الْأَمَانَةِ بِمَعْنَى الْإِيمَانِ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِأَصْلِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ يَعْلَمُونَ إِيقَانَهُ وَإِيقَانَهُمْ بِتَتَبُّعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَمَّا الْأَمَانَةُ فَهِيَ جُزْئِيَّةٌ مِنْ كُلِّيَّةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5382 -
وَعَنْهُ، قَالَ:«كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ ; مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: " نَعَمْ "، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: " نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ "، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: " قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي، وَيَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ "، قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: " نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا "، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: " هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا "، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: " تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ "، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: " فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: قَالَ: "«يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ، قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ "، قَالَ حُذَيْفَةُ: قُلْتُ كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ: " تَسْمَعُ وَتُطِيعُ الْأَمِيرَ، وَإِنْ ضَرَبَ ظَهْرَكَ وَأَخَذَ مَالَكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ» ".
ــ
5382 -
(وَعَنْهُ)، أَيْ: عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: (قَالَ: كَانَ النَّاسُ) أَيْ: أَكْثَرُهُمْ (يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْخَيْرِ)، أَيْ: عَنِ الطَّاعَةِ لِيَمْتَثِلُوهَا، أَوْ عَنِ السَّعَةِ وَالرَّخَاءِ ; لِيَفْرَحُوا بِهِ وَيَسْتَعِينُوا بِالدُّنْيَا عَلَى الْأُخْرَى (وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ) أَيْ: عَنِ الْمَعْصِيَةِ أَوِ الْفِتْنَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى التَّوْسِعَةِ (مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي)، أَيْ: خَشْيَةَ أَنْ يَلْحَقَنِي الشَّرُّ نَفْسُهُ أَوْ بِسَبَبِهِ، وَهَذَا الطَّرِيقُ هُوَ مُخْتَارُ الْحُكَمَاءِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُضَلَاءِ
أَنَّ رِعَايَةَ الِاحْتِمَاءِ أَوْلَى فِي دَفْعِ الدَّاءِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الدَّوَاءِ، وَأَنَّ التَّخْلِيَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ، وَفِي كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ حَيْثُ نَفَى السِّوَى ثُمَّ أَثْبَتَ الْمَوْلَى، بَلْ مَدَارُ جُلِّ مَعْرِفَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى النُّعُوتِ التَّنْزِيهِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى جل جلاله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] دُونَ الصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ لِظُهُورِ وُجُودِهَا فِي خَالِقِ الْأَشْيَاءِ بِالضَّرُورَةِ الْعَقْلِيَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْمُرَادُ بِالشَّرِّ الْفِتْنَةُ، وَوَهَنُ عُرَى الْإِسْلَامِ، وَاسْتِيلَاءُ الضَّلَالَةِ، وَفُشُوُّ الْبِدْعَةِ، وَالْخَيْرُ عَكْسُهُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا نَقَلَهُ الرَّاوِي عَنْهُ.
(قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ) أَيْ أَيَّامٍ غَلَبَ فِيهَا الْجَهْلُ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَمَا يَتْبَعُهُمَا مِنْ سَائِرِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، فَقَوْلُهُ:(وَشَرٍّ) عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ، أَوِ الْمَعْنِيُّ بِهِ الْكُفْرُ، فَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، (فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ) ، أَيِ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ بِبَرَكَةِ بِعْثَتِكَ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ بِالشَّرِّ عَنَّا بِهَدْمِ قَوَاعِدِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ ; وَلَعَلَّهُ حَذَفَ وَجَعَلَهُ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، لَا سِيَّمَا وَهُمَا ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، (فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ) أَيِ: الثَّابِتُ (مِنْ شَرٍّ؟) أَيْ مِنْ حُدُوثِ بَعْضِ شَرٍّ (قَالَ: " نَعَمْ ". قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: " نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ ") بِفَتْحَتَيْنِ، أَيْ: كُدُورَةٌ إِلَى سَوَادٍ، وَالْمُرَادُ أَنْ لَا يَكُونَ خَيْرًا صَفْوًا بَحْتًا، بَلْ يَكُونُ مَشُوبًا بِكُدُورَةٍ وَظُلْمَةٍ، (قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: " قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ ") بِتَشْدِيدِ النُّونِ الْأُولَى أَيْ: يَعْتَقِدُونَ (" بِغَيْرِ سُنَّتِي، وَيَهْدُونَ ") أَيْ: يَدُلُّونَ النَّاسَ (بِغَيْرِ هَدْيِي) أَيْ: بِغَيْرِ طَرِيقَتِي، وَيَتَّخِذُونَ سِيرَةً غَيْرَ سِيرَتِي (" تَعْرِفُ مِنْهُ وَتُنْكِرُ ") قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ: تَرَى فِيهِمْ مَا تَعْرِفُهُ أَنَّهُ مِنْ دِينِي، وَتَرَى أَيْضًا مَا تُنْكِرُ أَنَّهُ دِينِي، قَالَ الْأَشْرَفُ: يُعْرَفُ مِنْهُمُ الْمُنْكَرُ بِأَنْ يَصْدُرَ الْمُنْكَرُ عَنْهُمْ، وَتُنْكِرُ هُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، أَيْ: أَنْكِرْ عَلَيْهِمْ صُدُورَ الْمُنْكَرِ عَنْهُمْ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: " نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ " أَيْ: تَعْرِفُ فِيهِمُ الْخَيْرَ فَتَقْبَلُ وَالشَّرَّ فَتُنْكِرُ، فَهُوَ مِنَ الْمُقَابَلَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ:" يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي " فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ كِلَاهُمَا فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، أَيِ: اعْرِفْ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَأَنْكِرْ، وَالْخِطَابُ فِي - تَعْرِفُ وَتُنْكِرُ - مِنَ الْخِطَابِ الْعَامِّ. أَقُولُ: وَفِيهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى ; إِذْ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ لَهُ قَابِلِيَّةُ مَعْرِفَةِ الْمَعْرُوفِ وَإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ، فَالْخِطَابُ خَاصٌّ لِحُذَيْفَةَ وَأَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّيَانَةِ. قِيلَ: الْمُرَادُ بِالشَّرِّ الْأَوَّلِ الْفِتَنُ الَّتِي وَقَعَتْ عِنْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَمَا بَعْدَهُ، وَبِالْخَيْرِ الثَّانِي مَا وَقَعَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رضي الله عنه وَبِالَّذِينَ تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ الْأُمَرَاءُ بَعْدَهُ، فَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالسُّنَّةِ وَالْعَدْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْعُو إِلَى الْبِدْعَةِ وَيَعْمَلُ بِالْجَوْرِ، أَوْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ بِالْمَعْرُوفِ تَارَةً وَيَعْمَلُ بِالْمُنْكَرِ أُخْرَى، بِحَسَبِ مَا يَقَعُ لَهُمْ مِنْ تَتَبُّعِ الْهَوَى، وَتَحْصِيلِ غَرَضِهِمْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، لَا أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ تَحَرِّي الْأَحْرَى وَرِعَايَةَ الدَّارِ الْأُخْرَى، كَمَا عَلَيْهِ بَعْضُ أُمَرَاءِ زَمَانِنَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الشَّرِّ الْأَوَّلِ فِتْنَةُ عُثْمَانَ رضي الله عنه وَمَا بَعْدَهُ، وَبِالْخَيْرِ الثَّانِي مَا وَقَعَ مِنْ صُلْحِ الْحَسَنِ مَعَ مُعَاوِيَةَ وَالْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ، وَبِالدَّخَنِ مَا كَانَ فِي زَمَنِهِ مِنْ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ كَزِيَادٍ بِالْعِرَاقِ، وَخِلَافُ مَنْ خَالَفَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَوَارِجِ.
(قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: " نَعَمْ، دُعَاةٌ ") : جَمْعُ دَاعٍ (عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ) قَالَ الْأَشْرَفُ: أَيْ جَمَاعَةٌ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الضَّلَالَةِ وَيَصُدُّوهُمْ عَنِ الْهُدَى بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّلْبِيسِ، وَمِنَ الْخَيْرِ إِلَى الشَّرِّ، وَمِنَ السُّنَّةِ إِلَى الْبِدْعَةِ، وَمِنَ الزُّهْدِ إِلَى الرَّغْبَةِ.
جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعْوَةَ الدُّعَاةِ وَإِجَابَةَ الْمَدْعُوِّينَ سَبَبًا لِإِدْخَالِهِمْ إِيَّاهُمْ فِي جَهَنَّمَ،
وَدُخُولِهِمْ فِيهَا، وَجَعَلَ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّلْبِيسِ مَنْزِلَةَ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ (مَنْ أَجَابَهُمْ) أَيِ الدُّعَاةِ (" إِلَيْهِ ") أَيْ: إِلَى جَهَنَّمَ، يَعْنِي: إِلَى الضَّلَالَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَيْهَا (" قَذَفُوهُ فِيهِ ")، أَيْ: رَمَوْهُ وَصَارُوا سَبَبًا لِقَذْفِهِ فِي جَهَنَّمَ. قِيلَ: الْمُرَادُ بِالدُّعَاةِ مَنْ قَامَ فِي طَلَبِ الْمُلْكِ مِنَ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ، وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِمْ شُرُوطُ الْإِمَارَةِ وَالْإِمَامَةِ وَالْوِلَايَةِ، وَجُعِلُوا دُعَاةً عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10]، وَقِيلَ: هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ - وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13 - 14] ، فَكَأَنَّهُمْ كَائِنُونَ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، دَاعِينَ النَّاسَ إِلَى الدُّخُولِ فِي ضِيَافَتِهِمْ ; أَوْ لِأَنَّ الْمُبَاشِرَ بِسَبَبِ شَيْءٍ، فَكَأَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِ دَاخِلٌ فِيهِ.
(قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! صِفْهُمْ لَنَا)، أَيْ: إِنَّهُمْ مِنَّا أَوْ مِنْ غَيْرِنَا؟ (قَالَ: " هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا ")، أَيْ: مِنْ أَنْفُسِنَا وَعَشِيرَتِنَا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِنَا، ذَكَرَهُ الْأَشْرَفُ، وَهُوَ الْأَلْطَفُ، وَقِيلَ: مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِنَا، وَفِيهِ أَنَّ الْجِلْدَةَ أَخَصُّ مِنَ الْجِلْدِ، وَجِلْدُ الشَّيْءِ ظَاهِرُهُ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ غِشَاءُ الْبَدَنِ. (" وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا ") أَيْ: بِالْعَرَبِيَّةِ، أَوْ بِالْمَوَاعِظِ وَالْحِكَمِ، أَوْ بِمَا قَالَ اللَّهُ وَقَالَ رَسُولُهُ، وَمَا فِي قُلُوبِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ، يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، (قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي) أَيْ: أَنْ أَفْعَلَ بِهِ فِيهِمْ (إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟) أَيْ ذَلِكَ الزَّمَانُ (قَالَ: " تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ ") أَيْ: طَرِيقَتَهُمْ وَحُضُورَ جُمْعَتِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ (" وَإِمَامَهُمْ ") أَيْ: وَرِعَايَةَ إِمَامِهِمْ وَمُتَابَعَتَهُمْ وَمُسَاعَدَتَهُمْ، (قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ) أَيْ: مُتَّفِقَةٌ (وَلَا إِمَامٌ؟) أَيْ: أَمِيرٌ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ فَقْدَهُمَا أَوْ فَقْدَ أَحَدِهِمَا (قَالَ:" فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا ") ، أَيِ: الْفِرَقُ الضَّالَّةُ الْوَاقِعَةُ عَلَى خِلَافِ الْجَادَّةِ مِنْ طَرِيقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، (" وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ ") أَيْ: وَلَوْ كَانَ الِاعْتِزَالُ بِالْعَضِّ، وَأَنْ: مَصْدَرِيَّةٌ، وَتَعَضَّ: مَنْصُوبٌ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَقِيلَ: إِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الْمُثَقَّلَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: أَيْ: تَمَسَّكْ بِمَا يُصَبِّرُكَ وَتَقْوَى بِهِ عَلَى اعْتِزَالِكَ، وَلَوْ بِمَا لَا يَكَادُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُتَمَسَّكًا. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: هَذَا شَرْطٌ يُعَقَّبُ بِهِ الْكَلَامُ تَتْمِيمًا وَمُبَالَغَةً، أَيِ: اعْتَزِلِ النَّاسَ اعْتِزَالًا لَا غَايَةَ بَعْدَهُ، وَلَوْ قَنَعْتَ فِيهِ بِعَضِّ أَصْلِ الشَّجَرِ افْعَلْ فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَكَ، (" حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ ") أَيْ: عَلَى مَا ذَكَرْتُ مِنَ الِاعْتِزَالِ أَوِ الْعَضِّ أَوِ الْخَيْرِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ)، قَالَ مِيرَكُ: أَخْرَجَ مُسْلِمٌ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَقِبَ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَلَّامٍ عَنْ حُذَيْفَةَ، وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ أَبَا سَلَّامٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ حُذَيْفَةَ ; وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِ قَالَ حُذَيْفَةُ ; فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مُنْقَطِعًا، وَقَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: إِنَّمَا لَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ لِأَبِي سَلَّامٍ شَيْئًا فِي صَحِيحِهِ لِأَنَّ رِوَايَاتِهِ مُرْسَلَةٌ، اهـ. وَأَبُو سَلَّامٍ: اسْمُهُ مُمْطِرٌ الْأَسْوَدُ الْحَبَشِيُّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: مَا قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّ الْمَتْنَ صَحِيحٌ بِالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا أَتَى مُسْلِمٌ بِهَا مُتَابَعَةً ; فَإِنَّ الْمُرْسَلَ إِذَا أَتَى مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ تَبَيَّنَ بِهِ صِحَّةُ الْمُرْسَلِ، وَجَازَ بِهِ الِاحْتِجَاجُ، وَيَصِيرُ فِي الْمَسْأَلَةِ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. أَقُولُ: هَذَا الْإِشْكَالُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَنَّ الْمُرْسَلَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ وَمَعَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله عَنْهُ فَلَا شُبْهَةَ فِيهِ.
(قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (" يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ ") بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ وَتَسْهِيلِهَا وَإِبْدَالِهَا: جَمْعُ إِمَامٍ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ أَئِمَّةٌ عَلَى وَزْنِ أَفِعْلَةٍ أَيْ: جَمَاعَةٌ يُطْلَقُ عَلَيْهِمُ الْأَئِمَّةُ (" لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ ")، أَيْ: مِنْ حَيْثُ الْعِلْمِ (" وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي ")، أَيْ: مِنْ حَيْثُ الْعَمَلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، (" وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ، قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ ") أَيْ: كَقُلُوبِهِمْ فِي الظُّلْمَةِ، وَالْقَسَاوَةِ، وَالْوَسْوَسَةِ، وَالتَّلْبِيسِ
وَالْآرَاءِ الْكَاسِدَةِ وَالْأَهْوَاءِ الْفَاسِدَةِ (" فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ ") بِضَمِّ الْجِيمِ، أَيْ: فِي جَسَدِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ جِنْسُ الْإِنْسِ فَيُطَابِقُ الْجَمْعَ السَّابِقَ، (قَالَ حُذَيْفَةُ: قُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟) أَيْ: ذَلِكَ الْوَقْتُ، أَوْ مَا ذُكِرَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ (قَالَ:" تَسْمَعُ ") أَيْ: مَا يَأْمُرُكَ الْأَمِيرُ، خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَكَذَا قَوْلُهُ (" وَتُطِيعُ ") فِيمَا لَا مَعْصِيَةَ فِيهِ (" الْأَمِيرُ ") : مَفْعُولٌ تَنَازَعَ فِيهِ الْفِعْلَانِ (" وَإِنْ ضَرَبَ ظَهْرَكَ ") بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: لَوْ ضُرِبْتَ (" وَأَخَذَ مَالَكَ ") وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ فِيهِمَا، فَفِيهِمَا ضَمِيرٌ لِلْأَمِيرِ، وَالْإِسْنَادُ حَقِيقِيٌّ أَوْ مَجَازِيٌّ، وَتَخْصِيصُ الظَّهْرِ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ غَالِبًا، وَقَوْلُهُ:(" فَاسْمَعْ وَأَطِعْ ") جَزَاءُ الشَّرْطِ أَتَى لِمَزِيدِ تَقْرِيرٍ وَاهْتِمَامِ تَحْرِيرٍ بِشَأْنِهِ، وَإِلَّا فَمَا قَبْلَ الشَّرْطِ أَغْنَى عَنْهُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِلَّا إِذَا أَمَرَكَ بِإِثْمٍ فَلَا تُطِعْهُ، لَكِنْ لَا تُقَاتِلْ، بَلْ فِرَّ مِنْهُ.
5383 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَتًا، كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5383 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَادِرُوا ") أَيْ: سَابِقُوا وَسَارِعُوا (" بِالْأَعْمَالِ ") أَيْ: بِالِاشْتِغَالِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ (" فِتَنًا ") أَيْ: وُقُوعَ فِتَنٍ (" كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ ") بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الطَّاءِ جَمْعُ قِطْعَةٍ، وَالْمَعْنَى: كَقِطَعٍ مِنَ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ ; لِفَرْطِ سَوَادِهَا وَظُلْمَتِهَا، وَعَدَمِ تَبَيُّنِ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ فِيهَا، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ أَهْلَ هَذِهِ الْفِتَنِ مَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا وَقَدْ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ فِي الْآيَةِ بِسُكُونِ الطَّاءِ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: جُزْءٌ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ مِنْ سَوَادِهِ وَيُرَادِفُهُ قِطْعَةٌ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: تَعَجَّلُوا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ مَجِيءِ الْفِتَنِ الْمُظْلِمَةِ مِنَ الْقَتْلِ وَالنَّهْبِ وَالِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، فَإِنَّكُمْ لَا تُطِيقُونَ الْأَعْمَالَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فِيهِ، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّشْبِيهِ بَيَانُ حَالِ الْفِتَنِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بَشِيعٌ فَظِيعٌ، وَلَا يُعْرَفُ سَبَبُهَا وَلَا طَرِيقُ الْخَلَاصِ مِنْهَا، فَالْمُبَادَرَةُ الْمُسَارَعَةُ بِإِدْرَاكِ الشَّيْءِ قَبْلَ فَوَاتِهِ، أَوْ بِدَفْعِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ (" يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا ") أَيْ: مَوْصُوفًا بِأَصْلِ الْإِيمَانِ أَوْ بِكَمَالِهِ، (" وَيُمْسِي كَافِرًا ")، أَيْ: حَقِيقَةً، أَوْ كَافِرًا لِلنِّعْمَةِ، أَوْ مُشَابِهًا لِلْكَفَرَةِ، أَوْ عَامِلًا عَمَلَ الْكَافِرِ، (" وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا ")، وَقِيلَ: الْمَعْنَى يُصْبِحُ مُحَرِّمًا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَيُمْسِي مُسْتَحِلًّا إِيَّاهُ وَبِالْعَكْسِ، وَحَاصِلُهُ التَّذَبْذُبُ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَالتَّتَبُّعُ لِأَمْرِ الدُّنْيَا، كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ (" يَبِيعُ ") أَيِ: الرَّجُلُ أَوْ أَحَدُهُمْ كَمَا فِي الْجَامِعِ (" دِينَهُ ") أَيْ: يَتْرُكُهُ (" بِعَرَضٍ ") بِفَتْحَتَيْنِ، أَيْ: يَأْخُذُ مَتَاعًا دَنِيئًا وَثَمَنًا رَدِيئًا (" مِنَ الدُّنْيَا ")، زَادَ فِي الْجَامِعِ:" قَلِيلٍ " بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ عَرَضٍ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا:" «سَتَكُونُ فِتَنٌ يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا إِلَّا مَنْ أَحْيَاهُ اللَّهُ بِالْعِلْمِ» "، فَقَوْلُهُ: يُصْبِحُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ بَعْضِ الْفِتَنِ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِحَالِ الْمُشَبَّهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:" فِتَنًا "، وَقَوْلُهُ:" يَبِيعُ " إِلَخْ، بَيَانٌ لِلْبَيَانِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: فِيهِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قِتَالٌ لِمُجَرَّدِ الْعَصَبِيَّةِ وَالْغَضَبِ فَيَسْتَحِلُّونَ الدَّمَ وَالْمَالَ، وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ وُلَاةُ الْمُسْلِمِينَ ظَلَمَةً فَيُرِيقُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَزْنُونَ وَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، فَيَعْتَقِدُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَيُفْتِيهِمْ بَعْضُ عُلَمَاءِ السُّوءِ عَلَى جَوَازِ مَا يَفْعَلُونَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ إِرَاقَةِ الدِّمَاءِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَنَحْوِهَا، وَثَالِثُهَا: مَا يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ مِمَّا يُخَالِفُ الشَّرْعَ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَالْمُبَايَعَاتِ وَغَيْرِهَا فَيَسْتَحِلُّونَهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا:" «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ هَرَمًا فَاغِضًا وَمَوْتًا خَالِسًا وَمَرَضًا حَابِسًا وَتَسْوِيفًا مُسِيئًا» ". وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا: مَا تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوِ الدَّجَّالَ فَإِنَّهُ شَرُّ مُنْتَظَرٍ، أَوِ السَّاعَةَ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ» ".
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبَّاسٍ الْغِفَارِيِّ مَرْفُوعًا: " «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا: إِمَارَةَ السُّفَهَاءِ، وَكَثْرَةَ الشُّرَطِ، وَبَيْعَ الْحُكْمِ، وَاسْتِخْفَافًا بِالدَّمِ، وَقَطْعَةَ الرَّحِمِ، وَنَشْوًا يَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ يُقَدِّمُونَ أَحَدَهُمْ لِيُغَنِّيَهُمْ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّهُمْ فِقْهًا» ".
5384 -
وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «سَتَكُونُ فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَيَعُذْ بِهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: قَالَ: " «تَكُونُ فِتْنَةٌ، النَّائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْيَقْظَانِ، وَالْيَقْظَانُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، فَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَسْتَعِذْ بِهِ» ".
ــ
5384 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " سَتَكُونُ فِتَنٌ ") أَيْ: عَظِيمَةٌ أَوْ كَثِيرَةٌ، مُتَعَاقِبَةٌ مُتَوَالِيَةٌ أَوْ مُتَرَاخِيَةٌ (الْقَاعِدُ فِيهَا) أَيْ: فِي تِلْكَ الْفِتَنِ (خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ) ; لِأَنَّهُ يَرَى وَيَسْمَعُ مَا لَا يَرَاهُ وَلَا يَسْمَعُهُ الْقَاعِدُ، فَيَكُونُ أَقْرَبَ مِنْ عَذَابِ تِلْكَ الْفِتْنَةِ بِمُشَاهَدَتِهِ مَا لَا يُشَاهِدُهُ الْقَاعِدُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقَاعِدِ هُوَ الثَّابِتَ فِي مَكَانِهِ غَيْرَ مُتَحَرِّكٍ لِمَا يَقَعُ مِنَ الْفِتْنَةِ فِي زَمَانِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْقَائِمِ مَا يَكُونُ فِيهِ نَوْعٌ بَاعِثٌ وَدَاعِيَةٌ، لَكِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ فِي إِثَارَةِ الْفِتْنَةِ، (" وَالْقَائِمُ فِيهَا ") أَيْ: مِنْ بَعِيدٍ مُتَشَرِّفٍ عَلَيْهَا، أَوِ الْقَائِمُ بِمَكَانِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ (" خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي ") أَيْ: مِنَ الذَّاهِبِ عَلَى رِجْلِهِ إِلَيْهَا (" وَالْمَاشِي فِيهَا ") أَيْ: إِلَيْهَا أَوْ فِيمَا بَيْنَهَا (" خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي ") أَيْ: مِنَ الْمُسْرِعِ إِلَيْهَا مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا (" مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا ") بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ: مَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا (" تَسْتَشْرِفْ ") بِالْجَزْمِ وَيُرْفَعُ أَيْ: تَطْلُبُهُ وَتَجْذِبُهُ إِلَيْهَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: أَيْ: مَنْ تَطَلَّعْ لَهَا دَعَتْهُ إِلَى الْوُقُوعِ فِيهَا، وَالتَّشَرُّفُ التَّطَلُّعُ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْإِصَابَةِ بَشَرِّهَا، أَوْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهَا تَدْعُوهُ إِلَى زِيَادَةِ النَّظَرِ إِلَيْهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنِ اسْتَشْرَفْتُ الشَّيْءَ أَيْ عَلَوْتُهُ، يُرِيدُ مَنِ انْتَصَبَ لَهَا انْتَصَبَتْ لَهُ وَصَرَعَتْهُ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْمُخَاطَرَةِ وَالْإِشْفَاءِ عَلَى الْهَلَاكِ، أَيْ: مَنْ خَاطَرَ بِنَفْسِهِ فِيهَا أَهْلَكَتْهُ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَلَعَلَّ الْوَجْهَ الثَّالِثَ أَوْلَى ; لِمَا يَظْهَرُ مِنْهُ مَعْنَى اللَّامِ فِي " لَهَا "، وَعَلَيْهِ كَلَامُ الْفَائِقِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَيْ: مَنْ غَالَبَهَا غَلَبَتْهُ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ أَوْلَى ; لِمَا فِيهِ مِنْ رِعَايَةِ الْمَعْنَى الْمَفْهُومِ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ الْمُفِيدَةُ لِلِاحْتِرَاسِ، وَاخْتِيَارُ الْأُخْرَى النَّافِعُ فِي الدُّنْيَا وَالْأَخِرَى. قَالَ شَارِحٌ: تَشَرَّفَ وَاسْتَشْرَفَ أَيْ: صَعِدَ شَرَفًا، أَيْ: مُرْتَفِعًا لِيَنْظُرَ إِلَى شَيْءٍ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَا فِي النَّظَرِ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ فِي أَيِّ مَكَانٍ، كَانَ يَعْنِي مَنْ قَرُبَ مِنْ تِلْكَ الْفِتَنِ وَنَظَرَ إِلَيْهَا نَظَرَتْ إِلَيْهِ الْفِتَنُ، وَتَجُرُّهُ إِلَى نَفْسِهَا، فَالْخَلَاصُ فِي التَّبَاعُدِ مِنْهَا وَالْهَلَاكُ فِي مُقَارَبَتِهَا، (" فَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً ") أَيْ: مَنَاصًا وَمَفَرًّا وَمَهْرَبًا (أَوْ مَعَاذًا) بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ: مَوْضِعًا أَوْ شَخْصًا مَلَاذًا يَتَخَلَّصُ بِالذَّهَابِ إِلَيْهِ، وَبِالْعِيَاذِ بِهِ مِنَ الْفِتَنِ (" فَلْيَعُذْ ") بِضَمِّ الْعَيْنِ أَيْ: فَلْيَسْتَعِذْ (بِهِ) أَيْ: بِالْمَعَاذِ، أَوْ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْمَلْجَأِ وَالْمَعَاذِ، أَيْ: فَلْيَعُذْ إِلَيْهِمَا، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ رحمه الله قَالَ:" تَكُونُ فِتْنَةٌ ") أَيْ: عَظِيمَةٌ (" النَّائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْيَقْظَانِ ") بِسُكُونِ الْقَافِ أَيِ: الْمُنْتَبِهُ ; لِعَدَمِ شُعُورِ النَّائِمِ عَنْهَا، وَفِي مَعْنَاهِ الْغَافِلُ وَلَوْ كَانَ يَقْظَانَ، فَالْمُرَادُ بِالْيَقْظَانِ هُوَ الْعَالِمُ بِالْفِتْنَةِ، سَوَاءٌ كَانَ مُضْطَجِعًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا (" وَالْيَقْظَانُ ") أَيْ: مُضْطَجِعًا أَوْ جَالِسًا (" خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ ") أَيْ: لِتَطَلُّعِهِ وَإِشْرَافِهِ، أَوْ لِأَنَّ فِيهِ نَوْعَ حَرَكَةٍ (" وَالْقَائِمُ فِيهَا ") أَيْ: لِتَوَقُّفِهِ فِي مَكَانِهِ (" خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي ") أَيْ: مَشْيًا أَوْ رُكُوبًا إِلَيْهَا (مَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَسْتَعِذْ بِهِ)، وَفِي الْجَامِعِ: رَوَى الْحَاكِمُ عَنْ خَالِدِ بْنِ عُرْفُطَةَ: سَتَكُونُ أَحْدَاثُ وَفِتْنَةٌ وَفُرْقَةٌ وَاخْتِلَافٌ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ الْمَقْتُولَ لَا الْقَاتِلَ فَافْعَلْ.
5385 -
وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ، أَلَا ثُمَّ تَكُونُ فِتَنٌ، أَلَا ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي فِيهَا، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي إِلَيْهَا، أَلَا فَإِذَا وَقَعَتْ فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ غَنَمٌ فَيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ "، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبِلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ؟ قَالَ: " يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ، ثُمَّ لِيَنْجُ إِنِ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ " ثَلَاثًا، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ أُكْرِهْتُ حَتَّى يَنْطَلِقَ بِي إِلَى أَحَدِ الصَّفَّيْنِ، فَضَرَبَنِي رَجُلٌ بِسَيْفِهِ أَوْ يَجِيءُ سَهْمٌ فَيَقْتُلُنِي؟ قَالَ " يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ، وَيَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5385 -
(وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ) أَيِ: الثَّقَفِيُّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّهَا ") أَيِ: الْقِصَّةُ (سَتَكُونُ) أَيْ: سَتُوجَدُ وَتَحْدُثُ وَتَقَعُ (فِتَنٌ، أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (" ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ ") أَيْ: عَظِيمَةٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ: أَلَا ثُمَّ تَكُونُ فِتَنٌ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ ثُمَّ بَعْدَهُ: أَلَا ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ بِصِيغَةِ الْوَحْدَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: فِيهِ ثَلَاثُ مُبَالَغَاتٍ، أَقْحَمَ حَرْفَ التَّنْبِيهِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ ; لِمَزِيدِ التَّنْبِيهِ لَهَا، وَعَطَفَ بِثُمَّ ; لِتَرَاخِي مَرْتَبَةِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ الْخَاصَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِهَا، وَهُوَ لَهَا عَلَى أَنَّهُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ ; لِاخْتِصَاصِهَا بِمَا يُفَارِقُهَا مِنْ سَائِرِ أَشْكَالِهَا، وَأَنَّهَا كَالدَّاهِيَةِ الدَّهْبَاءِ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ مِنْهَا بِفَضْلِهِ وَعَمِيمِ طُولِهِ. (" الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي إِلَيْهَا ") أَيْ: يَجْعَلُهَا غَايَةَ سَعْيِهِ وَمُنْتَهَى غَرَضِهِ لَا يَرَى مَطْلَبًا غَيْرَهَا وَ (لَامُ) الْغَرَضِ وَ (إِلَى) الْغَايَةِ مُتَقَارِبَانِ مَعْنًى، فَحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ التَّدَرُّجُ وَالتَّرَقِّي مِنَ الْمَاشِي فِيهَا إِلَى السَّاعِي إِلَيْهَا.
(" أَلَا ") : لِلتَّنْبِيهِ زِيَادَةً لِلتَّأْكِيدِ (" فَإِذَا وَقَعَتْ ") أَيِ: الْفِتَنُ أَوْ تِلْكَ الْفِتْنَةُ (" فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ ") أَيْ: فِي الْبَرِّيَّةِ (" فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ ") أَيْ: عَقَارٌ أَوْ مَزْرَعَةٌ بَعِيدَةٌ عَنِ الْخَلْقِ (" فَيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ ") فَإِنَّ الِاعْتِزَالَ وَالِاشْتِغَالَ بِخُوَيِّصَةِ الْحَالِ حِينَئِذٍ وَاجِبٌ ; لِوُقُوعِ عُمُومِ الْفِتْنَةِ الْعَمْيَاءِ بَيْنَ الرِّجَالِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنِ السَّلَامَةَ مِنْ لَيْلَى لَا وَجَارَتِهَا
…
أَنْ لَا تَمُرَّ عَلَى حَالٍ بِوَادِيهَا
(فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ) أَيْ: أَخْبِرْنِي (مَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِبِلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ؟) أَيْ: فَأَيْنَ يَذْهَبُ أَوْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ (قَالَ: " يَعْمِدُ ") بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ: يَقْصِدُ (" إِلَى سَيْفِهِ ") أَيْ: إِنْ كَانَ لَهُ (" فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ ") أَيْ: فَيَضْرِبُ عَلَى جَانِبِ سَيْفِهِ الْحَادِّ (" بِحَجَرِ ")، وَالْمَعْنَى: فَلْيَكْسِرْ سِلَاحَهُ كَيْلَا يَذْهَبَ بِهِ إِلَى الْحَرْبِ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْحُرُوبَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَجُوزُ حُضُورُهَا، (" ثُمَّ لِيَنْجُ ") بِكَسْرِ اللَّامِ وَيُسَكَّنُ وَبِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ وَضَمِّ الْجِيمِ، أَيْ: لِيَفِرَّ وَيُسْرِعْ هَرَبًا حَتَّى لَا تُصِيبَهُ الْفِتْنَةُ، (" إِنِ اسْتَطَاعَ النَّجَاةَ ") بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمَدِّ، أَيِ: الْإِسْرَاعُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله قَوْلُهُ: يَعْمِدُ إِلَخْ عِبَارَةٌ عَنْ تَجَرُّدِهِ تَجَرُّدًا تَامًّا، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَشْتَغِلُ بِهِ مِنْ مَهَامِّهِ فَلْيَنْجُ بِرَأْسِهِ اهـ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ حَمْلَ قَوْلِهِ: فَلْيَنْجُ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ مِنَ النَّجَاةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنِ اسْتَطَاعَ النِّجَاءَ، حَيْثُ لَمْ يَقُلْ إِنِ اسْتَطَاعَ النَّجَاةَ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ حَاصِلُ الْمَعْنَى مِنْ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْمَادَّةِ وَالْمَبْنَى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (" اللَّهُمَّ ") أَيْ: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْفِتَنِ وَالتَّحْذِيرِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي مِحَنِ ذَلِكَ الزَّمَنِ، اللَّهُمَّ أَيْ: يَا اللَّهُ (" هَلْ بَلَّغْتُ؟ ") أَيْ: قَدْ بَلَّغْتُ إِلَى عِبَادِكَ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ أُبَلِّغَهُ إِيَّاهُمْ (ثَلَاثًا) : مَصْدَرٌ لِلْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ أَيْ: قَالَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ) أَيْ: أَخْبِرْنِي (إِنْ أُكْرِهْتُ) أَيْ: أُخِذْتُ بِالْكُرْهِ وَأُجْبِرْتُ (حَتَّى يَنْطَلِقَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُذْهَبُ (بِي إِلَى أَحَدِ الصَّفَّيْنِ) أَيْ: صَفَّيِ الْمُتَخَاصِمَيْنِ (فَضَرَبَنِي رَجُلٌ بِسَيْفِهِ أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ (يَجِيءُ سَهْمٌ) بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ عَطْفًا عَلَى الْمَاضِي (فَيَقْتُلُنِي؟) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْأَخِيرِ وَالْإِسْنَادُ مَجَازِيٌّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَشْتَمِلَ أَيْضًا عَلَى الْأَوَّلِ، فَتَأَمَّلْ، وَالْمَعْنَى: فَمَا حُكْمُ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ؟ (قَالَ: يَبُوءُ) أَيْ: يَرْجِعُ الْقَاتِلُ، وَقِيلَ: الْمُكْرَهُ (بِإِثْمِهِ) أَيْ: بِعُقُوبَةِ مَا فَعَلَهُ مِنْ قَبْلُ عُمُومًا (وَإِثْمِكَ) أَيْ: وَبِعُقُوبَةِ قَتْلِهِ إِيَّاكَ خُصُوصًا، أَوِ الْمُرَادُ بِإِثْمِهِ قَصْدُهُ الْقَتْلَ وَبِإِثْمِكَ لَوْ مَدَدْتَ يَدَكَ إِلَيْهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِإِثْمِكَ سَيِّئَاتِكَ الَّتِي فَعَلْتَهَا بِأَنْ تُوضَعَ فِي رَقَبَةِ الْقَاتِلِ بَعْدَ فَقْدِ حَسَنَاتِهِ عَلَى مَا وَرَدَ (وَيَكُونُ) أَيْ: هُوَ (" مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ")، قَالَ تَعَالَى:{وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 29] وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: وَأَنْتَ مِنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومَ مِنْهُ، وَتُرِكَ لِلِاكْتِفَاءَ احْتِيَاطًا لِتَبَادُرِ الْفَهْمِ إِلَى الْخِطَابِ الْمُعَيَّنِ، لَا الْمَفْرُوضُ الْمُقَدَّرُ الْمُرَادُ بِهِ الْخِطَابُ الْعَامُّ عَلَى طَرِيقِ الْإِبْهَامِ، ثُمَّ الْحُكْمُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} [المائدة: 27] إِلَخْ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُنْ خَيْرَ ابْنَيْ آدَمَ "، وَفِي رِوَايَةٍ:" كُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ ". قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: قَوْلُهُ يَبُوءُ إِلَخْ، فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَرَادَ بِمِثْلِ إِثْمِكَ عَلَى الِاتِّسَاعِ، أَيْ: يَرْجِعُ بِإِثْمِهِ وَمِثْلَ إِثْمِكَ الْمُقَدَّرِ لَوْ قَتَلْتَهُ، وَثَانِيهُمَا: أَرَادَ بِمِثْلِ قَتْلِكَ، عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، وَإِثْمِهِ السَّابِقِ عَلَى الْقَتْلِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5386 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه: قَالَ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
5386 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُوشِكُ ") أَيْ: يَقْرُبُ (" أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ) بِالنَّصْبِ (" غَنَمٌ ") أَيْ: قِطْعَةٌ مِنَ الْغَنَمِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: غَنَمٌ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَهُوَ اسْمٌ يَكُونُ، وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ:" خَيْرَ مَالِ " مُعَرَّفٌ، فَلَا يَجُوزُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْمُسْلِمِ الْجِنْسُ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ حِينَئِذٍ، وَفَائِدَةُ التَّقْدِيمِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ حِينَئِذٍ الِاعْتِزَالُ وَتَحَرِّي الْخَبَرِ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ اهـ. وَقِيلَ:(يَجُوزُ رَفْعُ " خَيْرُ، وَغَنَمٌ " عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ فِي " يَكُونَ " ضَمِيرُ الشَّأْنِ، كَذَا الْمَفَاتِيحُ (" يَتَّبِعُ ") بِتَشْدِيدِ التَّاءِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِسُكُونِهَا وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: يَتَتَبَّعُ (" بِهَا ") أَيْ: مَعَ الْغَنَمِ أَوْ بِسَبَبِهَا (" شَعَفَ الْجِبَالِ ") بِفَتْحِ الشِّينِ وَالْعَيْنِ أَيْ: رُؤُوسِ الْجِبَالِ أَوْ أَعَالِيهَا، وَأَحَدُهَا شَعَفَةٌ (" وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ ") بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ: مَوَاضِعَ الْمَطَرِ وَآثَارَهُ مِنَ النَّبَاتِ وَأَوْرَاقَ الشَّجَرِ، يُرِيدُ بِهَا الْمَرْعَى مِنَ الصَّحْرَاءِ وَالْجِبَالِ، فَهُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، وَفِي تَقْدِيمِ شَعَفِ الْجِبَالِ إِشْعَارٌ بِالْمُبَالَغَةِ فِي فَضِيلَةِ الِاعْتِزَالِ عَنِ الْخَلْقِ فِي تِلْكَ الْحَالِ. (" يَفِرُّ بِدِينِهِ ") أَيْ: بِسَبَبِ حِفْظِهِ مِنَ الْفِتَنِ أَيِ الْمِحَنِ الدِّينِيَّةِ، أَوْ يَهْرُبُ (" مِنَ الْفِتَنِ ") الدُّنْيَوِيَّةِ مَصْحُوبًا بِدِينِهِ لِيَتَخَلَّصَ بِإِقَامَتِهِ هُنَاكَ عَنْهَا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
5387 -
وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: «أَشْرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: " هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ " قَالُوا: لَا. قَالَ: " فَإِنِّي لَأَرَى الْفِتَنَ تَقَعُ خِلَالَ بُيُوتِكُمْ كَوَقْعِ الْمَطَرِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5387 -
(وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) : صَحَابِيَّانِ (قَالَ: أَشْرَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيِ: اطَّلَعَ (عَلَى أُطُمٍ) بِضَمَّتَيْنِ، أَيْ: شَاهِقِ جَبَلٍ أَوْ حِصْنٍ أَوْ بِنَاءٍ مُرْتَفِعٍ، (مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ) بِمَدِّ أَوَّلِهِ: جَمْعُ الْأُطْمِ (فَقَالَ: " هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ ") أَيْ: مِنَ الْأَشْيَاءِ الظَّاهِرَةِ مِنْهُ الْمُرْتَفِعَةِ عَنْهُ (قَالُوا: لَا. قَالَ: " فَإِنِّي لَأَرَى الْفِتَنَ تَقَعُ ") أَيْ: مِنْهُ (" خِلَالَ بُيُوتِكُمْ ") أَيْ: وَسَطَهَا (" كَوَقْعِ الْمَطَرِ ") وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَى نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ رَأَى ذَلِكَ الْأُطْمَ، أَوْ حِينَ صَعِدَهُ اقْتِرَابَ الْفِتَنِ لِيُخْبِرَ بِهَا أُمَّتَهُ، فَيَكُونُوا عَلَى حَذَرٍ، وَيَعْرِفُوا أَنَّهَا مَنْ قَدَرٍ، وَيَعُدُّوا مَعْرِفَتَهَا مِنْ مُعْجِزَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله قَوْلُهُ:(تَقَعُ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا، وَالْأَقْرَبُ إِلَى الذَّوْقِ أَنْ يَكُونَ حَالًا، وَالرُّؤْيَةُ بِمَعْنَى النَّظَرِ، أَيْ: كُشِفَ لِي فَأُبْصِرُهَا عِيَانًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَفِي الْجَامِعِ بِرِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالشَّيْخَيْنِ عَنْ أُسَامَةَ بِلَفْظِ: هَلْ تَرَى مَا أَرَى، إِنِّي لَأَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلَالَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْمَطَرِ.
