الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاتمة
بعد تلك الرحلة العلمية الممتعة في دراسة غزوة حنين وتحقيق مروياتها وترتيب أبوابها وفصولها ومباحثها ووضع كل جزئية علمية بازاء ما يشاكلها ويلائمها، وبعد الفراغ من ذلك التطواف الحثيث في غضون المصادر العلمية لرصد كل ما يمت بصلة إلى هذه الغزوة بعد تمحيصه وتحقيقه".
بعد ذلك كله أريد أن أنوّه إلى أبرز النتائج العلمية التي يحسن ذكرها ولا يجمل بالباحث إهمالها، وما من شك أن أي باحث يمارس عملا علميا معينا تمر به نتائج كثيرة وقضايا متعددة تستحق الإشادة والبيان.
ولكني أجتزئ بذكر أبرز هذه المعركة مشيرا إلى بعض ما توصلت إليه بإيجاز من خلال معايشتي لهذا الموضوع العلمي الخطير.
وفي البداية أود أن أقرر أنّ هذا البحث بهذه الصورة التي انتهيت إليها في دراسة هذه لغزوة لم يسبق له نظير - في حدود علمي - لم أطرافها وجمع شتاتها وحقق مروياتها ونظم معلوماتها على هذا النسق العلمي الذي أعانني الله على إنجازه، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
ولا ينبغي أن يغيب عن البال أن هذه المعركة وما تبعها من أحداث تشكل في سلسلة غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم خطورة بالغة، وأهمية قصوى فقد كان ينتظر نتائجها الفريقان: "المؤمنون والمشركون، وقد أدرك حماة الوثنية العربية أن نجاح المسلمين في غزواتهم السابقة وآخرها فتح مكة يعني الإجهاز عليهم والقضاء على معاقل العبادة الوثنية من أصنام وأوثان، ومن هنا رصدوا تحركات المسلمين نحوهم وجمعوا قواهم المادية والمعنوية وقرروا في أنفسهم أن هذه هي آخر تجربة يخوضها الإسلام مع الشرك، وفي الصورة المقابلة كان المسلمون قد اغتبطوا بانتصاراتهم المتلاحقة وكانوا على يقظة تامة بما يبيته المشركون من هوازن وثقيف وسائر القبائل الأخرى الباقية على شركها وضلالها، وعلم المسلمون بعزم المشركين المجاورين لمكة على القتال والنضال فأعدوا
العدة وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه تلك الأعداد الغفيرة التي لم يسبق لها مثيل في الكثرة، وكان في هذه الكثرة بعض المغموزين في إسلامهم من الأعراب والطلقاء وذوي الريب في حقيقة الإسلام، ودارت المعركة الخطيرة التي لا تقل خطورة عن معركة بدر الكبرى، فقد كانت معركة بدر الكبرى أول تجربة عسكرية للمسلمين مع المشركين كما كانت معركة حنين آخر تجربة عسكرية مع الوثنية.
فالأولى أرهبتهم وكسرت من حدتهم وجعلت للمسلمين هيبة في قلوب أعدائهم.
ومعركة حنين استفرغت قواهم واستنفدت سهامهم وأذلت جمعهم، فلم يجدوا بدا من الدخول في دين الله 1.
ولذلك لا يبالغ الباحث إذا قال إن معركة حنين هي خاتمة المطاف في مواجهة تحديات الوثنية العربية وتكون هذه النتيجة العظيمة أبرز نتائج هذه المعركة، ولا يعكر على ذلك اندحار المسلمين في بداية الغزوة فقد تبين بما لا يدع مجالا للشك أن ذلك كان تربية من الله لجنده وحزبه لكي لا يغفلوا عن مصدر انتصارهم ولا ينخدعوا بكثرتهم، والعبرة في الانتصارات الحربية إنما هي بالخاتمة التي تنتهي إليها المعارك الإنسانية، والنهاية كانت كما قال الله عز وجل:{ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} ، [سورة التوبة، الآية: 26] .
إنها نهاية العذاب للكافرين ونهاية النصر للمؤمنين، ومن مظاهر تعذيبهم الكافرين هدم أوثانهم وتحطيم معبوداتهم وأسرهم وغنيمة أموالهم وسبي ذراريهم ونسائهم وقتل العديد منهم، كما فصلت ذلك في أمكانه من البحث.
ومما ينبغي ملاحظته في هذه الغزوة أن الجيش الإسلامي لم يخل بعض أفراده من رواسب الوثنية لحداثة عهدهم بالجاهلية، فقد حن بعضهم إلى جاهليته حيث طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم ذات أنواط كما للمشركين ذات أنواط، وهذا الصنف من الناس كان من جملة الجيش الذي خرج لحرب المشركين، كما كان في
1 انظر: زاد المعاد لابن قيم الجوزية 3/479
الجيش الإسلامي أيضا الطلقاء والأعراب الجفاة وبعض المغموزين في إسلامهم، وقد سمح لهم الرسول صلى الله عليه وسلم جميعا أن يخرجوا معه مجاهدين.
والنتيجة التي يخلص منها الباحث إذا تأمل هذا الموقف أنه لا مانع أن يكون في جيوش المسلمين بعض ضعفاء الإيمان مع وجوب العمل على تقوية إيمانهم وتعليمهم بحكمة وصبر، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم واجه جفاء الأعراب وسؤال السائلين له أن يجعل لهم ذات أنواط وبعض الأخبار التي كانت تنقل إليه من بعض المغموزين، واجه كل ذلك بحلم وصبر وحكمة عظيمة، يجب الاقتداء به صلى الله عليه وسلم فيها، كما أنه صلى الله عليه وسلم تحامل بخلقه العظيم وشجاعته النادرة بعض النيات الخبيثة التي كانت تحاول اغتياله كما يتضح ذلك في موقفه من شيبة بن عثمان وما آل إليه أمر شيبة حيث صار جنديا من جنود الإسلام وعد فيمن ثبت يوم حنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن كان الهدف من خروجه إلى غزوة حنين أن يجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم غرة فيقتله ثأرا بأبيه كما حدَّث هو عن نفسه.
وقد اتهم صلى الله عليه وسلم وحاشاه من ذلك - بعدم العدالة وصبر على ذلك القول الجائر "اعدل يا محمد فإنك لم تعدل" وقال لقائله "ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل".
وهو في ذلك يقتدي بمن سبقه من الأنبياء الذين صبروا على الأذى، فقد قال في هذا الموقف:"رحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر".
وقد امتثل صلى الله عليه وسلم قول الله تبارك وتعالى له {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} . [سورة الأنعام، الآية: 90] .
ولقد واجه الرسول صلى الله عليه وسلم كل تلك المواقف الحرجة بما حباه الله به من حكمة وشجاعة وصبر وخلق عظيم، فحري بالدعاة إلى الله أن يتمثلوا بهذه المواقف ويأخذوا منها القدوة الحسنة لهم في حياتهم العملية، وهذا من الدروس العظيمة التي تقدمها لنا سيرته العطرة المليئة بمثل هذه النماذج العالية في حسم المواقف وعلاج أمراض القلوب ومواجهة النفسيات المختلفة.
ولا أدل على ذلك من الأسلوب الذي قسم به صلى الله عليه وسلم غنائم هذه الغزوة فقد منح أولئك المتطلعين إلى حطام الدنيا وأعطاهم عطايا عظيمة جعلتهم يطلقون عبارات
الشكر والثناء ويعترفون صراحة أن هذا العطاء الهائل لا يكون إلا من نبي لا يخشى الفقر، وهم على علم بأن كل بشر عادي ولو كان أكرم الناس يخشى الفقر، وقد صرح بعضهم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم يعطيه وإنه لأبغض الناس إليه فما يزال يعطيه حتى يصير أحب الناس إليه، وهذه هي النتيجة التي كان يتوخَّاها صلى الله عليه وسلم من قسم الغنائم على أولئك المغموزين ووكل أهل الإيمان واليقين إلى إيمانهم وثباتهم على الحق كما مر تفصيل ذلك في محله، غير أن هذا التقسيم في الأظهر خاص بتلك الغزوة فليس لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحرم الجيش الإسلامي المقاتل الغنائم التي غنموها ويعطيها لغيرهم والمسألة خلافية، ولكن هذا هو المذهب الأمثل الذي توصلت إليه في ذلك.
ولقد انهال على المدينة المنورة بعد هذه الغزوة الوفود من عرب الجزيرة معلنين إسلامهم، ومن تلك الوفود وفد هوازن ووفد ثقيف وكان ذلك من نتائج هذه المعركة الفاصلة بين الكفر والإيمان، ومن المعلوم أن العرب كانوا ينتظرون نتائج فتح مكة، فلما خضعت قريش للإسلام وهم قوم الرسول صلى الله عليه وسلم وسكان بيت الله الحرام ومصدر التشريع للعرب جميعا كان ذلك مؤذنا بزوال الشرك وتمكن التوحيد في أرض الجزيرة، والذين لم يخضعوا بعد، وغرتهم قوتهم وجموعهم هم قبائل هوازن وثقيف كما سبق، فلما دارت الدائرة عليهم للمسلمين لم يبق أمام العرب جميعا قوة تذكر لمقاومة الإسلام والمسلمين، فما بقي أمام الجاهليّين إلا أن يفدوا على عاصمة الإسلام المدينة المنورة ليعلنوا إسلامهم أو ليتفاوضوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك، وتعد سنة الوفود نتيجة طبيعية لهذه الغزوة وقد تعنت وفد ثقيف في شروطهم للدخول في الإسلام فطلبوا أن يبقوا على الكثير من أنماط الجاهلية مثل شرب الخمور والزنا وترك الصلاة لأنها دناءة في نظرهم، والتمسوا أن يدع الرسول صلى الله عليه وسلم صنمهم ثلاثة أعوام أو عاما أو شهراً لا يهدم وأن لا يغتسلوا من الجنابة ولا يزكوا ولا يجاهدوا في سبيل الله، وقد أنزلهم الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد ليشاهدوا عملياً عبادة المسلمين وأحسن استقبالهم وصبر على تعنتهم ولاطفهم كثيراً وتسامح معهم في ترك الزكاة والجهاد وبين عليه الصلاة والسلام أنهم إذا أسلموا فسيجاهدون ويزكون، ولقد أعلن القوم إسلامهم وكانوا جنودا في صفوف المسلمين على رغم ذلك التعنت والتشدد في الشروط التي أرادوا إملاءها على المسلمين، وما ذلك إلا بحكمته صلى الله عليه وسلم وعظيم رحمته بأمته، فقد طلب منه الصحابة في الطائف أن يدعو على ثقيف فقال:"اللهم اهد ثقيفاً وأت بهم" وقد تحقق ذلك فعلا.
وفي الختام لا يسعني إلا التأكيد على قضية ذات بال وهي أن من أبرز النتائج التي توصلت إليها من خلال هذه الدراسة لهذه الغزوة أن السيرة النبوية الطاهرة محفوظة بحفظ الله لها وأنها مروية بالأسانيد في كتب العلماء من السلف الصالح وأن الباحث البصير يتمكن في أي وقت شاء أن يقرر الحق في قضايا السيرة النبوية ويدرس أسانيدها وفق طرائق المحدثين ويعرف الصحيح والحسن والضعيف المنجبر والضعيف الذي لا ينجبر ويتمكن الدارس كذلك من نفي الكذب عن السيرة واستبعاد الإضافات التي لا أساس لها من الصّحّة، والتي تنافي مقام النبوّة، أو تلك الإضافات التي تبالغ في مقام النبي صلى الله عليه وسلم واحترامه على حساب الحقائق العلمية الثابتة، ولقد تبين لي من خلال بحثي في السيرة أن المسلمين يجب أن يطمئنوا إلى سيرة نبيهم وأنها هي هي كما رواها الخلف عن السلف وأن المزيد فيها يظهر لكل دارس يبغي الحق ولا يتبع الهوى في بحثه، وإذا كان الخبثاء من المستشرقين وأذنابهم يريدون أن يشككوا المسلمين في سيرة نبيهم وفي غير ذلك من قضايا دينهم، فإن الرد المناسب عليهم هو الاطلاع على التراث ودراسته دراسة علمية واعية وفق أسس علوم الحديث، ولعل هذا البحث المتواضع واحد من الدراسات العلمية الجادة التي تعيد الحق في نصابه وتدمغ الباطل فإذا هو زاهق، ولا شك أن في هذا البحث استدراكات كثيرة وتصويبات عديدة ووقفات علمية لها شأن وهي مبثوثة في ثناياه لمن أراد أن يطلع عليه.
ولا أدعي الكمال في ذلك، وإنما هو جهد متواضع ومحاولة جيّدة للوصول إلى الحق وإبراز هذا البحث في صورة واضحة، ولم أدخر شيئا في وسعي، ولكن الكمال المطلق لله وحده، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين".
كان الفراغ من تبييض هذا البحث في يوم الجمعة في السادس والعشرين من شهر شوال من عام ثلاث وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم.