المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الخامسمزاح النبي صلى الله عليه وسلم ودعاباته وحسن خلقه - مرويات المزاح والدعابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة

[فهد بن مقعد العتيبي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأولفي ذكر معنى المزاح والدعابة لغة، ومما اشتقتا منه، وأقوال أهل اللغة في تصريفهما

- ‌الباب الثانيفي ذكر ما روي عن السلف في ذم المزاح والإكثار منه

- ‌الباب الثالثفي ذكر أدلة القائلين بتحريمه والرد عليهم

- ‌أولًا:

- ‌الوجه الأول:

- ‌الوجه الثاني:

- ‌ثانيًا:

- ‌ثالثًا:

- ‌رابعًا:

- ‌خامسًا:

- ‌سادسًا:

- ‌الباب الرابعالرخصة في بعض المزاح بشروطه

- ‌فصل

- ‌الباب الخامسمزاح النبي صلى الله عليه وسلم ودعاباته وحُسن خُلُقه

- ‌فصلفي مزاح النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل بيته وعِتْرَتِهِ

- ‌أولًا:

- ‌ثانيًا:

- ‌ثالثًا:

- ‌رابعًا:

- ‌خامسًا:

- ‌سادسًا:

- ‌سابعًا:

- ‌ثامنًا:

- ‌تاسعًا:

- ‌فصلفي مزاحه مع أصحابه رضي الله عنهم

- ‌أولًا:

- ‌ثانيًا:

- ‌ثالثًا:

- ‌رابعًا:

- ‌خامسًا:

- ‌سادسًا:

- ‌سابعًا:

- ‌ثامنًا:

- ‌تاسعًا:

- ‌فصلفي مزاحه مع الصبيان

- ‌أولًا:

- ‌ثانيًا:

- ‌ثالثًا:

- ‌رابعًا:

- ‌خامسًا:

- ‌سادسًا:

- ‌سابعًا:

- ‌ثامنًا:

- ‌تاسعًا:

- ‌الباب السادسفي مزاح الصحابة رضي الله عنهم والسلف ودعاباتهم

- ‌أولًا:

- ‌ثانيًا:

- ‌أ - عن أم سلمة

- ‌ب - وعن ربيعة بن عثمان

- ‌ت - عن محمد بن عمرو بن حزم

- ‌ث - وكان مخرمة بن نوفل

- ‌ج - وعن عبدان بن مصعب

- ‌ثالثًا:

- ‌رابعًا:

- ‌خامسًا:

- ‌سادسًا:

- ‌الباب السابعفيما لا يجوز من المزاح

- ‌أولًا:

- ‌ثانيًا:

- ‌ثالثًا:

- ‌الخاتمةرزقنا الله حسنها

الفصل: ‌الباب الخامسمزاح النبي صلى الله عليه وسلم ودعاباته وحسن خلقه

‌الباب الخامس

مزاح النبي صلى الله عليه وسلم ودعاباته وحُسن خُلُقه

اعلم- رحمك الله وسدَّدك- أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ الغاية التي لم يبلغها بشر سواه في جميل الأخلاق، وحُسن العشرة، فقد امتدحه الله عز وجل في كتابه فقال:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

فكان لذلك أحسن الناس أخلاقًا، وأزكاهم نفسًا، وألينهم عَرِيكة، وأكرمهم عشرة، وكان هيِّنًا ليِّنًا سهلًا قريبًا، دائم البِشْر، منبسط الوجه، ضحوك السِّنِّ على أكثر أحواله، كثير التبسُّم لأصحابه، ما حدَّثهم حديثًا إلا وهو يبتسم.

وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل الوحي قلت نذير قوم، فإذا سُرِّيَ عنه فأكثر الناس ضحكًا، وأحسنهم خلقًا» .

وفي رواية أخرى بلفظ: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الوحي أو وَعَظ قلت: نذير قوم أتاهم العذاب، فإذا ذهب عنه ذلك رأيت

ص: 49

أطلق الناس وجهًا، وأكثرهم ضحكًا، وأحسنهم بِشْرًا».

ووصفه أحد أصحابه فقال: «ما رأيت أحدًا أكثر مزاحًا منه» .

وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «كانت فيه صلى الله عليه وسلم دعابة» .

وقال عبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله عنه: «ما رأيت أحدًا كان أكثر تبسُّمًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم» .

وفي الصحيحين من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: «ما حَجَبَني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا ضحك» .

وكانت له صلى الله عليه وسلم مهابة في صدور الناس فكان يباسطهم

ص: 50

بالدعابة، وطلاقة الوجه والبشاشة، فلا يحسب جليسُهُ أن أحدًا أكرم عليه منه؛ يخالط أصحابه ويجالسهم ويمازحهم ويضحك مما يضحكون وربما تبسم صلى الله عليه وسلم.

فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: «جالست النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة فكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت فربما تبسَّم» .

وفي رواية: «فيتبسم معهم إذا ضحكوا» .

وعن أبي مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: «كنَّا نجالس النبي صلى الله عليه وسلم فما رأيت أطول صمتًا منه، وكانوا إذا أكثروا عليه تبسم» .

وعن خارجة بن زيد بن ثابت قال: دخل نفر على زيد بن ثابت رضي الله عنه، فقالوا: حدِّثنا ببعض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «وما أحدثكم؟ كنت جاره فكان إذا نزل الوحي أرسل إليَّ فكتبت الوحي، وكان إذا ذكرنا الآخرة ذَكَرها معنا، وإذا ذكرنا الدنيا ذَكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذَكَرهُ مَعَنا، فكل هذا أحدثكم

ص: 51

عنه».

وكان صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ صبيان أصحابه، ويمازحهم، ويداعبهم، وَيُجْلِسُهُم في حِجْرِهِ، فربما بال أحدهم في حجره، فلا يُزْرِمُهُ ولا يتضجر منه.

فعن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: «كنت غلامًا في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم

» الحديث.

وبال ابن أم قيس رضي الله عنهما في حِجْره فلم ينهره ولم يَرْمِهِ طُولَه.

وبالجملة، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يخُصَّ مزاحه بأحد دون أحد، وما ابتسم في وجه بعض أصحابه وقَطَّبَ في وجه آخرين، بل مازح الصغير والكبير، والرجل والمرأة، والحر والعبد، والمحسن والمسيء، كما تبسم في وجه الأعرابي الذي جَذَبَهُ بردائه جذبةً شديدةً «وكان رداؤه بردةً نجرانيةً غليظة الحاشيةِ» فأَثَّرَت في صَفْحَة عاتقه صلى الله عليه وسلم ثم قال الأعرابي:«يا محمد، مُرْ لي من مال الله الذي عندك» فلم يَزِد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن التفت إليه وضحك في وجهه

ص: 52

وأمر له بعطاء.

-فبربك - هل علمت أحدًا من العالمين يقابل الإساءة بمثل هذا الإحسان غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

فَرَفْعُ الصوتِ، وجَذْبُ الرداءِ، وتَأثيره في عنقه صلى الله عليه وسلم، ومناداتُهُ باسمه المجرَّد، والفَظَاظَةُ في الرِّفادة وطلب المال، كل هذا يكون ردُّه بضحك في وجهه، والتفاتة بوجه طَلق، وخفض في الصوت، بل ويأمر فوق ذلك بأن يعطى من المال ما أراد، فأي خُلُق أحسن من حُسْن الخُلُق هذا.

قال الله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران: 159].

وقال عزَّ من قائل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].

تنبيه:

نقل بعض الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يضحك إلا تبسمًا حتى لا تُرَى لهواته.

كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مُسْتَجْمِعًا قَطُّ ضاحكًا حتى أرى منه لهواته، إنما كان

ص: 53

يتبسم».

ومثله حديث حصين بن يزيد الكلبي رضي الله عنه قال: «ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ضاحكًا، ما كان إلا التبسم» حتى قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: «ولا يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يزيد على التبسم» .

يَرِدُ عليه:

ما صح من الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه مَروِيَّاتٍ عن عدد من أصحابه منهم «أبو هريرة، وصهيب، وأنس رضي الله عنهم» .

وكضحكه في حديث الرجل الذي جامع امرأته في نهار رمضان، وحديث جابر رضي الله عنه:«كان أكثر الناس ضَحِكًا» .

وحديث جرير رضي الله عنه، المُتَقَدِّمِين، وحديث الأعرابي الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم:«والله لا تجده إلا رجلًا قرشيًّا أو أنصاريًّا» فضحك له النبي صلى الله عليه وسلم. وهو في «صحيح البخاري» .

ص: 54

وحديث عمرة بنت عبد الرحمن قالت: قلت لعائشة رضي الله عنها: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا؟ قالت: «كان أبرَّ الناس، وأكرم الناس، ضحَّاكًا، بسَّامًا» .

في أحاديث كثيرة يطول سردها، وقد تقدم بعضها.

والنواجذ» هي الأضراس، ولا تكاد تظهر إلا عند المبالغة في الضحك، وعليه، فظاهر هذه الأحاديث معارض لظاهر الأحاديث المتقدمة في أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يزيد على أن يتبسم.

وحتى يُدْرَأ هذا التعارض فإني أقول:

اعلم- رحمك الله وسدَّدك- أنه لا منافاة بين كونه ضحك حتى بدت أضراسه، وبين حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم؛ لأنه يمكن التوفيق بينهما من ثلاثة أوجه- والحمد لله- وهي:

أولًا: أن الأحاديث التي فيها إخبارٌ بأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه مُثْبِتَة للفعل، وحديث عائشة نافٍ له، والمقرر عند أهل العلم بالحديث والأصول أن المُثْبت مُقَدَّم على النافي.

ثانيًا: أن عائشة رضي الله عنها إنما نفت الاستجماع للضحك وهو التَّأهُّب له، وفرق بين الضحك، والاستجماع للضحك.

قال الحافظ: «مستجمعًا ضحكًا» أي: مبالغًا في الضحك لم يترك منه شيئًا، يُقال: استجمع السَّيْلُ: اجتمع من كل موضع .. ».

ص: 55

وقال: «أي: ما رأيته مستجمعًا من جهة الضحك بحيث يضحَكُ ضحكًا تامًّا مقبلًا بكُلِّيَّته على الضحك» . اهـ.

واللَّهَوات: جمع لهاة: وهي اللحمة التي بأعلى الحنجرة من أقصى الفم، وهي لا تُرَى إلا في أسوأ الضحك، ولذلك جعلتها عائشة رضي الله عنها مقياسًا لضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تُرَى إن ضحك، وترى أضراسه ونواجذه، وفرقٌ بين الأضراس واللهوات.

ثالثًا: أن عدم رؤية الحصين بن يزيد وغيره من الصحابة لضحك النبي صلى الله عليه وسلم، لا يعني عدم رؤية غيرهم من الصحابة لضحكه صلى الله عليه وسلم.

فَهُمْ إنما نفوا رؤية الضحك، ولم يَنْفوا الضحك مطلقًا.

فدلَّ على أن كل واحد من الصحابة حدَّث بما رأى، وكلهم عدول، تُقْبل رواياتهم، ولا يُرَدُّ منها شيء لعدم تعارضها- والحمد لله-.

ومما تقدم يعلم مدى تصويب قول الإمام ابن الجوزي رحمه الله المتقدم.

وقول بعضهم أن «ضحكه لا يتجاوز التبسم كما هو متواتر، فكثرة ضحكه كناية عن كثرة تبسمه، وهو بالتالي كناية عن كثرة بشاشته» .

ص: 56

وعليه: فلعل أقرب الأقوال وأعدلها بعد النظر في مجموع الأحاديث وسَبْر أقوال أهل العلم في فقهها أن يقال: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في معظم أحواله لا يزيد على التبسم، ولا يعني ذلك عدم الضحك، بل ربما ضحك من غير استجماع له. والله أعلم.

ومع هذا فما كان مزاح النبي صلى الله عليه وسلم إلا نُدْرَة وبحقٍ، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:«لا تكثروا من الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب» .

ومثله حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قالوا: يا رسول الله، إنك تداعبنا، قال: «إني لا أقول إلا حقا» .

فالحديثان دالان على أن مزح النبي صلى الله عليه وسلم وضحكه ما كانا إلا بحق على قِلَّتِهِمَا، وما أشد هذين الشرطين، ومن أجل ذلك قال الإمام الغزالي رحمه الله:

«إلا أنَّ مثله (أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم)، يقدر على أن يمزح ولا يقول إلا حقًّا، وأما غيره إذا فُتِحَ باب المزاح، كان غرضه أن يُضْحِكَ الناس كيفما كان» .

ص: 57

لذا فإني ذاكرٌ لك فصولًا فيها أمثلة من مزاحه صلى الله عليه وسلم مع أهل بيته وأصحابه وصبيانهم، مُلْتَمِسًا ما صَحَّ منها، وفي كلها ما كان يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حقًّا.

ص: 58