المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآيات: (57- 65) [سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 65] - التفسير القرآني للقرآن - جـ ١٣

[عبد الكريم يونس الخطيب]

فهرس الكتاب

- ‌الآيات: (47- 54) [سورة فصلت (41) : الآيات 47 الى 54]

- ‌42- سورة الشورى

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 12) [سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 12]

- ‌الآيات: (13- 16) [سورة الشورى (42) : الآيات 13 الى 16]

- ‌الآيات: (17- 20) [سورة الشورى (42) : الآيات 17 الى 20]

- ‌الآيات: (21- 26) [سورة الشورى (42) : الآيات 21 الى 26]

- ‌الآيات: (27- 35) [سورة الشورى (42) : الآيات 27 الى 35]

- ‌الآيات: (36- 43) [سورة الشورى (42) : الآيات 36 الى 43]

- ‌الآيات: (44- 50) [سورة الشورى (42) : الآيات 44 الى 50]

- ‌الآيات: (51- 53) [سورة الشورى (42) : الآيات 51 الى 53]

- ‌43- سورة الزخرف

- ‌مناسبة السورة لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 8) [سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 8]

- ‌الآيات: (9- 19) [سورة الزخرف (43) : الآيات 9 الى 19]

- ‌الآيات: (20- 25) [سورة الزخرف (43) : الآيات 20 الى 25]

- ‌الآيات: (26- 35) [سورة الزخرف (43) : الآيات 26 الى 35]

- ‌الآيات: (36- 44) [سورة الزخرف (43) : الآيات 36 الى 45]

- ‌الآيات: (46- 56) [سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 56]

- ‌الآيات: (57- 65) [سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 65]

- ‌الآيات: (66- 73) [سورة الزخرف (43) : الآيات 66 الى 73]

- ‌الآيات: (74- 83) [سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 83]

- ‌الآيات: (84- 89) [سورة الزخرف (43) : الآيات 84 الى 89]

- ‌44- سورة الدخان

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 16) [سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 16]

- ‌الآيات: (17- 33) [سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 33]

- ‌الآيات: (34- 48) [سورة الدخان (44) : الآيات 34 الى 50]

- ‌الآيات: (51- 59) [سورة الدخان (44) : الآيات 51 الى 59]

- ‌45- سورة الجاثية

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 5) [سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 5]

- ‌الآيات: (6- 11) [سورة الجاثية (45) : الآيات 6 الى 11]

- ‌الآيات: (12- 15) [سورة الجاثية (45) : الآيات 12 الى 15]

- ‌الآيات: (16- 22) [سورة الجاثية (45) : الآيات 16 الى 22]

- ‌الآيات: (23- 35) [سورة الجاثية (45) : الآيات 23 الى 35]

- ‌الآيتان: (36- 37) [سورة الجاثية (45) : الآيات 36 الى 37]

- ‌46- سورة الأحقاف

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 6) [سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 6]

- ‌الآيات: (7- 14) [سورة الأحقاف (46) : الآيات 7 الى 14]

- ‌الآيات: (15- 20) [سورة الأحقاف (46) : الآيات 15 الى 20]

- ‌الآيات: (21- 28) [سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 الى 28]

- ‌الآيات: (29- 35) [سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 الى 35]

- ‌47- سورة محمد

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 9) [سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 9]

- ‌الآيات: (10- 15) [سورة محمد (47) : الآيات 10 الى 15]

- ‌الآيات: (16- 19) [سورة محمد (47) : الآيات 16 الى 19]

- ‌الآيات: (20- 30) [سورة محمد (47) : الآيات 20 الى 30]

- ‌الآيات (38- 31) [سورة محمد (47) : الآيات 31 الى 38]

- ‌[الجهاد.. والحرب النفسية]

- ‌48- سورة الفتح

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات (3- 1) [سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 3]

- ‌الآيات (7- 4) [سورة الفتح (48) : الآيات 4 الى 7]

- ‌الآيات (14- 8) [سورة الفتح (48) : الآيات 8 الى 14]

- ‌الآيات (17- 15) [سورة الفتح (48) : الآيات 15 الى 17]

- ‌الآيات (26- 18) [سورة الفتح (48) : الآيات 18 الى 26]

- ‌الآيات (29- 27) [سورة الفتح (48) : الآيات 27 الى 29]

- ‌49- سورة الحجرات

- ‌مناسبتها للسورة قبلها

- ‌الآيات (1- 5) [سورة الحجرات (49) : الآيات 1 الى 5]

- ‌الآيات (13- 6) [سورة الحجرات (49) : الآيات 6 الى 13]

- ‌الآيات (18- 14) [سورة الحجرات (49) : الآيات 14 الى 18]

- ‌50- سورة «ق»

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات (11- 1) [سورة ق (50) : الآيات 1 الى 11]

- ‌الآيات (26- 12) [سورة ق (50) : الآيات 12 الى 26]

- ‌الآيات (37- 27) [سورة ق (50) : الآيات 27 الى 37]

- ‌الآيات (45- 38) [سورة ق (50) : الآيات 38 الى 45]

- ‌51- سورة الذاريات

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات (14- 1) [سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 14]

- ‌الآيات: (15- 32) [سورة الذاريات (51) : الآيات 15 الى 23]

- ‌الآيات (30- 24) [سورة الذاريات (51) : الآيات 24 الى 30]

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌الآيات: (57- 65) [سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 65]

وفى قوله تعالى: «فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ» .. إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى، قد أمهل هؤلاء الضالين، ومدّ لهم فى ضلالهم، حتى يكون لهم فسحة من الوقت، يراجعون فيها أنفسهم، ويعدّلون موقفهم المنحرف..

فلما لم يكن لهم فى هذا الإمهال، وفى تلك المطاولة، إلا الإمعان فى الضلال، والإسراف فى العناد- أخذهم الله بذنوبهم، ولم يكن لهم من دون الله من ولى ولا نصير.

فقوله تعالى: «آسَفُونا» أي أسخطونا عليهم.. والله سبحانه وتعالى «حليم» فلا يغضب الله إلا على من أخذه بحمله ثم لم يزده الحلم إلا سفها وجهلا..

قوله تعالى:

«فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ» .

أي أن العذاب الذي أخذ به هؤلاء الضالون، المسرفون فى الضلال، كانا عذابا يضرب به المثل من بعدهم، ويرى الخلف عبرة وعظة فيما نزل بهذا السلف..

‌الآيات: (57- 65)[سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 65]

وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَاّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)

وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)

ص: 147

التفسير:

قوله تعالى:

«وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ» .

يصدّون: أي يتصايحون، ويكثرون من الضجيج، شأن الجماعة يطلع عليها أمر على غير ما تتوقع، وهى فى مأزق حرج، فتتعلق بهذا الأمر الذي ترى فيه فرجا ومخرجا، فتصيح بصيحات الفرح المجنون، الذي تختلط فيه الأصوات، فلا يعرف الكلمات مدلول، وإن عرف للإشارة والحركات مفهوم، يدل على الفرحة والابتهاج.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن قصة موسى مع فرعون انتهت بتلك النهاية التي كانت مثلا فيما تنتهى إليه طريق الضالين، المكذبين بآيات الله وبرسل الله.. وإن فى هذا المثل لعبرة لمعتبر، وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

وفى عيسى بن مريم مثل بارز، لمن يتعقل الأمثال، وينتفع بها..

ص: 148

ففى ميلاده هذا الميلاد العجيب، من غير أب- مثل شاهد على قدرة الله، وعلى أنه سبحانه يخلق ما يشاء، على غير مثال سبق من تلك المخلوقات، التي تجرى على طريق الأسباب الظاهرة لنا.. فالله سبحانه وتعالى خالق الأسباب والمسببات جميعا..

وفى هذا الميلاد العجيب، الذي يبدو لنا من خلق عيسى عليه السلام من غير أب، إشارة دالة على أكثر من أمر..

فأولا: أن صفة هذا الميلاد الذي يكاد ينفرد به عيسى من بين بنى الإنسان لا يصحّ أن يكون داعية لبعض الناس إلى عبادته، وإلى رفعه عن مقام المخلوقين من مخلوقات الله.. فما هو إلا عبد من عباد الله، وخلق من خلقه.. وأنه إذا كان قد ولد من غير أب، فالإنسان- أصلا- خلق من غير أب وأم..

«إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (59 آل عمران) فعيسى وآدم عند الله على سواء.. كلاهما مخلوق لله..

سواء منهما من خلق ابتداء من غير أب ولا أم، أو من خلق من أمّ دون أب..

ومن هنا، فلا يكون لأولئك الذين يعبدون عيسى، ويجعلون له نسبة خاصة بالله- لا يكون لهم حجة يتخذونها من ميلاده الذي جاء على تلك الصفة..

وأنه إذا كانت لهم حجة، فهى من واردات الأوهام والضلالات، كتلك الحجج التي يقيمها عبّاد الأحجار والأصنام والكواكب، والملائكة على معبوداتهم.. فالذى يعبد الحجر لا يعدم أن يجد له منطقا يعبده عليه، تماما كالذى يعبد الشمس، أو القمر، أو الملائكة، أو الجن.. فكل

ص: 149

معبود من تلك المعبودات له عند من يعبده وجه يعبده عليه، ومنطق يتعامل به معه..

وثانيا: أن ميلاد عيسى على غير الأسلوب الذي ولد عليه سائر الناس، دليل على قدرة الله التي لا تحكمها الأسباب.. وأن الله سبحانه قادر على كل شىء..

وأنه سبحانه بهذه القدرة قادر على أن يبعث الموتى من قبورهم، وأن يحيى هذه الأجساد بعد أن أبلاها البلى، وذهب التراب بمعالمها..

وفى قوله تعالى: «ابْنُ مَرْيَمَ» دون ذكر عيسى باسمه، أو لقبه «المسيح» - فى هذا إشارة إلى أنه ابن امرأة، هى مولود من مواليد الإنسانية.. فهو- أيّا كان ميلاده- ثمرة من شجرة الإنسانية، موصول نسبه بنسبها.. أيّا كان لون هذه الثمرة، أو طعمها!!.

وفى قوله تعالى: «إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ» - إشارة إلى هذا اللغط والصخب، الذي أثاره المشركون عند ضرب هذا المثل فى تشبيه خلق عيسى بخلق آدم، كما يقول الله تعالى:«إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (59: آل عمران) .. فقد انتهزها المشركون فرصة يشغبون بها على النبي، ويأخذون منها الحجة عليه من لسانه، بهذا المثل الذي ضربه..

فهو سبحانه يقول لهم: إن عيسى بشر مثل سائر البشر، وإنه مولود من الإناء الذي يولد منه كل إنسان، وهو رحم الأم.. وهم- أي المشركون- يقولون للنبى: هذا عيسى، هو بشر- كما تقول- وقد عبده من هم أهل كتاب سماوى، ولا بد أن تكون هذه العبادة عن دعوة من الله لهم- وإذن فعبادة غير الله

ص: 150

جائرة عند الله.. ونحن إنما نعبد الملائكة الذين هم بنات الله.. والذين نتمثلهم فى هذه الأصنام التي نسميها بأسمائهم، كهبل، واللّات، والعزّى، ومناة.. فأىّ خير؟ آلهتنا تلك التي هى بنات الله؟ أم المسيح الذي هو ابن مريم؟ وإذا كان الله قد رضى لأهل الكتاب أن يعبدوا ابن امرأة، أفلا يرضى الله لنا أن نعبد الملائكة.. وهن بنات الله؟.

هذا منطق القوم الذي استخرجوه من هذا المثل الذي ضرب لهم فى خلق عيسى.. وهو منطق قائم على المماحكة والسفسطة.. إنهم أمسكوا بمقدمات باطلة، ثم خلصوا منها إلى نتائج فاسدة..

فمن قال لهم إن عبادة الذين يعبدون المسيح قائمة على الحق؟ إنها كفر وشرك بالله، مثل كفرهم وشركهم، بما يعبدون من هذه الآلهة التي أقاموها بأيديهم، وسموها بأسماء الملائكة كما يقول الله تعالى:«أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى» (19- 22 النجم) ..

إن عبادة الذين يعبدون المسيح قضية أخرى.. لم يكن من شأن الدعوة الإسلامية أن تعرض لها فى هذا الدور الذي تواجه فيه هؤلاء المشركين من قريش.. وتعلّق المشركين بهذه القضية فى هذا الوقت، ودعوة النبي إلى الدخول معهم فى مناقشتها والفصل فيها- هو مما يجعل المعركة بين النبي وبين المشركين تنتقل إلى ميدان آخر، يقفون هم فيه موقف المتفرجين..

وهذا من شأنه أن يغمد سيوف الحق التي تضرب فى وجوههم، من قبل أن توقع الهزيمة بهم.. ولهذا جاء القرآن الكريم مبطلا مكرهم هذا بقوله سبحانه:

«ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا.. بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ» .. أي ما ضربوا هذا

ص: 151

المثل الذي يوقع الشبه بينهم وبين أتباع المسيح الذين يعبدونه، من جهة، وبين آلهتهم التي يعبدونها، وبين المسيح- من جهة أخرى- ما ضربوا هذا المثل إلا جدلا، أي لأجل الجدل الذي يصرف عن الحق، وبعمّى السبل عنه..

وهذا شأن القوم فى أكثر أمورهم.. فهم قوم خصمون.. أي شديد والجدل فى الخصومة.. كما يقول الله سبحانه وتعالى فيهم: «وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا» (97: مريم) أي شديد والدد والعناد فى الخصومة..

وفى قوله تعالى: «قَوْمُكَ» إشارة إلى قوم آخرين، لهم خصومة فى ابن مريم، وهم أتباع المسيح الذين يعبدونه..

قوله تعالى:

«إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ» ..

هذا هو مقطع القول فى المسيح، بلا جدل، ولا مماحكة.. ما هو إلا عبد من عباد الله، ورسول من رسله، أنعم الله عليه بالرسالة، وجعله معلما من معالم الهدى لبنى إسرائيل، بعد أن ماجوا فى الفتن، وغرقوا فى الضلال.. فإذا ضل فيه الضالون، وفتن به المفتتنون، فليس فى هذا حجة يحتج بها المشركون على النبي، ويتخذون منها ذريعة لتبرير منكرهم الذي هم فيه، من عبادة الملائكة الذين نصبوا لهم هذه التماثيل، وأطلقوا عليها ما أطلقوا من أسماء..

قوله تعالى:

«وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ» .

هو ردّ على المشركين الذين ينظرون إلى الملائكة نظرة ترفعهم إلى مقام

ص: 152

الألوهية.. بهذا النسب الذي ينسبونهم به إلى الله.. وهذا نظر فاسد.. فإنه مهما يكن مقام المخلوق فى المخلوقات، فإنه عبد من عباد الله، وخلق من خلقه، يعبد الله ويسبح بحمده، شأنه فى هذا شأن كل مخلوق لله.. «لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» (172- 173: النساء) .

فهذا هو المسيح- على ما يرى الناس من عجيب مولده- وهؤلاء هم الملائكة- على ما يرى الناس من عظمة خلقهم، وقربهم من ربهم- إنهم جميعا عبيد لله:«لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» (6: التحريم) ..

فكيف يعبد العبد مع السيد، ويؤلّه المخلوق مع الخالق! وقوله تعالى:«وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ» - أي أنه لو شاء الله لجعل الناس على صورة الملائكة، خلقا وتكوينا، ولأقامهم على خلافة الأرض ملائكة لا بشرا.. فإن الذي خلق الملائكة جندا فى السماء قادر على أن يخلق ملائكة ليكونوا خلفاء فى الأرض.. وفى هذا تذكير للناس بهذه الخلافة التي لهم على هذه الأرض.. وأن الله سبحانه وتعالى قد جعلها للناس دون الملائكة الذي طمعوا فيها، ورأوا أنهم أحق من البشر بها، كما يقول الله سبحانه وتعالى:«وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ» (30: البقرة) وفى هذا ما يرى منه هؤلاء المشركون الذين يعبدون الملائكة أنهم إنما يعبدون خلقا مثلهم، أرادوا مرّة أن يكون لهم ما للإنسان من هذا السلطان الذي له فى هذه الأرض..

فكيف يجوز فى عقل عاقل أن يعبد الإنسان من كان يطمع فى أن

ص: 153

يكون فى منزلته؟ .. أليس ذلك تدلّيا وسقوطا؟ وبلى إنه التدلّى السفيه، والسقوط المهين! قوله تعالى:

«وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» .

هو تعقيب على قوله تعالى فى شأن عيسى: «وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ» .

وهذا التعقيب يجب أن يكون من كل عاقل على ما سمع من قول الله تبارك وتعالى فى شأن عيسى، وأنه عبد من عباد الله، وأنه إذا كان المشركون المعاندون قد تعلقوا بحبال الضلال من هذا المثل، واستخرجوا منه هذا المنطق الفاسد الذي تصابحوا به فرحا- فإن العاقل ليجد فى هذا المثل دليلا يستدلّ به على البعث، فيزداد إيمانا به، ويقينا بأن الساعة آتية لا ريب فيها..

أي «وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ» أي وانه، أي ابن مريم- فى الميلاد الذي ولد به- ليفيد علما بالساعة، أي بالبعث، حيث يتجلى فى خلقه على تلك الصورة بعض من مظاهر قدرة الله، وأن البعث الذي ينكره المشركون، استعظاما له، إذ يقولون:«مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» (78: يس) . ويقولون: «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ» (3: ق) - هذا البعث، هو أمر واقع تحت سلطان قدرة الله التي لا يعجزها شىء.. فمن نظر إلى ميلاد المسيح الذي جاء على غير تلك الأسباب التي يعرفها الناس، لم ينكر البعث وإعادة الحياة إلى من فى القبور، وإن جاء على غير ما يعرف الناس من أسباب.. وهذا هو العلم الذي يستدل به أولو النظر، على إمكان البعث، والحساب، والجزاء، إذا هم نظروا نظرا مستبصرا فى ميلاد المسيح على تلك الصورة الفريدة التي ولد بها..

ص: 154

وقوله تعالى: «فَلا تَمْتَرُنَّ بِها» هو تعقيب على قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ» ..

بمعنى أنه إذا كان ميلاد المسيح يفيد علما بإمكان البعث، ومجىء الساعة- فإنه يجب الا يمترى فيها الممترون، وألا يجادل فيها المجادلون، وألا يكذب بها المكذبون، وبين أيديهم الدلائل والشواهد عليها..

وقوله تعالى: «وَاتَّبِعُونِ.. هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» معطوف على قوله تعالى: «فَلا تَمْتَرُنَّ بِها» أي فدعوا المراء والجدل فى الساعة، والتكذيب بها، واتبعون فيما أدعوكم إليه أيها المشركون من الإيمان بالله، واليوم الآخر.. فهذا هو الصراط المستقيم، الذي يسلك بمن يأخذ طريقه عليه، إلى غايات الأمن، والسلامة، والنجاة..

قوله تعالى:

«وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ.. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» ..

هو معطوف على قوله تعالى: «وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» أي اتبعونى ولا تتبعوا ما يدعوكم إليه الشيطان، الذي يصدكم عن اتباع هذا الصراط المستقيم الذي أدعوكم إليه.. فأنا أدعوكم إلى الخير، وأرتاد لكم طريق النجاة، لأنى محبّ لكم، حريص على سلامتكم ونجاتكم.. أما الشيطان، فهو عدو ظاهر العداوة لكم، لا يدعوكم إلا إلى ما فيه بلاؤكم وهلاككم.

قوله تعالى:

«وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» ..

ص: 155

أي أنه لما جاء عيسى إلى بنى إسرائيل بالآيات البينات، بما أجرى الله سبحانه وتعالى على يديه من معجزات، وبما أجرى على لسانه من الكلم الطيب الحكيم، الذي يشفى سقم العقول، وآفات القلوب- لما جاء إلى بنى إسرائيل «قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ» أي أن هذا الذي جئتكم به من آيات بينات، هو مما أمرنى الله سبحانه وتعالى أن أحمله إليكم من عنده لأطبّ لكم به من عللكم وأدوائكم العقيلة والروحية والجسدية.. «وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ» - أي ولأكشف لكم عن مواقع الحق فيما اختلفتم فيه من التوراة، وأحكامها.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى آية أخرى على لسان المسيح:«وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» (50: آل عمران) .

فالمسيح لم يجىء إلى بنى إسرائيل داعيا لهم أن يعبدوه من دون الله، كما ذهب إلى ذلك أهل الضلال ممن عبدوه، وجعلوه إلها.. وفى هذا يقول الله تعالى:«وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (116- 117: المائدة) .

قوله تعالى:

«فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ» أي أنه قد وقع الخلاف بين بنى إسرائيل فى شأن المسيح، وفى مفهوم

ص: 156