الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحكم الخامس عشر: المؤلفة قلوبهم
مر بنا تعريف المؤلفة قلوبهم وأقسامهم ومقدار ما أخذ كل واحد منهم في غزوة حنين1.
ومن المعلوم أن المؤلفة قلوبهم هم أحد الأصناف الثمانية الذين نصت عليه آية مصارف الزكاة وأنهم يأخذون من الزكاة كغيرهم من بقية الأصناف وقصدنا من هذا المبحث أمران:
الأمر الأوّل: "هل أعطيات المؤلفة قلوبهم في غزوة حنين كانت من صلب الغنيمة أو من الخمس، أو من خمس الخمس".
الأمر الثاني: "هل حكم المؤلفة باقي أو أن ذلك زال بقوة الإسلام وعزة أهله".
أما الأمر الأول، فإن ظاهر الأحاديث الواردة في غزوة حنين تدل على أن العطاء المذكور كان من صلب الغنيمة".
ومنها: "حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن ناساً من الأنصار قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أموال هوازن ما أفاء، فطفق يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل، فقالوا: "يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشا ويدعنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم" الحديث.
وفي لفظ "لما فتحت مكة قسم الغنائم في قريش فقالت الأنصار: "إن هذا لهو العجب إن سيوفنا تقطر من دمائهم وإن غنائمنا ترد عليهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعهم فقال: ما الذي بلغني عنكم؟
قالوا: "هو الذي بلغك وكانوا لا يكذبون، قال: "أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا إلا بيوتهم وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم؟ " الحديث.
1 انظر ص (403) .
وفي لفظ "لما كان يوم حنين أقبلت هوازن، وغطفان وغيرهم بذراريهم ونعمهم ومع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف ومعه من الطلقاء فأدبروا عنه حتى بقي وحده قال: "فنادى يومئذ نداءين لم يخلط بينهما شيئا قال: "فالتفت عن يمينه فقال: "يا معشر الأنصار، فقالوا: لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك قال: ثم التفت عن يساره فقال: "يا معشر الأنصار، قالوا: "لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك، قال:"وهو على بغلة بيضاء فنزل فقال: أنا عبد الله ورسوله فانهزم المشركون وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم كثيرة فقسم في المهجرين والطلقاء ولم يعط الأنصار شيئا فقالت الأنصار: إذا كانت الشدة فنحن ندعى وتعطى الغنائم غيرنا، فبلغه ذلك فجمعهم في قبة فقال: يا معشر الأنصار ما حديث بلغني عنكم؟ فسكتوا، فقال: "يا معشر الأنصار أما ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون بمحمد تحوزونه إلى بيوتكم؟ قالوا: "بلى يا رسول الله رضينا" الحديث.
وفي لفظ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قريشا حديث عهد بجاهلية ومصيبة وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم"1".
وفي حديث عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه قال: لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا، فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم فقال:"يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، الحديث وفيه "ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ " 2".
فهذه الأحاديث وغيرها تدل بظاهرها على أن عطاء المؤلفة قلوبهم كان من صلب الغنيمة، إذ لو كان العطاء المذكور من الخمس أو من خمس الخمس، كما قال بعض العلماء3، لما كان يحق للأنصار أن يتكلموا بما تكلموا به، ولما أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولما ترضاهم بما ترضاهم به، ولناسب أن يقول لهم إنما أعطيت من
1 انظر حديث رقم (30 و40 و46 و204) .
2 انظر حديث (205) .
3 وهذا قول مالك والشافعي كما سيأتي في ص (687-688) .
أعطيت مما لا حق لكم فيه، ولأن الخمس مخصوص بأصناف1 وكذا خمس الخمس خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم يدعه حيث شاء لا اعتراض عليه في ذلك.
فلما لم يحصل شيء من ذلك، بل الذي حصل هو استطابة نفوس الأنصار بقوله صلى الله عليه وسلم "أما ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم" دلك ذلك على أن العطاء المذكور كان من صلب الغنيمة التي أحرزها الأنصار بسيوفهم ودمائهم، ولهم الحق فيها وقد أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وعوضهم عنها نفسه صلى الله عليه وسلم تطيبا لنفوسهم.
قال ابن حجر: "عند شرحه لحديث عبد الله بن زيد: "قوله: "ولم يعط الأنصار شيئا"، ظاهر في أن العطية المذكورة كانت من جميع الغنيمة".
وقال القرطبي2 في "المفهم" الإجراء على أصول الشريعة أن العطاء المذكور كان من الخمس ، ومنه كان أكثر عطاياه، وقد قال في هذه الغزوة للأعرابي "ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم".
وعلى الأول فيكون ذلك مخصوصا بهذه الواقعة، وقد ذكر السبب في ذلك في رواية قتادة عن أنس في الباب حيث قال:"إن قريشاً حديث عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم". اهـ.
ثم عقب ابن حجر بقوله: "الأوّل هو المعتمد، والذي رجحه القرطبي جزم به الواقدي، ولكنه ليس بحجة إذا انفرد فكيف إذا خالف3".
ثم قال ابن حجر: "ويؤكد أن العطاء المذكور كان من صلب الغنيمة ما جاء في رواية هشام بن زيد عن أنس: "إذا كانت شديدة فنحن ندعى، ويعطي الغنيمة غيرنا".
1 هم من سماهم الله في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} ، [سورة الأنفال، من الآية: 41] . الآية 41من سورة الأنفال.
2 هو أبو العباس: "أحمد بن عمر وهذا غير القرطبي المفسر".
3 وهو أيضا قول أبي عبيد". (انظر فتح الباري 8/49) .
وهذا ظاهر في أن العطاء كان من صلب الغنيمة بخلاف ما رجحه القرطبي1".اهـ.
وقال السهيلي: "وأما إعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين حتى تكلمت الأنصار في ذلك وكثرت منهم القالة"، وقالت: "يعطي صناديد العرب ولا يعطينا، وأسيافنا تقطر من دمائم، فللعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: "أنه أعطاهم من خمس الخمس، وهذا القول مردود لأن خمس الخمس ملك له ولا كلام لأحد فيه".
القول الثاني: "أنه أعطاهم من رأس الغنيمة، وأن ذلك خصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم لقوله تبارك وتعالى: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} ، [سورة الأنفال، من الآية: "1] . وهذا القول أيضا يرده ما تقدم من نسخ هذه الآية، وقد تقدم الكلام عليها في غزوة بدر2، غير أن بعض العلماء احتج لهذا القول بأن الأنصار لما انهزموا يوم حنين فأيد الله رسوله وأمده بملائكته، فلم يرجعوا حتّى كان الفتح، رد الله تعالى أمر الغنائم إلى رسوله من أجل ذلك فلم يعطهم منها شيئا وقال لهم: "ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، فطيب نفوسهم بذلك بعد ما فعل ما أمر به.
القول الثالث: "وهو الذي اختاره أبو عبيد أن إعطائهم كان من الخمس حيث يرى أن فيه مصلحة للمسلمين3".
وقال ابن قيم الجوزية: "وهذا العطاء الذي أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم لقريش، والمؤلفة قلوبهم، هل هو من أصل الغنيمة أو من الخمس، أو من خمس الخمس؟
فقال الشافعي ومالك: "هو من خمس الخمس، وهو سهمه صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله له من الخمس، وهو غير الصفي4 وغير ما يصيبه من المغنم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستأذن الغانمين في تلك العطية، ولو كان العطاء من أصل الغنيمة، لاستأذنهم لأنهم ملكوها
1 فتح الباري 8/48-50 ومغازى الواقدي 3/947-948، كتاب الأموال لأبي عبيد، 444 و447 و451-452 وشرح المواهب اللدنية 3/39".
2 انظر: "الروض الألف 5/227
3 الروض الألف 7/283".
4 الصفي: "ما كان يأخذه ريئس الجيش ويختاره لنفسه من الغنيمة قبل القسمة ويقال له الصفية ، والجمع الصفايا".
