الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس: حصول النزاع بين الأحزاب وانهزامهم
المبحث الأول: هبوب الريح
…
المبحث الأول: "هبوب الريح
لقد تحدث القرآن الكريم عن هذه المعركة وتناول مراحلها في عدة آيات من سورة الأحزاب.
وأول ما تحدث عنه القرآن هو نزول البلاء على المسلمين بوصول قوات الأحزاب، وإنعام الله على المسلمين بدحر1 تلك القوات، وتسليط الله الريح عليهم، وإزعاجهم بجنود من عنده لم يرها أحد، مما أدى إلى إجبارهم على الرحيل عن المدينة وفك الحصار عنها فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} 2 الآية.
ويعني القرآن الكريم بالجنود الذين جاءوا لحرب المسلمين قريش، وغطفان، وبني قريظة، أما الجنود الذي أشار القرآن إلى أن الله أرسلهم لإزعاج الأحزاب فقد ذكر كثير من أهل المغازي والتفاسير أنهم
1 دحره: طرده وأبعده. مختار الصحاح 199.
2 سورة الأحزاب الآية 9.
(الملائكة) ، ولم يثبت أنهم قاتلوا الأحزاب، ولكنهم أرسلوا للإزعاج والتضييق1. لذلك روى البخاري رحمه الله حيث قال:"حدثنا مسدد2، حدثنا يحى بن سعيد عن شعبة قال: "حدثني الحكم3 عن مجاهد عن ابن عباس –رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور"4. كما رواه مسلم5 وأحمد6 كلهم عن ابن عباس.
وقد روى الإمام أحمد حديثاً بهذا المعنى عن أبي سعيد الخدري وهذا نصه: "قال ثنا أبو عامر7 ثنا الزبير بن عبد الله8 حدثني ربيح9 بن أبي
1 غزوة الأحزاب لمحمد باشميل 278.
2 مسدد هو مسرهد الأسدي البصري ويقال أن مسدد هو لقب وقد تقدم.
3 الحكم هو ابن عتيبة وقد تقدم.
4 صحيح البخاري 5/47.
5 صحيح مسلم 2/617.
6 مسند الإمام أحمد 1/223، 324، 341، 355، 373.
7 أبو عامر هو عبد الملك بن عمر القيس العقدي بفتح المهملة والقاف - ثقة - وقد تقدم.
8 الزبير بن عبد الله بن أبي خالد الأموي مولاهم ويقال له ابن رهيمة - مقبول روى له أبو داود من المراسيل. التقريب 106.
9 ربيح بمهملة وموحدة مصغراً ابن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري المدني يقال اسمه سعيد وربيح لقب - مقبول -. التقريب 100.
سعيد الخدري عن أبيه1 قال قلنا يوم الخندق يا رسول الله هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر قال نعم:"اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا". قال فضرب الله عز وجل وجوه أعدائه بالريح فهزمهم الله عز وجل بالريح2.
قال الألباني في فقه السيرة3 مشيراً إلى هذا الحديث: "حديث حسن أخرجه أحمد وابن أبي حاتم في تفسيره من حديث أبي سعيد الخدري" أهـ كلامه. كما روى البزار حديثاً آخر بسنده عن عكرمة حيث قال:
حدثنا عبد الله بن سعد4 حدثنا حفص بن غياث5 عن داود6 عن عكرمة عن ابن عباس قال: "أتت الصبا إلى الشمال ليلة الأحزاب
1 أبوه هو أبو سعيد الخدري الصحابي الجليل.
2 مسند الإمام أحمد 3/3.
3 فقه السيرة 329.
4 عبد الله بن سعد بن عثمان الدشتكى أبو عبد الرحمن المروزي نزيل مرو صدوق. التقريب 175.
5 حفص بن غياث بمعجمة مكسورة ابن طلق بن معاوية النخعي أبو عمر الكوفي القاضي - ثقة فقيه - تغير حفظه قليلاً في الآخر. التقريب 78- 79.
6 داود بن الحصين الأموي مولاهم أبو سليمان المدني - ثقة - إلا في عكرمة ورمي برأي الخوارج. التقريب 95.
فقالت مري ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت الشمال إن الحرة1 لا تسري بالليل فكانت الريح التي نصر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبا.
قال: "ورواه جماعة عن داود مرسلاً، ولا نعلم أحداً وصله إلا حفص ورجل من أهل البصرة وكان ثقة يقال له خلف بن عمرو ثم قال الهيثمي رواه البزار ورجاله رجال الصحيح"2.
قال الشوكاني3: "أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم في الكنى وأبو الشيخ، وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال:
لما كان في ليلة الأحزاب جاءت الشمال للجنوب فقالت انطلقي فانصري الله ورسوله فقالت الجنوب إن الحرة لا تسري بالليل فغضب الله عليها وجعلها عقيماً فأرسل عليهم الصبا فأطفأت نيرانهم وقطعت أطنابهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور".
وقد أخرج ابن سعد عن سعيد بن جبير قال: "لما كان يوم الخندق أتى جبريل عليه السلام ومعه الريح فقال حين
1 الحرة عكس المملوكة والأمة.
2 القائل هو البزار في كشف الأستار 2/336.
3 مجمع الزوائد 6/139.
أتى جبريل: "ألا أبشروا ثلاثاً"، فأرسل الله عليهم الريح فهتكت القباب، وكفأت القدور، ودفنت الرحال1، وقطعت الأوتاد، فانطلقوا لا يلوي أحد على أحد فأنزل الله تعالى: " {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} 2.
وقد روى البيهقي في الدلائل حديثاً بهذا المعنى عن طريق زيد بن أسلم أن رجلاً قال لحذيفة: "أدركتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ندركه
…
إلى أن ذكر حذيفة رضي الله عنه خبر انطلاقه إلى معسكر الكفار، وأنهم تجادلوا، وبعث الله عليهم الريح فما تركت لهم بناء إلا هدمته ولا إناء إلا أكفأته"3.
قال الحافظ ومن طريق عمرو بن سريع عن حذيفة نحوه وفيه: "أن علقمة بن علاثة صار يقول يا آل عامر إن الريح قاتلني، وتحملت قريش وإن الريح لتغلبهم على بغض أمتعتهم4. وقد تقدم في دور حذيفة أنه وجد الريح في معسكر بني عامر وأنها ما تجاوزهم شبراً وأنهم يقولون يا آل عامر الرحيل الرحيل".
1 الرحال: جمع رحل وهو مركب يوضع على ظهر البعير. القاموس 3/383.
2 الطبقات الكبرى 2/71.
3 دلائل النبوة 3/451.
4 فتح الباري 7/400.
الريح التي سلطها الله سبحانه على الأحزاب:
في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري1 ومسلم2 وأحمد3 وغيرهم أن الريح التي نصر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي (الصبا) . والصبا كما قال الحافظ: "هي بفتح المهملة وتخفيف الموحدة الريح الشرقية، وضدها الدبور وهي الريح الغربية ذلك لأنه حصل خلاف حول الريح التي نصرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فمع كون الأحاديث صرحت بأنها هي الصبا جاءت بعض الأحاديث بأن الحوار حصل بين الشمال، والجنوب، وحصل اختلاف حول التي أبت من نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل إن التي أبت هي الشمال وقيل إنها الجنوب".
لكن الحافظ بين أن هذا الخلاف ليس له معنى وأن الصبا والدبور متعاكسان يقابلان الشمال والجنوب وهذا كلامه:
الصبا: "يقال لها القبول بفتح القاف لأنها تقابل باب الكعبة إذ مهبها من مشرق الشمس، وضدها الدبور وهي التي أهلكت بها قوم عاد"4.
1 صحيح البخاري 5/47.
2 صحيح مسلم 2/617.
3 مسند الأمام أحمد 1/223، 324، 341، 355، 373.
4 فتح الباري 2/521.
قال الحافظ ومن لطيف المناسبة: "كون القبول نصرت أهل القبول وكون الدبور أهلكت أهل الأدبار، وأن الدبور أشد من الصبا1 قال: "ولما علم الله رأفة نبيه صلى الله عليه وسلم بقومه رجاء أن يسلموا سلط عليهم الصبا؛ فكانت سبب رحيلهم عن المسلمين لما أصابهم بسببها من الشدة، ومع ذلك فلم تهلك منهم أحداً ولم تستأصلهم".
ومن الرياح أيضا: "الجنوب والشمال فهذه الأربع تهب من الجهات الأربع، وأي ريح هبت من بين جهتين منها يقال لها النكباء بفتح النون وسكون الكاف بعدها موحدة ومد"2.
وقال الحافظ في موضع آخر: "وقيل إن الصبا هي التي حملت قميص يوسف عليه السلام إلى يعقوب عليه السلام قبل أن يصل إليه وإنها هي التي تؤلف السحاب وتجمعه"3.
وقال الهمداني4: "رياح المشرق القبول وهي الصبا، ويقابلها من المغرب الدبور، والجنوب تهب من اليمن، ويقابلها الشمال، وما هب بين
1 فتح الباري 2/521.
2 فتح الباري 2/521.
3 فتح الباري 6/301.
4 هو: الحسن بن أحمد بن يعقوب بن يوسف بن داود بن سليمان بن عمرو بن الحارث الهمداني ويعرف بابن الحائك أبو محمد عالم أديب من مؤلفاته الأكليل في مفاخر قحطان وذكر اليمن ت 334. معجم المؤلفين 3/304.
الجنوب والقبول يسمى النكباء، وما بين الجنوب والدبور الداجن، وما بين الشمال والدبور وهي مقابلة النكباء: "أزيب
…
وساق الكلام إلى أن قال اثنتا عشرة ريحاً لاثني عشر برجاً1 وتبعه في هذا المسعودي"2.
وهكذا يتبين أن لله سبحانه وتعالى جنوداً أقوياء {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} 3، فقد سلط الله سبحانه هذا النوع من جنده فزلزلت الأعداء، وأزعجهم هذا الوضع وخاصة بعد أن حصل ما حصل من التخذيل بينهم وبين حلفائهم اليهود، وظن بعضهم ببعض سوءاً. ووصل الخلاف والتنافر بين الفريقين إلى درجة أصبح الحلف العسكري المعقود بينهما في حكم المنتهي وصار كل فريق يحمل الآخر مسؤولية انفصام عرى هذا الحلف.
عندئذ سلط الله عليهم القوة الإلهية. وقد فكرت عندئذ القيادة المشتركة للأحزاب في إنهاء الحصار المضروب على المدينة، والرجوع بجيوشها كلٌ إلى بلاده، وترك اليهود وشأنهم ليلقوا مصيرهم الرهيب، وفي النهاية وعندما أذن الله وأراد نصر أوليائه هبت على المنطقة التي يعسكر
1 صفة جزيرة العرب 300.
2 التنبيه والأشراف ص 16.
3 سورة المدثر جزء من آية 31.
فيها الأحزاب رياح قوية كانت لقوتها تقتلع الخيام وتهد الأبنية وتكفأ القدور، ولا تترك ناراً تشتعل مما جعل أبو سفيان يقول:"يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام فقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل"1.
وقد بلغ من خوف القوم عندما توالت عليهم عوامل الهزيمة أن كان رئيسهم أبو سفيان يقول لهم – ليتعرف كل منكم أخاه وليمسك بيده حذراً من أن يدخل بينكم عدو.
وقد حل عقال بعيره يريد أن يبدأ بالرحيل، فقال له صفوان بن أمية إنك رئيس القوم فلا تتركهم وتمضي، فنزل أبو سفيان وأذن بالرحيل وترك خالد بن الوليد في جماعة ليحموا ظهور المرتحلين حتى لا يدهموا من ورائهم، وأزاح الله عن المسلمين تلك الغمة، ولولا لطف الله وعنايته بهذا الدين منّة منه وفضلاً لساءت الحال وكان جلاء الأحزاب في ذي القعدة2.
1 الاكتفاء 2/175.
2 نور اليقين 155.
حقيقة أنها نعمة، وأيما نعمة! حيث انقشعت الغمة، وخلص الله المسلمين من براثن المحنة، وقطف المؤمنون الصادقون ثمار صدقهم، وصبرهم، وثباتهم، مع نبيهم الحبيب صلى الله عليه وسلم في تلك الليالي الرهيبة، المرعبة، التي زاغت فيها الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، فقد أخذت جيوش الأحزاب في فك الحصار عن المدينة.
وأخذت كتائبهم تولي الأدبار تجر أذيال الخيبة والخسران لم تجن من غزوها الكبير هذا سوى التعب والنصب1 {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 2 ذلك؛ لأن المسلمين رغم قلتهم وقلة عتادهم فقد نصرهم الله؛ لأنهم كانوا يدافعون عن عقيدة سامية ارتضاها الله لهم، لا كما يدافع المسلمون اليوم عن الحزب والوطن والتراب ويزعمون أنهم ينصرون بسبب إخلاصهم لتلك المبادئ الفانية.
وهذا والله هو من أسباب الخذلان فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
1 غزوة الأحزاب لمحمد باشميل 267.
2 سورة الحج الآية 40.