5388 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «هَلَكَةُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
5388 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلَكَةُ أُمَّتِي ") بِفَتْحِ الْهَاءِ وَاللَّامِ أَيْ: هَلَاكُهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ هُنَا الصَّحَابَةُ ; لِأَنَّهُمْ خِيَارُ الْأُمَّةِ وَأَكَابِرُ الْأَئِمَّةِ (" عَلَى يَدَيْ ") تَثْنِيَةٌ مُضَافَةٌ إِلَى (" غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ ") بِكَسْرِ الْغَيْنِ جَمْعُ غُلَامٍ، أَيْ: عَلَى أَيْدِي الشُّبَّانِ الَّذِينَ مَا وَصَلُوا إِلَى مَرْتَبَةِ كَمَالِ الْعَقْلِ، وَالْأَحْدَاثِ السَّنِّ، الَّذِينَ لَا مُبَالَاةَ لَهُمْ بِأَصْحَابِ الْوَقَارِ وَأَرْبَابِ النُّهَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مَا وَقَعَ بَيْنَ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَقَتَلَتِهِ، وَبَيْنَ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَمَنْ قَاتَلَهُمْ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: لَعَلَّهُ أُرِيدَ بِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِثْلَ يَزِيدَ وَعَبْدِ الْمَلَكِ بْنِ مَرْوَانَ وَغَيْرِهِمَا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، وَلَفْظُ الْجَامِعِ:" «هَلَاكُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
5389 -
وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيُقْبَضُ الْعِلَمُ، وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ " قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: " الْقَتْلُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5389 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ ") أَيْ: زَمَانُ الدُّنْيَا وَزَمَانُ الْآخِرَةِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ اقْتِرَابَ السَّاعَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: يُرِيدُ بِهِ اقْتِرَابَ السَّاعَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ تَقَارُبَ أَهْلِ الزَّمَانِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ فِي الشَّرِّ، أَوْ تَقَارُبَ الزَّمَانِ نَفْسِهِ فِي الشَّرِّ حَتَّى يُشْبِهَ أَوَّلُهُ آخِرَهُ، وَقِيلَ: بِقِصَرِ أَعْمَارِ أَهْلِهِ، اهـ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ قِلَّةِ بَرَكَةِ الزِّمَانِ مِنْ كَثْرَةِ الْعِصْيَانِ. وَقَالَ الْقَاضِي يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَهُ أَنْ يَتَسَارَعَ الدِّوَلُ إِلَى الِانْقِضَاءِ وَالْقُرُونُ إِلَى الِانْقِرَاضِ ; فَيَتَقَارَبُ زَمَانُهُمْ وَيَتَدَانَى إِبَّانُهُمْ. (وَيُقْبَضُ الْعِلَمُ) أَيْ: فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ الْأَعْيَانِ (وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ) أَيْ: وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْمِحَنُ (" وَيُلْقَى الشُّحُّ ") فِي قُلُوبِ أَهْلِهِ أَيْ: عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ حَتَّى يَبْخَلَ الْعَالِمُ بِعَلَمِهِ، وَالصَّانِعُ بِصَنْعَتِهِ، وَالْغَنِيُّ بِمَالِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ وُجُودَ أَصْلِ الشُّحِّ، لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ، إِلَّا مَنْ حَفِظَهُ اللَّهُ ; وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] . (وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَبِالْجِيمِ. (قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: " الْقَتْلُ ") فِي الْقَامُوسِ: هَرَجَ النَّاسُ وَقَعُوا فِي فِتْنَةٍ وَاخْتِلَاطٍ وَقَتْلٍ، اهـ. فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْهَرْجِ قَتْلٌ خَاصٌّ، وَهُوَ الْمَمْزُوجُ بِالْفِتْنَةِ وَالِاخْتِلَاطِ، فَاللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5390 -
وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ؟ وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ؟ " فَقِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: " الْهَرْجُ، الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5390 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا ") أَيْ: جَمِيعُهَا (" حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ ") أَيْ: يَوْمٌ عَظِيمٌ فِيهِ شَرٌّ جَسِيمٌ (" لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ؟ ") أَيِ: الْمَقْتُولُ هَلْ يَجُوزُ قَتْلُهُ أَمْ لَا؟ (" وَلَا الْمَقْتُولُ ") أَيْ: نَفْسُهُ أَوْ أَهْلُهُ (" فِيمَ قُتِلَ؟ ") هَلْ بِسَبَبِ شَرْعِيٍّ أَوْ بِغَيْرِهِ، كَمَا كَثُرَ النَّوْعَانِ فِي زَمَانِنَا، (فَقِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟) أَيْ: مَا سَبَبُ وُقُوعِ الْقَتْلِ بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُ الْقَاتِلُ وَلَا الْمَقْتُولُ سَبَبَهُ (قَالَ: الْهَرْجُ ") أَيِ: الْفِتْنَةُ وَالِاخْتِلَاطُ الْكَثِيرَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقَتْلِ الْمَجْهُولِ، وَالْمَعْنَى: سَبَبُهُ ثَوَرَانُ الْهَرْجِ بِالْكَثْرَةِ وَهَيَجَانُهُ بِالشِّدَّةِ. (" «الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» ") : أَمَّا الْقَاتِلُ فَلِقَتْلِهِ مُسْلِمًا، وَأَمَّا الْمَقْتُولُ فَلِأَنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ أَيْضًا وَلَمْ يَجِدِ الْفُرْصَةَ. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: أَمَّا الْقَاتِلُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْمَقْتُولُ فَإِنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ لِلْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ أَنَّ مَنْ نَوَى الْمَعْصِيَةَ وَأَصَرَّ عَلَى النِّيَّةِ يَكُونُ آثِمًا وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهَا وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5391 -
وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5391 -
(وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ) : هُوَ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، مُزَنِيٌّ سَكَنَ الْبَصْرَةَ، وَإِلَيْهَا يُنْسَبُ، مَاتَ زَمَنَ ابْنِ زِيَادٍ، وَقِيلَ: زَمَنَ مُعَاوِيَةَ، (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْعِبَادَةُ ") أَيْ: ثَوَابُهَا مَعَ الِاسْتِقَامَةِ وَالِاسْتِدَامَةِ عَلَيْهَا (" فِي الْهَرْجِ ") أَيْ: زَمَنَ الْفِتْنَةِ وَوَقْتَ الْمُحَارَبَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ (" كَهَجْرَةٍ إِلَيَّ ") أَيْ: قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَنَظِيرُهُ مَا وَرَدَ: " ذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْعَامِلِينَ بِمَنْزِلَةِ الصَّابِرِ فِي الْفَارِّينَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
5392 -
وَعَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ:«أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: " اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ أَشَرُّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ "، سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
5392 -
(وَعَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هَمْدَانِيٌّ بِسُكُونِ الْمِيمِ كُوفِيٌّ، كَانَ قَاضِي الرَّيِّ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ، سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، رَوَى عَنْهُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ، (قَالَ: أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الْحَجَّاجِ) بِفَتْحِ الْحَاءِ أَيْ: مِنْ ظُلْمِهِ، وَهُوَ حَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، رُوِيَ أَنَّهُ قَتَلَ مِائَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا سِوَى مَا قَتَلَ فِي حُرُوبِهِ، (فَقَالَ: اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ أَشَرُّ مِنْهُ ") أَيْ: غَالِبًا وَمِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ (" حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ ")، قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: أَخْيَرُ وَأَشَرُّ أَصْلَانِ مَتْرُوكَانِ لَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلَانِ إِلَّا نَادِرًا، وَإِنَّمَا الْمُتَعَارَفُ فِي التَّفْضِيلِ خَيْرٌ وَشَرٌّ، وَفِي الْقَامُوسِ: هُوَ شَرُّ مِنْهُ وَأَشَرُّ مِنْهُ قَلِيلَةٌ أَوْ وَرْدِيَّةٌ، وَفِيهِ أَيْضًا هُوَ أَخْيَرُ مِنْكَ كَخَيْرٍ اهـ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَنَّ اسْتِعْمَالَ أَخْيَرَ خَيْرٌ مِنِ اسْتِعْمَالِ أَشَرَّ، وَلَعَلَّ السَّبَبَ فِيهِ أَنَّ خَيْرَ يُسْتَعْمَلُ لِلتَّفْضِيلِ وَغَيْرِهِ، فَيَكُونُ أَخْيَرُ نَصًّا فِي الْمَقْصُودِ بِخِلَافٍ شَرٍّ، وَإِنَّمَا يُبَالَغُ فِيهِ بِإِتْيَانِ الْهَمْزِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. (سَمِعْتُهُ) أَيْ: قَوْلُهُ: اصْبِرُوا، الْخَ، وَالْأَظْهَرُ لِمَا سَيَأْتِي أَنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ، الْخَ. (مِنْ نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، قِيلَ: هَذَا الْإِطْلَاقُ يُشْكِلُ بِزَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ الْحَجَّاجِ بِيَسِيرٍ، وَبِزَمَنِ الْمَهْدِيِّ وَعِيسَى عليه الصلاة والسلام، وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَكْثَرِ الْأَغْلَبِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَزْمِنَةِ الْفَاضِلَةِ فِي السُّوءِ مِنْ زَمَنِ الْحَجَّاجِ إِلَى زَمَنِ الدَّجَّالِ، وَأَمَّا زَمَانُ عِيسَى عليه الصلاة والسلام فَلَهُ حُكْمٌ مُسْتَأْنَفٌ. وَأَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ زَمَنَ عِيسَى عليه الصلاة والسلام مُسْتَثْنًى شَرْعًا مِنَ الْكَلَامِ، وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْأَزْمِنَةِ فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْأَشْرِبَةُ فِيهَا مَوْجُودَةً مِنْ حَيْثِيَّةٍ دُونَ حَيْثِيَّةٍ، وَبِاعْتِبَارٍ دُونَ آخَرَ، وَفِي مَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ، وَفِي أَمْرٍ دُونَ أَمْرٍ، مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ، وَحَالٍ وَاسْتِقَامَةٍ، وَغَيْرِهَا مِمَّا يَطُولُ تَفْصِيلُهَا، وَهَذَا مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْبُعْدِ الْبُعْدِيَّةِ عَنْ زَمَانِ الْحَضْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُشْعِلِ الْمُنَوِّرِ لِلْعَالَمِ، فَكُلَّمَا أَبْعَدَ عَنْ قُرْبِهِ وَقَعَ فِي زِيَادَةِ ظَلَامٍ وَحَجَبَةٍ، وَقَدْ أَدْرَكَتِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - مَعَ كَمَالِ صَفَاءِ بَاطِنِهِمُ التَّغَيُّرَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ بَعْدَ دَفْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ الْكِبَارِ: إِنِّي كُنْتُ فِي جَامِعِ شِيرَازَ مَشْغُولًا بِوِرْدِي فِي لَيْلٍ، إِذْ هَجَمَ عَلَيَّ الْخَاطِرُ، وَأَرَادَ بِالْخُرُوجِ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ دَاعٍ وَبَاعِثٍ لَهُ، فَخَرَجْتُ فَإِذَا امْرَأَةٌ مُلْتَصِقَةٌ بِجِدَارٍ، فَخَطَرَ لِي أَنَّهَا تُرِيدُ بَيْتَهَا وَتَخَافُ فِي طَرِيقِهَا مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ، فَذَكَرْتُ لَهَا ذَلِكَ، فَأَشَارَتْ إِلَيَّ بِأَنَّ نَعَمْ، فَتَقَدَّمْتُ عَلَيْهَا وَقُلْتُ لَهَا مَا قَالَ مُوسَى عليه الصلاة والسلام لِابْنَةِ شُعَيْبٍ: إِنْ أَخْطَأْتُ الطَّرِيقَ الْقَوِيمَ ارْمِي حَجَرًا يَدُلُّنِي عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، فَأَوْصَلْتُهَا إِلَى بَيْتِهَا وَرَجَعْتُ إِلَى حِزْبِي، وَلَمْ يَخْطُرْ لِي حِينَئِذٍ شَيْءٌ مِنَ الْخَطِرَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنَ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ الرُّوحَانِيَّةِ، هَجَسَ فِي النَّفْسِ وَتَوَسْوَسَ فِي الْخَاطِرِ مِنَ الْأُمُورِ الشَّيْطَانِيَّةِ، فَتَأَمَّلْتُ أَنَّهُ هَلْ بَاعِثُ هَذَا تَغَيُّرٌ فِي مَأْكَلِي أَوْ مَشْرَبِي أَوْ مَلْبَسِي أَوْ فِي مَقْصِدِي لِعِبَادَتِي وَطَاعَتِي، أَوْ حُدُوثِ حَادِثٍ فِي صُحْبَةِ أَحِبَّتِي، أَوْ خِلْطَةِ ظَالِمٍ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، فَمَا رَأَيْتُ سَبَبًا لِظُهُورِ هَذِهِ الظُّلْمَةِ إِلَّا الْبُعْدَ عَنْ نُورِ زَمَانِ الْحَضْرَةِ الْمُوجِبِ لِحُصُولِ مِثْلِ هَذِهِ الْخَطَرَةِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
وَفِي الْجَامِعِ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ:" «لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ عَامٌ وَلَا يَوْمٌ إِلَّا وَالَّذِي بِعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ» ". وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَالنِّسَائِيُّ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا:" «مَا مِنْ عَامٍ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ» " وَفِي الْكَبِيرِ لِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا: " «مَا مِنْ عَامٍ إِلَّا يَنْقُصُ الْخَيْرُ فِيهِ وَيَزِيدُ الشَّرُّ» ". قَالَ الزَّرْكَشِيُّ رحمه الله: وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: مَا مِنْ عَامٍ إِلَّا وَيُحِدِثُ النَّاسُ بِدْعَةً وَيُمِيتُونَ سُنَّةً، حَتَّى تُمَاتُ السُّنَنُ وَتَحْيَا الْبِدَعُ، فَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّرِّ مَوْتُ السُّنَنِ وَإِحْيَاءُ الْبِدَعِ، وَلَا شَكَّ فِي تَحَقُّقِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِي كُلِّ زَمَنٍ مِنَ الْمَلَوَيْنِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا:" «لَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرُّ مِنْهُ» "، وَأَمَّا مَا اشْتُهِرَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَامَّةِ مِنْ حَدِيثِ: كُلُّ عَامٍ تَرْذُلُونَ، فَهُوَ مِنْ كَلَامِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رحمه الله فِي رِسَالَتِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الْفَصْلُ الثَّانِي
5393 -
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
5393 -
(عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَنَسِيَ أَصْحَابِي) أَيْ: مِنَ الصَّحَابَةِ (أَمْ تَنَاسَوْا) أَيْ: أَظْهَرُوا النِّسْيَانَ (وَاللَّهِ مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَائِدِ فِتْنَةٍ) أَيْ: دَاعِي ضَجَّةٍ وَبَاعِثِ بِدْعَةٍ، وَ (مِنْ) : زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي النَّفْيِ (إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ الدُّنْيَا) أَيْ: إِلَى انْقِضَائِهَا وَانْتِهَائِهَا (يَبْلُغُ) صِفَةٌ لِلْقَائِدِ أَيْ: يَصِلُ (مَنْ مَعَهُ) أَيْ: مِقْدَارُ أَتْبَاعِهِ (" ثَلَاثَمِائَةٍ فَصَاعِدًا ") أَيْ: فَزَائِدًا عَلَيْهِ (إِلَّا قَدْ سَمَّاهُ) أَيْ: ذَكَرَ ذَلِكَ الْقَائِدَ (لَنَا بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَاسْمِ قَبِيلَتِهِ)، وَالْمَعْنَى: مَا جَعَلَهُ مُتَّصِفًا بِوَصْفٍ إِلَّا بِوَصْفِ تَسْمِيَتِهِ، الْخَ. يَعْنِي وَصْفًا وَاضِحًا مُفَصَّلًا لَا مُبْهَمًا مُجْمَلًا، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله قَوْلُهُ:(إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ) مُتَعَلِّقٍ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذِكْرَ قَائِدِ فِتْنَةٍ إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ الدُّنْيَا مُهْمَلًا، لَكِنْ قَدْ سَمَّاهُ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ. قَالَ الْمُظْهِرُ: أَرَادَ بِقَائِدِ الْفِتْنَةِ مَنْ يَحْدُثُ بِسَبَبِهِ بِدْعَةً، أَوْ ضَلَالَةً، أَوْ مُحَارَبَةً، كَعَالِمٍ مُبْتَدِعٍ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالْبِدْعَةِ، أَوْ أَمِيرٍ جَائِرٍ يُحَارِبُ الْمُسْلِمِينَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
5394 -
وَعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ، وَإِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِي أُمَّتِي لَمْ يُرْفَعْ عَنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.
ــ
5394 -
(وَعَنْ ثَوْبَانَ) : هُوَ مَوْلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ» ") الْأَئِمَّةُ: جَمْعُ إِمَامٍ وَهُوَ مُقْتَدَى الْقَوْمِ وَرَئِيسُهُمْ، وَمَنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوِ اعْتِقَادٍ، (" «وَإِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِي أُمَّتِي لَمْ يُرْفَعْ عَنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ") أَيْ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَلَدٍ يَكُونُ فِي بَلَدٍ آخَرَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) .
5395 -
وَعَنْ سَفِينَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «الْخِلَافَةُ ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا» ".
ثُمَّ يَقُولُ سَفِينَةُ: أَمْسِكْ، خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ سَنَتَيْنِ، وَخِلَافَةَ عُمَرَ عَشْرَةً، وَعُثْمَانَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَعَلِيٍّ سِتَّةً. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ.
ــ
5395 -
(وَعَنْ سَفِينَةَ) : هُوَ أَيْضًا مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيُقَالُ: إِنَّ سَفِينَةَ لَقَبٌ لَهُ وَاسْمُهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي سَفَرٍ وَهُوَ مَعَهُ فَأُعْيَا رَجُلٌ، فَأَلْقَى عَلَيْهِ سَيْفَهُ وَتُرْسَهُ وَرُمْحَهُ، فَحَمَلَ شَيْئًا كَثِيرًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" أَنْتَ سَفِينَةٌ ". رَوَى عَنْهُ بَنُوهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَمُحَمَّدٌ، وَزِيَادٌ، وَكَثِيرٌ. (قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " الْخِلَافَةُ ") أَيِ: الْحَقَّةُ أَوِ الْمَرْضِيَّةُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوِ الْكَامِلَةُ أَوِ الْمُتَّصِلَةُ (ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ تَكُونُ ") أَيْ: تَنْقَلِبُ الْخِلَافَةُ وَتَرْجِعُ (" مُلْكًا ") بِضَمِّ الْمِيمِ أَيْ: سَلْطَنَةً وَغَلَبَةً عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ، قَالَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ: وَهَذَا مُشْكِلٌ ; لِأَنَّ أَهْلَ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى خِلَافَةِ الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيَّةِ، وَبَعْضِ الْمَرْوَانِيَّةِ، كَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْخِلَافَةَ الْكَامِلَةَ الَّتِي لَا يَشُوبُهَا شَيْءٌ مِنَ الْمُخَالَفَةِ، وَمَيْلٌ عَنِ الْمُتَابَعَةِ تَكُونُ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَبَعْدَهَا قَدْ تَكُونُ وَقَدْ لَا تَكُونُ اهـ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَرْوَانِيَّةَ أَوَّلُهُمْ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ ابْنُهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ، ثُمَّ عَبْدُ الْمَلِكِ، ثُمَّ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ الْوَلِيدُ، ثُمَّ سُلَيْمَانُ، ثُمَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ثُمَّ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ، ثُمَّ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ، ثُمَّ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ خَرَجَتْ مِنْهُمُ الْخِلَافَةُ إِلَى بَنِي الْعَبَّاسِ. هَذَا وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ يَعْنِي أَنَّ الْخِلَافَةَ حَقُّ الْخِلَافَةِ إِنَّمَا هِيَ لِلَّذِينِ صَدَّقُوا هَذَا الِاسْمَ بِأَعْمَالِهِمْ، وَتَمَسَّكُوا بِسُّنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَعْدِهِ، فَإِذَا خَالَفُوا السُّنَّةَ وَبَدَّلُوا السِّيرَةَ فَهُمْ حِينَئِذٍ مُلُوكٌ، وَإِنْ كَانَ أَسَامِيهُمْ خُلَفَاءَ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُسَمَّى الْقَائِمُ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِبَعْضِ سِيَرِ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ لِقِيَامِهِ بِأَمْرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُسَمَّى خَلِيفَةً ; لِأَنَّهُ خَلَفَ الْمَاضِي قَبْلَهُ وَقَامَ مَقَامَهُ، وَلَا يُسَمَّى أَحَدٌ خَلِيفَةَ اللَّهِ بَعْدَ آدَمَ وَدَاوُدَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
قُلْتُ: وَلَا شَكَّ أَنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلِيفَتُهُ فِي خَلِيقَتِهِ، بَلْ وَيَدُلُّ إِطْلَاقُهَا عَلَى غَيْرِهِ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا مَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةٌ " الْحَدِيثَ.
قَالَ: وَقَالَ رَجُلٌ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: يَا خَلِيفَةَ اللَّهِ! فَقَالَ: وَيْحَكَ لَقَدْ تَنَاوَلْتَ مُتَنَاوَلًا، إِنَّ أُمَّتِي سَمَّتْنِي عُمَرَ، فَلَوْ دَعَوْتَنِي بِهَذَا الِاسْمِ قَبِلْتُ، ثُمَّ وَلَّيْتُمُونِي أُمُورَكُمْ فَسَمَّيْتُمُونِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَوْ دَعَوْتَنِي بِذَلِكَ كَفَاكَ، أَيْ: فِي رِعَايَةِ الْأَدَبِ وَقَصْدِ التَّعْظِيمِ، فَهَذَا مِنْهُ تَوَاضُعٌ مَعَ الْخَلْقِ، وَتَمَسْكُنٌ مَعَ الْخَالِقِ، فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مِثْلَهُ لَا يُقَالُ لَهُ خَلِيفَةُ اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(ثُمَّ يَقُولُ سَفِينَةُ) أَيْ: لِرَاوِيهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ خِطَابُ الْعَامِّ (أَمْسِكْ) أَيْ: عُدَّ مُدَّةَ الْخِلَافَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: لَعَلَّ الْوَجْهَ أَنْ يُقَالَ: امْسِكْ أَنِ اضْبُطِ الْحِسَابَ عَاقِدًا أَصَابِعَكَ حَتَّى يَكُونَ أَمْسِكْ مَحْمُولًا عَلَى أَصْلِهِ، اهـ. وَخُلَاصَةُ الْمَعْنَى احْسِبْ وَاحْفَظْ. (خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ سَنَتَيْنِ، وَخِلَافَةَ عُمَرَ عَشْرَةً) أَيْ: أَعْوَامٍ (وَعُثْمَانَ) أَيْ: خِلَافَتُهُ (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً) وَفِي نُسْخَةٍ اثْنَيْ عَشَرَ أَيْ: عَامًا (وَعَلِيٍّ) أَيْ: وَخِلَافَةُ عَلِيٍّ (سِتَّةً) أَيْ: سِتَّةُ أَعْوَامٍ، فِعْلِيٌّ خَاتَمُ الْخُلَفَاءِ، كَالنَّبِيِّ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمَهْدِيُّ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) ، وَكَذَا النَّسَائِيُّ، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ. وَفِي الْجَامِعِ:" «الْخِلَافَةُ بَعْدِي فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ سَفِينَةَ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:«الْخِلَافَةُ بِالْمَدِينَةِ وَالْمُلْكُ بِالشَّامِ» ، فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَةَ الْحَقِيقِيَّةَ مَا تُوجَدُ فِي مَكَانِ صَاحِبِ النُّبُوَّةِ عَلَى اتِّفَاقِ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ فِي الْحَقِيقَةِ بِأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَمِنْ أَمْثَالِ غَيْرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ بِطَرِيقِ التَّسَلُّطِ الَّتِي تُسَمَّى مُلْكًا ; لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى نِظَامِ حَالِ الْعَامَّةِ ; وَلِئَلَّا يُؤَدِّيَ إِلَى الْفِتْنَةِ الطَّامَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
5396 -
ــ
5396 -
(وَعَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيَكُونُ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ) أَيِ: الْإِسْلَامُ وَالنِّظَامُ التَّامُّ، الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ، وَالْمَعْنَى: أَيُوجَدُ وَيَحْدُثُ بَعْدَ وُجُودِ هَذَا الْخَيْرِ (شَرٌّ، كَمَا كَانَ قَبْلَهُ) أَيْ: قَبْلَ الْخَيْرِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ زَمَنُ الْجَاهِلِيَّةِ (شَرٌّ؟ قَالَ:" نَعَمْ ") أَيْ: لِأَنَّ مَا وَرَاءَ كُلِّ كَمَالٍ زَوَالٌ، إِلَّا كَمَالَ ذِي الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ، (قُلْتُ: فَمَا الْعِصْمَةُ؟) أَيْ: فَمَا طَرِيقُ النَّجَاةِ، مِنَ الثَّبَاتِ عَلَى الْخَيْرِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي ذَلِكَ الشَّرِّ؟ (قَالَ:" السَّيْفُ ") أَيْ: تَحْصُلُ الْعِصْمَةُ بِاسْتِعْمَالِ السَّيْفِ، أَوْ طَرِيقُهَا أَنْ تَضْرِبَهُمْ بِالسَّيْفِ. قَالَ قَتَادَةُ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الطَّائِفَةِ هُمُ الَّذِينَ ارْتَدُّوا بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي زَمَنِ خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه كَذَا ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَشْمَلَ مَا وَقَعَ مِنْ مُعَاوِيَةَ مَعَ عَلِيٍّ رضي الله عنهما فَإِنَّ الْحَقَّ كَانَ مَعَ عَلِيٍّ، وَأَنَّ الْعِصْمَةَ كَانَتْ بِالْمُقَاتَلَةِ مَعَ مُعَاوِيَةَ ; كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَمَّارٍ:" «تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» "، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]، (قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ السَّيْفِ فِتْنَةٌ؟) أَيْ: مِنَ الشَّرِّ أَوْ مِنَ الْخَيْرِ. قَالَ شَارِحٌ: أَيْ: هَلْ يَبْقَى الْإِسْلَامُ بَعْدَ مُحَارَبَتِنَا إِيَّاهِمْ؟ (قَالَ: " نَعَمْ، تَكُونُ إِمَارَةٌ ") بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ: وِلَايَةٌ وَسُلْطَةٌ، (" عَلَى أَقْذَاءِ ") فِي النِّهَايَةِ: الْأَقْذَاءُ جَمْعُ قَذًى، وَالْقَذَى جَمْعُ قَذَاةٍ، وَهِيَ مَا يَقَعُ
فِي الْعَيْنِ وَالْمَاءِ وَالشَّرَابِ مِنْ تُرَابٍ أَوْ تِبْنٍ أَوْ وَسَخٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، أَرَادَ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ يَكُونُ عَلَى فَسَادٍ فِي قُلُوبِكُمْ، فَشَبَّهَهُ بِقَذَى الْعَيْنِ وَنَحْوَهَا، قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: أَيْ: إِمَارَةٌ مَشُوبَةٌ بِشَيْءٍ مِنَ الْبِدَعِ وَارْتِكَابِ الْمَنَاهِي، (" وَهُدْنَةٌ ") بِضَمِّ الْهَاءِ أَيْ: صُلْحٌ (" عَلَى دَخَنٍ ") بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: مَعَ خِدَاعٍ وَنِفَاقٍ وَخِيَانَةٍ. وَفِي الْفَائِقِ: هَدَنَ أَيْ: سَكَنَ، ضَرَبَهُ مَثَلًا لِمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْفَسَادِ الْبَاطِنِ تَحْتَ الصَّلَاحِ الظَّاهِرِ، اهـ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: ثُمَّ يَكُونُ اجْتِمَاعُ النَّاسِ عَلَى مَنْ جُعِلَ أَمِيرًا بِكَرَاهِيَةِ نَفْسٍ لَا بِطِيبِ قَلْبٍ، يُقَالُ: فَعَلْتُ كَذَا وَفَى الْعَيْنِ قَذًى، أَيْ: فَعَلْتُهُ عَلَى كَرَاهَةٍ وَإِغْمَاضِ عَيْنٍ، كَمَا أَنَّ الْعَيْنَ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الْقَذَى ظَاهِرُهَا صَحِيحٌ وَبَاطِنُهَا صَرِيخٌ، وَأَصْلُ الدَّخَنِ هُوَ الْكُدُورَةُ وَاللَّوْنُ الَّذِي يَضْرِبُ إِلَى السَّوَادِ، فَيَكُونُ فِيهِ إِشْعَارٌ إِلَى أَنَّهُ صَلَاحٌ مَشُوبٌ بِالْفَسَادِ ; فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى صُلْحِ الْحَسَنِ مَعَ مُعَاوِيَةَ وَتَفْوِيضِ الْمُلْكِ إِلَيْهِ وَاسْتِقْرَارِ أَمْرِ الْإِمَارَةِ عَلَيْهِ، وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بِصُلْحِ الْحَسَنِ لَمْ يَصِرْ خَلِيفَةً، خِلَافًا لِمَنْ تَوَهَّمَ خِلَافَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟) أَيْ: مَاذَا يَكُونُ (قَالَ: " ثُمَّ تَنْشَأُ ") أَيْ: تَظْهَرُ (" دُعَاةُ الضَّلَالِ ") أَيْ: جَمَاعَةٌ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الْبِدَعِ أَوِ الْمَعَاصِي، (" فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةٌ ") أَيْ: مَوْجُودًا فِيهَا، وَلَوْ مِنْ صِفَتِهِ أَنَّهُ (" جَلَدَ ظَهْرَكَ ") أَيْ: ضَرَبَكَ بِالْبَاطِلِ (" وَأَخَذَ مَالَكَ ") أَيْ: بِالْغَصْبِ، أَوْ مَا لَكَ مِنَ الْمَنْصِبِ، وَالنَّصِيبِ بِالتَّعَدِّي (" فَأَطِعْهُ ") أَيْ: وَلَا تُخَالِفْهُ ; لِئَلَّا تَثُورَ فِتْنَةٌ (" وَإِلَّا ") أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةٌ (" فَمُتْ ") : أَمْرٌ مِنْ مَاتَ يَمُوتُ، إِشَارَةٌ إِلَى مَا قِيلَ: مُوتُوا قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا، وَكَأَنَّهُ عَبَّرَ عَنِ الْخُمُولِ وَالْعُزْلَةِ بِالْمَوْتِ، فَإِنَّ غَالِبَ لَذَّةِ الْحَيَاةِ تَكُونُ بِالشُّهْرَةِ وَالْخِلْطَةِ وَالْخَلْوَةِ، (" وَأَنْتَ عَاضٌّ ") : بِتَشْدِيدِ الضَّادِ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ أَيْ: حَالَ كَوْنِكَ آخِذًا بِقُوَّةٍ وَمَاسِكًا بِشِدَّةٍ (" عَلَى جَذْلِ شَجَرَةٍ ") : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَتُفْتَحُ أَيْ: أَصْلُهَا، قَالَ الْقَاضِي: أَيْ: فَعَلَيْكَ بِالْعُزْلَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى غُصَصِ الزَّمَانِ وَالتَّحَمُّلِ لِمَشَاقِّهِ وَشَدَائِدِهِ، وَعَضُّ جَذْلِ الشَّجَرَةِ وَهُوَ أَصْلُهَا كِنَايَةً عَنْ مُكَابَدَةِ الشِّدَادِ مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَعُضُّ بِالْحِجَارَةِ لِشِدَّةِ الْأَلَمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَنْقَطِعَ عَنِ النَّاسِ، وَيَتَبَوَّأَ أَجِمَةً وَيَلْزَمُهَا إِلَى أَنْ يَمُوتَ أَوْ يَنْقَلِبَ الْأَمْرُ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَضَّ الرَّجُلُ بِصَاحِبِهِ إِذَا لَزِمَهُ وَلَصِقَ بِهِ، وَمِنْهُ: عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَقِيلَ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ قَسِيمَةُ قَوْلِهِ: فَأَطِعْهُ، وَمَعْنَاهُ: إِنْ لَمْ تُطِعْهُ أَدَّتْكَ الْمُخَالَفَةُ إِلَى مَا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصْبِرَ عَلَيْهِ، وَيَدُلَّ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ صَمَّاءُ عَلَيْهَا دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ النَّارِ، فَإِنْ مُتَّ يَا حُذَيْفَةُ وَأَنْتَ عَاضٌّ عَلَى جَذْلٍ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَتَّبِعَ أَحَدًا مِنْهُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَفْظُهُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ، وَهُوَ قَسِيمٌ لِقَوْلِهِ: فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةٌ، عَلَى الثَّانِي هُوَ مُسَبَّبٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَطِعْهُ، هَذَا وَفِي نُسْخَةٍ: قُمْتَ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ مِنَ الْقِيَامِ بَدَلَ فَمُتْ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ رحمه الله: قُمْ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ.
(قُلْتُ ثُمَّ مَاذَا؟) أَيْ: مِنَ الْفِتَنِ (قَالَ: " ثُمَّ يَخْرُجُ الدَّجَّالُ ") أَيْ: زَمَنَ الْمَهْدِيِّ (" بَعْدَ ذَلِكَ ") أَيْ: بَعْدَ مَا ذَكَرَ مِنْ وُقُوعِ أَنْوَاعِ الشُّرُورِ وَالْفِتَنِ (" وَمَعَهُ نَهْرٌ ") : بِسُكُونِ الْهَاءِ وَفَتْحِهَا أَيْ: نَهْرُ مَاءٍ (" وَنَارٌ ") أَيْ: خَنْدَقُ نَارٍ، قِيلَ: إِنَّهُمَا عَلَى وَجْهِ التَّخَيُّلِ مِنْ طَرِيقِ السِّحْرِ وَالسِّيمِيَاءِ، وَقِيلَ: مَاؤُهُ فِي الْحَقِيقَةِ نَارٌ وَنَارُهُ مَاءٌ. (" فَمَنْ وَقَعَ فِي نَارِهِ ") أَيْ: مَنْ خَالَفَهُ حَتَّى يُلْقِيَهُ فِي نَارِهِ، وَأَضَافَ النَّارَ إِلَيْهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَارٍ حَقِيقَةً بَلْ سِحْرًا (" وَجَبَ أَجْرُهُ ") أَيْ: ثَبَتَ وَتَحَقَّقَ أَجْرُ الْوَاقِعِ (" وَحُطَّ ") أَيْ: وَرُفِعَ وَسُومِحَ (" وِزْرُهُ ") أَيْ: إِثْمُهُ السَّابِقُ، (" وَمَنْ وَقَعَ فِي نَهْرِهِ ") أَيْ: حَيْثُ وَافَقَهُ فِي أَمْرِهِ (" وَجَبَ وَزِرُهُ ") أَيِ: اللَّاحِقُ (" وَحُطَّ أَجْرُهُ ") أَيْ: بَطَلَ عَمَلُهُ السَّابِقُ، (" قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: " ثُمَّ يُنْتَجُ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ ثُمَّ يُولَدُ (" الْمُهْرُ ") : بِضَمٍّ وَسُكُونِ هَاءٍ أَيْ: وَلَدُ الْفَرَسِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: يُنْتَجُ مِنَ النَّتْجِ لَا مِنَ النِّتَاجِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ وَلَا مِنَ الْإِنْتَاجِ، يُقَالُ: نَتَجَتِ الْفَرَسُ أَوِ النَّاقَةُ عَلَى بِنَاءِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ نِتَاجًا، وَنَتَجَهَا أَهْلُهَا نَتَجًا،
وَالْإِنْتَاجُ اقْتِرَابُ وِلَادَتِهَا، وَقِيلَ: اسْتِبَانَةُ حَمْلِهَا، (" فَلَا يُرْكِبُ ") : بِكَسْرِ الْكَافِ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَرْكَبَ الْمُهْرُ إِذَا حَانَ وَقْتُ رُكُوبِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ فَتْحُ الْكَافِ أَيْ:" فَلَا يَرْكَبُ الْمُهْرَ لِأَجْلِ الْفِتَنِ أَوْ لِقُرْبِ الزَّمَنِ، (" حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ") قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ زَمَنُ عِيسَى عليه الصلاة والسلام فَلَا يُرْكَبُ الْمُهْرُ لِعَدَمِ احْتِيَاجِ النَّاسِ فِيهِ إِلَى مُحَارَبَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ لَا يَكُونُ زَمَانٌ طَوِيلٌ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، أَيْ: يَكُونُ حِينَئِذٍ قِيَامُ السَّاعَةِ قَرِيبًا قَدْرَ زَمَانِ إِنْتَاجِ الْمُهْرِ وَإِرْكَابِهِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالسَّرَائِرِ.
(وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ: بَدَلٌ: تَكُونُ إِمَارَةٌ عَلَى أَقْذَاءٍ إِلَخْ، (قَالَ:" هُدْنَةٌ عَلَى دَخَنٍ ") أَيْ: صُلْحٌ مَعَ كُدُورَةٍ، وَصَفَاءٌ مَعَ ظُلْمَةٍ، (" وَجَمَاعَةٌ عَلَى أَقْذَاءٍ ") أَيْ: وَاجْتِمَاعٌ عَلَى أَهْوَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ أَوْ عُيُوبٍ مُؤْتَلِفَةٍ، (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الْهُدْنَةُ عَلَى الدَّخَنِ مَا هِيَ؟ قَالَ؟ " لَا تَرْجِعُ قُلُوبُ أَقْوَامٍ ") : بِرَفْعِ قُلُوبٍ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَبِنَصْبِهِ بِنَاءً عَلَى أَنْ رَجَعَ لَازِمٌ أَوْ مُتَعَدٍّ، أَيْ: لَا تَصِيرُ قُلُوبَ جَمَاعَاتٍ أَوْ لَا تَرِدُ الْهُدْنَةُ قُلُوبَهُمْ (" عَلَى الَّذِي ") أَيْ: عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْ عَلَى الصَّفَاءِ الَّذِي (" كَانَتْ ") أَيْ: تِلْكَ الْقُلُوبُ (" عَلَيْهِ ") أَيْ: لَا تَكُونُ قُلُوبُهُمْ صَافِيَةً عَنِ الْحِقْدِ وَالْبُغْضِ كَمَا كَانَتْ صَافِيَةً قَبْلَ ذَلِكَ، (قُلْتُ: بَعْدَ هَذَا) أَيْ: يَقَعُ بَعْدَ هَذَا (الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: " فِتْنَةٌ ") أَيْ: نِعْمَةٍ يَقَعُ شَرٌّ هُوَ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ وَبَلِيَّةٌ جَسِيمَةٌ (" عَمْيَاءُ ") أَيْ: يَعْمَى فِيهَا الْإِنْسَانُ عَنْ أَنْ يَرَى الْحَقَّ (" صَمَّاءُ ") أَيْ: يَصُمُّ أَهْلُهَا عَنْ أَنْ يَسْمَعَ فِيهَا كَلِمَةَ الْحَقِّ أَوِ النَّصِيحَةِ. قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: الْمُرَادُ بِكَوْنِهَا عَمْيَاءَ صَمَّاءَ أَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ لَا يَرَى مِنْهَا مَخْرَجًا، وَلَا يُوجِدُ دُونَهَا مُسْتَغَاثًا، أَوْ أَنْ يَقَعَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى غِرَّةٍ مِنْ غَيْرِ بَصِيرَةٍ، فَيُعْمُونَ فِيهَا وَيُصَمُّونَ عَنْ تَأَمُّلِ قَوْلِ الْحَقِّ وَاسْتِمَاعِ النُّصْحِ. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَصْفُ الْفِتْنَةِ بِهِمَا كِنَايَةً عَنْ ظُلْمَتِهَا، وَعَدَمِ ظُهُورِ الْحَقِّ فِيهَا، وَعَنْ شِدَّةِ أَمْرِهَا وَصَلَابَةِ أَهْلِهَا، وَعَدَمِ الْتِفَاتِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ فِي الْمُشَاهَدَةِ وَالْمَكَانَةِ وَأَمْثَالِهَا، (" عَلَيْهَا ") أَيْ: عَلَى تِلْكَ الْفِتْنَةِ (" دُعَاةٌ ") أَيْ: جَمَاعَةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِهَا وَدَاعِيَةٌ لِلنَّاسِ إِلَى قَبُولِهَا (" عَلَى أَبْوَابِ النَّارِ ") حَالٌ أَيْ: فَكَأَنَّهُمْ كَائِنُونَ عَلَى شَفَا جُرُفٍ مِنَ النَّارِ يَدْعُونَ الْخَلْقَ إِلَيْهَا حَتَّى يَتَّفِقُوا عَلَى الدُّخُولِ فِيهَا، (" فَإِنْ مُتَّ ") بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا (" يَا حُذَيْفَةُ! وَأَنْتَ عَاضٌّ عَلَى جَذْلٍ ") أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّكَ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ مِنِ اخْتِيَارِ الِاعْتِزَالِ وَالْقَنَاعَةِ بِأَكْلِ قِشْرِ الْأَشْجَارِ وَالْمَنَامِ فَوْقَ الْأَحْجَارِ (" خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَتَّبِعَ ") : بِتَشْدِيدِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا وَفَتْحُ الْبَاءِ، (" أَحَدًا مِنْهُ ") أَيْ: مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ، أَوْ مِنْ دُعَاتِهِمْ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، وَالنِّسَائِيُّ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ.
5397 -
ــ
5397 -
(وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ رَدِيفًا) أَيْ: رَاكِبًا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: ظَرْفٌ وَقَعَ صِفَةً مُؤَكِّدَةً لَرَدِيفًا، (يَوْمًا عَلَى حِمَارٍ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى كَمَالِ تَوَاضُعِهِ صلى الله عليه وسلم وَحَسُنِ مُعَاشَرَتِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ، وَكَمَالِ قُرْبِ أَبِي ذَرٍّ لَهُ حِينَئِذٍ، وَلِذَا ذَكَرَهُ مَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى كَمَالِ حِفْظِهِ الْقَضِيَّةَ وَاسْتِحْضَارِهِ إِيَّاهَا، (فَلَمَّا جَاوَزْنَا بُيُوتَ الْمَدِينَةِ، قَالَ: " كَيْفَ بِكَ ")، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي الْمُبْتَدَأِ، أَيْ: كَيْفَ أَنْتَ أَيْ حَالُكَ (يَا أَبَا ذَرٍّ! إِذَا كَانَ) أَيْ: وَقَعَ (" بِالْمَدِينَةِ جُوعٌ ") أَيْ:
خَاصٌّ لَكَ أَوْ قَحْطٌ عَامٌّ (" تَقُومُ عَنْ فِرَاشِكَ وَلَا تَبْلُغُ مَسْجِدَكَ ") أَيِ: الَّذِي قَصَدْتَهُ أَنْ تُصَلِّيَ فِيهِ (" حَتَّى يُجْهِدَكَ الْجُوعُ ") : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهِمَا أَيْ يُوصِلُ إِلَيْهِ الْمَشَقَّةَ وَيُعْجِزُكَ عَنِ الْمَشْيِ مِنَ الْبَيْتِ إِلَى الْمَسْجِدِ (قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) أَيْ: بِحَالِي وَحَالِ غَيْرِي فِي تِلْكَ الْحَالِ وَسَائِرِ الْأَحْوَالِ، (قَالَ:" تَعَفَّفْ ") بِصِيغَةِ الْأَمْرِ أَيِ: الْتَزِمِ الْعِفَّةَ (" يَا أَبَا ذَرٍّ) : وَهِيَ الصَّلَاحُ وَالْوَرَعُ وَالتَّصَبُّرُ عَلَى أَذَى الْجُوعِ وَالتَّقْوَى، وَالْكَفُّ عَنِ الْحَرَامِ وَالشُّبْهَةِ، وَعَنِ السُّؤَالِ مِنَ الْمَخْلُوقِ وَالطَّمَعِ فِيهِ وَالْمَذَلَّةِ عِنْدَهُ، (قَالَ:" كَيْفَ بِكَ يَا أَبَا ذَرٍّ! ") ، فِي نِدَائِهِ مُكَرِّرًا تَنْبِيهٌ لَهُ عَلَى أَخْذِ الْحَدِيثِ مُقَرَّرًا (" إِذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ مَوْتٌ ") أَيْ: بِسَبَبِ الْقَحْطِ أَوْ وَبَاءٍ مِنْ عُفُونَةِ هَوَاءٍ أَوْ غَيْرِهَا (" يَبْلُغُ الْبَيْتَ ") أَيْ: يَصِلُ مَوْضِعَ قَبْرِ الْمَيِّتِ (" الْعَبْدُ ") أَيْ: قَيِمَتُهُ أَوْ نَفْسُهُ (" حَتَّى إِنَّهُ ") : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَيُفْتَحُ أَيِ الشَّأْنُ (" يُبَاعُ الْقَبْرُ بِالْعَبْدِ ") : هَذَا تَوْضِيحٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ إِيهَامِ الْبَيْتِ، فَفِي النِّهَايَةِ الْمُرَادُ بِالْبَيْتِ هَاهُنَا الْقَبْرُ، وَأَرَادَ أَنَّ مَوْضِعَ الْقُبُورِ يَضِيقُ ; فَيَبْتَاعُونَ كُلَّ قَبْرٍ بِعَبْدٍ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْمَوْتَ وَإِنِ اسْتَمَرَّ بِالْأَحْيَاءِ وَفَشَا فِيهِمْ كُلَّ الْفُشُوِّ لَمْ يَنْتَهِ بِهِمْ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْأَمْكِنَةَ، اهـ كَلَامَهُ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَوْضِعِ الْقُبُورِ الْجَبَّانَةُ الْمَعْهُودَةُ، وَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنَّهُمْ لَا يَتَجَاوَزُونَ عَنْهَا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ النَّاسَ يَشْتَغِلُونَ عَنْ دَفْنِ الْمَوْتَى بِمَا هُمْ فِيهِ ; حَتَّى لَا يُوجَدَ مَنْ يَحْفِرُ قَبْرَ الْمَيِّتِ فَيَدْفِنُهُ إِلَّا أَنْ يُعْطَى عَبْدًا أَوْ قِيمَةَ عَبْدٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَبْقَى فِي كُلِّ بَيْتٍ كَانَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسُ إِلَّا عَبْدٌ يَقُومُ بِمَصَالِحِ ضَعَفَةِ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَيْتِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي يَكُونُ الْبَيْتُ رَخِيصًا فَيُبَاعُ بَيْتٌ بِعَبْدٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ لَا يَحْسُنُ مَوْقِعُ حَتَّى، حُسْنُهَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ. قُلْتُ: بَلْ لَا يَصِحُّ حِينَئِذٍ وُقُوعُ حَتَّى، وَلَعَلَّهَا غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي الْمَصَابِيحِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَدْ يَحْتَجُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَذْهَبُ إِلَى وُجُوبِ قَطْعِ النَّبَّاشِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمَّى الْقَبْرَ بَيْتًا ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ حِرْزٌ كَالْبُيُوتِ. قُلْتُ لَا سِيَّمَا وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَطَعَ النَّبَّاشَ» ، لَكِنْ حَمَلَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ لِلسِّيَاسَةِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. (قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) كَمَا تَقَدَّمَ، (قَالَ:" تَصَبَّرْ يَا أَبَا ذَرٍّ ") : بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ أَمْرٌ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ، وَفِي نُسْخَةٍ: تَصْبِرُ مُضَارِعُ صَبَرَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، أَيِ: اصْبِرْ بِالْبَلَاءِ، وَلَا تَجْزَعْ فِي الضَّرَّاءِ، وَلَا تَنْسَ بَقِيَّةَ النَّعْمَاءِ وَالسَّرَّاءِ، وَارْضَ بِمَا يَجْرِي مِنَ الْقَضَاءِ تُصِبِ الْأَجْرَ مِنْ خَالِقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ. (قَالَ:" كَيْفَ بِكَ يَا أَبَا ذَرٍّ! إِذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ قَتْلٌ ") أَيْ: سَرِيعٌ عَظِيمٌ (" تَغْمُرُ ") : بِسُكُونِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ الْمِيمِ، أَيْ تَسْتُرُ وَتَعْلُو (" الدِّمَاءُ ") أَيْ: كَثْرَةُ دِمَاءِ الْقَتْلَى (أَحْجَارَ الزَّيْتِ) ؟ قِيلَ: هِيَ مَحَلَّةٌ بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: مَوْضِعٌ بِهَا.
قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: هِيَ مِنَ الْحَرَّةِ الَّتِي كَانَتْ بِهَا الْوَقْعَةُ زَمَنَ يَزِيدَ، وَالْأَمِيرُ عَلَى تِلْكَ الْجُيُوشِ الْعَاتِيَةِ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ الْمُرِّيُّ الْمُسْتَبِيحُ بِحَرَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ نُزُولُهُ بِعَسْكَرِهِ فِي الْحَرَّةِ الْغَرْبِيَّةِ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَاسْتَبَاحَ حُرْمَتَهَا وَقَتَلَ رِجَالَهَا وَعَاثَ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ خَمْسَةً، فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ انْمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ الْمَلْحُ فِي الْمَاءِ، وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ وَهُوَ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ، وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ. (قَالَ:" قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " تَأْتِي مَنْ أَنْتَ مِنْهُ ") : خَبَرٌ مَعْنَاهُ أَمْرٌ أَيِ ائْتِ مَنْ يُوَافِقُكَ فِي دِينِكَ وَسِيرَتِكَ. وَقَالَ الْقَاضِي: أَيِ ارْجِعْ إِلَى مَنْ أَنْتَ جِئْتَ مِنْهُ وَخَرَجْتَ مِنْ عِنْدِهِ يَعْنِي أَهْلَكَ وَعَشِيرَتَكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: لَا يُطَابِقُ عَلَى هَذَا سُؤَالُهُ (قَالَ: قُلْتُ: وَأَلْبَسُ السِّلَاحَ) ؟ . وَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ ارْجِعْ إِلَى إِمَامِكَ وَمَنْ بَايَعْتَهُ ; فَحِينَئِذٍ يَتَوَجَّهُ أَنْ يَقُولَ: وَأَلْبَسُ السِّلَاحَ وَأُقَاتِلُ مَعَهُ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (" شَارَكْتَ الْقَوْمَ ") أَيْ: فِي الْإِثْمِ (" إِذًا ") أَيْ: إِذَا لَبِسْتَ السِّلَاحَ، الْمَعْنَى: لَا تَلْبَسِ السِّلَاحَ وَكُنْ مَعَ الْإِمَامِ وَأَرْبَابِ الصَّلَاحِ، وَلَا تُقَاتِلْ حَتَّى يَحْصُلَ لَكَ الْفَلَاحُ. هَذَا حَاصِلُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ، لَكِنْ فِيهِ أَنَّ إِمَامَهُ إِذَا قَاتَلَ كَيْفَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ مَعَهُ؟ وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله: قَوْلُهُ: (شَارَكْتَ) لِتَأْكِيدِ الزَّجْرِ عَنْ إِرَاقَةِ الدِّمَاءِ، وَإِلَّا فَالدَّفْعُ وَاجِبٌ، اهـ. وَذَكَرُهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله وَقَرَّرَهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الدَّفْعَ جَائِزٌ إِذَا كَانَ الْخَصْمُ مُسْلِمًا إِنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ فَسَادٌ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْعَدُوُّ كَافِرًا فَإِنَّهُ يَجِبُ الدَّفْعُ مَهْمَا أَمْكَنَ. (قُلْتُ: فَكَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " إِنْ خَشِيتَ أَنْ يَبْهَرَكَ ") بِفَتْحِ الْهَاءِ أَيْ: يَغْلِبُكَ (" شُعَاعُ السَّيْفِ ") بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ: بَرِيقُهُ وَلَمَعَانُهُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ إِعْمَالِ السَّيْفِ (" فَأَلْقِ ") أَمْرٌ مِنَ الْإِلْقَاءِ أَيِ: اطْرَحْ (" نَاحِيَةَ ثَوْبِكَ ") أَيْ: طَرَفَهُ (" عَلَى وَجْهِكَ ") أَيْ: لِئَلَّا تَرَى وَلَا تَفْزَعْ وَلَا تَجْزَعْ، وَالْمَعْنَى: لَا تُحَارِبْهُمْ وَإِنْ حَارَبُوكَ، بَلِ اسْتَسْلِمْ نَفْسَكَ لِلْقَتْلِ ; لِأَنَّ أُولَئِكَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَيَجُوزُ مَعَهُمْ عَدَمُ الْمُحَارَبَةِ وَالِاسْتِسْلَامِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ:(" لِيَبُوءَ ") أَيْ: لِيَرْجِعَ الْقَاتِلُ (" بِإِثْمِكَ ") أَيْ: بِإِثْمِ قَتْلِكَ (" وَإِثْمِهِ ") أَيْ: وَبِسَائِرِ إِثْمِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرِكِهِ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ.
5398 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «كَيْفَ بِكَ إِذَا أُبْقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ مَرَجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ؟ وَاخْتَلَفُوا فَكَانُوا هَكَذَا؟ " وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. قَالَ: فَبِمَ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: " عَلَيْكَ بِمَا تَعْرِفُ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَإِيَّاكَ وَعَوَامِّهِمْ» ".
وَفِي رِوَايَةٍ: " «الْزَمْ بَيْتَكَ، وَأَمْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَخُذْ مَا تَعْرِفُ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِأَمْرِ خَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعْ أَمْرَ الْعَامَّةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ.
ــ
5398 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : صَحَابِيَّانِ جَلِيلَانِ (ابْنِ الْعَاصِ) بِغَيْرِ يَاءٍ هُوَ الصَّحِيحُ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " كَيْفَ بِكَ ") سَبَقَ إِعْرَابُهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: كَيْفَ أَنْتَ، أَيْ كَيْفَ حَالُكَ (" إِذَا أُبْقِيتَ ") : مَجْهُولٌ مِنَ الْإِبْقَاءِ أَيْ: إِذَا أَبْقَاكَ اللَّهُ بِمَعْنَى عَمَّرَكَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْبَقَاءِ أَيْ: إِذَا بَقِيتَ (" فِي حُثَالَةٍ ") : بِضَمِّ الْحَاءِ وَبِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَهِيَ مَا سَقَطَ مِنْ قِشْرِ الشَّعِيرِ وَالْأَرُزِّ وَالتَّمْرِ وَالرَّدِيءِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، أَيْ: فِي قَوْمٍ رُدَأًى (" مِنَ النَّاسِ مَرِجَتْ ") : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: فَسَدَتْ (" عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ ")، وَفِي نُسْخَةٍ: أَمَانَتُهُ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ عَلَى إِرَادَةِ الْجِنْسِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ كُلِّ فَرْدٍ، وَالْجَمْعُ إِنَّمَا هُوَ لِلْمُقَابَلَةِ وَالتَّوْزِيعِ مَعَ إِمْكَانِ حَقِيقَةِ الْجَمْعِ فِيهِمَا، فَتَأَمَّلْ، وَالْمَعْنَى: لَا يَكُونُ أَمْرُهُمْ مُسْتَقِيمًا، بَلْ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ عَلَى طَبْعٍ وَعَلَى عَهْدٍ، يَنْقُضُونَ الْعُهُودَ وَيَخُونُونَ الْأَمَانَاتِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: أَيِ اخْتَلَطَتْ وَفَسَدَتْ ; فَقَلِقَتْ فِيهِمْ أَسْبَابُ الدِّيَانَاتِ. (" وَاخْتَلَفُوا فَكَانُوا هَكَذَا "! وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ) أَيْ: يَمُوجُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ وَيَلْتَبِسُ أَمْرُ دِينِهِمْ، فَلَا يُعْرَفُ الْأَمِينُ مِنَ الْخَائِنِ، وَلَا الْبَرُّ مِنَ الْفَاجِرِ.
هَذَا وَفِي نُسْخَةٍ: مَرَجَتْ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهُوَ مُتَعَدٍّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الفرقان: 53] فَفِيهِ ضَمِيرٌ إِلَى الْحُثَالَةِ، فَالْمَعْنَى: أَفْسَدَتْ تِلْكَ الْجَمَاعَةُ الْقُمَامَةُ عُهُودَهُمْ وَأَمَانَاتِهِمْ، وَاخْتَلَفُوا فِي أُمُورِ دِيَانَاتِهِمْ، فَكَانُوا كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُمْ فِي الِاشْتِبَاكِ مُشَبَّهِينَ بِالْأَصَابِعِ الْمُشَبَّكَةِ، فَمَا كَتَبَهُ مِيرَكُ عَلَى هَامِشِ الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ: مُرِجَتْ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَرَمْزٌ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْمَرَجَ مُتَعَدٍّ، وَالْمَعْنَى عَلَى اللُّزُومِ فَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنَ الْقَامُوسِ وَغَيْرِهِ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْمَرَجُ الْخَلْطُ، وَالْمَرَجُ بِحَرَكَةٍ الْفَسَادُ وَالْقَلَقُ، وَالِاخْتِلَاطُ وَالِاضْطِرَابُ، وَإِنَّمَا يُسَكَّنُ مَعَ الْهَرْجِ يَعْنِي لِلِازْدِوَاجِ، مَرَجٌ كَفَرَحٍ، وَأَمْرٌ مَرِيجٌ مُخْتَلِطٌ، وَأَمْرَجَ الْعَهْدَ لَمْ يَفِ بِهِ، اهـ. وَفِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ: مَرَجَ الدِّينُ فَسَدَ وَقَلِقَتْ أَسْبَابُهُ، وَمَرَجَتْ عُهُودُهُمْ أَيِ اخْتَلَطَتْ.
(قَالَ: فَبِمَ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: " عَلَيْكَ بِمَا تَعْرِفُ ") أَيِ الْزَمْ: وَافْعَلْ مَا تَعْرِفُ كَوْنَهُ حَقًّا (" وَدَعْ مَا تُنْكِرُ ") أَيْ: وَاتْرُكْ مَا تُنْكِرُ أَنَّهُ حَقٌّ (وَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَإِيَّاكَ وَعَوَامَّهُمْ) أَيْ: عَامَّتُهُمْ، وَالْمَعْنَى: الْزَمْ أَمْرَ نَفْسِكَ،
وَاحْفَظْ دِينَكَ، وَاتْرُكِ النَّاسَ وَلَا تُتْبِعْهُمْ، وَهَذَا رُخْصَةٌ فِي تَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ إِذَا كَثُرَ الْأَشْرَارُ وَضَعُفَ الْأَخْيَارُ. (وَفِي رِوَايَةٍ:" الْزَمْ بَيْتَكَ، وَأَمْلِكْ ") : أَمْرٌ مِنَ الْإِمْلَاكِ بِمَعْنَى الشَّدِّ وَالْإِحْكَامِ أَيْ: أَمْسِكْ (" عَلَيْكَ لِسَانَكَ ") وَلَا تَتَكَلَّمْ فِي أَحْوَالِ النَّاسِ ; كَيْلَا يُؤْذُوكَ (" وَخُذْ مَا تَعْرِفُ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِأَمْرِ خَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعْ أَمْرَ الْعَامَّةِ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ) .
قَالَ مِيرَكُ: وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ رَوَاهَا أَبُو دَاوُدَ وَالنِّسَائِيُّ أَيْضًا.
5399 -
وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، فَكَسِّرُوا فِيهَا قِسِيَّكُمْ، وَقَطِّعُوا فِيهَا أَوْتَارَكُمْ، وَاضْرِبُوا سُيُوفَكُمْ بِالْحِجَارَةِ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ فَلْيَكُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: ذَكَرَ إِلَى قَوْلِهِ: " خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي "، ثُمَّ قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: " كُونُوا أَحْلَاسَ بُيُوتِكُمْ ". وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الْفِتْنَةِ: " كَسِّرُوا فِيهَا قِسِيَّكُمْ، وَقَطِّعُوا فِيهَا أَوْتَارَكُمْ، وَالْزَمُوا فِيهَا أَجْوَافَ بُيُوتِكُمْ، وَكُونُوا كَابْنِ آدَمَ» ". وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
ــ
5399 -
(وَعَنْ أَبِي مُوسَى) أَيِ: الْأَشْعَرِيُّ (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ ") أَيْ: قُدَّامَهَا مِنْ أَشْرَاطِهَا (" فِتَنًا ") أَيْ: فِتَنًا عِظَامًا وَمِحَنًا جِسَامًا (" كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ ") بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الطَّاءِ وَيُسَكَّنُ، أَيْ: كُلُّ فِتْنَةٍ كَقِطْعَةٍ مِنَ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ فِي شِدَّتِهَا وَظُلْمَتِهَا وَعَدَمِ تَبَيُّنِ أَمْرِهَا.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يُرِيدُ بِذَلِكَ الْتِبَاسَهَا وَفَظَاعَتَهَا، وَشُيُوعَهَا وَاسْتِمْرَارَهَا. (يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا) أَيْ: فِي تِلْكَ الْفِتَنِ (مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا ") ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِصْبَاحِ وَالْإِمْسَاءِ تَقَلُّبُ النَّاسِ فِيهَا وَقْتًا دُونَ وَقْتٍ، لَا بِخُصُوصِ الزَّمَانَيْنِ، فَكَأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ تَرَدُّدِ أَحْوَالِهِمْ، وَتَذَبْذُبِ أَقْوَالِهِمْ، وَتَنَوُّعِ أَفْعَالِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَنَقْضٍ، وَأَمَانَةٍ وَخِيَانَةٍ، وَمَعْرُوفٍ وَمُنْكَرٍ، وَسُّنَّةٍ وَبِدْعَةٍ، وَإِيمَانٍ وَكُفْرٍ، (" الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي ") أَيْ: كُلَّمَا بَعُدَ الشَّخْصُ عَنْهَا وَعَنْ أَهْلِهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ قُرْبِهَا وَاخْتِلَاطِ أَهْلِهَا ; لِمَا سَيَئُولُ أَمْرُهَا إِلَى مُحَارَبَةِ أَهْلِهَا، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْأَمْرَ كَذَلِكَ (" فَكَسِّرُوا فِيهِ قِسِيَّكُمْ ") : بِكَسْرَتَيْنِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ جَمْعِ الْقَوْسِ، وَفِي الْعُدُولِ عَنِ الْكَسْرِ إِلَى التَّكْسِيرِ مُبَالَغَةٌ ; لِأَنَّ بَابَ التَّفْعِيلِ لِلتَّكْثِيرِ، وَكَذَا قَوْلُهُ:(" وَقَطِّعُوا ") أَمْرُهُ مِنَ التَّقَطُّعِ (" فِيهَا أَوْتَارَكُمْ ") وَفِيهِ زِيَادَةٌ مِنَ الْمُبَالَغَةِ ; إِذْ لَا مَنْفَعَةَ لِوُجُودِ الْأَوْتَارِ مَعَ كَسْرِ الْقِسِيِّ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا الْغَيْرُ، وَلَا يَسْتَعْمِلُهَا فِي الشَّرِّ دُونَ الْخَيْرِ، (" وَاضْرِبُوا سُيُوفَكُمْ بِالْحِجَارَةِ ") أَيْ: حَتَّى تَنْكَسِرَ أَوْ حَتَّى تَذْهَبَ حِدَّتُهَا، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ الْأَرْمَاحُ وَسَائِرُ السِّلَاحِ، (" فَإِنْ دُخِلَ ") : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، وَنَائِبِ الْفَاعِلِ قَوْلُهُ:(" عَلَى أَحَدٍ ")، وَمِنْ فِي قَوْلِهِ:(" مِنْكُمْ ") بَيَانِيَّةٌ، (" فَلْيَكُنْ ") أَيْ: ذَلِكَ الْأَحَدُ (" كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ ") أَيْ: فَلْيَسْتَسْلِمْ حَتَّى يَكُونَ قَتِيلًا كَهَابِيلَ، وَلَا يَكُونُ قَاتِلًا كَقَابِيلَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) أَيْ: لِأَبِي دَاوُدَ عَنْهُ (ذُكِرَ) أَيِ: الْحَدِيثُ (إِلَى قَوْلِهِ: " خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي " ثُمَّ قَالُوا) أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ (فَمَا تَأْمُرُنَا) ؟ أَيْ أَنْ نَفْعَلَ حِينَئِذٍ (قَالَ: " كُونُوا أَحْلَاسَ بُيُوتِكُمْ ") : أَحْلَاسُ الْبُيُوتِ مَا يُبْسَطُ تَحْتَ حُرِّ الثِّيَابِ، فَلَا تَزَالُ مُلْقَاةً تَحْتَهَا، وَقِيلَ: الْحِلْسُ هُوَ الْكِسَاءُ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ تَحْتَ الْقَتَبِ وَالْبَرْذَعَةِ، شَبَّهَهَا بِهِ لِلُزُومِهَا وَدَوَامِهَا، وَالْمَعْنَى: الْزَمُوا بُيُوتَكُمْ وَالْتَزِمُوا سُكُوتَكُمْ ; كَيْلَا تَقَعُوا فِي الْفِتْنَةِ الَّتِي بِهَا دِينُكُمْ يَفُوتُكُمْ، (وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الْفِتْنَةِ) أَيْ: فِي أَيَّامِهَا وَزَمَنِهَا، وَهُوَ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ: (كَسِّرُوا فِيهَا قِسِيَّكُمْ،
وَقَطِّعُوا فِيهَا أَوْتَارَكُمْ، وَالْزَمُوا فِيهَا أَجْوَافَ بُيُوتِكُمْ) أَيْ: كُونُوا مُلَازِمِيهَا ; لِئَلَّا تَقَعُوا فِي الْفِتْنَةِ وَالْمُحَارِبِينَ فِيهَا، (" وَكُونُوا كَابْنِ آدَمَ ") الْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إِلَى الْكَامِلِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ تَحْتَ عِبَارَةٍ ظَرِيفَةٍ، وَهُوَ أَنَّ هَابِيلَ الْمَقْتُولَ الْمَظْلُومَ هُوَ ابْنُ آدَمَ لَا قَابِيلَ الْقَاتِلَ الظَّالِمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ وَلَدِ نُوحٍ عليه الصلاة والسلام:{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46](وَقَالَ) أَيِ: التِّرْمِذِيُّ (هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) .
5400 -
وَعَنْ أُمِّ مَالِكٍ الْبَهْزِيَّةِ رضي الله عنها قَالَتْ: «ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِتْنَةً فَقَرَّبَهَا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ خَيْرُ النَّاسِ فِيهَا؟ قَالَ: " رَجُلٌ فِي مَاشِيَتِهِ يُؤَدِّي حَقَّهَا، وَيَعْبُدُ رَبَّهُ، وَرَجُلٌ أَخَذَ بِرَأْسِ فَرَسِهِ يُخِيفُ الْعَدُوَّ وَيُخَوِّفُونَهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
5400 -
(وَعَنْ أُمِّ مَالِكٍ الْبَهْزِيَّةِ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَبِالزَّايِ وَيَاءِ النِّسْبَةِ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: لَهَا صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ وَهِيَ حِجَازِيَّةٌ، رَوَى عَنْهَا طَاوُسٌ وَمَكْحُولٌ، (قَالَتْ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِتْنَةً فَقَرَّبَهَا) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ: فَعَدَّهَا قَرِيبَةَ الْوُقُوعِ.
قَالَ الْأَشْرَفُ: مَعْنَاهُ وَصَفَهَا لِلصَّحَابَةِ وَصْفًا بَلِيغًا فَإِنَّ مَنْ وَصَفَ عِنْدَ أَحَدٍ وَصْفًا بَلِيغًا، فَكَأَنَّهُ قَرَّبَ ذَلِكَ الشَّيْءَ إِلَيْهِ، (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ خَيْرُ النَّاسِ فِيهَا؟ قَالَ: " رَجُلٌ فِي مَاشِيَتِهِ ") أَيْ: مِنَ الْغَنَمِ وَنَحْوِهَا، (" يُؤَدِّي حَقَّهَا ") أَيْ: مِنَ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا (" وَيَعْبُدُ رَبَّهُ ") ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى جل جلاله وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50]، وَقَوْلِهِ:{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8] ; وَقَوْلِهِ: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123]، (وَرَجُلٌ آخِذٌ ") بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ أَيْ: مَاسِكٌ (" بِرَأْسِ فَرَسِهِ يُخِيفُ الْعَدُوَّ ") : مِنَ الْإِخَافَةِ بِمَعْنَى التَّخْوِيفِ، أَيْ: يُخَوِّفُ الْكُفَّارَ (" وَيُخَوِّفُونَهُ ") . قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي رَجُلٌ هَرَبَ مِنَ الْفِتَنِ وَقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَصَدَ الْكُفَّارَ يُحَارِبُهُمْ وَيُحَارِبُونَهُ، يَعْنِي فَيَبْقَى سَالِمًا مِنَ الْفِتْنَةِ وَغَانِمًا لِلْأَجْرِ وَالْمَثُوبَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
5401 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «سَتَكُونُ فِتْنَةٌ تَسْتَنْظِفُ الْعَرَبَ، قَتْلَاهَا فِي النَّارِ، اللِّسَانُ فِيهَا أَشَدُّ مِنْ وَقْعِ السَّيْفِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
5401 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " سَتَكُونُ فِتْنَةٌ ") أَيْ: عَظِيمَةٌ وَبَلِيَّةٌ جَسِيمَةٌ (تَسْتَنْظِفُ الْعَرَبَ) أَيْ: تَسْتَوْعِبُهُمْ هَلَاكًا، مِنِ اسْتَنْظَفْتُ الشَّيْءَ أَخَذْتُهُ كُلَّهُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَبَعْضِ الشُّرَّاحِ، وَقِيلَ: أَيْ تُطَهِّرُهُمْ فِي الْأَرْذَالِ وَأَهْلِ الْفِتَنِ، (قَتْلَاهَا) : جَمْعُ قَتِيلٍ بِمَعْنَى مَقْتُولٍ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ: (إِلَى النَّارِ) أَيْ: سَيَكُونُ فِي النَّارِ أَوْ هُمْ حِينَئِذٍ فِي النَّارِ ; لِأَنَّهُمْ يُبَاشِرُونَ مَا يُوجِبُ دُخُولَهُمْ فِيهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ - وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13 - 14] قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: الْمُرَادُ بِقَتْلَاهَا مَنْ قُتِلَ فِي تِلْكَ الْفِتْنَةِ، وَإِنَّمَا هُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ; لِأَنَّهُمْ مَا قَصَدُوا بِتِلْكَ الْمُقَاتَلَةِ وَالْخُرُوجِ إِلَيْهَا إِعْلَاءَ دِينٍ أَوْ دَفْعِ ظَالِمٍ أَوْ إِعَانَةِ مُحِقٍّ، وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُمُ التَّبَاغِي وَالتَّشَاجُرُ طَمَعًا فِي الْمَالِ وَالْمُلْكِ، (" اللِّسَانُ ") أَيْ: وَقْعُهُ وَطَعْنُهُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ: وَإِشْرَافُ اللِّسَانِ، أَيْ: إِطْلَاقُهُ وَإِطَالَتُهُ (فِيهَا أَشَدُّ مِنْ وَقْعِ السَّيْفِ) . وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْقَوْلُ وَالتَّكَلُّمُ فِيهَا إِطْلَاقًا لِلْمَحَلِّ وَإِرَادَةَ الْحَالِ، اهـ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنِ ارْتِكَابِ أَحَدِ الْمَجَازَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] قَالَ الْمُظْهِرُ: يَحْتَمِلُ هَذَا احْتِمَالَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ ذَكَرَ أَهْلَ تِلْكَ الْحَرْبِ بِسُوءٍ يَكُونُ كَمَنْ حَارَبَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ وَغَيْبَةُ الْمُسْلِمِينَ إِثْمٌ. قُلْتُ: وَفِيهِ أَنَّهُ وَرَدَ: «اذْكُرُوا الْفَاجِرَ بِمَا فِيهِ يَحْذَرْهُ النَّاسُ، وَلَا غِيبَةَ لِفَاسِقٍ» ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَلَا يَصِحُّ هَذَا عَلَى إِطْلَاقِهِ ; وَلِذَا اسْتَدْرَكَ كَلَامَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْفِتْنَةِ الْحَرْبُ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ أَحَدًا مِنْ هَذَيْنِ الصَّدْرَيْنِ وَأَصْحَابِهِمَا يَكُونُ مُبْتَدِعًا ; لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اهـ.
وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا» " أَيْ: عَنِ الطَّعْنِ فِيهِمْ، فَإِنَّ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ تَعَلَّقَ بِهِمْ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَآلُهُمْ إِلَى التَّقْوَى وَرِضَا الْمَوْلَى وَجَنَّةِ الْمَأْوَى، وَأَيْضًا لَهُمْ حُقُوقٌ ثَابِتَةٌ فِي ذِمَّةِ الْأُمَّةِ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَذْكُرُوهُمْ إِلَّا بِالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ وَالدُّعَاءِ الْجَزِيلِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُنَافِي أَنْ يُذَكَرَ أَحَدٌ مُجْمَلًا أَوْ مُعَيَّنًا بِأَنَّ الْمُحَارِبِينَ مَعَ عَلِيٍّ مَا كَانُوا مِنَ الْمُخَالِفِينَ، أَوْ بِأَنَّ مُعَاوِيَةَ وَحِزْبَهُ كَانُوا بَاغِينَ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَمَّارٍ:" «تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» " ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ بَيَانُ الْحُكْمِ الْمُمَيَّزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْفَاصِلِ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ الْمُصِيبِ، وَالْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ، مَعَ تَوْقِيرِ الصَّحَابَةِ وَتَعْظِيمِهِمْ جَمِيعًا فِي الْقَلْبِ لِرِضَا الرَّبِّ ; وَلِذَا لَمَّا سُئِلَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَفْضَلُ أَمْ مُعَاوِيَةُ؟ قَالَ: لَغُبَارُ أَنْفِ فَرَسِ مُعَاوِيَةَ حِينَ غَزَا فِي رِكَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ مِنْ كَذَا وَكَذَا مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. إِذْ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ مِنَ الْأُمَّةِ لَمْ يَبْلُغْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَبْلَغَ الصَّحَابَةِ الْكُبَرَاءِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ سبحانه وتعالى:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: 10]، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 100]، وَقَوْلُهُ:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ - أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10 - 11] . قَالَ الْمُظْهِرُ: وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ مَنْ مَدَّ لِسَانَهُ فِيهِ بِشَتْمٍ أَوْ غِيبَةٍ يَقْصِدُونَهُ بِالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ، وَيَفْعَلُونَ بِهِ مَا يَفْعَلُونَ بِمَنْ حَارَبَهُمْ، اهـ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الطَّعْنَ فِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَمَدْحَ الْأُخْرَى حِينَئِذٍ مِمَّا يُثِيرُ الْفِتْنَةَ، فَالْوَاجِبُ كَفُّ اللِّسَانِ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي غَايَةٍ مِنَ الظُّهُورِ، فَتَأَمَّلْ، لَكِنَّ الطِّيبِيَّ رَجَّحَ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ ; حَيْثُ قَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْفِتْنَةِ إِلَخْ. مَا رَوَيْنَا «عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: خَرَجْتُ وَإِنَّمَا أُرِيدُ هَذَا الرَّجُلَ فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَحْنَفُ؟ قُلْتُ: أُرِيدُ نَصْرَ ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَقَالَ: يَا أَحْنَفُ! ارْجِعْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ "، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ ، قَالَ: " إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قُلْتُ: مُجْمَلُ هَذَا الْحَدِيثِ إِذَا كَانَ الْقِتَالُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جِهَةِ الْعَصَبِيَّةِ وَالْحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا فِيمَا بَيْنَ أَهْلٍ حَارَةٍ وَحَارَةٍ، وَقَرْيَةٍ وَقَرْيَةٍ، وَطَائِفَةٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ بَاعِثٌ شَرْعِيٌّ لِأَحَدِهِمَا، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى إِطْلَاقِهِ الشَّامِلِ لِقَضِيَّةِ صِفِّينَ وَنَحْوِهَا ; لِئَلَّا يُنَافِيَ قَوْلَهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ:{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9] ، وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ قَتْلَى طَائِفَةِ عَلِيٍّ لَيْسُوا فِي النَّارِ، فَكَلَامُ أَبِي بَكْرَةَ إِمَّا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَرَدِّدًا مُتَحَيِّرًا فِي أَمْرِ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَلَمْ يُمَيِّزْ أَحَدَهُمَا مِنَ الْآخَرِ، وَإِمَّا فَهِمَ مِنْ كَلَامِ الْأَحْنَفِ أَنَّهُ يُرِيدُ حِمَايَةَ الْعَصَبِيَّةِ لَا إِعْلَاءَ الْكَلِمَةِ الدِّينِيَّةِ عَلَى مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: أُرِيدُ نَصْرَ ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَقُلْ أُرِيدُ مُعَاوَنَةَ الْإِمَامِ الْحَقِّ وَالْخَلِيفَةِ الْمُطْلَقِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ حَمْلَ هَذِهِ الْفِتْنَةِ عَلَى قَضِيَّةِ عَلِيٍّ لَا يَجُوزُ، وَيُؤَوَّلُ بِمَا قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله وَأَمَّا قَوْلُهُ: قَتْلَاهَا فِي النَّارِ لِلزَّجْرِ وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّغْلِيطِ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا كَفُّ الْأَلْسِنَةِ عَنِ الطَّعْنِ فِيهِمْ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مُجْتَهِدٌ، وَإِنْ كَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه مُصِيبًا، فَلَا يَجُوزُ الطَّعْنُ فِيهِمَا، وَالْأَسْلَمُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يَخُوضُوا فِي أَمْرِهِمَا. قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: تِلْكَ دِمَاءٌ طَهَّرَ اللَّهُ أَيْدِينَا مِنْهَا فَلَا نُلَوِّثُ أَلْسِنَتَنَا بِهَا.
قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: كَانَ بَعْضُهُمْ مُصِيبًا وَبَعْضُهُمْ مُخْطِئًا مَعْذُورًا فِي الْخَطَأِ ; لِأَنَّهُ كَانَ بِالِاجْتِهَادِ، وَالْمُجْتَهِدُ إِذَا أَخْطَأَ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَكَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه هُوَ الْمُحِقُّ الْمُصِيبُ فِي تِلْكَ الْحُرُوبِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَكَانَتِ الْقَضَايَا مُشْتَبِهَةً، حَتَّى إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ تَحَيَّرُوا فِيهَا، فَاعْتَزَلُوا الطَّائِفَتَيْنِ وَلَمْ يُقَاتِلُوا، وَلَوْ تَيَقَّنُوا الصَّوَابَ لَمْ يَتَأَخَّرُوا عَنْ مُسَاعَدَتِهِ.
قُلْتُ: وَسَبَبُ هَذَا التَّحَيُّرِ لَمْ يَكُنْ فِي أَنَّ عَلِيًّا أَحَقُّ بِالْخِلَافَةِ أَمْ مُعَاوِيَةَ؟ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى وِلَايَةِ عَلِيٍّ، وَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ عَلَى خِلَافَتِهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ النِّزَاعُ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَعَلِيٍّ فِي قَتَلَةِ عُثْمَانَ ; حَيْثُ تَعَلَّلَ مُعَاوِيَةُ بِأَنِّي لَمْ أُسَلِّمْ لَكَ الْأَمْرَ حَتَّى تَقْتُلَ أَهْلَ الْفَسَادِ وَالشُّرُورِ مِمَّنْ حَاصَرَ الْخَلِيفَةَ وَأَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ، فَإِنَّ هَذَا ثَلْمَةٌ فِي الدِّينِ وَخَلَلٌ فِي أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَاقْتَضَى رَأْيُ عَلِىٍّ، وَهُوَ الصَّوَابُ، أَنَّ قَتْلَ فِئَةِ الْفِتْنَةِ يَجُرُّ إِلَى إِثَارَةِ الْفِتْنَةِ الَّتِي هِيَ تَكُونُ أَقْوَى مِنَ الْأُولَى، مَعَ أَنَّ هُجُومَ الْعَوَامِّ وَعَدَمَ تَعْيِينِ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِمُبَاشَرَةِ قَتْلِ الْإِمَامِ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِإِمَامٍ آخَرَ أَنْ يَقْتُلَهُمْ قَتْلًا عَامًا، وَلَا مَنْ يُتَّهَمُ بِقَتْلِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ أَوْ بَيِّنَةٍ شَرْعِيَّةٍ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ رَجَعُوا إِلَى الْحَقِّ وَدَخَلُوا فِي بَيْعَةِ الْخَلِيفَةِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ إِذَا رَجَعُوا عَنْ بَغْيِهِمْ، أَوْ شَرَدُوا عَنْ قِتَالِهِمْ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُمْ، هَذَا وَلَمَّا كَانَ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ الْفِتَنَ وَحَذَّرَ عَنِ الدُّخُولِ فِيهَا، وَرَغَّبَ الْبُعْدَ عَنْهَا، وَرَهَّبَ عَنِ الْقُرْبِ إِلَيْهَا، وَأَطْلَقَهَا نَظَرًا إِلَى فَسَادِ غَالِبِهَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ هَذِهِ الْفِتْنَةَ بِخُصُوصِهَا مُفَصَّلَةً وَإِنْ وَقَعَتْ مُجْمَلَةً تَحَيَّرَ فِيهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ، وَظَنُّوا أَنَّ الْأَسْلَمَ فِيهَا بِالْخُصُوصِ أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ صلى الله عليه وسلم فِيهَا بِالْعُمُومِ، لَكِنْ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ فِي الْآخِرِ حَقِّيَةُ عَلِىٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجَّهَهُ - وَخَطَأُ مُعَاوِيَةَ، نَدِمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا مِنَ الْعُزْلَةِ، وَتَحَسَّرُوا عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ مَثُوبَةِ الْجِلْوَةِ، وَلِلَّهِ حِكْمَةٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، فَلَا مُقَدِّمَ لِمَا أَخَّرَ وَلَا مُؤَخِّرَ لِمَا قَدَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) . قَالَ مِيرَكُ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا كُلُّهُمْ مَرْفُوعًا. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: الْأَصَحُّ وَقْفُهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. أَقُولُ: لَكِنَّ هَذَا الْمَوْقُوفَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ ; فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: " قَتْلَاهَا فِي النَّارِ " لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَصْدُرَ مِنْ رَأْيِ أَحَدٍ.
5402 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «سَتَكُونُ فِتْنَةٌ صَمَّاءُ عَمْيَاءُ بَكْمَاءُ، مَنْ أَشْرَفَ لَهَا اسْتَشْرَفَتْ لَهُ، وَإِشْرَافُ اللِّسَانِ فِيهَا كَوُقُوعِ السَّيْفِ» ") . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
5402 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " سَتَكُونُ فِتْنَةٌ صَمَّاءُ عَمْيَاءُ بَكْمَاءُ) أَيْ: بِاعْتِبَارِ أَصْحَابِهَا ; حَيْثُ لَا يَجِدُونَ لَهَا مُسْتَغَاثًا، وَلَا يَرَوْنَ مِنْهَا مَخْرَجًا وَخَلَاصًا، وَالْمَعْنَى: لَا يُمَيِّزُونَ فِيهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَلَا يَسْمَعُونَ النَّصِيحَةَ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، بَلْ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهَا بِحَقٍّ أُوذِيَ، وَوَقَعَ فِي الْفِتَنِ وَالْمِحَنِ (" مَنْ أَشْرَفَ لَهَا ") أَيْ: مَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا وَقَرُبَ مِنْهَا (" اسْتَشْرَفَتْ لَهُ ") أَيِ: اطَّلَعَتْ تِلْكَ الْفِتْنَةُ عَلَيْهِ وَجَذَبَتْهُ إِلَيْهَا، (" وَإِشْرَافُ اللِّسَانِ ") أَيْ: إِطْلَاقُهُ وَإِطَالَتُهُ (" فِيهَا كَوُقُوعِ السَّيْفِ ") أَيْ: فِي تَأْثِيرِهِ أَبْلَغُ ; لِمَا قِيلَ:
جِرَاحَاتُ السِّنَّانِ لَهَا الْتِئَامٌ
…
وَلَا يُلْتَأَمُ مَا جَرَحَ اللِّسَانُ
وَلِهَذَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ: أَشَدُّ مِنْ وَقْعِ السَّيْفِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
5403 -
ــ
5403 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: كُنَّا قُعُودًا) أَيْ: قَاعِدِينَ (عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ الْفِتَنَ) أَيِ: الْوَاقِعَةَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ (فَأَكْثَرَ) أَيِ: الْبَيَانَ (فِي ذِكْرِهِمَا، حَتَّى ذَكَرَ فِتْنَةَ الْأَحْلَاسِ) سَبَقَ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ، (فَقَالَ قَائِلٌ: وَمَا فِتْنَةُ الْأَحْلَاسِ؟ قَالَ: " هِيَ هَرَبٌ ") : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: يَفِرُّ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ لِمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْمُحَارَبَةِ، (" وَحَرَبٌ ") بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: أَخْذُ مَالٍ وَأَهْلٍ لِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ (" ثُمَّ فِتْنَةُ السَّرَّاءِ ") بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى هَرَبٍ بِحَسْبَ الْمَعْنَى، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَفِتْنَةُ الْأَحْلَاسِ حَرَبٌ وَهَرَبٌ وَفِتْنَةُ السَّرَّاءِ، وَفَى نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى فِتْنَةِ الْأَحْلَاسِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّرَّاءِ النَّعْمَاءُ الَّتِي تَسُرُّ النَّاسَ مِنَ الصِّحَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَالْعَافِيَةِ
مِنَ الْبَلَاءِ وَالْوَبَاءِ، وَأُضِيفَتْ إِلَى السَّرَّاءِ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي وُقُوعِهَا ارْتِكَابُ الْمَعَاصِي ; بِسَبَبِ كَثْرَةِ التَّنَعُّمِ، أَوْ لِأَنَّهَا تَسُرُّ الْعَدُوَّ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ وُقُوعِ النَّاسِ فِي تِلْكَ الْفِتْنَةِ وَابْتِلَائِهِمْ بِهَا أَثَرَ النِّعْمَةِ، فَأُضِيفَتْ إِلَى السَّرَّاءِ، يَعْنِي يَكُونُ التَّرْكِيبُ مِنْ قَبِيلِ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى سَبَبِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْفِتْنَةِ فَأُضِيفَتْ إِلَيْهَا إِضَافَةَ مَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَيُرَادُ مِنْهَا سِعَتُهَا لِكَثْرَةِ الشُّرُورِ وَالْمَفَاسِدِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ قَفَاهُ سَرَّاءُ إِذَا كَانَتْ وَسِيعَةً، يَعْنِي يَكُونُ التَّقْدِيرُ: فِتْنَةُ الْحَادِثَةِ السَّرَّاءِ، أَيِ: الْوَاسِعَةُ الَّتِي تَعُمُّ الْكَافَّةَ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، وَقَوْلُهُ:(" دَخَنُهَا ") : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ إِثَارَتُهَا وَهَيَجَانُهَا، وَشَبَّهَهَا بِالدُّخَانِ الَّذِي يَرْتَفِعُ، كَمَا شَبَّهَ الْحَرْبَ بِالنَّارِ، وَإِنَّمَا قَالَ:(" مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ") تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْعَى فِي إِثَارَتِهَا، أَوْ إِلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ أَمْرَهَا، (يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنِّي) أَيْ: فِي الْفِعْلِ وَإِنْ كَانَ مِنِّي فِي النَّسَبِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ تِلْكَ الْفِتْنَةَ بِسَبَبِهِ، وَأَنَّهُ بَاعِثٌ عَلَى إِقَامَتِهَا (" وَلَيْسَ مِنِّي ") أَيْ: مِنْ أَخِلَّائِي أَوْ مِنْ أَهْلِي فِي الْفِعْلِ ; لِأَنَّ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِي لَمْ يُهَيِّجِ الْفِتْنَةَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] ، أَوْ لَيْسَ مِنْ أَوْلِيَائِي فِي الْحَقِيقَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ:(" إِنَّمَا أَوْلِيَائِي الْمُتَّقُونَ ") ، وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ حَدِيثِ " «آلُ مُحَمَّدٍ كُلُّ تَقِيٍّ» "، (ثُمَّ يَصْطَلِحُ النَّاسُ عَلَى رَجُلٍ) أَيْ: يَجْتَمِعُونَ عَلَى بَيْعَةِ رَجُلٍ (كَوَرِكٍ) : بِفَتْحٍ وَكَسْرٍ (عَلَى ضِلْعٍ) : بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ وَيُسَكَّنُ وَاحِدُ الضُّلُوعِ أَوِ الْأَضْلَاعِ، وَتَسْكِينُ اللَّامِ فِيهِ جَائِزٌ عَلَى مَا فِي الصِّحَاحِ، وَهَذَا مَثَلٌ، وَالْمُرَادُ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى ثَبَاتٍ ; لِأَنَّ الْوَرِكَ لِثِقَلِهِ لَا يَثْبُتُ عَلَى الضِّلْعِ لِدِقَّتِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَكُونُ غَيْرَ أَهْلِ الْوِلَايَةِ لِقِلَّةِ عِلْمِهِ وَخِفَّةِ رَأْيِهِ وَحِلْمِهِ. وَفِي النِّهَايَةِ: أَيْ يَصْطَلِحُونَ عَلَى رَجُلٍ لَا نِظَامَ لَهُ وَلَا اسْتِقَامَةَ لِأَمْرِهِ ; لِأَنَّ الْوَرِكَ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى الضِّلْعِ، وَلَا يَتَرَكَّبُ عَلَيْهِ ; لِاخْتِلَافِ مَا بَيْنَهُمَا وَبُعْدِهِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَثْبُتُ وَلَا يَسْتَقِيمُ لَهُ ; وَذَلِكَ أَنَّ الضِّلْعَ لَا يَقُومُ بِالْوَرِكِ وَلَا يَحْمِلُهُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَعِدُّ وَلَا يَسْتَبِدُّ ; لِذَلِكَ فَلَا يَقَعُ عَنْهُ الْأَمْرُ مَوْقِعَهُ، كَمَا أَنَّ الْوَرِكَ عَلَى ضِلْعٍ يَقَعُ غَيْرَ مَوْقِعِهِ.
قَالَ: وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي بَابِ الْمُلَاءَمَةِ وَالْمُوَافَقَةِ إِذَا وَصَفُوا بِهِ هُوَ كَكَفٍّ فِي سَاعِدٍ وَسَاعِدٍ فِي ذِرَاعٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ، يُرِيدُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ غَيْرُ لَائِقٍ لِلْمُلْكِ وَلَا مُسْتَقِلَّ بِهِ.
(ثُمَّ فِتْنَةُ الدُّهَيْمَاءِ) : بِالرَّفْعِ وَيَنْصَبُّ عَلَى مَا سَبَقَ، وَهِيَ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ، وَالدَّهْمَاءُ السَّوْدَاءُ، وَالتَّصْغِيرُ لِلذَّمِّ، أَيِ: الْفِتْنَةُ الْعَظْمَاءُ وَالطَّامَّةُ الْعَمْيَاءُ، وَفِي النِّهَايَةِ: هِيَ تَصْغِيرُ الدَّهْمَاءِ يُرِيدُ الْفِتْنَةَ الْمُظْلِمَةَ وَالتَّصْغِيرُ فِيهَا لِلتَّعْظِيمِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالدُّهَيْمَاءِ الدَّاهِيَةُ، وَمِنْ أَسْمَاءِ الدَّاهِيَةِ الدُّهَيْمُ، زَعَمُوا أَنَّ الدُّهَيْمَ اسْمُ نَاقَةٍ غَزَا عَلَيْهَا سَبْعَةُ إِخْوَةٍ مُتَعَاقِبِينَ، فَقُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَحُمِلُوا عَلَيْهَا حَتَّى رَجَعَتْ بِهِمْ، فَصَارَتْ مَثَلًا فِي كُلِّ دَاهِيَةٍ، (لَا تَدَعُ) أَيْ: لَا تَتْرُكُ تِلْكَ الْفِتْنَةَ (أَحَدًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا لَطَمَتْهُ لَطْمَةً) أَيْ: أَصَابَتْهُ بِمِحْنَةٍ وَمَسَّتْهُ بِبَلِيَّةٍ، وَأَصْلُ اللَّطْمِ هُوَ الضَّرْبُ عَلَى الْوَجْهِ بِبَطْنِ الْكَفِّ، وَالْمُرَادُ أَنَّ أَثَرَ تِلْكَ الْفِتْنَةِ يَعُمُّ النَّاسَ وَيَصِلُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ ضَرَرِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: هُوَ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ شَبَّهَ الْفِتْنَةَ بِإِنْسَانٍ، ثُمَّ خُيِّلَ لِإِصَابَتِهَا النَّاسَ، اللَّطْمُ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَجَعَلَهَا قَرِينَةً لَهَا، (" فَإِذَا قِيلَ: انْقَضَتْ ") أَيْ: فَمَهْمَا تَوَهَّمُوا أَنَّ تِلْكَ الْفِتْنَةَ انْتَهَتْ (" تَمَادَتْ ") بِتَخْفِيفِ الدَّالِ أَيْ: بَلَغَتِ الْمَدَى، أَيِ: الْغَايَةَ مِنَ التَّمَادِي، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ مِنَ التَّمِادُدِ تَفَاعُلٌ مِنَ الْمَدِّ، أَيِ: اسْتَطَالَتْ وَاسْتَمَرَّتْ وَاسْتَقَرَّتْ، (" يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا ") أَيْ: لِتَحْرِيمِهِ دَمَ أَخِيهِ وَعِرْضِهِ وَمَالِهِ (وَيُمْسِي كَافِرًا) أَيْ: لِتَحْلِيلِهِ مَا ذُكِرَ، وَيَسْتَمِرُّ ذَلِكَ (" حَتَّى يَصِيرَ النَّاسُ إِلَى فُسْطَاطَيْنِ ") : بِضَمِّ الْفَاءِ وَتُكْسَرُ أَيْ فِرْقَتَيْنِ، وَقِيلَ: مَدِينَتَيْنِ، وَأَصْلُ الْفُسْطَاطِ
الْخَيْمَةُ، فَهُوَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِ (فُسْطَاطِ إِيمَانٍ) : بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ، وَإِعْرَابُهُ مَشْهُورٌ، أَيْ: إِيمَانٌ خَالِصٌ (" لَا نِفَاقَ فِيهِ ") أَيْ: لَا فِي أَصْلِهِ وَلَا فِي فَصْلِهِ مِنِ اعْتِقَادِهِ وَعَمَلِهِ، (" وَفُسْطَاطِ نِفَاقٍ لَا إِيمَانَ فِيهِ ") أَيْ: أَصْلًا أَوْ كَمَالًا ; لِمَا فِيهِ مِنْ أَعْمَالِ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَنَقْضِ الْعَهْدِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، (" فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَانْتَظِرُوا الدَّجَّالَ ") أَيْ: ظُهُورُهُ (" مِنْ يَوْمِهِ أَوْ مِنْ غَدِهِ ") وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفُسْطَاطَيْنِ الْمَدِينَتَانِ، فَإِنَّ الْمَهْدِيَّ يَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَيُحَاصِرُهُ الدَّجَّالُ، فَيَنْزِلُ عِيسَى عليه الصلاة والسلام، فَيَذُوبُ الْمَلْعُونُ كَالْمِلْحِ يَنْمَاعُ فِي الْمَاءِ، فَيَطْعَنُهُ بِحَرْبَةٍ لَهُ فَيَقْتُلُهُ، فَيَحْصُلُ الْفَرَجُ الْعَامُّ وَالْفَرَحُ التَّامُّ، كَمَا قَالَ سَيِّدُ الْأَنَامِ:
اشْتَدِّي أَزْمَةُ تَنْفَرِجِي
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا - إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5 - 6] ، وَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ، وَهُمَا هُنَا الِاقْتِرَانُ بَيْنَ الْقَمَرَيْنِ وَضِيَاءِ أَنْوَارِهِمَا فِي أَمْرِ الْكَوْنَيْنِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْفُسْطَاطُ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ الْمَدِينَةُ الَّتِي فِيهَا يَجْتَمِعُ النَّاسُ، وَكُلُّ مَدِينَةٍ فُسْطَاطٌ، وَإِضَافَةُ الْفُسْطَاطِ إِلَى الْإِيمَانِ إِمَّا بِجَعْلِ الْمُؤْمِنِينَ نَفْسَ الْإِيمَانِ مُبَالَغَةً، وَإِمَّا بِجَعْلِ الْفُسْطَاطِ مُسْتَعَارًا لِلْكَتِفِ وَالْوِقَايَةِ عَلَى الْمُصَرِّحَةِ، أَيْ: هُمْ فِي كَتِفِ الْإِيمَانِ وَوِقَايَتِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيْ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ وَأَقَرَّهُ الْمُنْذِرِيُّ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنْ تَصْحِيحِ الْجَزَرِيِّ.
5404 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، أَفْلَحَ مَنْ كَفَّ يَدَهُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
5404 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " وَيْلٌ لِلْعَرَبِ ") الْوَيْلُ: حُلُولُ الشَّرِّ، وَهُوَ تَفْجِيعٌ، أَوْ وَيْلٌ كَلِمَةُ عَذَابٍ، أَوْ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، وَخَصَّ الْعَرَبَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا حِينَئِذٍ مُعْظَمَ مَنْ أَسْلَمَ، (" مِنْ شَرٍّ ") أَيْ: عَظِيمٍ (" قَدِ اقْتَرَبَ ") أَيْ: ظُهُورُهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ:" فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ " الْحَدِيثَ. كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَرَادَ بِهِ الِاخْتِلَافَ الَّذِي ظَهَرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَقْعَةِ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَوْ مَا وَقَعَ بَيْنَ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - وَمُعَاوِيَةَ رضي الله عنه. أَقُولُ: أَوْ أَرَادَ بِهِ قَضِيَّةَ يَزِيدَ مَعَ الْحُسَيْنِ رضي الله عنه وَهُوَ فِي الْمَعْنَى أَقْرَبُ ; لِأَنَّ شَرَّهُ ظَاهِرٌ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْعَجَمِ وَالْعَرَبِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله: قَوْلُهُ مِنْ شَرٍّ أَيْ مِنْ خُرُوجِ جَيْشٍ يُقَاتِلُ الْعَرَبَ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْفِتَنَ الْوَاقِعَةَ فِي الْعَرَبِ، أَوَّلُهَا: قَتْلُ عُثْمَانَ وَاسْتَمَرَّتْ إِلَى الْآنِ، أَقُولُ: وَلَمْ يُعْرَفْ مَا يَقَعُ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. (" أَفْلَحَ ") أَيْ: نَجَا وَظَفِرَ عَلَى الْمُدَّعِي وَانْتَصَرَ عَلَى الْأَعْدَاءِ (" مَنْ كَفَّ يَدَهُ ") أَيْ عَنِ الْأَذَى، أَوْ تَرَكَ الْقِتَالَ إِذَا لَمْ يَتَمَيَّزِ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ. أَقُولُ: وَلَعَلَّ وَجْهَ عُدُولِ الشُّرَّاحِ عَنِ الْمَعْنَى الَّذِي قَدَّمْتُهُ إِلَى مَا ذَكَرُوهُ ; أَنَّ قَوْلَهُ: (أَفْلَحَ مَنْ كَفَّ يَدَهُ) يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَإِنَّ وَقْتَ خُرُوجِهِمْ لَيْسَ لِأَحَدٍ طَاقَةُ الْمُقَاتَلَةِ مَعَهُمْ، فَمَوْرِدُ هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ الْأَوَّلِ فَتَدَبَّرْ وَتَأَمَّلْ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَالْمَعْنَى: أَفْلَحَ مَنْ كَفَّ يَدَهُ عَمَّنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَّا بِإِذْنٍ شَرْعِيٍّ حَكَمَ بِهِ وَقَضَاهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) أَيْ: بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ خِلَالَ قَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَفَّ يَدَهُ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ، وَفِي الْجَامِعِ بِلَفْظِ الْمِشْكَاةِ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ، وَفِيهِ أَيْضًا حَدِيثُ:«وَيْلٌ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهِ الْكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنِّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَفِيهِ أَيْضًا:«وَيْلٌ لِأُمَّتِي مِنْ عُلَمَاءِ السُّوءِ» . رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ أَنَسٍ.
5405 -
وَعَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، وَلَمَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ فَوَاهًا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. .
ــ
5405 -
(وَعَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ ابْنُ عَمْرٍو الْكِنْدِيُّ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَاهُ حَالَفَ كِنْدَةَ، فَنُسِبَ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا سُمِّيَ ابْنَ الْأَسْوَدِ لِأَنَّهُ كَانَ حَلِيفَهُ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ فِي حِجْرِهِ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ عَبْدًا فَتَبَنَّاهُ وَكَانَ سَادِسًا فِي الْإِسْلَامِ. (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ ") بِاللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ لِلتَّأْكِيدِ فِي خَبَرٍ إِنَّ، أَيْ لَلَّذِي (" جُنِّبَ ") بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ: بَعُدَ (" الْفِتَنَ ") مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَمِنْهُ مَا وَرَدَ مِنَ الدُّعَاءِ:«اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ» ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: بَعُدَ عَنْهَا، (" إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ ") كَرَّرَهَا ثَلَاثًا لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّأْكِيدِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّكْرَارُ بِاعْتِبَارِ أَوَّلِ الْفِتَنِ وَآخِرِهَا، (" وَلَمَنِ ابْتُلِيَ ") : اللَّامُ لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ: لَمَنِ امْتُحِنَ بِتِلْكَ الْفِتَنِ (" فَصَبَرَ ") أَيْ: عَلَى أَذَاهِمْ، وَلَمْ يُحَارِبْهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ، (" فَوَاهًا ") : بِالتَّنْوِينِ اسْمُ صَوْتٍ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ، سَدَّ مَسَدَّ فِعْلِهِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله. وَقَالَ ابْنُ الْمَلِكِ: مَعْنَاهُ التَّلَهُّفُ، وَقَدْ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْإِعْجَابِ بِالشَّيْءِ وَالْإَسْتِطَابَةِ لَهُ، أَيْ: مَا أَحْسَنَ وَمَا أَطْيَبَ صَبْرَ مَنْ صَبَرَ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَطُوبَى لَهُ، وَفِي النِّهَايَةِ قِيلَ: مَعْنَى هَذَا التَّلَهُّفِ، وَقَدْ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْإِعْجَابِ بِالشَّيْءِ، يُقَالُ: وَاهًا لَهُ، وَقَدْ يَرِدُ بِمَعْنَى التَّوَجُّعِ، وَقِيلَ، يُقَالُ: فِي التَّوَجُّعِ: آهًا لَهُ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (فَوَاهًا) خَبَرًا لِمَنْ، وَالْفَاءُ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ، فَعَلَى هَذَا فِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، أَيْ: مَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ فَطُوبَى لَهُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ خَبَرًا عَلَى أَنَّ اللَّامَ مَفْتُوحَةٌ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَلِمَنِ ابْتُلِيَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، فَعَلَى هَذَا (وَاهًا) لِلتَّحَسُّرِ، أَيْ: فَوَاهًا عَلَى مَنْ بَاشَرَهَا وَسَعَى فِيهَا، اهـ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْجَامِعِ بِلَفْظِ: إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ وَلَمَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ، وَقِيلَ اللَّامُ مَكْسُورَةٌ ; وَيَكُونُ فَوَاهًا بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ، أَيْ: وَلَمَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ يَجِبُ أَنْ يُتَعَجَّبَ مِنْ حَالِهِ هَذَا. وَفِي الْقَامُوسِ: وَاهًا وَيُتْرَكُ تَنْوِينُهُ كَلِمَةُ تَعَجُّبٍ مِنْ طِيبِ شَيْءٍ وَكَلِمَةُ تَلَهُّفٍ، أَيْ: مِنْ تَلَفِ شَيْءٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
5406 -
وَعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِي أُمَّتِي لَمْ يُرْفَعْ عَنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ، وَحَتَّى تَعْبُدَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي الْأَوْثَانَ، وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلَاثُونَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَلَا نَبِيَّ بِعْدِي، وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.
ــ
5406 -
(وَعَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِي أُمَّتِي ") أَيْ: مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ (" لَمْ يُرْفَعْ عَنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ") ، وَقَدِ ابْتُدِئَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ وَهَلُمَّ جَرَّا لَا يَخْلُو عَنْهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْأُمَّةِ ; فَصَدَقَ فِي إِخْبَارِهِ إِمَامُ الْأَئِمَّةِ، ثُمَّ الْحَدِيثُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65]، وَتَحْقِيقُهُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَنْثُورَةِ فِي تَفْسِيرِ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. (وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ) مِنْهَا مَا وَقَعَ بَعْدَ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه. (وَحَتَّى تَعْبُدَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي الْأَوْثَانَ) أَيِ: الْأَصْنَامُ حَقِيقَةً، وَلَعَلَّهُ يَكُونُ فِيمَا سَيَأْتِي، أَوْ مَعْنَى وَمِنْهُ:«تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ» ، (" وَإِنَّهُ ") أَيِ: الشَّأْنُ (" سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ") أَيْ: فِي دَعْوَتِهِمُ النُّبُوَّةَ (" ثَلَاثُونَ ")، أَيْ: هُمْ أَوْ عَدَدُهُمْ ثَلَاثُونَ (" كُلُّهُمْ يَزْعُمُ ") أُفْرِدَ لِلَفْظِ كُلٍّ (" أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ ") بِكَسْرِ التَّاءِ وَفَتْحِهَا، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ:(" لَا نَبِيَّ بِعْدِي ") تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ، (" وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ") خَبَرٌ لِقَوْلِهِ: لَا تَزَالُ أَيْ ثَابِتِينَ عَلَى الْحَقِّ عِلْمًا وَعَمَلًا (" ظَاهِرِينَ ") أَيْ: غَالِبِينَ عَلَى أَهْلِ الْبَاطِلِ وَلَوْ حُجَّةً. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي ثَابِتِينَ، أَيْ: ثَابِتِينَ عَلَى الْحَقِّ فِي حَالَةِ كَوْنِهِمْ غَالِبِينَ عَلَى الْعَدِوِّ (" لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ ") أَيْ: لِثَبَاتِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ (" حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ ") مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لَا تَزَالُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) ، وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ رحمه الله وَفِي الْجَامِعِ:" «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ» " رُوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ الْمُغِيرَةِ.
5407 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «تَدُورُ رَحَى الْإِسْلَامِ لِخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ أَوْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ أَوْ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ، فَإِنْ يَهْلِكُوا فَسَبِيلُ مَنْ هَلَكَ، وَإِنْ يَقُمْ لَهُمْ دِينُهُمْ يَقُمْ لَهُمْ سَبْعِينَ عَامًا ". قُلْتُ: أَمِمَّا بَقِيَ أَوْ مِمَّا مَضَى؟ قَالَ: " مِمَّا مَضَى» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
5407 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " تَدُورُ رَحَى الْإِسْلَامِ ") أَيْ: تَسْتَقِرُّ وَتَسْتَمِرُّ دَائِرَةً رَحَى الْإِسْلَامِ، وَيَسْتَقِيمُ دَوَرَانُهَا عَلَى وَجْهِ النِّظَامِ، أَوْ يَبْتَدِئُ دَوَرَانُ دَائِرَةِ الْحَرْبِ وَتَزَلْزُلِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ فِي الْإِسْلَامِ (" لِخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ ") أَيْ: لِوَقْتِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ مِنِ ابْتِدَاءِ ظُهُورِ دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ زَمَنُ هِجْرَةِ خَيْرِ الْأَنَامِ، وَبِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ تَنْقَضِي خِلَافَةُ الْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنِ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ ; إِذْ بَعْدَهَا مَقْتَلُ عُثْمَانَ رضي الله عنه (" أَوْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ ") وَفِيهِ قَضِيَّةُ الْجَمَلِ، (" أَوْ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ ") وَفِيهِ وَقْعَةُ صِفِّينَ، وَ (أَوْ) فِيهَا لِلتَّنْوِيعِ، أَوْ بِمَعْنَى بَلْ، فَإِنَّ الْأَمْرَ فِيهِمَا أَهْوَنُ مِمَّا بَعْدَهُمَا، لَا سِيَّمَا أَمْرُ الْإِسْلَامِ، وَنِظَامُ الْأَحْكَامِ، وَظُهُورُ الصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ ; وَلِهَذَا قَالَ:(" فَإِنْ يَهْلِكُوا ") أَيْ: إِنِ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَاسْتَهَانُوا فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَاقْتَرَفُوا الْمَعَاصِي (" فَسَبِيلُ مَنْ هَلَكَ ") أَيْ: فَسَبِيلُهُمْ سَبِيلُ مَنْ هَلَكَ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ الَّذِينَ زَاغُوا عَنِ الْحَقِّ فِي اخْتِلَاقِهِمْ وَزَيْغِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، وَوَهَنِهِمْ فِي الدِّينِ، وَسَمَّى أَسْبَابَ الْهَلَاكِ وَالِاشْتِغَالِ بِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ هَلَاكًا، هَذَا مُجْمَلُ الْكَلَامِ، وَأَمَّا تَفْصِيلُ الْمَرَامِ، فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: دَوَرَانُ الرَّحَى كِنَايَةٌ عَنِ الْحَرْبِ وَالْقِتَالِ، شَبَّهَهَا بِالرَّحَى الدَّوَّارَةِ الَّتِي تَطْحَنُ الْحَبَّ ; لِمَا يَكُونُ فِيهَا مِنْ تَلَفِ الْأَرْوَاحِ وَهَلَاكِ الْأَنْفُسِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَدَارَتْ رَحَانَا وَاسْتَدَارَتْ رَحَاهُمْ
قُلْتُ: هُوَ مَعْنَى مَا قَالَ غَيْرُهُ:
فَيَوْمًا عَلَيْنَا وَيَوْمًا لَنَا
…
فَيَوْمًا نُسَاءُ وَيَوْمًا نُسَرُّ
وَقَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] ، ثُمَّ الرَّحَى وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا ذُكِرَ مِنْ تَلَفِ الْأَرْوَاحِ وَهَلَاكِ الْأَنْفُسِ، لَكِنْ فِيهَا أَيْضًا قُوتُ الْأَشْبَاحِ وَقُوَّةُ الْأَرْوَاحِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: إِنَّهُمْ يُكَنُّونَ عَنِ اشْتِدَادِ الْحَرْبِ بِدَوَرَانِ الرَّحَى، وَيَقُولُونَ: دَارَتْ رَحَى الْحَرْبِ أَيِ اسْتَتَبَّ أَمْرُهَا، وَلَمْ تَجِدْهُمُ اسْتَعْمَلُوا دَوَرَانَ الرَّحَى فِي أَمْرِ الْحَرْبِ مِنْ غَيْرِ جَرَيَانِ ذِكْرِهَا، أَوِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهَا. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَذْكُرِ الْحَرْبَ، وَإِنَّمَا قَالَ: رَحَى الْإِسْلَامِ، فَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَسْتَتِبُّ أَمْرُهُ، وَيَدُومُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَدِيثِ، وَيَصِحُّ أَنْ يُسْتَعَارَ دَوَرَانُ الرَّحَى فِي الْأَمْرِ الَّذِي يَقُومُ لِصَاحِبِهِ وَيَسْتَمِرُّ لَهُ، فَإِنَّ الرَّحَى تُوجَدُ عَلَى نَعْتِ الْكَمَالِ مَا دَامَتْ دَائِرَةً مُسْتَمِرَّةً، وَيُقَالُ: فُلَانٌ صَاحِبُ دَارَتِهِمْ إِذَا كَانَ أَمْرُهُمْ يَدُورُ عَلَيْهِ، وَرَحَى الْغَيْثِ مُعْظَمُهُ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَا رَوَاهُ الْحَرْبِيُّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: تَزُولُ رَحَى الْإِسْلَامِ مَكَانَ تَدُورُ، ثُمَّ قَالَ: كَأَنَّ تَزُولَ أَقْرَبُ ; لِأَنَّهَا تَزُولُ عَنْ ثُبُوتِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا، وَأَشَارَ بِالسِّنِينَ الثَّلَاثِ إِلَى الْفِتَنِ الثَّلَاثِ: مَقْتَلِ عُثْمَانَ رضي الله عنه وَكَانَ سَنَةَ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ، وَحَرْبِ الْجَمَلِ، وَكَانَتْ سَنَةَ سِتٍّ، وَحَرْبِ صِفِّينَ، وَكَانَتْ سَنَةَ سَبْعٍ، فَإِنَّهَا كَانَتْ مُتَتَابِعَةً فِي تِلْكَ الْأَعْوَامِ الثَّلَاثَةِ، (" وَإِنْ يَقُمْ لَهُمْ دِينُهُمْ ") أَيْ: وَإِنْ صَفَتْ تِلْكَ الْمُدَدُ وَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُمُ اخْتِلَافٌ وَخَوَرٌ فِي الدِّينِ وَضَعْفٌ فِي التَّقْوَى (" يَقُمْ لَهُمْ سَبْعِينَ عَامًا ") تَتَمَادَى بِهِمْ قُوَّةُ الدِّينِ وَاسْتِقَامَةُ أَمْرِهِ سَبْعِينَ سَنَةً، وَقَدْ وَقَعَ الْمَحْذُورُ فِي الْمَوْعِدِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ إِلَى الْآنِ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَرَادَ بِالدِّينِ الْمُلْكَ، قَالَ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهَذَا مُلْكَ بَنِي أُمَيَّةَ، وَانْتِقَالَهُ عَنْهُمْ إِلَى بَنِي الْعَبَّاسِ، وَكَانَ مِنْ بَيْنِ اسْتِقْرَارِ الْمُلْكِ لِبَنِي أُمَيَّةَ إِلَى أَنْ ظَهَرَتِ الدُّعَاةُ بِخُرَاسَانَ، وَضَعُفَ أَمْرُ بَنِي أُمَيَّةَ، وَدَخَلَ الْوَهْنُ فِيهِ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ سَنَةً.
قَالَ التُّوبِشْتِيُّ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا سُلَيْمَانَ، فَإِنَّهُ لَوْ تَأَمَّلَ الْحَدِيثَ كُلَّ التَّأَمُّلِ، وَبَنَى التَّأْوِيلَ عَلَى سِيَاقِهِ لَعَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ مُلْكَ بَنِي أُمَيَّةَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَّةِ، بَلْ أَرَادَ بِهِ اسْتِقَامَةَ أَمْرِ الْأُمَّةِ فِي طَاعَةِ الْوُلَاةِ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ، وَجَعَلَ الْمَبْدَأَ فِيهِ أَوَّلَ زَمَانِ الْهِجْرَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ يَلْبَثُونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ أَوْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ أَوْ سَبْعًا وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ يَشُقُّونَ عَصَا الْخِلَافِ ; فَتُفَرَّقُ كَلِمَتُهُمْ، فَإِنْ هَلَكُوا فَسَبِيلُهُمْ سَبِيلُ مَنْ قَدْ هَلَكَ قَبْلَهُمْ، وَإِنْ عَادَ أَمْرُهُمْ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ إِيثَارِ الطَّاعَةِ وَنُصْرَةِ الْحَقِّ يَتِمُّ لَهُمْ ذَلِكَ إِلَى تَمَامِ السَبْعِينَ، هَذَا مُقْتَضَى اللَّفْظِ، وَلَوِ اقْتَضَى اللَّفْظُ أَيْضًا غَيْرَ ذَلِكَ لَمْ يَسْتَقِمْ لَهُمْ ذَلِكَ الْقَوْلُ، فَإِنَّ الْمُلْكَ فِي أَيَّامِ بَعْضِ الْعَبَّاسِيَّةِ لَمْ يَكُنِ أَقَلَّ اسْتِقَامَةً مِنْهُ فِي أَيَّامِ الْمَرْوَانِيَّةِ، وَمُدَّةِ إِمَارَةِ بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ مُعَاوِيَةَ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ كَانَتْ نَحْوًا مِنْ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
وَالتَّوَارِيخُ تَشْهَدُ لَهُ، مَعَ أَنَّ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ يَنْقُضُ كُلَّ تَأْوِيلٍ يُخَالِفُ تَأْوِيلَنَا هَذَا، وَهِيَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ:(قُلْتُ) أَيْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ (أَوْ مِمَّا بَقِيَ أَوْ مِمَّا مَضَى؟) يُرِيدُ أَنَّ السَبْعِينَ تَتِمُّ لَهُمْ مُسْتَأْنَفَةً بَعْدَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، أَمْ تَدْخُلُ الْأَعْوَامُ الْمَذْكُورَةُ فِي جُمْلَتِهَا؟ (قَالَ:" مِمَّا مَضَى ") .
يَعْنِي يَقُومُ لَهُمْ أَمْرُ دِينِهِمْ إِلَى تَمَامِ سَبْعِينَ سَنَةً مِنْ أَوَّلِ دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ، لَا مِنِ انْقِضَاءِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ أَوْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ أَوْ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ إِلَى انْقِضَاءِ سَبْعِينَ، وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ قِيلَ: إِنَّ الْإِسْلَامَ عِنْدَ قِيَامِ أَمْرِهِ عَلَى سُنَنِ الِاسْتِقَامَةِ، وَالْبُعْدِ عَنْ إِحْدَاثَاتِ الظَّلَمَةِ إِلَى أَنْ يَنْقَضِيَ مُدَّةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَوَجْهَهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَهُ، وَقَدْ بَقِيَتْ مِنْ عُمُرِهِ صلى الله عليه وسلم خَمْسُ سِنِينَ أَوْ سِتٌّ، فَإِذَا انْضَمَّتْ إِلَى مُدَّةِ خِلَافَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَهِيَ ثَلَاثُونَ سَنَةً، كَانَتْ بَالِغَةً ذَلِكَ الْمَبْلَغَ، وَإِنْ كَانَ أَرَادَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَفِيهَا خَرَجَ أَهْلُ مِصْرَ وَحَصَرُوا عُثْمَانَ رضي الله عنه وَإِنْ كَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، فَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ الْجَمَلِ، وَإِنْ كَانَتْ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ، فَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ صِفِّينَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5408 -
عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللِّيثِيِّ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَرَجَ إِلَى غَزْوَةِ حُنَيْنٍ مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ، يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " سُبْحَانَ اللَّهِ هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5408 -
(عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللِّيثِيِّ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ قَدِيمُ الْإِسْلَامِ، عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ سَنَةً، وَمَاتَ بِهَا وَدُفِنَ بِفَجٍّ، (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَرَجَ إِلَى غَزْوَةِ حُنَيْنٍ) أَيْ: بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَمَعَهُ بَعْضُ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ حَدِيثًا، وَلَمْ يَتَعَلَّمْ مِنْ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ آيَةً وَلَا حَدِيثًا (مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ) أَيْ: وَيَعْكُفُونَ حَوْلَهَا، يُقَالُ لَهَا ذَاتُ أَنْوَاطٍ جَمْعُ نَوْطٍ، وَهُوَ مَصْدَرُ نَاطَهُ أَيْ عَلَّقَهُ، (فَقَالُوا) أَيْ: بَعْضُهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَكْمُلْ لَهُ مَرْتَبَةُ التَّوْحِيدِ وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى حَقِيقَةِ التَّفْرِيدِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ،