الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة
…
مرويات غزوة الخندق
تأليف: د. إبراهيم بن محمد عمير المدخلي
كلمة شكر وتقدير
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد
…
فقد مّن الله علي بالانتهاء من إعداد هذه الرسالة فالشكر لله وحده أولاً وأخيراً على نعمه وتوفيقه.
ثم إني أرى من الواجب علي - اعترافاً بالجميل لأهله - أن أتقدم بشكري الجزيل وبالغ تقديري لفضيلة شيخي الفاضل الشيخ عبد المحسن ابن حمد العباد المشرف على الرسالة والذي لم يدخر جهدا في إبداء توجيهاته وإرشاداته فجزاه الله عني وعن طلاب العلم خير الجزاء وبارك في عمره.
كما أتقدم بالشكر لفضيلة الدكتور أكرم ضياء العمري رئيس قسم الدراسات العليا بالجامعة فقد كان له عظيم الأثر في توجيهي لهذا البحث أيام الدراسة وإرشاداته القيمة أيام التحضير. كما أشكر فضيلة الشيخ حماد الأنصاري1 لفتحه صدره ومكتبته لطلاب العلم. كما أشكر
1 توفي رحمه الله عام 1418هـ.
فضيلة الدكتور محمود ميره فقد كان كريماً بالمعلومات وإرشاد من يسأله لطيف المعاملة لتلاميذه.
وأخيراً فإني أشكر كل من مد لي يد العون أياً كان من الأساتذة الأفاضل والأصدقاء والزملاء وهم كثير وأخص منهم الأخ الكريم مصطفى عبد الجليل، أمين مكتبة الدراسات العليا بالجامعة فجزى الله الجميع كل خير ووفقهم لما يحبه ويرضاه.
ثم إني في الختام أسأل الله العلي القدير أن يجعل هذا الجهد خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفع به وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد:
فإن علم التاريخ علم جليل القدر عظيم الفوائد ذلك لأنّ به يقف الإنسان على حقائق ماضية من أخبار وحوادث لشخصيات أو قبائل أو أمم، وهو علم اهتم به القرآن الكريم حيث إنه ورد كثير من قصص الأمم الماضية فيه من ذلك قوله تعالى:{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً} 1.
وقصص الأمم الماضية وتاريخها يكسب الأجيال المتلاحقة خبرة وفهماً لتلك الأحداث.
1 سورة طه، الآية 99.
كما يحصل بها الاتعاظ للأجيال المتعاقبة على مدى الأزمان قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} 1.
ولله در الشاعر حيث قال:
ليس بإنسان ولا عالم
…
من لم يع الأخبار في صدره
ومن درى أخار من قبله
…
أضاف أعماراً إلى عمره2
وإذا كان علم التأريخ من الأهمية بمكان؛ فذروة سنامه تاريخ سيرة سيد البشر محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
فهو علم شريف لشرف النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه مع ذلك ينقل إلينا أفعاله صلى الله عليه وسلم ونحن مأمورون باتباعه والاقتداء به قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
…
} الآية3.
وذلك تشريف من الله سبحانه وتعالى له فلقد شرفه وأعلى مكانته وأنزله المنزلة الكريمة التي يستحقها فأوكل إليه مهمة ما في القرآن الكريم من إجمال وشرح ما يحتاج إلى تفصيل قال تعالى: {
…
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
1 سورة ق، الآية 37.
2 الدر الثمين 18.
3 سورة الأحزاب، الآية 21.
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم}
…
1. وقد وعد الله مسبقاً بحفظ كتابه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2.
وهذا الحفظ يشمل السنة المطهرة، ولتحقيق هذا الوعد القاطع الصادق كان كل ما قامت به الأمة الإسلامية من جهود عظيمة واهتمام بالغ لا يعرف الأقل منه لأمة من الأمم ولا لدين من الأديان وذلك بحفظ القرآن الكريم في الصدور والمصاحف وتلاوته أناء الليل وأطراف النهار. وذلك لقيامه صلى الله عليه وسلم بما أوكل إليه من واجب خير قيام بأقواله وأفعاله وأحواله وجهاده العظيم وسيرته العطرة حتى ترك الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
ونتيجة لذلك حظيت السنة المطهرة بحظها الوافر من وعد الله بالحفظ لتنزيله وذكره، فإنها والقرآن من مشكاة واحدة.
إذاً فالسنة داخلة في ذلك الوعد الصادق بالحفظ والضمان الأكيد. فكان من مظاهر تنفيذ ذلك ما نراه ونلمسه من جهود بذلت لحفظها وصيانتها والذود عنها.
1 سورة النحل، الآية 44.
2 سورة الحجر، الآية 9.
فكان من آثار ذلك ما تفخر به المكتبات الإسلامية من مؤلفات قيمة مختلفة المناهج والموضوعات متحدة الغاية والأهداف وهي خدمة السنة المطهرة.
وقد شملت تلك الجهود جزءاً كبيراً من السيرة النبوية الشريفة وذلك بجمع مادتها دون التفات من كثير منهم إلى تنقيتها من الشوائب وإزالة ما علق بها من تحريف وزيادة أو كذب وافتراء كما فعل الجهابذة من المحدثين الذين عنوا بجمع الصحيح دون غيره كالبخاري ومسلم - رحمهما الله تعالى -.
وإن من أجل مهام المؤسسات العلمية في هذا العصر العناية بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومغازيه وجمع الآثار الواردة فيها وتمحيصها وهي حاجة ملحة في الوقت الحاضر يتمنى كل مسلم غيور أن تتحقق.
وفي طليعة تلك المؤسسات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، التي اتجهت لتحقيق هذه الغاية وذلك بتسجيل موضوعات في مختلف جوانب السيرة النبوية وغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد رغبت المشاركة في جانب من هذه الجوانب فاخترت مرويات (غزوة الخندق) موضوعاً لرسالتي التي أعدها لنيل درجة العالمية الماجستير من شعبة السنة في هذه الجامعة المباركة.
سبب اختياري لهذا الموضوع
لقد كان الدافع لي على اختيار هذا الموضوع (مرويات غزوة الخندق) جمعاً ودراسة أمور أهمها:
1-
إن الاشتغال بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم محبب إلى النفوس لأنها سيرة صاحب الرسالة محل الأسوة والقدوة فتجعل الإنسان يعيش جل وقته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويسلم عليه ويدفعه ذلك على الحرص والمتابعة.
2-
بما أن اليهود كان لهم الدور المباشر في هذه الغزوة وهم الذين كانوا وما زالوا يكيدون للإسلام وأهله وهم يعيدون ما فعلوه بالأمس من شن الحروب على الإسلام ويحاولون إقصاءه عن الحياة العامة بشتى الأساليب لمعرفتهم أن ذلك من أهم أسباب انهيار الإسلام والمسلمين فعمدوا لدعم هذه المحاولة إلى الدس الرخيص وإدخال الروايات الموضوعة أو ما لا أصل له ضد الإسلام وهم بالنسبة لرسول البشرية صلوات الله وسلامه عليه أشد حقداً وأكثر كيداً.
لذلك تأكد بأن الحاجة ماسة إلى مزيد عناية بسيرته العطرة وغزواته المباركة وذلك بتمحيص رواياتها وبيان صحيحها من سقيمها وكشف حقد اليهود على الإسلام فكان لزاماً علي أن أسهم بجهد المقل في خدمة سيرته صلى الله عليه وسلم.
1-
الرغبة في وصل السلسلة التي أوشكت على الانتهاء التي إتجه إلى تنفيذها قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية في إيجاد بحوث تخصصية في مختلف جوانب السيرة النبوية.
2-
إظهار آخر معركة فاصلة غزيت بها المدينة في بحث خاص بها تناول النصوص الواردة فيها.
وأخيراً فقد كان لفضيلة الدكتور أكرم العمري رئيس قسم الدراسات العليا اليد الطولى في توجيهي إلى هذا البحث واختياره فجزاه الله عني خير الجزاء.
لهذه الأمور اخترت هذا البحث فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمني ومن الشيطان سائلاً المولى عز وجل التوفيق والسداد إنه ولي ذلك والقادر عليه والله على ما أقول وكيل.
منهجي في البحث
1-
أورد الحديث ثم أترجم لرجاله من بعض كتب التراجم المعروفة، وإذا كان هناك حديث آخر يؤيده أو بمعناه فإني أورده أيضاً.
2-
أقوم بالحكم على الحديث الذي أهمل النقاد الحكم عليه ولم يوجد في الصحيحين بما تمليه تلك الدراسة صحة وضعفاً، وذلك بعد التأكد من دراسة التراجم، والاتصال في الأسانيد وانعدام العلة والشذوذ مع الاستعانة بتصحيح العلماء إن وجد.
3-
إذا لم يرد حديث للقصة فأبدأ بإيراد كلام ابن إسحاق - لاتفاقهم بأنه إمام أهل المغازي - ثم أسوق كلام أهل المغازي بعد ذلك.
4-
إذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما أترجم لرجاله من باب التعريف بهم وذلك باقتضاب.
5-
أترجم للأعلام الذين يأتي ذكرهم في غير الأسانيد.
6-
أشير للسورة ورقم الآية بالنسبة لما جاء من أدلة من كتاب الله عز وجل.
7-
وضعت عدة فهارس بدءاً بالمصادر وانتهاءً بالموضوعات.
خطة البحث
هذا البحث يقع في مقدمة وتمهيد وخمسة أبواب وخاتمة.
أما المقدمة فقد اشتملت على ضرورة العناية بسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأما التمهيد فيشتمل على الإشارة إلى الظروف والملابسات التي سبقت الغزوة.
الباب الأول اشتمل على فصلين:
الأول: في أسباب الغزوة.
الثاني: في تاريخها.
وأما الباب الثاني: فقد اشتمل على فصلين أيضاً:
الأول: في دور اليهود في هذه الغزوة وتحته مباحث:
الأول: في بيان الحقد اليهودي على البشرية منذ القدم.
الثاني: الوفد اليهودي المحرض.
الثالث: القبائل التي أغراها اليهود على قتال المسلمين.
الثاني: في بيان دور المنافقين في هذه الغزوة.
وأما الباب الثالث: فهو في بيان موقف المسلمين من هذه التحركات، وقد اشتمل على أربعة فصول:
الأول: في مشاورة الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه حول حفر الخندق.
الثاني: تواضعه صلى الله عليه وسلم ومباشرته الحفر بنفسه.
الثالث: تغلب المسلمين على العقبات التي واجهتهم (الكدية) .
الرابع: مكان الخندق وسرعة إنجازهم لحفره مع بيان المدة التي استغرقوها في الحفر حسب أقوال أهل المغازي.
وأما الباب الرابع: فهو في وصول الأحزاب إلى مشارف المدينة وتحته فصول:
الفصل الأول: في بيان عدد الجيوش وتحته مبحثان:
الأول: في عدد جيش المشركين وبيان قواده.
الثاني: في عدد جيش المسلمين.
الفصل الثاني: في بيان تواطؤ اليهود مع المشركين وعزمهم على ضرب المسلمين من الخلف.
الفصل الثالث: تخذيل المنافقين للصف الإسلامي.
وأما الباب الخامس: فهو في وصف ما دار في غزوة الأحزاب من مناوشات بين المسلمين والكفار وتحته فصول:
الفصل الأول: في اقتحام المشركين الخندق وتصدي المسلمين لهم وتحته مباحث:
الأول: في الحصار الذي لحق بالمسلمين.
الثاني: المبارزة.
الثالث: القتلى من الجانبين.
الفصل الثاني: في اشتداد المعركة يمنع المسلمين من الصلاة.
الفصل الثالث: في دور سعد بن معاذ في هذه الغزوة وبلائه فيها.
الفصل الرابع: في دور نعيم بن مسعود الأشجعي في هذه الغزوة.
الفصل الخامس: في دور حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.
الفصل السادس: في حصول النزاع بين الأحزاب وانهزامهم وتحته مبحثان:
الأول: في هبوب الريح.
الثاني: نتائج الغزوة.
أما الخاتمة فهي في العبر والأحكام المستفادة من الغزوة.
بحث تمهيدي يتضمن الأحداث التي وقعت بين غزوتي أحد والخندق
بالتتبع والرجوع إلى غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم يتبين أنه قد حدثت أحداث بين هاتين الغزوتين أحد والأحزاب.
ذلك أنه بعد غزوة أحد وبعد تلك الهزيمة التي كان سببها -والله أعلم- عدم طاعة الرماة لرسول الله ولقائدهم ولحكمة أراد الله - تعالى - ذلك.
بيد أن تلك الهزيمة1 في أول الأمر لم تفتّ في عضد الرسول صلوات الله وسلامه عليه ولم تضعف أولئك الجنود الأشاوس فقد ضمدوا جراحاتهم وواصلوا المسير حتى بلغوا حمراء الأسد2.
1 ينفي اللواء محمود شيت خطاب أن تكون هزيمة حيث قال: " لقد أجمع المؤرخون على اعتبار نتيجة أحد نصراً للمشركين وعقب قائلاً ولكن الحقائق العسكرية لا تتفق مع ما أجمع عليه المؤرخون. الرسول القائد 126.
2 حمراء الأسد: هي من المدينة على بعد ثمانية أميال عن يسار الطريق إذا أردت ذا الحليفة
…
كذا في معجم ما استعجم للبكري 2/468 إلا أن ذا الحليفة أقرب فالذاهب لحمراء الأسد يبدأ بذي الحليفة لأنها تبعد عن المدينة حوالي عشرة كيلوات، وقال ياقوت:"موضع على ثمانية أميال من المدينة وإليه انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد في طلب المشركين". معجم البلدان 2/201.
قال ابن إسحاق1: "فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء ثم رجع إلى المدينة2، وقد كان لمعبد الخزعي3 دور كبير في تخذيل أبي سفيان ومن معه في هذه الحملة. قال محمود شيت خطاب: وكان لابد للمسلمين من أن يقوموا بالتطهير العام في المدينة وخارجها حتى يستعيدوا قوتهم.
لقد استطاعوا أن يجعلوا من المدينة قاعدة آمنة للإسلام قبل غزوة (أحد) ولكن هذه الغزوة أحدثت لهم مشاكل داخلية وخارجية4.
أما المشاكل الداخلية فقد كانت من اليهود الذين هم أشد عداوة للذين آمنوا في السراء والضراء وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وذلك مصداقاً لقوله - تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا
…
} 5.
1 محمد بن إسحاق بن يسار أبو بكر المطلبي مولاهم المدني. نزيل العراق، إمام في المغازي، صدوق يدلس، ورمي بالتشيع والقدر من صغار الخامسة. مات سنة 150هـ، ويقال بعدها. روى له (خت 4) التقريب 290، وتهذيب التهذيب 9/38.
2 السيرة النبوية 2/102.
3 معيد بن أبي معبد الخزاعي قال ابن القيم إنه أسلم ذلك الوقت، وقيل إنه عندما خذل كان مشركاً. انظر: الزاد 2/121، البداية والنهاية 4/49، سيرة ابن هشام 2/102.
4 الرسول القائد 126.
5 سورة المائدة، الآية 82.
وداخلية أيضاً من المنافقين الذين تظاهروا بالإسلام خبثاً ومكراً فانكشفت نواياهم قبيل معركة أحد وبعدها عندما رأوا الخطر محدقاً بالمسلمين، ومشاكل خارجية من قريش بالدرجة الأولى، إذ أخذت تشن حرب دعاية ضد المسلمين لتظهر نتائج غزوة (أحد) بمظهر يرفع من قيمتها وبالمقابل يحط من قيمة المسلمين.
وخارجية أيضاً من القبائل المجاورة حيث إنهم طمعوا بالمسلمين وظنوا أنهم أصبحوا في متناول أيديهم غنيمة باردة1.
ونتيجة لذلك بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم بعد شهرين من غزوة أحد أن طليحة وسلمة ابني خويلد الأسدي يحرضان قومهما بني أسد لغزوة المدينة ونهب أموال المسلمين فيها.
فسارع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعث أبي سلمة2 على رأس مائة وخمسين
1 الرسول القائد 129.
2 أبو سلمة هو: عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، أخو النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة وابن عمته برة بنت عبد المطلب. كان من السابقين إلى الإسلام، وممن هاجر إلى الحبشة، شهد بدراً ومات في جمادى الآخرة سنة أربع. وذلك عند رجوعه من تأديب بني أسد على أثر جرح جرحه في أحد فانفتق عليه بعد رجوعه من ديار نجد فمات، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده زوجه أم سلمة. انظر ذلك في: البداية والنهاية 4/62، أسد الغابة 3/195- 196.
رجلاً ليباغت القوم في ديارهم قبل أن يقوموا بغارتهم1.
فلما انتهى أبو سلمة إلى أرضهم تفرقوا وتركوا نعماً كثيراً لهم من الإبل والغنم فأخذ ذلك كله وأسر منهم ثلاثة مماليك وأقبل راجعاً بهم إلى المدينة2.
وفي شهر صفر3 من السنة الرابعة4 كانت غزوة الرجيع5،
1 قد يتساءل البعض فيقول هل يجب إنذار العدو أم لا؟ والجواب:
أ- ذهب بعض العلماء إلى وجوب الدعوة إلى الإسلام مطلقاً سواء أكان عندهم علم بالإسلام أم لا، وإليه ذهب ملك وجماعة من العلماء.
ب- المذهب الثاني أنه لا يجب مطلقاً.
جـ- ذهب أكثر العلماء إلى التفصيل بين من بلغتهم الدعوة وعلموا بها فلا يجب في حقهم الإنذار وبين من لم تبلغهم الدعوة ولا علموا بها فيجب الإنذار في حقهم. انظر ذلك في: نيل الأوطار 7/262.
2 البداية والنهاية 4/62.
3 جميع المؤرخين يذكرون أنها كانت في صفر إلا أنهم يختلفون بالنسبة للسنة، فبعضهم يقول أنها كانت في سنة ثلاث وبعضهم يقول أنها كانت سنة أربع. انظر: السيرة النبوية 2/169، جوامع السيرة 176.
4 البداية والنهاية 4/62 وقد نص ابن كثير على أنها سنة أربع نقلاً عن الواقدي.
5 الرجيع: بفتح الراء، وكسر الجيم هو في الأصل اسم للروث بتشديد الراء، وسكون الواو، وهو الموضع الذي غدرت فيه عضل والقارة بالسبعة النفر الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. معجم البلدان 3/29.
قال ابن سعد: "والرجيع هو ماء لهذيل بصدور الهدة والهدة على سبعة أميال منها. والهدة على سبعة أميال من عسفان جهة مكة. وبه قال الحافظ. الطبقات الكبرى" 2/55، السيرة النبوية 2/170، فتح الباري 7/379.
وقال ياقوت: "قال ابن إسحاق والواقدي والرجيع ماء لهذيل بين مكة والطائف". انظر: معجم البلدان 3/92
وذلك أن رهطاً من عضل1 والقارة2 قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إن فينا إسلاماً فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا فبعث معهم ستة من أصحابه3.
1 عضل بفتح المهملة ثم المعجمة بعدها لام بطن من بني الهون بن خزيمة بن مدركة بن إلياس من مضر ينسبون إلى عضل بن الديس بن محكم من العدنانية. معجم قبائل العرب 2/787.
2 القارة: بفتح القاف وتخفيف الراء بطن من الهون أيضاً إلا أن ابن دريد ذكر أن القارة أكمة سوداء فيها حجارة كأنهم نزلوا عندها فسموا بها ويضرب بهم المثل في إصابة الرمي. قال الشاعر: قد انصف القارة من راماها. فتح الباري 7/279.
3 عدهم بن إسحاق فقال هم:
مرثد بن أبي مرثد الغنوي وخالد الليثي، عاصم بن ثابت، خبيب، وزيد بن الدثنة، عبد الله بن طارق، وزاد ابن سعد، ومعتب بن عبيد. وقال موسى بن عقبة ابن عوف بدل ابن عبيد.
انظر: الطبقات الكبرى 2/55، السيرة النبوية 2/169. وقد ذكر ياقوت أنهم سبعة وذكر فهم شعراً لحسان. معجم البلدان 3/29.
أما البخاري فقال: "إنهم كانوا عشرة1 معتمداً على حديث صحيح في ذلك"2، وبقوله قال ابن سعد:"إلا أنه لم يذكر سوى سبعة"3، وبقوله قال ياقوت الحموي4.
قال الحافظ: "وكذا سمى موسى بن عقبة السبعة المذكورين لكنه قال معتب بن عوف5، وكان أميرهم كما قال ابن إسحاق6 مرثد بن أبي مرثد الغنوى من قيس عيلان"7.
هذا ما قاله ابن إسحاق وبعكس قوله قال البخاري، وقد أورد الحديث الصحيح الدال صراحة على أن الأمير كان عاصم بن ثابت8.
1 صحيح البخاري 5/40.
2 قال السهيلي: "وهو أصح". الروض الأنف 3/233.
3 الطبقات الكبرى 2/55.
4 معجم البلدان 3/29.
5 فتح الباري 7/385.
6 السيرة النبوية 2/169.
7 انظر ترجمته في: أسد الغابة 4/344- 345.
8 انظر: معجم البلدان 3/29. وقد ذكر ياقوت شعراً لحسان يفيد ذلك فليرجع إليه.
قال البخاري1 رحمه الله: "حدثني إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام بن يوسف عن معمر عن الزهري2 عن عمرو بن أبي سفيان الثقفي عن أبي هريرة قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فتبعوهم بقريب من مائة رامٍ فاقتصوا أثرهم حتى أتوا منزلاً نزلوه فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة فقالوا هذا تمر يثرب فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم فلما انتهى عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد3 وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلاً فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا رسولك فقاتلوهم حتى قتلوا عاصماً في سبعة نفر بالنبل، وبقي خبيب
1 صحيح البخاري 5/86- 87 كتاب المغازي.
2 محمد بن مسلم المعروف بابن شهاب الزهري أبو بكر الفقيه الحافظ متفق على جلالته واتقانه. مات سنة 125هـ، وقيل قبل ذلك. روى له الجماعة. التقريب 318.
3 فدفد بفائين مفتوحتين ومهملتين الأولى ساكنة، وهي الرابية المشرفة وقال ابن الأثير هو الموضع المرتفع. انظر: النهاية في غريب الحديث 3/420، 421، والفتح 7/381.
وزيد ورجل آخر، فأعطوهم العهد والميثاق، فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار1 قسيهم فربطوهم بها. فقال الرجل الثالث2 الذي معهما هذا أول الغدر فأبى أن يصحبهم فجروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة
…
الخ"3.
وهكذا كان مصير هذه السرية الصغيرة سواء كانوا عيناً كما في الحديث أو معلمين كما في قول ابن إسحاق4 وغيره من العلماء5 كان مصيرهم الاستشهاد في سبيل الله ونعم المصير.
أما بالنسبة لعددهم فالصحيح كما قاله البخاري وهم عشرة ستة من المهاجرين وأربعة من الأنصار وكان أميرهم عاصم بن ثابت قال الحافظ: كذا في الصحيح وفي السيرة أن الأمير عليهم مرثد بن أبي مرثد وما في الصحيح أصح6.
1 الأوتار حبال مشدودة بالقسي والقسي أعواد يجعلون فيها الأوتار ليدفعوا بها النبال.
2 الرجل الثالث هو: عبد الله بن طارق. كما في رواية ابن إسحاق. قاله الحافظ في الفتح 7/381.
3 فتح الباري 7/378.
4 السيرة النبوية 2/169.
5 كابن القيم في الزاد 3/246، وابن حزم في جوامع السيرة 176.
6 فتح الباري 7/380.
أما بالنسبة لمهمة هذه السرية فقد رأينا الاختلاف في ذلك.
فبعضهم يقول إنهم كانوا معلمين وبعضهم قال إنهم كانوا عيناً ويؤيد كونها عيناً الرواية التي أوردها الحافظ عن أبي الأسود1 عن عروة2 (بعثهم عيوناً إلى مكة ليأتوه بخبر قريش)3.
قال ابن سعد: "وذكر الواقدي أن سبب خروج بني لحيان عليهم هو قتل سفيان الهذلي، وأن الهذليين اتفقوا مع عضل والقارة أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ويطلبوا منه معلمين حتى يثأروا لمقتل زعيمهم سفيان بن خالد الهذلي"4.
1 هو: محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي أبو الأسود المدني يتيم عروة - ثقة - من السادسة مات سنة بضع وثلاثين (4) . التقريب 308.
2 عروة بن الزبير بن العوام ثقة. فقيه مشهور من الثانية. مات سنة 94 على الصحيح. روى له الجماعة. التقريب 238.
3 فتح الباري 7/380.
4 سفيان الهذلي زعيم بني لحيان. وقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يجمع الجموع له صلى الله عليه وسلم فبعث إليه عبد الله بن أنيس سرية ليقتله فمشى معه عبد الله بن أنيس، وحدثه حتى استحلى حديثه ولما تفرق الناس وناموا قتله وأخذ رأسه وعاد مظفراً رضي الله عنه وأرضاه - فقد دافع عن الإسلام وعن رسوله. الطبقات الكبرى 2/50.
أما بالنسبة لتاريخ هذه الوقعة فالصحيح مع القائلين أنها كانت سنة أربع1 ذلك لأن أحداً كانت في شوال سنة ثلاث وهذه في صفر سنة أربع.
أما ابن حزم فقد ذكر أنها كانت في صفر في آخر تمام السنة الثالثة من الهجرة2.
قلت: "وهذا غير موافق لما جرت عليه العادة من أن التاريخ أو السنة الجديدة تبدأ بالمحرم أما صفر فيأتي بعده فكيف يكون هو في آخر السنة؟ إلا أن يكون قصده الحساب من مقدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة حيث قدم في ربيع الأول فيكون صفر في آخر السنة فعلاً كما أشار والله أعلم".
وفي نفس السنة ونفس الشهر كانت الفاجعة الأليمة التي راح ضحيتها سبعون رجلاً من القراء تلك الفاجعة التي وقعت في مكان يسمى بئر معونة3.
1 منهم ابن القيم في الزاد 3/246، وابن كثير في البداية والنهاية 4/62.
2 جوامع السيرة 176.
3 بئر معونة: معونة بفتح أوله وضم ثانيه وهو ماء لبني عامر بن صعصعة وهي على أربع مراحل من المدينة قبل نجد.
قال الحافظ: "وقد أوضح ذلك ابن إسحاق حيث قال: حدثني أبي1 عن المغيرة2 ابن عبد الرحمن وغيره قال: قدم أبو براء عامر بن مالك المعروف بملاعب الأسنة3 على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليه الإسلام فلم يسلم ولم يبعد وقال: يا محمد لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد رجوت أن يستجيبوا لك وأنا جار لهم فبعث المنذر بن عمرو4 في أربعين رجلاً من خيار المسلمين".
1 هو: إسحاق بن يسار المدني أبو محمد صاحب المغازي - ثقة - من الثالثة. روى له أبو داود في المراسيل. التقريب 30.
2 المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، أبو هاشم أو هشام، أخو أبي بكر ثقة جواد من الخامسة. مات سنة بضع ومئة. التقريب 345، وانظر: تهذيب الكمال 7/681. حيث أثبت رواية إسحاق بن يسار عنه.
3 سمي بملاعب الأسنة لقوله يخاطب أخاه: فارس قرزل، وكان قد فر عنه في حرب كانت بين قيس وتميم:
فررت وأسلمت ابن أمك عامرا
يلاعب أطراف الوشيج المزعزع
انظر: السيرة النبوية 2/184.
4 المنذر بن عمرو بن خنيس بن حارثة الأنصاري الخزرجي الساعدي، وهو عقبي بدري استشهد يوم بئر معونة، وكان يلقب - المعنق ليموت -. انظر: الإصابة 3/460- 461.
فعرض لهم حيان1 من بني سليم رعل وذكوان عند بئر يقال لها بئر معونة
…
الخ"2.
قال الحافظ: "ويمكن الجمع بأن الأربعين كانوا رؤساء وبقية العدة أتباعاً ووهم من قال كانوا ثلاثين فقط"3.
قال الحافظ4: "وذكر بني لحيان في هذه القصة وهم وإنما كان بنو لحيان في قصة خبيب في غزوة الرجيع التي قبل هذه، وكانت نتيجة هذه السرية أن غدر بهم عامر بن الطفيل وقد أسف الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون على هذه النخبة من المؤمنين ومكث صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو على رعل وذكوان"5
1 حيان تثنية وهو القبيلة من القوم.
2 صحيح البخاري 5/41، كتاب المغازي.
3 فتح الباري 7/387 قلت: وفي نفسي من هذا الجمع شيء لأنه لا يعقل أن يكون الرؤساء بهذا العدد، إذاً لاضطرب الأمر، مع سابق علمنا بغزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه، ولم نر أنه أرسل أكثر من أمير في أي من ذلك، والله أعلم.
4 فتح الباري 7/387.
5 رعل بكسر الراء وسكون المهملة بطن من بني سليم ينسبون إلى رعل بن مالك بن عوف قبيلة من سليم بن منصور من العدنانية. اللباب في تهذيب الأنساب 2/31، معجم قبائل العرب 2/437.
وذكوان: بطن كبير من سليم بن منصور من قيس عيلان من العدنانية - المصدر السابق.
قال وكذلك: "أخرج هذه القصة موسى بن عقبة عن ابن شهاب نحوه لكن لم يسم المذكورين، قال: ووصله الطبري من وجه آخر عن ابن شهاب عن ابن كعب بن مالك عن كعب"1.
قلت: "لكنه وصلها في تاريخه من طريق آخر غير التي ذكرها الحافظ"2.
قال الحافظ: "ووصلها أيضاً ابن عايذ3 من حديث ابن عباس لكن بسند ضعيف4. إلا أن هناك أحاديث صحيحة تدل على أنهم كانوا سبعين".
لذلك قال البخاري رحمه الله: "حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا عبد العزيز عن أنس رضي الله عنه قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم سبعين رجلاً لحاجة يقال لهم القراء
1 فتح الباري 7/386.
2 تاريخ الأمم والملوك 2/30- 31.
3 هو: محمد بن عايذ بتحتانية الدمشقي - أبو أحمد وأبو عبد الله - صاحب المغازي، صدوق رمي بالقدر من العاشرة. مات سنة 233هـ، وله ثلاث وثمانون سنة. ولد عام 150. من آثاره: ملح النوارد، وتصانيف في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر: التقريب 303، معجم المؤلفين 10/117
4 فتح الباري 7/386.
وهم الغادرون بأصحاب بئر معونة1.
وعلى أثر هذه السرية كانت غزوة بني النضير2.
وفي شهر جمادى الأولى من السنة الرابعة خرج صلى الله عليه وسلم بنفسه في غزوة ذات الرقاع3 يريد بني محارب وبني ثعلبة بن سعد بن غطفان واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري وقيل عثمان بن عفان، وخرج في أربعمائة من أصحابه وقيل سبعمائة فلقي جمعاً من غطفان فتواقفوا4 ولم يكن بينهم قتال إلا أنه صلى بهم يومئذ صلاة الخوف.
هكذا قال ابن إسحاق وجماعة من أهل السير والمغازي في تاريخ هذه الغزوة وصلاة الخوف بها وتلقاه الناس عنهم قال ابن القيم5 وهو مشكل جداً.
1 انظر تفاصيل ذلك في: فتح الباري 7/385- 391، السيرة النبوية 3/182، البداية والنهاية 4/71- 72- 73، زاد المعاد 3/245.
2 انظر تفاصيل ذلك في: السيرة النبوية 3/199، الطبقات الكبرى 3/57، تاريخ الأمم والملوك 3/36.
3 سميت ذات الرقاع لأنهم رقعوا راياتهم فيها. قال ابن هشام: ويقال ذات الرقاع شجرة بذلك الموضع. السيرة النبوية 20204، الزاد 3/250
4 عند ابن إسحاق (فتقارب الناس) . السيرة النبوية 2/204.
5 زاد المعاد 2/123.
والإشكال يأتي إذا ثبت أن غزوة ذات الرقاع وقعت قبل غزوة الخندق كما هو ترتيب ابن إسحاق وغيره من أصحاب المغازي. فإنه قد صح أن المشركين حبسوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر حتى غابت الشمس.
وفي السنن ومسند أحمد والشافعي - رحمهما الله - أنهم حبسوه عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فصلاهن جميعاً وذلك قبل نزول صلاة الخوف والخندق بعد ذات الرقاع سنة خمس1.
ومما ينبغي ذكره في هذه العجالة أن أبا سفيان قال عند انصرافه من أحد: موعدكم معنا العام القابل2 ببدر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قولوا نعم قد فعلنا قال أبو سفيان: فذلكم الموعد ثم انصرف، فلما كان شعبان وقيل ذو القعدة من العام القابل. وهي السنة الرابعة لأن أُحداً كانت في شوال سنة ثلاث وعليه جمهور أهل العلم، وغزوة بدر الموعد كانت في الرابعة على هذا الأساس خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده في ألف وخمسمائة وكانت الخيل عشرة أفراس وحمل لواءه علي بن أبي طالب، واستخلف على المدينة ابن
1 زاد المعاد 2/132. انظر حبسه عن الصلاة بدائع المنن في ترتيب مسند الشافعي والسنن 1/55، مسند أحمد 1/144، 151.
2 البداية والنهاية 4/87، الطبقات الكبرى 2/95، الزاد 2/102.
رواحة1، فانتهى إلى بدر فأقام بها ثمانية أيام ينتظر المشركين.
وخرج أبو سفيان بالمشركين من مكة وهم ألفان ومعهم خمسون فرساً فلما انتهوا إلى مر الظهران2 قال لهم أبو سفيان: أن العام عام جدب وقد رأيت أني راجع بكم فانصرفوا راجعين وأخلفوا الموعد3، وكان تأخر المشركين عن الموعد مما أعاد القوة والهيبة للمسلمين وقد محت غزوة بدر الآخرة كل أثر سيء لمعركة أحد داخل المدينة وخارجها على حد سواء"4.
قال ابن إسحاق: "ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأقام من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها أشهراً حتى مضى ذو الحجة وولي تلك الحجة المشركون وهي سنة أربع ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم دومة الجندل"5.
1 هو: عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس الخزرجي الأنصاري الشاعر أحد السابقين شهد بدراً، واستشهد بمؤته، وكان ثالث الأمراء بها وذلك في جمادى الأولى سنة ثمان. الإصابة 2/306.
2 موضع على مرحلة من مكة جهة المدينة والمرحلة تقدر بأربعين كيلاً على أرجح الأقوال وتقديره بالمرحلة هو قول ياقوت في معجم البلدان 5/104، وابن منظور في لسان العرب7/17.
3 زاد المعاد 2/125، السيرة النبوية 2/213.
4 الرسول القائد 138.
5 دومة بضم الدال وبينها بين المدينة خمس عشرة ليلة. قال ياقوت سميت بدوم ابن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. معجم البلدان 2/487. قلت: "وهي على بعد 850كم شمال المدينة مما يلي الشام".
قال ابن هشام: "في شهر ربيع الأول من سنة خمس واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة"1.
قال ابن القيم: "وذلك أنه بلغه أن بها جمعاً كثيراً يريدون أن يدنوا من المدينة فخرج في ألف من المسلمين ومعه دليل من بني عذره.. يقال له مذكور2 فلما دنا منهم إذا هم مغربون3 فهجم على ماشيتهم ورعاتهم فأصاب من أصاب وهرب من هرب وجاء الخبر أهل دومة فتفرقوا ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحتهم فلم يجد فيها أحداً فأقام بها أياماً وبث السرايا وفرق الجيش
1 السيرة النبوية 2/213، سباع بن عرفطة الغفاري قد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة لما خرج إلى خيبر ودومة الجندل وقد جاء في ترجمة مذكور العذري الآتية أنه قال - أي ابن الأثير - ولم يسر اليهابل جهز جيشاً بقيادة خالد. فراجعه في أسد الغابة 2/259، 4/343 عند ترجمة (مذكور) .
2 مذكور العذري له صحبة شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة دومة الجندل، وكان دليله إليها. انظر: أسد الغابة 4/343، الإصابة 3/396.
3 هذه الكلمة قال فيها صاحب القاموس في القاموس 1/109. الغرب: المغرب الذّهاب والتنحي. وهذا أقرب.
فلم يصب منهم أحداً فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وفي تلك الغزوة وادع عيينة بن حصن1 رغم أن ابن إسحاق قال:
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليها ولم يلق كيداً بها2.
أما ابن الأثير فقد نفى غزو الرسول صلى الله عليه وسلم لدومة وأثبت ذلك لخالد فقط3.
والجمع بين القولين هو قول ابن إسحاق: "رجع قبل أن يصل إليها، ولم يلق كيداً) ثم غزاها خالد رضي الله عنه وفتحتها عنوة".
وفي شهر شعبان من السنة نفسها بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أن الحارث بن أبي ضرار سيد بني المصطلق سار في قومه ومن قدر عليه من العرب يريدون حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بريدة4 بن الحصيب ليجس النبض فأتاهم ولقي الحارث وكلمه.
1 زاد المعاد 3/583.
2 السيرة النبوية 2/213.
3 أسد الغابة 2/95.
4 بريدة: بالتصغير بن الحصيب بمهملتين أبو سهل وقيل: أبو الحصيب، والمشهور أبو عبد الله الأسلمي، أسلم قبل بدر وقدم المدينة بعد أحد وأخباره كثيرة، ومناقبه مشهورة، وكان غزا خراسان في زمن عثمان ثم تحول إلى مرو فسكنها إلى أن مات في خلافة يزيد بن معاوية قال ابن سعد مات سنة 63هـ. انظر: أسد الغابة 1/175، الإصابة 1/146.
ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرهم. فندب صلى الله عليه وسلم أصحابه فخرجوا مسرعين وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المريسيع1 وهو ماء لهم فأصاب أموالهم وسبى نساءهم2.
وهكذا فقد حاول المشركون والمنافقون على حد سواء أن ينالوا بدعاياتهم الخبيثة من المسلمين بعد أن عجزوا من النيل منهم في ساحات القتال.
لقد حاول المشركون أن يؤثروا على معنويات المسلمين كي لا يطمئنوا إلى إرسال دعاتهم خارج المدينة وبذلك يجعلون الدعوة تنحصر في محيط ضيق لا يتسع لآمالها القريبة والبعيدة.
فقد غدر بنو عضل والقارة بمعاونة هذيل بستة من الدعاة في الرجيع مع أنهم هم الذين طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم إرسال بعض دعاته إليهم ليعلموهم الإسلام. وغدر عامر بن الطفيل من بني عامر مع بعض
1 المريسيع بالضم ثم الفتح وياء ساكنة ثم مهملة مكسورة وياء أخرى وآخره عين مهملة في الأشهر وهو اسم ماء في ناحية قديد إلى الساحل. معجم البلدان 5/118.
2 انظر تفاصيل ذلك في: غزوة بني المصطلق رسالة ماجستير بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة أعدها الشيخ إبراهيم بن إبراهيم القريبي.
الأعراب بسبعين من دعاة الإسلام، وذلك في بئر معونة قبل نجد وقضى عليهم جميعاً إلا رجلاً1 واحداً عاد يحمل أخبار الكارثة2.
فهل أثرت هذه الخسائر على معنويات المسلمين؟.
إن استشهاد الدعاة لم يؤثر على معنويات النخبة المؤمنة لأنهم استمروا في إرسال دعاتهم وخرجوا لأخذ ثارات أولئك الدعاة حتى لا يعود المشركون إلى الغدر مرة أخرى.
وتتابعت السرايا في كل ناحية حتى عاد للمسلمين عزهم وعادت هيبتهم في قلوب المجاورين وغيرهم.
وحاول المنافقون التأثير كذلك على معنويات المسلمين بأسلوب آخر هو من الذلة والحقارة بمكان فاختلقوا حديث الإفك بعد غزوة بني المصطلق ولم ينجح هذا الأسلوب أيضاً بالتأثير على معنويات المؤمنين.
1 الرجل الذي بقي من الدعاة يقال: إنه كعب بن زيد رضي الله عنه. عاش حتى قتل يوم الخندق هذا كلام ابن إسحاق. فراجعه في السيرة النبوية 2/185 بيد أنه قول انفرد به هو فقط ولم يذكر كعب بن زيد هذا في قتلى الخندق، والله أعلم.
2 أما الذي عاد يحمل أخبار الكارثة فهو عمرو بن أمية الضمري حيث كان من الرعاة القريبين من مكان الحادث ولم يدلهم على ذلك إلا الطير حينما رأوها تحوم في ذلك المكان.
فلم يبق إذا أمام المشركين والمنافقين واليهود إلا أن يحشدوا كل طاقاتهم ويجمعوا كل قواتهم في صعيد واحد لمحاولة القضاء على الإسلام وأهله ماديا ومعنوياً كما سنرى ذلك في غزوة الخندق إن شاء الله تعالى1.
1 الرسول القائد 145، السيرة النبوية 2/184.