الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القوية النافذة.. الذين يتفكرون فى خلق السموات والأرض، ثم ينتهى بهم التفكير إلى الإيمان بالله، والإقرار بوحدانيته، وتفرده بالخلق والأمر..
الآيات: (6- 11)[سورة الجاثية (45) : الآيات 6 الى 11]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10)
هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
التفسير:
قوله تعالى:
آيات الله، هى تلك الآيات التي ذكرت من أول السورة.. وليست آيات الله محصورة فى هذه الآيات، وإنما عبّر عن هذه الآيات بما يفيد حصر آيات الله كلّها على هذا النمط العالي من الكمال والجلال، والإعجاز.. فكل آية من كتاب الله، تمثل آيات الله كلّها فى إحكامها وإعجازها.
وقوله تعالى: «نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ» جملة حالية من قوله تعالى:
«آياتُ اللَّهِ» أي هذه آيات الله متلوّة عليك بالحقّ الذي تحمله فى كيانها.
وفى إسناد تلاوة آيات الله على النبي، إلى الله سبحانه وتعالى، مع أن الذي يتلوها عليه هو جبريل- فى هذا تشريف للنبىّ، واحتفاء به، وتكريم له..
وحسبه- صلوات الله وسلامه عليه- من الشرف والرفعة، أن ينكشف الحجاب بينه وبين ربّه جلّ وعلا وأن يخلى جبريل مكانه بين الله سبحانه، وبين عبده محمد- صلوات الله وسلامه عليه- فلا يسمع الرسول إلّا كلمات ربّه، من ربّه وإن كان جبريل هو الذي يحملها إليه.
وقوله تعالى: «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ» استفهام إنكارى تقريعىّ، يسفّه موقف المشركين من آيات الله، واتهامهم لها، وشكّهم فيها وتوقفهم عن الإيمان بها. فأى حديث بعد حديث الله، وأي آيات بعد آيات الله، ينتظر القوم أن يأتيهم ببيان أجلى من هذا البيان، وحجة أبلغ وأصدق من هذه الحجة، ليؤمنوا به، ويطمئنوا إليه؟.
إن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتحدث بآياته تلك التي يتلوها الرسول عليهم.. فالله سبحانه وتعالى يتلوها على الرسول، والرسول يتلوها عليهم، ويبلغهم إياها.. ولو أنهم أحسنوا الاستماع، وفتحوا لما يسمعون آذانهم وقلوبهم، لسمعوا الحقّ جلّ وعلا، يتلو عليهم هذه الآيات التي يتلوها الرسول عليهم، ولا رتفع الحجاب بينهم وبين ربّهم.. فإن كلمات الله تأخذ طريقها مباشرة إلى القلوب المهيأة لها، المستعدّة لا ستقبالها.
قوله تعالى:
ْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ»
.
هو تهديد ووعيد بالويل والبلاء، لمن يسمع آيات الله تتلى عليه، ثم يلقاها ضائفا بها، متكرّها لها، مستعليا ومستكبرا، على الإقبال عليها، والنظر فى وجهها، فلا يأبه لما يتلى عليه منها، بل يمضى كأن لم يسمع شيئا، كان فى أذنيه صمما..
والأفاك: صيغة مبالغة من الإفك، والافتراء، وقلب الحقائق..
والأثيم: صيغة مبالغة كذلك من الإثم، وهو اقتراف المنكر، واجتراح السيئات.. وهاتان الصفتان هما الآفتان اللتان تتسلطان على أهل الزيغ والضلال، فلا يكون منهم قبول للحق، ولا تجاوب معه.. إذ كيف يجد الحق له مكانا فى نفوس لا تستمرئ إلا الإفك، ولا تستطيب إلا الإثم؟ ..
وقوله تعالى: «ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً» .. إما أن يكون من الإصرار، وهو التمسك والتشبث بما مع المشركين من شرك.. ويكون المعنى: ثم يصر على الكفر، ويتشبث به، مستصحبا معه الكبر والاستعلاء.. وهذا مثل قوله تعالى فى قوم نوح:«وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً» (7: نوح) ..
وإما أن يكون من الصرّ، وهو تجّهم الوجه، ضيقا وتكرها.. ومنه قوله تعالى:
«فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ» (29: الذاريات) ..
ومنه الصّر، وهى الريح الباردة التي يجمد منها الدم فى العروق.. ومنه الصّرصر، وهى الريح العاصفة الباردة..
وقوله تعالى: «فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» - هو بيان لهذا الويل، الذي توعد الله سبحانه وتعالى به كل أفاك أثيم، ذلك الذي يسمع آيات الله تتلى عليه، ثم يلقاها متكرها مستكبرا..
فالذى يساق إلى هذا الأفاك الأثيم من بشريات فى يوم القيامة، هو العذاب الأليم.. فهذا هو النعيم الذي يبشّر به، ويزفّ إليه..! فكيف إذا انتقل من هذا النعيم الجهنمّى إلى العذاب الموعود به؟ .. وهذا أسلوب من الأساليب البلاغية التي تكشف عن جسامة الأمر، وفداحة الخطب، وذلك يوصفه بغير صفته.
قوله تعالى:
«وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» .
هو معطوف على تلك الأوصاف التي وصف بها الأفاك الأثيم فى الآية السابقة.. فهو لا يسمع آيات الله، ولا يعقلها، ثم إنه إذا سمع شيئا من آيات الله- عرضا- ووقع له منها بعض العلم- عفوا، من غير قصد- لم ينتفع بهذا العلم، بل يتخذ منه مادة للسخرية والاستهزاء.. لأنه لم يكن حين استمع لآيات الله يقصد استماعا، ولا يبغى علما.. ومن هنا لم يكن لما وقع له من علم، ثمر ينتفع به، أو خير يرجى منه.. بل لقد فتح له هذا العلم طريقا جديدا من طرق الضلال التي يسلكها..
وفى قوله تعالى: «أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» بضمير الجماعة العائد على المفرد- فى هذا ما يشير إلى أن استهزاء المستهزئ، وسخرية الساخر بآيات الله، لم تكن تتحق صورتها، إلا بمشاركة ممن يستمع له، ويجرى معه فى استهزائه وسخريته، سواء أكان ذلك بمجرد الاستماع والاستحسان، أو بتجاذب حبل الحديث معه، ومدّه بمدد جديد من السخرية والاستهزاء..
فالسخرية والاستهزاء، لا يكون لهما وجود بعمل فردىّ، وإنما الذي يعطيهما الحياة، هو المشاركة الصامتة، أو الناطقة، ومن هنا كانت كلمة السوء فى مجلس من المجالس، مأثما يحيط بأهل المجلس جميعا، إن هم سكتوا على كلمة السوء، ولم يقم فيهم من ينكرها على صاحبها، ويكبته ويخزيه..
وفى قوله تعالى: «أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» - وفى وصف العذاب بأنه عذاب مهين لهم، مذلّ لكبرهم- هو رد على استهزائهم بآيات الله، واستخفافهم بها..
قوله تعالى:
أي أن العذاب المهين، الذي سيأخذ المستهزئين بآيات الله، المستخفّين بها- هو عذاب جهنم، التي تطلع عليهم وهم فى غفلة عنها.. إنها تأنى من وراء تلك الحجب من الضلال التي حجبتهم عن اليوم الآخر، فلم يروه، ولم يعملوا على اتقائه، والفرار منه..
ثم إن فى وصف جهنم بأنها من ورائهم، وفيما يشير إليه هذا الوصف من غفلتهم عنها- تقريرا للحقيقة الواقعة، وهى أن جهنم وإن كانت أمامهم، تنتظرهم على الموعد الذي يلاقونها عنده- فإنها لا تأنى إلا بعد زمن متأخر عن يومهم هذا الذي هم فيه..
وقوله تعالى: «وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ» جملة حالية، تكشف عن تعرية القوم من كل واق يقيهم هذا العذاب الذي يمد يده لا ختطافهم، وهم فى غفلة عنه..!
وقد يكون الإنسان فى غفلة عن خطر يتهدده، ولكن هناك ما يحميه من هذا الخطر، ويردّه عنه، كأن يكون فى حصن قد أحكم بناءه، وأقام الحراس عليه، أو قد يكون له أولياء يخفّون لنجدته إذا دهمه خطر!.
أما هؤلاء المشركون، المكذبون بآيات الله، والمستهزءون بها، فلا شىء لهم من هذا.. فهم عن هذا الخطر فى غفلة..، ولا حارس يقوم على حراستهم.. والمال الذي فى أيديهم، والذي كان من شأنه أن يكون ذا غناء لهم فى هذه الشدة- قد خلت أيديهم منه.
وآلهتهم التي عبدوها من دون الله، وكان لهم متعلق بها، ورجاء فيها- قد أنكرتهم، وخلّت بينهم وبين ما حل بهم من بلاء..
فكيف يكون لهم نجاة من هذا العذاب الذي يسوقهم أمامه؟
وفى قوله تعالى: «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» .. استكمال لصورة هذا العذاب الذي يلقاه هؤلاء المشركون.. فهو عذاب مهين، وهو مع ما يسوق إليهم من ذلة وهوان- عظيم فى وقعه، شديد فى بلائه..
قوله تعالى:
«هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ» ..
الإشارة هنا، إلى القرآن الكريم، وإلى ما تحمل آياته الكريمة المباركة من هدى ونور.. وفى هذا دعوة لهؤلاء الضالين الذين جلسوا مجلس الاستهزاء والسخرية بآيات الله، والذين تتهددهم جهنم بعذابها وهم فى غفلة عنها- فى هذا دعوة لهم إلى أن يهتدوا بهذا الهدى الذي بين أيديهم، وأن