الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحكم العاشر: العارية من حيث الضمان وعدمه
العارية: "بتشديد التحتية وتخفيفها، ويقال عارة، وهي مأخذوة من عار الفرس إذا ذهب، لأن العارية تذهب من يد المعير".
وهي في الشرع: "عبارة عن تمليك المنافع بغير عوض1".
وجاء في هذا:
حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وفيه "ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صفوان بن أمية فسأله أدراعا مائة درع، وما يصلحها من عدتها، فقال: "أغصبا يا محمد؟ قال: "بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك"2
حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار من صفوان بن أمية أدراعاً وسنانا في غزوة حنين". فقال: "يا رسول الله أعارية مؤداة؟ قال: "عارية مؤداة"3.
263-
حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "استعار رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية سلاحا، فقال صفوان: "أمؤداة يا رسول الله؟ قال: "نعم"4.
وفي بعض ألفاظ حديث صفوان بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم حنين أدراعا فقال: "أغصبا يا محمد؟
1 القاموس المحيط 2/97، وكتاب المغني لابن قدامة 5/220، وكتاب الهداية للمرغيناني 3/220، وفتح الباري 5/241، كفاية الأخيار لتقي الدين الحسيني 1/180، وحاشية الدسوقي 3/433".
2 تقدم برقم (23) .
3 تقدم برقم (27) .
4 سنن الدارقطني 3/38".
قال: "بل عارية مضمونة" قال: "فضاع بعضها فعرض عليه رسول الله أن يضمنها له، قال: "أنا اليوم في الإسلام أرغب". وفي لفظ "إنا قد فقدنا من أدراعك أدراعا فهل نغرم لك؟ قال: "لا يا رسول الله، لأن في قلبي اليوم ما لم يكن يومئذ".
قال أبو داود: "وكان أعاره قبل أن يسلم، ثم أسلم"1.
ومن خلال هذه النصوص وغيرها اختلف العلماء في ضمان العارية وعدمه".
ومنشأ الخلاف من قوله "عارية مضمونة".
قال ابن قيم الجوزية: "وفيها2 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرط لصفوان في العارية الضمان، فقال: "عارية مضمونة".
فهل هذا إخبار عن شرعه في العارية، ووصف لها بوصف شرعه الله فيها، وأن حكمها الضمان كما يضمن المغصوب، أو إخبار عن ضمانها بالأداء بعينها ومعناه:"أني ضامن لك تأديتها، أنها لا تذهب، بل أردها إليك بعينها؟ هذا مما اختلف فيه الفقهاء".
فقال الشافعي وأحمد بالأول: "وأنها مضمونة بالتلف"3.
وقال أبو حنيفة ومالك بالثاني: "وأنها مضمونة بالرد على تفصيل في مذهب مالك وهو أن العين إن كانت مما لا يغاب عليه4، كالحيوان والعقار، لم تضمن بالتلف إلا أن يظهر كذبه، وإن كانت مما يغاب عليه كالحلي ونحوه، ضمنت بالتلف".
إلا أن يأتي ببينة تشهد على التلف.
1 تقدم تخريج الحديث برقم (26) .
2 أي في غزوة حنين من الأحكام".
3يعني إذا تلف في غير الاستعمال المأذون فيه، ضمنها المستعير وإن لم يفرط". (انظر: كفاية الأخيار1/181والفقه على المذاهب الأربعة لعبد الرحمن الجزيري3/286 و288) .
4 يعني الذي لا يمكن إخفاؤه وستره عن الأعين في العادة كالعقار والحيوان". والذي يغاب عليه: "الذي يمكن اخفاؤه في صندوق أو دولاب، كالثياب، والحلي فهذا يضمنه المستعير دون الأوّل". (الفقه على المذاهب الأربعة 3/285-286 والشرح الكبير لأبي البركات أحمد الدردير 3/436 على هامش حاشية الدسوقي".
وقال الشوكاني: "واستدل من فرق بين الحيوان وغيره بحديث صفوان، ولا يخفى أن دلالته على أن غير الحيوان مضمون لا يستفاد منها أن حكم الحيوان بخلافه". (نيل الأوطار 5/334) .
وسر مذهبه أن العارية أمانة غير مضمونة - كما قال أبو حنيفة - إلا أنه لا يقبل قوله فيما يخالف الظاهر، فلذلك فرق بين ما يغاب عليه، وما لا يغاب عليه".
ومأخذ المسألة أن قوله صلى الله عليه وسلم لصفوان بن أمية: "بل عارية مضمونة" هل أراد به أنها مضمونة بالرد أو بالتلف؟
أي أضمنها إن تلفت، أو أضمن لك ردها، وهو يحتمل الأمرين، وهو في ضمان الرد أظهر لثلاثة أوجه:
أحدها: "أن في اللفظ الآخر: "بل عارية مؤداة" فهذا يبين أن قوله "مضمونة" المراد به: "المضمونة بالأداء".
الثّاني: "إنه لم يسأله عن تلفها، وإنما سأله هل تأخذها مني أخذ غصب تحول بيني وبينها؟ فقال: "لا، بل أخذ عارية أؤديها إليك".
ولو كان سأله عن تلفها وقال: "أخاف أن تذهب، لناسب أن يقول: "أنا ضامن لها إن تلفت".
الثالث: "أنه جعل الضمان صفة لها نفسها، ولو كان ضمان تلف، لكان الضمان لبدلها، فلما وقع الضمان على ذاتها، دل على أنه ضمان أداء".
ثم قال: "فإن قيل: "ففي القصة أن بعض الدروع ضاع، فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يضمنها، فقال:"أنا اليوم في الإسلام أرغب".
قيل: "هل عرض عليه أمرا واجبا أو أمرا جائزا مستحبا الأولى فعله، وهو من مكارم الأخلاق والشيم، ومن محاسن الشريعة؟
وقد يترجح الثاني بأنه عرض عليه الضمان، ولو كان الضمان واجبا، لم يعرضه عليه، بل كان يفي له به".
ويقول: "هذا حقك، كما لو كان الذاهب بعينه موجودا فإنه لم يكن ليعرض عليه رده فتأمله"1". إهـ.
1 زاد المعاد 3/481-483 والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 6/112".
فابن القيم رحمه الله تعالى يرى أن العارية مضمونة بذاتها، لقوله:"صلى الله عليه وسلم "بل عارية مضمونة" وأنها إذا تلفت فلا ضمان عندئذ".
وذهب الصنعاني: "إلى أن العارية تضمن إذا شرط صاحبها الضمان لقوله: "صلى الله عليه وسلم "عارية مضمونة" 1".
وذهب جمهور العلماء ومنهم الشافعي وأحمد إلى أن العارية إذا استعملت في غير المأذون فيه فتلفت وجب ضمانها بمثلها إن كانت من ذوات الأمثال، وبقيمتها يوم تلفها إن لم تكن من ذوات الأمثال، واستدلوا بالأحاديث المتقدمة وما في معناها".
قال الشافعي: "العارية كلها مضمونة الدواب والرقيق والثياب لا فرق بين شيء منها، فمن استعار شيئا فتلف في يده بفعله أو بغير فعله فهو ضامن له، والأشياء لا تخلو أن تكون مضمونة أو غير مضمونة، فما كان منها مضموناً مثل الغصب وما أشبهه فسواء ما ظهر منها هلاكه وما خفي فهو مضمون على الغاصب والمستسلف جنيا فيه أو لم يجينا، أو غير مضمونة مثل الوديعة فسواء ما ظهر هلاكه وما خفي فالقول فيها قول المستودع مع يمينه"2".
وقال ابن قدامة: "ويجب رد العارية إن كانت باقية بغير خلاف، ويجب ضمانها إذا كانت تالفة تعدى فيها المستعير أو لم يتعد، روى ذلك ابن عباس وأبو هريرة 3".
وإليه ذهب عطاء4 والشافعي وإسحاق".
لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صفوان "بل عارية مضمونة".
1 سبل السلام 3/67-69".
2 الأم 3/217-218 ومختصر المزني 3/32 مع الأم، وسنن الترمذي 2/369 وكفاية الأخيار لتقي الدين الحسيني 1/180-182".
3 أثرهما في الأم 3/218". قال الشافعي: "وقد قال أبو هريرة وابن عباس رضي الله عنهما إن العارية مضمونة". وكان قول أبي هريرة في بعير استعير فتلف انه مضمون".
4 عطاء: "هو ابن أبي رباح، وإسحاق: "هو ابن راهويه".
264-
وروى الحسن1 عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه"2.
ولأنه أخذ ملك غيره لنفع نفسه منفردا بنفعه من غير استحقاق، ولا إذن في الإتلاف فكان مضمونا كالغاصب، والمأخوذ على وجه السوم3".
وقال علاء الدين المرداوي: "قال الحارثي4: "نص الإمام أحمد رحمه الله على ضمان العارية، وإن لم يتعد فيها كثير متكرر جداً من جماعات، وقف على رواية اثنين وعشرين رجلاً وذكرها 5".
وذهب مالك وأبو حنيفة والحسن البصري والنخعي والشعبي وعمر بن عبد العزيز والثوري الأوزاعي وابن شبرمة6 إلى أن العرية أمانة لا يجب ضمانها إلا بالتعدي".
265-
لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس
1 الحسن: "هو البصري، وسمرة: "هو ابن جندب، صحابي جليل".
2 رواه أبو داود في سننه 2/265 كتاب البيوع، باب في تضمين العارية".
والنسائي في السنن الكبرى كما في تحفة الأشراف 4/66 حديث 4584".
والترمذي في سننه 2/368 كتاب البيوع، باب ما جاء أن العارية مؤداة". وقال:"هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه في سننه 2/802 كتاب الصدقات، باب العارية". والدارمي 2/178 كتاب البيوع، باب في العارية مؤداة". وأحمد في المسند 5/8و12و13". والحاكم: "المستدرك 2/47". والبيهقي: "السنن الكبرى 6/90و95". الجميع من طريق قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب". قال ابن حجر في التلخيص الحبير 3/53: "والحسن مختلف في سماعه من سمرة، وزاد فيه أكثرهم ثم نسي الحسن فقال: "هو أمينك لا ضمان عليه".
قال الشوكاني: "واستدل من قال بالضمان بحديث سمرة، وبقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} ، [سورة النساء، من الآية: 58] . ولا يخفى أن الأمر بتأدية الأمانة لا يستلزم ضمانها إذا تلفت". (نيل الأوطار 5/334) .
3 المغني 5/220-224".
4 هو مسعود بن أحمد العراقي المصري الحنبلي (652-711)(تذكرة الحفاظ للذهبي 4/1495) .
5 الإنصاف 6/112، و113 وفتح الباري 5/241 ونيل الأوطار 5/334 وسبل السلام 3/67".
6 هو عبد الله بن شبرمة الكوفي القاضي (ت 144) . (التقريب 1/422) .
على المستعير غير المغل1 ضمان ولا على المستودع غير المغل ضمان"2.
ولأنه قبضها بإذن مالكها فكانت أمانة كالوديعة".
266-
قالوا: وقول النبي صلى الله عليه وسلم "العارية مؤداة"3 يدل على أنها أمانة، لقول الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} ، [سورة النساء، من الآية: 58]4.
وأجيب عن حديث عمرو بن شعيب بأنه ضعيف، وأن الصحيح أنه من قول شريح القاضي.
وحديث "العارية مؤداة" صحيح إلا أنه قد ورد في حديث جابر ابن عبد الله وابن عباس وصفون بن أمية "بل عارية مضمونة"5.
وأما الآية فإنها عامة للعارية وغيرها، وحديث التضمين خاص، والخاص مقدم على العام".
وأيضا فإن العارية تخالف الوديعة، لأن الوديعة الذي يستفيد منها هو المودع، والعارية ييستفيد منها المستعير، فإذا تلفت وجب ضمانها6".
والذي يبدو في هذه المٍسألة هو قول بضمان العارية حفظا لأموال الناس من الضياع، والتساهل في حفظها، لأن الأصل أن من أخذ شيئا من أموال الناس وجب عليه رده بعينه أو بقيمته إذا تلف إلا ما خصه الدليل من ذلك".
1 المغل: "بضم الميم ثم الغين المعجمة، مأخوذ من الإغلال وهو الخيانة، والمعنى: "ليس على المستعير غير المغل ضمان الخ (أي إذا لم يخن في العارية والوديعة فلا ضمان عليه) وقيل: "المغل ها هنا: "المستغل، وأراد به القابض لأنه بالقبض يكون مستغلا والأول الوجه:"يعني أولى". (النهاية 3/381، سبل السلام للصنعاني 3/67) .
2 رواه الدارقطني في سننه 3/41 والبيهقي في السنن الكبرى 6/91". وقالا: "الصحيح وقفه على شريح القاضي".
وأما المرفوع ففيه عمرو بن عبد الجبار السنجاري عن عمه عبيدة بن حسان العنبري السنجاوي وهما ضعيفان".
وقال أبو حتبان: "عبيدة بن حسان، منكر الحديث". (الجرح والتعديل 6/92) .
وقال ابن حبان: "عبيدة يروي الموضوعات عن الثقات". (انظر: "كتاب المجروحين 2/189 وميزان الاعتدال 3/26 و271) .
3 رواه ابن ماجه في سننه 2/802 كتاب الصدقات، باب العارية من حديث أنس بن مالك ولفظه:"العارية مؤداة والمنيحة مردودة" وهو صحيح من زوائد ابن ماجه".
4 الهداية للمرغيناني 3/220، والمغني لابن قدامة 5/221، وفتح الباري 5/241، وسبل السلام 3/67-68، ونيل الأوطار 5/334".
5 تقدم حديث جابر برقم "23"، وحديث ابن عباس برقم (27) وحديث صفوان برقم (26) .
6 بداية المجتهد لابن رشد 2/314".