الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحكم التاسع: الاستعانة بالمشركين
مر بنا حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وفيه قال: "ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صفوان بن أمية فسأله أدرعا مائة وما يصلحها من عدتها"، فقال:"أغصبا يا محمد؟ قال: "بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك1".
وحديث صفوان بن أمية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه أدرعا يوم حنين، فقال:"أغصبا يا محمد؟ فقال: "لا، بل عارية مضمونة" 2.
وفي حديث الهجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استأجر عبد الله3 بن أريقط يدله على الطريق أثناء الهجرة وكان عبد الله مشركا4".
وهذه الأحاديث الدالة على جواز الاستعانة بالمشركين جاء ما ظاهره معارضا لها وهو ما رواه مسلم رحمه الله من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:
262-
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر فلما كان بحرة الوبرة 5، أدركه رجل قد كان
1 تقدم برقم (23) . وإسناده حسن".
2 تقدم تخريجه برقم (26) وهو صحيح بمجموع طرقه".
3 عبد الله بن أريقط - بضم الهمزة وفتح الراء وسكون الياء وكسر القاف وطاء مهملة- ويقال: "أريقد - بالدال المهملة بدل الطاء- ويقال: "أريق - بقاف - بصيغة التصغير -، الليثي ثم الدؤلي، دليل النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر لما هاجرا إلى المدينة".
قال ابن حجر: "لن أر من ذكره في الصحابة، إلا الذهبي في التجريد وقد جزم عبد الغني المقدسسي في السيرة له بأنه لم يعرف له إسلام وتبعه النووي في تهذيب الأسماء واللغات". (الإصابة 2/274 وكتاب المغني لابن طاهر الهندي ص 4) .
4 رواه ابن إسحاق عمن لا يتهم عن عروة عن عائشة أم المؤمنين". (انظر سيرة ابن هشام 1/484-485، والبداية والنهاية لابن كثير 3/178) .
5 قال ياقوت: "حرة الوبرة: "بثلاث فتحات مضبوطة في كتاب مسلم، وقد سكن بعضهم الباء، وهي على ثلاثة أميال من المدينة". (معجم البلدان 2/250) .
وقال النووي: "هكذا ضبطناه بفتح الباء، وكذا نقله القاضي عن جميع رواة مسلم، قال: "وضبطه بعضهم بإسكانها، وهو موضع على نحو أربعة أميال من المدينة". (شرح النووي على صحيح مسلم 4/479) .
وعلى تحديد ياقوت لحرة الوبرة، تكون بينها وبين المدينة (5) كيلومتر، لأن الميل يساوي 2/3 1كم". (انظر: تيسير العلام لعبد الله بن عبد الرحمن آل بسام 1/501، وغزوة بني المصطلق ص (56) .
يذكر منه جرأة ونجدة1، ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه، فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم جئت لأتبعك وأصيب معك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تؤمن بالله ورسوله" قال:"لا قال: "فارجع فلن أستعين بمشرك".
قالت: "ثُمَّ مضى حتّى إذا كنا2 بالشجرة3 أدركه لرجل فقال له كما قال أول مرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة، قال: "فارجع فلن أستعين بمشرك"، قال: "ثم رجع فأدركه بالبيداء، فقال له كما قال أول مرة، "تؤمن بالله ورسوله؟ " قال:"نعم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فانطلق" 4.
ومن هنا اختلف العلماء في جواز الاستعانة بالمشركين نظرا لاختلاف الأحاديث الواردة في ذلك".
قال النووي: "أثناء شرحه لحديث مسلم قوله "فارجع فلن أستعين بمشرك".
وقد جاء في الحديث الآخر"أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بصفوان بن أمية".
فأخذ طائفة من العلماء بالحديث الأوّل5 على إطلاقه".
وقال الشافعي وآخرون: "إن كان الكافر حسن الرأي في المسلمين، ودعت الحاجة إلى الاستعانة به استعان به، وإلا فيكره، وحمل الحديثين على هذين الحالين"6".
1 الجرأة: الإقدام على الشيء والنجدة الشجاعة وشدةالبأس". (النهاية1/253،و5/18) .
2 قوله: "حتى إذا كنا بالشجرة"، قال النووي:"هكذا هو في النسخ: "حتى إذا كنا"، فيحتمل أن عائشة كانت مع المودعين، فرأت ذلك ويحتمل أنها أرادت بقولها: "كنا" كان المسلمون". (شرح النووي على صحيح مسلم 4/479) .
3 الشجرة: "هي شجرة ذي الحليفة لأن مسجدها يسمى مسجد الشجرة بدليل ذكر البيداء بعد ذلك، والبيداء بعد ذي الحليفة مباشرة وفيها الآن معهد المعلمين ومركز التلفون اللاسلكي". (انظر: "المدينة بين الماضي والحاضر للعياشي ص 451، و470، وكتاب المناسك للحربي ص 425) .
4 صحيح مسلم3/1449كتاب الجهاد والسير، باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر".
5 يريد حديث مسلم".
6 شرح النووي على صحيح مسلم 4/479".
وقال الشافعي: "ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد مشركا أو مشركين في غزاة بدر وأبى أن يستعين إلا بمسلم، ثم استعان بعد بدر1 بسنتين بغزاة خيبر بعدد اليهود بني قينقاع كانوا أشداء واستعان صلى الله عليه وسلم في غزاة حنين سنة ثمان بصفوان بن أمية وهو مشرك، فالرد الأول إن كان لأن له الخيار أن يستعين بمشرك2 أو يرده كما يكون له رد المسلم من معنى يخافه منه أو لشدة به فليس واحد من الحديثين مخالفا للآخر، وإن كان رده لأنه لم ير أن يستعين بمشرك فقد نسخه ما بعده من استعانته بمشركين، فلا بأس أن يستعان بالمشركين على قتال المشركين إذا خرجوا طوعا ويرضخ3 لهم ولا يسهم لهم"4".
وقال البيهقي: "باب ما جاء في الاستعانة بالمشركين". ثم ساق حديث مسلم".
ثم قال: "قال الشافعي: "لعله رده رجاء إسلامه وذلك واسع للإمام، وقد غزا بيهود بني قينقاع بعد بدر وشهد صفوان بن أمية حنينا بعد الفتح وصفوان مشرك".
ثم قال البيهقي: "أما شهود صفوان بن أمية معه حنينا وصفوان مشرك فإنه معروف بين أهل المغازي".
وأما غزوه بيهود قينقاع فإني لم أجد إلا من حديث الحسن5 بن عمارة - وهو ضعيف - عن الحكم6 عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "استعان رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهود قينقاع فرضخ لهم ولم يسهم لهم" 7".
1 يريد بدر الموعد فإنها كانت بعد أحد وكانت في شهر شعبان سنة أربع من الهجرة، وبهذا يتجه كون خيبر بعدها بسنتين لأن غزوة خيبر كانت في السنة السادسة على قول بعض العلماء". (انظر:"البداية والنهاية لابن كثير 4/93-4و181". وفتح الباري 5/278 و7/393 و464) .
2 في الأصل "بمسلم"، ولعل ما أثبته هو الصواب بدليل ما بعده".
3 الرضخ: "هو العطية القليلة، بمعنى أنهم يعطون شيئا من الغنيمة ولا يسهم مثل سهام المقاتلين المسلمين". (النهاية 2/228) .
4الأم4/177وانظر: الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للحازمي ص218-220) .
5 هو: "الحسن بن عمارة البجلي مولاهم، أبو محمد الكوفي، قاضي بغداد، متروك، من السابعة (ت 153) ./ خت ت ق". (التقريب 1/169 وتهذيب التهذيب 2/304 والسنن الكبرى للبيهقي 9/53) .
6 الحكم: "هو ابن عتيبة".
7 السنن الكبرى 9/37، و53".
وقال ابن قدامة: "فصل: "ـ ولا يستعان بمشرك وبهذا قال ابن المنذر1 والجوزجاني2 وجماعة من أهل العلم".
وعن أحمد ما يدل على جواز الاستعانة به وكلام الخرقي3 يدل عليه أيضا عند الحاجة وهو مذهب الشافعي لخبر"....صفوان بن أمية".
