الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِأَنْ يَدْعُوَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِمُقَاتَلَتِكُمْ وَكَسْرِ شَوْكَتِكُمْ وَسَلْبِ مَا مَلَكْتُمُوهُ مِنَ الدِّيَارِ وَالْأَمْوَالِ (كَمَا تَدَاعَى) أَيْ: تَتَدَاعَى (الْأَكَلَةُ) بِالْمَدِّ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ عَلَى نَعْتِ الْفِئَةِ وَالْجَمَاعَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، كَذَا رَوَى لَنَا عَنْ كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَفْرَادِهِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله. وَلَوْ رُوِيَ الْأَكَلَةُ بِفَتْحَتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ آكِلٍ اسْمِ فَاعِلٍ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ، وَالْمَعْنَى: كَمَا يَدْعُو أَكَلَةُ الطَّعَامِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا (إِلَى قَصْعَتِهَا) أَيِ: الَّتِي يَتَنَاوَلُونَ مِنْهَا بِلَا مَانِعٍ وَلَا مُنَازِعٍ، فَيَأْكُلُونَهَا عَفْوًا صَفْوًا، كَذَلِكَ يَأْخُذُونَ مَا فِي أَيْدِيكُمْ بِلَا تَعَبٍ يَنَالُهُمْ، أَوْ ضَرَرٍ يَلْحَقُهُمْ، أَوْ بَأْسٍ يَمْنَعُهُمْ.
(فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ) : خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَقَوْلُهُ:(نَحْنُ يَوْمَئِذٍ) : مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ صِفَةٌ لَهَا، أَيْ: أَذَلِكَ التَّدَاعِي لِأَجْلِ قِلَّةٍ نَحْنُ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ (قَالَ: " بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثْرَةٌ ") أَيْ: عَدَدًا وَقَلِيلٌ مَدَدًا، وَهَذَا مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ بِقَوْلِهِ:(" وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ ") بِالضَّمِّ مَمْدُودًا.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: (" كَغُثَاءِ السَّيْلِ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ بِالتَّشْدِيدِ أَيْضًا مَا يَحْمِلُهُ السَّيْلُ مِنْ زَبَدٍ وَوَسَخٍ، شَبَّهَهُمْ بِهِ لِقِلَّةِ شَجَاعَتِهِمْ، وَدَنَاءَةِ قَدْرِهِمْ، وَخِفَّةِ أَحْلَامِهِمْ، وَخُلَاصَتُهُ: وَلَكِنَّكُمْ تَكُونُونَ مُتَفَرِّقِينَ، ضَعِيفِي الْحَالِ، خَفِيفِي الْبَالِ، مُشَتَّتِي الْآمَالِ، ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَهُ بِعَطْفِ الْبَيَانِ فَقَالَ:(وَلَيَنْزِعَنَّ) أَيْ: لَيُخْرِجَنَّ (اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ) أَيِ: الْخَوْفَ وَالرُّعْبَ (مِنْكُمْ) أَيْ: مِنْ جِهَتِكُمْ (" وَلَيَقْذِفَنَّ ") بِضَمِّ الْيَاءِ أَيْ: وَلَيَرْمِيَنَّ أَيِ: اللَّهُ (" فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ ") أَيِ: الضَّعْفَ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْوَهْنِ مَا يُوجِبُهُ ; وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ بِحُبِّ الدُّنْيَا وَكَرَاهَةِ الْمَوْتِ حَيْثُ قَالَ:(قَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا الْوَهْنُ) ؟ أَيْ مَا سَبَبُهُ وَمَا مُوجِبُهُ؟ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: سُؤَالٌ عَنْ نَوْعِ الْوَهْنِ، أَوْ كَأَنَّهُ أَرَادَ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ يَكُونُ ذَلِكَ الْوَهْنُ (قَالَ:" حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهَةُ الْمَوْتِ ") وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ فَكَأَنَّهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، يَدْعُوهُمْ إِلَى إِعْطَاءِ الدَّنِيَّةِ فِي الدِّينِ مِنَ الْعَدُوِّ الْمُبِينِ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَقَدِ ابْتُلِينَا بِذَلِكَ، فَكَأَنَّمَا نَحْنُ الْمَيِّتُونَ بِمَا ذُكِرَ هُنَالِكَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، أَيْ فِي سُنَنِهِ (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ ") .
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5370 -
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: " مَا ظَهَرَ الْغُلُولُ فِي قَوْمٍ إِلَّا أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَلَا فَشَا الزِّنَا فِي قَوْمٍ إِلَّا كَثُرَ فِيهِمُ الْمَوْتُ، وَلَا نَقَصَ قَوْمُ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا قَطَعَ عَنْهُمُ الرِّزْقَ، وَلَا حَكَمَ قَوْمٌ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الدَّمُ، وَلَا خَتَرَ قَوْمٌ بِالْعَهْدِ إِلَّا سُلِّطَ عَلَيْهِمُ الْعَدُوُّ ". رَوَاهُ مَالِكٌ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5370 -
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) أَيْ: مَوْقُوفًا (قَالَ: " مَا ظَهَرَ الْغُلُولُ ") بِالضَّمِّ أَيْ: خِيَانَةُ الْمَغْنَمِ (" فِي قَوْمٍ إِلَّا أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ") بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَضَمِّهَا أَيْ: خَوْفَ الْعَدُوِّ (" وَلَا فَشَا الزِّنَا ") أَيِ: انْتَشَرَ (" فِي قَوْمٍ إِلَّا كَثُرَ فِيهِمُ الْمَوْتُ ") أَيْ: بِالْوَبَاءِ أَوِ الطَّاعُونِ أَوْ مَوْتِ الْقَلْبِ أَوْ مَوْتِ الْعُلَمَاءِ (" وَلَا نَقَصَ قَوْمٌ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ") أَيْ: وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا كَالذِّرَاعِ وَالْعَدَدِ مِنْ طَرِيقِ الْغِشِّ وَالْخَدِيعَةِ (" إِلَّا قَطَعَ عَنْهُمُ الرِّزْقَ ") أَيِ: الْحَلَالَ أَوْ بَرَكَةَ الرِّزْقِ الَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ (" وَلَا حَكَمَ قَوْمٌ ") أَيْ: مِنَ الْحُكَّامِ (" بِغَيْرِ حَقٍّ ") أَيْ: بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ أَوْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فِي أَحْكَامِهِمُ الْفَاسِدَةِ، بَلْ آرَائِهِمُ الْكَاسِدَةِ (" إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الدَّمُ ") أَيِ: الْقَتْلُ، وَالْمُرَادُ مَا يَنْجَرُّ إِلَيْهِ (" وَلَا خَتَرَ ") بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَوْقِيَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32] أَيْ: غَدَرَ (" قَوْمٌ بِالْعَهْدِ ") أَيْ: يَنْقُضُهُ خَدِيعَةً رَجَاءَ الْغَلَبَةِ (" إِلَّا سُلِّطَ ") بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: بِتَسْلِيطِ اللَّهِ (" عَلَيْهِمُ الْعَدُوُّ ". رَوَاهُ مَالِكٌ) أَيْ: فِي بَابِ مَا جَاءَ فِي الْغُلُولِ مِنَ الْمُوَطَّأِ.
[بَابُ التَّحْذِيرِ مِنَ الْفِتَنِ]
[8]
بَابُ التَّحْذِيرِ مِنَ الْفِتَنِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5371 -
ــ
[8]
بَابُ التَّحْذِيرِ مِنَ الْفِتَنِ
كَذَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ مِنْ غَيْرِ تَرْجَمَةٍ وَهُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوِ الْبَاءُ سَاكِنٌ عَلَى الْوَقْفِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بَابٌ فِي ذِكْرِ الْإِنْذَارِ وَالتَّحْذِيرِ، أَيْ: التَّخْوِيفُ وَالتَّذْكِيرُ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5371 -
(عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ) بِضَمِّ الْمِيمِ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَكَانَ صَدِيقًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِيمًا، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَهُوَ تَمِيمِيٌّ يُعَدُ فِي الْبَصْرِيِّينَ، (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ) أَيِ: الْمَعْرُوفَةُ أَوْ فِي مَوْعِظَتِهِ (" أَلَا ") بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (" إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي ") : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَيَانِ " مَا " أَوْ تَبْعِيضِيَّةٍ عَلَى أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ خَبَرٌ لِمَا بَعْدَهُ مُسْتَأْنَفٌ، أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ مَا عَلَّمَنِي (" يَوْمِي هَذَا ") أَيْ: بِمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ فِي هَذَا الْيَوْمِ بِخُصُوصِهِ (كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ) أَيْ: أَعْطَيْتُهُ (عَبْدًا) أَيْ: مِنْ عِبَادِي وَمَلَّكْتُهُ إِيَّاهُ، فَلَا يَدْخُلُ الْحَرَامُ (حَلَالٌ) أَيْ: فَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُحَرِّمَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَيَمْنَعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ فِي أَمْلَاكِهِمْ، وَهَذَا مِنْ مَقُولِ اللَّهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:(وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ) أَيْ: مُسْتَعِدِّينَ لِقَبُولِ الْحَقِّ وَمَائِلِينَ إِلَيْهِ عَنِ الْبَاطِلِ (كُلَّهُمْ) أَيْ: جَمِيعُهُمْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» " وَهِيَ التَّوْحِيدُ الْمُطْلَقُ، وَمَا بِهِ يَتَعَلَّقُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] أَيْ: لَا تُبَدِّلُوا مَخْلُوقَاتِهِ بِالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ وَنَحْوِهَا: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة: 36] أَيِ الْمُسْتَقِيمِ، فَلَا تَعْدِلُوا عَنِ الْجَادَّةِ إِلَى الطَّرِيقِ الزَّائِغَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] أَيْ: عَنْ طَرِيقِهِ الْحَقِيقِيِّ الْوَاصِلِ إِلَيْهِ، الْمَقْبُولِ لَدَيْهِ لِمَنْ أَرَادَ الْمِنَّةَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 9]، ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَ ضَلَالَةِ الْخَلَقِ وَغَوَايَتِهِمْ عَنِ الْحَقِّ بِقَوْلِهِ:(وَإِنَّهُمْ) أَيْ: عِبَادِي الْحُنَفَاءُ (أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ)، أَيْ جَاءُوهُمْ بِالْوَسْوَسَةِ (فَاجْتَالَتْهُمْ) أَيْ: صَرَفَتْهُمْ وَسَاقَتْهُمْ مَائِلِينَ (عَنْ دِينِهِمْ) مِنِ اجْتَالَهُ أَيْ سَاقَهُ وَذَهَبَ بِهِ، وَقِيلَ: الِافْتِعَالُ بِهَا لِلْحَمْلِ عَلَى الْفِعْلِ، كَاخْتَطَبَ زَيْدٌ عُمَرَ أَيْ حَمَلَهُ عَلَى الْخُطْبَةِ، فَالْمَعْنَى: حَمَلَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَلَى جَوَلَانِهِمْ وَمَيَلَانِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ (وَحَرَّمَتْ) أَيْ: الشَّيَاطِينُ (عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ) أَيْ: مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَتَوْضِيحُهُ مَا حَقَّقَهُ الْقَاضِي حَيْثُ قَالَ: قَوْلُهُ كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ حِكَايَةُ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَوْحَى إِلَيْهِ فِي يَوْمِهِ هَذَا، وَالْمَعْنَى: مَا أَعْطَيْتُ عَبْدًا مِنْ مَالٍ فَهُوَ حَلَالٌ لَهُ، لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الْحَرَامُ رِزْقًا، لِأَنَّ كُلَّ رِزْقٍ سَاقَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى عَبْدِهِ نَحَلَهُ وَأَعْطَاهُ، وَكُلُّ مَا نَحَلَهُ وَأَعْطَاهُ فَهُوَ حَلَالٌ، فَيَكُونُ كُلُّ رِزْقٍ رَزَقَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ هُوَ حَلَالٌ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا لَيْسَ بِحَلَالٍ لَيْسَ بِرِزْقٍ ; لِأَنَّا نَقُولُ: الرِّزْقُ أَعَمُّ مِنَ الْإِعْطَاءِ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ، وَلِذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَعْطَتْهُ أَلْفًا بَانَتْ وَدَخَلَ الْأَلْفُ فِي مِلْكِهِ، وَلَا كَذَلِكَ الرِّزْقُ، (وَأَمَرَتْهُمْ) أَيِ: الشَّيَاطِينُ لَهُمْ (أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا) أَيْ: إِشْرَاكًا أَوْ شَيْئًا (لَمْ أُنْزِلْ بِهِ) أَيْ: بِوُجُودِهِ (سُلْطَانًا) أَيْ: حُجَّةً وَبُرْهَانًا سُمِّيَتْ بِهِ لِتَسَلُّطِهِ عَلَى الْقُلُوبِ عِنْدَ هُجُومِ الْخَوَاطِرِ عَلَيْهَا بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَالْمَعْنَى: مَا لَيْسَ عَلَى إِشْرَاكِهِ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ وَلَا نَقْلِيٌّ ; إِذْ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا لَبَيَّنَهُ سبحانه وتعالى،
بَلِ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ حَيْثُ قَالَ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] وَالْقُرْآنُ مَشْحُونٌ بِالْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ تَعَالَى، قَالَ الْقَاضِي: هُوَ مَفْعُولُ يُشْرِكُوا يُرِيدُ بِهِ الْأَصْنَامَ، وَسَائِرَ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَيْ: أَمَرَتْهُمْ بِالْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ بِعِبَادَةِ مَا لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ بِعِبَادَتِهِ، وَلَمْ يَنْصَبْ دَلِيلًا عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا أَيْ: لَا إِنْزَالَ سُلْطَانٍ وَلَا شَرِيكَ عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ:
عَلَى لَا حُبَّ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ
أَيْ: لَا مَنَارَ وَلَا اهْتِدَاءَ بِهِ، وَقَوْلِهِ:
وَلَا يَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرُ
أَيْ: لَا ضَبَّ وَلَا انْحِجَارَ، نَفْيًا لِلْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، أَيِ: الْقَيْدُ وَالْمُقَيَّدُ، وَقِيلَ: هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، إِذْ لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُنْزِلَ بُرْهَانًا أَنْ يُشْرِكَ بِهِ غَيْرَهُ، (" وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ ") أَيْ: رَآهُمْ وَوَجَدَهُمْ مُتَّفِقِينَ عَلَى الشِّرْكِ مُنْهَمِكِينَ فِي الضَّلَالَةِ (" فَمَقَتَهُمْ ") أَيْ: أَبْغَضَهُمْ (" عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ ") : بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَجَمِ غَيْرُ الْعَرَبِ، وَالْمَعْنَى أَبْغَضُهُمْ بِسُوءِ صَنِيعِهِمْ وَخُبْثِ عَقِيدَتِهِمْ وَاتِّفَاقِهِمْ قَبْلَ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الشِّرْكِ، وَانْغِمَاسِهِمْ فِي الْكُفْرِ، قَوْمُ مُوسَى عليه السلام كَفَرُوا بِعِيسَى، وَعَبَدُوا عُزَيْرًا، وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، وَقَوْمُ عِيسَى ذَهَبُوا إِلَى التَّثْلِيثِ، أَوْ إِلَى أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، (" إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ") أَيْ: مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى تَبَرَّأُوا عَنِ الشِّرْكِ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ جَمَاعَةٌ مِنْ قَوْمِ عِيسَى بَقُوا مُتَابَعَتَهُ إِلَى أَنْ آمَنُوا بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (" وَقَالَ ") أَيِ اللَّهُ تَعَالَى:(إِنَّمَا بَعَثْتُكَ) أَيْ: أَرْسَلْتُكَ يَا مُحَمَّدُ (لِأَبْتَلِيَكَ) أَيْ: لِأَمْتَحِنَكَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى إِيذَاءِ قَوْمِكَ إِيَّاكَ (وَأَبْتَلِيَ بِكَ) أَيْ: قَوْمُكَ هَلْ يُؤْمِنُونَ بِكَ أَمْ يَكْفُرُونَ (وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا) أَيْ: عَظِيمًا، وَهُوَ الْقُرْآنُ (لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ)، أَيْ: لَمْ نَكْتَفِ بِإِيدَاعِهِ الْكُتُبَ فَيَغْسِلُهُ الْمَاءُ، بَلْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا مَحْفُوظًا فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى:{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49] وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] أَوِ الْمُرَادُ بِالْغَسْلِ النَّسَخُ، وَالْمَاءُ مَثَلٌ، أَيْ: لَا يَنْزِلُ بَعْدَهُ كِتَابٌ يَنْسَخُهُ، وَلَا نَزَلَ قَبْلَهُ كِتَابٌ يُبْطِلُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ} [فصلت: 42] .
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ: كِتَابًا مَحْفُوظًا فِي الْقُلُوبِ لَا يَضْمَحِلُّ بِغَسْلِ الْقَرَاطِيسِ، أَوْ كِتَابًا مُسْتَمِرًّا مُتَدَاوَلًا بَيْنَ النَّاسِ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ لَا يُنْسَخُ وَلَا يُنْسَى بِالْكُلِّيَّةِ، وَعَبَّرَ عَنْ إِبْطَالِ حُكْمِهِ، وَتَرْكِ قِرَاءَتِهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ بِغَسْلِ أَوْرَاقِهِ بِالْمَاءِ، عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، أَوْ كِتَابًا وَاضِحًا آيَاتُهُ، بَيِّنًا مُعْجِزَاتُهُ، لَا يُبْطِلُهُ جَوْرُ جَائِرٍ، وَلَا يَدْحَضُهُ شُبْهَةُ مُنَاظِرٍ، فَمِثْلُ الْإِبْطَالِ مَعْنَى بِالْإِبْطَالِ صُورَةً، وَقِيلَ: كُنِيَ بِهِ عَنْ غَزَارَةِ مَعْنَاهِ وَكَثْرَةِ جَدْوَاهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَالُ فُلَانٍ لَا يُفْنِيهِ الْمَاءُ أَوِ النَّارُ، وَقَوْلُهُ:(" تَقْرَؤُهُ ") أَيْ: أَنْتَ (نَائِمًا وَيَقْظَانَ) بِسُكُونِ الْقَافِ، وَالْمَعْنَى: يَصِيرُ لَكَ مِلْكَةً بِحَيْثُ يَحْضُرُ فِي ذِهْنِكَ وَتَلْتَفِتُ إِلَيْهِ نَفْسُكَ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ، فَلَا تَغْفُلُ عَنْهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ، وَقَدْ يُقَالُ لِلْقَادِرِ عَلَى الشَّيْءِ الْمَاهِرِ بِهِ هُوَ يَفْعَلُهُ بِالْمَاءِ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله، وَخُلَاصَتُهُ: أَنَّهُ فِي قَلْبِكَ وَأَنْتَ نَائِمٌ، وَأَقُولُ: لَا احْتِيَاجَ إِلَى التَّأْوِيلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَلْبِهِ الْجَلِيلِ، لِأَنَّهُ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَقَدْ شُوهِدَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ صَغِيرًا وَكَبِيرًا أَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ وَهُمْ نَائِمُونَ.
وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا مَا حَكَى بَعْضُ الْمُرِيدِينَ أَنَّهُ وَشَيْخَهُ كَانَا يَتَدَارَسَانِ وَقْتَ السَّحَرِ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عُشْرًا عُشْرًا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَتَاهُ الْمُرِيدُ وَقْتَ السَّحَرِ عَلَى عَادَتِهِ عِنْدَ قَبْرِهِ، وَأَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ وِرْدَهُ، فَلَمَّا تَمَّ
الْعُشْرَ سَمَعَ مِنَ الْقَبْرِ صَوْتَ شَيْخِهِ أَنَّهُ قَرَأَ عُشْرًا وَسَكَتَ، وَهَكَذَا كَانَ الْأَمْرُ مُسْتَمِرًّا، إِلَى أَنَّهُ حَكَى الْمُرِيدُ الْقَضِيَّةَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَوَقَعَ تَحْتَ حِجَابِهِ وَنَظِيرِهِ سَمَاعُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ صَوْتَ الْأَذَانِ مِنَ الضَّرِيحِ الْأَنْوَرِ أَيَّامَ فِتْنَةِ يَزِيدَ فِي الْمَدِينَةِ الْمُعَظَّمَةِ حَيْثُ لَمْ يَبْقَ فِي الْمَسْجِدِ أَحَدٌ إِلَّا سَعِيدًا، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ شَيْخٌ مَجْنُونٌ، (" وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ ") أَيْ: أَهْلِكَ (" قُرَيْشًا ") أَيْ: كُفَّارَهُمْ (" فَقُلْتُ: رَبِّ ") ! أَيْ: يَا رَبِّ (" إِذًا ") : بِالتَّنْوِينِ (يَثْلَغُوا) بِفَتْحِ اللَّامِ، أَيْ: يَشْدَخُوا وَيَكْسِرُوا (" رَأْسِي، فَيَدَعُوهُ ") بِفَتْحِ الدَّالِ، أَيْ: رَأْسِي (" خُبْزَةً ") أَيْ: فَيَتْرُكُوهُ بِالشَّدْخِ بَعْدَ الشَّكْلِ الْكُرَوِيِّ مُصَحَّفًا مِثْلَ خُبْزَةٍ (" قَالَ ") أَيْ: اللَّهُ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اسْتَخْرِجْهُمْ) أَيْ: قُرَيْشًا، وَالْمُرَادُ كُفَّارُهُمْ (كَمَا أَخْرَجُوكَ) أَيْ: كَإِخْرَاجِهِمْ إِيَّاكَ جَزَاءً وِفَاقًا، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْإِخْرَاجِينِ بَوْنٌ بَيِّنٌ، فَإِنَّ إِخْرَاجَهُمْ إِيَّاهُ بِالْبَاطِلِ، وَإِخْرَاجَهُ إِيَّاهُمْ بِالْحَقِّ (وَاغْزُهُمْ) أَيْ: وَجَاهِدْهُمْ، فَالْوَاوُ بِمُطْلِقِ الْجَمْعِ، فَإِنَّ الْقِتَالَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِخْرَاجِ (نُغْزِكَ) بِضَمِّ النُّونِ مِنْ أَغْزَيْتَهُ إِذَا جَهَّزْتَهُ لِلْغَزْوِ وَهَيَّأْتَ لَهُ أَسْبَابَهُ (وَأَنْفِقْ) أَيْ: مَا فِي جُهْدِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (فَسَنُنْفِقُ عَلَيْكَ) أَيْ: نُخْلِفُ عَلَيْكَ بَدَلَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْأَخَرَةِ، قَالَ تَعَالَى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39] وَفِيهِ وَعْدٌ وَتَسْلِيَةٌ (وَابْعَثْ) أَيْ: أَرْسِلْ أَنْتَ (جَيْشًا) أَيْ: كَبِيرًا وَصَغِيرًا (نَبْعَثْ خَمْسَةً) أَيْ: مِقْدَارَ خَمْسَةٍ (مِثْلَهُ) بِالنَّصْبِ، وَالْمَعْنَى: نَبْعَثُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ خَمْسَةَ أَمْثَالٍ تُعِينُهُمْ كَمَا فَعَلَ بِبَدْرٍ، قَالَ تَعَالَى:{بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَئِذٍ أَلْفًا وَالْمُسْلِمُونَ ثَلَاثَمِائَةٍ (وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ) أَيْ: بِمَعُونَتِهِ أَوْ مَعَهُ (مَنْ عَصَاكَ) أَيْ: بِعَدَمِ الْإِيمَانِ بِكَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5372 -
وَفِي رِوَايَةٍ: نَادَى: " «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ! إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ رَأَى الْعَدُوَّ فَانْطَلَقَ يَرْبَأُ أَهْلَهُ، فَخَشِيَ أَنْ يَسْبِقُوهُ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ: يَا صَبَاحَاهُ!» ".
ــ
5372 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] صَعِدَ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَهُوَ جَوَابُ لَمَّا، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَصَعِدَ بِالْفَاءِ فَلَا وَجْهَ لَهُ، أَيْ: طَلَعَ (النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّفَا) وَهُوَ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ بِمَكَّةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ (فَجَعَلَ) أَيْ: فَشَرَعَ (النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنَادِي) أَيْ: قَبَائِلَ الْعَرَبِ (يَا بَنِي فِهْرٍ) بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ: قَبِيلَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ، عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ (يَا بَنِي عَدِيٍّ) وَهُمْ قَبِيلَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَيْضًا، عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، فَقَوْلُهُ:(لِبُطُونِ قُرَيْشٍ) فِيهِ إِشْكَالٌ ; إِذِ الْبَطْنُ دُونَ الْقَبِيلَةِ أَوْ دُونَ الْفَخِذِ وَفَوْقَ الْعِمَارَةِ، وَالْقَبِيلَةُ وَاحِدُ قَبَائِلِ الرَّأْسِ لِقَطَعِ الشُّعُوبِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ قَبَائِلُ الْعَرَبِ وَاحِدُهُمْ قَبِيلَةٌ، وَهُمْ بَنُو أَبٍ وَاحِدٍ، كَذَا فِي الْقَامُوسِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَبِيلَةَ بِمَنْزِلَةِ الْجِنْسِ، وَالْبَطْنَ بِمَنْزِلَةِ النَّوْعِ، وَالْفَخِذَ بِمَنْزِلَةِ الْفَصْلِ، وَقَدْ يُسْتَعَارُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: اللَّامُ فِيهِ بَيَانٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] كَأَنَّهُ قِيلَ لِمَنْ قِيلَ لِبُطُونِ قُرَيْشٍ (حَتَّى اجْتَمَعُوا) أَيْ: مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَبَطْنٍ جُمِعَ (فَقَالَ: " أَرَأَيْتَكُمْ ") بِفَتْحِ التَّاءِ، وَيَجُوزُ تَحْقِيقُ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ وَتَسْهِيلُهَا وَإِبْدَالُهَا وَحَذْفُهَا، وَالْمَعْنَى: أَخْبِرُونِي، وَتَحْقِيقُهُ مَا ذَكَرَ الطِّيبِيُّ رحمه الله مِنْ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمُتَّصِلَ الْمَرْفُوعَ مِنَ الْخِطَابِ الْعَامِّ، وَالضَّمِيرُ الثَّانِي لَا مَحَلَّ لَهُ وَهُوَ كَالْبَيَانِ لِلْأَوَّلِ ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ بِمَنْزِلَةِ الْجِنْسِ الشَّائِعِ فِي الْمُخَاطَبِينَ، فَيَسْتَوِي فِيهِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ، وَالْإِفْرَادُ وَالْجَمْعُ، فَإِذَا أُرِيدَ بَيَانُهُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ بُيِّنَ بِهِ، فَأَتَى فِي الْحَدِيثِ بِعَلَامَةِ الْجَمْعِ بَيَانًا لِلْمُرَادِ، انْتَهَى. فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ فَإِنْ رَأَيْتُمْ فَأَعْلِمُونِي (لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا) أَيْ: جَيْشًا (بِالْوَادِي) أَيْ: نَزَلَ بِهِ، قَالَ شَارِحٌ: وَهُوَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ بِقُرْبِ مَكَّةَ، وَكَأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْوَادِي الْمَشْهُورُ
بِوَادِي فَاطِمَةَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ شَرَّفَهَا اللَّهُ (تُرِيدُ) أَيِ: الْخَيْلُ (أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ) : مِنَ الْإِغَارَةِ، وَهِيَ النَّهْبُ وَالْبَيُّوتَةُ بِالْغَفْلَةِ يَعْنِي أَصْحَابَهَا عَلَى أَحَدِ الْمَجَازَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، (أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ) ؟ أَيْ مُصَدِّقِينَ لِي فِي قَوْلِي (قَالُوا: نَعَمْ) أَيْ: كُنَّا نُصَدِّقُكَ ; وَسَبَبُهُ أَنَّا فِي جَمِيعِ عُمْرِنَا (مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا) .
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: ضُمِّنَ جَرَّبَ مَعْنَى الْإِلْقَاءِ وَعَدَّاهُ بِعَلَى أَيْ: مَا أَلْقَيْنَا عَلَيْكَ قَوْلًا مُجَرِّبِينَ لَكَ فِيهِ هَلْ تَكْذِبُ فِيهِ أَمْ لَا، مَا سَمِعْنَاهُ مِنْكَ إِلَّا صِدْقًا (قَالَ:" فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ") أَيْ: قَبْلَ نُزُولِ عَذَابٍ عَظِيمٍ وَعِقَابٍ أَلِيمٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِي يَنْزِلْ عَلَيْكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله قَوْلُهُ: بَيْنَ يَدَيْ ظَرْفٌ لِغَدٍ نَذِيرٌ، وَهُوَ بِمَعْنَى قُدَّامَ ; لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَكُونُ قُدَّامَ أَحَدٍ يَكُونُ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ الْمُسَامَتَتَيْنِ لِيَمِينِهِ وَشَمَالِهِ، وَفِيهِ تَمْثِيلٌ، مِثْلَ إِنْذَارِهِ الْقَوْمَ بِعَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى النَّازِلِ عَلَى الْقَوْمِ بِنَذِيرِ قَوْمٍ يَتَقَدَّمُ جَيْشَ الْعَدُوِّ فَيُنْذِرُهُمْ، (فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ) : مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ عَمُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (تَبًّا لَكَ) أَيْ: خُسْرَانًا وَهَلَاكًا، وَنَصْبُهُ بِعَامِلٍ مُضْمِرٍ، قَالَهُ الْقَاضِي، فَهُوَ إِمَّا نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالْمَعْنَى: تَبَّ تَبًّا، أَوْ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ: أَلْزَمَكَ اللَّهُ هَلَاكًا وَخُسْرَانًا وَأَلْزَمَ تَبًّا لَكَ (سَائِرَ الْيَوْمَ) أَيْ: وَبَاقِي الْأَوْقَاتِ أَوْ فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ.
قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: مَنْ ذَهَبَ فِي " سَائِرِ " إِلَى الْبَقِيَّةِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُصِيبٍ ; لِأَنَّ الْحَرْفَ مِنَ السَّيْرِ لَا مِنَ السُّورِ، وَفِي أَمْثَالِهِمْ فِي الْيَأْسِ مِنَ الْحَاجَةِ: أَسَائِرٌ الْيَوْمَ وَقَدْ زَالَ الظَّهْرُ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: السَّائِرُ مَهْمُوزٌ: الْبَاقِي، وَالنَّاسُ يَسْتَعْمِلُونَ فِي مَعْنَى الْجَمِيعِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَقَدْ تَكَرَّرَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي الْحَدِيثِ، وَكُلُّهَا بِمَعْنَى بَاقِي الشَّيْءِ، وَيَدُلُّ عَلَى تَصْحِيحِ مَا فِي النِّهَايَةِ مَا فِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ، فَإِنَّهُ أَوْرَدَهُ فِي بَابِ السِّينِ مَعَ الْهَمْزَةِ قَائِلًا: سَارَ الشَّارِبُ فِي الْإِنَاءِ سُورًا وَسُورَةً أَيْ: بَقِيَّةً، وَفَى الْمَثَلِ: أَسَائِرٌ الْيَوْمَ، وَقَدْ زَالَ الظَّهْرُ، انْتَهَى كَلَامُهُ، فَعَلَى هَذَا: الْمُرَادُ بِسَائِرِ الْيَوْمِ بَقِيَّةُ الْأَيَّامِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، فِي الْقَامُوسِ: السُّؤْرُ الْبَقِيَّةُ وَالْفَضْلَةُ، وَأَسْأَرَ أَبْقَاهُ كَسَأْرٍ كَمَنْعٍ وَالْفَاعِلُ فِيهَا سَائِرٌ وَالْقِيَاسُ مُسْئِرٌ، وَيَجُوزُ وَالسَّائِرُ الْبَاقِي لَا الْجَمِيعُ كَمَا تَوَهَّمَ جَمَاعَاتٌ، أَوْ قَدْ يُسْتَعْمَلُ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَحْوَصِ:
فَجَلَّتْهَا لَنَا لُبَابَةُ لَمَّا وَفَدَ الْقَوْمُ سَائِرَ
وَضَافَ أَعْرَابِيُّ قَوْمًا فَأَمَرُوا الْجَارِيَةَ بِتَطْيِيبِهِ، فَقَالَ: بَطْنِي عَطِّرِي وَسَائِرِي ذَرِي. وَأُغِيرَ عَلَى قَوْمٍ فَاسْتَصْرَخُوا بَنِي عَمِّهِمْ فَأَبْطَأُوا عَنْهُمْ حَتَّى أُسِرُوا، وَذُهِبَ بِهِمْ، ثُمَّ جَاءُوا يَسْأَلُونَ عَنْهُمْ فَقَالَ لَهُمُ الْمَسْئُولُ: أَسَائِرٌ الْيَوْمَ وَقَدْ زَالَ الظَّهْرُ، أَيْ: تَطْمَعُونَ فِيمَا بَعْدَ وَقَدْ تَبَيِّنَ لَكُمُ الْيَأْسُ ; لِأَنَّ مَنْ كَانَتْ حَاجَتُهُ الْيَوْمَ بِأَسْرِهِ وَزَالَ الظَّهْرُ وَجَبَ أَنْ يَيْأَسَ مِنْهَا بِالْغُرُوبِ، (أَلِهَذَا) أَيْ: هَذَا الِاسْتِخْبَارُ وَالْإِخْبَارُ (جَمَعْتَنَا) ؟ أَيْ بِالْمُنَادَاةِ (فَنَزَلَتْ: تَبَتْ أَيْ هَلَكَتْ وَخَسِرَتْ {يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] بِفَتْحِ الْهَاءِ وَيُسَكَّنُ أَيْ: نَفْسُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] أَيْ: بِأَنْفُسِكُمْ وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمَا دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ، وَقِيلَ: إِنَّمَا خُصَّتَا لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: أَلِهَذَا دَعَوْتَنَا؟ أَخَذَ حَجَرًا لِيَرْمِيَهُ بِهِ فَنَزَلَتْ، إِنَّمَا كَنَّاهُ وَالْكُنْيَةُ تَكْرِمَةٌ لِاشْتِهَارِهِ بِكُنْيَتِهِ ; أَوْ لِأَنَّ اسْمَهُ عَبْدُ الْعُزَّى فَاسْتَكْرَهَ ذِكْرَهُ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ كَانَتِ الْكُنْيَةُ أَوْفَقَ بِحَالِهِ، وَإِنْ كَانَ كُنِّيَ لِكَمَالِ جَمَالِهِ، وَقُرِئَ أَبُو لَهَبٍ كَمَا قِيلَ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَصَرَ عَلَى الْوَاوِ فِي الْأَسْمَاءِ السِّتَّةِ، كَمَا قَصَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْأَلْفِ فِيهَا كَقَوْلِهِ: إِنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا، وَتَبَّ: إِخْبَارٌ بَعْدَ خَبَرٍ لِلتَّأْكِيدِ، وَالتَّعْبِيرِ بِالْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، أَوِ الْأَوَّلُ دُعَاءٌ وَالثَّانِي إِخْبَارٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
(وَفَّى رِوَايَةٍ) قَالَ مِيرَكُ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ (نَادَى: " يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ ") هُوَ أَخُو هَاشِمٍ وَعَبْدِ شَمْسٍ وَالْمُطَّلِبِ، وَمَنَافٌ صَنَمٌ، كَذَا فِي الْقَامُوسِ، (إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ رَأَى الْعَدُوَّ) أَيْ: بِعَيْنِهِ (فَانْطَلَقَ) أَيْ: ذَهَبَ مُسْرِعًا (" يَرْبَأُ ") بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالْهَمْزَةِ أَيْ: يَحْفَظُ مِنَ الْعَدْوِ (" أَهْلَهُ ") أَيْ: قَوْمَهُ، وَيَرْقُبُهُمْ بِقِتَالِهِمْ عَلَى مَوْضِعٍ عَالٍ.
(" فَخَشِيَ ") أَيْ: الرَّجُلُ (" أَنْ يَسْبِقُوهُ ") أَيْ: يَسْبِقُ الْعَدُوُّ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَصِلُوا إِلَى الْقَوْمِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِمْ بِنَفْسِهِ (" فَجَعَلَ ") أَيْ: فَشَرَعَ (يَهْتِفُ) بِكَسْرِ التَّاءِ أَيْ: يَصِيحُ وَيُنَادِي مِنْ أَعْلَى جَبَلٍ، وَرُبَّمَا يَجْعَلُ ثَوْبَهُ عَلَى يَدِهِ، أَوْ عَلَى خَشَبٍ يَرْفَعُهُ لِزِيَادَةِ الْإِعْلَامِ، وَمِنْهُ النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ، أَوْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ خُلُوِّهِ مِنَ الْعَرْضِ، أَوْ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ أُخِذَ وَسُلِبَ عَنْهُ ثَوْبُهُ وَهَرَبَ مِنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ كُلُّ أَحَدٍ يُصَدِّقُهُ فِي قَوْلِهِ:(" يَا صَبَاحَاهْ ") بِسُكُونِ الْهَاءِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْغَارَةُ غَالِبًا تَكُونُ فِي الصَّبَاحِ خُصَّتْ بِهِ، وَلَوْ كَانَتْ فِي الْمَسَاءِ أَيْضًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، فَهِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ لِإِنْذَارِ أَمْرٍ مَخُوفٍ، وَالْمَعْنَى: يَا قَوْمِ احْذَرُوا الْإِغَارَةَ بِالذَّهَابِ قَبْلَ مَجِيءِ الْعَدُوِّ، فَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: احْذَرُوا عِقَابَ اللَّهِ بِالْإِيمَانِ قَبْلَ نُزُولِهِ.
5373 -
وَفَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ قَالَ: " يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ! لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ! لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ! سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ". الْفَصْلُ الثَّانِي
ــ
5373 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] دَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرَيْشًا) أَيْ قَبَائِلَهُ (فَاجْتَمَعُوا، فَعَمَّ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النِّدَاءِ بِمَا ذَكَرَهُ (وَخَصَّ)، ثُمَّ بَيَّنَ الرَّاوِي كَيْفِيَّةَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ بِقَوْلِهِ:(فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ!) بِضَمِّ لَامٍ وَفَتْحِ هَمْزَةٍ، وَقَدْ يُبَدَّلُ وَاوًا فَتَحْتِيَّةً مُشَدَّدَةً، وَهُوَ ابْنُ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ (أَنْقِذُوا) بِفَتْحِ هَمْزَةٍ وَكَسْرِ قَافٍ أَيْ: خَلِّصُوا (" أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ ") بِضَمِّ مِيمٍ وَتَشْدِيدِ رَاءٍ أَيْ: أَبُو قَبِيلَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ (" «أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ! أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مُنَافٍ! أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ! أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلَبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ! أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ» ") خَتَمَ بِهَا ; لِأَنَّهَا خُلَاصَةُ قَوْمِهَا، ثُمَّ عَمَّ فِي تَبْرِيءِ إِنْقَاذِهِ إِيَّاهُمْ مِنَ النَّارِ بِغَيْرِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِقَوْلِهِ:(فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ) أَيْ: لِجَمِيعِكُمْ عَامِّكُمْ وَخَاصِّكُمْ (" مِنَ اللَّهِ ") أَيْ: مِنْ عَذَابِهِ (" شَيْئًا ") أَيْ: مِنَ الْمُلْكِ وَالْقُدْرَةِ وَالدَّفْعِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَالْمَعْنَى أَنِّي لَا أَقْدِرُ أَنْ أَدْفَعَ عَنْكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَكُمْ، وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:{قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} [الفتح: 11] بَلْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف: 188] وَهَذَا التَّوْحِيدُ عَلَى وِفْقِ التَّفْرِيدِ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَ قَدْ يَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ بِالشَّفَاعَةِ حَيْثُ يَشْفَعُ وَيُشَفَّعُ، لَكِنْ أَطْلَقَهُ تَرْهِيبًا لَهُمْ عَلَى الِاتِّكَالِ عَلَيْهِ وَتَرْغِيبًا لَهُمْ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي أَمْرِ زَادَ الْمَعَادَ، وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ:(" غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا ") أَيْ: قَرَابَةً (" سَأَبُلُّهَا ") بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَتَشْدِيدِ لَامٍ، أَيْ: سَأَصِلُهَا (" بِبِلَالِهَا ") بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَيُفْتَحُ، أَيْ: بِصِلَتِهَا وَبِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا،
وَمُجْمَلُهُ أَنْ سَأَصِلُ تِلْكَ الْقَرَابَةَ بِالشَّيْءِ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْأَقَارِبِ مِنَ الْإِحْسَانِ، وَدَفْعِ الظُّلْمِ وَالضُّرِّ عَنْهُمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَفِي النِّهَايَةِ: الْبِلَالُ جَمْعُ بَلَلٍ، وَالْعَرَبُ يُطْلِقُونَ النَّدَاوَةَ عَلَى الصِّلَةِ، كَمَا يُطْلَقُ الْيُبْسُ عَلَى الْقِطْعَةِ ; لِأَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ يَتَّصِلُ بِالنَّدَاوَةِ، وَيَحْصُلُ بَيْنَهَا التَّجَافِي وَالتَّفَرُّقُ بِالْيُبْسِ اسْتَعَارُوا الْبَلَلَ لِمَعْنَى الْوَصْلِ، وَالْيُبْسَ لِمَعْنَى الْقِطْعَةِ، وَالْمَعْنَى: أَصِلُكُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
(وَفَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ) : هَذَا مَوْجُودٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ)، أَيِ اعْتِقُوهَا وَخَلِّصُوهَا مِنَ النَّارِ بِالْإِيمَانِ وَتَرْكِ الْكُفْرَانِ وَبِالطَّاعَةِ لِمَا جِئْتُ بِهِ وَالِانْقِيَادِ لِمَا مَنَعْتُ مِنْهُ (لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) أَيْ: لَا أُبْعِدُ مِنْكُمْ وَلَا أَدْفَعُ عَنْكُمْ شَيْئًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ (يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ: لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ") بِالنَّصْبِ فِيهِمَا، وَفَى نُسْخَةٍ بِرَفْعِ عَبَّاسٍ (" لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا صَفِيَّةُ ") بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ بِخِلَافِ مَا قَبْلُهُ مِنْ أَلْفَاظِ النِّدَاءِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّعْدَادِ، وَصْفِيَّةُ مَرْفُوعَةٌ، وَقَوْلُهُ:(" عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ") مَنْصُوبَةٌ (" لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ") وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ! سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي) كَذَا فِي نُسَخٍ مِنْ مَوْصُولَةٌ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَرَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَالِ الْمَعْرُوفِ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِهِ عَمَّا يَمْلِكُهُ مِنَ الْأَمْرِ وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا أَنَّهُ كَانَ ذَا مَالٍ لَا سِيَّمَا بِمَكَّةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْكَلِمَتَيْنِ أَعْنِي (مِنْ وَمَا) وَقَعَ الْفَصْلُ فِيهِمَا مِنْ بَعْضِ مَنْ لَمْ يُحَقِّقْهُ مِنَ الرُّوَاةِ فَكَتَبَهُمَا مُنْفَصِلَتَيْنِ، انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ يَرُدُّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] أَيْ بِمَالِ خَدِيجَةَ رضي الله عنها عَلَى مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ، وَأَيْضًا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِ وُجُودِ الْمَالِ الْحَاضِرِ لِلْجَوَادِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ فِي الِاسْتِقْبَالِ، فَيُحْمَلُ الْوَعْدُ الْمَذْكُورُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ لِتَصْحِيحِ الدِّرَايَةِ تَعَيَّنَ عَدَمُ التَّخْطِئَةِ فِي الرِّوَايَةِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ، (" لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ") .
الْفَصْلُ الثَّانِي
5374 -
عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أُمَّتِي هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ، عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا: الْفِتَنُ وَالزَّلَازِلُ وَالْقَتْلُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
5374 -
(عَنْ أَبِي مُوسَى) أَيِ: الْأَشْعَرِيُّ رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُمَّتِي هَذِهِ ") أَيْ: أُمَّةُ الْإِجَابَةِ الْمَوْجُودَةُ ذِهْنًا الْمَعْهُودَةُ مَعْنًى، كَأَنَّهَا الْمَذْكُورَةُ حِسًّا (أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ) أَيْ: رَحْمَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ ; لِكَوْنِ نَبِيِّهِمْ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، بَلْ مُسَمًّى بِنَبِيِّ الرَّحْمَةِ وَهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ (لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ) أَيْ: شَدِيدٌ (فِي الْآخِرَةِ) بَلْ غَالِبُ عَذَابِهِمْ أَنَّهُمْ مَجْزِيُّونَ بِأَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِالْمِحَنِ، وَالْأَمْرَاضِ، وَأَنْوَاعِ الْبَلَايَا، كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَيُؤَيِّدُ قَوْلَهُ:(عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا الْفِتَنُ وَالزَّلَازِلُ وَالْقَتْلُ) أَيْ: بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقِيلَ: الْحَدِيثُ خَاصٌّ بِجَمَاعَةٍ لَمْ تَأْتِ كَبِيرَةً، وَيُمْكِنْ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى جَمَاعَةٍ خَاصَّةٍ مِنَ الْأُمَّةِ، وَهُمُ الْمُشَاهَدُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَوِ الْمَشِيئَةُ مُقَدَّرَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وَقَالَ الْمُظْهِرُ: هَذَا حَدِيثٌ مُشْكِلٌ ; لِأَنَّ مَفْهُومَهُ أَنْ لَا يُعَذَّبَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَوَاءٌ فِيهِ مَنِ ارْتَكَبَ الْكَبَائِرَ وَغَيْرُهُ، فَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِتَعْذِيبِ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُؤَوَّلَ الْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ هُنَا مَنِ اقْتَدَى بِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يَنْبَغِي، وَيَمْتَثِلُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ وَيَنْتَهِي عَمَّا نَهَاهُ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْحَدِيثُ وَارِدٌ فِي مَدْحِ أُمَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاخْتِصَاصِهِمْ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأُمَمِ بِعِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَحِمَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ إِنْ أُصِيبُوا بِمُصِيبَةٍ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى الشَّوْكَةُ يَشَاكُهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يُكَفِّرُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ ذَنْبًا مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ لِسَائِرِ الْأُمَمِ، وَيُؤَيِّدُهُ ذِكْرُ هَذِهِ وَتَعْقِيبُهَا بِقَوْلِهِ (مَرْحُومَةٌ) فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَزِيَّةِ تَمْيِيزِهِمْ بِعِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَحِمَتِهِ، وَالذَّهَابُ إِلَى الْمَفْهُومِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ، وَهَذِهِ الرَّحْمَةُ هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156]، إِلَى قَوْلِهِ:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [الأعراف: 157] ، انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنْ هَذَا كُلَّهُ مِمَّا لَا يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ، فَإِنَّهُ لَا شَكَّ عِنْدَ أَرْبَابِ الْحَالِ أَنَّ رَحْمَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِنَّمَا هِيَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَا يُعَذَّبُ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ فِي أَنَّ جَمَاعَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ يُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ إِمَّا بِالشَّفَاعَةِ، وَإِمَّا بِعَفْوِ الْمَلِكِ الْغَفَّارِ، وَهَذَا مَنْطُوقُ الْحَدِيثِ وَمَعْنَاهُ الْمَأْخُوذُ مِنْ أَلْفَاظِهِ وَمَبْنَاهِ، وَلَيْسَ بِمَفْهُومِهِ الْمُتَعَارَفِ الْمُخْتَلِفِ فِي اعْتِبَارِهِ حَتَّى يَصِحَّ قَوْلُهُ: أَنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ مَهْجُورٌ، بَلِ الْمُرَادُ بِمَفْهُومِهِ فِي كَلَامِ الْمُظْهِرِ الْمَعْلُومِ فِي الْعِبَارَةِ، ثُمَّ قَوْلِ الطِّيبِيِّ رحمه الله: وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ وَهِيَ كَفَّارَةُ الذُّنُوبِ بِالْبَلِيَّةِ لِسَائِرِ الْأُمَمِ تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ مُثْبِتٍ، وَلَا عِبْرَةَ بِمَا فُهِمَ مِنَ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا الْفِتَنُ، إِلَى آخِرِهِ، فَإِنَّهُ قَابِلٌ لِلتَّقْيِيدِ بِكَوْنِ وُقُوعِ عَذَابِهَا بِهَا غَالِبًا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرِكِهِ.
وَصَحَّحَهُ وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَفِي الْجَامِعِ بِلَفْظِ:" «أُمَّتِي هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ، إِنَّمَا عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا الْفِتَنُ، وَالزَّلَازِلُ، وَالْقَتْلُ، وَالْبَلَايَا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبِيهَقِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْكُنَى عَنْ أَنَسٍ:«أُمَّتِي أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ مَغْفُورٌ لَهَا مُتَابٌ عَلَيْهَا» ، أَيْ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهَا وَلَا يَتْرُكُهَا مُصِرَّةً عَلَى الذُّنُوبِ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ خَوَاصُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
5375 -
5376 - وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ بَدَأَ نُبُوَّةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ خِلَافَةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ مُلْكًا عَضُوضًا، ثُمَّ كَائِنٌ جَبْرِيَّةً وَعُتُوًّا وَفَسَادًا فِي الْأَرْضِ، يَسْتَحِلُّونَ الْحَرِيرَ وَالْفُرُوجَ وَالْخُمُورَ، يُرْزَقُونَ عَلَى ذَلِكَ وَيُنْصَرُونَ، حَتَّى يَلْقَوُا اللَّهَ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
ــ
5375 -
5376 - (وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ ") أَيْ: مَا بُعِثَ بِهِ مِنْ إِصْلَاحِ النَّاسِ دِينًا وَدُنْيَا وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ (" بَدَأَ ") بِالْأَلْفِ أَيْ: ظَهَرَ، وَفَى نُسْخَةٍ بِالْهَمْزَةِ أَيْ: ابْتَدَأَ أَوَّلُ أَمْرِ الدِّينِ إِلَى آخِرِ زَمَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَمَانِ نُزُولِ الْوَحْيِ وَالرَّحْمَةِ (نُبُوَّةً وَرَحْمَةً) نَصْبُهَا عَلَى التَّمْيِيزِ أَوِ الْحَالِ أَيْ: ذَا نُبُوَّةٍ وَرَحْمَةٍ كَامِلَةٍ، مِنْ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ عَلَى الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ (ثُمَّ يَكُونُ) أَيْ: أَمْرُ الدِّينِ (" خِلَافَةً ") أَيْ: نِيَابَةً عَنْ حَضْرَةِ النُّبُوَّةِ (وَرَحْمَةً) أَيْ: شَفَقَةً عَلَى الْأُمَّةِ بِطَرِيقِ كَمَالِ الْوِلَايَةِ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِيَّةِ إِلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَانْقَضَتْ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَيَّامَ الْحَسَنِ، فَلَيْسَ لِمُعَاوِيَةَ نَصِيبٌ فِي الْخِلَافَةِ خِلَافًا لِمَنْ خَالَفَهُ، (" ثُمَّ مُلْكًا عَضُوضًا ") بِفَتْحِ الْعَيْنِ فَعُولٌ لِلْمُبَالِغَةِ، مِنَ الْعَضِّ بِالسِّنِّ أَيْ: يُصِيبُ الرَّعِيَّةَ فِيهِ ظُلْمٌ يُعَضُّونَ فِيهِ عَضَّا، وَرَوَى بِضَمِّ الْعَيْنِ جَمْعِ عَضٍّ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ الْخَبِيثُ الشِّرِّيرُ أَيْ: يَكُونُ مُلُوكًا يَظْلِمُونَ النَّاسَ، وَيُؤْذُونَهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَالِبِ إِذِ النَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ، فَلَا يُشَكُّ بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ عَادِلًا حَتَّى سُمِّيَ عُمَرَ الثَّانِي، وَقَضَايَاهُ مَشْهُورَةٌ وَمَنَاقِبُهُ مَسْطُورَةٌ، (" ثُمَّ كَائِنَ ") أَيْ: ذَلِكَ الْأَمْرُ أَوْ ثُمَّ هَذَا الْأَمْرُ كَائِنٌ (" جَبْرِيَّةً ") بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ عَلَى النَّصْبِ أَيْ: قَهْرًا وَغَلَبَةً (وَعُتُوًّا) بِضَمَّتَيْنِ فَتَشْدِيدٍ أَيْ: تَكَبُّرًا (" وَفَسَادًا فِي الْأَرْضِ ") ، أَيْ فِي الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْعِظَامِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْعُدُولِ فِي الْكَلَامِ هُوَ الِاسْتِمْرَارُ وَالدَّوَامُ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، حَيْثُ اسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ فِي أَيْدِي الظَّلَمَةِ بِطَرِيقِ التَّسَلُّطِ وَالْغَلَبَةِ، مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ شُرُوطِ الْإِمَامَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ فِي زِيَادَةِ الظُّلْمِ وَالتَّعَدِّي عَلَى الرَّعَايَا، وَالتَّحَكُّمِ عَلَيْهِمْ بِأَنْوَاعِ الْبَلَايَا وَأَصْنَافِ الرَّزَايَا ثَانِيًا، ثُمَّ فِي إِعْطَاءِ الْمَنَاصِبِ لِغَيْرِ أَرْبَابِهَا الْمُسْتَحِقِّ لَهَا، وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْعُلَمَاءِ
الْعَامِلِينَ وَالْأَوْلِيَاءِ الصَّالِحِينَ ثَالِثًا، ثُمَّ غَالِبُ سَلَاطِينِ زَمَانِنَا تَرَكُوا الْقِتَالَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَتَوَجَّهُوا إِلَى مُقَاتَلَةِ الْمُسْلِمِينَ لِأَخْذِ الْبِلَادِ وَإِعْطَاءِ الْفَسَادِ ; وَلِذَا قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: مَنْ قَالَ سُلْطَانُ زَمَانِنَا عَادَلٌ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَا أَقْبَحَ مَا صَدَرَ مِنْ بَعْضِ خَوَانِينِ الْأَزْبَكِ فِي زَمَانِنَا أَنَّهُ أَمَرَ بِالْقَتْلِ الْعَامِّ فِي بَلَدٍ عَظِيمٍ مِنْ بُلْدَانِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْمَشَايِخِ الْكِرَامِ، وَالسَّادَاتِ الْعِظَامِ، وَعُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، وَالنِّسَاءِ، وَالضُّعَفَاءِ، وَالْأَطْفَالِ، وَسَائِرِ الْمَرْضَى وَالْعُمْيَانِ، وَالْأَهْلِ وَالْعِيَالِ أُلُوفًا مُؤَلَّفَةً، وَصُنُوفًا مُؤْتَلِفَةً، وَالْحَالُ أَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ وَمَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَمُدَّعِي السَّلْطَنَةِ يَزْعُمُ أَنَّهُ عَلَى تَعْظِيمِ الْعِلْمِ وَالشَّرِيعَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَوْ فَتَحُوا قَلْعَةً مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَيُوجَدُ فِيهِمْ أُلُوفٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، لَكِنْ فِيهِمْ ذِمِّيٌّ وَاحِدٌ مَجْهُولُ الْعَيْنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، لَا يَحِلُّ قَتْلُ الْعَامِّ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، أَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَئٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، هَذَا وَقَدْ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، حَتَّى فِي الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ مِمَّا لَمْ يُمْكِنْ ذِكْرُهُ، وَمِمَّا لَمْ يُتَصَوَّرْ فِكْرُهُ، وَاللَّهُ وَلِيُّ دِينِهِ وَنَاصِرُ نَبِيِّهِ، وَكُلُّ عَامٍ بَلْ كُلُّ يَوْمٍ بَلْ كُلُّ سَاعَةٍ شَرٌّ مِمَّا قَبْلَهُ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ مَنْ يَقُولُ: اللَّهُ اللَّهُ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (يَسْتَحِلُّونَ الْحَرِيرَ وَالْفُرُوجَ وَالْخُمُورَ) أَيْ بِأَنْوَاعِهَا كَمَا سَبَقَ، (يُرْزَقُونَ) وَفِي نُسْخَةٍ: وَيُرْزَقُونَ، أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يُرْزَقُونَ، (عَلَى ذَلِكَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الِاسْتِحْلَالِ وَسَائِرِ قَبَائِحِ الْأَفْعَالِ، (وَيُنْصَرُونَ) أَيْ: عَلَى مَقَاصِدِهِمْ مِنَ الْأَعْمَالِ لِحِكْمَةٍ عَجَزَتْ عَنْ إِدْرَاكِهَا أَرْبَابُ الْكَمَالِ (" حَتَّى يَلْقَوُا اللَّهَ ") .
إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42] . (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ") . قُلْتُ: وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَذْكُرَهُ فِي كِتَابِهِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ.
5377 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُكْفَأُ " - قَالَ زَيْدُ بْنُ يَحْيَى الرَّاوِيُّ: يَعْنِي الْإِسْلَامَ - " كَمَا يُكْفَأُ الْإِنَاءُ " يَعْنِي الْخَمْرَ، قِيلَ: فَكَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا مَا بَيَّنَ؟ قَالَ: " يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا فَيَسْتَحِلُّونَهَا» . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.
ــ
5377 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِنَّ أَوَّلَ مَا يُكْفَأُ ") بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مَهْمُوزًا مِنْ كَفَأْتُ الْإِنَاءَ أَيْ: قَلَبَتُهُ وَأَمَلْتُهُ وَكَبَيْتُهُ ; لِإِفْرَاغِ مَا فِيهِ، قِيلَ: إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَحَدَّثُ فِي الْخَمْرِ ; فَقَالَ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثِهِ: إِنَّ أَوَّلَ إِلَى آخِرِهِ، فَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيِ: الْخَمْرُ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِمَا بَعْدَهُ مِنْ نَقْلِ الْمُؤَلِّفِ (- قَالَ زَيْدُ بْنُ يَحْيَى الرَّاوِيُّ) أَيْ: أَحَدُ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ (يَعْنِي الْإِسْلَامَ -) : فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مُرَادَهُ تَقْدِيرُ الْخَبَرِ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ: أَوَّلُ مَا يَتَغَيَّرُ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ الظَّاهِرُ الْمُتَعَلِّقُ بِارْتِكَابِ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَمَّاتِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ:(كَمَا يُكْفَأُ الْإِنَاءُ) أَيْ: مَا فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ الرَّاوِيُّ:(يَعْنِي) أَيْ: يُرِيدُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: الْإِنَاءُ (الْخَمْرُ)
إِمَّا عَلَى مَجَازِ الْحَذْفِ أَيْ مَظْرُوفِ الْإِنَاءِ، وَإِمَّا عَلَى ذِكْرِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِ، كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، لَكِنْ يُشْكِلُ بِقَوْلِهِ:(قِيلَ: فَكَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ!) أَيْ: يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى: فَكَيْفَ الْحَالُ فِي انْقِلَابِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَتِبْيَانِ الْحَلَالِ فِي الْحَرَامِ (وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا) أَيْ: فِي الْخَمْرِ مَثَلًا (مَا بَيَّنَ؟) أَيْ: مِنْ تَحْرِيمِهَا، (قَالَ:" يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا ") أَيْ: يُسَمُّونَهَا بَاسِمِ النَّبِيذِ وَالْمُثَلَّثِ (فَيَسْتَحِلُّونَهَا) أَيْ: حَقِيقَةً ; فَيَصِيرُونَ كَفَرَةً، أَوْ فَيُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يَشْرَبُونَ شَيْئًا حَلَالًا ; فَيَكُونُونَ فَسَقَةً مَكَرَةً، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: يَعْنِي أَنَّهُمْ يَسْتَتِرُونَ بِمَا أُبِيحَ لَهُمْ مِنَ الْأَنْبِذَةِ ; فَيَتَوَصَّلُوا بِذَلِكَ إِلَى اسْتِحْلَالِ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا، هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ حَلِّ الْمَرَامِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: خَبَرُ أَنَّ مَحْذُوفٌ وَهُوَ الْخَمْرُ، وَالْكَافُ فِي كَمَا يُكْفَأُ: صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، يَعْنَى: أَوَّلُ مَا يُكْفَأُ مِنَ الْإِسْلَامِ إِكْفَاءٌ مِثْلُ إِكْفَاءِ مَا فِي الْإِنَاءِ، انْتَهَى. وَأَفَادَ أَنَّ التَّقْدِيرَ: مِنَ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ مِنْ تَبْعِيضِيةٌ سَاقِطَةٌ مِنَ الْكَلَامِ أَيْ: مِنْ أَحْكَامِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُكْفَأُ: يُقْلَبُ وَيُمَالُ، وَيُقَالُ كَفَأْتُ الْقِدْرَ إِذَا قَلَبْتُهَا لِيَنْصَبَّ عَنْهَا مَا فِيهَا، وَالْمُرَادُ بِهِ الشُّرْبُ هَاهُنَا، فَإِنَّ الشَّارِبَ يَكْفَأُ الْقَدَحَ عِنْدَ الشُّرْبِ، وَقَوْلُ الرَّاوِي: يَعْنِي الْإِسْلَامَ يُرِيدُ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَسَقَطَ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَوَّلَ مَا يُشْرَبُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَيُجْتَرَأُ عَلَى شُرْبِهِ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا يُشْرَبُ الْمَاءُ وَيُجْتَرَأُ عَلَيْهِ الْخَمْرُ، وَيُؤَوِّلُونَ فِي تَحْلِيلِهَا بِأَنْ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا: كَالنَّبِيذِ وَالْمُثَلَّثِ، انْتَهَى ; فَيُفِيدُ أَنَّ النَّبِيذَ وَالْمُثَلَّثَ حَلَالَانِ، وَأَنَّ حَقِيقَةَ الشَّيْءِ لَا يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ اسْمِ شَيْءٍ عَلَيْهِ، كَمَا يُسَمَّى الزِّنْجِيُّ بِالْكَافُورِ، فَلَا يَصِحُّ اسْتِدْلَالُ مَنْ تَوَهَّمَ حُرْمَةَ الْقَهْوَةِ الْمُحْدَثَةِ بِأَنَّهَا مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ، وَلَا بِأَنَّهَا تُشْرَبُ عَلَى هَيْئَةِ أَهْلِ الشُّرْبِ ; لِأَنَّا نَقُولُ: لَا خُصُوصِيَّةَ حِينَئِذٍ بِالْقَهْوَةِ، فَإِنَّ اللَّبَنَ وَالْمَاءَ وَمَاءَ الْوَرْدِ كَذَلِكَ، عَلَى أَنَّ الشُّرْبَ الْمُتَعَارَفَ فِي الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ وَغَيْرِهَا لَيْسَ عَلَى مِنْوَالِ شُرْبِ الْفَسَقَةِ، فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الزَّبَادِيَّ الْمُتَعَدِّدَةَ وَشُرْبَ جَمَاعَةٍ فِي حَالَةٍ مُتَّحِدَةٍ ; وَبِهَذَا تَزُولُ الْمُشَابَهَةُ وَتَرْتَفِعُ الشُّبْهَةُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَتِهَا مَا نَصَّ اللَّهُ فِي كَلَامِهِ بِقَوْلِهِ:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ مَا لَمْ يَصْرِفْ عَنْهَا دَلِيلٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، أَوِ الْقِيَاسِ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) . وَرَوَى أَحْمَدُ عَنِ الضِّيَاءِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوعًا:" «لَتَسْتَحِلَّنَ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ بِاسْمٍ يُسَمُّونَهَا إِيَّاهُ» ".
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5378 -
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ "، ثُمَّ سَكَتَ» ، قَالَ حَبِيبٌ: فَلَمَّا قَامَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبْتُ إِلَيْهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ أُذَكِّرُهُ إِيَّاهُ، وَقُلْتُ: أَرْجُو أَنْ تَكُونَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ الْمُلْكِ الْعَاضِّ وَالْجَبْرِيَّةِ، فَسُرَّ بِهِ وَأَعْجَبَهُ، يَعْنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) .
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5378 -
(عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ) : لَهُ وَلِأَبَوَيْهِ صُحْبَةٌ، (عَنْ حُذَيْفَةَ) أَيْ: صَاحِبُ أَسْرَارِ النُّبُوَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَكُونُ النُّبُوَّةُ ") : بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ " تَكُونُ " تَامَّةٌ أَيْ