الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاتمة: في الأحكام والفوائد والعبر المستنبطة من هذه الغزوة
أذكر في هذه الخاتمة خلاصة لما اشتلمت عليه هذه الغزوة من أحكام، وفوائد، وعبر، وذلك من خلال دلالة النصوص الواردة، أو مقتضى عمله صلى الله عليه وسلم، وقد مرت بعض الأحكام في مواضعها.
وإنما جعلت هذه الخاتمة لإجمال ما سبق تفصيله وليكون كالخلاصة الجامعة يمكن للقارئ من خلالها الوقوف بسهولة على بعض تلك الأحكام.
وقد أكون مقلداً في هذا العمل الإمام ابن القيم1 –رحمه الله فقد ذكر أشياء كثيرة عقب كل غزوة، إلا أنه للأسف لم يعرج على غزوة الخندق كما فعل ذلك أيضاً في غزوة بدر الكبرى حيث لم يتكلم عن الأحكام المستفادة من الغزوتين2.
1 في كتابه القيم زاد المعاد.
2 بدر والخندق.
ولكنْ حسبي أن أنهج نهجه في بقية الغزوات، حيث سأذكر بعض الأحكام الفقهية المستنبطة من هذه الغزوة المباركة، والتي كانت بمثابة درس أخير للكفر وأهله. فأيقنوا أن الله مع المؤمنين ومن كان الله معه كفاه شر أعدائه.
ومن تلك الأحكام:
1-
الشورى:
الشورى في الإسلام مبدأ من مبادئ نظام الحكم الإسلامي، وعليه المعول عندما لا يوجد دليل من الكتاب أو السنة يحتم الأخذ بشيء معين.
وقد شاور الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه كثيراً، كما فعل ذلك الخلفاء الراشدون بعده.
والشورى مصطلح إسلامي لا ينبغي أن يطلق على غير مدلوله الشرعي؛ لأن الشورى في الإسلام لها ميزات لا توجد في أي نظام آخر، أو أي قانون مستحدث1.
وهي خاصة بأهل الحل والعقد، فلا يدخل فيها من لا يستحقها لأن ذلك يخل بهذا المبدأ العظيم، وفي غزوة الخندق حصلت المشاورة من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حول خطة الدفاع التي يتخذونها حيال الجموع الزاحفة
1 مرويات غزوة بدر الكبرى 142.
صوب المدينة، التي جاءت من بلادها عاقدة النية استئصال هذا الدين الحنيف الذي أصبح يهدد كيانهم ويبدد أصنامهم.
وقد أشار عليه سلمان الفارسي1 –رضي الله عنه بحفر الخندق وذلك لإقتناعه بأنها خطة عظيمة جيدة في هذا الظرف الخطير؛ والوقت القصير؛ ولأنها قد نفذت في بلاد فارس ونفعت.
واقتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الرأي السديد، وسارع إلى تنفيذه، وسارع أصحابه –رضي الله عنهم في هذا العمل العظيم، وأنجزوه في مدة وجيزة2 حيث لا تستطيع الآلات الحديثة في هذا العصر المتطور مادياً أن تفعل فعلهم إذا أخذنا في الحسبان أنهم حفروا من طرف الحرة الغربية3 الشرقي إلى طرف الحرة الشرقية4 الغربي.
علماً بأن الحفر واسع وعميق بحيث لم تستطع الخيل اقتحامه مما يدل دلالة واضحة على عِظمه واتساعه، وما ذلك إلا بقدرة الله وقوته وتوفيقه
1 تقدمت ترجمته في الباب الثالث الفصل الأول منه.
2 ذلك لأنه قد تقدم الخلاف في ذلك والأكثر متفقون على أنهم مكثوا في الحفر ستة أيام.
3 الحرة الغربية وتسمى – حرة الوبرة-.
4 وتسمى حرة واقم لكنهم بدأوا من طرف حرة بني حارثة.
لرسوله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الكرام –رضي الله عنهم {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 1.
2 -
مشروعية جعل الإمام من ينوب عنه أثناء غيابه في قتال أو غيره.
وهذا مبدأ إسلامي مشروع شرعه النبي صلى الله عليه وسلم في عهده فالاقتداء به في ذلك مشروع.
وقد كان صلى الله عليه وسلم في كل غزوة، وفي كل سفر يعزم عليه يعين نائباً على المدينة يقوم بالصلاة بأهلها ممن تخلفوا عن القتال لعجز، أو إعالة ضعفاء، أو تمريض مرضى، وغير ذلك من رعاية شئون أهل المدينة.
وفي هذه الغزوة عين صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم وقد تقدم الخلاف في اسمه. قال الحافظ: وكون اسمه عمرو أشهر وأكثر قال وقد استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة ثلاثة عشرة مرة قال وكان يستخلفه على المدينة يصلي بالناس في عامة غزواته وأشار إلى هذا قبله ابن الأثير2.
3 -
التواضع في الإسلام:
مبدأ شرعي من مبادئ هذا الدين الحنيف وخلق كريم، ولقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة في حجته التي تسمى حجة الوداع وقال: "يأيها الناس
1 سورة الحج الآية 40.
2 تهذيب التهذيب 8/34، أسد الغابة 4/103.
ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى. أبلغت
…
" 1. الحديث، من هذا المنطلق يتبين أن التواضع من الرئيس لمرؤسيه؛ ومن الكبير للصغير، بل التواضع من كل أحد مما دعا إليه الإسلام وقد فعل ذلك صلى الله عليه وسلم وطبق بنفسه هذا المبدأ العظيم.
حيث باشر بنفسه في هذه الغزوة حفر الخندق، ونقل التراب وقد روى البراء بن عازب رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك حتى اغبر بطنه.
وما ذلك إلا لمعرفته بالله، وتواضعه لمن شرح صدره، ووضع وزره ورفع ذكره، حيث لا يذكر الله إلا ويذكر صلى الله عليه وسلم. وتواضعه يتجلى دائماً بين أصحابه سواء في الحرب أو في السلم وسنته مليئة بمثل ذلك.
4 -
المبارزة:
وهي ملاقاة الند2 من المشركين أمام الصفوف واحداً لواحد.
1 مسند الإمام أحمد 5/411 وقد جاء في صحيح مسلم 4/2199 أن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد. الحديث.
2 الند: بالكسر المثل وبالفتح الطيب. القاموس 1/341.
وقد حصل في هذه الغزوة المباركة لقاء هام بين علي رضي الله عنه وبين أعتى أعداء الله عمرو بن عبد ود حتى إن المؤرخين أثبتوا جميعاً بأنه فارس قريش وأحد شجعانها المبرزين.
ومبارزة علي لعمرو رواها الحاكم في مستدركه وهي ثابتة عنده1. وقد تقدم الكلام عليها في مبحث خاص وهي جائزة وبالجواز قال الجمهور وخالف في ذلك الحسن البصري.
5 -
بيع جيفة الكافر جوازها وعدمه:
وقد جاء في كتب الحديث ما يمنع ذلك فقد عنون البخاري بقوله: باب (طرح جيف المشركين في البئر ولا يؤخذ لهم ثمن) وفي ذلك دليل على أنه لا يجوز بيع جيفة المشرك قال المباركفوري: وإنما لا يجوز بيعها وأخذ الثمن فيها لانها ميتة لا يجوز تملكها ولا أخذ عوض عنها وقد حرم الشارع ثمنها وثمن الأصنام2.
قال الحافظ: "قوله ولا يؤخذ لهم ثمن أشار به إلى حديث ابن عباس أن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل من المشركين فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم"3.
1 المستدرك 3/32.
2 تحفة الأحوذي 5/376.
3 فتح الباري 6/282 كتاب الجزية.
6 -
لا يعدل عن الوضوء إلى التيمم مع وجود الماء:
أي أن الوضوء قد أوجبه الله سبحانه وتعالى فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} 1 الآية.
قال الحافظ: "والوضوء بالضم الفعل وبالفتح الماء الذي يتوضأ به على المشهور فيهما"2. والوضوء واجب إلا في حالات نادرة.
والرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك الوضوء حتى في أثناء الحروب ذلك لأنه لما كان في هذه الغزوة وفاتته صلاته العصر كما مر في الأحاديث الصحيحة وفي بعضها أنه فاتته الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
عمد صلى الله عليه وسلم عندئذ إلى بطحان3 ليتوضأ، وترك التيمم مع أنه في وقت حرب وأوضاع حرجة؛ ولأنه هو المشرع صلى الله عليه وسلم؛ ولوجود الماء قريباً منه لم يترك الوضوء لما فيه من الأجر العظيم لذلك روى البخاري حيث قال في حديث تقدم وشاهدنا منه هو:
قال عمر بن الخطاب يا رسول الله ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب قال النبي صلى الله عليه وسلم والله: "ما صليتها" فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بطحان
1 سورة المائدة الآية 6.
2 فتح الباري 1/232.
3 أحد أودية المدينة المشهورة وانظر: 194.
فتوضأنا لها. الحديث1.
قال الحافظ: "والوضوء فُرض على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، كما فرضت الصلاة وأنه لم يصل قط إلا بوضوء، وهذا يوضح أنه من شروط الصلاة؛ لذلك ذكر الحاكم حديث ابن عباس: دخلت فاطمة على النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقالت: "هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك" فقال: "ائتوني بوضوء" فتوضأ الحديث. قلت2 وهذا يصلح رداً على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة لا على من أنكر وجوبه حينئذ قال وقد جزم ابن الجهم المالكي بأنه كان قبل الهجرة مندوباً3.
7 -
الخديعة في الحرب:
قال الحافظ: "وأصل الخداع إظهار أمر وإضمار خلافه"4.
وقد أورد البخاري رحمه الله في ذلك حديثين أحدهما عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم (سمى الحرب خدعة)5.
1 صحيح البخاري 5/47.
2 أي ابن حجر.
3 فتح الباري 1/232.
4 فتح الباري 6/158.
5 صحيح البخاري 4/24 كتاب الجهاد.
والثاني عن جابر بن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحرب خدعة1"، وقد أورد مسلم أحدهما عن أبي هريرة2.
ثم قال النووي: "واتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب كيف أمكن الخداع، إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل"3.
قال الطبري: "إنما يجوز من الكذب في الحرب المعاريض دون حقيقة الكذب فإنه لا يحل"4.
قال الحافظ: "ذكر الواقدي أن أول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحرب خدعة" في غزوة الخندق5.
وقد فعل ذلك نعيم بن مسعود رضي الله عنه في الخندق حيث أنه كان قد أسلم ولم يعلم به قومه فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بإسلامه وأن قومه لا يعلمون بذلك.
1 فتح الباري 6/158.
2 صحيح مسلم 3/1362 كتاب الجهاد.
3 المصدر السابق 3/1362.
4 فتح الباري 6/159.
5 المصدر السابق 6/158.
وأراد مساعدة المسلمين فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا ما استطعت، فذهب لتوه إلى بني قريظة فقريش فغطفان وخذلهم الله وفرق جمعهم وشتت شملهم وكان نعيم سبباً هاماً في ذلك.
ولذلك قال الحافظ: "وفي الحديث إشارة إلى استعمال الرأي في الحرب بل الاحتياج إليه آكد من الشجاعة"1.
8 -
مشروعية إرسال العيون لأخذ أخبار الأعداء:
قال البخاري: "باب الجاسوس"2.
قال الحافظ: "الجاسوس بجيم ومهملتين أي حكمه إذا كان من جهة الكفار ومشروعيته إذا كان من جهة المسلمين. من هذا المنطلق فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ليلة الأحزاب ليأتيه بأخبار تلك الجموع التي حاولت جاهدة في حرب المسلمين وإيذائهم.
وقد قام حذيفة رضي الله عنه بالمهمة خير قيام، حيث ذهب إليهم، وجلس بينهم، وسمع ما يدور في معسكرهم، وقد كان على مسافة قريبة
1 المصدر السابق 6/158.
2 صحيح البخاري 4/18.
من القائد أبي سفيان وأراد أن يرميه فتذكر تحذير النبي صلى الله عليه وسلم له من ذلك "ولا تذعرهم عليّ1". فعاد رضي الله عنه يحمل أخباراً سارة وبشرى هامة هي رحيلهم، وانكشافهم عن المدينة التي ضاقت بهم ذرعاً {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} "2 الآية.
من هنا يؤخذ:
جواز استعمال العيون، وإرسالها للتعرف على حالة الأعداء، ومدى استعدادهم، وكيفية تحركاتهم، حتى يكون المسلمون على علم بأعدائهم فيعد المسلمون لكل أمر عدته ولا ينبغي للمسلمين أن يغفلوا عن تحركات أعدائهم وما يكيدونه للإسلام وأهله.
9– استعراض الإمام للجيش قبل وقوع القتال كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه الحديث.
وقد وقع هذا من النبي صلى الله عليه وسلم في بدر وغيرها. وخروج صغيري السن لم يحدث إلا عند أولئك الذين يستشعرون قيمة الشهادة وتهون أنفسهم في سبيل الله طمعاً فيما عنده من مغفرة ورضوان.
1 صحيح مسلم 3/1414-1415.
2 سورة الأحزاب جزء من الآية 25.
أما في هذه العصور المتأخرة التي طغى فيها حب الحياة وحب متاعها الفاني فلربما لا يخرج كبار السن إلا بالقوة ويدفعون إلى الخير دفعاً.
قال الحافظ: "وعند المالكية والحنفية لا تتوقف الإجازة للقتال على البلوغ بل للإمام أن يجيز من الصبيان من فيه قوة ونجدة فرب مراهق أقوى من بالغ.
ثم قال: وحديث ابن عمر حجة عليهم ولا سيما الزيادة التي جاءت عن ابن جريج ولفظها: "عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق فلم يجزني ولم يرني بلغت1".
وفي الحديث أيضاً من العبر: حسن أخلاقه صلى الله عليه وسلم ومعرفته التامة بأحوال أصحابه واحترامه لهم ولأبنائهم رغم عظم الرسالة والأعباء التي حملها ولا غَرْوَ فقد قال صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا2".
10 -
تعاون الجميع إذا هوجمت البلاد:
وفي ذلك حديث سهل بن سعد الساعدي وحديث أنس رضي الله
1 فتح الباري 5/279.
2 رواه الترمذي في البر 15، وأحمد 1/257، 2/207.
عنهما وكلاهما في الحفر، وما دار فيه ففيهما من العبر والدروس الشي الكثير منها:
1-
القدوة في ذلك.
2-
مباشرة الرسول صلى الله عليه وسلم الحفر بنفسه تحريضاً للمسلمين على العمل ليتأسوا به في ذلك، وحتى يبتعدوا عن الاتكالية وما يعقبها من تبعات.
3فيهما إشارة إلى تحقير عيش الدنيا مهما بلغ لما يعرض له من التكدير وسرعة الفناء {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} 1، {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} 2.
4-
ترديده صلى الله عليه وسلم بعض الكلمات إجابة لأصحابه لما كانوا يقولونه أثناء الحفر وذلك مما ينشط حيث إن الإنسان إذا اشتغل في عمل جسماني شاق فالسكوت يشق عليه ويتعب بسرعة أكثر مما لو كان يتكلم حيث ينسيه الكلام التعب وهذا مجرب.
5-
ملاطفته لأصحابه رضي الله عنهم وهو الموصوف بقول ربه تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 3. حيث كان أصحابه يرتجزون أثناء
1 سورة الأعلى الآية 17.
2 سورة الضحى الآية 42.
3 سورة القلم الآية 4.
الحفر برجل من المسلمين يقال له جعيل1 فسماه الرسول صلى الله عليه وسلم عمرا فكانوا يقولون:
سماه من بعد جعيل عمرا
…
وكان للبائس يوماً ظهرا
فإذا مروا بعمرو قال صلى الله عليه وسلم: عمراً وإذا مروا بظهر قال صلى الله عليه وسلم ظهرا.
11 -
من المعجزات التي حصلت في هذه الغزوة:
الكدية والطعام المبارك فيؤخذ منه:
1-
طاعتهم رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومحافظتهم على ذلك بدليل أنهم لما صادفوا تلك العقبة لم يتصرفوا حسب أرائهم بل رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ونتيجة لتلك الطاعة أعانهم الله عز وجل على تلك العقبات فأنجزوا ذلك العمل في وقت وجيز.
2-
حبهم الشديد لله، ولرسوله، وشفقتهم على بعضهم {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ 2} ذلك أنه حينما رأى جابر ما يعانيه المصطفى صلى الله عليه وسلم من الجوع استأذن وعاد أدراجه إلى بيته ليجهز ما يستطيع عليه من طعام يدعو إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وثلة من أصحابه وفعلاً
1 انظر أسد الغابة 1/290، وحاشية الأولياء 1/353 رقم الترجمة (55) .
2 سورة الفتح جزء من الآية الأخيرة.
وجد عناقاً وصاعاً من شعير فذبح العناق، وطحنت زوجته صاع الشعير وجهزوه وعاد جابر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء به ومن معه ضيفاً على تلك المأدبة المتواضعة.
3-
تكثير الطعام الذي خجل1 جابر من قلته فأكل الجميع وشبعوا وذلك بفضل الله على نبيه وإظهاره على يديه تلك المعجزات الباهرة.
4-
تواضعه عليه الصلاة والسلام لربه ولأصحابه حيث كان يغرف بنفسه اللحم، ويكسر لهم الخبز حتى صدروا عنه.
5-
الإهداء للجيران من الطعام سنة، وخاصة في أوقات المجاعة وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كما في حديث أبي ذر2. حيث قال: إن خليلي أوصاني "إذا طبخت مرقاً فأكثر ماءه ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف".
12-
أهمية الصلاة:
وفيه حديث عمر رضي الله عنه: "يا رسول الله ما كدت أن أصلي".. الخ3. وفيه من الفوائد:
1 الخجل: التحير والدهش من الاستحياء. مختار الصحاح 170.
2 صحيح مسلم 4/2025.
3 صحيح البخاري 5/92.
1-
جواز اليمين من غير استحلاف إذا اقتضت مصلحة من زيادة طمأنينة أو نفي توهم.
2-
استحباب قضاء الفوائت في جماعة وبه قال أكثر أهل العلم إلا الليث مع أنه أجاز صلاة الجمعة جماعة إذا فاتت.
3-
استدل به على عدم مشروعية الأذان للفائتة.
13 -
كثرة جند الله:
وفيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما (نصرت بالصبا) وفيه:
1-
تفضيل بعض المخلوقات على بعض.
2-
إخبار المرء عن نفسه بما فضله الله به على سبيل التحدث بالنعمة، وبيان المنزلة لا على الفخر.
3-
الإخبار عن الأمم الماضية وكيفية هلاكها.
4-
الصبا هي أفضل الرياح التي تهب حيث أنها بفضل الله مبشرة بالخير، ويستفيد منها الزرع بخلاف غيرها من الرياح فمثلاً الرياح الشمالية إذا هبت تميت المزروعات غالباً وهذا ما جربه الفلاحون.
وقد ذكر ذلك الحافظ1 وعليه فالرياح هي:
1 فتح الباري 2/521.
أ- شرقية وهي الصبا وهي مباركة بدليل الحديث حيث أرسلها الله عذاباً لأعدائه وخيريتها مجربة لدى المزارعين.
ب- غربية وهي الدبور وقد أرسلت على عاد فأهلكتهم.
ج- جنوبية وهي التي تهب من جهة الجنوب وهي في الدرجة الثانية بعد الصبا من حيث خيريتها.
د- شمالية وهي إذا هبت بإذن الله جاءت بالزمهرير –البرد القارس- وتؤثر على الزرع وتتغير منها الأجسام.
14 -
الجاسوس في الإسلام:
1-
جواز استعمال التجسس في الإسلام.
2-
منقبة للزبير رضي الله عنه وقوة قلبه وصحة يقينه.
3-
جواز سفر الرجل وحده وأن النهي عن سفر الإنسان وحده إنما هو حيث لا تدعو الضرورة إلى ذلك.
أما في مثل هذه المهمات فهو جائز لأن فيه مصلحة للمسلمين. وقد يحدث للإنسان حاجة للسفر، ولا يجد من يرافقه فهل يا ترى يترك أمراً هاماً لأنه لم يجد مرافقين والأمر بذلك إنما هو للاستحباب.
قال الحافظ: "وقد وقع في كتب المغازي بعث كل من حذيفة ونعيم بن مسعود وغيرهما1. أما حديث الزبير حينما أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قريظة. وهو عن عبد الله بن الزبير عن أبيه"2
…
ففيه كما قال الحافظ: "صحة سماع الصغير. وأنه لا يتوقف على أربع أو خمس لأن ابن الزبير كان يومئذ ابن سنتين وشهراً أو ثلاث وشهراً بحسب الاختلاف في وقت مولده وفي تاريخ الخندق"3.
15 -
أهمية الدعاء:
وفيه حديث عبد الله ابن أبي أوفى "اللهم منزل الكتاب" ومن الفوائد ما ذكره الحافظ: أن فيه التنبيه على عظم هذه النعم الثلاث: إنزال الكتاب- إجراء السحاب- هزيمة الأحزاب. وفيه استحباب الدعاء عند اللقاء والاستنصار.
ووصية المقاتلين بما فيه صلاح أمرهم، وتعليمهم ما يحتاجون إليه، وسؤال الله تعالى بصفاته الحسنى وبنعمه السابغة ومراعاة نشاط النفوس
1 فتح الباري 6/138.
2 المصدر السابق 7/80 رقم الحديث 3720.
3 فتح الباري 7/81.
لفعل الطاعة والحث على سلوك الأدب وغير ذلك1.
وفيه حديث علي رضي الله عنه "لما كان يوم الأحزاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً" الحديث2.
قال الحافظ: "وفيه الدعاء عليهم بأن يملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً، وليس فيه الدعاء عليهم بالهزيمة لكن يؤخذ من لفظ الزلزلة لأن في إحراق بيوتهم غاية التزلزل لنفوسهم".
وقال: "وفيه جواز الدعاء على المشركين بمثل ذلك".
كما تضمن كذلك دعاء صدر من النبي صلى الله عليه وسلم على من يستحقه وهو من مات مشركاً منهم. وفيه شدة حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أداء الصلوات وخاصة صلاة العصر والتي قال صلى الله عليه وسلم في تاركها: "من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله"3.
وأخيراً يتبين من مجريات الأمور والأحداث في هذه الغزوة وغيرها من الغزوات أن النصر في المعارك لا يكون بكثرة العدد ووفرة السلاح وإنما يكون بقوة الروح المعنوية لدى الجيش.
1 فتح الباري 6/157.
2 انظر الحديث في الصحيح 5/47.
3 فتح الباري 6/106، وقد أخرجه البخاري في المواقيت حديث رقم (553، 594) والنسائي في الصلاة.
وقد كان الجيش الإسلامي في هذه المعارك يمثل العقيدة النقية والإيمان الصادق والفرح بالاستشهاد والرغبة في ثواب الله وجنته.
كما يمثل الفرحة من الانعتاق من الضلال والفرقة والفساد. بينما كان جيش المشركين يمثل فساد العقيدة وتفسخ الأخلاق، وتفكك الروابط الاجتماعية، والانغماس في الملذات.
والعصبية العمياء للتقاليد البالية والآباء الماضين والآلهة المزيفة انظر إلى ما كان يفعله الجيشان قبل بدء القتال.
فقد حرص المشركون قبل بدء معركة بدر مثلاً على أن يقيموا ثلاثة أيام يشربون فيها الخمور، وتغني لهم القيان، وتضرب لهم الدفوف، وتشعل عندهم النيران لتسمع العرب بما فعلوا فتهابهم.
وكانوا يظنون ذلك سبيلاً إلى النصر، بينما كان المسلمون قبل بدء أي معركة يتجهون إلى الله بقلوبهم يسألونه النصر، ويرجونه الشهادة، ويشمون روائح الجنة ويخر الرسول صلى الله عليه وسلم ساجداً مبتهلاً يسأل ربه أن ينصر عباده المؤمنين، وقد ابتهل كثيراً في هذه الغزوة ودعا الله حتى نصره وكانت النتيجة أن انتصر الأتقياء الخاشعون وانهزم اللاهون العابثون1.
1 السيرة النبوية دروس وعبر 114-115.
والذي يقارن بين أرقام المسلمين في أي معركة وبين أرقام المشركين يجد دائماً أن المشركين أكثر من المسلمين أضعافاً مضاعفة ومع ذلك فقد كان النصر حليف المسلمين رغم ذلك كله. والحمد لله رب العالمين.