ويشترط أن يكون من يستعان به حسن الرأي في المسلمين، فإن كان غير مأمون عليهم لم يجز الاستعانة به".
لأننا إذا منعنا الاستعانة بمن لا يؤمن من المسلمين مثل المخذل والمرجف فالكافر أولى".
ثم قال: "ووجه الأول ما روت عائشة قالت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر ثم ساق الحديث المتقدم عند مسلم4".
والخلاصة أن مذهب الشافعية والحنابلة والأحناف جواز الاستعانة بالمشركين بشرطين:
الأول: "الحاجة إليهم".
والثاني: "الوثوق من جهتهم".
واستدلوا بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد استعان بعبد الله بن أريقط في الهجرة ليدله على الطريق".
كما ستعان بصفوان بن أمية في غزوة حنين وقد مر بيان ذلك5".
وردوا على أدلة المانعين بأنها منسوخة بفعله صلى الله عليه وسلم وعمله، أو على أن ذلك محمول على عدم الحاجة إليهم،
1 ابن المنذر: "هو محمد بن إبراهيم، تقدم".
2 الجوزجاني: "هو أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق، مات سنة 256 أو 259". (تذكرة الحفاظ للذهبي 2/549) .
3 هو عمر بن الحسين بن عبد الله أبو القاسم الخرقي صاحب المختصر في الفروع الفقه الحنبلي وله مصنفات عدة أودعها بغداد وسافر فاحترقت كتبه ولم تكن قد انتشرت (مات بدمشق سنة 334هـ) . (تاريخ بغداد 11/234-235، والبداية والنهاية لابن كثير 11/214، معجم المؤلفين لكحالة 7/282-283".
4 المغني 8/414".
5 في حديث 23و26و27".
أو على عدم الوثوق بهم، وبذلك يحصل الجمع بين أدلة المنع وأدلة الجواز".
وقال ابن حجر: "والأقرب أن الاستعانة بالمشركين كانت ممنوعة ثم رخص فيها وعليه نص الشافعي"1".
وقال القرطبي: "تجوز الاستعانة بالمشرك إذا كان حكم الإسلام هو الغالب وإنما تكره الاستعانة بهم إذا كان حكم الشرك هو الظاهر، وهو قول أحمد والشافعي وأبي حنيفة"2".
وقال ابن قيم الجوزية - في أثناء كلامه على الأحكام المستنبطة من غزوة الحديبية - ومنها: "أن الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائز عند الحاجة، لأن عينه الخزاعي3 كان كافرا إذا ذاك، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو، وأخذه أخبارهم"4".
وهو قول بعض المعاصرين5".
وخلاصة المسألة أن الاستعانة بالمشركين جائزة بشروط وقرائن تحتف بها فإذا اختل شرط من الشروط ولم يؤمن جانب المشرك المستعان به لم تجز الاستعانة".
وإذا لم تكن هناك حاجة ملحة فلا يجوز الاستعانة، والاستعانة تكون إما بخبرته العسكرية وإما بأخذ معلومات تفيد المسلمين إن دعت الحاجة إلى ذلك، وقاعدة الإسلام في هذا الباب أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها وأن الحرب خدعة، فلا بد من توافر أسباب وانتفاء موانع للاستفادة من الخبرات الكافرة، حتى لا يقع المسلمون في شرك المخادعة ومكايد العدو، والأمر واسع في ذلك، كما أنه راجع إلى اجتهاد الإمام وأهل الحل والعقد في الأمة الإسلامية".
1 التلخيص الحبير 4/100-101 وانظر: "زاد المعاد لابن قيم 3/479 وسبل السلام للصنعاني 4/49-50 وروائع البيان للصابوني 1/402".
2 الجامع لأحكام القرآن 8/99-100 وانظر: "الهداية للمرغيناني 2/147، وأوجز المسالك إلى موطّأ مالك 9/424و425".
3 هو بسر بن سفيان الخزاعي الكعبي". (الإصابة 1/149) .
4 زاد المعاد 3/301و479". وصحيح البخاري 5/104-105 كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية".
5 هما: "الأستاذ محمد أبو زهرة في كتابه خاتم النبيين ص 858". والدكتور محمد سعيد البوطي فقه السيرة ص 234و392".