المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب الحوض والشفاعة] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٨

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ الْحُبِّ فِي اللَّهِ وَمِنَ اللَّهِ]

- ‌[بَابُ مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنَ التَّهَاجُرِ وَالتَّقَاطُعِ وَاتِّبَاعِ الْعَوْرَاتِ]

- ‌[بَابُ الْحَذَرِ وَالتَّأَنِّي فِي الْأُمُورِ]

- ‌[بَابُ الرِّفْقِ وَالْحَيَاءِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ]

- ‌[بَابُ الْغَضَبِ وَالْكِبْرِ]

- ‌[بَابُ الظُّلْمِ]

- ‌[بَابُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ]

- ‌[كِتَابُ الرِّقَاقِ]

- ‌[بَابُ فَضْلِ الْفُقَرَاءِ وَمَا كَانَ مِنْ عَيْشِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[بَابُ الْأَمَلِ وَالْحِرْصِ]

- ‌[بَابُ اسْتِحْبَابِ الْمَالِ وَالْعُمُرِ لِلطَّاعَةِ]

- ‌[بَابُ التَّوَكُّلِ وَالصَّبْرِ]

- ‌[بَابُ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ]

- ‌[بَابُ الْبُكَاءِ وَالْخَوْفِ]

- ‌[بَابُ تَغَيُّرِ النَّاسِ]

- ‌[بَابُ التَّحْذِيرِ مِنَ الْفِتَنِ]

- ‌[كِتَابُ الْفِتَنِ]

- ‌[بَابُ الْمَلَاحِمِ]

- ‌[بَابُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ]

- ‌[بَابُ الْعَلَامَاتِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ وَذِكْرِ الدَّجَّالِ]

- ‌[بَابُ قِصَّةِ ابْنِ صَيَّادٍ]

- ‌[بَابُ نُزُولِ عِيسَى عليه الصلاة والسلام]

- ‌[بَابُ قُرْبِ السَّاعَةِ وَأَنَّ مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ]

- ‌[بَابُ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ]

- ‌[كِتَابُ صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ] [

- ‌بَابُ النَّفْخِ فِي الصُّورِ]

- ‌[بَابُ الْحَشْرِ]

- ‌[بَابُ الْحِسَابِ وَالْقِصَاصِ وَالْمِيزَانِ]

- ‌[بَابُ الْحَوْضِ وَالشَّفَاعَةِ]

- ‌[بَابُ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِهَا]

الفصل: ‌[باب الحوض والشفاعة]

5564 -

وَعَنْهُ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] مَا طُولُ هَذَا الْيَوْمِ؟ فَقَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَيُخَفَّفُ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ أَهْوَنَ عَلَيْهِ مِنَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ يُصَلِّيهَا فِي الدُّنْيَا» ". رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ (الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ) .

ــ

5564 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] مَا طُولُ هَذَا الْيَوْمِ) ؟ أَيْ: مَا حَالُ النَّاسِ فِي طُولِ هَذَا الْيَوْمِ فَهَلْ يَسْتَطِيعُونَ الْقِيَامَ فِيهِ مَعَ طُولِهِ (فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (لَيُخَفَّفُ عَلَى الْمُؤْمِنِ) أَيِ: الْكَامِلِ (حَتَّى يَكُونَ أَهْوَنَ عَلَيْهِ مِنَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ) أَيْ: مِنْ أَدَائِهَا أَوْ قِيَامِهَا (يُصَلِّيهَا فِي الدُّنْيَا. رَوَاهُمَا) . أَيِ الْحَدِيثَيْنِ (الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ) .

ص: 3535

5565 -

وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ رضي الله عنها عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «يُحْشَرُ النَّاسُ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُنَادِي مُنَادٍ يَقُولُ: أَيْنَ الَّذِينَ كَانَتْ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ؟ فَيَقُومُونَ، وَهُمْ قَلِيلٌ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِسَائِرِ النَّاسِ إِلَى الْحِسَابِ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.

ــ

5565 -

(وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ) أَيِ: ابْنِ السَّكَنِ بِفَتْحَتَيْنِ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يُحْشَرُ النَّاسُ فِي صَعِيدٍ) أَيْ: مَكَانٍ (وَاحِدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَنَادَى) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَيُنَادِي (مُنَادٍ يَقُولُ: أَيْنَ الَّذِينَ كَانَتْ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ) أَيْ: تَتَنَحَّى وَتَتَبَاعَدُ (عَنِ الْمَضَاجِعِ) ؟ وَفِي الْإِسْنَادِ مَجَازٌ وَمُبَالَغَةٌ لَا تَخْفَى، إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [السجدة: 16] أَيْ دَاعِينَ رَبَّهُمْ عَابِدِينَ لَهُ خَوْفًا وَطَمَعًا أَيْ مِنْ سُخْطِهِ، وَفِي رَحْمَتِهِ، أَوْ نَارِهِ وَفِي جَنَّتِهِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهِمْ، فَقِيلَ: هُمُ الْمُجْتَهِدُونَ، وَقِيلَ: هُمُ الْأَوَّابُونَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِمْ مَنْ يُصَلِّي الْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ، (فَيَقُومُونَ) أَيْ: فَيُظْهِرُونَ الْقِيَامَ وَيَتَمَيَّزُونَ عَنْ سَائِرِ الْأَنَامِ (وَهُمْ قَلِيلٌ) أَيْ: مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. قَالَ تَعَالَى {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17]، وَقَالَ عز وجل:{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] ، (فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) : يَحْتَمِلُ صِيغَتَيِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ (بِغَيْرِ حِسَابٍ) ; لِأَنَّهُمْ صَبَرُوا عَلَى مَرَارَةِ الطَّاعَةِ وَتَرْكِ لَذَّةِ الرَّاحَةِ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، (ثُمَّ يُؤْمَرُ بِسَائِرِ النَّاسِ إِلَى الْحِسَابِ) أَيِ: الْمُحَاسَبَةِ وَالْمُنَاقَشَةِ وَالْعَذَابِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

ص: 3535

[بَابُ الْحَوْضِ وَالشَّفَاعَةِ]

ص: 3535

[4]

بَابُ الْحَوْضِ وَالشَّفَاعَةِ

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

5566 -

عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إِذَا أَنَا بِنَهَرٍ حَافَتَاهُ قِبَابُ الدُّرِّ الْمُجَوَّفِ، قُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ، فَإِذَا طِينُهُ مِسْكٌ أَذْفَرُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

[4]

بَابُ الْحَوْضِ وَالشَّفَاعَةِ

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَوْضَانِ: أَحَدُهُمَا فِي الْمَوْقِفِ قَبْلَ الصِّرَاطِ، وَالثَّانِي فِي الْجَنَّةِ، وَكِلَاهُمَا يُسَمَّى كَوْثَرًا، وَالْكَوْثَرُ فِي كَلَامِهِمُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، ثُمَّ الصَّحِيحُ أَنَّ الْحَوْضَ قَبْلَ الْمِيزَانِ ; فَإِنَّ النَّاسَ يَخْرُجُونَ عِطَاشًا مِنْ قُبُورِهِمْ ; فَيُقَدَّمُ الْحَوْضُ قَبْلَ الْمِيزَانِ، وَكَذَا حِيَاضُ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْمَوْقِفِ. قُلْتُ: وَفِي الْجَامِعِ أَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا، وَأَنَّهُمْ يَتَبَاهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُهُمْ وَارِدَةً، وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ وَارِدَةً. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَمُرَةَ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الشَّفْعُ ضَمُّ الشَّيْءِ إِلَى مِثْلِهِ، وَمِنْهُ الشَّفَاعَةُ وَهُوَ الِانْضِمَامُ إِلَى آخَرَ نَاصِرًا لَهُ وَسَائِرًا عَنْهُ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي انْضِمَامِ مَنْ هُوَ أَعْلَى مَرْتَبَةً إِلَى مَنْ هُوَ أَدْنَى مِنْهُ، وَالشَّفَاعَةُ فِي الْقِيَامَةِ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

5566 -

(عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إِذَا) : بِالْأَلِفِ (أَنَا بِنَهَرٍ) : بِفَتْحِ الْهَاءِ وَيُسَكَّنُ أَيْ جَدْوَلٍ (حَافَتَاهُ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ أَيْ جَانِبَاهُ وَطَرَفَاهُ (قِبَابُ الدُّرِّ) : بِكَسْرِ الْقَافِ جَمْعُ قُبَّةٍ بِالضَّمِّ أَيْ: خَيْمِ اللُّؤْلُؤِ (الْمُجَوَّفِ) : الَّذِي لَهُ جَوْفٌ وَفِي وَسَطِهِ خَلَاءٌ يُسْكَنُ فِيهِ، (قُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ) ؟ أَيِ: النَّهْرُ الْمَذْكُورُ عَلَى الْوَصْفِ الْمَسْطُورِ (قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ) : إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] وَهُوَ فَوَعْلٌ مِنَ الْكَثْرَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ الَّذِي أَعْطَاهُ رَبُّهُ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ النُّبُوَّةِ، أَوْ كَثْرَةِ الْأُمَّةِ، أَوْ سَائِرِ الْمَرَاتِبِ الْعَلِيَّةِ، وَمِنْهَا: الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ، وَاللِّوَاءُ الْمَمْدُودُ، وَالْحَوْضُ الْمَوْرُودُ، وَلَا مُنَافَاةَ، بَلِ الْكُلُّ دَاخِلٌ فِي الْكَوْثَرِ، وَإِنْ كَانَ اشْتِهَارُهُ فِي مَعْنَى الْحَوْضِ أَكْثَرَ. (فَإِذَا طِينُهُ مِسْكٌ أَذْفَرُ) أَيْ: شَدِيدُ الرَّائِحَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ طَيِّبُ الرِّيحِ، وَالذَّفَرُ بِالتَّحْرِيكِ يَقَعُ عَلَى الطَّيِّبِ وَالْكَرِيهِ، وَيُفْرَقُ بَيْنَهُمَا بِمَا يُضَافُ إِلَيْهِ وَيُوصَفُ بِهِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 3536

5567 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، وَزَوَايَاهُ سَوَاءٌ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ يَشْرَبُ مِنْهَا فَلَا يَظْمَأُ أَبَدًا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

5567 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَوْضِي) أَيْ: مِقْدَارُهُ (مَسِيرَةُ شَهْرٍ، وَزَوَايَاهُ) : جَمْعُ زَاوِيَةٍ، وَهِيَ الْجَانِبُ وَالنَّاحِيَةُ، أَيْ: أَطْرَافُ حَوْضِي (سَوَاءٌ) أَيْ: مُرَبَّعٌ مُسْتَوٍ لَا يَزِيدُ طُولُهُ عَلَى عَرْضِهِ، وَقِيلَ: عُمْقُهُ أَيْضًا (مَاؤُهُ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ)، قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: النَّحْوِيُّونَ يَقُولُونَ: لَا يُبْنَى فِعْلُ التَّعَجُّبِ وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ مِنَ الْأَلْوَانِ وَالْعُيُوبِ، بَلْ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِنَحْوِ أَشَدَّ وَأَبْلَغَ، فَلَا يُقَالُ: مَا أَبْيَضَ زَيْدًا! وَلَا: زَيْدٌ أَبْيَضُ مِنْ عَمْرٍو، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ وَحُجَّةٌ عَلَى مَنْ مَنَعُوهُ، وَهِيَ لُغَةٌ وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةَ الِاسْتِعْمَالِ. (وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَكِيزَانُهُ) : جَمْعُ كُوزٍ (كَنُجُومِ السَّمَاءِ) أَيْ: فِي الْكَثْرَةِ وَالنُّورَانِيَّةِ (مَنْ يَشْرَبُ) : بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَزْمِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّ (مَنْ) مَوْصُولَةٌ، وَمَجْزُومًا عَلَى أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ:(مِنْهَا) أَيْ: مِنْ كِيزَانِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ مِنْهُ، أَيْ: مِنَ الْحَوْضِ، أَوْ مِنْ مَائِهِ (فَلَا يَظْمَأُ) : بِرَفْعِ الْهَمْزَةِ وَقِيلَ بِالْجَزْمِ، أَيْ: فَلَا يَعْطَشُ (أَبَدًا)، فَيَكُونُ شُرْبُهُ فِي الْجَنَّةِ تَلَذُّذًا كَأَكْلِهِ تَنَعُّمًا ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ لَكَ أَنْ لَا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى - وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 117 - 119] . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 3536

5568 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ حَوْضِي أَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ مِنْ عَدَنٍ، لَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ بِاللَّبَنِ، وَلَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُومِ، وَإِنِّي لَأَصُدُّ النَّاسَ عَنْهُ كَمَا يَصُدُّ الرَّجُلُ إِبِلَ النَّاسِ عَنْ حَوْضِهِ ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَتَعْرِفُنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: " نَعَمْ لَكُمْ سِيمَاءُ لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ، تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

5568 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ حَوْضِي) أَيْ: بُعْدَ مَا بَيْنَ طَرَفَيْ حَوْضِي (أَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ، أَيْ: أَزْيَدُ مِنْ بُعْدِ أَيْلَةَ، وَهِيَ بَلْدَةٌ عَلَى السَّاحِلِ مِنْ آخِرِ بِلَادِ الشَّامِ مِمَّا يَلِي بَحْرَ الْيَمَنِ (مِنْ عَدَنٍ) : بِفَتْحَتَيْنِ يُصْرَفُ وَلَا يُصْرَفُ، وَهُوَ آخِرُ بِلَادِ الْيَمَنِ مِمَّا يَلِي بَحْرَ الْهِنْدِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله:(مِنْ) الْأُولَى مُتَعَلِّقَةٌ بِأَبْعَدَ، وَالثَّانِيَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِبُعْدٍ مُقَدَّرٍ، ثُمَّ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ الْخَبَرِ الْآتِي: مَا بَيْنَ

ص: 3536

عَدَنٍ وَعُمَّانَ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، اسْمُ بَلَدٍ بِالشَّامِ وَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَالْمَدِينَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْإِخْبَارَ عَلَى طَرِيقِ التَّقْرِيبِ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّحْدِيدِ وَالتَّفَاوُتِ بَيْنَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ السَّامِعِينَ فِي الْإِحَاطَةِ بِهِ عِلْمًا. قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: اخْتِلَافُ الْأَحَادِيثِ فِي مِقْدَارِ الْحَوْضِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَّرَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَالتَّخْمِينِ، لِكُلِّ أَحَدٍ عَلَى حَسَبِ مَا رَوَاهُ وَعَرَفَهُ. (لَهُوَ) : بِضَمِّ الْهَاءِ وَيُسَكَّنُ وَاللَّامُ لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ: لَحَوْضِي (أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ)، وَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى الثَّلْجَ فِي أَرْضِ الشَّامِ (وَأَحْلَى) أَيْ: أَلَذُّ (مِنَ الْعَسَلِ بِاللَّبَنِ) أَيِ: الْمَخْلُوطِ بِهِ (وَلَآنِيَتُهُ) : جَمْعُ إِنَاءٍ، أَيْ: وَلَظُرُوفُهُ مِنْ كِيزَانِهِ وَغَيْرِهَا (أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُومِ، وَإِنِّي لَأَصُدُّ) أَيْ: أَدْفَعُ وَأَمْنَعُ (النَّاسَ) أَيِ: الْمُنَافِقِينَ وَالْمُرْتَدِّينَ (عَنْهُ) أَيِ: الْحَوْضِ (كَمَا يَصُدُّ الرَّجُلُ) أَيِ: الرَّاعِي (إِبِلَ النَّاسِ) أَيِ: الْأَجَانِبِ (عَنْ حَوْضِهِ) أَيْ: صِيَانَةً عَنِ الْمُشَارَكَةِ وَالْمُحَافَظَةِ (قَالُوا) أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ (أَتَعْرِفُنَا) أَيْ: تُمَيِّزُنَا مِنْ غَيْرِنَا (يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: نَعَمْ لَكُمْ سِيمَا) : بِالْقَصْرِ وَقَدْ يُمَدُّ وَهُوَ الْعَلَامَةُ، قَالَ تَعَالَى:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ آثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29]، (لَيْسَتْ) أَيْ: تِلْكَ السِّيمَا (لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ) ; إِذِ الْمَقْصُودُ التَّمْيِيزُ بِمَنْزِلَةِ الْعِلْمِ (تَرِدُونَ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ مِنَ الْوُرُودِ أَيْ: تَمُرُّونَ (عَلَيَّ غُرًّا) : جَمْعُ الْأَغَرِّ، وَهُوَ مَنْ فِي جَبْهَتِهِ بَيَاضٌ (مُحَجَّلِينَ) : بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ الْمَفْتُوحَةِ جَمْعُ مُحَجَّلٍ، وَهُوَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ بَيَاضٌ (مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ) : بِضَمِّ الْوَاوِ أَيِ اسْتِعْمَالِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ، أَيْ: مَاءِ الْوُضُوءِ، وَنَصْبُهُمَا عَلَى الْحَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسِّيمَا مَا ذُكِرَ مِنَ الْوَصْفَيْنِ ; فَهُمَا مِنْ مُخْتَصَّاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ مَوْجُودًا فِي كَوْنِ الْوُضُوءِ هَلْ كَانَ لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ أَوْ لَا؟ وَإِنَّمَا كَانَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَكَانَ أَيْضًا لِلْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دُونَ أُمَمِهِمْ، وَفِي هَذَا فَضِيلَةٌ عُظْمَى وَمَرْتَبَةٌ كُبْرَى لِلْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

ص: 3537

5569 -

وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ:" «تَرَى فِيهِ أَبَارِيقَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ» ".

ــ

5569 -

(وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) أَيْ: لِمُسْلِمٍ (عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: تُرَى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فِيهِ) أَيْ: فِي حَوْضِي (أَبَارِيقُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) : لَعَلَّ اخْتِلَافَ الْوَصْفَيْنِ بِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِ الشَّارِبِينَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ (كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ) أَيْ: مِنْ كَثْرَتِهَا.

ص: 3537

5570 -

وَفِي أُخْرَى لَهُ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: سُئِلَ عَنْ شَرَابِهِ، فَقَالَ:" «أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ يَغُتُّ، فِيهِ مِيزَابَانِ يَمُدَّانِهِ مِنَ الْجَنَّةِ: أَحَدُهُمَا مِنْ ذَهَبٍ وَالْآخَرُ مِنْ وَرِقٍ» ".

ــ

5570 -

(وَفِي أُخْرَى لَهُ) أَيْ: وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ (عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: سُئِلَ: أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ (عَنْ شَرَابِهِ) أَيْ: صِفَةِ مَشْرُوبِهِ (فَقَالَ: أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ يَغُتُّ) : بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتُكْسَرُ وَبِتَشْدِيدِ الْفَوْقِيَّةِ، أَيْ: يَصُبُّ وَيَسِيلُ (فِيهِ) أَيْ: فِي الْحَوْضِ (مِيزَابَانِ)، قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: أَيْ يَدْفُقُ دَفْقًا مُتَتَابِعًا دَائِمًا بِقُوَّةٍ، فَكَأَنَّهُ مِنْ ضَغْطِ الْمَاءِ لِكَثْرَتِهِ عِنْدَ خُرُوجِهِ، وَأَصْلُ الْغَتِّ الضَّغْطُ وَالْمِيزَابُ بِكَسْرِ الْمِيمِ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى: بِفَتْحِهَا أَيْضًا مِنْ وَزَبَ الْمَاءُ أَيْ سَالَ، فَأَصْلُ مِيزَابٍ نِوْزَابٍ، قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا، وَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ فَتْحِ الْمِيمِ، فَفِي الْقَامُوسِ: أَزَبَ الْمَاءُ كَضَرَبَ جَرَى وَمِنْهُ الْمِيزَابُ، أَوْ هُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، أَيْ: بُلِ الْمَاءَ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُهْمَزَ الْمِيزَابُ وَأَنْ يُبْدَلَ هَمْزُهُ يَاءً، وَقَالَ أَيْضًا: وَزَبَ الْمَاءُ سَالَ وَمِنْهُ الْمِيزَابُ، أَوْ هُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَمَعْنَاهُ بُلِ الْمَاءِ، فَعَرَّبُوهُ بِالْهَمْزِ ; وَلِهَذَا جَمَعُوهُ مَآزِيبَ. (يَمُدَّانِهِ) : بِضَمِّ الْمِيمِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، أَيْ: يَزِيدَانِ الْحَوْضَ فِي مَائِهِ (مِنَ الْجَنَّةِ) أَيْ: مِنْ أَنْهَارِهَا، أَوْ مِنَ الْحَوْضِ الَّذِي لَهُ فِي الْجَنَّةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالنَّهْرِ الْكَوْثَرِ (أَحَدُهُمَا مِنْ ذَهَبٍ وَالْآخَرُ مِنْ وَرِقٍ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيُسَكَّنُ، أَيْ: مِنْ فِضَّةٍ، وَالْقَصْدُ بِهِمَا الزِّينَةُ بِاخْتِلَافِ لَوْنِ الْأَصْفَرِ وَالْأَبْيَضِ، لَا لِكَوْنِ الذَّهَبِ عَزِيزَ الْوُجُودِ هُنَاكَ قِيَاسًا عَلَى مَا فِي الدُّنْيَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِيزَابُ الذَّهَبِ مِنْ نَهْرِ الْعَسَلِ، وَمِيزَابُ الْفِضَّةِ مِنْ نَهْرِ اللَّبَنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا مِنَ الْمَاءِ، وَالْآخَرُ مِنَ الْعَسَلِ، أَوِ اللَّبَنُ يُخْلَطُ بِهِ فِي الْحَوْضِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 3537

5571 -

وَعَنْ سَهْلٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونَنِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، فَأَقُولُ: إِنَّهُمْ مِنِّي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ؟ فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

5571 -

(وَعَنْ سَهْلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي فَرَطُكُمْ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ سَابِقُكُمْ وَمُقَدَّمُكُمْ (عَلَى الْحَوْضِ)، قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: الْفَرَطُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ وَهُوَ الْفَارِطُ الَّذِي يَتَقَدَّمُ الْوِرَادَ ; يُصْلِحُ لَهُمُ الْحِيَاضَ وَالدِّلَاءَ وَالْأَرْشِيَةَ وَغَيْرَهَا مِنْ أُمُورِ الِاسْتِقَاءِ، فَمَعْنَاهُ: أَنَا سَابِقُكُمْ إِلَى الْحَوْضِ كَالْمُهَيِّئِ لَكُمْ (مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا)، قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشُّرْبَ مِنْهُ يَكُونُ بَعْدَ الْحِسَابِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، (لَيَرِدَنَّ) : مِنَ الْوُرُودِ، أَيْ: لَيَمُرَّنَّ (عَلَيَّ أَقْوَامٌ) : أَيْ جَمَاعَاتٌ (أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونَنِي)، قِيلَ: لَعَلَّ هَؤُلَاءِ، هُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ ; حَيْثُ قَالَ: أَصْحَابِي (ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، فَأَقُولُ: إِنَّهُمْ مِنِّي) أَيْ: مِنْ أُمَّتِي أَوْ مِنْ أَصْحَابِي (فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَاذَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ) أَيْ: مِنَ الِارْتِدَادِ، فَإِنَّ سَائِرَ الْمَعَاصِي لَا تَمْنَعُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وُرُودِ الْحَوْضِ وَالشُّرْبِ مِنْ مَائِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ:(فَأَقُولُ: سُحْقًا) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَيُضَمَّانِ (سُحْقًا) : كُرِّرَ لِلتَّأْكِيدِ، أَيْ: بُعْدًا وَهَلَاكًا وَنَصْبُهُمَا عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالْجُمْلَةُ دُعَاءٌ بِالْعَذَابِ (لِمَنْ غَيَّرَ) أَيْ: دِينَهُ (بَعْدِي) أَيْ: بَعْدَ مَوْتِي، أَوْ بَعْدَ قَبُولِ دِينِي وَالدُّخُولِ فِي أُمَّتِي. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 3538

5572 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «يُحْبَسُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُهَمُّوا بِذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا! فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ آدَمُ أَبُو النَّاسِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، اشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا. فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ - وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ: أَكْلَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهَا - وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ - وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ: سُؤَالَهُ رَبَّهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ - وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ. قَالَ: فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ - وَيَذْكُرُ ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ كَذَبَهُنَّ - وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ، وَكَلَّمَهُ وَقَرَّبَهُ نَجِيًّا. قَالَ: فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ - وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ - قَتْلَهُ النَّفْسَ - وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ وَرُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ قَالَ: فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ: فَيَأْتُونِي فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ، فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي فَيَقُولُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، قَالَ: فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأَخْرُجُ، فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ الثَّانِيَةَ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ. فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يَقُولُ: " ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ ". قَالَ: فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأَخْرُجُ، فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ الثَّالِثَةَ، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ، فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يَقُولُ:" ارْفَعْ مُحَمَّدُ! وَقُلْ تُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ " قَالَ: فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأَخْرُجُ، فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، حَتَّى مَا يَبْقَى فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ قَدْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ، أَيْ: وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] قَالَ: " وَهَذَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي وُعِدَهُ نَبِيَّكُمْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

5572 -

(وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (يُحْبَسُ) أَيْ: يُوقَفُ (الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُهَمُّوا) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ يَحْزَنُوا (بِذَلِكَ) أَيْ: بِسَبَبِ ذَلِكَ الْحَبْسِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْهَاءِ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: هُوَ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: يَحْزَنُوا لِمَا امْتُحِنُوا بِهِ مِنَ الْحَبْسِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَهَمَّنِي الْأَمْرُ إِذَا أَقْلَقَكَ وَأَحْزَنَكَ (فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا) أَيْ: لَيْتَ طَلَبْنَا أَحَدًا لِيَشْفَعَ لَنَا (إِلَى رَبِّنَا فَيُرِيحَنَا) أَيْ: يُعْطِيَنَا الرَّاحَةَ وَيُخَلِّصَنَا (مِنْ مَكَانِنَا!)، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: لَوْ هِيَ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلتَّمَنِّي وَالطَّلَبِ، وَقَوْلُهُ: فَيُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا مِنَ الْإِرَاحَةِ، وَنَصْبُهُ بِأَنِ الْمُقَدَّرَةِ بَعْدَ الْفَاءِ الْوَاقِعَةِ جَوَابًا لِـ (لَوْ)، وَالْمَعْنَى: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا أَحَدًا إِلَى رَبِّنَا فَيَشْفَعَ لَنَا ; فَيُخَلِّصَنَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْكَرْبِ وَالْحَبْسِ. قَالَ فِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ: شَفَعْتُ لَهُ إِلَى فُلَانٍ وَأَنَا شَافِعُهُ وَشَفِيعُهُ، وَاسْتَشْفَعَنِي إِلَيْهِ فَشَفَعْتُ لَهُ وَاسْتَشْفَعَ بِي، قَالَ الْأَعْمَشُ:

مَضَى زَمَنٌ وَالنَّاسُ يَسْتَشْفِعُونَنِي

فَهَلْ لِي إِلَى لَيْلَى الْغَدَاةَ شَفِيعُ

(فَيَأْتُونَ آدَمَ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ رُؤَسَاءُ أَهْلِ الْمَحْشَرِ لَا جَمِيعُ أَهْلِ الْمَوْقِفِ (فَيَقُولُونَ) أَيْ: بَعْضُهُمْ (أَنْتَ آدَمُ) : هُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ:

أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي

وَهُوَ فِيهِ مَعْنَى الْكَمَالِ لَا يُعْلَمُ مَا يُرَادُ مِنْهُ فَفُسِّرَ بِمَا بَعْدُ مِنْ قَوْلِهِ: (أَبُو النَّاسِ مَنْ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ) أَيْ: بِلَا وَاسِطَةٍ، أَوْ بِقُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ، أَوْ إِرَادَتِهِ الشَّامِلَةِ (وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ) ، فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى حُصُولِ الْمَآلِ وَوُصُولِ الْمَنَالِ، وَمَا تَمِيلُ إِلَيْهِ النَّفْسُ مِنْ حُسْنِ الْمَالِ (وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ) أَيْ: سُجُودَ تَحِيَّةٍ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْجَاهِ وَالْعَظَمَةِ، (وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ) : فِيهِ إِشْعَارٌ بِإِعْطَاءِ الْفَضِيلَةِ الْعُظْمَى وَالْمَرْتَبَةِ الْكُبْرَى. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وُضِعَ كُلُّ شَيْءٍ مَوْضِعَ أَشْيَاءَ، أَيِ: الْمُسَمَّيَاتِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] أَيْ: أَسْمَاءَ الْمُسَمَّيَاتِ إِرَادَةً لِلتَّفَصِّي، أَيْ: وَاحِدًا فَوَاحِدًا حَتَّى يَسْتَغْرِقَ الْمُسَمَّيَاتِ كُلَّهَا. (اشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا)، أَيْ: هَذَا الْمَكَانِ الْعَظِيمِ وَالْمَوْقِفِ الْأَلِيمِ (فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ)، قِيلَ: هُنَا لَحِقَ بِهِ كَافُ الْخِطَابِ يَكُونُ لِلْبُعْدِ مِنَ الْمَكَانِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، فَالْمَعْنَى

ص: 3538

أَنَا بَعِيدٌ مِنْ مَقَامِ الشَّفَاعَةِ، قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ: أَيْ يَقُولُ آدَمُ عليه الصلاة والسلام لَهُمْ: لَسْتُ فِي الْمَكَانِ وَالْمَنْزِلِ الَّذِي تَحْسَبُونَنِي فِيهِ، يُرِيدُ بِهِ مَقَامَ الشَّفَاعَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّ مَنْزِلَتَهُ دُونَ الْمَنْزِلَةِ الْمَطْلُوبَةِ، قَالَهُ تَوَاضُعًا وَإِكْبَارًا لِمَا يَسْأَلُونَهُ، قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ لَيْسَ لِي بَلْ لِغَيْرِي. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ رحمه الله: وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَكَذَا فِي بَقِيَّةِ الْمَوَاضِعِ، وَفِي رِوَايَةٍ: لَيْسَتْ لِصَاحِبِكَ ذَاكَ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ الْإِشَارَةَ الْمَذْكُورَةَ.

(وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ) أَيِ: اعْتِذَارًا عَنِ التَّقَاعُدِ وَالتَّأَنِّي عَنِ الشَّفَاعَةِ، وَالرَّاجِعُ إِلَى الْمَوْصُولِ مَحْذُوفٌ، أَيِ: الَّتِي أَصَابَهَا، وَقَوْلُهُ:(أَكْلَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ) : بِالنَّصْبِ بَدَلٌ مِنْ خَطِيئَتِهِ، أَيْ: يَذْكُرُ أَكْلَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ، ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِلضَّمِيرِ الْمُبْهَمِ الْمَحْذُوفِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29]، (وَقَدْ نُهِيَ) أَيْ: آدَمُ عليه الصلاة والسلام (عَنْهَا) أَيْ: عَنِ الشَّجَرَةِ أَوْ عَنِ الْخَطِيئَةِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ، (وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ) ، اسْتَشْكَلَتْ هَذِهِ الْأَوَّلِيَّةُ بِأَنَّ آدَمَ عليه السلام نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَكَذَا شِيثٌ وَإِدْرِيسُ وَغَيْرُهُمْ، وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْأَوَّلِيَّةَ مُقَيَّدَةٌ بِقَوْلِهِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَيُشْكِلُ ذَلِكَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ فِي الْبُخَارِيِّ فِي التَّيَمُّمِ، «وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ خَاصَّةً إِلَى قَوْمٍ خَاصَّةً» ، وَيُجَابُ بِأَنَّ الْعُمُومَ لَمْ يَكُنْ فِي أَصْلِ بَعْثَةِ نُوحٍ، وَإِنَّمَا اتَّفَقَ بِاعْتِبَارِ حَصْرِ الْخَلْقِ فِي الْمَوْجُودِينَ بَعْدَ هَلَاكِ سَائِرِ النَّاسِ انْتَهَى. وَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى، وَقِيلَ: إِنَّ الثَّلَاثَةَ كَانُوا أَنْبِيَاءَ وَلَمْ يَكُونُوا رُسُلًا، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، فَإِنَّهُ كَالصَّرِيحِ بِإِنْزَالِ الصُّحُفِ عَلَى شِيثٍ، وَهُوَ عَلَامَةُ الْإِرْسَالِ انْتَهَى. وَفِيهِ بَحْثٌ ; إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِنْزَالِ الصُّحُفِ أَنْ يَكُونَ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ رَسُولًا ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فِي الصُّحُفِ مَا يَعْمَلُ بِهِ بِخَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، بَلْ مَوَاعِظُ وَنَصَائِحُ تَخْتَصُّ بِهِ. فَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: الثَّلَاثَةُ كَانُوا مُرْسَلِينَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَأَمَّا نُوحٌ عليه السلام فَإِنَّمَا أُرْسِلَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَكُلُّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا، هَذَا وَقَدْ قِيلَ: هُوَ نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ أَيْ مُرْسَلٌ، وَمَنْ قَبْلَهُ كَانُوا أَنْبِيَاءَ غَيْرَ مُرْسَلِينَ كَآدَمَ وَإِدْرِيسَ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِنَّهُ جَدُّ نُوحٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَرِّخُونَ.

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: قِيلَ إِنَّ إِدْرِيسَ هُوَ إِلْيَاسُ، وَهُوَ نَبِيٌّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَيَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنْ نُوحٍ ; فَيَصِحُّ أَنَّ نُوحًا أَوَّلُ نَبِيٍّ مَبْعُوثٍ مِنْ كَوْنِ إِدْرِيسَ نَبِيًّا مُرْسَلًا، وَأَمَّا آدَمُ وَشِيثٌ، فَهُمَا وَإِنْ كَانَا رَسُولَيْنِ إِلَّا أَنَّ آدَمَ أُرْسِلَ إِلَى بَنِيهِ وَلَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا، بَلْ أُمِرَ بِتَعْلِيمِهِمُ الْإِيمَانَ وَطَاعَةَ اللَّهِ، وَشِيثٌ كَانَ خَلَفًا لَهُ فِيهِمْ بَعْدَهُ، بِخِلَافِ نُوحٍ، فَإِنَّهُ مُرْسَلٌ إِلَى كُفَّارِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَهَذَا أَقْرَبُ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ آدَمَ وَإِدْرِيسَ لَمْ يَكُونَا رَسُولَيْنِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ أَوَّلُ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ بَعْدَ آدَمَ، عَلَى أَنَّ شِيثًا كَانَ خَلِيفَةً لَهُ فَأَوَّلِيَّتُهُ إِضَافِيَّةٌ، أَوْ أَوَّلُ نَبِيٍّ بَعَثَهُ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ، فَالْأَوَّلِيَّةُ حَقِيقِيَّةٌ، وَهَذَا أَوْفَقُ الْأَقْوَالِ، وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ.

وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْمَازِرِيُّ: قَدْ ذَكَرَ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّ إِدْرِيسَ جَدُّ نُوحٍ، فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أُرْسِلَ أَيْضًا لَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ قَبْلَ نُوحٍ ; لِإِخْبَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ آدَمَ عليه الصلاة والسلام أَنَّ نُوحًا أَوَّلُ رَسُولٍ بُعِثَ بَعْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ جَازِمٌ قَالُوهُ، وَصَحَّ أَنْ يُحْمَلَ أَنَّ إِدْرِيسَ كَانَ نَبِيًّا مُرْسَلًا. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّ إِدْرِيسَ هُوَ إِلْيَاسُ، وَأَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ، فَإِنْ كَانَ هَكَذَا سَقَطَ الِاعْتِرَاضُ، وَبِمِثْلِ هَذَا يَسْقُطُ الِاعْتِرَاضُ بِآدَمَ وَشِيثٍ، وَرِسَالَتُهُمَا إِلَى مَنْ مَعَهُمَا، وَإِنْ كَانَا رَسُولَيْنِ، فَإِنَّ آدَمَ أُرْسِلَ إِلَى بَنِيهِ وَلَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا، وَكَذَلِكَ شِيثٌ خَلَفَهُ بَعْدَهُ، بِخِلَافِ رِسَالَةِ نُوحٍ إِلَى كُفَّارِ أَهْلِ الْأَرْضِ. قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: وَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا الْحَسَنِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ آدَمَ لَيْسَ بِرَسُولِ اللَّهِ لِيَسْلَمَ مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ، وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ نَصٌّ دَالٌّ عَلَى أَنَّ آدَمَ وَإِدْرِيسَ رَسُولَانِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 3539

(فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُ) : إِنِّي عَلَى مَا فِي نُسْخَةٍ (لَسْتُ هُنَاكُمْ) : قَالَ شَارِحٌ: أَيْ لَسْتُ فِي مَكَانِ الشَّفَاعَةِ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: هُنَاكُمْ إِلَى الْبُعْدِ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: إِنَّمَا يَقُولُونَهُ تَوَاضُعًا، وَإِكْبَارًا لِمَا يَسْأَلُونَهُ، وَقَدْ يَكُونُ إِشَارَةً مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ، وَهَذَا الْمَقَامَ لَيْسَ لَهُ بَلْ لِغَيْرِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَدُلُّ عَلَى الْآخَرِ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ صَاحِبَهَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَيَّنًا، وَيَكُونُ إِحَالَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْآخَرِ، لِأَنْ تَنْدَرِجَ الشَّفَاعَةُ فِي ذَلِكَ إِلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُبَادَرَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ، وَإِجَابَتُهُ لِرَغْبَتِهِمْ ; لِتَحَقُّقِهِ أَنَّ هَذِهِ الْكَرَامَةَ وَالْمَقَامَ لَهُ خَاصَّةً. قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ رحمه الله: وَالْحِكْمَةُ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْهَمَهُمْ سُؤَالَ آدَمَ وَمَنْ بَعْدَهُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَمْ يُلْهَمُوا سُؤَالَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِظْهَارًا لِفَضِيلَةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُمْ لَوْ سَأَلُوهُ ابْتِدَاءً لَكَانَ يَحْتَمِلُ أَنَّ غَيْرَهُ يَقْدِرُ عَلَى هَذَا، وَأَمَّا إِذَا سَأَلُوا غَيْرَهُ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَصْفِيَائِهِ، فَامْتَنَعُوا، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَجَابَ، وَحَصَلَ غَرَضُهُمْ، فَهُوَ النِّهَايَةُ فِي ارْتِفَاعِ الْمَنْزِلَةِ وَكَمَالِ الْقُرْبِ، وَفِيهِ تَفْضِيلُهُ عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقِينَ مِنَ الرُّسُلِ الْآدَمِيِّينَ وَالْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، فَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَ وَهِيَ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ غَيْرُهُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.

(وَيَذْكُرُ) أَيْ: نُوحٌ عليه السلام (خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ - يَعْنِي سُؤَالَهُ رَبَّهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ -) أَيْ: قَوْلَهُ: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] إِلَى آخِرِهِ، وَكَانَ سُؤَالُهُ إِنْجَاءَ ابْنِهِ، وَكَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ هَذَا السُّؤَالُ ; وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود: 46] إِلَى آخِرِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: قَوْلُهُ: سُؤَالَهُ رَبَّهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ مَوْقِعُ سُؤَالِهِ هُنَا مَوْقِعُ أَكْلِهِ فِي الْقَرِينَةِ السَّابِقَةِ، وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ عِلْمٍ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فِي سُؤَالِهِ، أَيْ: صَادِرًا عَنْهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَرَبَّهُ مَفْعُولُ سُؤَالِهِ، وَالْمُرَادُ بِالسُّؤَالِ قَوْلُهُ: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ; طَلَبَ أَنْ يُنْجِيَهُ مِنَ الْغَرَقِ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: بِغَيْرِ عِلْمٍ أَنَّهُ سَأَلَ مَا لَا يَجُوزُ سُؤَالُهُ، وَكَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَسْأَلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود: 46] ; وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود: 45] أَيْ: وَعَدْتَنِي أَنْ تُنْجِيَ أَهْلِي مِنَ الْغَرَقِ، وَأَنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي فَنَجِّهِ، قِيلَ لَهُ: مَا شَعَرْتَ مَنِ الْمُرَادُ بِالْأَهْلِ، وَهُوَ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَإِنَّ ابْنَكَ عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ. (وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ. قَالَ: فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ - وَيَذْكُرُ ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ كَذَبَهُنَّ -) : بِالتَّخْفِيفِ أَيْ: قَالَهُنَّ كَذِبًا. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ رحمه الله: إِحْدَى الْكِذْبَاتِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام قَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وَثَانِيَتُهَا قَوْلُهُ:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، وَثَالِثَتُهَا قَوْلُهُ لِسَارَةَ: هِيَ أُخْتِي وَالْحَقُّ أَنَّهَا مَعَارِيضُ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ صُورَتُهَا صُورَةَ الْكَذِبِ سَمَّاهَا أَكَاذِيبَ، وَاسْتَنْقَصَ مِنْ نَفْسِهِ لَهَا، فَإِنَّ مَنْ كَانَ أَعْرَفَ بِاللَّهِ وَأَقْرَبَ مِنْهُ مَنْزِلَةً كَانَ أَعْظَمَ خَطَرًا وَأَشَدَّ خَشْيَةً، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ سَائِرُ مَا أُضِيفَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْخَطَايَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْكَامِلُ قَدْ يُؤَاخَذُ بِمَا هُوَ عِبَادَةٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، كَمَا قِيلَ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ. (وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا آتَاهُ اللَّهُ) : اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ وَبَيَانٍ، وَالْمَعْنَى: أَعْطَاهُ (التَّوْرَاةَ) : وَهِيَ أَوَّلُ الْكُتُبِ الْأَرْبَعَةِ الْمُنَزَّلَةِ (وَكَلَّمَهُ) أَيْ: بِلَا وَاسِطَةٍ (وَقَرَّبَهُ نَجِيًّا) أَيْ: مُنَاجِيًا لَهُ أَوْ مُنَاجًى بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ. (قَالَ: فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ - وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ - قَتْلَهُ النَّفْسَ -) أَيْ: نَفْسَ الْقِبْطِيِّ، وَفِي نُسْخَةٍ قَتْلَ النَّفْسِ بِغَيْرِ ضَمِيرٍ (وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ

ص: 3540

وَرُوحَ اللَّهِ) : أَضَافَهُ إِلَيْهِ تَشْرِيفًا، وَلِأَنَّهُ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى (وَكَلِمَتَهُ) أَيْ: خُلِقَ بِأَمْرِ (كُنْ) أَوْ كَلِمَتَهُ فِي دَعْوَتِهِ كَانَتْ مُسْتَجَابَةً، (قَالَ: فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ) : إِنَّمَا قَالَ كَذَا مَعَ أَنَّ خَطِيئَتَهُ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ لَعَلَّهُ لِاسْتِحْيَائِهِ مِنِ افْتِرَاءِ النَّصَارَى فِي حَقِّهِ بِأَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ. (وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ) أَيْ: فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَانِعٌ مِنْ مَقَامِ الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا مِمَّا اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ. قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ الْمُتَقَدِّمُ مَا كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَالْمُتَأَخِّرُ عِصْمَتُهُ بَعْدَهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ مَا وَقَعَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ سَهْوٍ وَتَأْوِيلٍ، حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ وَاخْتَارَهُ الْقُشَيْرِيُّ رحمه الله وَقِيلَ: مَا تَقَدَّمَ لِأَبِيهِ آدَمَ عليه الصلاة والسلام وَمَا تَأَخَّرَ مِنْ ذُنُوبِ أُمَّتِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ، غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِذَنْبٍ لَوْ كَانَ، وَقِيلَ: هُوَ تَنْزِيهٌ لَهُ مِنَ الذُّنُوبِ.

(قَالَ: فَيَأْتُونِّ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَتَخْفِيفٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام: 80]، (فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي) أَيْ: فَأَطْلُبُ الْإِذْنَ مِنْهُ ; لِلْأَدَبِ مَعَ الرَّبِّ (فِي دَارِهِ) أَيْ: دَارِ ثَوَابِهِ وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَقِيلَ: ذَلِكَ تَحْتَ عَرْشِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ فَأَسْتَأْذِنُ فِي الدُّخُولِ عَلَى دَارِ رَبِّي (فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ) أَيْ: فِي الدُّخُولِ عَلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِضَافَةُ دَارِ الثَّوَابِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى هُنَا كَإِضَافَتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 127] عَلَى أَنَّ السَّلَامَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَإِضَافَتُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِلشَّرَفِ وَالْكَرَامَةِ، وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِئْذَانِ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ مَكَانًا لَا يَقِفُ فِيهِ دَاعٍ إِلَّا اسْتُجِيبَ، وَلَا يَقُومُ بِهِ سَائِلٌ إِلَّا أُجِيبَ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْوَاقِفِ فِيهِ وَبَيْنَ رَبِّهِ حِجَابٌ، وَالْحِكْمَةُ فِي نَقْلِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مَوْقِفِهِ ذَلِكَ إِلَى دَارِ السَّلَامِ لِعَرْضِ الْحَاجَةِ هِيَ أَنَّ مَوْقِفَ الْعَرْضِ وَالْحِسَابِ مَوْقِفُ السِّيَاسَةِ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ حَقِّ الشَّفِيعِ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ كَرَامَتِهِ ; فَتَقَعُ الشَّفَاعَةُ مَوْقِعَهَا أَرْشَدَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى وَسَلَّمَ - إِلَى النَّقْلَةِ عَنْ مَوْقِفِ الْخَوْفِ فِي الْقِيَامَةِ إِلَى مَوْقِفِ الشَّفَاعَةِ وَالْكَرَامَةِ، وَذَلِكَ أَيْضًا مَثَلُ الَّذِي يَتَحَرَّى الدُّعَاءَ فِي مَوْقِفِ الْخِدْمَةِ لِيَكُونَ أَحَقَّ بِالْإِجَابَةِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَعْنَاهُ فَيُؤْذَنُ لِي فِي الشَّفَاعَةِ الْمَوْعُودِ بِهَا وَالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الَّذِي أَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ يَبْعَثُهُ فِيهِ.

(فَإِذَا رَأَيْتُهُ) أَيْ: بِارْتِفَاعِ الْحِجَابِ عَنِّي، وَفِي الْمَشَارِقِ: فَإِذَا أَنَا رَأَيْتُهُ بِزِيَادَةِ أَنَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ إِنِّي رَأَيْتُنِي، وَهَذَا الْتِفَاتٌ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ، (وَقَعْتُ سَاجِدًا) أَيْ: خَوْفًا مِنْهُ وَإِجْلَالًا، أَوْ تَوَاضُعًا لَهُ وَإِذْلَالًا، أَوِ انْبِسَاطًا لَهُ وَإِذْلَالًا. (فَيَدَعُنِي) أَيْ: يَتْرُكُنِي (مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي) أَيْ: فِي السُّجُودِ، فَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَسْجُدُ قَدْرَ جُمُعَةٍ مِنْ جُمَعِ الدُّنْيَا، كَذَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ رحمه الله فِي حَاشِيَةِ مُسْلِمٍ، (فَيَقُولُ: ارْفَعْ) أَيْ: رَأْسَكَ مِنَ السُّجُودِ (مُحَمَّدُ) أَيْ: يَا مُحَمَّدُ ; فَإِنَّكَ صَاحِبُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ (وَقُلْ) أَيْ: مَا شِئْتَ (تُسْمَعْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: يُقْبَلْ قَوْلُكَ، أَوْ قُلْ مَا أُلْهِمُكَ مِنَ الثَّنَاءِ لِتُسْمَعَ، أَيْ: تُجَابَ (وَاشْفَعْ) أَيْ: فِيمَنْ شِئْتَ (تُشَفَّعْ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: تُقْبَلْ شَفَاعَتُكَ (وَسَلْ) أَيْ: مَا تُرِيدُ مِنَ الْمَزِيدِ (تُعْطَهْ) بِهَاءِ السَّكْتِ، فِي نُسْخَةٍ بِالضَّمِيرِ، أَيْ: تُعْطَ مَا تَسْأَلُ، فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْفِعْلِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ (قَالَ: فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ: يُلْهِمُنِيهِ حِينَئِذٍ وَلَا أَدْرِيهِ الْآنَ (ثُمَّ أَشْفَعُ)، قَالَ الْقَاضِي: وَجَاءَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: ابْتَدَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ سُجُودِهِ وَحَمْدِهِ وَالْإِذْنِ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ بِقَوْلِهِ: أُمَّتِي (فَيَحُدُّ) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْعَكْسِ، أَيْ: فَيُعَيِّنُ (لِي حَدًّا) : وَهُوَ إِمَّا مَصْدَرٌ أَوِ اسْمٌ، أَيْ: مِقْدَارًا مُعَيَّنًا فِي بَابِ الشَّفَاعَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: يُرِيدُ أَنَّهُ يُبَيِّنُ لِي فِي كُلِّ طَوْرٍ مِنْ أَطْوَارِ الشَّفَاعَةِ حَدًّا أَقِفُ عِنْدَهُ، فَلَا أَتَعَدَّاهُ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ:

ص: 3541

شَفَّعْتُكَ فِيمَنْ أَخَلَّ بِالْجَمَاعَاتِ، ثُمَّ يَقُولُ: شَفَّعْتُكَ فِيمَنْ أَخَلَّ بِالْجُمُعَاتِ، ثُمَّ يَقُولُ: شَفَّعْتُكَ فِيمَنْ أَخَلَّ بِالصَّلَوَاتِ، وَمِثْلُهُ فِيمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ، ثُمَّ فِيمَنْ زَنَى، وَعَلَى هَذَا لِيُرِيَهُ عُلُوَّ الشَّفَاعَةِ فِي عِظَمِ الذَّنْبِ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الشَّنَاعَةِ، (فَأَخْرُجُ) أَيْ: مِنْ دَارِ رَبِّي (فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ) .

قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: فَإِنْ قُلْتَ: دَلَّ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَشْفِعِينَ هُمُ الَّذِينَ حُبِسُوا فِي الْمَوْقِفِ وَهَمُّوا وَحَزِنُوا لِذَلِكَ، فَطَلَبُوا أَنْ يُخَلِّصَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْكَرْبِ، وَدَلَّ قَوْلُهُ: فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ عَلَى أَنَّهُمْ مِنَ الدَّاخِلِينَ فِيهَا فَمَا وَجْهُهُ؟ قُلْتُ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَعَلَّ الْمُؤْمِنِينَ صَارُوا فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةً سَارَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، وَفِرْقَةً حُبِسُوا فِي الْمَحْشَرِ وَاسْتَشْفَعُوا بِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَلَّصَهُمْ مِمَّا فِيهِ، وَأَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ شَرَعَ فِي شَفَاعَةِ الدَّاخِلِينَ فِي النَّارِ زُمَرًا بَعْدَ زُمَرٍ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:(فَيَحُدُّ لِي حَدًّا) إِلَى آخِرِهِ، فَاخْتُصِرَ الْكَلَامُ وَهُوَ مِنْ حِلْيَةِ التَّنْزِيلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا قَانُونًا فِي فُتُوحِ الْغَيْبِ فِي سُورَةِ هُودٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ مِثْلُ هَذَا الِاخْتِصَارِ. قُلْتُ: مُرَادُهُ أَنَّهُ ذَكَرَ الْفِرْقَةَ الثَّانِيَةَ، وَاقْتَصَرَ عَلَى خَلَاصِهَا ; لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهَا خَلَاصُ الْفِرْقَةِ الْأُولَى بِالْأَوْلَى، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، وَثَانِيهِمَا: أَنْ يُرَادَ بِالنَّارِ الْحَبْسُ وَالْكُرْبَةُ، وَمَا كَانُوا بِهِ مِنَ الشِّدَّةِ وَدُنُوِّ الشَّمْسِ إِلَى رُءُوسِهِمْ وَحَرِّهَا وَإِلْجَامِهِمُ الْعَرَقَ، وَبِالْخُرُوجِ الْخَلَاصَ مِنْهَا. قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ مَجَازًا لَكِنَّهُ إِلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ أَقْرَبُ، وَإِلَى أَصْلِ الْقَضِيَّةِ أَنْسَبُ ; فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الشَّفَاعَةُ الْكُبْرَى، وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ وَاللِّوَاءِ الْمَمْدُودِ عَلَى مَا قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، وَمَحَطُّ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ هِيَ الْخَلَاصُ مِنَ الْحَبْسِ وَالْقِيَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمُحَاسَبَةِ لِلْأَنَامِ، وَأَمَّا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَا لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَالْعُلَمَاءِ وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحِينَ وَالْفُقَرَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ شَفَاعَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ فِي إِدْخَالِ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ بِلَا حِسَابٍ، وَإِدْخَالِ بَعْضِهِمُ الْجَنَّةَ وَلَوِ اسْتَحَقُّوا دُخُولَ النَّارِ، وَإِخْرَاجِ بَعْضِهِمْ مِنَ النَّارِ، وَفِي تَخْفِيفِ عَذَابِ بَعْضِهِمْ، وَفِي تَرَقِّي دَرَجَاتِ بَعْضِهِمْ فِي الْجَنَّةِ وَأَمْثَالِهَا، وَلَكِنْ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لَمَا كُرِّرَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ مَرَّاتٍ عَلَى مَا لَا يَخْفَى، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: يَنْقَسِمُ أَهْلُ الْمَوْقِفِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْعُصَاةِ عَلَى أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: تَكُونُ الشَّفَاعَةُ أَقْسَامًا: أَوَّلُهَا لِلْإِرَاحَةِ مِنَ الْمَوْقِفِ، وَثَانِيهَا: لِإِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَثَالِثُهَا: عِنْدَ الْمُرُورِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَرَابِعُهَا: لِلْإِخْرَاجِ مِنَ النَّارِ، فَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ الْقِسْمَيْنِ وَطَوَى الْآخَرِينَ مِنَ الْبَيِّنِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(ثُمَّ أَعُودُ) أَيْ: أَرْجِعُ إِلَى رَبِّي (الثَّانِيَةَ) أَيِ: الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ (فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ) أَيْ: فِي دُخُولِهَا (فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ) أَيْ: بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ (فَإِذَا رَأَيْتُهُ) أَيْ: ذَلِكَ الْمَكَانَ، أَوْ رَأَيْتُ رَبِّي مَعَ تَنْزِيهِهِ عَنِ الْمَكَانِ، وَعَنْ سَائِرِ صِفَاتِ الْحَدَثَانِ (وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي) أَيْ: فِي مَقَامِ الْفَنَاءِ (ثُمَّ يَقُولُ) : رَدًّا لِي إِلَى حَالِ الْبَقَاءِ (ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ) . قَالَ: (فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأَخْرُجُ، فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ الثَّالِثَةَ، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ، فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يَقُولُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ) قَالَ (فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأَخْرُجُ، فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، حَتَّى مَا يَبْقَى فِي النَّارِ) أَيْ: مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ (إِلَّا مَنْ قَدْ حَبَسَهُ

ص: 3542

الْقُرْآنُ) أَيْ: مَنَعَهُ مِنْ خُرُوجِ النَّارِ بِأَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ مُخَلَّدٌ فِي دَارِ الْفُجَّارِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ عَنْ أَنَسٍ، وَهُوَ قَتَادَةُ مِنْ أَجِلَّاءِ التَّابِعِينَ (أَيْ: وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ) أَيْ: دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى خُلُودِهِ وَهُمُ الْكُفَّارُ، وَمَعْنَى وَجَبَ أَيْ ثَبَتَ وَتَحَقَّقَ، أَوْ وَجَبَ بِمُقْتَضَى إِخْبَارِهِ تَعَالَى ; فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّخَلُّفُ أَبَدًا (ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أَنَسٌ، أَوْ قَتَادَةُ، تَذَكُّرًا أَوِ اسْتِشْهَادًا أَوِ اعْتِضَادًا (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) (قَالَ) أَيْ: أَنَسٌ وَهُوَ أَنْسَبُ، أَوْ قَتَادَةُ وَهُوَ أَقْرَبُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ فَاعِلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بُعْدٍ، (وَهَذَا الْمَقَامُ) : مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ مَوْصُوفٌ بِقَوْلِهِ: (الْمَحْمُودُ الَّذِي وَعَدَهُ) أَيِ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ (نَبِيَّكُمْ)، وَفِي نُسْخَةٍ: وُعِدَ نَبِيُّكُمْ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَهَذَا عَلَى أَنَّ فَاعِلَ قَالَ غَيْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظَاهِرٌ لَا إِشْكَالَ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقَائِلَ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَوْجِيهُهُ أَنَّهُ وَضَعَ الْمُظْهَرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ، وَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ يَقُولَ: وَعَدَنِيهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ قَالَ الرَّاوِيَ، وَأَنْ يَكُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى سَبِيلِ التَّجْرِيدِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 3543

5573 -

وَعَنْهُ، قَالَ:«قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: اشْفَعْ إِلَى رَبِّكَ. فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ، فَيَأْتُونَ مُوسَى عليه السلام فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ، فَيَأْتُونِّي فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي، وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لَا تَحْضُرُنِي الْآنَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ يَا رَبِّ! أُمَّتِي أُمَّتِي. فَيُقَالُ: انْطَلِقْ، فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ! أُمَّتِي أُمَّتِي. فَيُقَالُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ أَوْ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ! أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ! ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ، وَلَكِنْ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي لَأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

5573 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ) أَيِ: اخْتَلَطَ وَاضْطَرَبَ (النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ) أَيْ: دَاخِلِينَ فِيهِمْ أَيْ مُقْبِلِينَ مُدْبِرِينَ مُتَحَيِّرِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ (فَيَأْتُونَ آدَمَ) عليه السلام (فَيَقُولُونَ اشْفَعْ) أَيْ: لَنَا (إِلَى رَبِّكَ) ; لِيَأْمُرَ بِالْحِسَابِ، ثُمَّ يُجَازِيَ بِالثَّوَابِ أَوِ الْعِقَابِ (فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا) أَيْ: لَسْتُ كَائِنًا لِلشَّفَاعَةِ وَلَا مُخْتَصًّا بِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: اللَّامُ فِيهِ مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات: 3] الْكَشَّافُ: اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ وَاللَّامُ هِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: أَنْتَ لِهَذَا الْأَمْرِ، أَيْ: كَائِنٌ لَهُ وَمُخْتَصٌّ بِهِ، قَالَ:

أَنْتَ لَهَا أَحْمَدُ مِنْ بَيْنِ الْبَشَرِ

وَفِي قَوْلِهِ: أَنَا لَهَا، وَقَوْلِهِ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ، (وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ) أَيِ: الْزَمُوهُ فَالْبَاءُ زَائِدَةٌ، أَوِ الْمَعْنَى تَشَفَّعُوا وَتَوَسَّلُوا بِهِ ; (فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُ) أَيْ: بَعْدَ قَوْلِهِمُ اشْفَعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاخْتُصِرَ لِلْعِلْمِ بِهِ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرُوا هَذَا الْأَمْرَ بِنَاءً عَلَى كَشْفِ الْقَضِيَّةِ عَنْهُ، (لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ) أَيْ: وَيُنَاسِبُهُ الْكَلَامُ فِي مَرَامِ هَذِهِ الْمَقَامِ (فَيَأْتُونَ مُوسَى عليه السلام فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ) أَيْ: فَإِنَّهُ رُوحُهُ مُسْتَطَابَةٌ، وَكَلِمَتُهُ مُسْتَجَابَةٌ (فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ) عليه السلام أَيْ: فَإِنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَسَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ (فَيَأْتُونِّ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَيُخَفَّفُ (فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي) أَيْ: عَلَى كَلَامِهِ أَوْ عَلَى دُخُولِ دَارِهِ (فَيُؤْذَنُ لِي، وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا) أَيْ: حِينَئِذٍ (لَا تَحْضُرُنِي الْآنَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ) : وَهِيَ جَمْعُ حَمْدٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ كَمَحَاسِنَ جَمْعُ حَسَنٍ أَوْ جَمْعُ مَحْمَدَةٍ (وَأَخِرُّ) : بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ: أَسْقُطُ (لَهُ) أَيْ: لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِشُكْرِهِ (سَاجِدًا) : حَالٌ (فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ،

ص: 3543

وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ) أَيْ: بَعْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ، أَوْ فِي حَالِ السُّجُودِ (يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي) أَيِ: ارْحَمْهُمْ وَاغْفِرْ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَفَضَّلْ عَلَيْهِمْ بِالْكَرَامَةِ، وَكَرَّرَهُ لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ أُرِيدَ بِهِمُ السَّابِقُونَ وَاللَّاحِقُونَ، (فَيُقَالُ: انْطَلِقْ) أَيِ: اذْهَبْ (فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ) أَيْ: وَزْنُهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِقَدْرِهَا، (مِنْ إِيمَانٍ) ، ثُمَّ الْمِثْقَالُ مَا يُوزَنُ بِهِ، مِنَ الثَّقَلِ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّ سَنْجٍ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهِ حَسَبَ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ، وَالتَّأْوِيلُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ أَنْ يُرَادَ بِالْأَمْرِ الْمُقَدَّرِ بِالشَّعِيرِ وَالذَّرَّةِ، وَالْحَبَّةِ وَالْخَرْدَلَةِ، غَيْرُ الشَّيْءِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ إِيمَانٍ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَهُوَ مَا يُوجَدُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ، وَلَمَحَاتِ الْإِيقَانِ، وَلَمَعَانِ الْعِرْفَانِ ; لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ الْخَاصُّ الْقَلْبِيُّ، وَكَذَا الْإِقْرَارُ الْمُقَرَّرُ اللِّسَانِيُّ لَا يَدْخُلُهَا التَّجْزِيءُ وَالتَّبْعِيضُ، وَلَا الزِّيَادَةُ وَلَا النُّقْصَانُ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ، وَحَمَلُوا مَا قَالَهُ غَيْرُهُمْ عَلَى الِاخْتِلَافِ اللَّفْظِيِّ وَالنِّزَاعِ الصُّورِيِّ، (فَأَنْطَلِقُ) أَيْ: فَأَذْهَبُ (فَأَفْعَلُ) أَيْ: مَا أَذِنَ لِي بِالْإِخْرَاجِ مِمَّنْ عَيَّنَ وَبَيَّنَ لِي (ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ! أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ) : وَهِيَ أَقَلُّ الْأَشْيَاءِ الْمَوْزُونَةِ، وَقِيلَ: هِيَ الْهَبَاءُ الَّذِي يَظْهَرُ فِي شُعَاعِ الشَّمْسِ كَرُءُوسِ الْإِبَرِ، وَقِيلَ النَّمْلَةُ الصَّغِيرَةُ (أَوْ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ) : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ أَوِ الشَّكِّ (فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ! أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ) : وَكَرَّرَ أَدْنَى ثَلَاثًا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْقِلَّةِ (فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) أَيْ: وَلَوْ فِي عُمْرِهِ مَرَّةً بَعْدَ إِقْرَارِهِ السَّابِقِ ; فَإِنَّهُ مِنْ جُلَّةِ عَمَلِهِ اللَّاحِقِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ; وَلِإِطْلَاقِ حَدِيثِ:( «مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» ) ، فَإِنَّهُ يَشْمَلُ دُخُولَهُ أَوَّلًا وَآخِرًا.

قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: هَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ مَا قُدِّرَ قَبْلَ ذَلِكَ بِمِثْقَالِ شَعِيرَةٍ، ثُمَّ بِمِثْقَالِ حَبَّةٍ أَوْ خَرْدَلٍ، غَيْرُ الْإِيمَانِ الَّذِي يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ التَّصْدِيقِ، وَهُوَ مَا يُوجَدُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ ثَمَرَةِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَنْ يُرَادَ بِالثَّمَرَةِ ازْدِيَادُ الْيَقِينِ، وَطُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ ; لِأَنَّ ظَاهِرَ الْأَدِلَّةِ أَقْوَى لِلْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَأَثْبَتُ لِقُوَّتِهِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهَا الْعَمَلُ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِالْعَمَلِ، وَيَنْصُرُ هَذَا الْوَجْهَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ بَعْدَ هَذَا، يَعْنِي قَوْلَهُ:(وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنْ نَارٍ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ) .

