الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن مما يغير صورة الحق أن يسّوى بين المحسنين والمسيئين.. وهذا ما لا يكون أبدا واقعا فى ملك الله.
وقوله تعالى: «وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» معطوف على محذوف دلّ عليه السياق، أي وخلق الله السموات والأرض بالحقّ، وأرسل رسله بالبينات، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، ولتقوم عليهم الحجة، «وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» .
وقوله تعالى: «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» جملة حالية من فاعل الفعل «كَسَبَتْ» المراد به الناس جميعا.. أي أن الجزاء الذي يجزى به الناس، لا يدخل عليه جور، ولا يتلبس به ظلم.. فالمحسن ينال جزاء إحسانه، من غير أن ينقص منه شىء..
بل سيضاعف له الجزاء.. والمسيء سينال جزاء إساءته وما كسبت يداه، دون أن يؤخذ بجريرة أحد.. «وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» (164: الأنعام) .
الآيات: (23- 35)[سورة الجاثية (45) : الآيات 23 الى 35]
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) وَقالُوا ما هِيَ إِلَاّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَاّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَاّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَاّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)
وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَاّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)
التفسير:
قوله تعالى:
هو عرض لصورة واحد من صور هؤلاء الضالين، الذين عموا عن آيات الله، بعد هذا العرض العام الذي لا حت فيه صور المبطلين، الذين خرجوا عن
سنن الحق الذي خلق الله سبحانه وتعالى به السموات والأرض، والذي فرّق به الله سبحانه بينهم وبين المؤمنين، فى الحياة الدنيا وفى الآخرة..
ففى هذه الصورة المفردة لواحد من آحاد الضالين المكذبين، يرى كلّ واحد من أهل الزيغ والضلال وجوده فى هذه الصورة، وينكشف له الداء المسلط عليه..
فهذا المكذب بآيات الله، المعرض عن دعوة الهدى التي يدعوه إليها رسول الله- إنما يتبع هواه، وينقاد له، انقياد المؤمنين لله.. فالإله الذي يعبده هذا السفيه الضال، هو ما يقيمه له هواه، ويصوره له سفهه، من معبودات يتخذها من دون الله، من أصنام وغير أصنام.
والاستفهام هنا تعجبى، يراد به الاستهزاء والسخرية من هذا الضال، وفضحه على الملأ وهو عاكف على هذا الضلال الذي يعبده من دون الله..
أي إن لم تكن قد رأيت هذا الإنسان المنكود الضال الذي يعبد هواه، فها هو ذا، فانظر إليه!! واتخاذ الهوى إلها، إنما هو بالانقياد لهوى النفس، والامتثال لما تأمر به..
وفى الأثر: «الهوى إله معبود» .
وقوله تعالى: «وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ» جملة حالية من فاعل «اتَّخَذَ» وهو هذا الذي اتخذ هواه إلها معبودا من دون الله.. أي أنه قد اتخذ إله هواه، فى الحال التي أضله الله فيها على علم.. وهذا يعنى أنه، مع ما جاءه من العلم الذي بلّغه الرسول إياه، وكشف له به معالم الطريق إلى الله- قد اتبع هواه، وركب مركب الضلال..
وفى إسناد الإضلال لهذا الضال إلى الله سبحانه وتعالى، إنما هو بسبب
ما كان من إعراض هذا الضال عن آيات الله، وعن العلم الذي جاءه منها..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ» (115: التوبة) وقوله سبحانه: «فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ.. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» (5: الصف) .
وقوله تعالى: «وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ» - معطوف على قوله تعالى:
«وَأَضَلَّهُ اللَّهُ» أي وأضله الله إذ دعاه إلى الهدى فلم يستجب لدعوته، وختم على سمعه وقلبه، أي أغلقهما، وأطبقهما على ما فيهما من ضلال، فلم تنفذ كلمة الحق إلى أذنه، ولم يدخل نور الهدى إلى قلبه..
فالختم على الشيء: إغلاقه على ما فيه..
وقوله تعالى: «وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً» .. الغشاوة ما يغشى العين من ظلام، فيحجبها عن أن ترى الأشياء رؤية كاشفة.. وهذا من الأدواء التي رمى الله سبحانه وتعالى بها أهل الضلال، حيث يحجب أبصارهم عن النظر فى آيات الله، نظرا يكشف ما فيها من حق، وهدى، يهدى إلى الله، وإلى طريق مستقيم..
وقوله تعالى: «فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ» ؟ أي أنه لا سبيل إلى هداية هذا الإنسان التعس الشقي، بعد أن أضله الله سبحانه وتعالى، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة! إن الله سبحانه قد رماه بهذه الآفات، وحال بينه وبين أن ينال خيرا من هذا الخير الممدود على مائدة الهدى..
فمن ذا الذي يمكن أن يرد بهذا الضال موارد الهدى؟ ومن ذا الذي يفضّ هذا الختم الذي ختم الله به على سمعه وقلبه؟ ومن ذا الذي يرفع هذه الغشاوة التي ضربها الله على بصره؟ والله سبحانه وتعالى يقول: «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» (17: الكهف)
وقوله تعالى: «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» - دعوة إلى الوقوف عند هذا المشهد، الذي يرى فيه هذا الإنسان الذي اتخذ إلهه هواه، وأضلّه الله بعد أن جاء العلم، وختم الله على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة..
فليأخذ كل إنسان لنفسه عظة من هذا المشهد، ولينظر إلى نفسه، فإن كان بالمكان الذي فيه هذا الضّال فليحاول أن ينخلع عن هذا المكان، وليمدّ يده إلى الله طالبا العون منه.. فإنه لا يطلب العون إلا منه، ولا يرحى الخلاص إلا على يده سبحانه.
قوله تعالى:
تلقى هذه الآية أصحاب الزيغ والضلال، بعد أن أرتهم أنفسهم فى واحد منهم، قد رماه الله بتلك الآفات المهلكة، التي حجبته عن كل هدّى، وحالت بينه وبين كل سبيل إلى النجاة..
والآية الكريمة معطوفة على محذوف، يفهم من قوله تعالى:
«أَفَلا تَذَكَّرُونَ» .
أي أن هؤلاء المشركين الضالين، لم يستجيبوا لهذه الدعوة التي تدعوهم إلى التذكر والتدبّر فى أمرهم.. فلم يتذكروا ولم يتدبروا، بل أمسكوا بكل ما فى كيانهم من ضلال، وقالوا ما كانوا يقولونه من قبل، من أنه لا بعث ولا حساب ولا جزاء، وأنه ليس إلا هذه الحياة الدنيا، ولا حياة بعدها.
«وَقالُوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ» .
أي إن حياتنا ما هى إلا هذه الحياة الدنيا.. «نَمُوتُ وَنَحْيا» .. أي
لا نرى فيها إلا هذه الصور المكررة من حياة وموت، وموت وحياة..
أحياء يموتون، ومواليد يردّون إلى الحياة..! ولا شىء غير هذا..
«وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ» وهكذا تمضى بنا الأزمان والدهور، فتحتوى كلّ حىّ، وتضمّه فى كيانها، وتدرجه فى أكفان العدم الأيدى..
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه
…
يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
وقوله تعالى: «وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» أي إن هذا القول الذي يقولونه، ويقيمون تصوراتهم وأفكارهم عليه، إنما هو من واردات الظنّ الذي لا يستند إلى شىء من العلم. «إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» (36: يونس) قوله تعالى:
أي ومن مقولات هؤلاء الضّالين، القائمة على الظّن الفاسد، أنهم إذا تليت عليهم آيات الله تحدّثهم عن البعث، والحساب والجزاء أنكروا هذا الحديث، وردّوه بلا حجّة، إلا هذه الحجة الفاسدة، وهى أنهم لن يصدّقوا هذا الحديث، ولن يأخذوا به إلا إذا ردّ إليهم آباؤهم الذين ذهبوا، وأن يروهم رأى العين أحياء بينهم! وهذا منطق لا يقبله عقل.. إذ كيف يقوم الأموات من القبور، ويعودون إلى الحياة مرة أخرى، ويعيشون فى الناس، ويشاركونهم الحياة فى هذه الدنيا؟ أهذا مما تحتمله الحياة؟. وهل بعث الأموات من قبورهم ليكونوا فى هذه الحياة الدنيا مرة أخرى- مما لا تتسع له الحياة.؟.
إن الحياة الدنيا لا تتسع إلا لأهلها الأحياء فيها، فإذا ذهبوا جاء غيرهم ليأخذ
مكانهم.. وهكذا.. ولو أنه كان من تدبير الله سبحانه أن يردّ الموتى إلى الحياة الدنيا، ويجعل لهم مقاما فيها لما كان من هذا التدبير أن يموتوا، ولظلوا أحياء أبد الدهر.. وهذا لا يكون إلا إذا لم يكن من هؤلاء الأحياء الخالدين توالد..
لأن التوالد معناه أن يبقى الخلف ويذهب السلف..
وانظر كيف يمكن أن تكون الحياة ليومنا هذا، لو طلع علينا الأموات الذين ضمتهم الأرض، واحتواهم التراب، منذ كان للناس وجود على هذه الأرض؟ يقول المعرّى، وقد وقع فى خاطره هذا التصور:
لو هبّ سكان القبور من الثرى
…
أعيا المحل على المقيم الساكن
لغدوا وقد ملأ البسيطة بعضهم
…
ورأيت معظمهم بغير أماكن!!
فأين هى الأرض التي تتسع لأجيال الناس، وهى تكاد تضيق بهذا الجيل من الناس؟.
فهذا القول الذي يقوله المشركون، ويتحدون به دعوتهم إلى الإيمان بالحياة الآخرة- قول فاسد، لا منطق له.. بل إن هؤلاء المشركين أنفسهم لهم أول الذين يدفعونه لو أنه تحقق، وطلع عليهم موتاهم من الآباء والأجداد..
وسمّى قولهم هذا حجة، لأنه لا حجة عندهم إلا هو.. فهو كل بضاعتهم فى هذا المقام..
قوله تعالى:
هو ردّ على مقولة هؤلاء المشركين، وتقرير للحق الذي لا ريب فيه، دون إقامة وزن لهذه التّرهات التي يهذون بها..
«اللَّهُ يُحْيِيكُمْ» أي هو سبحانه الذي أوجدكم فى هذه الحياة، وأخرجكم من عالم الموات إلى عالم الحياة، وأمسك عليكم هذه الحياة التي ألبسكم إياها «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» وهو سبحانه الذي يميتكم، وينزع عنكم ثوب الحياة الذي ألقاه عليكم..
«ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ» - وهو سبحانه الذي يعيدكم إلى الحياة مرة أخرى، لا إلى هذه الدنيا، وإنما ليدعوكم إلى دار أخرى، غير تلك الدار ويجمعكم فيها..
«وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» .. أي أن أكثر الناس هم الذين يكذبون بالبعث، وينكرون اليوم الآخر.. وذلك لما ركبهم من جهل، وما غشيهم من ضلال..
قوله تعالى:
أي أن هذا الذي يكون من حياة وموت، وبعث، هو من تدبير الله، ومن تصريفه فى ملكه، لا يسأل عما يفعل.. فمن أسلم نفسه لله،
فقد فاز ونجا، ومن أبى أن يسلم نفسه لله، فقد خاب وخسر.. وذلك يوم تنكشف له الحقيقة، ويجد اليوم الذي كان يكذب به، والنار التي توعّد الله بها المكذبين..
قوله تعالى:
هو معطوف على قوله تعالى: «يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ» أي وفى هذا اليوم- يوم القيامة- يخسر المبطلون، وفى هذا اليوم، «تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً» ..
والخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم، وهو خطاب لكل من هو من شأنه أن يرى فى هذا اليوم، ويجد من نفسه القدرة على النظر إلى ما حوله، فى هذا الهول الذي يشتمل على الناس..
والجثو: الإناخة على الركب.. حيث تنحلّ عزائم الناس من الهول المحيط بهم فى هذا اليوم، فلا تحملهم أرجلهم، فيجثون على ركبهم..
أي فى هذا اليوم ترى كل أمة قد اجتمعت، وجنت على ركبها..
وقوله تعالى: «كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا» .. هو جواب عن سؤال يعرض لبيان سبب هذا الجثو، ولهذا وقع الفصل بين الجملتين..
فكأنه قيل: لم تجثو هذه الأمم؟ فكان الجواب: «كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا» أي أن هذا الاجتماع، والاستشهاد من الأمم، لأن كل أمة مدعوة إلى كتابها، الذي تحاسب به، على حسب شريعتها التي دعيت
إليها.. فلكل أمة شريعة، ولكل أمة حسابها على هذه الشريعة.. من حيث اتباعها والاستقامة عليها، أو تضييعها. والخروج عنها..
وقوله تعالى: «الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. لم تعطف هذه الجملة على ما سبقها، لأنها فى تقدير جواب على سؤال مقدر.. فكأنه قيل: لم تدعى الأمم إلى كتابها؟ فكان الجواب: «الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. فهذا هو يوم الحساب والجزاء، بما تنطق به هذه الكتب التي فى أيدى الناس من كل أمة..
قوله تعالى:
«هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
أي أنه حين تجتمع الأمم، وتدعى كل أمة إلى تناول كتابها، يقال للناس وهم يأخذون كتبهم:«هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ» أي يتحدث إليكم بالحق..
وفى تعدية الفعل ينطق بحرف الاستعلاء «على» إشارة إلى أنه ينطق من علوّ، لأنه حق، وحيث كان الحق، فهو على رأس كل أمر..
وقوله تعالى: «إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» أي أن فى هذا الكتاب الذي فى أيديكم أعمالكم التي عملتموها فى دنياكم، فلا تعجبوا أن تجدوا فى هذا الكتاب كل شىء كان منكم، لأننا كنا نكتب ما كنتم تعملون، كما يقول سبحانه فى موضع آخر: «إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى
وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ»
(12: يس) ..
والاستنساخ، نقل من أصل ينسخ منه، ويؤخذ عنه ما ينقل..
والأصل هو اللوح المحفوظ.. وهذا يعنى أن الملائكة الموكلين يحفظ أعمال الناس وتسجيلها إنما ينسخون هذه الأعمال من اللوح المحفوظ، التي سبق علم الله بها، فهى تجرى على ما كان فى علم الله، وعلى ما سجّل فى الكتاب الإمام، وهو اللوح المحفوظ، كما يقول سبحانه. «وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ» ..
قوله تعالى:
ويبدأ بالذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلا ينتظر بهم حتى يفصل فى الكافرين والضالين، وذلك ليروا وجه الخلاص والنجاة من أول الأمر، وبذلك تخلو نفوسهم من هواجس القلق، والفزع، لما يرون مما يحلّ بالظالمين، من بلاء..
فهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، يدخلهم ربهم فى رحمته، ويفيض عليهم من إحسانه، وينزلهم منازل رضوانه. و «ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ» الذي لا فوز مثله..
قوله تعالى:
وإذ يدعى الذين آمنوا إلى جنات النعيم، وإذ يخلو الموقف إلا من من الضالين والمكذبين والكافرين- عندئذ يدعى الضالون والكافرون، يدعون إلى المساءلة والحساب، وقد عرفوا مقدما المصير الذي هم صائرون إليه، فيقال لهم على سبيل التقريع والتنديم:«أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ» وفى هذا مواجهة لهم بالاتهام، وحكم عليهم بالإدانة فيما اتهموا به..
قوله تعالى:
هو مما يقال للكافرين وأهل الضلال فى موقف الحساب.. وهو معطوف على قوله تعالى: «فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ» أي وكنتم إذا قيل لكم: «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها» أنكرتم هذا القول، ورددتموه على قائليه، وقلتم فى تجاهل غبىّ:«ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ؟» إنها لا تقع فى تصورنا إلا من قبيل الظن، الذي لا يبلغ بصاحبه مبلغ اليقين. فكيف ندع حياة نحن فيها، ونتعامل مع حياة أخرى، لا نراها إلا من وراء أوهام وظنون؟.
قوله تعالى:
«وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» .
أي أنه ظهر للكافرين ما كانوا يعملون من سيئات، وانكشف لهم وجهها القبيح الذي ينادى عليهم بالويل والثبور.. «وَحاقَ بِهِمْ» أي حل وأحاط بهم، هذا اليوم الذي كانوا يستهزئون به، وينكرون أن يكون واقعا أبدا..
قوله تعالى:
أي ومما يقال للكافرين فى هذا اليوم، هذا القول الذي يملأ قلوبهم حسرة ويأسا.. إنهم سيتركون فى هذا الهول، كما يترك الشيء المنسيّ، وذلك لأنهم أهملوا النظر فى يومهم هذا، ولم يذكروا أبدا أنهم على وعد معه.. وإن النار لهى مأواهم، ومنزلهم الذي ينزلونه فى هذا اليوم، وإنه لا ناصر لهم يخرجهم من هذا البلاء النازل بهم..
قوله تعالى:
الإشارة إلى هذا العذاب الذي يعذّب به الكافرون، وأنه إنما كان بسبب اتخاذهم آيات الله هزوا، حيث كانوا، إذا تليت عليهم آيات الله أعرضوا عنها، واستخفوا بها، وأطلقوا ألسنتهم بالهذر من القول فيها.. إنهم يفعلون هذا وملء كيانهم كبر وغرور بالحياة الدنيا، وما يتقلبون فيه منها من متاع..
وفى قوله تعالى: «فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» وفى الانتقال من الخطاب إلى الغيبة- إشارة إلى تنوع مواقع المساءات التي تأتيهم من كل جهة.. فتارة يواجهون بما يسيئهم، وتارة تجيئهم المساءات من حيث لا يشعرون..
فهم إذ يواجهون بهذا التقريع لما كان منهم من الهزؤ بآيات الله، والغرور بدنياهم- يجيئهم صوت من بعيد بهذه الصاعقة التي تنصب على رءوسهم: