المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآيات: (16- 19) [سورة محمد (47) : الآيات 16 الى 19] - التفسير القرآني للقرآن - جـ ١٣

[عبد الكريم يونس الخطيب]

فهرس الكتاب

- ‌الآيات: (47- 54) [سورة فصلت (41) : الآيات 47 الى 54]

- ‌42- سورة الشورى

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 12) [سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 12]

- ‌الآيات: (13- 16) [سورة الشورى (42) : الآيات 13 الى 16]

- ‌الآيات: (17- 20) [سورة الشورى (42) : الآيات 17 الى 20]

- ‌الآيات: (21- 26) [سورة الشورى (42) : الآيات 21 الى 26]

- ‌الآيات: (27- 35) [سورة الشورى (42) : الآيات 27 الى 35]

- ‌الآيات: (36- 43) [سورة الشورى (42) : الآيات 36 الى 43]

- ‌الآيات: (44- 50) [سورة الشورى (42) : الآيات 44 الى 50]

- ‌الآيات: (51- 53) [سورة الشورى (42) : الآيات 51 الى 53]

- ‌43- سورة الزخرف

- ‌مناسبة السورة لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 8) [سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 8]

- ‌الآيات: (9- 19) [سورة الزخرف (43) : الآيات 9 الى 19]

- ‌الآيات: (20- 25) [سورة الزخرف (43) : الآيات 20 الى 25]

- ‌الآيات: (26- 35) [سورة الزخرف (43) : الآيات 26 الى 35]

- ‌الآيات: (36- 44) [سورة الزخرف (43) : الآيات 36 الى 45]

- ‌الآيات: (46- 56) [سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 56]

- ‌الآيات: (57- 65) [سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 65]

- ‌الآيات: (66- 73) [سورة الزخرف (43) : الآيات 66 الى 73]

- ‌الآيات: (74- 83) [سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 83]

- ‌الآيات: (84- 89) [سورة الزخرف (43) : الآيات 84 الى 89]

- ‌44- سورة الدخان

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 16) [سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 16]

- ‌الآيات: (17- 33) [سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 33]

- ‌الآيات: (34- 48) [سورة الدخان (44) : الآيات 34 الى 50]

- ‌الآيات: (51- 59) [سورة الدخان (44) : الآيات 51 الى 59]

- ‌45- سورة الجاثية

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 5) [سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 5]

- ‌الآيات: (6- 11) [سورة الجاثية (45) : الآيات 6 الى 11]

- ‌الآيات: (12- 15) [سورة الجاثية (45) : الآيات 12 الى 15]

- ‌الآيات: (16- 22) [سورة الجاثية (45) : الآيات 16 الى 22]

- ‌الآيات: (23- 35) [سورة الجاثية (45) : الآيات 23 الى 35]

- ‌الآيتان: (36- 37) [سورة الجاثية (45) : الآيات 36 الى 37]

- ‌46- سورة الأحقاف

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 6) [سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 6]

- ‌الآيات: (7- 14) [سورة الأحقاف (46) : الآيات 7 الى 14]

- ‌الآيات: (15- 20) [سورة الأحقاف (46) : الآيات 15 الى 20]

- ‌الآيات: (21- 28) [سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 الى 28]

- ‌الآيات: (29- 35) [سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 الى 35]

- ‌47- سورة محمد

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 9) [سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 9]

- ‌الآيات: (10- 15) [سورة محمد (47) : الآيات 10 الى 15]

- ‌الآيات: (16- 19) [سورة محمد (47) : الآيات 16 الى 19]

- ‌الآيات: (20- 30) [سورة محمد (47) : الآيات 20 الى 30]

- ‌الآيات (38- 31) [سورة محمد (47) : الآيات 31 الى 38]

- ‌[الجهاد.. والحرب النفسية]

- ‌48- سورة الفتح

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات (3- 1) [سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 3]

- ‌الآيات (7- 4) [سورة الفتح (48) : الآيات 4 الى 7]

- ‌الآيات (14- 8) [سورة الفتح (48) : الآيات 8 الى 14]

- ‌الآيات (17- 15) [سورة الفتح (48) : الآيات 15 الى 17]

- ‌الآيات (26- 18) [سورة الفتح (48) : الآيات 18 الى 26]

- ‌الآيات (29- 27) [سورة الفتح (48) : الآيات 27 الى 29]

- ‌49- سورة الحجرات

- ‌مناسبتها للسورة قبلها

- ‌الآيات (1- 5) [سورة الحجرات (49) : الآيات 1 الى 5]

- ‌الآيات (13- 6) [سورة الحجرات (49) : الآيات 6 الى 13]

- ‌الآيات (18- 14) [سورة الحجرات (49) : الآيات 14 الى 18]

- ‌50- سورة «ق»

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات (11- 1) [سورة ق (50) : الآيات 1 الى 11]

- ‌الآيات (26- 12) [سورة ق (50) : الآيات 12 الى 26]

- ‌الآيات (37- 27) [سورة ق (50) : الآيات 27 الى 37]

- ‌الآيات (45- 38) [سورة ق (50) : الآيات 38 الى 45]

- ‌51- سورة الذاريات

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات (14- 1) [سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 14]

- ‌الآيات: (15- 32) [سورة الذاريات (51) : الآيات 15 الى 23]

- ‌الآيات (30- 24) [سورة الذاريات (51) : الآيات 24 الى 30]

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌الآيات: (16- 19) [سورة محمد (47) : الآيات 16 الى 19]

وفى تلك الجنة «أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ» ، أي بلذّ طعمها للشاربين..

فليس فيها من خمر الدنيا هذا الطعم المرّ اللاذع، كما أنها لا تخامر العقل، ولا تذهب باللّب، كما يقول الله تعالى:«لا فِيها غَوْلٌ» (47: الصافات) .

وفى الجنة أيضا أنهار من عسل مصفى أي خالص من أي شائبة تعلق به..

إنها جنة فيها مشابه مما عرف الناس من نعيم الدنيا، ولكن الفرق بعيد، والبون شاسع بين الحقيقة والمثال، بين الكائن الحىّ وظله الواقع على الأرض!

‌الآيات: (16- 19)[سورة محمد (47) : الآيات 16 الى 19]

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَاّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَاّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19)

التفسير:

قوله تعالى:

«وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً؟ أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» ..

الضمير فى «مِنْهُمْ» يعود إلى مفهوم من الآيات السابقة، التي أشارت إلى

ص: 333

المشركين، وتوعدتهم بالعذاب فى الدنيا والآخرة.. ففى قوله تعالى:«أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» - فى هذا إشارة إلى المشركين.. وقوله تعالى: «وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ» - فيه إشارة أخرى إليهم.. فهم الموصوفون بأنهم ممن زين لهم الشيطان أعمالهم واتبعوا أهواءهم، وهم المتوعّدون بأن يسقوا ماء حميما يقطع أمعاءهم..

فقوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ» أي ومن هؤلاء المشركين، منافقون، جاءوا يستمعون إليك.. لا يريدون الهدى، ولا يطلبون الإيمان، وإنما يريدون أن يشغبوا، وأن يشوشوا على النبي، إن وجدوا سبيلا إلى الشغب والتشويش، فإن لم يجدوا سبيلا إلى هذا فى مجلس النبي صلوات الله وسلامه عليه، تصيّدوا الأكاذيب والمفتريات، ثم أذاعوها فى الناس، متخذين من حضورهم مجلس القرآن، دليلا على أنهم يقولون عن علم، ويتحدثون عن وقع! ..

وقوله تعالى: «حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً» ؟ ..

«حتى» حرف غاية، أن غاية هؤلاء الذين يستمعون هذا الاستماع إلى النبي، وإلى ما يتلو من آيات الله- غايتهم هى أن يقفوا من الذين أوتوا العلم هذا الموقف، الذي يلقونهم فيه هازئين، مشككين فى آيات الله، وفى المعاني الكريمة التي بين يديها..

فلولا حضورهم مجلس النبي والاستماع إلى ما يتلو من آيات الله، لما كان لهم سبيل إلى أن يقفوا هذا الموقف من المؤمنين، الذين حضروا معهم هذا

ص: 334

المجلس- فحضورهم مجلس النبي له غاية ينتهى إليها، وتلك الغاية هى الخروج من عند النبي، وموقفهم المؤمنين قائلين لهم:«ماذا قالَ آنِفاً؟» ..

وواضح أن هؤلاء الذين أشارت إليهم الآية فى قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ» - واضح أن هؤلاء من المشركين المنافقين الذين جاءوا إلى النبي يستمعون إلى ما يقول، وهم على شركهم، وإن أعلنوا إسلامهم، ودخلوا فى المسلمين..

ولذين أوتوا العلم فى قوله تعالى: «قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» هم المسلمون، الذين دخلوا فى الإسلام مؤمنين، وكانوا فى مجلس النبي يستمعون لآيات الله تتلى عليهم.. فهؤلاء المسلمون المؤمنون، هم أهل علم بما استمعوا إليه من آيات الله، وكلماته.. لأنهم استمعوا بآذان مصيغة، وقلوب واعية، وعقول متحررة من التبعية والتقليد الأعمى.. ومن هنا كان لهم هذا العلم الذي حصلوه من آيات الله التي استمعوا إليها.. وفى هذا تعريض بالمنافقين، ووصفهم بالجهل والغباء والبلادة.. وأنهم لو كانوا على حظ من العقل والإدراك، لكانوا من الذين أوتوا العلم، الذين جلسوا فى مجلسهم، واستمعوا إلى ما استمعوا إليه، ولكن شتان بين أذنين تسمعان.. أذن إنسان، وأذن حيوان!!.

فهؤلاء المنافقون، الذين استمعوا إلى النبىّ، قد فضحوا أنفسهم، وكشفوا عن غبائهم، إذ جاءوا يسألون عن مضمون كلام استمعوا إليه، دون أن يدركوا له معنى، مع أن هذا الكلام قد أفاء على من استمعوا إليه، وأحسنوا الاستماع- قد أفاء عليهم علما، وخلع عليهم خلعة العلماء، فكانوا من الذين أوتوا العلم، يسألهم المشركون المنافقون هذا السؤال النبىّ:«ماذا قالَ آنِفاً» ؟

ص: 335

وهو سؤال المستهزئ.. و «آنِفاً» أي من قبل.. فهى كلمة تدل على الزمن الماضي.. منصوبة على الظرفية، كأنهم قالوا: ماذا قال عشية، أو غدوة، أو صباحا، أو مساء..

قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» هو الحكم الذي وقع على هؤلاء المنافقين، بعد موقفهم هذا من الاستماع إلى القرآن الكريم، يتلوه الرسول الكريم، ثم سؤالهم عما سمعوا، هذا السؤال المستهزئ المنكر..

فهؤلاء هم الذين طبع الله على قلوبهم، وختم عليها، فلا تقبل خيرا، ولا تأذن بخير يدخل إليها، ومن أجل هذا فقد أخلوا مع أهوائهم، تقودهم إلى حيث مواقع الضلال والهلاك، دون أن تمتد إليهم يد منقذة.. إنهم قطعوا كل سبب يصل بينهم وبين أية وسيلة من وسائل الإنقاذ..

قوله:

«وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» .

الذين اهتدوا هم أولئك المؤمنون الذين أوتوا العلم، وهم كل المؤمنين..

إذ لا يكون الإيمان إيمانا إلا عن علم..

والذين اهتدوا إنما اهتدوا لأنهم أوتوا علما، فكان هذا العلم طريقا فسبحا لهم إلى مزيد من العلم، ومزيد من الهدى.. فكلما ازداد الإنسان معرفة بربه ازداد هدى. وازداد تقوى.. «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» (28: فاطر) ..

وهذا يعنى أمورا:

ص: 336

أولا: أن على الإنسان أن يلتمس الهدى ويطلبه من ذات نفسه.. وهو فى هذا إنما يستجيب لفطرته، ولداعى عقله.. فإذا لم يتجه إلى هذا الاتجاه، كان مصادما لفطرته، معطلا لمدركاته.. إنه حينئذ يكون أشبه بالحبّة التي أصابها السوس، أو مسّها العفن والعطن.. إنها تبذر مع غيرها من الحب، وتسقى الماء كما يسقى غيرها، ولكنها تظل جسما ميتا هامدا فى الأرض، يأكله الثرى، على حين يخرج غيرها نباتا، ثم يكون زرعا، مزهرا مثمرا..

إن كل حبة من تلك الحبات التي نبتت وازدهرت وأثمرت، لم تخرج إلى وجه الأرض إلا بما فيها من حياة كامنة، وإلا بمجهود ذاتى، بذلته الحبة حين اختلطت بالماء والتراب، حتى لكأنها الأنثى تضع حملها، فتعانى آلام الطلق، والوضع!.

والذين «اهْتَدَوْا» أي بذلوا جهدا ذاتيا من أنفسهم، للاتجاه نحو النور، والدخول فى دائرته- هؤلاء يزيدهم الله هدى بهذا النور الذي وضعه بين أيديهم، فيرون على ضوء هذا النور أكثر مما رأوا، حيث تهديهم هذه الرؤية إلى نور أعظم، فيسعون إليه، ويدخلون فى دائرته.. وهكذا.. «نُورٌ عَلى نُورٍ.. يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ» (35: النور) وفى قوله تعالى: «وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» - إشارة إلى أن التقوى التي يبلغها المؤمن بإيمانه، هى مطلب أعظم من مطلب العلم، وأنها إنما تنال بعد جهد، ومصابرة.. ولهذا، فإنه إذ يبلغ الإنسان الدرجة التي يدخل بها مدخل المتقين، يحتفى به فى الملأ الأعلى، وتخلع عليه خلعة التقوى من الله رب العالمين، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» .. إنها هبة عظيمة من الله، وعطاء كريم، من رب كريم، لعباد كرام على الله، مكرمين فى رحابه..

ص: 337

وفى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا» وقوله تعالى: «وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» - ما يشير إلى أن تحصيل العلم ليس غاية فى ذاته، وإنما هو وسيلة إلى تحصيل الهدى، وبالهدى يكون تحصيل الصفات الطيبة، التي تكمّل الإنسان، وتجمّله، وإنه لا أكمل، ولا أجمل من التقوى.. كما يقول سبحانه:«وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ» (26: الأعراف) وقوله سبحانه. «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى» (197: البقرة) ..

ومن أجل هذا- والله أعلم- جاء فعل الهدى محمولا على فاعله: «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا» .. على حين جاء إتيان التقوى مسندا إلى الفعّال المريد، الله رب العالمين:«وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» لأن التقوى مطلب مسير، ومقام كريم، تمتد به يد الرحيم الكريم، إلى من أخذوا بالأسباب إلى التقوى..

قوله تعالى:

«فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ» .

الاستفهام هنا إنكارى، تقريعى، تهديدى، ينكر على المشركين موقفهم هذا، من الإيمان بالله وبرسول الله، ويقرّعهم على أنهم لم يفتحوا أبصارهم ولا بصائرهم لهذا النور الذي بين أيديهم، ولا إلى هذه المثلاث التي حلّت بالأمم من قبلهم.. ثم يتهددهم بالعذاب الذي يلقاهم يوم القيامة، وقد قرب يومها، وجاءت أشراطها، أي العلامات المنذرة بمقدمها..

فهؤلاء المشركون..ماذا ينتظرون؟ هل ينتظرون- إن انتظر بهم- إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون؟

وإنها لآية لا ريب فيها.. فكيف يكون حالهم إذا جاءتهم، وقدّموا للحساب والجزاء؟ .. هل ينفعهم شىء فى هذا اليوم؟ وهل من سبيل إلى أن يصلحوا ما أفسدوا؟ كلا، فقد انتهى وقت

ص: 338

العمل، وجاء وقت الحساب والجزاء.. لقد انتقلوا من دار العمل والابتداء إلى دار الثواب والعقاب.

وقوله تعالى: «فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ» .. أي فكيف تنقعهم الذكرى، إذا جاءتهم الساعة؟ والذكرى هى العبرة والعظة.. وفى يوم القيامة تكثر العبر والعظات، وتمتلىء القلوب بالندامة والحسرة على ما كان من الإنسان من تفريط فى جنب الله، وتقصير فى رعاية حقه.. فمن لم يكن مؤمنا قتل نفسه حسرة على أنه لم يكن فى المؤمنين، ومن كان مؤمنا ندم على ألا يكون فى المحسنين، ومن كان فى المحسنين، ندم على أنه لم يزدد إحسانا.. ولكن لا شىء ينفع فى هذا اليوم، إلا ما كان من عمل فى الدنيا. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى. «يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي» (23- 24: الفجر) .

قوله تعالى:

«فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ» .

المتقلب: ما يتقلب فيه الإنسان من شئون الحياة، والمراد به الحركة..

والمثوى المأوى، الذي يثوى إليه الإنسان، ويسكن إليه، والمراد به:

السكون.. والآية التفات من الله سبحانه وتعالى إلى النبي الكريم، واستدعاء، واستدناء له من الله، ليتلقّى ما يوصيه به ربه، تاركا هؤلاء المشركين وما هم فيه من عمى وضلال.. إنهم استحبوا العمى على الهدى، وآثروا الضلال والشرك، على الإيمان.. فلبموتوا بشركهم، وليلقوا المصير الذي هم أهل له..

أما أنت أيها النبي «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» .. فالألوهة مقصورة على الله وحده، لا يشاركه فيها أحد.. «إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ» .. «وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» .

ص: 339

والسؤال هنا: ماذا يراد بالعلم المطلوب من النبي أن يعلمه، من أنه لا إله إلا الله؟ وهل كان النبي إلى نزول هذه الآية الكريمة، لا يعرف هذه الحقيقة؟

إن النبي- صلوات الله وسلامه عليه- كان على التوحيد الخالص لله قبل أن يبعث، فكيف يراد منه أن يعرف هذه الحقيقة بعد أن بعث؟ وهل الخلاف بينه وبين قومه إلا على عبادة الله وحده، دون ما يعبدون من آلهة؟.

فما مفهوم هذا الأمر بالعلم؟

الجواب- والله أعلم- من وجوه:

أولا: أن دعوة النبي من الله سبحانه وتعالى للعلم بأن لا إله إلا الله- هو نداء قرب وأنس للنبى من ربه، يلقى إليه فيه بالوصف الذي ينبغى أن يعلمه من ربه، فيحققه، ويؤكده..

وثانيا: العلم المطلوب من النبي- صلوات الله وسلامه عليه- ليس هو العلم المجرد، وإن كان مستيقنا، وإنما هو العلم الذي يعطى ثمرا حاضرا.. والمراد بدعوة النبي هنا بأن يعلم أن لا إله إلا الله- هو ألا يأسى على هؤلاء المشركين والمنافقين، وألا يحفل بهم وبكثرتهم وقوتهم، فإن الله الذي لا إله إلا هو، معينه، ومؤيده، وناصره على كل عدو له، وللدين الذي جاء به.. إنه سبحانه صاحب الأمر، ومالك الملك..

وثالثا: إذا كان مطلوبا من النبي أن يذكر ربه، وأن يجدد له كل حين بهذا الذكر ولاء لربه، وخضوعا لجلاله وقدرته- إذا كان ذلك مطلوبا من النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وهو الذي تنام عينه ولا ينام قلبه عن ذكر ربه- فإن غير النبي أولى بأن يقيم على نفسه من هذا الأمر حارسا يحرسه من أهواء نفسه، ووساوس شيطانه، حتى لا يلهو عن ذكر الله، ولا يقطع الصلة بينه وبين ربه، فتمتد غربته عن ربّه ساعات، أو أياما، أو شهورا، أو سنين!!.

ص: 340

قوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» .. أي اطلب المغفرة من الله سبحانه وتعالى، لذنبك، ولذنوب المؤمنين والمؤمنات، وذلك فى حال استحضارك ذكر ربك، والإقرار بتفرده بالألوهة.. فإذا كان ذلك، كان طلب المغفرة لذنبك، ولذنوب المؤمنين، طلبا واقعا موقع القبول، لأنه متوجّه به إلى من يملك الأمر كله..

[النبي.. وما ذنبه الذي يستغفر له؟] والسؤال هنا: هل للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- ذنوب يطلب لها المغفرة من الله سبحانه وتعالى؟ وكيف يتفق هذا والعصمة الواجبة للنبى؟

والجواب على هذا- والله أعلم- من وجهين.

فأولا: عصمة النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- لا تقطعه بحال أبدا عن البشرية، التي لا تسلم- مهما بلغت من السموّ والكمال- من عوارض الخطأ، والتقصير، وذلك كشاهد على بشريّتها.

وما يقع من الأنبياء والرسل من خطأ وتقصير، هو من الهنات التي تمدّ حسنات إذا صدرت من غيرهم.. ومثل هذه الهنات لا تجور على عصمة النبىّ، فإنه- مع هذه الهنات- لا يزال على قمة الإنسانية فى أكرم صفاتها، وأنبل أخلاقها.. وقد استغفر كثير من الأنبياء من ذنوب سجلها القرآن الكريم عليهم.. كما فى قوله تعالى عن داود عليه السلام:«وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ» (34: ص) .

وكسليمان- عليه السلام إذ يقول سبحانه: «وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ» (144: الصافات) .. ويونس عليه السلام: «فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» (144: الصافات) ..

ص: 341

وإبراهيم أبو الأنبياء، عليه السلام، يقول عن نفسه:«وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» (82: الشعراء) ..

فكل ابن آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون.. والأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- أبناء آدم.. وأخطاؤهم هى أخطاء على حدود الكمال المطلق، الذي لا تطوله يد بشر! وثانيا: أن فى دعوة النبي- صلوات الله وسلامه عليه- إلى الاستغفار لذنبه، إشارة إلى أن الإنسان مهما كان أمره من الإيمان والتقوى، لا يبلغ أبدا غاية الكمال المطلق.. فإنه كلما حثّ الخطا إلى هذا الكمال ارتفع صعدا فى منازله، ووجد منازل لا تنتهى.. وذكر الله، واستغفاره، يبعت فى شعور الذاكر المستغفر، أنه بين يدى الله الذي لا إله إلا هو، وأنه فى حضرة من يعلم السرّ وأخفى، فتأخذه لذلك خشية ورهبة من كل زلة زلها، أو هفوة وقعت منه.. فلا يجد غير الله ملجأ يلجأ إليه، ليغفر له ما كان منه.. «وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ» . (135: آل عمران) .

فإذا كان النبي مطالبا بأن يستغفر لذنبه، فكيف حالنا نحن؟ وكيف بما نحمل من أوزار لا تستقلّ بحملها الجبال؟ ثم كيف بأولئك الذين يحسبون- إن صدقا وإن خداعا- أنهم على هدى، وتقوى من الله.. كيف بهم يخلون أنفسهم من التكاليف الشرعية، بدعوى يدّعونها لأنفسهم، أو يدّعيها لهم غيرهم- بأنهم من الواصلين.. أي الذين وصلوا إلى غاية الكمال، وتحرروا من القيود والحدود، وفنوا فى المطلق؟ إن من يفنى فى المطلق لا يكون إنسانا، ولا ينبغى أن يسكن إلى الناس، وأن يسكن إليه الناس..!

وقوله تعالى: «وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» معطوف على قوله تعالى «لِذَنْبِكَ» أي استغفر لذنبك، ولذنب المؤمنين والمؤمنات.. وأعيد حرف الجر «اللام»

ص: 342

للإشارة إلى أن ذنب النبي غير ذنب المؤمنين والمؤمنات.. وأن ذنب النبي هو- فى باب الفضل والإحسان- عدم تحرّى الأخذ بما هو أفضل وأحسن.

وفى اختلاف النظم القرآنى بين قوله تعالى فى شأن النبي: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» وبين قوله تعالى فى شأن المؤمنين والمؤمنات: «وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» من غير أن يضيف إلى المؤمنين والمؤمنات ذنوبا- فى هذا الاختلاف أكثر من إشارة:

فأولا: فى قوله تعالى فى شأن النبي: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» - إشارة إلى أن ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم من ذنب، هو معلوم له.. ذلك أن ما يعدّ من الذنب فى مقامه- صلوات الله وسلامه عليه- يشعر به النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد وقوعه، لأنه شىء مظلم يدخل على هذا الوجود المشرق بنور الحق..

إنه سرعان ما يجد النبي فى نفسه نخسة لهذا الذنب، وسرعان ما يتجه إلى الله سبحانه، طالبا التوبة والمغفرة.. فإذا غفل النبي، عن ذنب وقع منه نبهه الله سبحانه وتعالى إلى ذنبه، وكشف له عنه، فى صورة عالية من الأدب الربانىّ..

ومن هذا عتابه سبحانه وتعالى لنبيه، فيما كان منه حين أعرض عن ابن أم مكنوم، الذي جاء يسأله عن شىء من أمر دينه، على حين كان النبي مشغولا بالحديث إلى جماعة من أشراف قريش، جاءوا يحاجّونه ويجادلونه.. فقال تعالى:

«عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى» (1- 3: عبس) .

ومن هذا أيضا عتابه سبحانه للنبى، وقد أذن لبعض المنافقين الذين جاءوا يستأذنونه فى التخلف عن الجهاد.. فقال سبحانه:«عَفَا اللَّهُ عَنْكَ: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ؟» (43: التوبة) .

هذا هو مما يرى فى حق النبي ذنبا..

فقوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» - إشارة إلى ذنب معلوم للنبى، قد علمه بمراجعة نفسه أو بإعلام الله إياه.. وهذا يعنى أن ذنب النبي شىء قليل،

ص: 343

لا يمكن أن تجتمع منه ذنوب.. فهو ذنب قليل، كمّا وكيفا..

وثانيا: فى وقوع فعل الاستغفار على الذنب، فى قوله تعالى:«وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» ، إشارة أخرى، إلى أن هذا الذنب لم يدخل على النبي صلوات الله وسلامه عليه شىء منه، بل ظلت ذاتية النبي فى صفائها ونقائها، وظل هذا الذنب كائنا يحوم بأجنحته حول حمى النبوة، دون أن يقدر على اختراق هذا الحمى..

ففى إفراد الذنب، وعزله عن ذنوب المؤمنين- تكريم للنبى، وإعلاء لقدره، وتنويه بمقامه عند ربه، وأنه شىء، وهذا الذنب شىء آخر.. إن هذا الذنب هو الذي يحتاج إلى معالجة، أما النبي الكريم فهو على الصحة والسلامة.

وثالثا: فى قوله تعالى: «وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» هو مقابل لذنبك..

فالنبى إذ يستغفر لهذا الذنب الذي كان منه، عليه كذلك أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات الذين هم غرس يده.

وإن عمل النبىّ- أيّا كان هذا العمل- هو عمل مبرور.. وإن ما يعمله النبىّ ويحسب عليه من قبيل الذنب.. وعمل مبرور كذلك، وإن لم يستوف غاية البرّ.. شأن عمل النبي هنا، فى هذا شأن المؤمن أو المؤمنة، يتلبسان بالذنوب، ويختلطان بالآثام.. ثم هما- مع ذلك- أقرب إلى الله، وأدنى إلى رحمته ممن لا يؤمنون بالله، ولو لم يواقعوا إثما، أو يفعلوا منكرا..

فكما أن الإيمان يحمى المؤمن من غائلة المعاصي، التي تقع منه، وذلك بأن يتوب إلى الله فيتوب الله عليه، ويستغفر لذنوبه فيغفر الله له.. على حين أن غير المؤمن لا يقبل منه عمل أبدا- كذلك النبوّة تحمى النبىّ من أن يعلق به ذنب، أو تتحكك بحماه معصية.. إن ذنبه طاهر أشبه بطهر المؤمن أو المؤمنة. -

ص: 344

وكما يرى النبىّ المؤمنين أو المؤمنات فى حاجة إلى تطهير مما علق بهم من خطايا وآثام، كذلك يرى بعض أعماله التي تعدّ عليه ذنبا- فى حاجة إلى تعديل وتقويم وإن كان وجهها قائما على قبلة الحقّ، آخذا سمت العدل والإحسان..

ورابعا: استغفار النبىّ لذنبه.. استغفار لذات محدّدة معروفة، هى هذا الذنب، «اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» .. أما استغفاره- صلوات الله وسلامه عليه- للمؤمنين والمؤمنات، فهو استغفار لتلك الذوات.. ذوات المؤمنين والمؤمنات.. وما تلبس بها من ذنوب، وهذا يعنى:

أولا: أن النبىّ إذ يستغفر لذنبه، إنما يستغفر لذنب غفره له الله سبحانه وتعالى، من قبل أن يقع منه، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:«لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» (2: الفتح) وقوله سبحانه: «وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ» (2- 3 الانشراح) .. فالاستغفار هنا استغفار حمد وشكر، كما يشير إلى ذلك النبىّ الكريم، وقد سئل، كيف يجهد نفسه فى قيام الليل حتى تورمت قدماه، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فيقول صلوات الله وسلامه عليه:

«افلا أكون عبدا شكورا» .

ثانيا: أن استغفاره صلى الله عليه وسلم.. وللمؤمنين المؤمنات.. ذواتا وذنوبا، هو بركة، ورحمة، تتنزل عليهم، فتشيع فى قلوبهم السكينة، وتجلى عن أبصارهم غواشى الجهل والضلال.. فيثوب العاصي، ويهتدى الضال، ويزداد الذين اهتدوا هدى..

فاستغفار النبىّ للمؤمنين والمؤمنات، إنما هو دعاء لهم بالخير والهدى واستدناء لهم من رضا الله وتوفيقه.. وبهذا يكون للمؤمنين والمؤمنات، من

ص: 345

هذا الاستغفار، داع خفىّ يدعوهم إلى الله سبحانه، وينهج بهم مناهج الخير والهدى.. لا أنّ هذا الاستغفار من النبىّ للمؤمنين والمؤمنات، يغفر لهم ذنوبهم، ويمحو عنهم سيئاتهم، فإن غفران الذنوب ومحوها إنما يكون بعمل ذاتىّ من الإنسان نفسه بأن يتوب إلى الله ويستغفر لذنبه، كما يقول سبحانه:

«وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ» (25: الشورى) .

وكما يقول جل شأنه: «ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً»

(110: النساء) أو بأن يعمل المرء عملا صالحا، فيكون ذلك العمل الصالح طهرة من العمل السيء، كما يقول سبحانه:«إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» (114: هود) أو أن يكون ذلك بفضل من الله ونعمة.

وهذا الذي ذهبنا إليه من أن استغفار النبىّ للمؤمنين والمؤمنات، لا يكفر عنهم ذنوبهم، وإنما يمدّهم بأمداد الهدى والاستقامة- هذا الذي ذهبنا إليه، هو ما يتفق وروح الشريعة الإسلامية، التي تحترم الإنسان، وتعلى ذاته، وتجعل إليه وجوده كله، من غير قوامة عليه من أحد.. فهو بهذا الوضع إنسان يحمل المسئولية كاملة، ماله، وما عليه..

ولو كان استغفار النبىّ للمؤمنين والمؤمنات مكفّرا عنهم سيئاتهم غافرا لذنوبهم وآثامهم.. لكان من هذا داعية إلى المؤمنين والمؤمنات إلى إخلاء أنفسهم من المسئولية، ولما كان للإساءة حساب عندهم، إذ كان هناك من يستغفر لهم، ويحمل عنهم ذنوبهم! ومن جهة أخرى، فإنه لو كان معنى استغفار النبي للمؤمنين والمؤمنات، هو طلب المغفرة لذنوبهم، لكان ذلك أمرا مقضيّا للنبى عند ربّه، ولغفر الله سبحانه وتعالى ذنوب المؤمنين والمؤمنات جميعا، لانه دعاء من النبىّ، وكل دعاء من النبىّ إلى ربّه، هو دعاء مستجاب، لا يتخلف أبدا.. وقد رأيت ما يقضى إليه غفران ذنوب كل مؤمن ومؤمنة، من غير عمل منهم.

ص: 346