(قَالَ) أَيِ: اللَّهُ تَعَالَى (لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ، وَلَكِنْ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي لَأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: لَيْسَ هَذَا لَكَ، وَإِنَّمَا أَفْعَلُ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِاسْمِي وَإِجْلَالًا لِتَوْحِيدِي، وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ:(أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي) الْحَدِيثَ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْرَى عَلَى عُمُومِهِ، وَيُحْمَلَ عَلَى حَالٍ وَمَقَامٍ آخَرَ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: إِذَا فَسَّرْنَا مَا يَخْتَصُّ بِاللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصْدِيقِ الْمُجَرَّدِ عَنِ الثَّمَرَةِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ مَا يَخْتَصُّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْإِيمَانُ مَعَ الثَّمَرَةِ مِنِ ازْدِيَادِ الْيَقِينِ أَوِ الْعَمَلِ ; فَلَا اخْتِلَافَ. وَقَالَ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا الْمُحَقِّقِينَ: الْمَعْنَى لَيْسَ إِخْرَاجُ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِنَ النَّارِ لَكَ، أَيْ: إِلَيْكَ، يَعْنِي مُفَوَّضًا إِلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ لَكَ فِيهِمْ مَكَانُ شَفَاعَةٍ، أَوْ لَسْنَا نَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَجْلِكَ، بَلْ لِأَنَّا أَحِقَّاءُ بِأَنَّا نَفْعَلُهُ كَرَمًا وَتَفَضُّلًا، ثُمَّ إِنَّهُ بَيَّنَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَمْرَ فِي إِخْرَاجِ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ مِنَ النَّارِ خَارِجٌ عَنْ حَدِّ الشَّفَاعَةِ، بَلْ هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى مَحْضِ الْكِرَامِ، مُوكَلٌ إِلَيْهِ، وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَسْعَدُ النَّاسِ إِلَخْ، أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ ; لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ بِشَفَاعَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّا عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي، فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ هُمُ الْأُمَمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنْبِيَائِهِمْ لَكِنَّهُمُ اسْتَوْجَبُوا النَّارَ، وَفِي الثَّانِي هُمْ مِنْ أُمَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّنْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 3544

5574 -

( «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ» ". (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ــ

5574 -

( «وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ» ") أَيْ: لَا يَشُوبُهُ شَكٌّ وَشِرْكٌ، وَلَا يَخْلِطُهُ نِفَاقٌ وَسُمْعَةٌ وَرِيَاءٌ (أَوْ نَفْسِهِ) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَقِيلَ: أَسْعَدُ هُنَا بِمَعْنَى أَصْلِ الْفِعْلِ، وَقِيلَ: بَلْ عَلَى بَابِهِ وَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَحْصُلُ لَهُ سَعَادَةُ شَفَاعَتِهِ، لَكِنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُخْلِصَ أَكْثَرُ سَعَادَةً ; فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْفَعُ فِي إِرَاحَةِ الْخَلْقِ مِنْ هَوْلِ الْمَوْقِفِ، وَيَشْفَعُ فِي بَعْضِ الْكُفَّارِ كَأَبِي طَالِبٍ فِي تَخْفِيفِ عَذَابِ النَّارِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْمُرَادُ هُوَ أَسْعَدُ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ مِنَ الْإِخْلَاصِ الْبَالِغِ غَايَتُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّأْكِيدِ ذِكْرُ الْقَلْبِ ; إِذِ الْإِخْلَاصُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، فَفَائِدَتُهُ التَّأْكِيدُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]، وَقَالَ الْقَاضِي رحمه الله: أَسْعَدُ هُنَا بِمَعْنَى السَّعِيدِ ; إِذْ لَا يَسْعَدُ بِشَفَاعَتِهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، أَوِ الْمُرَادُ بِمَنْ قَالَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَمَلٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الرَّحْمَةَ، وَيَسْتَوْجِبُ بِهِ الْخَلَاصَ مِنَ النَّارِ ; فَإِنَّ احْتِيَاجَهُ إِلَى الشَّفَاعَةِ أَكْثَرُ، وَانْتِفَاعَهُ بِهَا أَوْفَرُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: قَدْ سَبَقَ أَنَّ حُلُولَ شَفَاعَتِهِ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ مَنْ أَثْمَرَ لِإِيمَانِهِ إِمَّا مَزِيدُ طُمَأْنِينَةٍ أَوْ عَمَلٌ، وَتَخْتَلِفُ مَرَاتِبُ الْيَقِينِ وَالْعَمَلِ ; فَيَكُونُ التَّفْضِيلُ بِحَسَبِ الْمَرَاتِبِ، وَلِذَلِكَ أَكَّدَ خَالِصًا بِقَوْلِهِ: مِنْ قَلْبِهِ، أَيْ: خَالِصًا كَائِنًا مِنْ قَلْبِهِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْإِخْلَاصَ مَعْدِنُهُ وَمَكَانُهُ الْقَلْبُ، فَذِكْرُ الْقَلْبِ هُنَا تَأْكِيدٌ وَتَقْرِيرٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] الْكَشَّافُ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا اقْتُصِرَ عَلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّهُ آثِمٌ، وَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِ الْقَلْبِ، وَالْجُمْلَةُ هِيَ الْآثِمَةُ لَا الْقَلْبُ وَحْدَهُ؟ قُلْتُ: كِتْمَانُ الشَّهَادَةِ هُوَ أَنْ يُضْمِرَهَا وَلَا يَتَكَلَّمَ بِهَا، فَلَمَّا كَانَ آثِمًا مُفْتَرِيًا بِالْقَلْبِ أُسْنِدَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ إِسْنَادَ الْفِعْلِ إِلَى الْجَارِحَةِ الَّتِي يُعْمَلُ بِهَا أَبْلَغُ، أَلَا تَرَاكَ تَقُولُ إِذَا أَرَدْتَ التَّوْكِيدِ: هَذَا مِمَّا أَبْصَرَتْهُ عَيْنِي، وَمِمَّا سَمِعَتْهُ أُذُنِي، وَمِمَّا عَرَفَهُ قَلْبِي. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ خَالِصًا مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ: أَوْ مِنْ نَفْسِهِ.

ص: 3545

5575 -

وَعَنْهُ، قَالَ:«أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلَحْمٍ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ، وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ، فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً، ثُمَّ قَالَ: " أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَوْمَ يَقُومَ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ ; فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ، فَيَقُولُ النَّاسُ: أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ؟ فَيَأْتُونَ آدَمَ ". وَذَكَرَ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ وَقَالَ: فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ: أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ! أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَبْوَابِ ". ثُمَّ قَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرَ ".» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

5575 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: جِيءَ (بِلَحْمٍ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ، وَكَانَتْ) أَيِ: الذِّرَاعُ (تُعْجِبُهُ، فَنَهَسَ) : بِالْمُهْمَلَةِ، وَقِيلَ بِالْمُعْجَمَةِ، أَيْ: فَأَخَذَ بِمُقَدَّمِ أَسْنَانِهِ (مِنْهَا) أَيْ: مِنَ الذِّرَاعِ يَعْنِي مِمَّا عَلَيْهَا (نَهْسَةً)، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله: أَكْثَرُ الرُّوَاةِ رَوَوْهُ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَرَوَاهُ ابْنُ هَامَانَ بِالْمُعْجَمَةِ، وَالنَّهْسُ بِالْمُهْمَلَةِ الْأَخْذُ بِأَطْرَافِ الْأَسْنَانِ، وَبِالْمُعْجَمَةِ الْأَخْذُ بِالْأَضْرَاسِ (ثُمَّ قَالَ: أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ) أَيْ: جَمِيعِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ: حَيْثُ يَحْتَاجُونَ إِلَى شَفَاعَتِي ذَلِكَ الْيَوْمَ ; لِكَرَامَتِي عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا اضْطُرُّوا أَتَوْا إِلَيَّ طَالِبِينَ لِشَفَاعَتِي، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ:( «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ» ) ، عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ سَائِلٍ قَالَ: مَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ؟ قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِأَعْنِي مِقْدَارًا، أَوْ مَرْفُوعًا بِتَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ هُوَ وَفُتِحَ يَوْمُ عَلَى الْحِكَايَةِ. (وَتَدْنُو الشَّمْسُ) أَيْ: تَقْرُبُ مِنْ رُءُوسِ النَّاسِ (فَيَبْلُغُ النَّاسَ) : بِالنَّصْبِ أَيْ: فَيَلْحَقُهُمْ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ: فَيَصِلُونَ (مِنَ الْغَمِّ) أَيْ: مِنْ أَجْلِهِ وَسَبَبِهِ (وَالْكَرْبِ) : وَهُوَ الْهَمُّ الشَّدِيدُ الْحَاصِلُ مِنَ الْقِيَامِ وَدُنُوِّ الشَّمْسِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ الْحَرُّ التَّامُّ الْمُوجِبُ لِلْعَرَقِ عَلَى وَجْهِ الْإِلْجَامِ (مَا لَا يُطِيقُونَ) أَيْ: مَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهِ ; فَيَجْزَعُونَ وَيَفْزَعُونَ، (فَيَقُولُ النَّاسُ) أَيْ: بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ (أَلَا تَنْظُرُونَ) أَيْ: أَلَا تَتَأَمَّلُونَ وَلَا تَتَفَكَّرُونَ، أَوَلَا تُبْصِرُونَ (مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ) ؟ أَيْ: لِيُرِيحَكُمْ مِنْ هَذَا الْهَمِّ وَالْغَمِّ (فَيَأْتُونَ آدَمَ عليه السلام وَذَكَرَ) أَيْ:

ص: 3545

أَبُو هُرَيْرَةَ أَوِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ) أَيْ: بِطُولِهِ كَمَا سَبَقَ (وَقَالَ: فَأَنْطَلِقُ) أَيْ: فَأَذْهَبُ (فَآتِي) : بِالْمَدِّ أَيْ: فَأَجِيءُ (تَحْتَ الْعَرْشِ)، قِيلَ: وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ، أَنْ يُقَالَ: دَارُهُ الْجَنَّةُ وَالْجَنَّةُ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَقِيلَ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الْجَنَّةِ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْمَوْقِفِ. (فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ) : جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ (وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ: أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ، أَوْ إِشَارَةً إِلَى طَبَقَاتِ الْعُصَاةِ (فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُمْ) أَيْ: مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ (شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَبْوَابِ) أَيْ: لَيْسُوا مَمْنُوعِينَ مِنْ سَائِرِ الْأَبْوَابِ، بَلْ هُمْ مَخْصُوصُونَ لِلْعِنَايَةِ بِذَلِكَ الْبَابِ (ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ، أَيِ: الْبَابَيْنِ الْمَضْرُوبَيْنِ عَلَى مَدْخَلٍ وَاحِدٍ (مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرَ) : بِفَتْحَتَيْنِ مَصْرُوفًا وَقَدْ لَا يُصْرَفُ، فَفِي الصِّحَاحِ هَجَرُ: اسْمُ بَلَدٍ مُذَكَّرٍ مَصْرُوفٍ، وَقَالَ شَارِحٌ: هِيَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى الْبَحْرَيْنِ، وَقِيلَ: مِنْ قُرَى الْمَدِينَةِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْمُولُ. قَالَ الْمُظْهِرُ: الْمِصْرَاعَانِ الْبَابَانِ الْمُغْلَقَانِ عَلَى مَنْفَذٍ وَاحِدٍ، وَالْمِصْرَاعُ مِفْعَالٌ مِنَ الصَّرْعِ، وَهُوَ الْإِلْقَاءُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْبَابُ الْمُغْلَقُ مِصْرَاعًا لِأَنَّهُ كَثِيرُ الْإِلْقَاءِ وَالدَّفْعِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 3546

5576 -

وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

5576 -

(وَعَنْ حُذَيْفَةَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ» ) : بِفَتَحَاتٍ أَيْ: بِجَانِبَيْهِ (يَمِينًا وَشِمَالًا) .

قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: يُرِيدُ بِجَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ نَاحِيَتَيْهِ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَمَانَةَ وَالرَّحِمَ لِعَظَمَةِ شَأْنِهِمَا وَفَخَامَةِ أَمْرِهِمَا، مِمَّا يَلْزَمُ الْعِبَادَ مِنْ رِعَايَةِ حَقِّهِمَا يَمْثُلَانِ هُنَالِكَ لِلْأَمِينِ وَالْخَائِنِ، وَالْوَاصِلِ وَالْقَاطِعِ، فَيُحَاجَّانِ عَنِ الْمُحِقِّ الَّذِي رَاعَاهُمَا، وَيَشْهَدَانِ عَلَى الْمُبْطِلِ الَّذِي أَضَاعَهُمَا ; لِيَتَمَيَّزَ كُلٌّ مِنْهُمَا، وَقِيلَ: يُرْسَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَنْ يُحَاجُّ لَهُمَا وَعَنْهُمَا، وَفِي الْحَدِيثِ حَثٌّ عَلَى رِعَايَةِ حَقِّهِمَا وَالِاهْتِمَامِ بِأَمْرِهِمَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَيُمْكِنُ أَنْ تُحْمَلَ الْأَمَانَةُ عَلَى الْأَمَانَةِ الْعُظْمَى، وَهِيَ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب: 72] ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ صِلَتُهُمَا الْكُبْرَى، وَهِيَ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] فَيَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَكَأَنَّهُمَا اكْتَنَفَا جَنْبَيِ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَقُطْرَيِ الْإِيمَانِ وَالِدَيْنِ الْقَوِيمِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 3546

5577 -

«وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَلَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36] وَقَالَ عِيسَى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] فَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي ". وَبَكَى، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيهِ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا قَالَ، فَقَالَ اللَّهُ لِجِبْرِيلَ: اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: " إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

5577 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ) : عليه السلام، أَيْ: فِي سُورَتِهِ أَوْ حَاكِيًا فِي حَقِّهِ {رَبِّ إِنَّهُنَّ} [إبراهيم: 36] أَيِ: الْأَصْنَامَ {أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 36] أَيْ: صِرْنَ سَبَبَ ضَلَالِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ {فَمَنْ تَبِعَنِي} [إبراهيم: 36] أَيْ: فِي التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ وَالتَّوَكُّلِ {فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36]

ص: 3546

أَيْ مِنْ أَتْبَاعِي وَأَشْيَاعِي، وَتَمَامُهُ:{وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] أَيْ: تَغْفِرُ مَا دُونَ الشِّرْكِ لِمَنْ تَشَاءُ وَتَرْحَمُهُ بِالتَّفَضُّلِ عَلَى مَنْ تَشَاءُ، أَوْ تَغْفِرُ لِلْعَاصِي الْمُشْرِكِ بِأَنْ تَوَفِّقَهُ لِلْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ فِي الدُّنْيَا، وَتَرْحَمَ عَلَيْهِ بِزِيَادَةِ الْمَثُوبَةِ فِي الْعُقْبَى. (وَقَالَ عِيسَى عليه السلام ، قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: هُوَ مَصْدَرٌ، يُقَالُ: قَالَ قَوْلًا وَقِيلًا، وَقَدْ أَضَافَ إِلَى عِيسَى عَطْفًا عَلَى مَفْعُولِ تَلَا، أَيْ: تَلَا قَوْلَ اللَّهِ وَقَوْلَ عِيسَى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] ، وَآخِرُهُ: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] أَيْ: لَا يَغْلِبَنَّكَ شَيْءٌ ; فَإِنَّكَ الْقَوِيُّ الْقَادِرُ وَتَحْكُمُ بِمَا تَشَاءُ، فَأَنْتَ الْحَاكِمُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، أَوِ الْحَكِيمُ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ فِي مَوْضِعِهَا، وَيُتْقِنُ الْأَفْعَالَ وَيُحْسِنُهَا، (فَرَفَعَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَدَيْهِ) أَيْ: كَرِيمَتَيْهِ (فَقَالَ: اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي) أَيِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي، اللَّهُمَّ ارْحَمْ أُمَّتِي، وَلَعَلَّ هَذَا وَجْهُ التَّكْرَارِ، أَوْ أُرِيدَ بِهِ التَّأْكِيدُ، أَوْ قُصِدَ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ (وَبَكَى) ; لِأَنَّهُ تَذَكَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشَّفَاعَةَ الصَّادِرَةَ عَنِ الْخَلِيلِ وَرُوحِ اللَّهِ فَرَقَّ لِأُمَّتِهِ (فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ) : جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ حَالِيَّةٌ دَفْعًا لِمَا يُوهِمُهُ قَوْلُهُ: (فَاسْأَلْهُ) : بِالْهَمْزِ وَالنَّقْلِ (مَا يُبْكِيهِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ) أَيْ: بِشَيْءٍ قَالَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سَبَبِ الْبُكَاءِ، وَهُوَ الْخَوْفُ لِأَجْلِ أُمَّتِهِ (فَقَالَ لَهُ لِجِبْرِيلَ: اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا) أَيْ: بِعَظَمَتِنَا (سَنُرْضِيكَ) أَيْ: سَنَجْعَلُكَ رَاضِيًا (فِي أُمَّتِكَ) أَيْ: فِي حَقِّهِمْ (وَلَا نَسُوءُكَ) أَيْ: وَلَا نُحْزِنُكَ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ، بَلْ نُنْجِيهِمْ، وَلِأَجْلِ رِضَاكَ نُرْضِيهِمْ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى تَأْكِيدٌ ; إِذْ رُبَّمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ سَنُرْضِيكَ نُرْضِيكَ فِي حَقِّ الْبَعْضِ ; وَلِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا يَرْضَى مُحَمَّدٌ وَأَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ فِي النَّارِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: لَعَلَّهُ عليه الصلاة والسلام أَتَى بِذِكْرِ الشَّفَاعَةِ الَّتِي صَدَرَتْ عَنِ النَّبِيِّينَ عَنِ الْخَلِيلِ بِتَقْدِيرِ الشَّرْطِ وَالصِّيغَةِ الشَّرْطِيَّةِ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْأَصْنَامَ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ تَابَ مِنْ عِبَادَتِهَا وَتَبِعَنِي فِي التَّوْحِيدِ، فَإِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِي فَأَقْبَلُ شَفَاعَتِي فِيهِمْ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ تَابَ لِأَنَّهُ مُصَحِّحُ الشَّفَاعَةِ فِي حَقِّ الْمُشْرِكِينَ. قُلْتُ إِنَّمَا يُحْتَاجُ تَقْدِيرُ تَابَ فِي الشَّرْطِيَّةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَمَنْ عَصَانِي. قَالَ: وَعَنْ رُوحِ اللَّهِ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي (تَغْفِرْ لَهُمْ) رَاجِعٌ إِلَى مَنِ اتَّخَذَهُ وَأُمَّهُ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ بَعْدَمَا تَابُوا عَنْ ذَلِكَ ; فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قُلْتُ: لَا يُلَائِمُهُ مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] ، مَعَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَصْدُرُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ التَّوْبَةِ هُنَاكَ، ثُمَّ الْجَزَاءُ فِي الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ:{فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] فِي كَلَامِ عِيسَى عليه الصلاة والسلام وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] جَزَاءٌ لِلشَّرْطِيَّةِ الْوَاقِعَةِ فِي كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، ثُمَّ قَالَ وَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ أُمَّتِي ; لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الْفَرْقَ بَيْنَ الشَّفَاعَتَيْنِ ; وَيُبَيِّنَ مَا بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، وَفِيهِ أَنَّ هَذَا الْبَيَانَ يَحْتَاجُ إِلَى الْبُرْهَانِ وَالتِّبْيَانِ، فَإِنَّ الْعَرْضَ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ أَبْلَغُ مِنَ التَّصْرِيحِ بِالدُّعَاءِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ أَرْبَابِ الْفَنَاءِ وَالْبَقَاءِ، وَكَذَلِكَ طَرِيقُ التَّفْوِيضِ وَالتَّسْلِيمِ وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَلَا يَظْهَرُ بَيَانٌ لِلْمُدَّعِي وَلَا تِبْيَانٌ لِلْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: أُمَّتِي أُمَّتِي مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ إِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ شَفِّعْنِي فِي أُمَّتِي وَأَرْضِنِي فِيهَا، أَوْ أُمَّتِي ارْحَمْهُمْ وَأَرْضِنِي بِالشَّفَاعَةِ فِيهِمْ، وَالْحَذْفُ لِضِيقِ الْمَقَامِ وَشِدَّةِ الِاهْتِمَامِ. قُلْتُ: يَحْتَاجُ أَيْضًا هَذَا الْكَلَامُ إِلَى تَوْضِيحِ الْمَرَامِ. قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْجَزْمِ وَالْقَطْعِ. قُلْتُ: الدُّعَاءُ لَا يَكُونُ بِطَرِيقِ الْقَطْعِ ; إِذْ لَا حُكْمَ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَمَآلُ الطَّرِيقَيْنِ فِي الدُّعَاءِ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْمَقْصِدِ جَاحِدٌ. قَالَ: وَالتَّكْرِيرُ لِمَزِيدِ التَّقْرِيرِ. قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ وُجُوهٌ أُخَرُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الدُّعَاءِ ; فَإِنَّ الْإِلْحَاحَ مِنَ الْعَبْدِ فِي الْمَسْأَلَةِ لَا يُنَافِي الرِّضَا بِالْقَضَاءِ. قَالَ: وَمِنْ ثَمَّ أُجِيبَ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ:

ص: 3547

إِنَّا سَنُرْضِيكَ ; حَيْثُ أَتَى بِأَنْ وَضَمِيرِ التَّعْظِيمِ وَسِينِ التَّأْكِيدِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: لَا نَسُوءُكَ تَقْرِيرًا بَعْدَ تَقْرِيرٍ عَلَى الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] زِيدَ لَامُ الِابْتِدَاءِ عَلَى حَرْفِ الِاسْتِقْبَالِ وَلَفْظَةِ: رَبُّكَ، وَجُمِعَ بَيْنَ حَرْفَيِ التَّأْكِيدِ وَالتَّأْخِيرِ ; فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَلَأَنْتَ سَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ، وَإِنْ تَأَخَّرَ الْعَطَاءُ، وَقَوْلُهُ: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ مِنْ بَابِ التَّتْمِيمِ صِيَانَةً عَمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَوَهَّمَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون: 1] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] .

قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: هَذَا الْحَدِيثُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْفَوَائِدِ، مِنْهَا: بَيَانُ كَمَالِ شَفَقَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أُمَّتِهِ، وَاعْتِنَائِهِ بِمَصَالِحِهِمْ، وَاهْتِمَامِهِ فِي أَمْرِهِمْ، وَمِنْهَا: الْبِشَارَةُ الْعَظِيمَةُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ بِمَا وَعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ، وَهَذَا مِنْ أَرْجَى الْأَحَادِيثِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَمِنْهَا: بَيَانُ عِظَمِ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْحِكْمَةِ فِي إِرْسَالِ جِبْرِيلَ عليه الصلاة والسلام لِسُؤَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِظْهَارًا لِشَرَفِهِ، وَأَنَّهُ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى ; فَيَرْضَى وَيُكْرَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، وَكَذَا الْبُخَارِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ.

ص: 3548

5578 -

«وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " نَعَمْ، هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ مَعَهَا سَحَابٌ؟ وَهَلْ تَضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ؟ ". قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " مَا تَضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا، إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ: لِيَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ ; فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْصَابِ إِلَّا يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ: فَمَاذَا تَنْظُرُونَ؟ يَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ. قَالُوا: يَا رَبَّنَا فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ» .

ــ

5578 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ» ) أَيْ: تَرَوْنَ رَبَّنَا. ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ رحمه الله فِي بَعْضِ تَعَالِيقِهِ أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْمَوْقِفِ حَاصِلَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، حَتَّى قِيلَ لِلْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ أَيْضًا، ثُمَّ يُحْجَبُونَ بَعْدَ ذَلِكَ ; لِيَكُونَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً، وَأَقُولُ: وَفِيهِ بَحْثٌ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] ; وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا سَيَأْتِي: (حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ) ; وَلِأَنَّ لَذَّةَ النَّظَرِ وَلَوْ مَرَّةً تُنْسِي كُلَّ مِحْنَةٍ وَشِدَّةٍ، بَلْ يَرْتَفِعُ بِهِ كُلُّ حَسْرَةٍ ; إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّظَرَ لَا يُوجَدُ دَائِمًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ أَيْضًا. قَالَ: وَأَمَّا الرُّؤْيَةُ فِي الْجَنَّةِ فَأَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّهَا حَاصِلَةٌ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالصِّدِّيقِينَ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ، وَرِجَالِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْبَشَرِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَفِي نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ثَلَاثُ مَذَاهِبَ: لَا يَرَيْنَ، وَيَرَيْنَ، وَيَرَيْنَ فِي مِثْلِ أَيَّامِ الْأَعْيَادِ دُونَ غَيْرِهَا، وَفِي الْمَلَائِكَةِ قَوْلَانِ: لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ، وَيَرَوْنَهُ. وَفِي الْجِنِّ أَيْضًا خِلَافٌ. (هَلْ تُضَارُّونَ) : بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِهَا مَعَ تَشْدِيدِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِهَا.

قَالَ شَيْخُنَا الْمَرْحُومُ مَوْلَانَا عَبْدُ اللَّهِ السِّنْدِيُّ: فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، لَكِنْ فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ ضَمَّ التَّاءِ مَعَ التَّشْدِيدِ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ، مَعَ احْتِمَالِ بِنَائِهِ لِلْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ، وَكَذَلِكَ فَتْحُ التَّاءِ مَعَ التَّشْدِيدِ ; فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّفَاعُلِ عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّائَيْنِ، وَهُوَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَأَمَّا ضَمُّ التَّاءِ مَعَ تَخْفِيفِ الرَّاءِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لِلْمَجْهُولِ، مِنْ ضَارَهُ يَضِيرُهُ أَوْ يَضُورُهُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ بِمَعْنَى صَرَفَ، وَأَمَّا فَتْحُ التَّاءِ مَعَ الرَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ، فَلَا وَجْهَ لَهُ بِحَسَبِ الْقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْمَعْنَى: هَلْ تَتَدَافَعُونَ وَتَتَزَاحَمُونَ لِيَحْصُلَ لَكُمْ ضَرَرٌ (فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ) أَيْ: وَقْتَ انْتِصَافِ النَّهَارِ (صَحْوًا) أَيْ: حِينَ لَا سَحَابَ وَلَا غُبَارَ، مِنْ أَصْحَتِ السَّمَاءُ إِذَا خَلَتْ مِنَ الْغَيْمِ، كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَفِي الْقَامُوسِ: الصَّحْوُ ذَهَابُ الْغَيْمِ، فَقَوْلُهُ:(لَيْسَ مَعَهَا سَحَابٌ) ؟ تَأْكِيدٌ، وَالْمُرَادُ بِالسَّحَابِ الْحِجَابُ، أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَانِبِ الرَّائِي، أَوْ مِنْ جَانِبِ الْمَرْئِيِّ، ثُمَّ أَكَّدَ ثَالِثًا وَأَظْهَرَ مِثَالًا آخَرَ بِقَوْلِهِ:(وَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ فِيهَا) أَيْ: فِي السَّمَاءِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ، أَوْ فِي جِهَةِ رُؤْيَةِ الْقَمَرِ مِنَ السَّمَاءِ (سَحَابٌ) ؟ أَيْ مَانِعٌ وَحِجَابٌ (قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: مَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : أُرِيدَ

ص: 3548

بِهِ الْمَوْقِفُ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ (إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا) ، وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ وَتَعْلِيقٌ بِالْمُحَالِ، أَيْ: لَوْ كَانَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا مُضَارَّةٌ لَكَانَ فِي رُؤْيَتِهِ مُضَارَّةٌ، وَالتَّشْبِيهُ إِنَّمَا هُوَ لِمُجَرَّدِ الظُّهُورِ، وَتَحَقُّقِ الرُّؤْيَةِ مَعَ التَّنَزُّهِ عَنْ صِفَاتِ الْحُدُوثِ مِنْ نَحْوِ الْمُقَابَلَةِ وَالْجِهَةِ، وَلَعَلَّ ذِكْرَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ حَاصِلَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، عَلَى غَايَةٍ مِنَ الظُّهُورِ وَنِهَايَةٍ مِنَ الْأَنْوَارِ، وَإِيمَاءٍ إِلَى تَفَاوُتِ التَّجَلِّي الرَّبَّانِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَبْرَارِ، (إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) أَيْ: نَادَى مُنَادٍ (لِيَتَّبِعْ) : بِتَشْدِيدِ التَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالسُّكُونِ وَالْفَتْحِ، أَيْ: لِيَعْقُبَ (كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ) : بَيَانُ غَيْرِ اللَّهِ (وَالْأَنْصَابِ) : جَمْعُ نَصْبٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّهَا وَسُكُونِ الصَّادِ وَيُضَمَّانِ، وَهِيَ حِجَارَةٌ كَانَتْ تُنْصَبُ وَتُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَذْبَحُونَ عَلَيْهَا تَقَرُّبًا إِلَى آلِهَتِهِمْ، وَكُلُّ مَا نُصِبَ وَاعْتُقِدَ تَعْظِيمُهُ مِنَ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَهُوَ النَّصْبُ، (إِلَّا يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ) ; لِأَنَّ الْأَنْصَابَ وَالْأَصْنَامَ مُلْقَاةٌ فِيهَا (حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ) أَيْ: وَحْدَهُ (مِنْ بَرٍّ) أَيْ: مُطِيعٍ صَالِحٍ (وَعَاصٍ) أَيْ: فَاجِرٍ فَاسِقٍ (أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ) أَيْ: أَتَاهُمْ أَمْرُهُ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ:(قَالَ) أَيِ: الرَّبُّ (فَمَاذَا تَنْظُرُونَ) ؟ أَيْ: تَنْتَظِرُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعَبَّرَ بِالْإِتْيَانِ عَنِ التَّجَلِّيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالتَّعْرِيفَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ، بَلْ قِيلَ: هُوَ الْقَوْلُ الْحَقُّ، وَهُوَ بِالِاعْتِبَارِ أَوْلَى وَأَحَقُّ، وَقِيلَ: الْإِتْيَانُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنْ رُؤْيَتِهِمْ إِيَّاهُ ; لِأَنَّ مَنْ غَابَ عَنْ غَيْرِهِ لَا يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ إِلَّا بَعْدَ الْإِتْيَانِ، فَعَبَّرَ بِالْإِتْيَانِ عَنِ الرُّؤْيَةِ مَجَازًا، وَقِيلَ: الْإِتْيَانُ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ سَمَّاهُ إِتْيَانًا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِتْيَانُ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ.

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله: وَهَذَا الْوَجْهُ أَشْبَهُ عِنْدِي بِالْحَدِيثِ، أَوْ يَكُونُ مَعْنَاهُ: يَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِي صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ مَخْلُوقَاتِهِ الَّتِي لَا تُشْبِهُ صِفَاتِ الْإِلَهِ لِيَخْتَبِرَهُمْ، فَإِذَا قَالَ لَهُمُ الْمَلَكُ، أَوْ هَذِهِ الصُّورَةُ: أَنَا رَبُّكُمْ، وَرَأَوْا عَلَيْهِ مِنْ عَلَامَةِ الْمَخْلُوقِ يُنْكِرُونَهُ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ رَبَّهُمْ، فَيَسْتَعِيذُونَ بِاللَّهِ مِنْهُ، وَقِيلَ: الرُّؤْيَةُ حَقِيقَةٌ غَيْرَ أَنَّا لَا نُكَيِّفُ ذَلِكَ، وَقِيلَ: كُنْهُ مَعْرِفَتِهَا إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: إِتْيَانُ اللَّهِ فِي الْكِتَابِ مُفَسَّرٌ بِإِتْيَانِ أَمْرِهِ، وَإِتْيَانِ بِأْسِهِ، وَلَفْظُ التَّنْزِيلِ مُحْتَمِلٌ لِكِلَا الْقَوْلَيْنِ، فَأَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ فَإِنَّهُ يُئَوَّلُ عَلَى إِتْيَانِ أَمْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَمَاذَا تَنْظُرُونَ؟ وَمِنَ السَّلَفِ مَنْ تَنَزَّهَ عَنْ تَأْوِيلِهِ خَشْيَةَ الْخَطَأِ، مَعَ تَمَسُّكِهِ بِعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَهِيَ تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الِاتِّصَافِ بِمَا تَتَحَدَّثُ بِهِ النُّفُوسُ مِنْ أَوْصَافِ الْخَالِقِ.

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْفُتُوحِ الْعِجْلِيُّ فِي كِتَابِ الْأَقَاوِيلِ الْمَشْهُورَةِ: قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَدْ تَكَلَّمَ الشَّيْخُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ رحمه الله فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَتَأْوِيلِهِ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ. قَالَ: إِنَّ هَذَا مَوْضِعٌ يَحْتَاجُ الْكَلَامُ فِيهِ إِلَى تَأْوِيلٍ وَتَخَرُّجٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّا نُنْكِرُ رُؤْيَةَ اللَّهِ سبحانه وتعالى، بَلْ نُثْبِتُهَا، وَلَا مِنْ أَجْلِ أَنَّا نَدْفَعُ مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ ذِكْرِ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ، غَيْرَ أَنَّا لَا نُكَيِّفُ ذَلِكَ، وَلَا نَجْعَلُهُ حَرَكَةً وَانْتِقَالًا كَمَجِيءِ الْأَشْخَاصِ وَإِتْيَانِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ نُعُوتِ الْحَادِثِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ الَّتِي هِيَ ثَوَابُ الْأَوْلِيَاءِ وَكَرَامَةٌ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، غَيْرُ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي مَقَامِهِمْ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ صُهَيْبٍ فِي الرُّؤْيَةِ يَعْنِي كَمَا سَيَجِيءُ فِي بَابِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا تَعَرُّضُهُمْ لِهَذِهِ الرُّؤْيَةِ امْتِحَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ، فَيَقَعُ بِهَا التَّمْيِيزُ بَيْنَ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ تَعَالَى وَبَيْنَ مَنْ عَبَدَ الطَّوَاغِيتَ ; لِيَتَّبِعَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مَعْبُودَهُ، وَلَيْسَ نُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ الِامْتِحَانُ إِذْ ذَاكَ بَعْدُ قَائِمًا، وَحُكْمُهُ عَلَى الْخَلْقِ جَارِيًا حَتَّى يَفْرَغَ مِنَ الْحِسَابِ، وَيَقَعَ الْجَزَاءُ بِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الثَّوَابِ أَوِ الْعِقَابِ، ثُمَّ يَنْقَطِعُ إِذَا حَقَّتْ وَاسْتَقَرَّتِ الْحَقَائِقُ أَمْرُ الْعِبَادِ قَرَارُهَا، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42]، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ:( «إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَسْجُدُونَ وَيَصِيرُ ظُهُورُ الْمُنَافِقِينَ طَبَقًا وَاحِدًا» ) . قَالَ: وَيُخَرَّجُ مَعْنَى إِتْيَانِ

ص: 3549

اللَّهِ فِي هَذَا إِيَّاهُمْ أَنَّهُ يُشْهِدُهُمْ رُؤْيَتَهُ لِيَتَيَقَّنُوهُ ; فَيَكُونُ مَعْرِفَتُهُمْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ عِيَانًا كَمَا كَانَ اعْتِرَافُهُمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ فِي الدُّنْيَا عِلْمًا وَاسْتِدْلَالًا، وَيَكُونُ طَرِيقُ الرُّؤْيَةِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ إِتْيَانِ الْآتِي مِنْ حَيْثُ لَمْ يَكُونُوا شَاهَدُوهُ، ثُمَّ قَوْلُهُ: فَمَاذَا تَنْظُرُونَ؟ أَيْ: قُلْنَا لَكُمْ لِيَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، فَبَعْضُكُمُ اتَّبَعَ مَا عَبَدَهُ، فَلِمَ أَنْتُمْ أَيْضًا لَا تَتْبَعُونَهُ؟ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ:(يَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ)، فَإِنَّ لَفْظَهُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ أَمْرٌ (قَالُوا: يَا رَبَّنَا فَارَقْنَا النَّاسَ) أَيِ: الَّذِينَ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ نَعْبُدَ مَا سِوَاهُ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى: مَا اتَّبَعْنَاهَا مَا دُمْنَا فِي الدُّنْيَا (أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ: فِي أَفْقَرِ أَكْوَانِنَا إِلَى النَّاسِ (وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ) أَيْ: فِي أَفْعَالِهِمْ، بَلْ قَاتَلْنَاهُمْ وَحَارَبْنَاهُمْ، وَعَادَيْنَاهُمْ وَقَاطَعْنَاهُمْ لِمَرْضَاتِكَ وَرَجَاءً لِتَجَلِّيَاتِكَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّا مَا اتَّبَعْنَاهُمْ حِينَئِذٍ وَالْأَمْرُ غَيْبٌ عَنَّا، وَنَحْنُ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ، فَكَيْفَ نَتْبَعُهُمُ الْآنَ وَقْتَ الْعِيَانِ؟ إِنَّهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ.

قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَفْقَرَ: حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ فَارَقْنَا، وَمَا: مَصْدَرِيَّةٌ وَالْوَقْتُ مُقَدَّرٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ تَضَرَّعُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَجَأُوا إِلَيْهِ وَتَوَسَّلُوا بِهَذَا الْقَوْلِ الْمُشْعِرِ بِالْإِخْلَاصِ إِلَى الْخَلَاصِ، يَعْنِي: رَبَّنَا فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا، الَّذِينَ زَاغُوا عَنْ طَاعَتِكَ مِنَ الْأَقْرِبَاءِ، وَمِمَّنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِمْ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَهَكَذَا كَانَ دَأْبُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُقَاطِعُونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مَعَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَآثَرُوا رِضَا اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ.

ص: 3550

5579 -

وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: (فَيَقُولُونَ: هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ) . وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ: ( «فَيَقُولُ هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ، فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلَّا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ، وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ، وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، وَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرَفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ، وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ، وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً فِي الْحَقِّ - وَقَدْ بُيِّنَ لَكُمْ - مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ فِي النَّارِ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا، وَيُصَلُّونَ، وَيَحُجُّونَ. فَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ، فَتُحَرَّمُ صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ، فَيَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا. ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيِّرًا، فَيَقُولُ اللَّهُ: شُفِّعَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَشُفِّعَ النَّبِيُّونَ، وَشُفِّعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا، فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهْرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ نَهْرُ الْحَيَاةِ، فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ، فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِمُ، فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ: هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ، أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ وَمِثْلُهُ مَعَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

5579 -

(وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَيَقُولُونَ: هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا) أَيْ: يَتَجَلَّى عَلَيْنَا بِوَجْهٍ نَعْرِفُهُ، (فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا) أَيْ: عَلَى مَا عَرَفْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الصُّورَةِ وَالْكَمِّيَّةِ، وَالْكَيْفِيَّةِ وَالْجِهَةِ وَأَمْثَالِهَا، (عَرَفْنَاهُ) أَيْ: حَقَّ الْمَعْرِفَةِ. قِيلَ: يُشْبِهُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا مَنَعَهُمْ عَنْ تَحَقُّقِ الرُّؤْيَةِ فِي الْكَرَّةِ الْأُولَى، حَتَّى قَالُوا: هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا ; مِنْ أَجْلِ مَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ لَا يَسْتَحِقُّونَ الرُّؤْيَةَ، وَهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ مَحْجُوبُونَ، فَلَمَّا مُيِّزُوا عَنْهُمُ ارْتَفَعَ الْحِجَابُ، فَقَالُوا عِنْدَمَا رَأَوْهُ: أَنْتَ رَبُّنَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ.

(وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ: فَيَقُولُ هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ) أَيْ: بَيْنَ رَبِّكُمْ (آيَةٌ) أَيْ: عَلَامَةٌ (تَعْرِفُونَهُ) ؟ أَيْ: بِتِلْكَ الْآيَةِ، وَهِيَ الْمَعْرِفَةُ وَالْمَحَبَّةُ الَّتِي هِيَ نَتِيجَةُ التَّوْحِيدِ، وَثَمَرَةُ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ، (يَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) : بِصِيَغِةِ الْمَجْهُولِ، وَقِيلَ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ، قِيلَ: مَعْنَى كَشْفِ السَّاقِ زَوَالُ الْخَوْفِ وَالْهَوْلِ، (فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ) أَيْ: مِنْ نَحْوِهَا وَجِهَتِهَا مُخْلِصًا لَا لِجِهَةِ اتِّقَاءِ الْخَلْقِ وَتَعْلِيقِ الرَّجَاءِ بِهِمْ، (إِلَّا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ، وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً) أَيِ: احْتِرَاسًا مِنَ السَّيْفِ، أَوْ خَوْفًا مِنَ النَّاسِ (وَرِيَاءً) أَيْ: مُرَايَاةً وَمُسَامَعَةً لِلْخَلْقِ (إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً)، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ رحمه الله: قَوْلُهُ: طَبَقَةً وَاحِدَةً أَيْ صَفْحَةً، أَيْ: صَارَ فَقَارُ ظَهْرِهِ وَاحِدَةً كَالصَّفْحَةِ، (كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ) أَيْ: سَقَطَ (عَلَى قَفَاهُ) .

قَالَ الشَّيْخُ رحمه الله: وَالَّذِي يُوَضِّحُ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَبُو سُلَيْمَانَ أَنَّ الدُّنْيَا - وَإِنْ كَانَتْ دَارَ ابْتِلَاءٍ - فَقَدْ يَتَحَقَّقُ الْجَزَاءُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] ، فَكَذَا الْآخِرَةُ، وَإِنْ كَانَتْ دَارَ جَزَاءٍ فَقَدْ يَقَعُ بِهَا الِابْتِلَاءُ أَيْ بِالتَّجَلِّي وَالسُّجُودِ وَنَحْوِهِمَا ; بِدَلِيلِ أَنَّ الْقَبْرَ هُوَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ

ص: 3550

يَجْزِي فِيهِ الِابْتِلَاءُ، ثُمَّ قَالَ: فَلَئِنْ كَانَ مَعْنَى الْخَبَرِ هَذَا فَذَاكَ، وَإِلَّا فَمَعْنَاهُ مَا أَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ كُلِّ مُمَاثَلَةٍ وَمُشَابَهَةٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: هَذَا السُّجُودُ امْتِحَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42] عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ. أَقُولُ: الْأَظْهَرُ مَا قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ مِنْ أَنَّ التَّحْقِيقَ هُوَ أَنَّ التَّكْلِيفَ خَاصٌّ بِالدُّنْيَا، وَأَمَّا مَا يَقَعُ فِي الْقَبْرِ وَفِي الْمَوْقِفِ، فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَثَارِ ذَلِكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: وَقَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ الْجَمْعَ الَّذِي فِيهِمُ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُنَافِقُونَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى، ثُمَّ يَمْتَحِنُ بِالسُّجُودِ، فَمَنْ سَجَدَ كَانَ مُخْلِصًا، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ كَانَ مُنَافِقًا، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى.

(ثُمَّ يُضْرَبُ) أَيْ: يُجْعَلُ وَيُمَدُّ (الْجِسْرُ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَيُفْتَحُ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْجَسْرُ الَّذِي يُعْبَرُ عَلَيْهِ، وَيُكْسَرُ، وَالْمَعْنَى مَوْضِعُ الصِّرَاطِ، كَمَا فِي رِوَايَةٍ (عَلَى جَهَنَّمَ) أَيْ: مَتْنِهَا أَوْ وَسَطِهَا (وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ وَيُضَمُّ، أَيْ: تَقَعُ وَيُؤْذَنُ فِيهَا (فَيَقُولُونَ) أَيِ: الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ ; بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بَعْدَ هَذَا، (اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ) : تَكْرَارُهُ مَرَّتَيْنِ الْمُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ، أَوْ بِاعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الشَّفَاعَةِ، أَوْ لِلْإِلْحَاحِ فِي الدُّعَاءِ كَمَا هُوَ مِنْ آدَابِهِ، وَهُوَ أَمْرُ مُخَاطَبٍ، أَيْ: يَقُولُ كُلُّ نَبِيٍّ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ أُمَّتِي مِنْ ضَرَرِ الصِّرَاطِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُمْ سَالِمِينَ مِنْ آفَاتِهِ، آمِنِينَ مِنْ مَخَافَاتِهِ. (فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرَفِ الْعَيْنِ)، وَفِي الْمَصَابِيحِ كَطَرْفَةِ الْعَيْنِ. قَالَ شَارِحٌ لَهُ: التَّاءُ لِلْوَحْدَةِ، يُقَالُ طَرَفَ طَرَفًا إِذَا أَطْبَقَ أَحَدَ جَفْنَيْهِ عَلَى الْآخَرِ، (وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ) أَيْ: بِحَسَبِ مَقَامَاتِهِمْ، وَعَلَى قَدْرِ حَالَاتِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْجَذْبَةِ وَقُوَّةِ الطَّيَرَانِ وَسُرْعَةِ الْجَرَيَانِ، الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ:(وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ) : هِيَ جَمْعُ أَجْوَادٍ، وَهُوَ جَمْعُ جَوَادٍ، وَهُوَ الْفَارِسُ السَّابِقُ الْجَيِّدُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، فَجَوَادٌ نَعْتٌ مِنْ جَادَ إِذَا أَسْرَعَ فِي السَّيْرِ، وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَقَوْلُهُ:(وَالرِّكَابِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ عَطْفٌ عَلَى الْخَيْلِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْإِبِلُ، وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، (فَنَاجٍ) : الْفَاءُ لِلتَّفْرِيغِ أَوِ التَّفْضِيلِ، وَقَدْ قَسَّمَ الْمَارَّةَ عَلَى الصِّرَاطِ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ عَلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ، بِحَسَبِ مَرَاتِبِهِمْ فِي الْعَقِيدَةِ وَالْعَمَلِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَالْمَعْنَى: فَمِنْهُمْ نَاجٍ (مُسَلَّمٌ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ: يَنْجُو مِنَ الْعَذَابِ وَلَا يَنَالُهُ مَكْرُوهٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ، (وَمَخْدُوشٌ) أَيْ: وَمِنْهُمْ مَجْرُوحٌ (مُرْسَلٌ) أَيْ: مُخَلَّصٌ. قَالَ شَارِحٌ: أَيِ الَّذِي يُخْدَشُ بِالْكَلُّوبِ فَيُرْسَلُ إِلَى النَّارِ مِنْ عُصَاةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَقَوْلُهُ: مُرْسَلٌ أَيْ مُطْلَقٌ مِنَ الْقَيْدِ وَالْغَلِّ بَعْدَ أَنْ عُذِّبُوا مُدَّةً، (وَمَكْدُوسٌ) : بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ: وَمِنْهُمْ مَدْفُوعٌ (فِي نَارِ جَهَنَّمَ) : يُقَالُ: كُدِسَ إِذَا دُفِعَ مِنْ وَرَائِهِ فَسَقَطَ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا مَنْجَا وَلَا مَلْجَأَ لَهُمْ، الْمَقْضِيُّونَ بِالْخُلُودِ عَلَيْهِمْ، كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:(وَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ) اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ: (فَنَاجٍ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ (فَيَمُرُّ) لَا أَنَّهُ تَفْرِيعٌ لَهُ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُمُ الْمُقَدَّرُ رَاجِعٌ إِلَى جَمِيعِ الْمَارَّةِ عَلَى الْجِسْرِ، وَرُوِيَ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ كَدَشَهُ إِذَا سَاقَهُ سَوْقًا شَدِيدًا، وَخَدَشَهُ وَجَرَحَهُ وَطَرَدَهُ، وَرُوِيَ مَكْدُوشٌ أَيْ مُلْقًى فِي نَارِ جَهَنَّمَ.

قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: مَكْدُوسٌ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ أَكْثَرِ الرُّوَاةِ، قَالَ: وَرَوَاهُ الْعُذْرِيُّ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَمَعْنَاهُ بِالْمُعْجَمَةِ السَّوْقُ الشَّدِيدُ، وَبِالْمُهْمَلَةِ كَوْنُ الْأَشْيَاءِ بَعْضُهَا رَاكِبَةً عَلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ تَكَدَّسَتِ الدَّوَابُّ فِي سَيْرِهَا إِذَا رَكِبَ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَفِي النِّهَايَةِ: مَكْدُوسٌ فِي النَّارِ أَيْ: جُمِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَأُلْقِيَ فِيهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: قَسَّمَ الْمَارَّةَ عَلَى الصِّرَاطِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ: قِسْمٌ مُسَلَّمٌ فَلَا يَنَالُهُ شَيْءٌ أَصْلًا، وَقِسْمٌ يُخْدَشُ ثُمَّ يُرْسَلُ فَيَخْلُصُ، وَقِسْمٌ يُكَرْدَسُ وَيُلْقَى فَيَسْقُطُ فِي جَهَنَّمَ، وَخَدَشَ الْجِلْدَ قَشَّرَهُ بِعُودٍ، (حَتَّى إِذَا خَلَصَ) : بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ نَجَا (الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ) أَيْ: مِنْ وُقُوعِهِمْ فِيهَا، فَحَتَّى: غَايَةٌ لِمُرُورِ الْبَعْضِ

ص: 3551

عَلَى الصِّرَاطِ وَسُقُوطِ الْبَعْضِ فِي النَّارِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: حَتَّى: غَايَةُ قَوْلِهِ مَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، أَيْ: يَبْقَى الْمَكْدُوسُ فِي النَّارِ حَتَّى يَخْلُصَ بَعْدَ الْعَذَابِ بِمِقْدَارِ ذَنْبِهِ، أَوْ بِشَفَاعَةِ أَحَدٍ، أَوْ بِفَضْلِهِ سُبْحَانَهُ، وُضِعَ الْمُؤْمِنُونَ مَوْضِعَ الرَّاجِعِ إِلَى الْمَكْدُوسِ إِشْعَارٌ بِالْعِلِّيَّةِ وَأَنَّ صِفَةَ الْإِيمَانِ مُنَافِيَةٌ لِلْخُلُودِ فِي النَّارِ. (فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) : جَوَابُ إِذَا (مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ) : خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقَوْلُهُ:(بِأَشَدَّ) خَبَرُ مَا، وَقَوْلُهُ:(مُنَاشَدَةً) مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، أَيْ: أَشَدَّ مُطَالَبَةً وَمُنَاظَرَةً، وَقَوْلُهُ:(فِي الْحَقِّ) ظَرْفٌ لِلْمُنَاشَدَةِ، (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ) : صِفَةٌ لِلْحَقِّ ; لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى نَكِرَةٌ، أَيْ: فِي حَقٍّ قَدْ تَبَيَّنَ وَظَهَرَ لَكُمْ عَلَى خَصْمِكُمْ، أَوْ حَالٌ إِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَشَدَّ، وَإِمَّا مِنَ الْحَقِّ. وَقَالَ شَارِحٌ: حَالٌ مِنَ الْحَقِّ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً فِي حَالِ أَنْ تَبَيَّنَ لَكُمُ الْأَمْرُ الْحَقُّ، وَقَوْلُهُ:(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) مُتَعَلِّقٌ بِأَشَدَّ، أَيْ: بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً مِنْكُمْ، فَوَضَعَ الْمُظْهَرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ، وَقَوْلُهُ:(لِلَّهِ) مُتَعَلِّقٌ بِمُنَاشَدَةٍ، وَقَوْلُهُ:(يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ظَرْفُ أَشَدَّ، أَيْ: يُنَاشِدُونَ اللَّهَ (لِإِخْوَانِهِمْ) أَيْ: لِأَجْلِ إِخْوَانِهِمْ (الَّذِينَ فِي النَّارِ) ، بِالشَّفَاعَةِ مِنَ الْجَبَّارِ الْغَفَّارِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: مَعْنَاهُ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يُنَاشِدُ اللَّهَ فِي الدُّنْيَا فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ وَاسْتِقْصَائِهِ، وَتَحْصِيلِهِ مِنْ جِهَةِ خَصْمِهِ وَالْمُعْتَدَى عَلَيْهِ بِأَشَدَّ مِنْكُمْ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ تَعَالَى فِي الشَّفَاعَةِ لِإِخْوَانِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا: مَعْنَاهُ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ أَكْثَرُ اجْتِهَادًا وَمُبَالَغَةً فِي طَلَبِ الْحَقِّ حِينَ ظَهَرَ لَكُمُ الْأَمْرُ الْحَقُّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي طَلَبِ خَلَاصِ إِخْوَانِهِمُ الْعُصَاةِ فِي النَّارِ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ مُنَاشَدَتَهُمْ بِقَوْلِهِ:(يَقُولُونَ رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعًا) أَيْ: مُوَافِقِينَ لَنَا (وَيُصَلُّونَ) أَيْ: صَلَاتَنَا (وَيَحُجُّونَ) أَيْ: عَلَى طَرِيقَتِنَا (فَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ) أَيْ: بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ، (فَتُحَرَّمُ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، أَيْ: فَتُمْنَعُ (صُوَرُهُمْ) أَيْ: تَغَيُّرُهَا (عَلَى النَّارِ) أَيْ: بِأَنْ تَأْكُلَهَا أَوْ تُسَوِّدَهَا بِحَيْثُ لَا تُعْرَفُ وُجُوهُهُمْ، فَيَعْرِفُهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الشَّافِعُونَ بِسِيمَاهُمْ، (فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا) أَيْ: مِنْهَا (ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ) أَيْ: بِإِخْرَاجِهِ مِنْ أَرْبَابِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، (فَيَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ) أَيْ: مِقْدَارَهُ (مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ)، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله: قِيلَ: مَعْنَى الْخَيْرِ هُنَا الْيَقِينُ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَعْنَاهُ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ لَا يَتَجَزَّأُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا التَّجْزِيءُ بِشَيْءٍ زَائِدٍ عَلَيْهِ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ، أَوْ ذِكْرٍ خَفِيٍّ، أَوْ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَى مِسْكِينٍ، أَوْ خَوْفٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَنِيَّةٍ صَادِقَةٍ، ( «فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا. ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ نِصْفَ مِثْقَالِ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ» ) أَيْ: لَمْ نَتْرُكَ (فِيهَا) أَيْ: فِي جَهَنَّمَ (خَيِّرًا) أَيْ: أَهْلَ خَيْرٍ.

قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ مَنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ، مِنِ ازْدِيَادِ الْيَقِينِ، أَوِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَوَضَعَ الْخَيْرَ مَوْضِعَ الذَّاتِ، كَمَا يُوضَعُ الْعَدْلُ مَوْضِعَهُ مُبَالَغَةً، أَيْ: فَيُقَالُ رَجُلٌ عَدْلٌ، وَأُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيُّ مُبَالَغَةً عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ هُوَ، بَلْ هُوَ هُوَ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْعَدْلَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْعَادِلِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ صَاحِبُ عَدْلٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (فَيَقُولُ اللَّهُ: شُفِّعَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَشُفِّعَ النَّبِيُّونَ، وَشُفِّعَ الْمُؤْمِنُونَ،

ص: 3552

وَلَمْ يَبْقَ) أَيْ: أَحَدٌ مِمَّنْ يَرْحَمُ عَلَى أَحَدٍ (إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أَيِ: الَّذِي رَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنَّ رَحْمَةَ كُلِّ أَحَدٍ فِي جَنْبِ أَثَرِ رَحْمَتِهِ كَلَا شَيْءٍ، (فَيَقْبِضُ قَبْضَةً) أَيْ: مَا يَسَعُ الْكَفَّ (مِنَ النَّارِ) أَيْ: مِنْ أَهْلِهَا (فَيُخْرِجُ) أَيِ: اللَّهُ (مِنْهَا) أَيْ: مِنَ النَّارِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ تِلْكَ الْقَبْضَةِ (قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ) أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ خَيْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِيمَانِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: هُمُ الَّذِينَ مَعَهُمْ مُجَرَّدُ الْإِيمَانِ، وَلَمْ يُؤْذَنْ فِيهِمْ بِالشَّفَاعَةِ، وَتَفَرَّدَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِ مَا تُكِنُّهُ الْقُلُوبُ بِالرَّحْمَةِ لِمَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ إِلَّا مُجَرَّدُ الْإِيمَانِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا حَضَرَ لَهُ الْقَلْبُ بِالرَّحْمَةِ وَصَحِبَتْهُ نِيَّةٌ، وَعَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ. قُلْتُ: الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ عَلَى التَّحْقِيقِ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ فِي أَنْوَارِهِ وَثَمَرَاتِهِ وَنَتَائِجِهِ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيقَانِ، وَدَقَائِقِ الْعِرْفَانِ، وَمَرَاتِبِ الْإِحْسَانِ، وَمَنَازِلِ الْعِرْفَانِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (قَدْ عَادُوا) : الْجُمْلَةُ صِفَةٌ أَوْ حَالٌ، وَالْمَعْنَى: صَارُوا (حُمَمًا) : بِضَمٍّ فَفَتْحٍ جَمْعُ حُمَمَةٍ، وَهِيَ الْفَحْمُ (فَيُلْقِيهِمْ) أَيْ: يَأْمُرُ اللَّهُ بِإِلْقَائِهِمْ، أَوْ يُلْقِيهِمْ بِلَا وَاسِطَةٍ (فِي نَهَرٍ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَيُسَكَّنُ، أَيْ: جَدْوَلِ مَاءٍ كَائِنٍ (فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ) أَيْ: فِي أَوَائِلِهَا، وَهُوَ جَمْعُ فُوَّهَةٍ بِضَمِّ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ الْمَفْتُوحَةِ، وَهُوَ جَمْعٌ سُمِعَ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَأَفْوَاهُ الْأَزِقَّةِ وَالْأَنْهَارِ أَوَائِلُهَا كَذَا، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْأَفْوَاهُ كِنَايَةً عَنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِدُخُولِهِمْ إِيَّاهَا عَلَى أَحْسَنِ الْهَيْئَةِ. (يُقَالُ لَهُ) أَيْ: لِذَلِكَ النَّهْرِ (نَهْرُ الْحَيَاةِ، فَيَخْرُجُونَ) أَيْ: مِنَ النَّهْرِ (كَمَا تَخْرُجُ الْحِبَّةُ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ فَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ (فِي حَمِيلِ السَّيْلِ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، أَيْ: مَحْمُولِهِ، فَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْحِبَّةُ بِالْكَسْرِ اسْمٌ جَامِعٌ لِحُبُوبِ الْبُقُولِ الَّتِي تَنْتَشِرُ إِذَا هَاجَتْ، ثُمَّ إِذَا مُطِرَتْ مِنْ قَابِلٍ نَبَتَتْ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هِيَ حَبُّ الرَّيَاحِينِ، فَأَمَّا الْحِنْطَةُ وَنَحْوُهَا فَهِيَ الْحَبُّ لَا غَيْرُ، وَالْحَبَّةُ مِنَ الْحَبِّ فَبِالْفَتْحِ، وَحَمِيلُ السَّيْلِ هُوَ مَا يَحْمِلُهُ السَّيْلُ مِنْ غُثَاءٍ أَوْ طِينٍ، فَإِذَا اتَّفَقَ فِيهِ الْحِبَّةُ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى شَطِّ مَجْرَى السَّيْلِ تَنْبُتُ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَهِيَ أَسْرَعُ نَابِتَةٍ نَبَاتًا. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: وَإِنَّمَا شَبَّهَهُمْ بِهَا لِسُرْعَةِ نَبَاتِهَا وَحُسْنِهَا وَطَرَاوَتِهَا انْتَهَى، فَالتَّشْبِيهُ فِي سُرْعَةِ الظُّهُورِ. وَقَالَ شَارِحٌ: الْحِبَّةُ بِالْكَسْرِ بَذْرُ الصَّحْرَاءِ مِمَّا لَيْسَ بِقُوتٍ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْحِبَّةُ بِالْكَسْرِ بَذْرُ الصَّحْرَاءِ وَالْجَمِيعُ: حُبَبٌ، وَأَمَّا الْحَبَّةُ بِالْفَتْحِ فَهُوَ مَا يَزْرَعُهُ النَّاسُ وَالْجَمْعُ حُبُوبٌ.

(يَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ) ، فِي الْبَيَاضِ وَالصَّفَاءِ، (فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِمُ) : جَمْعُ الْخَاتَمِ وَالْجَمْعُ لِمُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، وَالْمُرَادُ هُنَا عَلَامَةٌ تَظْهَرُ فِي رِقَابِهِمْ ; لِيَكُونُوا مُتَمَيِّزِينَ مِنَ الْمَغْفُورِينَ بِوَاسِطَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ: الْمُرَادُ بِالْخَوَاتِمِ هُنَا أَشْيَاءُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ غَيْرِهِ تُعَلَّقُ فِي أَعْنَاقِهِمْ يُعْرَفُونَ بِهَا، (فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ) أَيْ: حِينَ رَأَوْهُمْ وَظَهَرَ لَهُمْ تِلْكَ الْعَلَامَةُ (هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ، أَدْخَلَهُمْ) أَيِ: اللَّهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ) أَيْ: عَمِلُوهُ، عَلَى مَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (وَلَا خَيْرٍ) أَيْ: مِنْ عَمَلٍ بَاطِنٍ (قَدَّمُوهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ لَكُمْ) : الْخِطَابُ لِلْعُتَقَاءِ أَيْ لَكُمْ (مَا رَأَيْتُمْ) أَيْ: مِقْدَارَ مَدِّ بَصَرِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ (وَمِثْلَهُ مَعَهُ) ، أَوْ لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ مِمَّا جَاءَ فِي نَظَرِكُمْ، وَمِثْلَهُ مَعَهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَالْقُصُورِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ حَذْفٌ، أَيْ: فَيَنْظُرُونَ فِي الْجَنَّةِ إِلَى أَشْيَاءَ يَنْتَهِي مَدُّ بَصَرِهِمْ إِلَيْهَا، فَيُقَالُ لَهُمْ: لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ وَمِثْلَهُ مَعَهُ. أَقُولُ: وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] أَيْ: جَنَّةٌ ظَاهِرَةٌ وَجَنَّةٌ بَاطِنَةٌ، أَوْ جَنَّةٌ مِنْ جِهَةِ الْعَدْلِ وَجَنَّةٌ مِنْ طَرِيقِ الْفَضْلِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 3553

5580 -

وَعَنْهُ، قَالَ:«قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيَخْرُجُونَ قَدِ امْتَحَشُوا، وَعَادُوا حُمَمًا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهْرِ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، أَلَمْ تَرَوْا أَنَّهَا تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

5580 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى) أَيْ: لِلْأَنْبِيَاءِ أَوْ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الشُّفَعَاءِ أَوْ لِلْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِمَا سَيَأْتِي

ص: 3553

مُصَرَّحًا فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ (مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ) أَيْ: مِنَ النَّارِ. قِيلَ: بِهَذَا الْحَدِيثِ يَظْهَرُ أَنَّ مَنْ أَخْرَجَهُمُ الرَّحْمَنُ بِقَبْضَةٍ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِلَا خَيْرٍ وَعَمَلٍ زَائِدٍ عَلَى الْإِيمَانِ، دُونَ الْكُفَّارِ كَمَا يُوهِمُهُ ظَاهِرُ الْعِبَارَةِ هُنَاكَ ; فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ، (فَيُخْرَجُونَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (قَدِ امْتَحَشُوا) : عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ أَيِ احْتَرَقُوا وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَقِيلَ: بِالْمَفْعُولِ فَكَأَنَّهُ جُعِلَ مُتَعَدِّيًا بِمَعْنَى الْمَحْشِ عَلَى حَذْفِ الزَّوَائِدِ، وَهُوَ إِحْرَاقُ النَّارِ الْجِلْدَ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْمَحْشُ إِحْرَاقُ الْجِلْدِ وَظُهُورُ الْعَظْمِ. وَفِي الْقَامُوسِ: امْتَحَشَ احْتَرَقَ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: امْتَحَشُوا احْتَرَقُوا وَزْنًا وَمَعْنًى، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ الْحَاءِ، وَلَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ امْتَحَشَهُ مُتَعَدِّيًا، وَإِنَّمَا سُمِعَ لَازِمًا مُطَاوِعُ مَحَشَهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: هُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، هَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَاتِ، وَبِهِ ضَبَطَ الْخَطَّابِيُّ وَالْهَرَوِيُّ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله عَنْ شُيُوخِهِ، وَمَعْنَاهُ: احْتَرَقُوا. قَالَ الْقَاضِي: وَرَوَاهُ بَعْضُ شُيُوخِنَا بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ. (وَعَادُوا حُمَمًا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهْرِ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ) أَيْ: تَعُودُ أَبْدَانُهُمْ إِلَيْهِمْ (كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، أَلَمْ تَرَوْا) أَيْ: أَلَمْ تُبْصِرُوا، أَوْ أَلَمْ تَعْلَمُوا (أَنَّهَا) أَيِ: الْحِبَّةُ (تَخْرُجُ) أَيْ: أَوَّلًا (صَفْرَاءَ) أَيْ: خَضْرَاءَ (مُلْتَوِيَةً) أَيْ: مَلْفُوفَةً مُجْتَمِعَةً، وَقِيلَ مُنْحَنِيَةً. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 3554

5581 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَذَكَرَ مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ غَيْرَ كَشْفِ السَّاقِ، «وَقَالَ: يُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ، وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا الرُّسُلُ، وَكَلَامُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وَفِي جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، لَا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلَّا اللَّهُ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو، حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِنَ النَّارِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَهُ مِمَّنْ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ، فَيُخْرِجُونَهُمْ وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ، وَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ، فَكُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ النَّارُ إِلَّا أَثَرَ السُّجُودِ، فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ قَدِ امْتَحَشُوا، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، وَيَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ قِبَلَ النَّارِ، فَيَقُولُ يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ، فَإِنَّهُ وَقَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا، وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا. فَيَقُولُ: هَلْ عَسَيْتَ إِنْ أَفْعَلْ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ، فَيُعْطِي اللَّهَ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ ; فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ، فَإِذَا أَقْبَلَ بِهِ عَلَى الْجَنَّةِ رَأَى بَهْجَتَهَا، سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ قَدِّمْنِي عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تبارك وتعالى: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعُهُودَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنْتَ سَأَلْتَ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَا أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ. فَيَقُولُ: فَمَا عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتُ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ، فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَيُعْطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا بَلَغَ بَابَهَا فَرَأَى زَهْرَتَهَا وَمَا فِيهَا مِنَ النَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ، فَسَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ اللَّهُ تبارك وتعالى: وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ! أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعُهُودَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي أُعْطِيتَ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَا تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِكَ، فَلَا يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى يَضْحَكَ اللَّهُ مِنْهُ، فَإِذَا ضَحِكَ أَذِنَ لَهُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: تَمَنَّ، فَيَتَمَنَّى حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ أُمْنِيَّتُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: تَمَنَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا، أَقْبَلَ يُذَكِّرُهُ رَبُّهُ، حَتَّى إِذَا انْتَهَتْ بِهِ الْأَمَانِيُّ قَالَ اللَّهُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ» . وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه: " قَالَ اللَّهُ: لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

5581 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَذَكَرَ) أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ (مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ) أَيِ: الَّذِي مَرَّ قُبَيْلَ ذَلِكَ (غَيْرَ كَشْفِ السَّاقِ، وَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا (يُضْرَبُ الصِّرَاطُ) أَيْ: يُمَدُّ (بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ) أَيْ: بَيْنَ طَرَفَيْهَا فَيُوَافِقُ رِوَايَةَ: عَلَى مَتْنِهَا وَظَهْرِهَا وَفَوْقَهَا، (فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ: مَنْ يُجَاوِزُهُمْ عَنْهَا (وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ) أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ (إِلَّا الرُّسُلُ)، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ يَوْمَئِذٍ وَقْتَ جَوَازِ الصِّرَاطِ، وَإِنَّمَا فَسَّرْنَاهُ بِهَذَا ; لِأَنَّ ثَمَّةَ مَوَاطِنَ لَا يَتَكَلَّمُ فِيهَا النَّاسُ. قُلْتُ لِقَوْلِهِ:{هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} [المرسلات: 35] ، وَلَكِنَّ هُنَاكَ مَوَاقِفَ يَتَكَلَّمُ فِيهَا عُمُومُ النَّاسِ أَيْضًا فَالْحَصْرُ يُفِيدُ التَّقْيِيدَ بِحِينَئِذٍ، (وَكَلَامُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ) : كُرِّرَ لِلتَّأْكِيدِ (وَفِي جَهَنَّمَ) أَيْ: فِي أَطْرَافِهَا (كَلَالِيبُ) : بِلَا صَرْفٍ ; لِكَوْنِهِ عَلَى صِيغَةِ مُنْتَهَى الْجُمُوعِ جَمْعُ كُلَّابٍ بِالضَّمِّ، أَوْ كَلُّوبٍ بِالْفَتْحِ وَبِتَشْدِيدِ اللَّامِ فِيهِمَا، وَهِيَ حَدِيدَةٌ مُعْوَجَّةُ الرَّأْسِ يُخَطَّفُ بِهَا أَوْ يُعَلَّقُ عَلَيْهَا اللَّحْمُ، وَيُرْسَلُ فِي التَّنُّورِ، أَوْ عُودٌ فِي رَأْسِهِ اعْوِجَاجٌ يُجَرُّ بِهِ الْجَمْرُ. (مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَهُوَ نَبْتٌ لَهُ شَوْكٌ عَظِيمٌ، وَيُقَالُ لِشَوْكِهِ حَسَكُ السَّعْدَانِ، وَيُشْبِهُ حَلَمَةَ الثَّدْيِ (لَا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا) : بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ أَيْ: عَظَمَةَ تِلْكَ الْكَلَالِيبِ (إِلَّا اللَّهُ، تَخْطَفُ) أَيْ: تَأْخُذُ الْكَلَالِيبُ بِسُرْعَةٍ، وَالطَّاءُ مَفْتُوحَةٌ وَرُوِيَ بِكَسْرِهَا، وَالْأُولَى هِيَ الْأَوْلَى لِمُوَافَقَةِ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ اللُّغَةُ الْفُصْحَى. وَقَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: يُرْوَى بِفَتْحِ الطَّاءِ وَكَسْرِهَا أَيْ: تَخْطَفُ (النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ) أَيْ: بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ، أَوْ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ (فَمِنْهُمْ) أَيْ: مِنَ النَّاسِ، أَوْ مِنَ الْعُصَاةِ، أَوْ مِنَ الْمَخْطُوفِينَ (مَنْ يُوبَقُ) أَيْ: يَهْلِكُ وَيُحْبَسُ (بِعَمَلِهِ) أَيِ: الْقَبِيحِ، مِنْ وَبِقَ أَيْ هَلَكَ وَأَوْبَقَهُ غَيْرُهُ، فَفِي النِّهَايَةِ: وَبِقَ يَبِقُ وَيَوْبَقُ فَهُوَ وَبِقٌ إِذَا هَلَكَ، وَأَوْبَقَهُ غَيْرُهُ فَهُوَ مَوْبُوقٌ أَيْ مُهْلَكٌ. (وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ) : بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: يُصْرَعُ أَوْ يُقْطَعُ قَطْعًا كَالْخَرْدَلَةِ، فَفِي النِّهَايَةِ الْمُخَرْدَلُ: الْمُقَطَّعُ، تَقْطَعُهُ كَلَالِيبُ الصِّرَاطِ حَتَّى يَهْوِيَ فِي النَّارِ، يُقَالُ: خَرْدَلْتُ اللَّحْمَ

ص: 3554

بِالدَّالِ وَالذَّالِ أَيْ فَصَّلْتَ أَعْضَاءَهُ وَقَطَّعْتَهَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله: وَقِيلَ يُقَطِّعُ الْكَلَالِيبُ لَحْمَهُ عَلَى الصِّرَاطِ وَيُخْرِجُ أَعْضَاءَهُ، (ثُمَّ يَنْجُو) أَيْ: مِنَ الْمَوْقِعِ فِي النَّارِ، فَالْكَافِرُ يُوبَقُ، وَالْفَاسِقُ يُخَرْدَلُ ثُمَّ يَتَخَلَّصُ، (حَتَّى إِذَا أَفْرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ) أَيْ: مِنَ الْحُكْمِ (بَيْنَ عِبَادِهِ) بِمَا يَسْتَحِقُّهُ كُلٌّ مِنْ جَزَاءِ عَمَلِهِ (وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَهُ مِمَّنْ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ) أَيْ: يُوَحِّدُهُ أَوْ يَعْرِفُهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، أَوْ يَعْبُدُهُ عَلَى نَعْتِ التَّوْحِيدِ، (فَيُخْرِجُونَهُمْ، وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ)، قَالَ تَعَالَى:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29]، (وَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّارِ) أَيْ: مَنَعَهَا (أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ) أَيْ: مِنْ وُجُوهِهِمْ أَوْ جِبَاهِهِمْ.

قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ النَّارَ لَا تَأْكُلُ جَمِيعَ أَعْضَاءِ السُّجُودِ السَّبْعَةِ، وَهِيَ: الْجَبْهَةُ، وَالْيَدَانِ، وَالرُّكْبَتَانِ، وَالْقَدَمَانِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله: الْمُرَادُ بِأَثَرِ السُّجُودِ الْجَبْهَةُ خَاصَّةً، وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ الثَّانِيَ مَا سَبَقَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: الْإِدَارَةُ الْوَجْهُ، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِمَّا تَقَدَّمَ، فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ فَهُوَ الْمُعَوَّلُ، (فَكُلُّ ابْنِ آدَمَ) أَيْ: آثَارُ أَفْعَالِهِ مِنْ أَعْضَائِهِ (يَأْكُلُهُ النَّارُ إِلَّا أَثَرَ السُّجُودِ) : وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ (فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ قَدِ امْتَحَشُوا) أَيِ: احْتَرَقُوا وَقَدْ سَبَقَ، (فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ) ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّهُمْ يُلْقَوْنَ فِي نَهْرِ الْحَيَاةِ، وَلَعَلَّ الِاخْتِلَافَ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ، (فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ) أَيْ: مَحْمُولِهِ، (وَيَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجِنَّةِ وَالنَّارِ وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولًا) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ الدُّخُولِ (مُقْبِلٌ) : خَبَرٌ آخَرُ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ آخَرَ هُوَ مُقَدَّرٌ، أَيْ: مُتَوَجِّهٌ (بِوَجْهِهِ قِبَلَ النَّارِ) : بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، أَيْ: إِلَى جِهَتِهَا (فَيَقُولُ يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ) أَيْ: رُدَّهُ عَنْهَا (وَقَدْ قَشَبَنِي) : بِفَتْحِ الْقَافِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ أَيْ: آذَانِي وَأَهْلَكَنِي (رِيحُهَا)، وَقِيلَ: سَمَّنِي وَأَهْلَكَنِي مِنَ الْقَشِيبِ، وَهُوَ السُّمُّ الْمُهْلِكُ، وَفِي الْمُقَدِّمَةِ: أَيْ مَلَأَ خَيَاشِيمِي، وَالْقَشَبُ: السُّمُّ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْإِصَابَةِ بِكُلِّ مَكْرُوهٍ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: مَعْنَاهُ غَيَّرَ جِلْدِي وَصُورَتِي، (وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا) : بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمَدِّ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ ذَكَاهَا بِالْقَصْرِ. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: هُوَ بِالْمَدِّ وَفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، كَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ، أَيْ: لَهَبُهَا وَاشْتِعَالُهَا وَشِدَّةُ وَهَجِهَا، وَالْأَشْهَرُ فِي اللُّغَةِ مَقْصُورَةٌ، وَقِيلَ: إِنَّ الْقَصْرَ وَالْمَدَّ لُغَتَانِ، (فَيَقُولُ) أَيِ: الرَّبُّ (هَلْ عَسَيْتَ) أَيْ: يُتَوَقَّعُ مِنْكَ (إِنْ أَفْعَلْ ذَلِكَ) أَيْ: بِكَ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى صَرْفِ الْوَجْهِ، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ اسْمِ عَسَى وَخَبَرِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ:(أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَ ذَلِكَ) ؟ وَالْمَعْنَى: هَلْ يُتَوَقَّعُ مِنْكَ بَعْدَ حُصُولِ ذَلِكَ سُؤَالُ غَيْرِهِ؟ .

قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ عَالِمٌ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ؟ قُلْتُ: مَعْنَاهُ أَنَّكُمْ يَا بَنِي آدَمَ لِمَا عُهِدَ مِنْكُمْ مِنْ رَخَاوَةِ الْوَعْدِ وَنَقْصِ الْعَهْدِ أَحِقَّاءُ بِأَنْ يُقَالَ لَكُمْ: يَا هَؤُلَاءِ مَا تَرَوْنَ هَلْ يُتَوَقَّعُ مِنْكُمْ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَعْنَى عَسَى رَاجِعٌ إِلَى الْمُخَاطَبِ لَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مِنْ بَابِ إِرْخَاءِ الْعِنَانِ، وَبَعْثِ الْمُخَاطَبِ عَلَى التَّفَكُّرِ فِي أَمْرِهِ وَشَأْنِهِ ; لِيُنْصِفَ مِنْ نَفْسِهِ وَيُذْعِنَ لِلْحَقِّ، (فَيَقُولُ: لَا) أَيْ: لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَ ذَلِكَ (وَعِزَّتِكَ) لَا أَسْأَلُ غَيْرَ ذَلِكَ (فَيُعْطِي) أَيِ: الرَّجُلُ (اللَّهَ مَا شَاءَ) : مَفْعُولٌ ثَانٍ لِيُعْطِي أَيْ مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ، أَوْ مَا أَرَادَهُ (مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ) أَيْ: قَسَمٍ يُوَثَّقُ الْعَهْدُ بِهِ وَيُؤَكَّدُ (فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ، فَإِذَا أَقْبَلَ) : بِصِيغَةِ

ص: 3555

الْفَاعِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ (بِهِ) أَيْ بِوَجْهِهِ (عَلَى الْجَنَّةِ رَأَى بَهْجَتَهَا) أَيْ: حُسْنَهَا (وَكَثْرَةَ خَيْرِهَا سَكَتَ) ، كَذَا فِي الْأُصُولِ بِلَا عَاطِفٍ فِي الْفِعْلَيْنِ هُنَا، وَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا جَوَابَ إِذَا، وَالْآخِرَةُ عَطْفٌ عَلَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَلَعَلَّ تَوْجِيهَهُ أَنَّ قَوْلَهُ: رَأَى بَهْجَتَهَا جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُهُ، وَلَفْظُ الْمَشَارِقِ: فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْجَنَّةِ وَرَآهَا سَكَتَ (مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ) أَيْ: سُكُوتَهُ (ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ قَدِّمْنِي عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ) أَيْ: إِلَى بَابِهَا كَمَا سَيَأْتِي، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ حَالًا مُقَدَّرَةً (فَيَقُولُ اللَّهُ تبارك وتعالى: أَلَيْسَ) أَيِ: الشَّأْنُ (قَدْ أَعْطَيْتَ الْعُهُودَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنْتَ سَأَلْتَ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَا أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ) أَيْ: لَا تَجْعَلْنِي أَشْقَاهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالشَّقَاوَةِ هُنَا الْحِرْمَانُ أَيْ لَا أَكُونُ مَحْرُومًا (فَيَقُولُ) أَيِ: الرَّبُّ (فَمَا عَسَيْتَ) : مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيْ: فَهَلْ عَسَيْتَ (إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ) أَيْ: غَيْرَ ذَلِكَ (فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَ ذَلِكَ) : تَأْكِيدٌ وَبَيَانٌ لِقَوْلِهِ: لَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ لَا أَسْأَلُ غَيْرَ ذَلِكَ، (فَيُعْطِي) أَيِ: الرَّجُلُ (رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، فَيُقَدِّمُهُ) أَيِ: اللَّهُ (إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا بَلَغَ بَابَهَا فَرَأَى زَهْرَتَهَا) : بِفَتْحِ الزَّايِ أَيْ: طِيبَ عَيْشِ مَنْ فِيهَا، وَالزَّهْرَةُ الْبَيَاضُ، وَزَهْرَةُ الدُّنْيَا نَضَارَتُهَا (وَمَا فِيهَا مِنَ النَّضْرَةِ) أَيِ: الْحُسْنِ وَالرَّوْنَقِ (وَالسُّرُورِ) أَيِ: الْفَرَحِ بِمَا فِيهِ مِنَ الدُّرِّ وَالْقُصُورِ، وَكَثْرَةِ الْحُورِ وَالتَّنَعُّمِ بِالْحُبُورِ (فَسَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ) : بِالْفَاءِ هَاهُنَا عَلَى مَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: قَوْلُهُ فَسَكَتَ كَذَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَأَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، فَعَلَى هَذَا جَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى إِذَا رَأَى مَا رَأَى تَحَيَّرَ فَسَكَتَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] انْتَهَى. وَقِيلَ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ وَتُسَمَّى وَاوَ الثَّمَانِيَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ رحمه الله: الْوَاوُ زَائِدَةٌ عِنْدَ قَوْمٍ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ جَوَابُ حَتَّى إِذَا، وَلَيْسَتْ زَائِدَةً عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ اطْمَأَنُّوا نَحْوَ ذَلِكَ. (فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ اللَّهُ تبارك وتعالى: وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ) : قَالَ شَارِحٌ: وَيْلَكَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ لَا غَيْرُ إِنْ أُضِيفَ، وَإِنْ لَمْ يُضَفْ يُرْفَعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَيُنْصَبُ بِإِضْمَارِ الْفِعْلِ، مِثْلَ: وَيْلٌ لِزَيْدٍ، وَوَيْلًا لِزَيْدٍ، أَيْ أَهْلَكَ اللَّهُ إِهْلَاكًا أَوْ هَلَكْتَ هَلَاكًا (مَا أَغْدَرَكَ) : بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَمَا فِيهِ لِلتَّعَجُّبِ، أَيْ: يَسْتَحِقُّ أَنْ يُتَعَجَّبَ مِنْكَ بِكَثْرَةِ غَدْرِكَ فِي عُهُودِكَ بِأَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا لِلِاسْتِفْهَامِ وَالْهَمْزَةُ لِلصَّيْرُورَةِ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ صَيَّرَكَ غَادِرًا فِي عُهُودِكَ؟ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ جَعَلَكَ فِي هَذَا السُّؤَالِ مَعْذُورًا؟ (أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعُهُودَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي أُعْطِيتَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَا تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِكَ) .

قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ طَابَقَ هَذَا الْجَوَابُ قَوْلَهُ: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعُهُودَ وَالْمِيثَاقَ؟ قُلْتُ: كَأَنَّهُ قَالَ: يَا رَبِّ بَلَى أَعْطَيْتُ الْعُهُودَ وَالْمِيثَاقَ، وَلَكِنْ تَأَمَّلْتُ فِي كَرَمِكَ وَعَفْوِكَ وَرَحْمَتِكَ، وَقَوْلِكَ:{وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] فَوَقَفْتُ عَلَى أَنِّي لَسْتُ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ أَيِسُوا

ص: 3556

مِنْ رَحْمَتِكَ، وَطَمِعْتُ فِي كَرَمِكَ وَسَعَةِ رَحْمَتِكَ، فَسَأَلْتُ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى رَضِيَ عَنْهُ بِهَذَا الْقَوْلِ فَضَحِكَ انْتَهَى، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ:(فَلَا يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى يَضْحَكَ اللَّهُ) أَيْ: يَرْضَى (مِنْهُ) أَيْ: مِنْ أَجْلِهِ وَسَبَبِ دُعَائِهِ وَكَلَامِهِ (فَإِذَا ضَحِكَ أَذِنَ لَهُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: تَمَنَّ) : أَمْرُ مُخَاطَبٍ (فَتَمَنَّى حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ أُمْنِيَّتُهُ) : بِضَمِّ هَمْزٍ وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ، أَيْ: مَطْلُوبُهُ وَمُتَمَنَّاهُ، (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: تَمَنَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا) ، قَالَ الْمُظْهِرُ: مِنْ فِيهِ لِلْبَيَانِ، يَعْنِي: تَمَنَّ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مَا تَشْتَهِي مِنْهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَنَحْوُهُ " {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف: 31] "، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ زَائِدَةً فِي الْإِثْبَاتِ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، وَقَوْلُهُ:(أَقْبَلَ يُذَكِّرُهُ رَبُّهُ) بَدَلٌ مِنَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ، وَرَبُّهُ تَنَازَعَ فِيهِ الْعَامِلَانِ انْتَهَى، وَأَقْبَلَ بِمَعْنَى شَرَعَ وَيُذَكِّرُهُ بِتَشْدِيدِ الْكَافِ، أَيْ: يُلْهِمُهُ وَيُلَقِّنُهُ رَبُّهُ بِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُ فَيَتَمَنَّى، (حَتَّى إِذَا انْتَهَتْ بِهِ الْأَمَانِيُّ) أَيِ: انْقَطَعَتْ وَلَمْ تَبْقَ لَهُ أُمْنِيَّةٌ (قَالَ اللَّهُ: لَكَ ذَلِكَ) أَيْ: مَسْئُولُكَ وَمَأْكُولُكَ (وَمِثْلُهُ مَعَهُ) أَيْ: تَفَضُّلًا عَلَيْكَ.

(وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ: (قَالَ اللَّهُ: لَكَ ذَلِكَ) أَيْ: مَا تَمَنَّيْتَ (وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ) أَيْ: فِي الْكَيْفِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ فِي الْكَمِّيَّةِ، وَبِهَذَا يَرْتَفِعُ التَّدَافُعُ وَيَنْدَفِعُ التَّمَانُعُ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 3557

5582 -

«وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ، يَمْشِي مَرَّةً، وَيَكْبُو مَرَّةً، وَتَسْفَعُهُ النَّارُ مَرَّةً، فَإِذَا جَاوَزَهَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا فَقَالَ: تَبَارَكَ الَّذِي نَجَّانِي مِنْكِ، لَقَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ شَيْئًا مَا أَعْطَاهُ أَحَدًا مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، فَتُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلْأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا

فَيَقُولُ اللَّهُ: يَا ابْنَ آدَمَ لَعَلِّي إِنْ أَعْطَيْتُكَهَا سَأَلْتَنِي غَيْرَهَا؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، وَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذُرُهُ ; لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا ; فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَى، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ! أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ لِأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، وَأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ! أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا؟ فَيَقُولُ: لَعَلِّي إِنْ أَدْنَيْتُكَ مِنْهَا تَسْأَلُنِي غَيْرَهَا؟ فَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذُرُهُ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا ; فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَيَيْنِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ! أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ فَلِأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ! أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ هَذِهِ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذُرُهُ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا، فَإِذَا أَدْنَاهُ مِنْهَا سَمِعَ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! أَدْخِلْنِيهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ مَا يَصْرِينِي مِنْكَ؟ أَيُرْضِيكَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ الدُّنْيَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا، قَالَ: أَيْ رَبِّ! أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَضَحِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ ; فَقَالَ: أَلَا تَسْأَلُونِي مِمَّا أَضْحَكُ؟ فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ؟ فَقَالَ ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مِنْ ضَحِكِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حِينَ قَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَيَقُولُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ، وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

5582 -

(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ، فَهُوَ يَمْشِي مَرَّةً) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْفَاءُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَفْصِيلِيَّةً أَبْهَمَ أَوَّلًا دُخُولَهُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ فَصَّلَ كَيْفِيَّةَ دُخُولِهَا ثَانِيًا، وَأَنْ تَكُونَ لِتَعْقِيبِ الْأَخْبَارِ، وَإِنْ تَقَدَّمَ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا فِي الْوُجُودِ، فَوَقَعَتْ مَوْقِعَ ثُمَّ فِي هَذَا الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قِيلَ: أُخْبِرُكُمْ عَقِيبَ هَذَا الْقَوْلِ حَالَهُ، فَهُوَ يَمْشِي قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الْجَنَّةِ مَرَّةً (وَيَكْبُو) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: يَقِفُ، وَقِيلَ: يَسْقُطُ لِوَجْهِهِ (مَرَّةً) أَيْ: أُخْرَى (وَتَسْفَعُهُ النَّارُ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ أَيْ: تُحْرِقُهُ (مَرَّةً) ، أَوْ يُجْعَلُ عَلَامَةً عَلَيْهِ مِنْ سَوَادِ الْوَجْهِ وَزُرْقَةِ الْعَيْنِ، يُقَالُ: سَفْعٌ مِنَ النَّارِ أَيْ عَلَامَةٌ مِنْهَا، وَسَفَعْتُ الشَّيْءَ إِذَا جَعَلْتُ عَلَيْهِ عَلَامَةً. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ تَلْفَحُهُ لَفْحًا يَسِيرًا ; فَيَتَغَيَّرُ لَوْنُ بَشْرَتِهِ، وَقِيلَ: أَيْ تُعَلِّمُهُ عَلَامَةً، أَيْ: أَثَرًا مِنْهَا، وَفِي الْقَامُوسِ: لَفَحَتِ النَّارُ بِحَرِّهَا أَحْرَقَتْ، وَسَفَعَ الشَّيْءَ كَمَنَعَهُ أَعْلَمَهُ وَوَسَمَهُ وَالسَّمُومُ وَجْهَهُ: لَفَحَهُ لَفْحًا يَسِيرًا (فَإِذَا جَاوَزَهَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا فَقَالَ: تَبَارَكَ) أَيْ: تَعَظَّمَ وَتَعَالَى أَوْ تَكَاثَرَ خَيْرُهُ (الَّذِي نَجَّانِي مِنْكِ) : هَذَا فَرَحٌ بِمَا أُعْطِيَهُ مِنَ النَّجَاةِ، وَقَوْلُهُ: لَقَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ شَيْئًا مَا أَعْطَاهُ أَحَدًا مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ) : جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، أَقْسَمَ مِنَ الْفَرَحِ أَنَّ نَجَاتَهُ نِعْمَةٌ مَا ظَفِرَ بِهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّهُ مَا رَأَى أَحَدًا مُشَارِكًا لَهُ فِي خُرُوجِهِ مِنَ النَّارِ، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ الْأَبْرَارَ فِي نَعِيمِ دَارِ الْقَرَارِ، (فَتُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ) أَيْ: عِنْدَهَا عَيْنُ مَاءٍ ; لِمَا سَيَأْتِي، (فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ) : وَأَيْ فِي الْأَصْلِ لِنِدَاءِ الْقَرِيبِ، وَيَا: لِلْبَعِيدِ، فَتَارَةً يُنْظَرُ إِلَى قُرْبِ الرَّبِّ مِنَ الْعَبْدِ، كَمَا قَالَ سبحانه وتعالى:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]، وَتَارَةً يُرَاعَى بُعْدُ الْعَبْدِ مِنَ الرَّبِّ كَمَا قِيلَ: يَا لِلتُّرَابِ، وَرَبَّ الْأَرْبَابِ، (أَدْنِنِي) : أَمْرٌ مِنَ الْإِدْنَاءِ أَيْ: قَرِّبْنِي (مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلِأَسْتَظِلَّ) : بِكَسْرِ اللَّامِ الْأُولَى وَنَصْبِ الْفِعْلِ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْفَاءُ سَبَبِيَّةٌ وَاللَّامُ مَزِيدَةٌ، أَوْ بِالْعَكْسِ، يَعْنِي: وَالْفَاءُ مَزِيدَةٌ وَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ، فَفِيهِ مُسَامَحَةٌ لَا تَخْفَى، ثُمَّ فِي الْكَلَامِ تَجْرِيدٌ، وَالْمَعْنَى لِأَنْتَفِعَ، (بِظِلِّهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا،

ص: 3557

فَيَقُولُ اللَّهُ: يَا ابْنَ آدَمَ لَعَلِّي إِنْ أَعْطَيْتُكَهَا) أَيْ: مَسْأَلَتَكَ أَوْ أُمْنِيَّتَكَ (سَأَلْتَنِي غَيْرَهَا) : هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى خَبَرِ لَعَلَّ، (فَقَوْلُ: لَا يَا رَبِّ، وَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذُرُهُ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَيُضَمُّ، أَيْ: يَجْعَلُهُ مَعْذُورًا. وَفِي النِّهَايَةِ: وَقَدْ يَكُونُ أَعْذَرَ بِمَعْنَى جَعَلَهُ مَوْضِعَ الْعُذْرِ، وَفِي (الْمَشَارِقِ) : عَذَرْتُهُ وَأَعْذَرْتُهُ أَيْ: قَبِلْتُ عُذْرَهُ، وَفِي (الْمِصْبَاحِ) عَذَرْتُهُ فِيمَا صَنَعَ عُذْرًا، مِنْ بَابِ ضَرَبَ، رَفَعْتُ عَنْهُ اللَّوْمَ فَهُوَ مَعْذُورٌ، وَأَعْذَرْتُهُ بِالْأَلِفِ لُغَةٌ، وَاعْتَذَرَ أَيْ: طَلَبَ قَبُولَ مَعْذِرَتِهِ، وَاعْتَذَرَ عَنْ فِعْلِهِ أَظْهَرَ عُذْرَهُ، (لِأَنَّهُ) أَيِ: الْعَبْدُ (يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ) ، كَذَا فِي الْأُصُولِ فِي الْمَرَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، وَكَذَا فِي الثَّالِثَةِ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ، وَفِي أَكْثَرِهَا عَلَيْهَا بِتَأْوِيلِ مَا بِنِعْمَةٍ، وَعَلَى بِمَعْنَى عَنْ، كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ، وَقَرَّرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي حَاشِيَةٍ عَلَى مُسْلِمٍ، (فَيُدْنِيهِ مِنْهَا) أَيْ: فَيُقَرِّبُهُ مِنَ الشَّجَرَةِ (فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ) أَيْ: أُخْرَى، هِيَ (أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَى) ; لِأَنَّهُ أَرَادَ لَهُ التَّرَقِّيَ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، (فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ! أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ لِأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، وَأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا) : الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الِاسْتِرَاحَةَ بِظِلِّهَا قَبْلَ الشُّرْبِ مِنْ مَائِهَا، (لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: هُوَ حَالٌ تَنَازَعَ فِيهِ أَسْتَظِلُّ وَأَشْرَبُ (فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ! أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا؟ فَيَقُولُ) أَيِ: الرَّبُّ (لَعَلِّي إِنْ أَدْنَيْتُكَ مِنْهَا تَسْأَلُنِي) : بِالرَّفْعِ أَيْ: تَطْلُبُ مِنِّي (غَيْرَهَا؟ فَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذُرُهُ ; لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ) أَيْ: ثَالِثَةٌ (عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَيَيْنِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ! أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ فَلِأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ! أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ هَذِهِ) : مَنْصُوبُ الْمَحَلِّ بِفِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، أَيْ: هَذِهِ أَسْأَلُكَ (لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا) : حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافٌ (وَرَبُّهُ يَعْذُرُهُ ; لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ) ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ (عَلَيْهَا) ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا، (فَيُدْنِيهِ مِنْهَا، فَإِذَا أَدْنَاهُ مِنْهَا سَمِعَ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْجَنَّةِ) أَيْ: فِي مُصَاحَبَتِهِمْ مَعَ أَزْوَاجِهِمْ، وَمُجَاوَزَتِهِمْ مَعَ أَصْحَابِهِمْ ; فَأَرَادَ الِاسْتِئْنَاسَ بِهِمْ، أَوْ فِي غِنَائِهِمْ ; فَأَرَادَ التَّقَرُّبَ لِيَتَلَذَّذَ بِأَنْغَامِهِمْ، (فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! أَدْخِلْنِيهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ! مَا يَصْرِينِي) ؟ : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ.

قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَفِي رِوَايَةٍ مَا يَصْرِيكَ مِنْ، أَيْ: مَا يَقْطَعُ مَسْأَلَتَكَ وَيَمْنَعُكَ مِنْ سُؤَالِي؟ يُقَالُ: صَرَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا قَطَعْتُهُ، وَصَرَيْتُ الْمَاءَ جَمَعْتُهُ وَحَبَسْتُهُ انْتَهَى. وَالْمَعْنَى: قَدْ كَرَّرْتَ سُؤَالَكَ مَعَ مُعَاهَدَتِكَ أَنْ لَا تَسْأَلَ، فَمَاذَا يَقْطَعُ سُؤَالَكَ عَنِّي وَيُرْضِيكَ؟ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: صَرَى عَنْهُ شَرَّهُ أَيْ دَفَعَ، وَصَرَيْتُهُ مَنَعْتُهُ، وَصَرَيْتُ مَا بَيْنَهُمْ صَرْيًا أَيْ: فَصَلْتُ، يُقَالُ: اخْتَصَمْنَا إِلَى الْحَاكِمِ فَصَرَى مَا بَيْنَنَا أَيْ: قَطَعَ مَا بَيْنَنَا وَفَصَلَ، وَحَسُنَ أَنْ يُقَالَ: مَا يَفْصِلُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، أَيْ: مَا الَّذِي يُرْضِيكَ حَتَّى تَتْرُكَ مُنَاشَدَتَكَ؟ وَالْمَعْنَى أَنِّي أَجَبْتُكَ إِلَى مَسْأَلَتِكَ كَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَأَخَذْتُ مِيثَاقَكَ أَنْ لَا

ص: 3558

تَعُودَ وَلَا تَسْأَلَ غَيْرَهُ، وَأَنْتَ لَا تَفِي بِذَلِكَ، فَمَا الَّذِي يَفْصِلُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ؟ وَيَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ وَالِاتِّسَاعِ، وَالْمُبْتَغَى مِنْهُ التَّوْفِيقُ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، وَكَرَمِهِ وَبِرِّهِ بِعِبَادِهِ، حَتَّى إِنَّهُ يُخَاطِبُهُمْ مُخَاطَبَةَ الْمُسْتَعْطِفِ الْبَاعِثِ سَائِلَهُ عَلَى الِاسْتِزَادَةِ. قَالَ: وَفِي كِتَابِ (الْمَصَابِيحِ) مَا يَصْرِينِي مِنْكَ، وَهُوَ غَلَطٌ، وَالصَّوَابُ مَا يَصْرِينِي مِنِّي، كَذَا رَوَاهُ الْمُتْقِنُونَ مِنْ أَهْلِ الرِّوَايَةِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْقَلْبِ ; فَأَصْلُهُ مَا يَصْرِيكَ مِنِّي، وَقَلَبَ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَالْقَلْبُ شَائِعٌ فِي كَلَامِهِمْ، ذَائِعٌ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ.

قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الرِّوَايَةُ صَحِيحَةٌ وَالْمَعْنَى صَحِيحٌ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: مَا يَصْرِينِي مِنْكَ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، كَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَرُوِيَ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ مَا يَصْرِيكَ مِنِّي. قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ رحمه الله: هُوَ الصَّوَابُ، وَأَنْكَرَ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ رحمه الله وَغَيْرِهِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ كِلَاهُمَا صَحِيحٌ، وَأَنَّ السَّائِلَ مَتَى انْقَطَعَ عَنِ الْمَسْئُولِ، انْقَطَعَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ يُرْضِيكَ وَيَقْطَعُ السُّؤَالَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ (أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا) أَيْ: قَدْرَهَا (وَمِثْلَهَا مَعَهَا قَالَ: أَيْ رَبِّ! أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي) أَيْ: أَتُحِلُّنِي مَحَلَّ الْمُسْتَهْزَأِ بِهِ، (وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ) ؟ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَالِاسْتِهْزَاءُ بِالشَّيْءِ إِذَا أُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يُرَادُ إِنْزَالُ الْهَوَانِ عَلَيْهِ، وَإِحْلَالُهُ إِيَّاهُ مَحَلَّ الْمُسْتَهْزَأِ بِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ. وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ: هَذَا وَارِدٌ مِنَ السُّؤَالِ عَلَى سَبِيلِ الْفَرَحِ وَالِاسْتِبْشَارِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: هَذَا الْكَلَامُ صَادِرٌ عَنْهُ، وَهُوَ غَيْرُ ضَابِطٍ لِمَا نَالَ مِنَ السُّرُورِ بُلُوغَ مَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ ; فَلَمْ يَضْبُطْ لِسَانَهُ دَهْشَةً وَفَرَحًا، عَلَى عَادَتِهِ فِي الدُّنْيَا مُخَاطَبَةَ الْمَخْلُوقِ، وَنَحْوُهُ حَدِيثُ التَّوْبَةِ، قَوْلُ الرَّجُلِ عِنْدَ وِجْدَانِ زَادِهِ مَعَ رَاحِلَتِهِ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ انْتَهَى.

وَتَوْضِيحُهُ، مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنْ قِيلَ: صَدَرَ مِنْهُ هَذَا الْقَوْلُ بَعْدَ كَشْفِ الْغِطَاءِ، وَاسْتِوَاءِ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ، وَمَا يَجُوزُ؟ قُلْتُ: مَثَابَةُ هَذَا الْعَالِمِ مَثَابَةُ الْعَالِمِ الَّذِي يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْفَرَحُ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ ; فَيَزِلُّ لِسَانُهُ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ، كَمَا أَخْطَأَ فِي الْقَوْلِ مَنْ ضَلَّتْ رَاحِلَتُهُ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، ثُمَّ بَعْدَمَا وَجَدَهَا وَأَخَذَ بِخِطَامِهَا قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ. (فَضَحِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: أَلَا) : بِالتَّخْفِيفِ (تَسْأَلُونِي) : بِالنُّونِ وَتَخْفِيفٍ (مِمَّ أَضْحَكُ) ؟ أَيْ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَضْحَكُ؟ (فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ؟ فَقَالَ ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: مِنْ ضَحِكِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حِينَ قَالَ لَهُ: أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ) ؟ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: الضَّحِكُ مِنَ اللَّهِ وَمِنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَا مُتَّفِقَيْنِ فِي اللَّفْظِ، فَإِنَّهُمَا مُتَبَايِنَانِ فِي الْمَعْنَى ; وَذَلِكَ أَنَّ الضَّحِكَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ يُحْمَلُ عَلَى كَمَالِ الرِّضَا عَنِ الْعَبْدِ، وَإِرَادَةِ الْخَيْرِ مِمَّنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَرْحَمَهُ. وَقَالَ الْقَاضِي رحمه الله: وَإِنَّمَا ضَحِكَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِعْجَابًا وَسُرُورًا بِمَا رَأَى مِنْ كَمَالِ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلُطْفِهِ عَلَى عَبْدِهِ الْمُذْنِبِ وَكَمَالِ الرِّضَا عَنْهُ، وَأَمَّا ضَحِكُ ابْنِ مَسْعُودٍ ; فَكَانَ اقْتِدَاءً بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِهِ: هَكَذَا ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَاحَظَ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِلضَّحِكَ، لَا أَنَّهُ مُجَرَّدُ تَقْلِيدٍ وَحِكَايَةٍ لِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا اخْتِيَارِيًّا، وَلَا يَصْدُرُ مِنْ غَيْرِ بَاعِثٍ مِنْ قَوْلٍ عَجِيبٍ، أَوْ فِعْلٍ غَرِيبٍ. (فَيَقُولُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ، وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ) : وَفِي نُسْخَةٍ قَدِيرٌ.

قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: فَإِنْ قُلْتَ: مِمَّ اسْتَدْرَكَهُ؟ قُلْتُ: عَنْ مُقَدَّرٍ ; فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ لَهُ: أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا، فَاسْتَبْعَدَهُ الْعَبْدُ لَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَقَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ بِي؟ قَالَ سبحانه وتعالى: نَعَمْ، كُنْتَ لَسْتَ أَهْلًا لَهُ، لَكِنِّي أَجْعَلُكَ أَهْلًا لَهَا، وَأُعْطِيكَ مَا اسْتَبْعَدْتَهُ ; لِأَنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَدِيرٌ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : أَيْ: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

ص: 3559

5583 -

وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ (فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ مَا يَصْرِينِي مِنْكَ؟) إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَزَادَ فِيهِ:( «وَيَذْكُرُهُ اللَّهُ: سَلْ كَذَا وَكَذَا، حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ بِهِ الْأَمَانِيُّ قَالَ اللَّهُ: هُوَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، قَالَ: ثُمَّ يَدْخُلُ بَيْتَهُ، فَتَدْخُلُ عَلَيْهِ زَوْجَتَاهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ فَيَقُولَانِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَاكَ لَنَا وَأَحْيَانَا لَكَ. قَالَ: فَيَقُولُ: مَا أَعْطَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُعْطِيتَ» ) .

ــ

5583 -

(وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ) أَيْ: لِمُسْلِمٍ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوَهُ) أَيْ: نَحْوَ الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، (إِلَّا أَنَّهُ) أَيْ: أَبَا سَعِيدٍ (لَمْ يَذْكُرْ فَيَقُولُ: (يَا ابْنَ آدَمَ مَا يَصْرِينِي مِنْكَ) إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَزَادَ) أَيْ: نَقَصَ مِنَ الْحَدِيثِ مَا سَبَقَ وَزَادَ (فِيهِ: (وَيُذَكِّرُهُ اللَّهُ) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: يُعْلِمُهُ (سَلْ كَذَا وَكَذَا، حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ بِهِ الْأَمَانِيُّ قَالَ اللَّهُ: هُوَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ) قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ثُمَّ يَدْخُلُ) أَيِ: الْعَبْدُ (بَيْتَهُ) أَيْ: قَصْرَهُ (فَتَدْخُلُ عَلَيْهِ زَوْجَتَاهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: زَوْجَتَاهُ بِالتَّاءِ تَثْنِيَةُ زَوْجَةٍ، هَكَذَا ثَبَتَ فِي الرِّوَايَةِ، وَالْأُصُولِ، وَهِيَ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ مَعْرُوفَةٌ، (فَتَقُولَانِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَاكَ لَنَا وَأَحْيَانَا لَكَ) أَيْ: خَلَقَنَا لَكَ، وَوَضَعَ أَحْيَا مَوْضِعَ خَلَقَ إِشْعَارًا بِالْخُلُودِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي لَا مَوْتَ فِيهَا، وَإِنَّهَا دَائِمَةُ السُّرُورِ وَالْحَيَاةِ، قَالَ تَعَالَى:{وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64]، (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَيَقُولُ) أَيِ: الْعَبْدُ (مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُعْطِيتُ) أَيْ: لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى إِعْطَاءِ غَيْرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 3560

5584 -

«وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لَيُصِيبَنَّ أَقْوَامًا سَفْعٌ مِنَ النَّارِ بِذُنُوبٍ أَصَابُوهَا عُقُوبَةً، ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ ; فَيُقَالُ لَهُمُ: الْجَهَنَّمِيُّونَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

5584 -

(وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (لَيُصِيبَنَّ) أَيْ: وَاللَّهِ وَلَيُدْرِكَنَّ وَلَيَمَسَّنَّ (أَقْوَامًا سَفْعٌ مِنَ النَّارِ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ: سَوَادٌ مِنْ لَفْحِ النَّارِ أَوْ عَلَامَةٌ مِنْهَا، كَذَا فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَقِيلَ: إِحْرَاقٌ قَلِيلٌ (بِذُنُوبٍ) أَيْ: بِسَبَبِهَا، وَقَوْلُهُ:(أَصَابُوهَا) : صِفَةُ ذُنُوبٍ، وَقَوْلُهُ:(عُقُوبَةً) : مَفْعُولٌ لَهُ، (ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ) ، كَذَا فِي أَصْلِ السَّيِّدِ وَبَعْضِ النُّسَخِ، وَفِي بَعْضِهَا: بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ (فَيُقَالُ لَهُمُ: الْجَهَنَّمِيُّونَ)، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: لَيْسَتِ التَّسْمِيَةُ بِهَا تَنْقِيصًا لَهُمْ، بَلِ اسْتِذْكَارًا ; لِيَزْدَادُوا فَرَحًا إِلَى فَرَحٍ، وَابْتِهَاجًا إِلَى ابْتِهَاجٍ ; وَلِيَكُونَ ذَلِكَ عَلَمًا لِكَوْنِهِمْ عُتَقَاءَ اللَّهِ تَعَالَى. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.

ص: 3560

5585 -

وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَخْرُجُ أَقْوَامٌ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَيُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ: "«يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَتِي، يُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ» ".

ــ

5585 -

(وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَخْرُجُ أَقْوَامٌ)، وَفِي نُسْخَةٍ: قَوْمٌ (مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ)، وَفِي نُسْخَةٍ:(صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، وَقِيلَ بِالْفَاعِلِ (وَيُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ)، وَفِي " الْمَصَابِيحِ ": الْجَهَنَّمِيُّونَ، قَالَ شَارِحٌ لَهُ: الرِّوَايَةُ بِالْوَاوِ وَحَقُّهُ الْيَاءُ ; لِأَنَّهُ مَفْعُولُ يُسَمَّوْنَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْجَهَنَّمِيُّونَ بِالْوَاوِ عَلَمًا لَهُمْ ; فَلَمْ يُغَيَّرْ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

(وَفِي رِوَايَةٍ: ( «يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَتِي يُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ» ) .

ص: 3560

5586 -

«وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا، رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْوًا، فَيَقُولُ اللَّهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! وَجَدْتُهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ اللَّهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا، فَيَقُولُ: أَتَسْخَرُ مِنِّي - أَوْ تَضْحَكُ مِنِّي - وَأَنْتَ الْمَلِكُ؟ . وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وَكَانَ يُقَالُ: ذَلِكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

5586 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا» ) أَيْ: فِيهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ ; فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِلتَّوْضِيحِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ احْتِرَازًا مِمَّا عَسَى أَنْ يُتَوَهَّمَ مِنْ حَبْسِ أَحَدٍ فِي الْمَوْقِفِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حِينَئِذٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْوًا) : حَالٌ أَوْ مَصْدَرٌ، مِنْ حَبَا الصَّبِيُّ إِذَا مَشَى عَلَى أَرْبَعٍ، أَوْ دَبَّ عَلَى اسْتِهِ، أَيْ: زَحْفًا كَمَا فِي رِوَايَةٍ، (فَيَقُولُ اللَّهُ) أَيْ: لَهُ (اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا) أَيْ: فَيَجِيءُ قَرِيبًا مِنْهَا، أَوْ فَيَدْخُلُهَا، (فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ) أَيْ: مِنْ تَصْوِيرِهِ تَعَالَى (أَنَّهَا) أَيِ: الْجَنَّةُ (مَلْأَى) : تَأْنِيثُ مَلْآنَ (فَقَوْلُ: أَيْ رَبِّ! وَجَدْتُهَا مَلْأَى) : يَعْنِي وَلَيْسَ لِي مَكَانٌ فِيهَا، (فَيَقُولُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ) : الْمُرَادُ بِهَا جِنْسُهَا أَوْ جَنَّةٌ بِخُصُوصِهَا (فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا) أَيْ: فِي سَعَتِهَا وَقِيمَتِهَا (وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا) أَيْ: زِيَادَةً عَلَيْهَا فِي الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] ، فَالْمُؤْمِنُ حَيْثُ تَرَكَ الدُّنْيَا وَهِيَ صَارَتْ كَالْحَبْسِ فِي حَقِّهِ جُوزِيَ بِمِثْلِهَا عَدْلًا وَأَضْعَافِهَا فَضْلًا، (فَيَقُولُ: أَتَسْخَرُ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ أَيْ: أَتَسْتَهْزِئُ (مِنِّي - أَوْ تَضْحَكُ مِنِّي -) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (وَأَنْتَ الْمَلِكُ) ؟ أَيْ: وَالْحَالُ أَنْتَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ الْجَلِيلُ. (فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ) أَيْ: ظَهَرَتْ (نَوَاجِذُهُ) أَيْ: أَوَاخِرُ أَضْرَاسِهِ، (وَكَانَ يُقَالُ) : الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا كَلَامُ عِمْرَانَ، أَوْ مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الرُّوَاةِ، فَالْمَعْنَى: وَكَانَ يَقُولُ الصَّحَابَةُ أَوِ السَّلَفُ (ذَلِكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 3561

5587 -

«وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا، فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ، فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، كَذَا وَكَذَا؟ وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً. فَيَقُولُ: رَبِّ قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لَا أَرَاهَا هَاهُنَا ". وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

5587 -

(وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ» ) أَيْ: فِيهَا (وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: اعْرِضُوا) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ أَيِ: أَظْهِرُوا (عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا) أَيْ: بِمَحْوِهَا أَوْ بِإِخْفَائِهَا، (فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ، فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا) أَيْ: فِي الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ (كَذَا وَكَذَا) ؟ أَيْ: مِنْ عَمَلِ السَّيِّئَاتِ، (وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، كَذَا وَكَذَا) ؟ أَيْ: مِنْ تَرْكِ الطَّاعَاتِ، (فَيَقُولُ: نَعَمْ) أَيْ: فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، أَوْ بَعْدَهُمَا جَمِيعًا (لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ) أَيْ: شَيْئًا مِنْهُمَا اسْتِئْنَافٌ، أَوْ حَالٌ (وَهُوَ) أَيِ: الرَّجُلُ (مُشْفِقٌ) أَيْ: خَائِفٌ (مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ) أَيْ: تِلْكَ الْكِبَارُ (عَلَيْهِ) ; لِأَنَّ الْعَذَابَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَيْهَا أَكْثَرُ وَأَكْثَرُ، (فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً) : وَهُوَ إِمَّا لِكَوْنِهِ تَائِبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ

ص: 3561

حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] ، لَكِنْ يُشْكِلُ بِأَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: فَعَلَ بَعْدَ التَّوْبَةِ ذُنُوبًا اسْتَحَقَّ بِهَا الْعِقَابَ، وَإِمَّا وَقَعَ التَّبْدِيلُ لَهُ مِنْ بَابِ الْفَضْلِ مِنْ رَبِّ الْأَرْبَابِ، وَالثَّانِي أَظْهَرُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يَطْمَعُ فِي كَرَمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ (فَيَقُولُ: رَبِّ قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ) أَيْ: مِنَ الْكَبَائِرِ (لَا أَرَاهَا هَاهُنَا) أَيْ: فِي الصَّحَائِفِ، أَوْ فِي مَقَامِ التَّبْدِيلِ، (وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 3562

5588 -

«وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ أَرْبَعَةٌ، فَيُعْرَضُونَ عَلَى اللَّهِ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، فَيَلْتَفِتُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ! لَقَدْ كُنْتُ أَرْجُو إِذْ أَخْرَجْتَنِي مِنْهَا أَنْ لَا تُعِيدَنِي فِيهَا " قَالَ: (فَيُنْجِيهِ اللَّهُ مِنْهَا) » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

5588 -

وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ أَرْبَعَةٌ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله: هُمُ الْآخِرُونَ خُرُوجًا مِنْهَا (فَيُعْرَضُونَ عَلَى اللَّهِ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، فَيَلْتَفِتُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ! لَقَدْ كُنْتُ أَرْجُو إِذْ أَخْرَجْتَنِي مِنْهَا أَنْ لَا تُعِيدَنِي فِيهَا، قَالَ: فَيُنْجِيهِ) : بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ أَيْ: فَيُخَلِّصُهُ (اللَّهُ مِنْهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَلَعَلَّ هَذَا الْخُرُوجَ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - بَعْدَ الْوُرُودِ الْمَعْنِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71]، وَقِيلَ: مَعْنَى الْوُرُودِ الدُّخُولُ فِيهَا، وَهِيَ خَامِدَةٌ، فَيَعْبُرُهَا الْمُؤْمِنُونَ وَتَنْهَارُ بِغَيْرِهِمْ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:

ص: 3562

5589 -

«وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

5589 -

( «وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا» ) ، فَذَكَرَ مِنَ الْأَرْبَعَةِ وَاحِدًا وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِالنَّجَاةِ، وَتَرَكَ الثَّلَاثَةَ اعْتِمَادًا عَلَى الْمَذْكُورِ ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ مُتَّحِدَةٌ فِي الْإِخْرَاجِ مِنَ النَّارِ وَالنَّجَاةِ مِنْهَا ; وَلِأَنَّ الْكَافِرَ لَا خُرُوجَ لَهُ أَلْبَتَّةَ، فَيَدْخُلُ مَرَّةً أُخْرَى ; لِهَذَا قَالَ:(حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا، أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ)، قَالَ: وَنَحْوُهُ فِي الْأُسْلُوبِ - وَهُوَ أَنْ يُرَادَ أَشْيَاءُ وَيُذْكَرَ بَعْضُهَا وَيُتْرَكَ بَعْضُهَا - قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] : جَمَعَ الْآيَاتِ وَفَصَّلَهَا بِآيَتَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97]، وَثَانِيهِمَا:{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]، الْكَشَّافُ: ذَكَرَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَطَوَى عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهَا دَلَالَةً عَلَى تَكَاثُرِ الْآيَاتِ، وَنَحْوُهُ فِي طَيِّ الذِّكْرِ قَوْلُ جَرِيرٍ:

كَانَتْ حَنِيفَةُ أَثْلَاثًا فَثُلْثُهُمُ

مِنَ الْعَبِيدِ وَثُلْثٌ مِنْ مَوَالِيهَا

هَذَا وَضَبْطُ قَوْلِهِ: (يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُخَفَّفًا مِنَ الْإِخْلَاصِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّخَلُّصِ، وَفِي أُخْرَى بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ اللَّامِ مِنَ الْخَلَاصِ، فَفِي النِّهَايَةِ: خَلَصَ سَلِمَ وَنَجَا، ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْقَنْطَرَةِ الصِّرَاطُ الْمَمْدُودُ، وَالْمَظَالِمُ جَمْعُ مَظْلَمَةٍ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَهِيَ مَا تَطْلُبُهُ عِنْدَ الظَّالِمِ مِمَّا أَخَذَهُ مِنْكَ، وَقَوْلُهُ: وَنُقُّوا مِنَ التَّنْقِيَةِ عَطْفُ تَفْسِيرٍ لَهُذِّبُوا بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ التَّهْذِيبِ، (فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ) أَيْ: مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ (أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ) أَيْ:

ص: 3562

إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْبَاءَ بِمَعْنَى (إِلَى) عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) أَيْ: إِلَيَّ، فَالْمَعْنَى: أَعْرَفُ وَأَكْثَرُ هِدَايَةً إِلَى مَنْزِلِهِ (فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا)، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: هُدًى لَا يَهْدِي بِالْبَاءِ، بَلْ بِاللَّامِ وَإِلَى، فَالْوَجْهُ أَنْ يَضْمَنَ مَدَى اللُّصُوقِ، أَيْ: أُلْصِقَ بِمَنْزِلِهِ هَادِيًا إِلَيْهِ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} [يونس: 9] أَيْ: يَهْدِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِنُورِ إِيمَانِهِمْ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ، فَجَعَلَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ بَيَانًا لَهُ وَتَفْسِيرًا ; لِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِسَبَبِ السَّعَادَةِ كَالْوُصُولِ إِلَيْهَا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 3563

5590 -

«وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ لَوْ أَسَاءَ ; لِيَزْدَادَ شُكْرًا، وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ لَوْ أَحْسَنَ ; لِيَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَةً» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

5590 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلَّا أُرِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِرَاءَةِ، وَقَوْلُهُ:(مَقْعَدَهُ) : بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ ثَانٍ لَهُ، وَقَوْلُهُ:(مِنَ النَّارِ) : بَيَانٌ لِلْمَقْعَدِ (لَوْ أَسَاءَ) أَيْ: لَوْ أَسَاءَ الْعَمَلَ وَعَصَى رَبَّهُ - فَرْضًا وَتَقْدِيرًا - لَكَانَ ذَلِكَ مَقْعَدَهُ (لِيَزْدَادَ شُكْرًا) : عِلَّةٌ لِأُرِيَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْإِرَاءَةُ فِي الْقَبْرِ، عَلَى مَا يَشْهَدُ لَهُ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ لَوْ أَحْسَنَ) أَيِ: الْعَمَلَ، وَالْجَوَابُ مُقَدَّرٌ عَلَى مَا سَبَقَ، أَوْ (لَوْ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلتَّمَنِّي، (لِيَكُونَ) أَيِ: الْإِرَاءَةُ ; وَلِكَوْنِهِ مَصْدَرًا ذُكِّرَ فِعْلُهُ (عَلَيْهِ حَسْرَةً) : بِالنَّصْبِ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، أَيْ: لِيَقَعَ عَلَيْهِ حَسْرَةٌ وَنَدَامَةٌ وَمَلَامَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 3563

5591 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ، جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُذْبَحَ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ ; فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ، وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

5591 -

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ جِيءَ بِالْمَوْتِ» ) أَيْ: أُحْضِرَ بِهِ، وَوَرَدَ فِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ يُؤْتَى بِهِ عَلَى صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ ; لِيَتَيَقَّنُوا غَايَةَ الْيَقِينِ وَالْعِرْفَانِ، (حَتَّى يُجْعَلَ) أَيْ: وَاقِفًا (بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُذْبَحَ) : قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ رحمه الله: وَالْحِكْمَةُ فِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ حَصَلَ لَهُمُ الْفِدَاءُ، كَمَا فُدِيَ وَلَدُ إِبْرَاهِيمَ بِالْكَبْشِ، وَفِي الْأَمْلَحِ إِشَارَةٌ إِلَى صِفَتَيْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ; لِأَنَّ الْأَمْلَحَ مَا فِيهِ بَيَاضٌ وَسَوَادٌ، (ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ) أَيْ: أَبَدًا بَلْ خُلُودٌ بِلَا مَوْتٍ، كَمَا فِي رِوَايَةٍ، (وَيَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ، فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ، وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ) : بِضَمِّ الْحَاءِ، وَسُكُونِ الزَّايِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا وَبِهِمَا قُرِئَ فِي السَّبْعَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ يُمَثِّلُ لَهُمْ عَلَى الْمِثَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، يُؤْتَى بِكَبْشٍ لَهُ عَيْنٌ الْحَدِيثَ ; وَذَلِكَ لِيُشَاهِدُوهُ بِأَعْيُنِهِمْ، فَضْلًا أَنْ يُدْرِكُوهُ بِبَصَائِرِهِمْ، وَالْمَعَانِي إِذَا ارْتَفَعَتْ عَنْ مَدَارِكِ الْأَفْهَامِ، وَاسْتَعْلَتْ عَنْ مَعَارِجِ النُّفُوسِ لِكِبَرِ شَأْنِهَا صِيغَتْ لَهَا قَوَالِبُ مِنْ عَالَمِ الْحِسِّ ; حَتَّى تَتَصَوَّرَ فِي الْقُلُوبِ، وَتَسْتَقِرَّ فِي النُّفُوسِ، ثُمَّ إِنَّ الْمَعَانِيَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ تَنْكَشِفُ لِلنَّاظِرِينَ انْكِشَافَ الصُّوَرِ فِي هَذِهِ الدَّارِ الْفَانِيَةِ، وَأَمَّا إِذَا أَحْبَبْنَا أَنْ نُؤَثِّرَ الْأَقْدَامَ فِي سَبِيلٍ لَا مَعْلَمَ بِهَا لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنَامِ، فَاكْتَفَيْنَا بِالْمُرُورِ عَنِ الْإِلْمَامِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 3563

الْفَصْلُ الثَّانِي

5592 -

عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه «عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " حَوْضِي مِنْ عَدَنٍ إِلَى عُمَّانَ الْبَلْقَاءِ، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَكْوَابُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا، أَوَّلُ النَّاسِ وُرُودًا فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ الشُّعْثُ رُءُوسًا، الدُّنْسُ ثِيَابًا، الَّذِينَ لَا يَنْكِحُونَ الْمُتَنَعِّمَاتِ، وَلَا يُفْتَحُ لَهُمُ السُّدَدُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

5592 -

عَنْ ثَوْبَانَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: حَوْضِي مِنْ عَدَنٍ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ يُصْرَفُ وَلَا يُصْرَفُ، آخِرُ بِلَادِ الْيَمَنِ مِمَّا يَلِي بَحْرَ الْهِنْدِ (إِلَى عُمَّانَ الْبَلْقَاءِ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ مُضَافًا إِلَى الْبَلْقَاءِ بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ لَامٍ وَقَافٍ مَمْدُودَةٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: عُمَّانُ مَدِينَةٌ بِالشَّامِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: مَوْضِعٌ بِالشَّامِ، وَبِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ مَوْضِعٌ بِالْبَحْرَيْنِ. قُلْتُ: لَكِنَّ الْأُصُولَ الْمُعْتَمَدَةَ وَالنُّسَخَ الْمُصَحَّحَةَ اجْتَمَعَتْ عَلَى الضَّبْطِ الْأَوَّلِ ; فَهُوَ الْمُعَوَّلُ، ثُمَّ الْأَظْهَرُ أَنَّ الْبَلْقَاءَ مَدِينَةٌ بِالشَّامِ، وَعُمَّانَ مَوْضِعٌ بِهَا، وَإِنَّمَا أُضِيفَ لِقُرْبِهِ إِلَيْهَا، عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْعَسْقَلَانِيُّ رحمه الله وَالْمَعْنَى: مِقْدَارُ سَعَةِ حَوْضِي فِي الْعُقْبَى، كَمَا بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَحَادِيثِ فِي تَقْدِيرِ الْحَوْضِ، كَحَدِيثِ أَنَسٍ مَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَصَنْعَاءَ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - كَمَا بَيْنَ جَرْبَاءَ أَذَرُحَ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو مَسِيرَةَ شَهْرَيْنِ، وَحَدِيثِ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَالْمَدِينَةِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ تَصْوِيرُ كَثْرَةِ طُولِهِ وَعَرْضِهِ، لَا تَعْيِينُ قَدْرِهِ بِعَيْنِهِ وَحَصْرِهِ، فَوَرَدَ الْحَدِيثُ فِي كُلِّ مَقَامٍ بِمَا يُوَافِقُ إِدْرَاكَ السَّامِعِ فِي الْمَرَامِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَخْتَلِفَ لِاخْتِلَافِ مَذْهَبِ النَّاظِرِينَ، وَمَشْرَبِ الْوَارِدِينَ وَسَعَةِ صُدُورِهِمْ، وَحَذَاقَةِ بَصْرِهِمْ، كَاخْتِلَافِ سَعَةِ الْقَبْرِ وَمَنَازِلِ الْجَنَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّالِكِينَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ) : فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْبَيَاضَ هُوَ اللَّوْنُ الْمَحْبُوبُ، خِلَافًا لِمَا اخْتَارَهُ بَعْضٌ مِنَ اللَّوْنِ الْأَصْفَرِ ; لِمُقْتَضَى طَبْعِهِ الْمَقْلُوبِ، وَأَغْرَبُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَمِيلُونَ إِلَى تَغْيِيرِ شَفَةِ نِسَائِهِمُ الْمُحْمَرَّةِ إِلَى لَوْنِ السَّوَادِ، مَعَ أَنَّهُ مِمَّا يَغُمُّ الْفُؤَادَ، وَيُورِثُ الشَّوَادَ وَالْكُبَادَ، (وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ) أَيْ: أَلَذُّ مِنْهُ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الشِّفَاءِ لِلْعِبَادِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ إِلَى مَذَمَّةِ شَرْبَةِ الْخَمْرِ ; لِمَا فِيهَا مِنَ الْحَرَارَةِ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى شُرْبِهَا مِنَ الْفَسَادِ، (وَأَكْوَابُهُ) : جَمْعُ كُوبٍ، وَهُوَ الْكُوزُ الَّذِي لَا عُرْوَةَ لَهُ عَلَى مَا فِي الشُّرُوحِ، أَوْ لَا خُرْطُومَ لَهُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، (عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ) : بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: عَدَدُ أَكْوَابِهِ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَيْ: بِعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ، (مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا) : فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَفَاوُتِ مَرَاتِبِ الشَّارِبِينَ، وَاخْتِلَافِ رَفْعِ ظَمَاءِ الْوَارِدِينَ.

(أَوَّلُ النَّاسِ وُرُودًا) أَيْ: عَلَيْهِ (فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ) أَيْ: لِتَعَطُّشِهِمُ الظَّاهِرِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( «أَجْوَعُكُمْ فِي الدُّنْيَا أَشْبَعُكُمْ فِي الْآخِرَةِ» )، وَعَلَى قِيَاسِهِ أَظْمَؤُكُمْ. وَقَالَ تَعَالَى:{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24] ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيِّدُهُمْ، وَفِي مَعْنَاهُمْ كُلُّ مَنْ هَاجَرَ مِنْ وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَاخْتَارَ الْفَقْرَ عَلَى الْغِنَى، وَالْخُمُولَ عَلَى الشُّهْرَةِ، وَزَهِدَ فِي تَحْصِيلِ الْمَالِ وَالْجَاهِ، وَاشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ فِي رِضَا مَوْلَاهُ. (الشُّعْثُ) : بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ أَشْعَثَ بِالْمُثَلَّثَةِ، أَيِ: الْمُتَفَرِّقُو الشَّعَرِ.

(رُءُوسًا) : تَمْيِيزٌ، وَالرَّأْسُ قَدْ يَتَنَاوَلُ الْوَجْهَ، فَتَدْخُلُ اللِّحْيَةُ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، (الدُّنْسُ) : بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَقَدْ يُسَكَّنُ، جَمْعُ الدَّنِسِ وَهُوَ الْوَسِخُ (ثِيَابًا، الَّذِينَ لَا يُنْكَحُونَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: لَا يُزَوَّجُوهُ لَوْ خَطَبُوا (الْمُتَنَعِّمَاتِ) أَيْ: بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْكَافِ أَيِ: الَّذِينَ لَا يَتَزَوَّجُونَ الْمُتَنَعِّمَاتِ ; لِتَرْكِهِمُ الشَّهَوَاتِ زُهْدَهُمْ فِي اللَّذَّاتِ (وَلَا يُفْتَحُ لَهُمُ السُّدَدُ) : بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْأُولَى الْمُهْمَلَتَيْنِ جَمْعُ سُدَّةٍ، وَهِيَ بَابُ الدَّارِ ; سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمَدْخَلَ يُسَدُّ بِهِ، وَالْمَعْنَى: لَوْ وَقَفُوا عَلَى بَابِ أَرْبَابِ الدُّنْيَا - فَرْضًا وَتَقْدِيرًا - لَا يُفْتَحُ لَهُمْ، وَلَا يَؤْبَهُ بِهِمْ، أَوْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِمْ فِي الضِّيَافَةِ وَأَنْوَاعِ الدَّعْوَةِ، حَيْثُ لَمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى مُقَامِهِمْ وَلَمْ يَتَبَارَكُوا بِأَقْدَامِهِمْ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ)، وَكَذَا الْحَاكِمُ. (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

ص: 3564

5593 -

«وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَنَزَلْنَا مَنْزِلَنَا، فَقَالَ: " مَا أَنْتُمْ جُزْءٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ جُزْءٍ مِمَّنْ يَرِدُ عَلَى الْحَوْضِ "، قِيلَ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: سَبْعَمِائَةٍ أَوْ ثَمَانِمِائَةٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

5593 -

(وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: فِي سَفَرٍ (فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ) أَيْ: أَيُّهَا الصَّحَابَةُ الْحَاضِرُونَ (جُزْءٌ) : بِالرَّفْعِ فِي أَصْلِ السَّيِّدِ وَكَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ، (مِنْ مِائَةِ أَلْفِ جُزْءٍ مِمَّنْ يَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضِ)، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله: يَجُوزُ نَصْبُ جُزْءٍ عَلَى لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ بِإِعْمَالِ (مَا) وَإِجْرَائِهِ مَجْرَى لَيْسَ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ عَلَى لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ، يُرِيدُ بِهِ كَثْرَةَ مَنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. (قِيلَ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ) ؟ كَمِ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ مَحَلُّهَا نَصْبٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، أَيْ: كَمْ رَجُلًا أَوْ عَدَدًا كُنْتُمْ حِينَ إِذْ كُنْتُمْ مَعَهُ فِي السَّفَرِ، (قَالَ) أَيْ: زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ (سَبْعَمِائَةٍ) : بِالنَّصْبِ أَيْ: كُنَّا، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ: كَانَ عَدَدُنَا سَبْعَمِائَةٍ (أَوْ ثَمَانِمِائَةٍ) : يُحْتَمَلُ الشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي عَنْ زَيْدٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى (بَلْ) ، وَيُحْتَمَلُ التَّرَدُّدُ مِنْ زَيْدٍ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي بَابِ التَّخْمِينِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْعَدَدَ مَا بَيْنَهُمَا، لَا يَنْقُصُ عَنِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى الثَّانِي، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 3565

5594 -

وَعَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا، وَإِنَّهُمْ لَيَتَبَاهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وَارِدَةً، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ وَارِدَةً» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

ــ

5594 -

(وَعَنْ سَمُرَةَ) أَيِ: ابْنِ جُنْدُبٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا) أَيْ: يَشْرَبُ أُمَّتُهُ مِنْ حَوْضِهِ (وَإِنَّهُمْ) أَيِ: الْأَنْبِيَاءُ (لَيَتَبَاهَوْنَ) : بِفَتْحِ الْهَاءِ، أَيْ: يَتَفَاخَرُونَ (أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وَارِدَةً) أَيْ: نَاظِرِينَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أُمَّةً وَارِدَةً، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله وَقِيلَ: أَيُّهُمُّ مَوْصُولَةٌ، صَدْرُ صِلَتِهَا مَحْذُوفٌ، أَوْ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، كَمَا تَقُولُ: يَتَبَاهَى الْعُلَمَاءُ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ عِلْمًا، أَيْ: قَائِلِينَ. (وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ وَارِدَةً) ، وَلَعَلَّ هَذَا الرَّجَاءَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ أُمَّتَهُ ثَمَانُونَ صَفًّا، وَبَاقِي الْأُمَمِ أَرْبَعُونَ فِي الْجَنَّةِ، عَلَى مَا سَبَقَ، ثُمَّ الْحَوْضُ عَلَى حَقِيقَتِهِ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ عَلَى مَا فِي الْمُعْتَمَدِ فِي الْمُعْتَقَدِ، وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ رحمه الله حَيْثُ قَالَ: يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ظَاهِرِهِ ; فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا، وَأَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَجَازِ، وَيُرَادَ بِهِ الْعِلْمُ وَالْهُدَى، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ:( «وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي» ) فِي وَجْهٍ، وَإِلَيْهِ يُلْمِحُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( «مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) .

قُلْتُ: هَذَا الْمَعْنَى لَا يُنَافِي الْحَوْضَ الْحِسِّيَّ الَّذِي هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَرَاتِبِ الْوَارِدَةِ بِقَدْرِ أَخْذِ الْفَيْضِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْهُدَى الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ مِنْ جِهَةِ أَنْبِيَائِهِمْ، بَلْ أَقُولُ: لَا بُدَّ فِي التَّفَاوُتِ بَيْنَ مَاءِ كُلِّ حَوْضٍ فِي الصَّفَاءِ وَالرُّوَاءِ، وَاللَّذَّةِ وَالْكَثْرَةِ، بِحَسَبِ اخْتِيَارِهِمْ مَذْهَبَهُمْ، فَهُوَ عَلَى مِنْوَالِ {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60] . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

ص: 3565

5595 -

«وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَشْفَعَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: " أَنَا فَاعِلٌ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيْنَ أَطْلُبُكَ؟ قَالَ: " اطْلُبْنِي أَوَّلَ مَا تَطْلُبُنِي عَلَى الصِّرَاطِ " قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عَلَى الصِّرَاطِ؟ قَالَ: " فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الْمِيزَانِ " قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عِنْدَ الْمِيزَانِ؟ قَالَ: " فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الْحَوْضِ، فَإِنِّي لَا أُخْطِئُ هَذِهِ الثَّلَاثَ الْمَوَاطِنَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

ــ

5595 -

(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَشْفَعَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيِ: الشَّفَاعَةَ الْخَاصَّةَ مِنْ بَيْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ دُونَ الشَّفَاعَةِ الْعَامَّةِ، (فَقَالَ: أَنَا فَاعِلٌ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيْنَ أَطْلُبُكَ؟) قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ فِي أَيِّ مَوْطِنٍ مِنَ الْمَوَاطِنِ الَّتِي أَحْتَاجُ إِلَى شَفَاعَتِكَ أَطْلُبُكَ لِتُخَلِّصَنِي مِنْ تِلْكَ الْوَرْطَةِ؟ فَأَجَابَ: عَلَى الصِّرَاطِ، وَعِنْدَ الْمِيزَانِ وَالْحَوْضِ، أَيْ: أَفْقَرُ الْأَوْقَاتِ إِلَى شَفَاعَتِي هَذِهِ الْمَوَاطِنُ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ بَابِ الْحِسَابِ: فَهَلْ تَذْكُرُونَ أَهْلِيكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَمَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ فَلَا يَذْكُرُ أَحَدٌ أَحَدًا) قُلْتُ: جَوَابُهُ لِعَائِشَةَ بِذَلِكَ لِئَلَّا تَتَّكِلَ عَلَى كَوْنِهَا حَرَمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَوَابُهُ لِأَنَسٍ كَيْلَا يَيْأَسَ. أَقُولُ: فِيهِ أَنَّهُ خَادِمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ مَحَلُّ الِاتِّكَالِ أَيْضًا، مَعَ أَنَّ الْيَأْسَ غَيْرُ مُلَائِمٍ لَهَا أَيْضًا، فَالْأَوْجَهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَائِبِينَ، فَلَا أَحَدَ يَذْكُرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ الْغُيَّبِ، وَالْحَدِيثُ الثَّانِي مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ أُمَّتِهِ، فَيُئَوَّلُ بِأَنَّ [مَا] بَيْنَ عَدَمِ التَّذَكُّرِ وَبَيْنَ وُجُودِ الشَّفَاعَةِ عِنْدَ التَّحَضُّرِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَأَيْنَ أَطْلُبُكَ؟ (قَالَ: اطْلُبْنِي أَوَّلَ مَا تَطْلُبُنِي) أَيْ: فِي أَوَّلِ طَلَبِكَ

ص: 3565

إِيَّايَ (عَلَى الصِّرَاطِ) : فَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَأَوَّلُ نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: نَصْبُهُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ (قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عَلَى الصِّرَاطِ؟ قَالَ: فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الْمِيزَانِ) : فِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْمِيزَانَ بَعْدَ الصِّرَاطِ، (قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عِنْدَ الْمِيزَانِ؟ قَالَ: فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الْحَوْضِ، فَإِنِّي لَا أُخْطِئُ) : بِضَمِّ هَمْزٍ وَكَسْرِ الطَّاءِ بَعْدَهَا هَمْزٌ، أَيْ: لَا أَتَجَاوَزُ (هَذِهِ الثَّلَاثَ) أَيِ: الْبِقَاعَ، وَفِي نُسْخَةٍ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ بِالتَّاءِ أَيِ: الْمَوَاطِنَ، وَالْمَعْنَى لَا أَتَجَاوَزُهُمْ، وَلَا أَحَدَ يَفْقِدُنِي فِيهِنَّ جَمِيعِهِنَّ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَلْقَانِي فِي مَوْضِعٍ مِنْهُنَّ.

وَقَدِ اسْتُشْكِلَ كَوْنُ الْحَوْضِ بَعْدَ الصِّرَاطِ ; لِمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ: أَنَّ جَمَاعَةً يُدْفَعُونَ عَنِ الْحَوْضِ بَعْدَ أَنْ كَادُوا يَرِدُونَ، وَيُذْهَبُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، وَوَجْهُ الْإِشْكَالِ أَنَّ الَّذِي يَمُرُّ عَلَى الصِّرَاطِ إِلَى الْحَوْضِ يَكُونُ قَدْ نَجَا مِنَ النَّارِ، فَكَيْفَ يَرِدُ إِلَيْهَا؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُمْ يَقْرَبُونَ مِنَ الْحَوْضِ بِحَيْثُ يَرَوْنَ، فَيُدْفَعُونَ فِي النَّارِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُصُوا مِنَ الصِّرَاطِ، كَذَا حَقَّقَهُ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ رحمه الله. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

ص: 3566

5596 -

«وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قِيلَ لَهُ: مَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ؟ قَالَ: " ذَلِكَ يَوْمَ يَنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى كُرْسِيِّهِ فَيَئِطُّ كَمَا يَئِطُّ الرَّحْلُ الْجَدِيدُ بِرَاكِبِهِ مِنْ تَضَايُقِهِ بِهِ، هُوَ كَسَعَةِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَيُجَاءُ بِكُمْ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، فَيَكُونُ أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: اكْسُوا خَلِيلِي ; فَيُؤْتَى بِرَيْطَتَيْنِ بَيْضَاوَيْنِ مِنْ رِيَاطِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ أُكْسَى عَلَى أَثَرِهِ، ثُمَّ أَقُومُ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ مَقَامًا يَغْبِطُنِي الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ» ". رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.

ــ

5596 -

(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قِيلَ لَهُ مَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ) ؟ أَيِ: الَّذِي وُعِدْتَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79](قَالَ: ذَلِكَ يَوْمٌ) بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ جَمْعٌ مِنْ عُلَمَائِنَا، وَيَجُوزُ فَتْحُهُ، وَهُوَ خَبَرُ ذَلِكَ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، أَمَّا عَلَى الثَّانِي فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَتَقْدِيرُهُ: ذَلِكَ الَّذِي أَبْلُغُ فِيهِ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ (يَوْمٌ يَنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى كُرْسِيِّهِ) : يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ حُكْمِهِ بِالْعَدْلِ فِي يَوْمِ الْفَصْلِ قَبْلَ إِظْهَارِ الْفَضْلِ الْمُتَوَقِّفِ عَلَى شَفَاعَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِشْعَارًا لِمَزِيدِ فَضْلِهِ عَلَى خَلْقِهِ، فَكَمَا أَنَّهُ لَوْلَاهُ أَوَّلًا لَمَا خُلِقَ الْأَفْلَاكُ وَلَا وُجِدَ الْأَمْلَاكُ، فَكَذَا لَوْلَاهُ آخِرًا لَوَقَعَ الْأَنَامُ فِي الْهَلَاكِ، فَهُوَ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْآخِرُ، وَالْبَاطِنُ وَالظَّاهِرُ، وَهُوَ مُظْهِرُ الْكُلِّ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِأَنَّهُ مُظْهِرُ الْجَامِعِ الْمُسَمَّى بِاللَّهِ، وَقِيلَ: هَذَا طَرِيقَةُ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقَاضِي بِقَوْلِهِ: مَثَّلَ التَّجَلِّي لِعِبَادِهِ بِنَعْتِ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ لِلْعَدْلِ وَالْقَضَاءِ، وَإِدْنَاءِ الْمُقَرَّبِينَ مِنْهُمْ عَلَى حَسَبِ مَرَاتِبِهِمْ، وَكَشْفِ الْحِجَابِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ بِنُزُولِ السُّلْطَانِ مِنْ غُرَفِ الْقَصْرِ إِلَى صَدْرِ الدَّارِ، وَجُلُوسِهِ عَلَى كُرْسِيِّ الْمُلْكِ لِلْحُكُومَةِ وَالْفَصْلِ، وَإِقَامَةِ خَوَاصِّهِ وَأَهْلِ كَرَامَتِهِ حَوَالَيْهِ قُدَّامًا وَوَرَاءً، وَيَمِينًا وَشِمَالًا عَلَى تَفَاوُتِ مَرَاتِبِهِمْ لَدَيْهِ، وَقِيلَ: مَعْنَى نُزُولِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُرْسِيِّهِ ظُهُورُ مَمْلَكَتِهِ وَحُكْمِهِ مَحْسُوسًا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ التَّجَلِّي لَهُ بِنَعْتِ الْعَظَمَةِ وَالْإِقْبَالُ بِوَصْفِ الْكِبْرِيَاءِ فِي الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ، حَتَّى يَتَضَايَقَ مِنِ احْتِمَالِ مَا قَدْ غَشِيَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا لَمْ يَبْعُدْ عَنِ الْحَقِّ ; لِمَا فِي كَشْفِ الْحِجَابِ مِنْ مَعْنَى النُّزُولِ عَنْ مَعَارِجِ الْجَلَالِ إِلَى مَدَارِجِ الْجَمَالِ، (فَيَئِطُّ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ، أَيْ: يُصَوِّتُ الْكُرْسِيُّ (كَمَا يَئِطُّ الرَّحْلُ) : أَيِ الْإِكَافُ (الْجَدِيدُ بِرَاكِبِهِ) أَيْ: بِسَبَبِ رُكُوبِ رَاكِبِهِ إِذَا كَانَ عَظِيمًا. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَهُوَ مُبَالَغَةٌ وَتَصْوِيرٌ لِعَظَمَةِ التَّجَلِّي عَلَى طَرِيقِ التَّرْشِيحِ، (مِنْ تَضَايُقِهِ بِهِ) : مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَيَئِطُّ، أَيْ: مِنْ عَدَمِ اتِّسَاعِ الْكُرْسِيِّ بِاللَّهِ تَعَالَى، كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ. وَقِيلَ: أَيْ مِنْ تَضَايُقِ الْكُرْسِيِّ بِمَلَائِكَةِ اللَّهِ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ عَنْ كَثْرَةِ الْمَلَائِكَةِ الْحَافِّينَ حَوْلَ عَرْشِهِ، (وَهُوَ كَسَعَةِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) : بِفَتْحِ سِينِ كَسَعَةٍ وَيُكْسَرُ، وَفِي نُسْخَةٍ يَسَعُهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَفِي الْقَامُوسِ: وَسِعَهُ الشَّيْءُ بِالْكَسْرِ يَسَعُهُ كَيَضَعُهُ سَعَةً كَدَعَةٍ وِدِيَةٍ. وَفِي الْمُغْرِبِ يُقَالُ: وَسِعَ الشَّيْءُ الْمَكَانَ، وَمَعْنَاهُ وَسِعَهُ الْمَكَانُ، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَضِقْ عَنْهُ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْكُرْسِيِّ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ الْكُرْسِيَّ يَسَعُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] لَكِنْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ الْأَرْضَ بِجَنْبِ السَّمَاءِ كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ، وَكَذَا كُلُّ سَمَاءٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فَوْقَهَا، وَالسَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرَضِينَ عِنْدَ الْكُرْسِيِّ كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ، وَكَذَا هُوَ فِي جَنْبِ الْعَرْشِ» .

ص: 3566

قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: قَوْلُهُ: وَهُوَ يَسَعُهُ حَالٌ أَوْ مُعْتَرِضَةٌ جِيءَ بِهَا دَفْعًا لِتَوَهُّمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ أَطِيطَ الْكُرْسِيِّ لِلضِّيقِ بِسَبَبِ تَشْبِيهِهِ بِالرَّحْلِ فِي الْأَطِيطِ (وَيُجَاءُ بِكُمْ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا) أَيْ: تَحْضُرُونَ فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ (فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ) : بِرَفْعِهِ وَنَصْبِ أَوَّلَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِعَكْسِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: فَعَلَى الْأَوَّلِ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26](يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (اكْسُوا) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالسِّينِ، أَمْرٌ لِلْمَلَائِكَةِ أَيْ: أَلْبِسُوا (خَلِيلِي ; فَيُؤْتَى بِرَيْطَتَيْنِ بَيْضَاوَيْنِ مِنْ رِيَاطِ الْجَنَّةِ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ جَمْعُ رَيْطَةٍ بِفَتْحِهَا، وَهِيَ الْمُلَاءَةُ الرَّقِيقَةُ اللَّيِّنَةُ مِنَ الْكَتَّانِ لَا تَكُونُ لِفْقَتَيْنِ، بَلْ تَكُونُ قِطْعَةً وَاحِدَةً، يُؤْتَى بِهِ مِنَ الشَّامِ (ثُمَّ أُكْسَى) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: أُلْبَسُ أَنَا (عَلَى أَثَرِهِ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَبِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، أَيْ: عَقِبَ إِبْرَاهِيمَ وَبَعْدَهُ (ثُمَّ أَقُومُ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ) أَيْ: قِيَامَ كَرَامَةٍ (مَقَامًا يَغْبِطُنِي) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: يَتَمَنَّاهُ (الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ) .

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ وَجْهُ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ؟ أُجِيبَ: بِأَنَّ الدَّالَّ عَلَى الْجَوَابِ هُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ أَقُومُ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ، لَكِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ أَوَّلًا الْوَقْتَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ، وَوَصَفَهُ بِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ ; لِيَكُونَ أَعْظَمَ فِي النُّفُوسِ وَقْعًا، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ أَقُومُ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ هُوَ الْمَقَامُ الَّذِي أَقُومُ فِيهِ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى فَضْلِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمَوْجُودَاتِ، وَحِيَازَتُهُ قَصَبَ السَّبْقِ مِنْ بَيْنِ السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالثَّقَلَيْنِ، وَكَفَى بِالشَّاهِدِ شَهِيدًا عَلَى الْمَلِكِ الْأَعْظَمِ إِذَا ضَرَبَ سُرَادِقَ الْجَلَالِ لِقَضَاءِ شُئُونِ الْعِبَادِ، وَجَمْعِ أَسَاطِينِ دَوْلَتِهِ، وَأَشْرَافِ مَمْلَكَتِهِ، وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ، لَا يَخْفَى أَنَّ مَنْ يَكُونُ عَنْ يَمِينِهِ هُوَ أَوْلَى أُولِي الْقُرْبِ، وَأَمَّا كُسْوَةُ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام قَبْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِهِ عَلَيْهِ، بَلْ عَلَى فَضْلِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا قَدَّمَ كُسْوَتَهُ عَلَى كُسْوَةِ مِثْلِ مَنْ يَغْبِطُهُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ ; إِظْهَارًا لِفَضْلِهِ وَكَرَامَتِهِ وَمَكَانَتِهِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا} [النحل: 120] إِلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النحل: 123] الْآيَةَ. " الْكَشَّافِ ": فِي ثُمَّ هَذِهِ مَا فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِ مَنْزِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِجْلَالِ مَحَلِّهِ وَالْإِيذَانِ بِأَنَّ أَشْرَفَ مَا أُوتِيَ خَلِيلُ اللَّهِ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَأَجَلَّ مَا أُولِيَ فِي النِّعْمَةِ اتِّبَاعُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِلَّتَهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى تَبَاعُدِ هَذَا النَّعْتِ فِي الْمَرْتَبَةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النُّعُوتِ الَّتِي أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِهَا.

وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْفَضِيلَةُ الْمُطْلَقَةُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَدْخُلُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ عَنِ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ خِطَابِهِ. قُلْتُ: هَذَا غَفْلَةٌ مِنَ الْقَائِلِ عَنْ تَصْرِيحِ قَوْلِهِ: ثُمَّ أُكْسَى عَلَى أَثَرِهِ، قِيلَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا جِيءَ بِهِ كَاسِيًا، وَإِنَّمَا كُسِيَ ثَانِيًا لِلْكَرَامَةِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ كُسِيَ لِلْعُرْيِ. أَقُولُ: وَهَذَا مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ عُرَاةً، ثُمَّ يُخْلَقُ لَهُمْ أَكْفَانُهُمْ فَيَلْبَسُونَهَا، ثُمَّ يَخْلَعُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْخَلِيلُ أَفْضَلَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ابْتُدِئَ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمَ النَّبِيِّينَ خُتِمَ بِهِ، وَأُقِيمَ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْأَمْرُ تَرَقِّيًا عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ جَدَّهُ عليه السلام وَمَتْبُوعَهُ فِي بَعْضِ الْمَقَامِ، مَعَ مُرَاعَاةِ كَوْنِهِ أَوَّلَ مَنْ عُرِّيَ فِي ذَاتِ اللَّهِ، حِينَ أَرَادُوا إِلْقَاءَهُ فِي النَّارِ فِيمَا ذَكَرْنَا امْتَازَ الْخَلِيلُ عَنْ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

ص: 3567

5597 -

وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " شِعَارُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الصِّرَاطِ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

ــ

5597 -

(وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شِعَارُ الْمُؤْمِنِينَ) : بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: عَلَامَتُهُمُ الَّتِي يَتَعَارَفُونَ بِهَا، مُقْتَدِيًا كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ قَوْلُهُمْ:(يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الصِّرَاطِ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ) : وَالتَّكْرَارُ لِلْإِلْحَاحِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ التَّكْثِيرُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شِعَارُ الْمُؤْمِنِينَ قَوْلَ الْأَنْبِيَاءِ فِي حَقِّهِمْ هَذَا الدُّعَاءَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، «عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: وَشِعَارُ أُمَّتِي إِذَا حُمِلُوا عَلَى الصِّرَاطِ: يَا لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ هَذَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالْأَوَّلُ لِسَائِرِ الْأُمَمِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ إِنَّمَا هُوَ مِنْ شِعَارِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، وَالشُّهَدَاءِ الصَّالِحِينَ مِمَّنْ لَهُمْ مَقَامُ الشَّفَاعَةِ تَبَعًا لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ)، وَكَذَا الْحَاكِمُ (وَقَالَ) أَيِ: التِّرْمِذِيُّ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ)، وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا:( «شِعَارُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» )، وَرَوَى الشِّيرَازِيُّ عَنْهَا أَيْضًا:( «شِعَارُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظُلَمِ الْقِيَامَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» ) .

ص: 3567

5598 -

«وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ.

ــ

5598 -

( «وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» ) أَيْ: شَفَاعَتِي فِي الْعَفْوِ عَنِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ شَفَاعَتِي الَّتِي تُنَجِّي الْهَالِكِينَ مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الْكَبَائِرِ، وَفِي (شَرْحِ مُسْلِمٍ) لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله: مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ جَوَازُ الشَّفَاعَةِ عَقْلًا، وَوُجُوبُهَا سَمْعًا ; لِصَرِيحِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109] ، وَقَدْ جَاءَتِ الْآثَارُ الَّذِي بَلَغَتْ بِمَجْمُوعِهَا التَّوَاتُرَ لِصِحَّةِ الشَّفَاعَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَجْمَعَ السَّلَفُ الصَّالِحُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَيْهَا، وَمَنَعَتِ الْخَوَارِجُ وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْهَا، وَتَعَلَّقُوا بِمَذَاهِبِهِمْ فِي تَخْلِيدِ الْمُذْنِبِينَ فِي النَّارِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]، وَبِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْآيَتَيْنِ فِي الْكُفَّارِ، وَالْمُرَادُ بِالظُّلْمِ الشِّرْكُ، وَأَمَّا تَأْوِيلُهُمْ أَحَادِيثَ الشَّفَاعَةِ بِكَوْنِهَا فِي زِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ فَبَاطِلٌ، وَأَلْفَاظُ الْأَحَادِيثِ فِي الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ صَرِيحَةٌ فِي بُطْلَانِ مَذْهَبِهِمْ، وَإِخْرَاجِ مَنِ اسْتَوْجَبَ النَّارَ. قُلْتُ: وَمِنْهُ هَذَا الْحَدِيثُ ; حَيْثُ لَا مَعْنَى لِزِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ لِأَصْحَابِ الْكَبَائِرِ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى زَعْمِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، قَالَ: وَالشَّفَاعَةُ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ:

(أَوَّلُهَا) : مُخْتَصَّةٌ بِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ الْإِرَاحَةُ مِنْ هَوْلِ الْمَوْقِفِ وَتَعْجِيلِ الْحِسَابِ.

(الثَّانِيَةُ) : فِي إِدْخَالِ قَوْمٍ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَهَذِهِ أَيْضًا وَرَدَتْ فِي نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

(الثَّالِثَةُ) : الشَّفَاعَةُ لِقَوْمٍ اسْتَوْجَبُوا النَّارَ، فَيَشْفَعُ فِيهِمْ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(الرَّابِعَةُ) : فِيمَنْ دَخَلَ النَّارَ مِنَ الْمُذْنِبِينَ، فَقَدْ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا وَالْمَلَائِكَةِ وَإِخْوَانِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ يُخْرِجُ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.

(الْخَامِسَةُ) : الشَّفَاعَةُ فِي زِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ لِأَهْلِهَا، وَهَذِهِ لَا نُنْكِرُهَا أَيْضًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ.

ص: 3568

5599 -

وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ.

ــ

5599 -

(وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ)، وَفِي (الْجَامِعِ) : رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَنَسٍ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ جَابِرٍ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْخَطِيبُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَفِي رِوَايَةٍ لِلْخَطِيبِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ:( «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الذُّنُوبِ مِنْ أُمَّتِي، وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي الدَّرْدَاءِ» ) . وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ عَلِيٍّ: ( «شَفَاعَتِي لِأُمَّتِي مَنْ أَحَبَّ أَهْلَ بَيْتِي» ) . وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ:( «شَفَاعَتِي مُبَاحَةٌ إِلَّا لِمَنْ سَبَّ أَصْحَابِي» ) . وَرَوَى ابْنُ مَنِيعٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَبِضْعَةَ عَشَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَفْظُهُ:( «شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَقٌّ، فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهَا» ) .

ص: 3568

5600 -

وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَتَانِي آتٍ مِنْ عِنْدِ رَبِّي، فَخَيَّرَنِي بَيْنَ أَنْ يُدْخِلَ نِصْفَ أُمَّتِي الْجَنَّةَ وَبَيْنَ الشَّفَاعَةِ، فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعَةَ، وَهِيَ لِمَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

5600 -

(وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَانِي آتٍ) أَيْ: مَلَكٌ عَظِيمٌ (مِنْ رَبِّي، فَخَيَّرَنِي) أَيْ: رَبِّي أَوِ الْمَلَكُ (بَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْخَاءِ عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَفِي أُخْرَى بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْخَاءِ، عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ أَوِ الْمَلَكُ مَجَازًا، فَقَوْلُهُ:(نِصْفُ أُمَّتِي) : مَرْفُوعٌ عَلَى الْأَوَّلَيْنِ وَمَنْصُوبٌ عَلَى الثَّالِثِ، وَقَوْلُهُ:(الْجَنَّةَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ بِكُلٍّ مِنَ

ص: 3568

الرِّوَايَاتِ (وَبَيْنَ الشَّفَاعَةِ، فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعَةَ) أَيْ: لِأُمَّةِ الْإِجَابَةِ ; لِاحْتِيَاجِ أَكْثَرِهِمْ إِلَيْهَا، (وَهِيَ) أَيِ: الشَّفَاعَةُ (لِمَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا) . وَاعْلَمْ أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ نُسْخَةِ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ الْمُحَدِّثِ أَنَّ تَدْخُلَ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ، عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ، وَنِصْفٌ بِالرَّفْعِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفٍ، بَلْ إِلَى تَعَسُّفٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: اكْتَسَبَ التَّأْنِيثَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَضُبِطَ بِالْحَمْرَةِ أَيْضًا تُدْخِلُ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ مُخَاطِبًا، وَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ: نِصْفُ أُمَّتِي، وَالْقَوْلُ بِالِالْتِفَاتِ فِي مِثْلِ هَذَا مِمَّا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) ، وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَوْفٍ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي مُوسَى.

ص: 3569

5601 -

«وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْجَدْعَاءِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَةِ رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَكْثَرُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

5601 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْجَدْعَاءِ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، كَذَا فِي (جَامِعِ الْأُصُولِ) وَهَكَذَا ضُبِطَ فِي النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَأَيْضًا نُسِبَ إِلَى الْعَسْقَلَانِيِّ، لَكِنَّهُ فِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي (التَّقْرِيبِ) مِنْ أَنَّهُ بِجِيمٍ مَفْتُوحَةٍ فَذَالٍ مُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ، كِنَانِيٌّ صَحَابِيٌّ، لَهُ حَدِيثَانِ، تَفَرَّدَ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفَ: تَمِيمِيٌّ يُذْكَرُ فِي الْوُحْدَانِ، رَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ، وَعِدَادُهُ فِي الْبَصْرِيِّينَ. (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَةِ رَجُلٍ) أَيْ: خَلِيلٍ (مِنْ أُمَّتِي أَكْثَرُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ) : وَهِيَ قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ، فَقِيلَ: الرَّجُلُ هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَقِيلَ: أَوْسٌ الْقَرَنِيُّ، وَقِيلَ غَيْرُهُ، قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ رحمه الله: وَهَذَا أَقْرَبُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

ص: 3569

5602 -

«وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنَّ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَشْفَعُ لِلْفِئَامِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْفَعُ لِلْقَبِيلَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْفَعُ لِلْعُصْبَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْفَعُ لِلرَّجُلِ، حَتَّى يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

5602 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ) أَيِ: الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ مِنْ أُمَّتِي) أَيْ: بَعْضُ أَفْرَادِهِمْ، مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالشُّهَدَاءِ وَالصُّلَحَاءِ (مَنْ يَشْفَعُ لِلْفِئَامِ) : بِكَسْرِ الْفَاءِ بَعْدَهُ هَمْزٌ وَقَدْ يُبْدَلُ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ، لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَالْعَامَّةُ تَقُولُ: فِيامٌ بِلَا هَمْزٍ. أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ هَاهُنَا مَعْنَاهُ الْقَبَائِلُ، كَمَا قِيلَ هُوَ فِي الْمَعْنَى جَمْعُ فِئَةٍ ; لِقَوْلِهِ:(وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْفَعُ لِلْقَبِيلَةِ) : وَهِيَ قَوْمٌ كَثِيرٌ جَدُّهُمْ وَاحِدٌ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْفَعُ لِلْعُصْبَةِ) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ مِنَ الرِّجَالِ، لَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا جَمْعٌ وَلَوِ اثْنَانِ ; لِقَوْلِهِ:(وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْفَعُ لِلرَّجُلِ) : وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ طَوَى مَا بَيْنَ الْعُصْبَةِ وَالرَّجُلِ ; لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الرَّجُلُ بِالْبُرْهَانِ الْجَلِيِّ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَرْأَةِ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ، (حَتَّى يَدْخُلُوا) : أَيِ الْأُمَّةُ كُلُّهُمُ (الْجَنَّةَ)، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَايَةَ يَشْفَعُ، وَالضَّمِيرُ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، أَيْ: يَنْتَهِي شَفَاعَتُهُمْ إِلَى أَنْ يَدْخُلُوا جَمِيعُهُمُ الْجَنَّةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى (كَيْ) فَالْمَعْنَى أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: وَحَسَّنَهُ عَلَى مَا نَقَلَهُ عَنْهُ السَّيِّدُ.

ص: 3569

5603 -

«وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ اللَّهَ عز وجل وَعَدَنِي أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ بِلَا حِسَابٍ ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: زِدْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ وَهَكَذَا، فَحَثَا بِكَفَّيْهِ وَجَمَعَهُمَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: زِدْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَهَكَذَا، فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنَا يَا أَبَا بَكْرٍ! فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا عَلَيْكَ أَنْ يُدْخِلَنَا اللَّهُ كُلَّنَا الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ اللَّهَ عز وجل إِنْ شَاءَ أَنْ يُدْخِلَ خَلْقَهُ الْجَنَّةَ بِكَفٍّ وَاحِدٍ فَعَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " صَدَقَ عُمَرُ» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ.

ــ

5603 -

(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ عز وجل وَعَدَنِي أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ بِلَا حِسَابٍ) أَيْ: وَلَا كِتَابٍ وَلَا سَابِقَةِ عَذَابٍ (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: زِدْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ) أَيْ: زِدْنَا فِي الْإِخْبَارِ عَمَّا وَعَدَكَ رَبُّكَ إِدْخَالَ أُمَّتِكَ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَتِكَ، يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ

ص: 3569

قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «وَعَدَنِي رَبِّي أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ أَلْفًا لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَذَابَ، مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَثَلَاثُ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ رَبِّي» ) . كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ مُسْتَحْسَنٌ جِدًّا، إِلَّا أَنَّ قَيْدَ قَوْلِهِ بِشَفَاعَتِكَ لَا دَلَالَةَ لِلْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ شَفَاعَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَإِنْ كَانُوا دَاخِلِينَ فِي الشَّفَاعَةِ الْعَامَّةِ، هَذَا وَفِي قَوْلِهِ: زِدْنَا، عَلَى أَنَّ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَدْخَلًا وَمَجَالًا فِي الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَفِي التَّصَرُّفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، بِحَسَبِ مَا أَوْلَاهُ مَوْلَاهُ مِنَ الرُّتْبَةِ الْجَلِيَّةِ وَالْمَزِيَّةِ الْعَلِيَّةِ. (قَالَ) أَيْ: أَنَسٌ (وَهَكَذَا) أَيْ: وَفَعَلَ هَكَذَا، وَتَفْسِيرُ (فَحَثَا بِكَفَّيْهِ وَجَمَعَهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: زِدْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَهَكَذَا) أَيْ: فَحَثَا بِكَفَّيْهِ وَجَمَعَهُمَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا حِكَايَةٌ لِفِعْلِهِ سُبْحَانَهُ ; وَلِذَا قَالَ الشُّرَّاحُ: إِنَّمَا ضَرَبَ الْمَثَلَ بِالْحَثَيَاتِ ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُعْطِي الْكَرِيمِ إِذَا اسْتُزِيدَ أَنْ يَحْثِيَ بِكَفَّيْهِ مِنْ غَيْرِ حِسَابٍ، وَرُبَّمَا نَاوَلَهُ مِلْءَ كَفٍّ، فَالْحَثْيُ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَثْرَةِ، وَإِلَّا فَلَا كَفَّ وَلَا حَثْيَ. (فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنَا يَا أَبَا بَكْرٍ) ! أَيِ: اتْرُكْنَا عَلَى مَا بَيَّنَ لَنَا الْحَالَ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ ; لِنَكُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِدَالِ، (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا عَلَيْكَ) أَيْ: بَأْسٌ وَضَرَرٌ (أَنْ يُدْخِلَنَا اللَّهُ كُلَّنَا) أَيْ: جَمِيعَنَا، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ فِي يُدْخِلَنَا (الْجَنَّةَ؟ قَالَ عُمَرُ: إِنَّ اللَّهَ) أَيْ: بَلْ أَقُولُ زِيَادَةً عَلَى مَا تَقُولُ عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَقَدُ بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل إِنْ شَاءَ أَنْ يُدْخِلَ خَلْقَهُ الْجَنَّةَ) أَيْ: جَمِيعَ مَخْلُوقَاتِهِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، وَمُطِيعِهِمْ وَفَاجِرِهِمْ، (بِكَفٍّ وَاحِدٍ) أَيْ: بِمَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ (فَعَلَ)، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ:{وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 9]، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] قِيلَ: أَرَادَ بِكَفٍّ وَاحِدٍ عَطَاءَهُ وَفَضْلَهُ، أَيْ: لَوْ أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَ الْخَلْقَ كُلَّهُ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ فَعَلَ ; فَإِنَّهَا أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ، هَذَا وَالْكَفُّ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ الْيَدُ أَوْ إِلَى الْكُوعِ، وَجَعَلَهَا صَاحِبُ الْمُغْرِبِ مِنَ الْمُؤَنَّثَاتِ السَّمَاعِيَّةِ، وَعَدَّهَا ابْنُ الْحَاجِبِ أَيْضًا فِي رِسَالَتِهِ مِمَّا يَجِبُ تَأْنِيثُهُ، فَقَوْلُهُ: بِكَفٍّ وَاحِدٍ، مُئَوَّلٌ بِعَطَاءٍ وَاحِدٍ، أَوْ بِمَقْبُوضٍ وَاحِدٍ. (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ عُمَرُ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: وَإِنَّمَا لَمْ يُجِبْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ بِمِثْلِ كَلَامِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لِأَنَّهُ وَجَدَ لِلْبِشَارَاتِ مَدْخَلًا عَظِيمًا فِي تَوَجُّهِ النُّفُوسِ الْقُدْسِيَّةِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُنْجِي خَلْقَهُ مِنْ عَذَابِهِ بِشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ، الْفَوْجَ بَعْدَ الْفَوْجِ، وَالْقَبِيلَ بَعْدَ الْقَبِيلِ، ثُمَّ يُخْلِصُ مَنْ قَصُرَتْ عَنْهُ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ سَلِمَ لَهُمُ الْإِيمَانُ، وَلَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ، عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ هُوَ مِنْ بَابِ التَّضَرُّعِ وَالْمَسْكَنَةِ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ مِنْ بَابِ التَّفْوِيضِ وَالتَّسْلِيمِ. أَقُولُ: التَّسْلِيمُ أَسْلَمُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ) أَيْ صَاحِبُ (الْمَصَابِيحِ) (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: بِإِسْنَادِهِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي (مُسْنَدِهِ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ السَّيِّدُ.

ص: 3570

5604 -

وَعَنْهُ، قَالَ:«قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يُصَفُّ أَهْلَ النَّارِ، فَيَمُرُّ بِهِمُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ: يَا فُلَانُ أَمَا تَعْرِفُنِي؟ أَنَا الَّذِي سَقَيْتُكَ شَرْبَةً. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَا الَّذِي وَهَبْتُ لَكَ وَضُوءًا، فَيَشْفَعُ لَهُ فَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

ــ

5604 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُصَفُّ) : بِضَمٍّ وَفَتْحٍ وَتَشْدِيدٍ، أَيْ: يُجْعَلُ صَفًّا، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحٍ فَضَمٍّ أَيْ يَصِيرُ صَفًّا (أَهْلُ النَّارِ) أَيْ: مِنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْفُجَّارِ فِي طَرِيقِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْأَخْيَارِ، وَالصُّلَحَاءِ الْأَبْرَارِ، عَلَى هَيْئَةِ الْمَسَاكِينِ السَّائِلِينَ فِي طَرِيقِ الْأَغْنِيَاءِ فِي هَذِهِ الدَّارِ، (فَيَمُرُّ بِهِمُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ) أَيْ: مِنْ أَهْلِ النَّارِ (يَا فُلَانُ) كِنَايَةً عَنِ اسْمِهِ (أَمَا تَعْرِفُنِي؟ أَنَا الَّذِي سَقَيْتُكَ شَرْبَةً) أَيْ: مِنْ مَاءٍ أَوْ لَبَنٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَا الَّذِي وَهَبْتُ لَكَ وَضُوءًا) : بِفَتْحِ الْوَاوِ، أَيْ: مَاءَ وُضُوءٍ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ مِنْ لُقْمَةٍ وَخِرْقَةٍ، أَوْ نَوْعِ إِعَانَةٍ، أَوْ جِنْسِ عَطِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ أَوْ جُزْئِيَّةٍ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، أَوْ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ ; فَإِنَّ الْغَرِيقَ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ حَشِيشٍ. (فَيَشْفَعُ لَهُ) أَيْ: ذَلِكَ الصَّالِحُ (فَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ) أَيْ: يَصِيرُ سَبَبًا لِدُخُولِهِ إِيَّاهَا، أَوِ الْمَعْنَى: فَيُدْخِلُهُ مَعَهُ الْجَنَّةَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ الْمُظْهِرُ: فِيهِ تَحْرِيضٌ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، لَا سِيَّمَا مَعَ الصُّلَحَاءِ وَالْمُجَالَسَةِ مَعَهُمْ وَمَحَبَّتِهِمْ ; فَإِنَّ مَحَبَّتَهُمْ زَيْنٌ فِي الدُّنْيَا وَنُورٌ فِي الْعُقْبَى. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

ص: 3570

5605 -

«وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنَّ رَجُلَيْنِ مِمَّنْ دَخَلَ النَّارَ اشْتَدَّ صِيَاحُهُمَا، فَقَالَ الرَّبُّ تَعَالَى: أَخْرِجُوهُمَا. فَقَالَ لَهُمَا: لِأَيِّ شَيْءٍ اشْتَدَّ صِيَاحُكُمَا؟ قَالَا: فَعَلْنَا ذَلِكَ لِتَرْحَمَنَا. قَالَ: (فَإِنَّ رَحْمَتِي لَكُمَا أَنْ تَنْطَلِقَا فَتُلْقِيَا أَنْفُسَكُمَا حَيْثُ كُنْتُمَا مِنَ النَّارِ، فَيُلْقِي أَحَدُهُمَا نَفْسَهُ، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، وَيَقُومُ الْآخَرُ فَلَا يُلْقِي نَفْسَهُ، فَيَقُولُ لَهُ الرَّبُّ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُلْقِيَ نَفْسَكَ كَمَا أَلْقَى صَاحِبُكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا تُعِيدَنِي فِيهَا بَعْدَ مَا أَخْرَجْتَنِي مِنْهَا. فَيَقُولُ لَهُ الرَّبُّ تَعَالَى: لَكَ رَجَاؤُكَ. فَيُدْخَلَانِ جَمِيعًا الْجَنَّةَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

5605 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ رَجُلَيْنِ مِمَّنْ دَخَلَ النَّارَ اشْتَدَّ صِيَاحُهُمَا) أَيْ: بُكَاؤُهُمَا وَتَضَرُّعُهُمَا وَاسْتِغَاثَتُهُمَا (فَقَالَ الرَّبُّ تَعَالَى) أَيْ: لِلزَّبَانِيَةِ (أَخْرِجُوهُمَا. فَقَالَ لَهُمَا: لِأَيِّ شَيْءٍ اشْتَدَّ صِيَاحُكُمَا) ؟ أَيْ: بَعْدَمَا كُنْتُمَا سَاكِتَيْنِ خَامِدَيْنِ (قَالَا: فَعَلْنَا ذَلِكَ) أَيِ: اشْتِدَادَ الصِّيَاحِ لِتَرْحَمَنَا أَيْ: فَإِنَّكَ تُحِبُّ مَنْ يَتَضَرَّعُ إِلَيْكَ (قَالَ: فَإِنَّ رَحْمَتِي لَكُمَا أَنْ تَنْطَلِقَا) أَيْ: تَذْهَبَا (فَتُلْقِيَا أَنْفُسَكُمَا حَيْثُ كُنْتُمَا مِنَ النَّارِ) : فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مُجَرَّدَ التَّضَرُّعِ الظَّاهِرِيِّ لَا يُفِيدُ الرَّحْمَةَ بِدُونِ الِانْقِيَادِ الْبَاطِنِيِّ ; وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: قَوْلُهُ: أَنْ تَنْطَلِقَا فَتُلْقِيَا خَبَرَانِ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَجُوزُ حَمْلُ الِانْطِلَاقِ إِلَى النَّارِ وَإِلْقَاءُ النَّفْسِ فِيهَا عَلَى الرَّحْمَةِ؟ قُلْتُ: هَذَا مِنْ حَمْلِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُمَا لَمَّا فَرَّطَا فِي جَنْبِ اللَّهِ، وَقَصَّرَا فِي الْعَاجِلَةِ فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ، أَمَرَ هُنَالِكَ بِالِامْتِثَالِ فِي إِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمَا فِي النَّارِ ; إِيذَانًا بِأَنَّ الرَّحْمَةَ إِنَّمَا هِيَ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ عز وجل. (فَيُلْقِي أَحَدُهُمَا نَفْسَهُ) أَيْ: فِي النَّارِ (فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا) أَيْ: كَمَا جَعَلَهَا بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، (وَيَقُومُ الْآخَرُ) أَيْ: يَقِفُ (فَلَا يُلْقِي نَفْسَهُ، فَيَقُولُ لَهُ الرَّبُّ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُلْقِيَ نَفْسَكَ) أَيْ: مِنْ إِلْقَائِهَا فِي النَّارِ (كَمَا أَلْقَى صَاحِبُكَ) ؟ أَيْ كَإِلْقَائِهِ فِيهَا؟ (فَيَقُولُ: رَبِّ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا تُعِيدَنِي فِيهَا بَعْدَمَا أَخْرَجْتَنِي مِنْهَا) ، فَالْأَوَّلُ امْتَثَلَ بِالْخَوْفِ وَالْعَمَلِ، وَالثَّانِي عَمِلَ بِالْعِلْمِ وَالْأَمَلِ، (فَيَقُولُ لَهُ الرَّبُّ تَعَالَى: لَكَ رَجَاؤُكَ) أَيْ: مُقْتَضَاهُ وَنَتِيجَتُهُ، كَمَا أَنَّ لِصَاحِبِكَ خَوْفُهُ وَعَمَلُهُ بِمُوجِبِهِ، (فَيُدْخَلَانِ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: فَيُدْخِلُهُمَا اللَّهُ (جَمِيعًا الْجَنَّةَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ) أَيِ: الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْعَمَلِ وَالْمَعْرِفَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ص: 3571

5606 -

«وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَرِدُ النَّاسُ النَّارَ، ثُمَّ يَصْدُرُونَ مِنْهُ بِأَعْمَالِهِمْ، فَأَوَّلُهُمْ كَلَمْحِ الْبَرْقِ، ثُمَّ كَالرِّيحِ، ثُمَّ كَحُضْرِ الْفَرَسِ، ثُمَّ كَالرَّاكِبِ فِي رَحْلِهِ، ثُمَّ كَشَدِّ الرَّجُلِ، ثُمَّ كَمَشْيِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ.

ــ

5606 -

(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَرِدُ النَّاسُ النَّارَ) : يَرِدُ عَلَى وَزْنِ يَعِدُ مُضَارِعٌ مِنَ الْوُرُودِ بِمَعْنَى الْحُضُورِ، يُقَالُ: وَرَدْتُ مَاءَ كَذَا أَيْ حَضَرْتُهُ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ وُرُودًا لِأَنَّ الْمَارَّةَ عَلَى الصِّرَاطِ يُشَاهِدُونَ النَّارَ وَيَحْضُرُونَهَا ; وَعَلَى هَذَا يُئَوَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ حِينَئِذٍ فِي الْعَطَشِ الشَّدِيدِ، وَإِنَّمَا مَرُّوا عَلَى الصِّرَاطِ لِلْوُصُولِ إِلَى الْحَوْضِ الْمَوْرُودِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: الْوُرُودُ لُغَةً قَصْدُ الْمَاءِ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هَاهُنَا الْجَوَازُ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ. (ثُمَّ يَصْدُرُونَ مِنْهَا) : بِضَمِّ الدَّالِ أَيْ يَنْصَرِفُونَ عَنْهَا ; فَإِنَّ الصَّدْرَ إِذَا عُدِّيَ بِمِنِ اقْتَضَى الِانْصِرَافَ، وَهَذَا عَلَى الِاتِّسَاعِ وَمَعْنَاهُ النَّجَاةُ ; إِذْ لَيْسَ هُنَاكَ انْصِرَافٌ، وَإِنَّمَا هُوَ الْمُرُورُ عَلَيْهَا، فَوُضِعَ الصَّدْرُ مَوْضِعَ النَّجَاةِ ; لِلْمُنَاسَبَةِ الَّتِي بَيْنَ الصُّدُورِ وَالْوُرُودِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: ثُمَّ فِي ثُمَّ يَصْدُرُونَ مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72] فِي أَنَّهَا لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ لَا الزَّمَانِ، بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى التَّفَاوُتَ بَيْنَ وُرُودِ النَّاسِ النَّارَ، وَبَيْنَ نَجَاةِ الْمُتَّقِينَ مِنْهَا، فَكَذَلِكَ بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّفَاوُتَ بَيْنَ وُرُودِ النَّاسِ النَّارَ، وَبَيْنَ صُدُورِهِمْ مِنْهَا، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصُّدُورِ الِانْصِرَافُ انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخَلْقَ بَعْدَ شُرُوعِهِمْ فِي الْوُرُودِ يَتَخَلَّصُونَ مِنْ خَوْفِ النَّارِ، وَمُشَاهَدَةِ رُؤْيَتِهَا، وَمُلَاصَقَةِ لَهَبِهَا وَدُخَانِهَا، وَتَعَلُّقِ شَوْكِهَا، وَأَمْثَالُهَا عَلَى مَرَاتِبَ شَتَّى فِي سُرْعَةِ الْمُجَاوَزَةِ وَإِبْطَائِهَا، (بِأَعْمَالِهِمْ) أَيْ: بِحَسَبِ مَرَاتِبِ

ص: 3571

أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، (فَأَوَّلُهُمْ) أَيْ: أَسْبَقُهُمْ (كَلَمْحِ الْبَرْقِ) أَيِ: الْخَاطِفِ، (ثُمَّ كَالرِّيحِ) أَيِ: الْعَاصِفِ، (ثُمَّ كَحُضْرِ الْفَرَسِ) أَيْ: جَرْيِهِ وَهُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الضَّادِ الْعَدْوُ الشَّدِيدُ، (ثُمَّ كَالرَّاكِبِ فِي رَحْلِهِ) أَيْ: عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَعَدَّاهُ بِفِي لِتَمَكُّنِهِ مِنَ السَّيْرِ، كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله وَقِيلَ: أَرَادَ الرَّاكِبَ فِي مَنْزِلِهِ وَمَأْوَاهُ ; فَإِنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ السَّيْرُ وَالسُّرْعَةُ أَشَدُّ (ثُمَّ كَشَدِّ الرَّجُلِ) أَيْ: عَدْوِهِ وَجَرْيِهِ، (ثُمَّ كَمَشْيِهِ) أَيْ: كَمَشْيِ الرَّجُلِ عَلَى هِينَتِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) .

ص: 3572

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

5607 -

«عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنَّ أَمَامَكُمْ حَوْضِي، مَا بَيْنَ جَنْبَيْهِ كَمَا بَيْنَ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ» . قَالَ بَعْضُ الرُّوَاةِ: هُمَا قَرْيَتَانِ بِالشَّامِ، بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ ثَلَاثِ لَيَالِيَ. وَفِي رِوَايَةٍ:( «فِيهِ أَبَارِيقُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ وَرَدَهُ فَشَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

5607 -

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ أَمَامَكُمْ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، أَيْ: قُدَّامَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (حَوْضِي) أَيْ: بَعْدَ الصِّرَاطِ (مَا بَيْنَ جَنْبَيْهِ) أَيْ: طَرَفَيْهِ (كَمَا بَيْنَ جَرْبَاءَ) : بِفَتْحِ جِيمٍ وَسُكُونِ رَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مَمْدُودَةٍ (وَأَذْرُحَ) : بِفَتْحِ هَمْزٍ وَسُكُونِ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ وَضَمِّ رَاءٍ وَبِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ غَيْرُ مُنْصَرِفَيْنِ. (قَالَ بَعْضُ الرُّوَاةِ) أَيْ: رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ (هُمَا قَرْيَتَانِ بِالشَّامِ، بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ ثَلَاثِ لَيَالٍ)، قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: الْجَرْبَاءُ قَرْيَةٌ بِجَنْبِ أَذْرُحَ، وَغَلِطَ مَنْ قَالَ بَيْنَهُمَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَإِنَّمَا الْوَهْمُ مِنْ رُوَاةِ الْحَدِيثِ مِنْ إِسْقَاطِ زِيَادَةٍ، ذَكَرَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ، وَهِيَ مَا بَيْنَ نَاحِيَتَيْ حَوْضِي، كَمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَجَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ. (وَفِي رِوَايَةٍ: فِيهِ) أَيْ: مَوْضُوعٌ فِي أَطْرَافِهِ أَوْ عَلَى جَوَانِبِهِ (أَبَارِيقُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ) أَيْ: فِي الْكَثْرَةِ وَصَفَاءِ الضِّيَاءِ (مَنْ وَرَدَهُ فَشَرِبَ مِنْهُ) أَيْ: شَرْبَةً (لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا) أَيْ: بَعْدَ تِلْكَ الشَّرْبَةِ أَوْ بَعْدَ الشُّرْبِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ (أَبَدًا) أَيْ: دَائِمًا سَرْمَدًا، فَيَكُونُ شُرْبُهُ الْأَشْرِبَةَ فِي الْجَنَّةِ بَعْدَهَا بِنَاءً عَلَى التَّلَذُّذِ وَالتَّفَكُّهِ وَالتَّكَيُّفِ بِهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ بِلَفْظِ:( «الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، حَافَتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ وَمَجْرَاهُ عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، تُرْبَتُهُ أَطْيَبُ رِيحًا مِنَ الْمِسْكِ، وَمَاؤُهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ» ) .

ص: 3572

5608 -

5609 - «وَعَنْ حُذَيْفَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَجْمَعُ اللَّهُ تبارك وتعالى النَّاسَ، فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ، حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: يَا أَبَانَا اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ؟ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ " قَالَ: " فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ، اعْمَدُوا إِلَى مُوسَى الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا، فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى كَلِمَةِ اللَّهِ وَرُوحِهِ، فَيَقُولُ عِيسَى: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ، وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَيَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ ". قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَيُّ شَيْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ؟ قَالَ: (أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وَشَدِّ الرِّجَالِ، تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ، وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: يَا رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ، حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلَا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلَّا زَحْفًا. وَقَالَ: " وَفِي حَافَتَيِ الصِّرَاطِ كَلَالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ، تَأْخُذُ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ، فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ، وَمُكَرْدَسٌ فِي النَّارِ ". وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ إِنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعِينَ خَرِيفًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

5608 -

5609 - (وَعَنْ حُذَيْفَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا) أَيْ: كِلَاهُمَا (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَجْمَعُ اللَّهُ تبارك وتعالى النَّاسَ) : الْمُرَادُ بِهِمُ الْخَلْقُ، وَخُصُّوا بِالذِّكْرِ لِلتَّشْرِيفِ ; فَإِنَّهُمْ عُمْدَةُ أَرْبَابِ التَّكْلِيفِ (فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ) أَيِ: الْخَوَاصُّ مِنْ عُمُومِ النَّاسِ (حَتَّى تُزْلَفَ) : بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَبِالْفَاءِ أَيْ: تُقَرَّبَ (لَهُمُ الْجَنَّةُ)، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ - عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 13 - 14]، (فَيَأْتُونَ) أَيِ: الْمُؤْمِنُونَ (آدَمَ)، وَالْمُرَادُ مِنْهُمْ بَعْضُهُمُ الْخَوَاصُّ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ (فَيَقُولُونَ: يَا أَبَانَا اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ) أَيِ: اطْلُبْ فَتْحَ بَابِهَا حَتَّى نَدْخُلَهَا، (فَيَقُولُ: وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ) ؟ أَيْ: وَصَاحِبُ الْخَطِيئَةِ لَا يَصْلُحُ لِلشَّفَاعَةِ، بَلْ هُوَ مُحْتَاجٌ بِنَفْسِهِ إِلَى الضَّرَاعَةِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ:(لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ) أَيْ: ذَلِكَ الْمَقَامِ الَّذِي أَرَدْتُمُوهُ مِنَ الشَّفَاعَةِ

ص: 3572

الْكُبْرَى، وَالْمَرْتَبَةِ الْعَظِيمَةِ الْمُسَمَّاةِ بِالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الْمَخْصُوصِ لِصَاحِبِ اللِّوَاءِ الْمَمْدُودِ (اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ) أَيْ: فَإِنَّهُ مِنْ أَفْضَلِ الرُّسُلِ، وَجَدُّ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ، فَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ وَاعْرِضُوا أَمْرَكُمْ عَلَيْهِ (قَالَ: " فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ) أَيِ: الْمَقَامِ الْمَوْعُودِ وَالْمَرَامِ الْمَشْهُودِ (إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ) : بِالْفَتْحِ فِيهِمَا عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَالنُّسَخِ الْمَقْرُوءَةِ الْمُصَحَّحَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: الْمَشْهُورُ الْفَتْحُ فِيهِمَا بِلَا تَنْوِينٍ، وَيَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ بِنَاؤُهَا عَلَى الضَّمِّ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: الصَّوَابُ الضَّمُّ فِيهِمَا ; لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، قَالَ: وَإِنْ صَحَّ الْفَتْحُ قَبْلُ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: الْفَتْحُ أَصَحُّ، وَتَكُونُ الْكَلِمَةُ مُرَكَّبَةً كَشَذَرَ مَذَرَ، وَشَعَرَ بَغَرَ، فَبِنَاؤُهُمَا عَلَى الْفَتْحِ، وَإِنْ وَرَدَ مَنْصُوبًا مُنَوَّنًا جَازَ ذَلِكَ. (اعْمِدُوا) : بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيِ: اقْصِدُوا (إِلَى مُوسَى الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا) أَيْ: بِلَا وَاسِطَةِ كِتَابٍ وَمِنْ غَيْرِ وَرَاءِ حِجَابٍ. قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ: وَهَذَا وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ، أَيْ: لَسْتُ بِصَدَدِ تِلْكَ الدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمَكَارِمَ الَّتِي أُعْطِيتُهَا كَانَتْ بِوَاسِطَةِ سِفَارَةِ جِبْرِيلَ عليه الصلاة والسلام وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى عليه الصلاة والسلام فَإِنَّهُ حَصَلَ لَهُ الْكَلَامُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ. قَالَ: وَإِنَّمَا كُرِّرَ لِأَنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَصَلَ لَهُ السَّمَاعُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَحَصَلَ لَهُ الرُّؤْيَةُ أَيْضًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنَا وَرَاءَ مُوسَى الَّذِي هُوَ وَرَاءَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

(فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى كَلِمَةِ اللَّهِ وَرُوحِهِ) : بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُمَا وَنَصْبُهُمَا عَلَى الْمَدْحِ (فَيَقُولُ عِيسَى: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ) ; وَحِينَئِذٍ يَنْحَصِرُ الْأَمْرُ فِي نَبِيِّنَا خَاتَمِ الرُّسُلِ وَمُقَدَّمِ الْكُلِّ، (فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فِيهِ وَضْعُ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ، أَوْ عَلَى طَرِيقِ التَّجْرِيدِ، (فَيَقُومُ) أَيْ: عَنْ يَمِينِ عَرْشِ الرَّحْمَنِ، وَيَسْتَأْذِنُ بِالشَّفَاعَةِ فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِ ; لِإِزَالَةِ كَرْبِ الْمَوْقِفِ وَعُمُومِ الْأَحْزَانِ (فَيُؤْذَنُ لَهُ) أَيْ: فَيَسْجُدُ، عَلَى مَا سَبَقَ، (وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ) أَيْ: مُصَوَّرَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، (فَتَقُومَانِ) : بِالتَّأْنِيثِ عَلَى تَغْلِيبِ الْأَمَانَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَبِالتَّذْكِيرِ عَلَى تَغْلِيبِ الرَّحِمِ الْمُذَكَّرِ، أَيْ: فَيَقِفَانِ، أَوْ فَيَحْضُرَانِ (جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ) : بِالْفَتَحَاتِ أَيْ: طَرَفَيْهِ (يَمِينًا وَشِمَالًا) : كَالْبَيَانِ لِمَا قَبْلَهُ، وَنَصْبُهُمَا عَلَى الْبَدَلِيَّةِ أَوِ الظَّرْفِيَّةِ، (فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ) : الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ الْعَامَّةِ إِلَى الْخِطَابِ لِلْخَاصَّةِ (كَالْبَرْقِ) أَيْ: فِي سُرْعَةِ السَّيْرِ.

(قَالَ) أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ (قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ: أَفْدِيكَ بِهِمَا (أَيُّ شَيْءٍ) : اسْتِفْهَامٌ (كَمَرِّ الْبَرْقِ) ؟ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ شَبِيهٌ بِالْبَرْقِ، وَالْمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ تُشَبِّهُهُ بِالْبَرْقِ. (قَالَ: أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ) أَيْ: سَرِيعًا (وَيَرْجِعُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ) ، ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ، أَوْ عَلَى طَرِيقِ التَّتْمِيمِ لِلْمَعْنَى الْمُرَادِ، فَيَكُونُ الْجَوَابُ بِأَنَّهُ يُشْبِهُهُ فِي سُرْعَةِ السَّيْرِ، كَذَا حَرَّرَهُ الشُّرَّاحُ، وَعِنْدِي أَنَّ التَّشْبِيهَ مُرَكَّبٌ مِنْ سُرْعَةِ الْمُرُورِ، وَمِنْ ضِيَاءِ الظُّهُورِ ; لِيَكُونَ نُورًا عَلَى نُورٍ ; وَلِيَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْبَدَنِ وَالرُّوحِ، وَإِلَى الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَإِلَى الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، وَأَيْضًا الْمُرُورُ مَذْكُورٌ فِي كَلَامِ السَّائِلِ، وَلَا بُدَّ فِي الْجَوَابِ مِنْ أَمْرٍ زَائِدٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَيِ الْمُرَادُ بِهِمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِمُ الْأَصْفِيَاءُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهُمْ أَرْبَابُ الْجَذَبَاتِ الْإِلَهِيَّةِ. (ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وَشَدِّ الرِّجَالِ) أَيْ: جَرْيِهِمْ، وَالرِّجَالُ إِمَّا جَمْعُ رَجُلٍ، أَوْ جَمْعُ رَاجِلٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: قَوْلُهُ: أَيُّ شَيْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ؟ أَيْ: مَا الَّذِي يُشْبِهُهُ مِنَ الْمَارِّينَ بِمَرِّ الْبَرْقِ، وَقَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ، بَيَانٌ لِمَا شَبَّهُوا بِهِ بِالْبَرْقِ، وَهُوَ سُرْعَةُ اللَّمَعَانِ، يَعْنِي سُرْعَةَ مُرُورِهِمْ عَلَى الصِّرَاطِ كَسُرْعَةِ لَمَعَانِ الْبَرْقِ، كَأَنَّهُ - أَيِ السَّائِلَ - اسْتَبْعَدَ أَنْ يَكُونَ فِي الْإِنْسَانِ مَا يُشْبِهُ الْبَرْقَ فِي السُّرْعَةِ ; فَسَأَلَ عَنْ أَمْرٍ آخَرَ هُوَ الْمُشَبَّهُ، فَأَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، وَلَيْسَ بِمُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَمْنَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمُ الْحَسَنَةِ، أَلَا

ص: 3573