الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
51- سورة الذاريات
نزولها: مكية عدد آياتها: ستون.. آية عدد كلماتها: ثلاثمائة وستون.. كلمة.
عدد حروفها: ألف ومائتان وسبعة وسبعون حرفا
مناسبتها لما قبلها
ذكرت سورة «ق» موقف المشركين ومقولاتهم المتكررة للبعث، كما ذكرت مع هذه المقولات من آيات الله ومن دلائل قدرته، ما يكشف عن ضلال هذه المقولات، وانحراف هذا الموقف.. ثم ختمت السورة بتخلية النبىّ بين المشركين المعاندين، وبين ما ركبوا من ضلال..
ثم تجىء سورة «الذاريات» ، لتلقى هؤلاء المشركين المعاندين، بحديث مجدّد عن البعث، والحساب والجزاء، ولكن لا تلقاهم لقاء مواجها لهم وحدهم، بل ضمن حديث عام مطلق، موجّه إلى الناس جميعا.. فإن شاءوا استمعوا إليه، وكان لهم أن ينتفعوا به، وإن شاءوا مضوا على ما هم عليه من إعراض ونفور! وذلك ما سنراه فى مطلع هذه السورة الكريمة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات (14- 1)[سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 14]
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4)
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَالذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً فَالْجارِياتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً» .
هذه أربعة أشياء أقسم بها الله سبحانه وتعالى بها، فى نسق واحد.. الذاريات، فالحاملات، فالجاريات، فالمقسّمات..
وقد اختلف فى هذه الأشياء المقسم بها.. أهي شىء واحد تعددت صفاته وآثاره؟ أم هى أشياء متعددة، لكل شىء منها صفته وأثره؟
والرأى الراجح فى هذه الآراء، هو أنها أربعة أشياء.. لكل شىء ذاتيته ووظيفته..
فالذاريات: الرياح، التي تذرو التراب، والدخان، كما تذرو بخار الماء، وتدفعه أمامها، وتعلو به إلى طبقات الجوّ العليا، حتى يتجمع، وبصير سحابا..
والحاملات: هى السحب، المحملة بالماء..
والجاريات: هى السفن التي تجرى فوق الماء..
والمقسّمات: هى الملائكة التي تتقاسم العمل بأمر الله، فى تدبير شئون الناس..
وهذا الرأى يعضّده حديث ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يسند حمل هذا الحديث إلى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، وقد سأله ابن الكوّاء عن حقيقة هذه المسميات، فأجابه عمر- رضى الله- على نحو هذه الإجابة، وفى كلّ واحدة منها يقول عمر:
«ولولا أنى سمعت رسول الله يقولها ما قلتها» ..
وعلى هذا تكون هذه الآيات قد تضمنت أربعة أقسام، مرتبة بهذا الترتيب المتعاقب..
أما الكلمات: ذروا، ووقرا، ويسرا، وأمرا، فالرأى الذي نراه- والله أعلم- أنها أحوال متلبسة بهذه الأشياء التي أقسم الله سبحانه وتعالى بها، وأن الله سبحانه وتعالى أقسم بها فى تلك الحال المتلبسة بها.. فهذه الحال هى التي تجعل لهذه الأشياء شأنا وقدرا، ولو أنها تجردت من هذه الحال، أو لبست حالا أخرى، لما كان لها هذا الشرف العظيم، بأن أقسم الله بها، فإن فى قسم الله سبحانه وتعالى بالشيء تكريما له، ورفعا لقدره، وتنويها لمقامه بين الأشياء..
فالذاريات ذروا: هى الرياح فى حال هبوبها، وقدرتها على حمل بخار الماه والصعود به إلى طبقات الجوّ العليا، ولو أنها كانت أنساما رقيقة مريضة، لما أثارت الأمواج، ولما تحرك من صدر البحار بخار، ولو كان هناك بخار لما استطاعت حمله، والارتفاع به إلى حيث يصير سحابا..
فذروا، مصدر بمعنى اسم الفاعل، والتقدير: والذاريات ذارية، أي حاملة ما يذرى.. وقد تكون الرياح وليس فى كيانها شىء تذروه معها.
أما هذه الرياح، فهى حاملة ما تذروه، ولهذا سميت ذاريات.
والحاملات وقرا: هى السحب الموقرة، أي الحملة بالماء، المثقلة به، وتوشك أن تلده، كما تلد الحوامل المثقلات حملهن..
والجاريات يسرا: هى السفن، فى حال من اليسر، مواتية لسيرها فى ريح رخاء، لا عاصفة، ولا هامدة..
والمقسّمات أمرا، هى الملائكة فى حال حملها لما تؤمر به.
وننظر فى هذه الأقسام على هذا الوجه، فنجدها هكذا: فالرياح ذارية، والسحب موقرة، والسفن ميسّرّا لها الجري، فالملائكة مأمورة بما تقسّمه فى الناس من أرزاق وأرزاء..
فالرياح، والسحب، والسفن، والملائكة، هى فى أحوال لها فيها وجود عامل مؤثر فى حياة الناس.. وفى قسم الله سبحانه وتعالى بها وهى متلبسة بأحوالها تلك- دعوة إلى الناس أن يلتفتوا إليها، وأن يروا آثار رحمة الله بهم فيها..
فلو شاء الله لسكنت الريح، فلم تتخلق السحب، ولم تجر السفن، ولما كان للملائكة عمل على هذه الأرض، إذ لا حياة فيها مع فقدان الماء، الذي يقول سبحانه وتعالى فيه:«وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» .. وهذا- والله أعلم- هو السرّ فى هذا الترتيب المتعاقب بين هذه الأشياء.. فكان أولها الرياح، التي تتخلق منها السحب، التي هى المصدر الوحيد للماء العذب الذي تفيض به الأنهار وتتفجر منه العيون، ثم هى التي تجرى بها السّفن محملة بالناس والمتاع.. ثم هى التي جعلت الملائكة عملا فى حياة الناس، بعد أن كان للناس حياة فى الأرض، بالماء الذي انزل من السحب، والذي تخلّق بفعل الرياح..
قوله تعالى:
«إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ» .
هو المقسم عليه بهذه الأقسام الأربعة، وهو ما يسمّى بجواب القسم..
والآيتان إخبار من الله سبحانه وتعالى بأن ما يوعد به الناس من البعث من قبورهم بعد الموت، هو وعد صادق، لا شك فيه، وأن «الدِّينَ» وهو الدينونة والجزاء، واقع لا محالة..
وفى الإخبار عن الموعود به بأنه صادق، دون القول بأنه «صدق» إذ الصدق وصف للخبر، والصادق، وصف المخبر به- فى هذا إشارة إلى أن هذا الوعد ذاتىّ، وأنه هو ذاته الصادق الذي ينطق بالصدق..
وليست أخبار الله سبحانه وتعالى وهى الحق المطلق- بالتي تحتاج إلى توكيد تحققها بقسم أو غيره، ولكنّ أهل الضلال والعناد، يشكوّن فى نسبة هذه الأخبار إلى الله، كما أنهم لا يرتفعون بقدر الله وجلاله كثيرا عن المستوي البشرى.. ففى تأكيد الخبر لهم بالقسم، دلالة على تكذيبهم لرسول الله، ثم سوء ظنهم بالله..
قوله تعالى:
«وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ» .
الحبك: جمع حبيكة، والحبيكة: ما يكون فى طرف الرداء من طرز ونقوش..
والسماء ذات الحبك: أي السماء المطرزة المزينة بالكواكب والنجوم.
ويؤفك: أي يصرف، وهو من الإفك، وهو افتراء الكذب الذي يصرف به صاحبه عن الحق، وما وراء الحق من خير وقوله تعالى:«وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ» - قسم، والمقسم عليه هو قوله تعالى:«إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ» والخطاب للناس جميعا، والقول المختلف، هو اختلاف مقولات الناس فى أمر البعث، والجزاء.. فهم بين مؤمنين مصدقين بما وعدوا به، وبين مكذّبين بهذا الوعد، منكرين له..
وقوله تعالى: «يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ» أي يصرف عن وجه الحق فى أمر البعث والجزاء، «مَنْ أُفِكَ» أي من صرف عن الحقّ بطبعه، وما غلب عليه من شقوة، فهو وإن كان قد أعرض عن الإيمان بالله، والتصديق بالبعث والجزاء- فإن ذلك حكم سابق فيه، وقضاء قضى عليه به، لأن الله سبحانه قد علم ما يكون من قبل أن يكون.. وقد علم سبحانه أنه ذو طبيعة لا تقبل الحق، ولا تستجيب لداعيه، فصرفه الله عن الحق، كما يقول سبحانه:«ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ» (127: التوبة) وقوله تعالى:
«قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ» ..
الخراصون: جمع خرّاص، وهو الذي يخرص الأشياء وبقدرها بحدسه وظنّه، دون أن يستند فى ذلك إلى علم محقق، كما يفعل الذي يخرص ما على النخل من تمر، وما يعطى الزرع من حبّ..
فالخراصون، هم الكذابون، الذي يقولون بغير علم..
وقوله تعالى: «قُتِلَ» - هو دعاء عليهم، ورمى لهم باللعنة والطرد من رحمة الله..
وقوله تعالى: «الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ» صفة، أو بدل من
«الْخَرَّاصُونَ» .. والغمرة: الشدّة التي تغمر الإنسان وتغطى على مشاعره، وتستولى على تفكيره، وهى من الجهل الذي يغمر صاحبه، ويغطى على عقله، وسمعه، وبصره..
والساهون: الغافلون..
فاللعنة واقعة هنا على الذين يلقون بالسوء من القول، ويرجمون الناس بالتهم جزافا، من غير تعقل أو تدبّر، شأنهم فى هذاه شأن من غلب السكر على عقلة، فجعل يهذى من غير وعى. فهؤلاء الخراصون هم فى سكرة من الجهل والغباء، إلى ما فيهم من عناد واستكبار..
قوله تعالى:
«يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ» .
أي أن من ضلال هؤلاء الخراصين، ومن مقولاتهم الضالة الكاذبة، هذا السؤال الذي يسألونه عن يوم القيامة، سؤال المنكر له، المستبعد لوقوعه، المكذب به.. فيقولون: متى يوم الدين؟ كما ذكر ذلك القرآن الكريم فى قوله تعالى عن إنكار المنكرين للبعث: «مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (25: الملك) .. وقد عبر بالاستفهام عن الزمان بأداة المكان «أبان» للإشارة إلى أنهم ينكرون وقوع هذا الأمر، زمانا ومكانا، فلا يقع فى مكان، أو فى زمان.. وهذه مبالغة منهم فى الإنكار والجحود.. وكأنهم يقولون أين هذا اليوم؟ إنه لا وجود له! ..
وقوله تعالى: