المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: المبارزة - مرويات غزوة الخندق

[إبراهيم بن محمد المدخلي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: أسباب الغزوة وتاريخها

- ‌الفصل الأول: سبب الغزوة

- ‌الفصل الثاني: تاريخ الغزوة

- ‌الباب الثاني: الدوافع والأسباب التي دعت إلى تكتل الأحزاب

- ‌الفصل الأول: دور اليهود في هذه الغزوة

- ‌المبحث الأول: الحقد اليهودي على البشرية منذ القدم

- ‌المبحث الثاني: الوفد اليهودي المحرض

- ‌المبحث الثالث: القبائل التي أغراها اليهود على قتال المسلمين

- ‌الفصل الثاني: دور المنافقين في هذه الغزوة

- ‌الباب الثالث: موقف المسلمين من تحركات الأحزاب

- ‌الفصل الأول: مشاورة الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه حول خطة الدفع "حفر الخندق

- ‌الفصل الثاني: تواضعه صلى الله عليه وسلم ومباشرته الحفر بنفسه

- ‌الفصل الثالث: الكدية وتغلب المسلمين عليها

- ‌الفصل الرابع: مكان الخندق وسرعة إنجاز المسلمين لحفره

- ‌الباب الرابع: وصول الأحزاب إلى مشارف المدينة

- ‌الفصل الأول: بيان عدد الجيش

- ‌المبحث الأول: عدد جيش المشركين، وبيان قواده

- ‌المبحث الثاني: عدد جيش المسلمين

- ‌الفصل الثاني: تواطؤ اليهود مع المشركين وعزمهم على ضرب المسلمين من الخلف

- ‌الفصل الثالث: تخذيل المنافقين للصف الإسلامي

- ‌الباب الخامس: وصف ما دار في غزوة الأحزاب من مناوشات

- ‌الفصل الأول: اقتحام المشركين للخندق وتصدي المسلمين لهم

- ‌المبحث الأول: الحصار الذي لحق بالمسلمين

- ‌المبحث الثاني: المبارزة

- ‌المبحث الثالث: القتلى من الجانبين

- ‌الفصل الثاني: اشتداد المعركة يمنع المسلمين من الصلاة

- ‌الفصل الثالث: "دور سعد بن معاذ وبلاؤه في هذه الغزوة

- ‌الفصل الرابع: دور نعيم بن مسعود الأشجعي في هذه الغزوة

- ‌الفصل الخامس: دور حذيفة بن اليمان في هذه الغزوة

- ‌الفصل السادس: حصول النزاع بين الأحزاب وانهزامهم

- ‌المبحث الأول: هبوب الريح

- ‌المبحث الثاني: "نتائج الغزوة

- ‌الخاتمة: في الأحكام والفوائد والعبر المستنبطة من هذه الغزوة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الثاني: المبارزة

‌المبحث الثاني: المبارزة

قال ابن إسحاق: "في سياق حديثه عن المناوشات التي حصلت بين الفريقين ثم تيمموا1 مكاناً ضيقاً2 فضربوا خيلهم فاقتحمت3 منه فجالت بهم في السبخة4 بين الخندق وسلع.

وخرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة5 التي أقحموا منها خيلهم وأقبلت الفرسان تعنق6 نحوهم7 وهنا أحس الفريقان بالخطر وكانت هي الشرارة الأولى

1 تيمموا: قصدوا. النهاية في غريب الحديث 5/300.

2 قال بعض المؤرخين -: "أن هذا المكان أغفله المسلمون ويمكن أن يقال أنه لصعوبة المكان وصلابته ولأن المنطقة كما هو معروف- أكثرها صخرية - كان هذا المكان ضيقاً والله أعلم".

3 اقتحمت: اقتحم في الأمر رمي بنفسه فيه من غير رويّة. مختار الصحاح 522.

4 السبخة بالتحريك واحدة السباخ وهي الأرض الملحة النازة. معجم البلدان 3/183.

5 الثغرة: الثلمة وهي موضع المخافة من أطراف البلاد. النهاية في غريب بالحديث 1/213.

6 العنق: بفتح العين والنون. نوع من سير الإبل والخيل وهو الوسط بين السريع والبطئ.

7 السيرة النبوية 2/224.

ص: 292

التي ألهبت حماس الفريقين فالمسلمون كان حماسهم يكمن في فرحهم بنجاح الخطة التي اتخذوها وهي -الخندق-.

والمشركون كان حماسهم لقتل بعض زعمائهم كما سيأتي وكانوا يحاولون جاهدين الانتقام وكانوا هم أشد خطراً لأنهم هم المعتدون. كما أن المسلمين أصبحوا يطوقونهم في تلك الحالة - وهم داخل معسكر المسلمين- أمامهم في الثغرة وخلفهم في المعسكر.

مقتل عمرو بن عبدود:

قال ابن إسحاق: "وكان عمرو بن عبدود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد يوم أحد فلما كان يوم الخندق خرج معلماً1 ليرى مكانه فلما وقف هو وخيله قال من يبارز؟ فبرز له علي بن أبي طالب فقال له ياعمرو: "إنك كنت عاهدت الله ألا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه قال له: أجل". قال له علي: "فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام" قال "لا حاجة لي بذلك". قال "فإني أدعوك إلى النزال" فقال له: "لم يأبن أخي؟ فوالله ما أحب أن أقتلك". قال له علي: "لكني والله

1 معلماً: المعلم الذي يجعل له علامة يعرف بها.

ص: 293

أحب أن أقتلك" فحمي1 عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره2 وضرب وجهه ثم أقبل على علي فتنازلا وتجاولا فقتله علي رضي الله عنه وخرجت خيلهم منهزمةً حتى اقتحمت من الخندق هاربة.

قال ابن إسحاق: "وقال علي رضوان الله عليه في ذلك:

نصر الحجارة من سفاهة رأيه

ونصرت رب محمد بصوابي

فصددت حين تركته متجدلاً

كالجذع بين دكادك وروابي

وعففت عن أثوابه ولو أنني

كنت المقطر بزّني أثوابي3

لا تحسبن الله خاذل دينه

ونبيه يا معشر الأحزاب4

قال ابن هشام: "وأكثر أهل الشعر يشك فيها لعلي بن أبي طالب"5.

الآثار الدالة على ذلك:

قال الحاكم رحمه الله: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا أحمد بن عبد الجبار6 حدثنا يونس بن بكير عن ابن إسحاق7 قال: "كان عمرو بن عبدود

1 فحمى: أشتد غضبه.

2 عقر البعير والفرس بالسيف (فانعقر) أي ضرب قوائمه. المختار الصحاح 445.

3 المقطر: هو الذي يلقي على قطره - وتقطر - تهيأ للقتال ورمي بنفسه من علو. وبزّني: سلبني ثيابي أو أي شيء كان معي. القاموس المحيط 2/119، 116.

4 هكذا جاء عند ابن إسحاق وفي الاكتفاء للكلاعي أبياتاً أخرى فراجعه 2/168.

5 السيرة النبوية 2/225.

6 هو العطاردي.

7 تقدم رجال السند.

ص: 294

فارس قريش وكان قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة، ولم يشهد أُحُداً فلما كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مشهده فلما وقف هو وخيله قال له علي ياعمرو قد كنت تعاهد الله لقريش أن لا يدعوك رجل إلى خلتين إلا قبلت منه أحداهما فقال عمرو أجل. فقال علي رضي الله عنه فإني أدعوك إلى الله عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، والإسلام فقال لا حاجة لي في ذلك قال فإني أدعوك إلى البراز فقال يابن أخي لم؟ فوالله ما أحب أن أقتلك. فقال علي لكني والله أحب أن أقتلك فحمي عمرو فاقتحم عن فرسه فعقره ثم أقبل فجاء إلى علي وقال من يبارز؟ فقام علي وهو مقنع في الحديد فقال أنا له يا نبي الله فقال إنه عمرو بن عبدود1 اجلس. فنادى عمرو ألا رجل فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى إليه علي رضي الله عنه وهو يقول:

لا تعجلن فقد أتاك

مجيب صوتك غير عاجز

ذو نبهة وبصيرة

والصدق منجا كل فايز

إني لأرجو أن أقيم

عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء

يبقى ذكرها عند الهزاهز2

1 قال صلى الله عليه وسلم ذلك لعلي لأن عمراً كان فارساً مشهوراً معمراً قد جاوز التسعين فهو أدرى بالحرب وملابساتها. انظر: الطبقات الكبرى 2/68، السيرة النبوية 2/641.

2 عند البيهقي أنه قال هذه الأبيات رداً على أبيات قالها عمرو سأوردها فيما بعد أن شاء الله.

ص: 295

فقال له عمرو: من أنت؟ قال أنا علي قال ابن من؟ ابن عبد مناف؟ فقال أنا علي بن أبي طالب فقال عندك يا ابن أخي مِنْ أعمامك من هو أسن منك1؟ فانصرف فإني أكره أن أهريق دمك فقال علي لكني والله ما أكره أن أهريق دمك فغضب فسل سيفه كأنه شعلة نار ثم أقبل نحو علي مغضباً واستقبله علي بدرقته2 فضربه عمرو في الدرقة فقدها3. وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه وضربه علي رضي الله عنه على حبل العائق فسقط وثار العجاج4 فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير فعرف أن علياً قتله وقال رضي الله عنه شعراً كان في آخره:

عبد الحجارة من سفاهة عقله5

وعبدت رب محمد بصواب

ثم أقبل علي رضي الله عنه نحو رسول الله ووجهه يتهلل فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه هلا استلبت درعه فليس للعرب درعاً خيراً منها.

1 أسن منك: أكبر منك.

2 الدرقة هي الحجفة والجمع درق والدرق بالفتح الصلب من كل شيء. القاموس المحيط 3/330.

3 فقدها: القذ الشق طولاً. المصدر السابق 10/325.

4 العجاج: الغبار والد خان أيضاً. مختار الصحاح 413.

5 في بعض الروايات (رأيه) وكلاهما بمعنى.

ص: 296

فقال: "ضربته فأتقاني بسؤته واستحييت ابن عمي أن استلبه1. وخرجت خيله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق". أ: هـ2.

وقد أورد البيهقي من طريق ابن إسحاق في موضع آخر من السيرة حيث قال: "وخرج عمرو بن عبد ود وهو مقنع بالحديد فنادى من يبارز؟ فقال علي رضي الله عنه أنا لها يانبي الله فقال إنه عمرو اجلس، ونادى عمرو ألا رجل وهو يؤنبهم"3 ويقول أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها أفلا تبرزون إليّ رجلاً فقام علي فقال أنا يا رسول الله فقال اجلس ثم نادى الثالثة فقال:

ولقد بححت من النداء

بجمعكم هل من مبارز؟

ووقفت إذ جبن المشجع

موقف القرن4 المناجز

زاد ابن كثير5:

ولذاك أني لم أزل

متسرعاً قبل الهزاهز

إن الشجاعة في الفتى

والجود من خير الغرائز

1 هكذا ثبت في كلا الروايات وهذا يرد على صاحب السيرة الحلبية حيث قال وعندي اشتباه في هذا لأن هذه الوقعة لعلي كانت يوم أحد مع طلحة بن أبي طلحة وهذا يرده نقله نفس الكلام من السهيلي. السيرة الحلبية 2/643.

2 المستدرك للحاكم 3/32-33، السنن الكبرى للبيهقي 6/308، 9/132.

3 التأنيب المبالغة في التوبيخ والتعنيف. النهاية في غريب الحديث 1/73.

4 القرن: بكسر المثناة المعجمة وهو الكفؤ في الشجاعة. المختار 532.

5 البداية والنهاية 4/106.

ص: 297

قال فقام علي رضي الله عنه فقال يا رسول الله: "أنا فقال إنه عمرو فقال وإن كان عمراً فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى إليه حتى أتاه وهو يقول:

لا تعجلن فقد أتاك

مجيب صوتك غير عاجز

ذو1 نية وبص

يرة

والصدق منجا كل فايز

إني لأرجو أن أق

_________

يم

عليك نائحة الجنائز

من ضربة نج

_________

لاء

يبقى ذكرها عند الهزاهز

وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم أعطاه سيفه ذا الفقار وألبسه درعه الحديد وعممه بعمامته وقال: "اللهم أعنه عليه" وفي لفظ "اللهم هذا أخي وابن عمي فلا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين"2.

فقال له عمرو من أنت؟ قال أنا علي قال ابن عبد مناف؟ قال أنا علي بن أبي طالب3. فقال يا ابن أخي من أعمامك من هو أسن منك

وساق إلى قوله

_________

1 كذا في الدلائل - وفي البداية 4/106 (في) وفي موضع آخر ذو نبهة.

2 ذكر هذا صاحب السيرة الحلية 2/641.

3 واسم أبي طالب - عبد مناف.

ص: 298

وضربه على حبل عاتقه فسقط وثار العجاج وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير فعرفنا أن علياً قد قتله فثم يقول علي

أعليّ تقتحم الفوارس هكذا

عني وعنهم أخروا أصحابي

اليوم تمنعني الفرار حفيظتي

ومصمم في الراس ليس بنابي

إلى أن قال

عبد الحجارة من سفاهة رأيه

وعبدت رب محمد بصوابي

قال ثم أقبل علي نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يتهلل1.

قال ابن هشام وألقى عكرمة رمحه يومئذ وهو منهزم عن عمرو فقال في ذلك حسان:

فرّ وألقى لنا رمح

هـ

لعلك عكرم لم تفعل

ووليت تعدو كعدو الظليم

ما إن يحور عن المعدل

ولم تلو ظهرك مستُأنساً

كان قفاك قفا فرعل

وقال ابن هشام الفراعل صغار الضباع2.

زاد ابن سعد حيث قال: قال علي أنا أبارزه يا رسول الله فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه وعممه

_________

1 الدلائل للبيهقي 3/439، البداية والنهاية 4/106- 107، والروض الأنف 3/279.

2 السيرة النبوية 3/262، بهامشها الروض الأنف 3/280.

ص: 299

وقال: "اللهم أعنه عليه"1.

وقال الزرقاني نقلاً عن الحاكم قال2: سمعت الأصم قال سمعت العطاردي قال سمعت يحى بن آدم3 يقول ما شبهت قتل علي عمراً إلا بقوله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوت} 4 الآية. والحديث يعتبر من الشواهد المقوية. وحديث قتل علي لعمرو ذكره غير واحد منهم: ابن سعد5 كما أخرجه الطبري عن الزهري6 مرسلاً وذكره ابن الأثير7. وعزاه ابن سيد الناس لابن إسحاق8، وقد ذَكَره علي المتقي الهندّي، وذكر بأن المحاملي أورده في أماليه وفيه زيادةٌ هذا نصها:

1 الطبقات الكبرى 2/68.

2 أي الحاكم، وانظر: المستدرك 3/36.

3 يحيى بن آدم بن سليمان الكوفي أبو زكريا مولي بني أمية - ثقة حافظ فاضل - من كبار التاسعة مات سنة ثلاث ومائتين (ع) . التقريب 373.

4 سورة البقرة الآية 25.

5 شرح المواهب اللدنية 2/115.

6 تاريخ الأمم والملوك 3/48.

7 الكامل 2/124.

8 عيون الأثر 2/61.

ص: 300

عن ابن عباس قال: "سَمِعْتُ عمر يقول جاء عمرو بن عبد ود فجعل يجول بفرسه حتى جاوز الخندق إلى أن قال:

صلى الله عليه وسلم: "اخرج يا علي" فقال له عمرو من أنت يا ابن أخي؟ قال أنا علي فقال إن أباك كان نديماً لي لا أحب قتالك

إلى أن قال عمرو إني نذرت أن أقتل حمزة فسبقني إليه وحشي ثم إني نذرت أن أقتل محمداً قال علي: "فانزل فنزل فاختلفا في الضربة فضربه علي فقتله"1.

وقد قيل إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أذن لعلي في مبارزة عمرو دعا الله وقال اللهم أعنه عليه بعد أن عممه وأعطاه سيفه ذا الفقار وكل ذلك بدون إسناد وذكروا أيضاً أن علياً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق اللهم أنك أخذت عبيدة بن الحارث يوم بدر، وحمزة بن عبد المطلب يوم أحد، وهذا علي فلا تدعني فرداً وأنت خير الوارثين" أ: هـ. هكذا ذكره في كنز العمال2وعزاه إلى الديلمي.

مقتل نوفل المخزومي:

قال ابن سعد: "ثم أًجْمع رؤساؤهم أن يغدوا يوماً فغدوا جميعاً ومعهم رؤساء سائر الأحزاب وطَلَبوا مضيقاً من الخندق يقحمون منه خيلهم إلى

1 كنز العمال 10/456- 457.

2 كنز العمال 10/456- 457.

ص: 301

النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلم يجدوا ذلك وقالوا: إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تصنعها قالو فمن هناك إذاً، فصاروا إلى مكان ضيق أغفله المسلمون فعبر عكرمة بن أبي جهل ونوفل بن عبد الله وضرار بن الخطاب وهبيرة بن ابي وهب وعمرو بن عبد ود وذكر المبارزة إلى أن قال: وولي أصحابه1هاربين وظفرت بهم خيولهم2وحمل الزبير بن العوام على نوفل بن عبد الله بالسيف فضربه فشقه باثنين"3.

وقال البيهقي: "وذكر ابن إسحاق خروجهم ودعاء عمرو إلى البراز على وجه آخر في الإسناد الذي ذكرناه فقال: "وكان ممن خرج يوم الخندق هبيرة بن أبي وهب4المخزومي وخرج نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي يسأل المبارزة فَخَرَج إليه الزُّبير بن العَوام رضي الله عنه فضرَبه فشقَّه باثنتين حتى فل في سيفه فلا5 فانصرف وهو يقول:

أني امرؤ احمي واحتمي

عن النبي المصطفى الأمي

1 يرجع الضمير في قوله - وولي أصحابه - إلى عمرو بن عبدود.

2 الضمير محتمل الرجوع إلى خيل المسلمين وقد يكون راجعا إلى خيل الكفار.

3 الطبقات الكبرى 2/68.

4 هو زوج أم هانئ - أخت على رضي الله عنه.

5 فل: أي في سيفه كسر. مختار الصحاح 512.

ص: 302

قال الزرقاني في شرحه للمواهب اللدنية: "وَبَرز نوفل بن عبد الله المخزومي فقتله الزبير بن العوام بالسيف حتى شقه اثنين فقطع سرجه حتى خلص إلى كاهل الفرس فقيل: ما رأينا سيفاً مثل سيفك قال ما هو السيف ولكنها الساعد" أ. هـ. 1

وقال ابن سيد الناس نقلاً عن ابن عائذ قوله: "واقبل نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي على فرس له ليوثبه الخندق فوقع في الخندق فقتله الله وكبر ذلك على المشركين وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا نعطيكم الدية على أن تدفعوه إلينا فندفنه فرد إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خبيث خبيث الدية فلعنه الله ولعن ديته ولا نمنعكم أن تدفنوه ولا أرب2 لنا في ديته وقيل أعطوه في جثته عشرة آلاف"3.

وقال ابن كثير: "وقد ذكر موسى بن عقبة أن المشركين إنما بعثوا يطلبون جسد نوفل بن عبد الله المخزومي حيث قتل وعرضوا عليه الدية فقال إنه خبيث

1 شرح المواهب 2/115.

2 الأرب: الحاجة. مختار الصحاح 13.

3 عيون الأثر 2/60.

ص: 303

خبيث الدية فلعنه الله ولعن ديته فلا أرب لنا في ديته ولسنا نمنعكم أن تدفنوه".

قال: وذكر يونس بن بكير عن ابن إسحاق حيث قال: "وخرج نوفل المخزومي فسأل المبارزة فذكر خروج الزبير إليه وقتله".

ثم قال: "وقد ذكر ابن جرير أن نوفلاً لما تورط في الخندق رماه الناس بالحجارة فجعل يقول قتلة أحسن من هذه يامعشر العرب فنزل إليه علي فقتله وطلب المشركين رمته1. من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن فأبى عليهم أن يأخذ منهم شيئاً ومكنهم من أخذه إليهم. قال وهذا غريب من وجهين" أ. هـ. 2ولم يبين وجه الغرابة.

ثم إن ابن جرير رواه عن الزهري والزهري رواه مرسلاً فهو ضعيف. لأن الآثار التي وردت كلها على اختلاف مراتبها تبين أن قاتله الزبير إلا أن يكونا اشتركا في قتله فالله أعلم.

على ضوء ما سبق نرى أن هناك اختلافاً حول قاتل نوفل:

1 رمته: جيفته.

2 البداية والنهاية 4/107.

ص: 304

(أ) فالأكثر أن الذي قتله الزبير وذلك بصريح الآثار وكثرة القائلين بذلك وقد تقدموا.

(ب) المعارض لهذا الرأي هو الطبري وقد تقدم قوله كما يفهم ذلك من كلام ابن الأثير1 وإن كان لم يصرح.

والحق أن قاتله هو الزبير وذلك لما يأتي:

قال ابن جرير كما في كنز العمال: حدثنا أبو كريب2 حدثنا وكيع3 عن سفيان عن عبد الكريم الجزري4 عن عكرمة5 قال لما كان يوم الخندق قام رجل من المشركين

1 الكامل 2/124 حيث قال بعد أن ذكر المبارزة وقتل علي عمراً قال وقتل من المشركين اثنان قتل أحدهما علي.

2 محمد بن العلاء بن كريب الهمذاني - أبو كريب- الكوفي مشهور بكنيته - ثقة حافظ - من العاشرة- مات سنة 249. وهو ابن سبع وثمانين سنة (ع) التقريب 314.

3 وكيع بن الجراح بن فليح الرؤاسي بضم الراء ثم المهملة أبو سفيان الكوفي - ثقة حافظ- عابد من كبار التاسعة مات في آخر أو أول سنة 197. وله سبعون سنة (ع) . التقريب 369.

4 عبد الكريم بن مالك الجزري أبو سعيد مولى بني أمية وهو الخضرمي بالخاء والضاد المعجمتين نسبة إلى قرية من اليمامة - ثقة - من السادسة مات سنة 127 (ع) التقريب 217.

5 عكرمة هو مولى ابن عباس وقد تقدم.

ص: 305

فقال من يبارز فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا زبير" فقالت صفية يا رسول الله واجدى1 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا زبير" فقام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيهما علا صاحبه قتله" فعلاه الزبير فقتله ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم بسلبه فنفله إياه2. والحديث على ضوء هذا السند مرسل ورجاله ثقات.

الاختلاف حول بيع جيفة الكافر:

أ- الكثيرون من أهل المغازي والسير يذكرون بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأخذ الدية - في الكافر الذي قتل في الخندق - بل دفعه إليهم وقال بأنه خبيث الجثة وتؤيدهم الآثار التالية:

قال المتقي الهندي وعزاه لابن أبي شيبة: "عن عكرمة أن نوفلاً أو ابن نوفل تردى به فرسه يوم الخندق فقتل فبعث أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بديته مائة من الإبل فأبي النبي صلى الله عليه وسلم وقال "خذوه فأنه خبيث الدية خبيث الجثة" 3.

1 واجدي من الوجد وهو الحزن وهو - بالجيم المعجمة - وفي المنتخب واحدى بالحاء المهملة ولعل الظاهر بالجيم المعجمة لأن صفية كان لها ابن آخر وحضر غزوة الخندق وكان يسمى - السائب - المعارف لابن قتيبة 96.

2 كنز العمال 10/455.

3 كنز العمال 10/455.

ص: 306

وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا نصر بن باب1 حدثنا حجاج عن الحكم2 عن مقسم3 عن ابن عباس أنه قال قتل المسلمون يوم الخندق رجلاً من المشركين فأعطوه بجيفته مالاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أدفعوا إليهم جيفته فإنه خبيث الجثة الدية فلم يقبل منهم شيئاً"4. والحديث ضعيف لوجود نصر بن باب فيه. قال ابن كثير: "وقد رواه البيهقي من حديث حماد بن سلمة5 عن

1 نصر بن باب أبو سهل الخراساني المروزي روى عن داود بن أبي هند وإبراهيم الصائغ وعنه أحمد وابن المديني ومحمد بن رافع. قال الذهبي: "تركه جماعة" وقال البخاري: "يرمونه بالكذب" وقال ابن معين: "ليس حديثه بشيء" وقال ابن حبان: "لا يحتج به" وقال أحمد: "ما كان به بأس إنما انكروا عليه حين حدث عن إبراهيم الصائغ قيل توفي سنة ثلاث وتسعين ومائة". انظر: ميزان الاعتدال 4/250

2 الحكم بن عتيبة بالمثناة ثم الموحدة مصغراً أبو محمد الكندي الكوفي - ثقة ثبت - فقيه إلا أنه ربما دلس من الخامسة مات سنة 113 أو بعدها وله نيف وستون (ع) . التقريب 80.

3 مقسم بكسر أوله ابن بجرة بضم الموحدة وسكون الجيم ويقال نجدة بفتح النون والدال أبي القاسم مولى عبد الله بن الحارث ويقال له مولى ابن عباس للزومه له - صدوق وكان يرسل من الرابعة مات سنة أحدى ومائة وماله في البخاري إلا حديث واحد روى له الجماعة إلا مسلماً. التقريب 346.

4 مسند الإمام أحمد 1/248- 271.

5 حماد بن سلمة بن دينار البصري أبو سلمة ثقة عابد أثبت الناس في ثابت وتغير حفظه بأخره من كبار الثامنة. مات سنة 167 روى له (خت م ع) . التقريب 82.

ص: 307

حجاج وهو ابن ارطأة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس أن رجلاً من المشركين قتل يوم الأحزاب فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا بجسده ونعطيك1 اثني عشر ألفاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا خير في جسده ولا في ثمنه2.

وقد رواه الترمذي حيث قال: حدثنا محمود بن غيلان3 حدثنا أبو أحمد4 حدثنا سفيان عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس: "أن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل من المشركين فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم"5. قال الترمذي: "غريب لا نعرفه إلا من حديث الحكم". ولعل استغراب الترمذي أتى بسبب أبي حمد الزبيري فإنه يخطئ في حديث الثوري والرواية هنا عنه.

1 كذا عند البيهقي وعند ابن كثير (نعطيهم) .

2 البداية والنهاية 4/107، انظر السنن الكبرى للبيهقي 9/133.

3 محمود بن غيلان العدوي مولاهم أبو أحمد المروزي نزيل بغداد - ثقة - من العاشرة مات سنة 239 وقيل بعد ذلك روى له (خ م ت ق س) . التقريب 330.

4 محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمرو بن درهم الأسدي أبو أحمد الزبيري الكوفي - ثقة ثبت - إلا أنه قد يخطئ في حديث الثوري من التاسعة مات سنة 203. روى له (ع) التقريب 304

5 سنن الترمذي 3/129، وفي الميزان 3/615 قال: حسنه الترمذي وهو غريب.

ص: 308

أما كلام أهل المغازي في ذلك فهو كما قال البيهقي: "وذكر ابن إسحاق في موضع آخر من هذا الكتاب عقب قتل الزبير لنوفل - أن عليا طعنه في ترقوته حتى أخرجها من مراقه فمات في الخندق". إلى أن قال: "وبعث المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترون جيفته بعشرة آلاف فقال صلى الله عليه وسلم: "هو لكم لا نأكل ثمن الموتى" أ. هـ. 1

وقال الديار بكري: "وفي معالم التنزيل: طلب المشركون جيفة نوفل بالثمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوه فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية" 2.أ. هـ:

(ب) في مقابل القائلين بعدم جواز بيع جيفة الكافر واعتمادهم على الآثار الواردة جاء عند الحاكم ما يخالف ذلك حيث أورد بسنده حديثاً يدل على الجواز وأخذ الدية.

حيث قال رحمه الله: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب3 حدثنا أحمد بن عبد الجبار4

1 دلائل النبوة للبيهقي 3/440.

2 تاريخ الخميس 1/488.

3 هو النيسابوري الأصم تقدم.

4 هو العطاردي تقدم.

ص: 309

حدثنا يونس بن بكير1 عن محمد بن عبد الرحمن2 عن الحكم بن عتيبة عن مقسم3 عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قتل رجل من المشركين يوم الخندق فطلبوا أن يواروه4 فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أعطوه الدية"5

قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.

درجة الحديث:

الحديث ضعيف لضعف ابن أبي ليلى ثم إن الحكم ثبت أنه لم يرو عن مقسم إلا خمسة أحاديث ليس هذا منها قال الذهبي: "حسنه الترمذي".

وقال عبد الحق6 في أحكامه وابن القطان7: "إسناده ضعيف"

1 يونس بن بكير أيضا تقدم.

2 محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي القاضي أبو عبد الرحمن - صدوق سيئ الحفظ جداً من السابعة مات سنة ثمان وأربعين 148 روى له الأربعة. التقريب 308.

3 الحكم ومقسم تقدمت ترجمتهما.

4 يواروه: يدفنوه من ذلك قوله تعالى {فأواري سوأة أخي} المائدة الآية 31.

5 المستدرك للحاكم 3/32.

6 عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حسين بن سعيد الحافظ العلامة الحجة أبو محمد الأزدي الأشبيلي ويعرف أيضا بابن الخراط من مؤلفاته الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم والأحكام الكبرى وغير ذلك ت سنة 582. تذكرة الحفاظ 4/1350.

7 هو علي بن محمد بن عبد الملك بن يحيى بن إبراهيم بن يحيى الكتامي ويعرف بابن القطان أبو الحسن محدث عارف بالرجال من أهل فارس قرطبي الأصل. من تصانيفه شرح أحكام عبد الحق وبيان الوهم والإيهام في الحديث ت سنة 628. انظر: تذكرة الحفاظ 4/1407.

ص: 310

ومنقطع لا سماع للحكم من مقسم إلا لخمسة أحاديث ما هذا منها وضعفاه من جهة ابن أبي ليلى وقول الترمذي أولى1.

ثم أن هناك اضطراباً في الإسناد فقد جاء عند الترمذي بسند فيه ابن أبي ليلى وجاء فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم رفض ديته وقال أنه خبيث الدية خبيث الجثة.

وعلى ذلك:

تبين أن الصحيح هو:

عدم جواز بيع جيفة الكافر أو أخذ ديته قال الحافظ أثناء شرحه لتبويب البخاري حيث قال (باب طرح جيف المشركين في البئر ولا يؤخذ لهم ثمن) ثم قال قوله (ولا يؤخذ لهم ثمن) قال: "أشار به لحديث ابن عباس أن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل من المشركين فأبي النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم" ثم قال: وذكر ابن إسحاق في المغازي: "أن المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم جسد نوفل بن عبد الله بن المغيرة وكان اقتحم الخندق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا حاجة لنا بثمنه ولا جسده"2.

1 الميزان 3/615.

2 فتح الباري 6/282.

ص: 311

وبهذا وغيره مما تقدم يتضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأخذ مقابل جثة نوفل لا دية ولا ثمناً بل إنه أعطاهم وقال إنه خبيث الدية خبيث الجثة وفي رواية قال: "لعنه الله ولعن ديته"1.

1 البداية والنهاية 4/107، عيون الأثر 2/60.

ص: 312