(النهاية لابن الأثير 3/40) .
بحوزها والاستيلاء عليها، وليس من أصل الخمس، لأنه مقسوم على خمس، فهو إذا من خمس الخمس".
وقد نصّ الإمام أحمد على أن النفل يكون من أربعة أخماس الغنيمة، وهذا العطاء هو من النفل، نفل النبي صلى الله عليه وسلم به رؤوس القبائل والعشائر لتألفهم به وقومهم على الإسلام، فهو أولى من تنفيل الثلث بعد الخمس، والربع بعضه1، لما فيه من تقوية الإسلام وشوكته وأهله، واستجلاب عدوه إليه، هكذا وقع سواء كما قال بعض هؤلاء2 الذين نفلهم:"لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لأبغض الخلق إلي فما زال يعطيني حتى أنه لأحب الخلق إليّ" فما ظنك بعطاء قوى الإسلام وأهله، وأذل الكفر وحزبه، واستجلب به قلوب رؤوس القبائل والعشائر الذين إذا غضبوا، غضب لغضبهم أتباعهم، وإذا رضوا، رضوا لرضاهم، فإذا أسلم هؤلاء، لم يتخلف عنهم أحد من قومهم، فلله ما أعظم هذا العطاء وما أجداه وأنفعه للإسلام وأهله3".أهـ.
والحاصل أن للعلماء في إعطاء المؤلفة قلوبهم يوم حنين ثلاثة أقوال:
القول الأول: "أنه من الخمس وبهذا قال الواقدي وابن سعد وأبو عبيد وابن حزم والحلبي ومال إلى هذا القول السهيلي، ورجحه القرطبي في (المفهم) 4".
وهو اختيار القاضي عياض فقد نقل عنه النووي أثناء شرحه لحديث أنس بن مالك في إعطاء المؤلفة قوله: "ليس في هذا تصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أعطاهم قبل إخراج الخمس، وأنه لم يحسب ما أعطاهم من الخمس، قال: "والمعروف في باقي الأحاديث
1 قوله: "فهو أولى بالجواز من تنفيل الثلث بعد الخمس والربع بعده"، معنى ذلكأن الإمام أو نائبه إذا دخل درا الحرب غازيا بعث سرية بين يديه تغير على العدو ويجعل لهم الربع بعد الخمس، فما قدمت به السرية من شيء أخرج خمسه ثم أعطى السرية ما جعل لهم وهو ربع الباقي ثم قسم ما بقي في الجيش والسرية معه، فإذا قفل راجعا بعث سرية تغير وجعل لهم الثلث بعد الخمس فما قدمت به السرية أخرج خمسه، ثم أعطى السيرة ثلث ما بقي ثم قسم باقيه في الجيش والسرية معه". (المغني لابن قدامة 8/379) .
2 هو صفوان بن أمية". انظر: "ص (691) .
3 زاد المعاد 3/484-485".
4انظر مغازي الواقدي 3/947-948". والطبقات الكبرى لابن سعد 2/153 وكتاب الأموال لأبي عبيد ص 444-447 و451-452، وجوامع السيرة لابن حزم ص 245 والسيرة الحلبية للبرهان الدين الحلبي 3/86 والروض الأنف للسهيلي 7/283".
أنه صلى الله عليه وسلم إنما أعطاهم من الخمس ففيه أن للإمام صرف الخمس وتفضيل الناس فيه على ما يراه وأن يعطي الواحد منه الكثير، وأنه يصرفه في مصالح المسلمين وله أن يعطي الغني منه لمصلحة 1".أهـ.
وبوب البخاري بقوله: "باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، رواه عبد الله2 بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم".
ثم ساق تحت هذا الباب جملة أحاديث من ضمنها الأحاديث الواردة في قسمة الغنائم يوم حنين3".
وقال ابن حجر: "قال إسماعيل القاضي: "في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم للمؤلفة من الخمس دلالة على أن الخمس إلى الإمام يفعل فيه ما يرى من المصلحة".
وقال الطبري: "استدل بهذه الأحاديث من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي من أصل الغنيمة لغير المقاتلين، قال: "وهو قول مردود بدليل القرآن والآثار الثابتة".
ثم قال ابن حجر: "قيل ليس في الأحاديث الباب شيء صريح بالإعطاء من نفس الخمس4".
القول الثاني: "أن العطاء كان من خمس الخمس وهو قول مالك والشافعي وابن خلدون5".
القول الثالث: "أن العطاء المذكور كان من صلب الغنيمة وهو اختيار ابن تيمية وابن حجر6".
1 شرح النووي على صحيح مسلم 3/98".
2 قال ابن حجر: "قوله: "رواه عبد الله بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم"، يشير إلى حديثه الطويل في قصة حنين وسيأتي هناك موصولا مع الكلام عليه والغرض منه هنا قوله: "(لما أفاء الله على رسوله يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم) . الحديث (فتح الباري 6/252) . وانظر الحديث برقم (205) .
3 صحيح البخاري 4/73 كتاب فرض الخمس".
4 فتح الباري 6/252 و8/49-50، وانظر:"شرح المواهب اللدنية للزرقاني 3/39".
5 السنن الكبرى للبيهقي 6/338 وزاد المعاد لابن قيم الجوزية 3/484 وتاريخ ابن خلدون 2/48 وأوجز المسالك إلى موطأ مالك لكاندهلوي 8/251".
6 الفتاوى لابن تيمية 17/493-495، وفتح الباري 8/49-50".
وعن الإمام أحمد أن النفل كان من أربعة أخماس الغنيمة1".
قال ابن قيم الجوزية: "وهذا العطاء هو من النفل2".
وظاهر الأحاديث الواردة في غزوة حنين أن العطاء المذكور كان من صلب الغنيمة وأن الأنصار لما تكلموا في ذلك حيث إنه لم يصبهم من الغنيمة جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم: "أما ترضون يا معشر الأنصار أن يرجع الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم" قالوا: "رضينا، فكان في ذلك تعويضا لهم عن الغنيمة التي لم ينالوا منها شيئاً".
قال محمد الأمين الشنقيطي: "اعلم أن جماهير علماء المسلمين على أن أربعة أخماس الغنيمة للغزاة الذين غنموها، وليس للإمام أن يجعل تلك الغنيمة لغيرهم، ويدل لهذا قوله تعالى: {غَنِمْتُمْ} 3 فهو يدل على أنها غنيمة لهم فلما قال: {فَأَنَّ لله خُمْسَهُ} ، علمنا أن الأخماس الأربعة الباقية لهم لا لغيرهم فقوله: {فَأَنَّ لله خُمْسَهُ} ، أي: "وللغانمين ما بقي". وهذا القول هو الحق الذي لا شك فيه، وحكى الإجماع عليه غير واحد من العلماء".
ثم قال: "وأما ما وقع في قصة حنين فالجواب عنه ظاهر، هو أن النبي صلى الله عليه وسلم استطاب نفوس الغزاة عن الغنيمة ليؤلف بها قلوب المؤلفة قلوبهم لأجل المصلحة العامة للإسلام والمسلمين، ويدل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما سمع أن بعض الأنصار قال: "يمنعنا ويعطي قريشا، وسيوفينا تقطر من دمائهم، جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم وكلمهم كلامه المشهور البالغ في الحسن ومن جملته أنه قال لهم:"ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم". إلى آخر كلامه، فرضي القوم، وطابت نفوسهم، وقالوا:"رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وحظا، وهذا ثابت في الصحيح4".إهـ".
وأما الأمر الثاني: "وهو هل حكم المؤلفة قلوبهم باق أو أن ذلك منسوخ فقد
1 كتاب المغني لابن قدامة 8/384-386، والإنصاف لعلي بن سليمان المرادي 4/170".
2 زاد المعاد 3/484".
3 يشير إلى قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} ، الآية.
4 أضواء البيان 2/354و356-357 وانظر ص 362".
ساق الترمذي حديث صفوان بن أمية قال: "أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الخلق إلي فما زال يعطيني حتى إنه أحب الخلق إلي"1.
ثم قال: "وقد اختلف أهل العلم في إعطاء المؤلفة قلوبهم، فرأى أكثر أهل العلم أن لا يعطوا وقالوا إنما كانوا قوما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يتألفهم على الإسلام حتى أسلموا، ولم يروا أن يعطوا اليوم من الزكاة على مثل هذا المعنى".
وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة وغيرهم، وبه يقول أحمد2 وإسحاق".
وقال بعضهم: "من كان اليوم على مثل حال هؤلاء ورأى الإمام أن يتألفهم على الإسلام فأعطاهم جاز ذلك وهو قول الشافعي3".
وقال النووي في أثناء شرحه لحديث صفوان وما ورد في معناه: "وفي هذا مع ما بعده إعطاء المؤلفة، ولا خلاف في إعطاء مؤلفة المسلمين، لكن هل يعطون من الزكاة؟
فيه خلاف، والأصح عندنا أنهم يعطون من الزكاة ومن بيت المال".
والثاني: "لا يعطون من الزكاة، بل من بيت المال خاصة، وأما مؤلفة الكفار فلا يعطون من الزكاة، وفي إعطائهم من غيرها خلاف، الأصح عندنا لا يعطون، لأن الله تعالى قد أعز الإسلام عن التألف، بخلاف أول الأمر، ووقت قلة المسلمين4".إهـ".
والظاهر في هذا هو جواز إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة ومن غيرها سواء أكانوا مسلمين أم كافرين، لأن الله تعالى قال:{وَالمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُم} والآية عامة وهي أصل في جواز إعطاء المؤلفة من الزكاة ولم تخصص مسلما من غيره، وهي محكمة غير منسوخة". وأما إعطاء مؤلفة الكفار من بيت المال من خمس الخمس أو نحوه فذلك زيادة لهم على إعطائهم من الزكاة".
1 تقدم تخريجه برقم (185) .
2 هو قول مرجوح لأحمد، انظر ص (692) .
3 سنن الترمذي 2/88-89 كتاب الزكاة، باب ما جاء في إعطاء المؤلفة قلوبهم وقوله وهو قول الشافعي، يوضح قول الشافعي ما قاله النووي".
4 شرح النووي على صحيح مسلم 5/169 وكفاية الأخيار لتقي الدين أبي بكر الحسيني 1/122-123".
ومن المعلوم أن من أهداف التأليف استمالة القلوب إلى الإسلام أو تثبيتها عليه، أو كسب أنصار له، أو كف شر عن دعوته ودولته، فهو بهذا المعنى يحقق مصلحة عامة للمسلمين، ولا تهدر هذه المصلحة لأن من القواعد المقررة أنه متى وجدت المصلحة فثم شرع الله، وما كان كذلك فإن حكمه باق متى دعت الحاجة إليه.
قال ابن هبيرة: "اختلف العلماء في المؤلفة قلوبهم، هل بقي الآن لهم حكم؟ "
فقال أحمد: "حكمهم باق لم ينسخ، ومتى وجد الإمام قوماً من المشركين فخاف الضرر بهم، وعلم أن في إسلامهم مصلحة، وجاز أن يتألفهم من مال الزكاة".
وعنه رواية أخرى أن حكمهم منسوخ1". إهـ.
وقال ابن قدامة: "وأحكام الأصناف الثمانية المنصوص عليهم في آية براءة2،كلها باقية، وبهذا قال الحسن والزهري، وأبو جعفر3 محمد بن عليّ4".
وقال علاء الدين المرداوي: "الصحيح من المذهب أن حكم المؤلفة باق وعليه الأصحاب، وهو من المفردات5".
وقال أبو عبيد: "الآية محكمة، لا نعلم لها ناسخا من كتاب ولا سنة، فإذا كان قوم هذه حالهم، لا رغبة لهم في الإسلام، لما عندهم من العز والأنفة فرأى الإمام أن يرضخ لهم من الصدقة، فعل ذلك لخلال ثلاث:
إحداهن: "الأخذ بالكتاب والسنة".
والثانية: "البقيا على المسلمين".
والثالثة: "أنه ليس بيائس منهم إن تمادى بهم الإسلام، أن يتفقهوه وتحسن فيه رغبتهم 6".إهـ.
1الإفصاح 1/224".
2 هي قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} ، [سورة التوبة، من الآية: "60] ".
3 أبو جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين الهاشمي، عده النسائي وغيره في فقهاء التابعين بالمدينة". (تذكرة الحفاظ للذهبي 1/124-125) وقد تقدمت ترجمته في حديث (19) .
4 المغني 2/666".
5 الإنصاف 3/228 وقوله: "من المفردات" يعني أن الإمام أحمد تفرد بالقول ببقاء حكم المؤلفة عن الأئمة الثلاثة".
6 كتاب الأموال ص 797".
قلت: "وهذا هو الهدف الأساسي من التأليف هو ترغيب الناس في الدخول في هذا الدين الحنيف، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي على الإسلام ما لايعطي على غيره، فقد جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: قال: "ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه، قال:"فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: "يا قوم! أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة".
وفي لفظ: "أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنما بين جبلين فأعطاه إياه فأتى قومه فقال: "أي قوم! فوالله! إن محمد ليعطي عطاء ما يخاف الفقر".
فقال أنس: "إن1 كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنياوما عليها"2".
وذهب الحنفية والشعبي ومالك والشافعي إلى أن هذا المصرف "المؤلفة قلوبهم" إنما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم، وأما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام فإنهم لا يعطون من الزكاة شيئا لزوال العلة التي من أجلها كان إعطاؤهم وهي الحاجة إليهم، فقد أعز الله الإسلام وأهله، وأغنى عن تألفيهم، فلا يعطى مشرك تأليفا بحال من الأحوال.
ورأوا أن حكمهم منسوخ بإجماع الصحابة على ذلك، فإن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم يعطيا المؤلفة قلوبهم شيئا من الصدقات، ولم ينكر عليها أحد من الصحابة فيكون إجماعا منهم 3.
ورد هذا ابن قدامة بقوله:
ولنا: "كتاب الله وسنة رسوله، فإن الله تعالى سمى المؤلفة في الأصناف الذين
(إن) هي المخففة من الثقيلة وإذا أهملت لزمتها اللام فارقة بينها وبين (إن) النافية وهي هنا مهملة لوجود اللام في جوابها "ليسلم". (شرح ابن عقيل 1/378) .
2 تقدم تخريجه برقم (194) وانظر حديث (197) .
3 كتاب الإفصاح لابن هبيرة 1/224-225، المغني لابن قدامة 2/666، الهداية للمرغيناني1/112،والشرح الكبير لأحمد الدردير مع حاشية الدسوقي1/495، والأم للشافعي2/61،والمنتقى للباجي2/153،والمجموع للنووي6/210، وكفاية الأخيار لتقي الدين أبي بكر الحسيني 1/122، نصب الراية للزيلعي 2/394-395، نيل الأوطار للشوكاني 4/187 وفتح القدير له 2/373".
سمى الصدقة لهم والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى حكم فيها فجزأها ثمانية أجزاء"1.
وكان يعطي المؤلفة كثيرا في أخبار مشهورة، ولم يزل كذلك حتى مات، ولا يجوز ترك كتاب الله وسنة رسوله إلا بنسخ والنسخ لا يثبت بالاحتمال، ثم إن النسخ، إنما يكون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لأن النسخ إنما يكون بنص، ولا يكون النسخ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وانقراض زمن الوحي، ثم إن القرآن لا ينسخ إلا بالقرآن، وليس في القرآن نسخ كذلك ولا في السنة، فكيف يترك الكتاب والسنة بمجرد الآراء والتحكم، أو بقول صحابي أو غيره؟
على أنهم لا يرون قول الصحابي حجة يترك بها قياس، فكيف يتركون به الكتاب والسنة؟
وقال الزهري: "لا أعلم شيئا نسخ حكم المؤلفة على أن ما ذكروه من المعنى لا خلاف بينه وبين الكتاب والسنة، فإن الغنى عنهم لا يوجب رفع حكمهم وإنما يمنع عطيتهم حال الغنى عنهم فمتى دعت الحاجة إلى إعطائهم أعطوا، فكذلك جميع الأصناف إذا عدم منهم صنف في بعض الزمان سقط حكمه في ذلك الزمان خاصة، فإذا وجد عاد حكمه، كذا هنا2".
وقال الطبري: "والصواب من القول في ذلك عندي: "أن الله جعل الصدقة في معنيين: "أحدهما سد خلة المسلمين، والآخر معونة الإسلام وتقويته، فما في معونة الإسلام وتقوية أسبابه، فإنه يعطاه الغني والفقير، لأنه لا يعطاه من يعطاه بالحاجة منه إليه، وإنما يعطاه معونة للدين، وذلك كما يعطى الذي يعطاه بالجهاد في سبيل الله، فإنه يعطى ذلك غنياً كان أو فقيرا للغزو لا لسد خلته، وكذلك المؤلفة قلوبهم يعطون ذلك وإن كانوا أغنياء، استصلاحاً بإعطائهم أمر الإسلام، وطلب تقويته
1 هذا الحديث رواه أبو داود من حديث زياد بن الحارث الصدائي قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته، فذكر حديثا طويلا، قال: "فأتاه رجل فقال: "أعطني من الصدقة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك".
(سنن أبي داود 1/378-379 كتاب الزكاة، باب من يعطى من الصدقة وحد الغني) وفيه: "عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي" قال ابن حجر في التقريب 1/480: "ضعيف في حفظه، ووقع في ميزان الاعتدال للذهبي2/561 "عبد الله بن زياد".
2 المغني 2/666 وفتح القدير للشوكاني 2/373".
وتأييده، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من أعطى من المؤلفة قلوبهم، بعد أن فتح الله عليه الفتوح، وفشا الإسلام وعز أهله، فلا حاجة لمحتج بأن يقول:
لا يتألف اليوم على الإسلام أحد لامتناع أهله بكثرة العدد ممن أرادهم وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من أعطى منهم في الحال التي وصفت1".
وقال الفخر الرازي: "والصحيح أن حكم المؤلفة غير منسوخ، وأن للإمام أن يتألف قوما على هذا الوصف، ويدفع إليهم سهم المؤلفة، لأنه لا دليل على نسخه ألبتة2".
وقال ابن العربي المالكي: "والذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم".
وهذا بناء على أن العلة في إعطائهم هي حاجتنا إليهم، أما على القول بأن القصد من إعطائهم ترغيبهم في الإسلام، أو تثبيتهم عليه لإنقاذهم من عذاب الله تعالى فيعطون مطلقا 3".
وقال الشوكاني: "والظاهر جواز التأليف عند الحاجة إليه، فإذا كان في زمن الإمام قوم لا يطيعونه إلا للدنيا ولا يقدر على إدخالهم تحت طاعته بالقسر والغلب فله أن يتألفهم ولا يكون لفشو الإسلام تأثير لأنه لم ينفع في خصوص هذه الواقعة 4".إهـ".
وبهذا التقرير يعلم بأن حكم المؤلفة باق لم ينسخ فإن التأليف حكم باق في كتاب الله عز وجل، وقد جعلهم الله أحد الأصناف الثمانية الذين تصرف فيهم الزكاة، وجاءت بهذا السنة المتواترة القاطعةن والنسخ لم يثبت كما تقدم تقريره، وليس في منع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما للمؤلفة ما يفيد النسخ، وغاية ما فيه أن ذلك لأجل عزة الإسلام ومنعته، فإذا دعت الحاجة إلى التأليف فالحكم باق والمصلحة تقتضيه، وهذا ما رجحه المحققون من العلماء كما سبق بيانه".
1 جامع البيان 10/163
2 تفسير الرازي 16/111
3 أحكام القرآن 2/966 وتحفة الأحوذي 3/336".
4 نيل الأوطار 4/187، والسيل الجرار 2/57-58".