الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ظلّا فى هذا الموقف.. فقد ضلوا عنهم، وتاهوا فى زحمة هذا الكرب العظيم..
وقوله تعالى: «وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ» - الإشارة إلى تلك الحال التي عليها هؤلاء الكافرون، وما أحاط بهم من بلاء لا يجدون له دفعا.. فهذا هو عاقبة كذبهم، وافترائهم على الله..
الآيات: (29- 35)[سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 الى 35]
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَاّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَاّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)
التفسير:
[بيعة العقبة.. وليلة الجن] قوله تعالى:
مناسبة هذه الآية وما بعدها للآيات التي سبقتها، هى أن الآيات السابقة كانت تذكيرا بدعوة نبىّ من أنبياء الله هو هود عليه السلام، وموقف قومه من هذه الدعوة، وتكذيبهم له وتحدّيهم لما ينذرهم به.. ثم كان من هذا، البلاء الذي أحاط بهم، وأتى على كل عامر فيهم- فناسب أن يذكر فى هذا المقام موقف المشركين من دعوة النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وتكذيبهم له، واستهزاؤهم به، وأخذه وأصحابه بكل ما استطاعوا من كيد وضر، حتى لقد هاجر كثير من المسلمين فرارا بدينهم، وحتى لقد ضاق صدر النبي، وغامت نفسه فى مكة، ولم يعد يحتمل لقاء المشركين، والنظر فى وجوههم المنكرة، فخرج إلى الطائف، يلتمس عند أهلها «ثقيف» شيئا من العزاء والرجاء فى تصديقه والاستجابة له.. وفى الطائف وجد النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وحوها أشدّ ضلالا ونكرا من وجوه قريش، إذ رده القوم ردّا سفيها، ولم يكتفوا بهذا بل أغروا به صبيانهم وإماءهم وعبيدهم يرجمونه بأفواههم وبأيديهم..
وبين الطائف ومكة نزل الرسول الكريم منزلا يبيت فيه، عند موضع يقال له «نخلة» وكان معه غلامه زيد بن حارثة الذي صحبه فى رحلته إلى
الطائف.. وفى هذا المنزل بات النبي- صلوات الله وسلامه عليه- مع آيات ربه، يرتّلها، ويتلقى منها أمداد الصبر، والعزم، بما يتلو من قصص الأنبياء السابقين، وما احتملوا فى سبيل الدعوة إلى الله من سفهاء قومهم وشياطينهم..
وما يكاد النبىّ تختم تلاوته، ويفرغ من صلاة الصبح، حتى يستقبل مع أضواء الفجر، سفير السماء إليه من ربه، يحمل إليه قرآنا ينبئه بما كان فى ليلته تلك، وأنه لم يكن وحده فى هذا المنقطع من الأرض، وأنه إذا كان قد وجد من الناس إعراضا عنه، وزهدا فيما بين يديه وعلى فمه من آيات الله- فإن لله سبحانه جنودا غير الناس، يعمر بها كل قفر.. فهاهم أولاء جند من جنود الله، قد جاءوا إليه يستمعون القرآن، ويحسنون الاستماع إليه، وينتفعون بما استمعوا منه، فيؤمنون برسول الله، ويصدقونه، ثم لا يقفون عند هذا، بل يصبحون دعاة يدعون بدعوته، ويبلغون رسالته إلى من لم تبلغه من قومهم..
وإذن، فالنبى- صلوات الله وسلامه عليه- لم يكن وهو فى هذا المكان المنعزل، بعيدا عن موقع الدعوة، بل إنه قائم عليها، حيث تجد آذانا تسمع، وعقولا تعقل، وقلوبا تؤمن.. وأنه إذا لم يكن الرسول هو الذي يسعى إلى من يدعوهم إلى رسالته، فإن طالبى الهدى قد سمعوا هم إليه، حين آنسوا بشائر النور، واستشعروا ريح الخير.. وهكذا شأن أهل الخير، وطلاب الكمال الإنسانى، ينشدون الهدى، ويرتادون مواقعه،
ويستنبئون أنباءه، حتى إذا لا حت لهم بشائره، ولمعت بروق غيوته- أقبلوا عليه مسرعين، فى لهفة وشوق، لا يثيهم عن وجهتهم إليه بعد الشقة، ولا قلة الزاد، ولا تربص الأعداء.. وكما يسعى الكائن الحي إلى رزقه، ويطرق من أجله كل باب يخيل إليه أن وراءه شيئا يشبع جوعه، أو يطفىء ظمأه- كذلك يفعل الراشدون والعقلاء من الناس، حيث يسعون فى طلب غذائهم الروحي، والعقلي، كما يسعون فى طلب حاجة الجسد، وما يكفل له الحياة الهنيئة الطيبة..
وإذا كان النبي- صلوات الله وسلامه عليه- قد وجد فى هذا الخبر السماوي الذي يحمل له أنباء هذا الوفد الكريم، الذي بات فى ضيافته، يتلقى أكرم وأطيب ما يتلقاه ضيف من مضيفه، من بر وإحسان.. حيث قضى هذا الضيف ليلة مباركة يستمع فيها إلى ما يتلو الرسول من آيات الله، ويتلقى من أنوار هذه الآيات ونفحاتها حياة مجددة للأرواح، مطهرة للقلوب، مزكية للنفوس- وإذا كان النبي الكريم، قد وجد فى هذا الخبر السماوي ما آنس وحشته، وثبت فؤاده، وآسى جراح نفسه مما أصابه من يد السفهاء وأفواههم من رميات عمياء حمقاء- فإنه- صلوات الله وسلامه عليه- رأى فى نور هذه الآيات، ومضات مشرقة واضحة على طريق دعوته..
أن هذه الدعوة ستأخذ لها مطلعا جديدا تطلع منه، وأنها ستلتقى بوجوه أخرى لم يكن فى حساب الدعوة أن تلتقى بها فى هذه المرحلة من مسيرتها.. وأنه كما صرف الله إلى النبىّ نفرا من الجن يستمعون القرآن، ويؤمنون به، ويحملون دعوته إلى قومهم، كذلك سيصرف إليه نفرا من الناس، يجلسون إليه، ويستمعون إلى ما يكون من آيات الله، ويؤمنون بما يتلى عليهم، ثم ينقلبون
إلى قومهم منذرين، داعين إلى الله، فاتحين الطريق إلى تلك الدعوة لتأخذ مكانها بين من يؤمنون بها، ويدافعون عنها..
وفى بيعة العقبة الأولى، نرى هذا النفر الكريم من الأنصار، وقد انفرد برسول الله صلى الله عليه وسلم فى مكان منعزل خارج مكة، بعيد عن أهل الموسم الذين امتلأت بهم شعاب مكة وساحاتها، وعلى خوف من قريش، وعيونها الراصدة لحركات النبي، ولكل من يطلب لقاءه، أو ينشد أخباره من أهل الموسم.. ثم جلسوا بين يديه يستمعون فى رهبة وخشوع إلى آيات الله، التي كان قد وقع فى آذانهم بشىء منها، فيما كانت تتناقله الركبان، وتردده الألسنة.. ثم ما أن انتهى النبىّ من تلاوة ما تيسر من آيات الله، حتى وجدت الجماعة نور الإيمان يملأ قلبها، وبرد اليقين يثلج صدرها.. فمدوا أيديهم إلى الرسول الكريم، يبايعونه على الإيمان بالله، والدعوة إلى الله، والنصرة لدين الله..
ويحدث التاريخ أن رجال العقبة الأولى كانوا اثنى عشر رجلا، يذكرون بأسمائهم.. وأنهم كتموا أمرهم عمن شهدوا الموسم من قومهم، فلما انتهى موسم الحج، ورجعوا إلى المدينة، ذاع أمرهم، وكثر أعداد الداخلين فى الإسلام من أهل المدينة، من الأوس والخزرج..
ثم إنه لما كان الموسم التالي، جاء كثير من المسلمين إلى مكة ولم يكن همهم أن يشهدوا الموسم بقدر ما كان من همهم أن يلتقوا برسول الله، وأن يبايعوه، ويتلقوا هدى السماء منه..
وفى ليلة من ليالى الموسم كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه على موعد للقاء القوم عند العقبة، على نحو ما كان من لقائه إخوانهم فى الموسم السابق..
وهناك فى أخريات الليل، توافد القوم أفرادا على هذا المكان، حتى إذا اكتمل جمعهم، وكانوا ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين- كما يقول ابن إسحاق- تحدث إليهم الرسول الكريم، وتلا عليهم ما تيسر من آيات الله، ثم أقبلوا يبايعون رسول الله، على الإيمان بالله، والسمع والطاعة فى المكره والمنشط، والجهاد فى سبيل الله، وأن يمنعوا رسول الله يمنعون منه أنفسهم وأهليهم..
وهكذا تلتقى بيعة العقبة الأولى بليلة الجن فى «نخلة» ويستقبل النبىّ الكريم فى ليلة العقبة نفرا من الإنس، وقد صرفهم الله سبحانه وتعالى إليه ليستمعوا القرآن، فلما حضروه واستمعوا إليه، آمنوا به، ثم ولّوا إلى قومهم منذرين..
وكما أن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- لم ير الجن. ولم يعرف وجوههم، فإنه صلوات الله وسلامه عليه، لم يكد يرى شخوص هؤلاء النفر من الإنس، أو يعرف وجوههم، إذ جاءوا إليه فى ستر من الليل وفى تهامس وتخافت، أشبه بالحجاب المضروب بينهم..
ومن جهة أخرى، فإن فى قوله تعالى على لسان الجن:«يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ» - فى هذا إشارة أخرى إلى بيعة العقبة، وإلى تلك الدعوة التي حملها أهل البيعة إلى قومهم بالمدينة، حيث مجتمع اليهود، وحيث كان كتاب موسى «التوراة» هو الكتاب السماوي الذي يعرف أهل المدينة شيئا عنه، مما كان يحدث به اليهود عن كتابهم، وعن نبيهم موسى عليه السلام.. ولا شك أن حديث أصحاب البيعة إلى قومهم إنما كان يحمل إليهم مع أنباء النبي الجديد الذي ظهر فى العرب، ومعه كتاب منزل من ربه، يتلوه على الناس- كان يحمل إليهم مع هذا حديثا مقارنا لهذا
الكتاب والكتاب الذي بين يدى اليهود، وهو التوراة..
ولعلّ هذا هو السرّ، فى اختصاص كتاب موسى بالذكر، دون الإنجيل، وهو أقرب عهدا بالقرآن..!!
ومن عجب أننا لا نجد أحدا من المفسرين فيما بلغ علمنا- قد التفت إلى ما وراء ليلة الجن هذه، وما تومىء إليه من اتجاه مسيرة الدعوة الإسلامية، بعد تلك الليلة، وما بينها وبين بيعة العقبة من مشابه، وخاصة بعد أن أصبحت بيعة العقبة أمرا واقعا، يأخذ مكانه البارز فى حياة الدعوة الإسلامية..
من عجب ألا يلفت أحد من المفسرين إلى شىء من هذا، على حين اتسع لهم مجال القول، وانفسحت أمامهم آفاق الخيال.. فتحدثوا أحاديث عجبا عن هذا النفر من الجنّ الذين استمعوا إلى الرسول، فذكروا عددهم، وأسماءهم واحدا واحدا، والقبيلة التي ينتسبون إليها من قبائل الجنّ، والوطن الذي يعيشون فيه، وهو «نصيبين» من أرض الشام.. إلى غير ذلك من الأخبار التي تنطق الآيات القرآنية بكذبها.. فالقرآن يحدّث بأن النبي صلى الله عليه وسلم، لم ير لهؤلاء الجن وجها، ولم يحس لهم ركزا، حتى جاءه خبر السماء بقوله تعالى:
فهذا إخبار للنبى بأمر لم يقع منه موقع الحس والمشاهدة.. وأكثر من هذا ما نجده فى قوله تعالى: «قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً» .. فهذا خبر صريح بأن النبي لم يكن يعلم من أمر هذا النفر من الجن شيئا، وأن الله سبحانه قد أوحى إليه بأن الجن قد استمعوا إليه» .. فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً» .. فعلم النبي عن هؤلاء الجن إنما كان بما أوحى إليه الله سبحانه وتعالى من خبرهم، وما أعلمه من أمرهم..
فكيف يقال- مع هذا- إن عددهم كان كذا، وأن أسماءهم هى كيت وكيت، وأن موطنهم هو كذا، وأن قبيلتهم هى كيت؟.
كيف يقال هذا، والنبي- صلوات الله وسلامه عليه- لم يحدّث بشىء منه قطعا، لأنه لا يحدث إلا بما يعلم، وهو لم يعلم من أمر هؤلاء الجنّ شيئا، حتى أعلمه الله سبحانه، أن جماعة من الجن قد استمعوا إليه، دون أن يراهم، أو يشعر بهم!.
ونعود إلى شرح ما فى الآيات من مفردات، وعبارات..
قوله تعالى: «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ» - صرف الشيء حوله من حال إلى حال، ومن موقف إلى موقف، وصرف الشيء إلى الشيء توجيهه إليه..
ومنه تصريف الرياح، أي إطلاقها من مهابتها التي تهبّ منها إلى الجهات الموجهة إليها..
وهذا يعنى أن الله سبحانه وتعالى، قد وجّه هؤلاء النفر من الجنّ، إلى حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم، يتلو القرآن..
النفر: الجماعة التي تصلح للنفير من ثلاثة إلى عشرة.
قوله تعالى: «فَلَمَّا حَضَرُوهُ» أي كانوا بمحضر منه، بكيانهم كلّه، حسّا ومعنى، فالحضور هنا حضور تجتمع له ملكات الحاضر كلها.. ولهذا كان من الجن هذا الإدراك السّريع، والفهم الفاقة لما استمعوا إليه من آيات الله، وإنه ما إن وقع لآذانهم شىء من القرآن، حتى خشعوا بين يديه، وقالوا بلسان واحد:«أَنْصِتُوا» .. وهذا الإنصات الخاشع اليقظ، هو الذي يفتح المدركات إلى آيات الله، ويجعل للبصائر بصرا هاديا إلى مواقع العبرة والعظة منها، ولهذا جاء قوله تعالى: «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ»
(204: الأعراف) .. فالرحمة إنما ترجى لمن يمتلىء قلبه بإيمان الله وخشيته، ولن يقع الإيمان والخشية إلا لمن يتلقاها من آيات الله وكلماته..
ولا يتلقى من آيات الله وكلماته شيئا إلّا من أنصت خاشعا، ونظر مفكرا، واستمع متدبّرا..
قوله تعالى:
«فَلَمَّا قُضِيَ» أي فرغ من تلاوة ما كان يتلى من القرآن..
وفى التعبير، بالفعل «قُضِيَ» بدلا من فرغ، أو انتهى، ونحوهما مما يدلّ على بلوغ الغاية- إشارة إلى أن حقّا يقضى، ومطلوبا يطلب..
فالنبى صلى الله عليه وسلم كان يقصد بتلاوة القرآن فى ليلته تلك ذكر ربه، وإرواء قلبه، بكلمات الله ويأته.. والجنّ الذين استمعوا. قد كان مجلسهم للاستماع، إنما هو لا لنماس خير، وطلب هدى.. وقد قضى النبي الكريم مأربه، بتلاوة ما تيسر له من القرآن، كما قضى الجنّ طلبتهم فيما جاءوا له، من التماس الخير والهدى..
قوله تعالى:
عاد القرآن الكريم إلى مواجهة المشركين، بعد أن ساق إليهم هذا الخبر العجيب الذي يحدّث عن استماع الجن لهذا القرآن، الذي، كذبوا به، وسخروا من الرسول الذي يتلوه عليهم، مع أن الكتاب كتابهم، واللسان الذي ينطق به لسانهم، والرسول الذي يتلوه عليهم بشر مثلهم، وواحد من قومهم! فهل بعد هذا الضلال ضلال؟ وهل بعد هذا الخسران خسران؟
ففى مواجهة القرآن للمشركين بعد هذا، وفى لقائهم بما شبّه عليهم من أمر البعث، الذي كان السبب الأول فى تكذيبهم للرسول، وإنكارهم لكل ما جاءهم به- فى هذا ما يجعل هؤلاء المشركين يلقون قضية البعث لقاء مجدّدا، قد يفتح لكثير منهم الطريق إلى الحق والهدى.. فقد رأوا ما بين يدى الله من قدرة قادرة، ملك بها هذا الوجود زمانا ومكانا وخلقا وتصريفا، وأنه سبحانه الذي خلق السموات والأرض، وما عليهما، وما فيهما، وما بينهما.. فكيف ينكر عاقل على الله- وتلك بعض مظاهر قدرته- أن يحيى الموتى، ويبعثهم من قبورهم؟ «أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً؟» فهؤلاء الموتى لم يكونوا شيئا، فإعادتهم إلى الحياة بعد الموت، أيسر، وأقرب- فى حدود النظرة الإنسانية- من خلقهم الأول، ولم يكونوا شيئا!! وقوله تعالى:
«بَلى» أداة يجاب بها فى الإثبات للمستفهم عنه، الواقع فى حين استفهام منفىّ.. أي بلى، قادر على أن يحيى الموتى.. وهذا الجواب، هو الجواب الحق، الذي ينطق به الوجود كلّه، وهو حجة ملزمة للمشركين، سواء أنطقوا به أو لم ينطقوا..
وقوله تعالى:
«إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» تقرير للجواب، وتأكيد له..
قوله تعالى:
ومن هذه المواجهة للمشركين بأمر البعث، وتقريره على تلك الصورة القاطعة الملزمة- ينتقل المشركون المكذبون بالبعث فى سرعة خاطفة- لا إلى البعث، بل إلى ماوراء البعث، من حساب وجزاء، وإذا هم بين يدى جهنم التي كانوا يكذبون بها، ويكفرون بيومها-:«هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ» ..
وقوله تعالى: «أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ» .. هو سؤال تأنيب، وتقريع، وإيلام للمشركين المكذبين بيوم الدين، وبما أنذروا به من عذاب الله فى هذا اليوم..
والمشار إليه هنا، هو العذاب.. أي أليس هذا العذاب بالحق؟ إنكم لم تظلموا شيئا، فهذا جزاء ما عملتم..
وقوله تعالى: «قالُوا بَلى!» هو إقرار منهم، يدينون به أنفسهم، وبأن هذا العذاب الواقع بهم هو من صنع أنفسهم، وبما كسبت أيديهم! وقوله تعالى:«قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» هو دفع بالمشركين إلى أودية جهنم، وإطعام لهم مما فيها من ألوان العذاب والنكال.. فليذوقوه حميما وغساقا، فليس لهم اليوم هنا هنا حميم، ولا طعام إلا من غسلين..
قوله تعالى:
وبهذه الآية الكريمة تختم السورة بهذا التوجيه الكريم من الله سبحانه لرسوله- صلوات الله وسلامه عليه- يدعوه فيه إلى أن يصبر على ما يلقى من
أذى المشركين، وعنادهم، وألا يستعجل لهم العذاب فى الدنيا، فإن العذاب الذي ينتظرهم فى الآخرة قريب، وأنه حين يقع بهم، لا يحسبون حسابا لأيام الدنيا التي عاشوها، وقطعوا فيها أعمارهم، فإنه أيّا كانت أعمارهم تلك من الطول، فسيرونها يومئذ لم تكن غير ساعة من نهار.. وأنهم ولدوا صباح يوم، ثم أخذهم عذاب الآخرة فى ضحى هذا اليوم! فهل من يرى هذا الزمن على حقيقته يستعجل العذاب لأهل العذاب؟ ..
وفى قوله تعالى: «كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ» - ما يسأل عنه..
فأولا: من هم أولو العزم من الرسل؟ وهل من الرسل ما لا يتصف بهذه الصفة؟ ثم ألا يكون عدم اتصاف الرسول بتلك الصفة مما ينافى المهمة المنتدب لها من السماء؟ ..
اختلف المفسرون فى تحديد أولى العزم من الرسل.. والرأى على أنهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، صلوات الله وسلامه عليهم..
ولا شك أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه، - وهو المقصود بهذا الأمر، كان يعرف عن يقين من هم أولو العزم من الرسل.. أما غير الرسول فإنه ليس مطالبا بأن يعرف من هم أولو العزم من الرسل، إذ لم يكن لغير الرسول شىء فى هذا الأمر الموجه إليه من ربه، إذ كان امتثال هذا الأمر، والوفاء به، هو مما يطالب به النبي وحده، لما أتاه الله من فضله، من نفس عظيمة تتسع لهذا الأمر العظيم، والله سبحانه وتعالى يقول:«لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» (286: البقرة) .. وإن كان هذا لا يمنع من أن يكون لنا فى رسول الله أسوة، فى مقام الصبر على ما نبتلى به من شدائد.
أما أن يكون هناك من الرسل من لا يتصف بهذه الصفة، فذلك ما صرح به القرآن فى قوله تعالى عن آدم عليه السلام:«وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» (115: طه) وقوله تعالى عن يونس عليه السلام: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ» (48: القلم) ..
فالرسل- عليهم الصلاة والسلام- وإن كانوا أكمل الناس كمالا، وأكرمهم مقاما، هم- فى كمالهم ومقامهم الذي لا يساميه أحد من البشر- درجات، بعضها فوق بعض، كما يقول سبحانه:«تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» (253: البقرة) ..
وإذا كان فى الرسل- عليهم السلام الفاضل والمفضول، فإن هذا- كما قلنا- لا ينقص من قدر المفضول، إذ كان- وهو فى مقامه هذا- على هامة الكمال المتاح للبشر، من غير رسل الله..
وثانيا: فى دعوة الرسول إلى أن يتشبه فى الصبر بمن سبقه من أولى العزم من الرسل- فى هذا ما يفهم منه أن غاية الرسول من الصبر هو أن يكون كأحد هؤلاء الرسل الكرام- والسؤال هنا: كيف يكون الرسول صلوات الله وسلامه عليه فى مقام من يطلب الأسوة للحاق بغيره من أولى العزم، وهو خاتم النبيين، وإمام المرسلين؟.
والجواب على هذا من وجهين:
أولا: أن الأمر بالصبر هنا يحمل تهديدا للمشركين، وأن على النبي ألا يستعجل لهم العذاب، الذي هو قريب منهم.. فالمراد بالصبر ليس صبر المعاناة والاحتمال وحسب، وإنما المراد به أوّلا، هو صبر الانتظار، والإمهال،
كما يقول سبحانه: «فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17: الطارق) ..
وقد كان الرسل فى هذا فريقين، فريقا استعجل العذاب لقومه، بعد أن بلغهم رسالة ربه، كما يقول الله سبحانه على لسان نوح:«وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» (26: نوح) .. وكما فعل يونس، حين زايل موقفه من قومه قبل أن يؤمنوا بالله، وتركهم لمصيرهم، الذي يصير إليه الضالون المكذبون.. وفريقا صبر وانتظر، حتى جاء أمر الله فى قومه، كما فعل إبراهيم، وموسى، وعيسى، فلم يدع أحد منهم ربّه بأن يهلكهم، على كثرة ما ساقت إليهم أقوامهم من ألوان العنت والأذى..
أما النبي صلوات الله وسلامه عليه، فإنه قد جاوز هذه الغاية إلى غاية أخرى، فكان لسانه دائما داعيا إلى الله بهداية قومه، والصفح عنهم.. حتى فى أشد أحوالهم إعناتا وأذى له.. كما كان ذلك فى موقفه- صلوات الله وسلامه عليه- يوم أحد، وقد شجه المشركون، وأسالوا دمه، وكسروا رباعيته، فما زاد أن وجّه وجهه إلى السماء، وبسط يديه إلى ربه قائلا:«اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون» .
وثانيا: أن فى قوله تعالى: «وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ» - إشارة صريحة إلى إلى أن الصبر المطلوب هنا، هو صبر الإمهال والانتظار، لا صبر الاحتمال والمعاناة، - كما أشرنا إلى إلى ذلك من قبل- وهذا يعنى أن الأمر بالصبر الموجه إلى النبي من ربه سبحانه وتعالى، إنما يراد به تهديد المشركين بالعذاب الذي ينتظرهم، والذي يطلب إلى النبي ألا يستدعيه لهم، ولا يستعجل وقوعه بهم، فهم سائرون إليه، وسيلقونه عما قريب.. إنها ساعة من نهار، ثم يلقاهم العذاب الذي يستعجلونه..
وعلى هذا، فإن الصبر المطلوب من النبىّ، منظور فيه إلى قومه، وإلى أنهم لن يعذّبوا فى الدنيا، وإنما سيؤجل عذابهم إلى الآخرة، كما فعل بأقوام أولى العزم من الرسل..