المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآيات: (1- 9) [سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 9] - التفسير القرآني للقرآن - جـ ١٣

[عبد الكريم يونس الخطيب]

فهرس الكتاب

- ‌الآيات: (47- 54) [سورة فصلت (41) : الآيات 47 الى 54]

- ‌42- سورة الشورى

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 12) [سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 12]

- ‌الآيات: (13- 16) [سورة الشورى (42) : الآيات 13 الى 16]

- ‌الآيات: (17- 20) [سورة الشورى (42) : الآيات 17 الى 20]

- ‌الآيات: (21- 26) [سورة الشورى (42) : الآيات 21 الى 26]

- ‌الآيات: (27- 35) [سورة الشورى (42) : الآيات 27 الى 35]

- ‌الآيات: (36- 43) [سورة الشورى (42) : الآيات 36 الى 43]

- ‌الآيات: (44- 50) [سورة الشورى (42) : الآيات 44 الى 50]

- ‌الآيات: (51- 53) [سورة الشورى (42) : الآيات 51 الى 53]

- ‌43- سورة الزخرف

- ‌مناسبة السورة لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 8) [سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 8]

- ‌الآيات: (9- 19) [سورة الزخرف (43) : الآيات 9 الى 19]

- ‌الآيات: (20- 25) [سورة الزخرف (43) : الآيات 20 الى 25]

- ‌الآيات: (26- 35) [سورة الزخرف (43) : الآيات 26 الى 35]

- ‌الآيات: (36- 44) [سورة الزخرف (43) : الآيات 36 الى 45]

- ‌الآيات: (46- 56) [سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 56]

- ‌الآيات: (57- 65) [سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 65]

- ‌الآيات: (66- 73) [سورة الزخرف (43) : الآيات 66 الى 73]

- ‌الآيات: (74- 83) [سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 83]

- ‌الآيات: (84- 89) [سورة الزخرف (43) : الآيات 84 الى 89]

- ‌44- سورة الدخان

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 16) [سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 16]

- ‌الآيات: (17- 33) [سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 33]

- ‌الآيات: (34- 48) [سورة الدخان (44) : الآيات 34 الى 50]

- ‌الآيات: (51- 59) [سورة الدخان (44) : الآيات 51 الى 59]

- ‌45- سورة الجاثية

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 5) [سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 5]

- ‌الآيات: (6- 11) [سورة الجاثية (45) : الآيات 6 الى 11]

- ‌الآيات: (12- 15) [سورة الجاثية (45) : الآيات 12 الى 15]

- ‌الآيات: (16- 22) [سورة الجاثية (45) : الآيات 16 الى 22]

- ‌الآيات: (23- 35) [سورة الجاثية (45) : الآيات 23 الى 35]

- ‌الآيتان: (36- 37) [سورة الجاثية (45) : الآيات 36 الى 37]

- ‌46- سورة الأحقاف

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 6) [سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 6]

- ‌الآيات: (7- 14) [سورة الأحقاف (46) : الآيات 7 الى 14]

- ‌الآيات: (15- 20) [سورة الأحقاف (46) : الآيات 15 الى 20]

- ‌الآيات: (21- 28) [سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 الى 28]

- ‌الآيات: (29- 35) [سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 الى 35]

- ‌47- سورة محمد

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 9) [سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 9]

- ‌الآيات: (10- 15) [سورة محمد (47) : الآيات 10 الى 15]

- ‌الآيات: (16- 19) [سورة محمد (47) : الآيات 16 الى 19]

- ‌الآيات: (20- 30) [سورة محمد (47) : الآيات 20 الى 30]

- ‌الآيات (38- 31) [سورة محمد (47) : الآيات 31 الى 38]

- ‌[الجهاد.. والحرب النفسية]

- ‌48- سورة الفتح

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات (3- 1) [سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 3]

- ‌الآيات (7- 4) [سورة الفتح (48) : الآيات 4 الى 7]

- ‌الآيات (14- 8) [سورة الفتح (48) : الآيات 8 الى 14]

- ‌الآيات (17- 15) [سورة الفتح (48) : الآيات 15 الى 17]

- ‌الآيات (26- 18) [سورة الفتح (48) : الآيات 18 الى 26]

- ‌الآيات (29- 27) [سورة الفتح (48) : الآيات 27 الى 29]

- ‌49- سورة الحجرات

- ‌مناسبتها للسورة قبلها

- ‌الآيات (1- 5) [سورة الحجرات (49) : الآيات 1 الى 5]

- ‌الآيات (13- 6) [سورة الحجرات (49) : الآيات 6 الى 13]

- ‌الآيات (18- 14) [سورة الحجرات (49) : الآيات 14 الى 18]

- ‌50- سورة «ق»

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات (11- 1) [سورة ق (50) : الآيات 1 الى 11]

- ‌الآيات (26- 12) [سورة ق (50) : الآيات 12 الى 26]

- ‌الآيات (37- 27) [سورة ق (50) : الآيات 27 الى 37]

- ‌الآيات (45- 38) [سورة ق (50) : الآيات 38 الى 45]

- ‌51- سورة الذاريات

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات (14- 1) [سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 14]

- ‌الآيات: (15- 32) [سورة الذاريات (51) : الآيات 15 الى 23]

- ‌الآيات (30- 24) [سورة الذاريات (51) : الآيات 24 الى 30]

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌الآيات: (1- 9) [سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 9]

بسم الله الرحمن الرحيم

‌الآيات: (1- 9)[سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 9]

بسم الله الرحمن الرحيم

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4)

سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9)

التفسير:

قوله تعالى:

«الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» ..

هكذا تبدأ السورة بهذه المواجهة، التي تلقى المشركين والكافرين

ص: 304

بهذا الخبر المشئوم، الذي يسدّ عليهم منافذ النجاة، ويدعهم فى متاهات الضلال يتخبطون، وقد تقطعت بهم الأسباب، وأفلت من أيديهم كلّ متعلق كانوا يتعلقون به، من أوهام وظنون..

ويبدو هذا اللقاء بالكافرين وكأنه أول وجه يلقاهم على طريق ضلالهم، ثم لا يكون منه إليهم إلا أن يلقى إليهم بهذا الخبر المزعج، وأنهم فى وجه عاصفة وشيك التقاؤهم بها، وهلاكهم بين يديها.. ذلك على حين أن هؤلاء الكافرين، قد كان لهم قبل هذا أكثر من لقاء مع آيات الله، ومع رسول الله، يدعوهم إلى الله، ويكشف لهم طريق الهدى، ويحذرهم عاقبة ما هم فيه من ضلال.. ولكن هكذا يجىء اللقاء بهم هنا، وكأنه يضرب صفحا عن كل هذه المواقف التي كانت لآيات الله ولرسول الله معهم إذ لم يكن لهذا كله، أثر فيهم، ولا نفع لهم.. وإذن فليستقبلوا ما كانوا.. يستحقون أن يستقبلوا به من أول الأمر.. فهذا هو حسابهم وجزاؤهم.. أما ما قدّم إليهم من قبل من وسائل الهداية، وسبل النجاة، فهو مما يقيم الحجة عليهم، ويقطع كل عذر لهم عند أنفسهم، كما أنه مما يملأ قلوبهم حسرة وكمدا، حين ينكشف لهم الأمر، ويحلّ بهم البلاء، ويرون أن وسائل النجاة من هذا البلاء، قد كانت بين أيديهم، وتحت سمعهم وأبصارهم، فلم يلتفتوا إليها، ولم يمدّوا أيديهم لها..

وإنه ليس أشدّ إبلاما للإنسان من أن تكون السلامة فى يده، ثم يلقى بنفسه إلى التهلكة!!.

ثم إنه مما يزيد فى حسرة هؤلاء الذين كفروا، أنهم لم يهلكوا أنفسهم وحسب، بل إنهم أهلكوا أهليهم وإخوانهم، إذ كانوا دعوة من دعوات الضلال لهم، وبمحادتهم لله ورسوله. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» (15: الزمر) .

ص: 305

وقوله تعالى: «أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» هو حكم على الكافرين بفساد أعمالهم كلها، وردّ الله سبحانه وتعالى لها، وعدم قبولها منهم، حتى ولو كانت مما يحسب فى الأعمال الصالحة.. فكل عمل لا يزكيه الإيمان بالله، هو عمل ضائع، ضال.. لا يعرف له طريقا إلى مواقع الرضا والقبول من الله.

قوله تعالى:

«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ» .

هو بيان للوجه الآخر من وجوه الناس، وهم الذين آمنوا بالله، ثم أتبعوا إيمانهم بالله، الأعمال الصالحة، التي هى ثمرة الإيمان بالله، فمن آمن بالله، كان مطلوبا منه، بمقتضى هذا الإيمان، أن يستجيب لله، وأن يستقيم على طريق الحق والخير، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه..

وقوله تعالى: «وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ» هو إيمانهم بالرسالة الإسلامية التي جاء بها النبىّ، بعد الإيمان الذي تلقاه المؤمنون من الرسالات السماوية السابقة، أو دلّتهم عليه عقولهم..

فمن كان مؤمنا بالله قبل الرسالة المحمدية، كان من شأن إيمانه هذا، أن يدعوه إلى الإيمان بتلك الرسالة لأنها دعوة مجددة إلى الإيمان بالله..

والإيمان بالله، طريق واحد، يلتقى عليه المؤمنون جميعا.. وإنه ليس للمؤمنين بالله طريقان، بل هو طريق واحد.. فمن كان على غير هذا الطريق فهو ليس من المؤمنين، كما يقول الله سبحانه:«وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» (115: النساء) .

ص: 306

وعلى هذا، فإن من بلغته الرسالة الإسلامية، من المؤمنين، من أهل الكتاب، أو الفلاسفة والحكماء، ثم لم يؤمن بهذه الرسالة، فهو ليس مؤمنا وليس على طريق المؤمنين..

وقوله تعالى: «وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» .. إشارة إلى أن المؤمنين الذين آمنوا بالله، إنما يؤمنون- إذ يؤمنون بما أنزل على محمد- بالحقّ المنزل من ربهم.. فمن أنكر هذا الحق المنزل من عند الله، فليعلم أن ما عنده من إيمان ليس من الحقّ، إذ لو كان حقا لا لتقى مع هذا الحقّ، فالحقّ، لا يصادم الحق، ولا تختلف طريقه معه..

وقوله تعالى: «كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ» .. هو خبر لقوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» أي أن الذين آمنوا هذا الإيمان، وعملوا الصالحات، كفّر الله عنهم ما كان منهم من سيئات، قبل أن يؤمنوا بالرسالة المحمدية، فهو إيمان مجدّد لإيمانهم، ومصحح له، إذ كان هو الدّين كله، وبه تمّ الدين الذي جمع كلّ ما جاء به الرسل، كما يقول الله تعالى:«إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» (19: آل عمران) وكما يقول الله جل شأنه: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» (13: الشورى) وكما يقول جل شأنه:

«وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» (85: آل عمران) .

وفى قوله تعالى: «وَأَصْلَحَ بالَهُمْ» - إشارة إلى ما يثمره الإيمان بدين الإسلام، إذ يجمع قلوب المؤمنين به، ويقيم مشاعرهم على أمر واحد، فلا يكون منهم التفات إلى هذا الدين أو ذاك، إذ أن الإيمان بالإسلام إيمان بجميع رسالات السماء،

ص: 307

وتصديق بكل رسل الله.. سواء أكان هذا الإيمان بالإسلام من أهل الكتاب، أو ممن لا كتاب لهم.. وبهذا الإيمان يستريح بال المؤمن، ويطمئن قلبه، ولا تنزع به نازعة من عداوة أو بغضة أو مجافاة، لأى دين من الديانات السماوية، إذ كانت كلّها مجملة فى الإسلام، مطوية تحت جناحه.. ولعلّ هذا معنى من معانى كلمة «الإسلام» التي كانت عنوانا لهذا الدين، الذي يجد من يدين به، السلام بين مشاعره، كما يجد السلام مع الناس! وذلك صلاح البال على تمامه وكماله..

والبال هو الحال والشأن، الذي يكون عليه الإنسان، يقال: ما بال فلان؟

أي ما شأنه؟ وما حاله؟.

قوله تعالى:

«ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ» ..

الإشارة هنا «ذلِكَ» مشاربها إلى ما تقرر فى الآيات السابقة، من أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد، سيهديهم الله ويصلح بالهم، وأن الذين كفروا قد أضل الله سعيهم، وأفسد مشاعرهم، وأزعج خواطرهم- فهذا الذي فيه المؤمنون من هدى وإصلاح بال، وما عليه الكافرون من ضلال وسوء حال، هو بسبب أن كلّا من الفريقين قد سلك الطريق الذي يصل به إلى هذا الذي هو فيه.. فالذين كفروا اتبعوا الباطل، فكان أمرهم إلى الخذلان والبوار، والذين آمنوا اتبعوا الحق المنزل عليهم من ربهم، وهو القرآن، فكان أمرهم إلى الأمن والهدى والسلام..

وقوله تعالى: «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ» - الضمير فى «أَمْثالَهُمْ»

ص: 308

يصحّ أن يكون عائدا إلى الناس، بمعنى أنه بمثل هذه الأمثال يضرب الله للناس الأمثال، التي تكشف لهم أحوالهم..

ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى الكافرين، والمؤمنين، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى يضرب للناس أمثال الكافرين والمؤمنين، ليكون لهم العبرة والعظة، فيما يرون من هؤلاء وأولئك..

قوله تعالى:

«فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ» ..

بعد أن بينت الآيات السابقة حال كلّ من الكافرين والمؤمنين، وأن الكافرين قد أضل الله أعمالهم، وأفسد أحوالهم، وأنه سبحانه قد هدى المؤمنين وأصلح بالهم- بعد هذا جاءت النتيجة اللازمة لهذا البيان، وهو أن الناس فريقان: كافرون ومؤمنون، وأعداء لله، وأولياء لله.. ومن ثمّ كان لا بد أن يقف المؤمنون فى وجه أعداء الله، وأن يعملوا على حماية أنفسهم من شرهم، إذ كان أهل الشر والفساد- دائما- حربا على أهل الخير والسلامة، شأن المصاب بداء خبيث، فإنه يكون خطرا على من يخالطه أو يتصل به..

وعلى هذا، فإن على المؤمنين، إذا التقوا بالكافرين فى ميدان قتال، أن يوطنوا أنفسهم على أن تكون الغلبة لهم، فإن انتصارهم انتصار للحق والخير، وهو انتصار لله، ولدين الله، وأن هزيمتهم تمكين للباطل، وتسليط للبغى والعدوان، على مواقع الخير والحق..

ص: 309

وقوله تعالى: «فَضَرْبَ الرِّقابِ» أي فاضربوا الرقاب.. وقد أقيم مصدر الفعل مقام الفعل، للإشارة إلى أنه لا يكون للمؤمنين فى لقاء الكافرين أي فعل أو شأن، إلا الضرب، والضرب للرقاب..

والمصدر هو أصل لما يشتق منه من أفعال وصفات، وأسماء.. وهذا يعنى أنه جامع لكل معنى يشتق منه.. وهذا يعنى أن تسليط المصدر على شىء، هو قصر كل معطيات المصدر على هذا الشيء وحده، دون التفات إلى شىء غيره..

وهنا فى هذا المصدر «فَضَرْبَ الرِّقابِ» .. قد سلّط المصدر على الرقاب، فكان هذا قاضيا بألا يكون للمؤمنين شأن فى موقف القتال مع الذين كفروا- إلا الضرب، والضرب فى الرقاب، دون غيرها..

والمراد بضرب الرقاب، الضرب فى موطن القتل، لا فى موطن آخر، كالأطراف ونحوها، حيث لا يكون القتل محققا بضربها..

هذا، وليس الضرب للرقاب أمرا لازما لا بد منه، إلا إذا أمكن، وسنحت الفرصة للمؤمن من ضرب الكافر الضربة القاتلة.. أما حين لا يمكن ضرب العنق، أو الضرب فى مقتل، فليضرب حيث أمكنه الضرب، فى الأطراف أو غيرها..

أما فائدة الأمر بضرب الرقاب، فهو لعزل شعور المسلمين عن الاستبقاء على من أمكنتهم الفرصة فيهم من الكافرين، وقدروا على قتلهم، يريدون بذلك أسرهم، وجعلهم من مغانم الحرب.. وهذا من شأنه ألا يقيم نظر المسلم على الجهاد فى سبيل الله، وجعله خالصا له، إذ كان ينظر إلى ما يقع ليده من مغانم، وهذا بدوره يدعو المسلم إلى الحرص على حياته، والنجاة من القتل، حتى

ص: 310

يأخذ حظه من تلك المغانم، وهذا من شأنه أن يضعف من بلاء المسلم فى القتال، ومن نكابته فى العدوّ.. وهذا، وهذا، وكثير غيره، مما يخفّ به ميزان المجاهد فى سبيل الله، وتذهيب به ريح المجاهدين، إذا نظر المجاهد فى ميدان القتال إلى نفسه، وطلب لها السلامة، أو الغنيمة، ولم يكن مطلبه الأول هو الانتصار على العدوّ، أو الاستشهاد فى ميدان القتال..

وقوله تعالى: «حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ» ..

«حَتَّى» حرف غاية، لبيان الحدّ الذي يجب أن يقف فيه المسلم عن قتل الكافر، فى ميدان القتال، وهو أن يرى الكافر وقد أثخنته الجراح، وسقط فى ميدان المعركة..، ولم يعد قادرا على المشاركة فيها- هنا لا يجوز للمسلم أن يقتل هذا المثخن بالجراح، بل كل ما يفعله، هو أن يتحقق من أنه لن ينهض ليحارب من جديد، وذلك بأن يشد وثاقه، أو يضربه ضربة تعجزه عن القيام، ولا تقضى عليه..

فشدّ الوثاق، قد يكون على حقيقته، إن أمكن، وقد يكون بتعجيز الجريح عن أن ينهض، ويعود إلى قتال المسلمين مرة أخرى، فى هذه المعركة..

وهذا وجه من وجوه الإسلام المشرقة- وكل وجوه الإسلام وضيئة مشرقة- وما فيه من معانى الإنسانية الرفيعة السامية، التي تراود أحلام الفلاسفة والأخلاقيين، ولا يجدون لها فى عالم الواقع مكانا..

فالإسلام فى حربه للكافرين- وهم حرب على كل حق وخير- لا يريد قتلهم، ولا يشتهى إراقة دمائهم، ولو كان من همّه هذا لما ردّ سيفه عمن كانوا لساعتهم حربا على المسلمين، يقتلونهم ويسفكون دماءهم، ثم أغمدت سيوفهم، وتكسرت رماحهم، وأصبحوا فى عجز قاهر لهم أن يضربوا بسيوفهم أو يطعنوا برماحهم! ..

ص: 311

إن غاية الإسلام من حرب أعدائه هو دفع شرّهم، ووقاية المسلمين من الخطر الذي يتهددهم من جهة عدوّهم.. فإذا لم يكن ثمة خطر، فلا حرب، ولا قتل، فإذا كان خطر، فهى الحرب، والقتال والقتل.. فإذا زال الخطر غمدت السيوف، وأطفئت نار الحرب..

هذا هو الإسلام فى حربه.. إنها الحرب لطلب السلامة والسلام، وليست حربا للبغى، والتسلط..

فأى ميزان أعدل وأقوم من هذا الميزان فيما بين الناس والناس؟

وأي أمن وأي سلام كهذا الأمن والسلام، الذي يجده المجتمع الإنسانى فى ظل مبدأ كهذا المبدأ، الذي يفرضه الإسلام على أتباعه فى وجه العداوة وفى ردّ العدوان، مما تسوقه إليهم الحياة على يد الأعداء والمعتدين؟

يقول الرسول الكريم فى شرح هذا المبدأ، وتوكيده..

«لا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا صغيرا، ولا امرأت» وكان صلوات الله وسلامه عليه، يوصى من يبعثهم للجهاد بقوله:

«اخرجوا باسم الله تعالى تقاتلون فى سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع» إنها حرب الإسلام، غايتها الإصلاح، ودفع الخطر، وبتر الأعضاء الفاسدة من المجتمع الإنسانى.. ولو كان من همّ الإسلام الحرب للغلب والقهر والتسلط، لما كان معها إلا التدمير لكل شىء، والقتل لكل نفس..

وقد تلقى المسلمون من دينهم، ومن هدى نبيهم هذا الأدب الإنسانى العالي، فى حرب عدوّهم، فلم تسكرهم حميّا النصر، ولم تجر على دينهم

ص: 312

ومروءتهم شهوة الانتقام والتشفّى.. بل كانوا على هذا الأدب الرباني فى السلم والحرب، وفى حال الهزيمة والنصر..

يقول أبو بكر رضى الله عنه، وهو يودّع يزيد بن أبى سفيان وكان أحد القواد الأربعة، الذين وجههم أبو بكر لحرب الروم فى الشام:

«إنى موصيك بعشر خلال.. لا تقتل امرأت، ولا صبيّا، ولا كبيرا هرما، ولا تقطع شجرا مثمرا، ولا تخرّب عامرا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمّا كله، ولا تعقرنّ نخلا ولا تحرقه، ولا تغلل، ولا نخن» .

وقوله تعالى:

«فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً» .. هو تعقيب على قوله تعالى: «حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ» .. إذ المراد بشدّ الوثاق- كما قلنا- هو عزل الذين يثخنون بالجراح عن القتال، ثم أخذهم فى الأسرى، وإنزالهم على حكم الأسر.. إذ ليس الجريح من الأسرى إلا واحدا منهم، فلا يؤخذ بحكم المقاتلين، فيجهز عليه.. وهذا ما جاء فى قوله تعالى:«فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً» .. لتقريره، ولدفع ما يقع من شبهة فى معاملة الجرحى، وإلحاقهم بالمحاربين الذين تضرب رقابهم..

فهؤلاء الجرحى من مقاتلى العدوّ، يؤسرون، ثم يؤخذون بحكم الأسرى على إطلاقه، وهو إما أن يمنّ عليهم، ويطلق سراحهم، تفضلا عليهم، وإحسانا إليهم، ومقابلة إساءتهم وعدوانهم بهذا الفضل والإحسان وإما قبول الفدية منهم، وهو عوض مالىّ، أو عيني، أو شخصىّ.. وذلك بأن يفرض على تخليص الأسير من الأسر قدر من المال، أو السلاح، أو المتاع، أو بتخليص أسير فى يد العدو من أسرى المسلمين..

ص: 313

والأمر فى هذا كله متروك لولىّ الأمر، القائم على شئون الحرب الدائرة بين المسلمين، وبين العدوّ، فهو الذي يقدّر الأمر فى شأن أسرى العدو، أفرادا أو جماعات، بالعفو والمنّ، أو الفداء..

قوله تعالى:

«حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها» - هو غاية للحكم الذي جاء به الأمر فى قوله تعالى:

«فَضَرْبَ الرِّقابِ» .. فهذا الحكم قائم على المسلمين الذين يلتقون بالكافرين فى ميدان القتال.. إنهم مأمورون أمرا إليها بأن يضربوا الضربات القاتلة للأعداء، غير ملتفتين إلى أخذهم أسرى، الأمر الذي يحملهم على أن يتحروا ضرب المواطن غير المميتة منهم، حتى يكونوا مغنما من مغانم الحرب.. ومن جهة أخرى تشير هذه الغاية إلى أن حكم الضرب فى رقاب الكافرين، إنما هو فى حال الحرب، أما إذا انتهت الحرب، وخمدت نارها، فليس للمسلم أن يبدأ بعدوان، أو أن يقتل أحدا من الكافرين إذا لقيه وأمكنته الفرصة منه.. إذ لا يستباح دم الكافر إلا إذا كان فى حرب على المسلمين.. أما فى غير الحرب، فإن لدمه حرمة يجب على المسلمين رعايتها، وصيانتها..

وهكذا يقيم الإسلام فى نفوس أتباعه هذه المشاعر الإنسانية العالية حتى مع عدوهم، الذي كان فى وقت ما حربا عليهم، والذي لا يزال على فيه الحرب والعدوان، إذا أمكنته الفرصة..

وأوزار الحرب: أثقالها، وأعباؤها، وما يحمل المسلمون منها فى مصادمة عدوهم، ودفع شره عنهم.. فإذا انتهت الحرب، وأخلى العدو ميدان

ص: 314

القتال، بالفرار، أو الأسر.. فقد رفع عن المسلمين المقاتلين ما كانوا يحملون من أعباء ثقال.. وهنا تنتهى أحكام الحرب، ويعود المسلمون إلى موقفهم الأول من الكافرين.. وهو أن لا قتل ولا أسر لمن يقع لأيديهم من الكافرين فى غير الحرب..

وفى إسناد الفعل «تَضَعَ» إلى «الْحَرْبُ» مع أن الذي يضع الأوزار، والأعباء هم المحاربون- فى هذا إشارة إلى أن الحرب هى سبب هذه الأوزار وتلك الأعباء، وأنها هى التي جلبتها، وألقت بها على كاهل المحاربين..

وفى هذا تشنيع على الحرب، وتنفير منها، وتصوير لها فى صورة كريهة، حيث لا تحمل إلى المتلبسين بها إلا ما يبهظهم ويثقل كواهلهم..

ثم إن فى تسمية أعباء الحرب، وأثقالها، أوزارا، تشنيعا آخر على الحرب، وتأثيما لها، وأنها- أيّا كانت شىء- كريه، لا يطلبه المسلم، ولا يسعى إليه، ولا يرغب فيه، إلا إذا لم يكن منه بد، كدفع عدوان، أو إطفاء فتنة..

وهنا يدخل المسلم الحرب، من باب المحظور الذي يباح عند الضرورة، فيتعاطى منها بحساب، على قدر ما يدفع الضرر، فى غير شهوة، ولا إسراف..

أفرأيت وجها للحرب، أقرب إلى السلام، وأدنى إلى العافية، من هذه الحرب التي يكون الإسلام طرفا فيها؟ إنها حرب يتمنى أن يعيش فيها الناس، ما يعيش فيه السلام العالمى اليوم، الذي قل أن يمسى أو يصبح فى غير حرب..

ص: 315

ذلك أن العالم اليوم إذا أظلّه صباح يوم أو مساؤه بغير حرب معلقة أو سافرة، كانت الحرب الخفية مشبوبة الأوار، فى صدور تغلى مراجلها بالعداوة والبغضاء، وفى نفوس تتحرق مشاعرها شهوة إلى إراقة الدماء، وإزهاق الأرواح، وإبادة الأمم والشعوب!.

قوله تعالى: «ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ» - الإشارة هنا إلى ما يطالب به المؤمنون من لقاء العدو فى ميدان القتال، ومن توجيه الضربات القاتلة له، الفاضية على كل كيد يكيد به للإسلام والمسلمين، ولو كان فى ذلك تعريض كثير من المؤمنين للاستشهاد فى سبيل الله.. فذلك ابتلاء من الله للمؤمنين، وإنزالهم هذا المنزل الكريم الذي يلبسون فيه ثوب المجاهدين فى سبيل الله، الواقفين فيه موقف جنود الله، المدافعين عن حرماته.. ولولا هذا الصدام بينهم وبين أهل الكفر والضلال، لما وقفوا هذا الموقف الكريم، ولما نالوا هذا الشرف العظيم..

فهذه الحرب بين المؤمنين والكافرين، هى لحساب المؤمنين قبل كل شىء، إذ هى التي أنزلتهم هذه المنزلة العالية، وأحلّتهم هذا المحل الكريم..

وما كان الله سبحانه وتعالى بحاجة إلى جنود يجاهدون فى سبيله، ويقفون فى وجه هؤلاء الكافرين المحادّين له سبحانه.. إذ لو شاء الله سبحانه وتعالى «لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ» أي لسلط عليهم آفة مهلكة من الآفات، أو لما جاء بهم إلى هذه الحياة الدنيا، أو لهداهم إلى الحق، وكانوا فى المؤمنين..

ولكن هكذا شاءت مشيئة الله سبحانه.. فجعل الشرّ فى طريق الخير، وجعل الكافرين فى وجه المؤمنين، وذلك ليتيح للمؤمنين فرصة العمل لما يرفع منزلتهم عند الله، ويعلى قدرهم، وينزلهم منازل رضوانه..

ص: 316

فهؤلاء الكافرون، والمشركون، والضالون، وهذه الآفات والشرور المبثوثة بين الناس، إنما هى القرابين التي يتقرب بها المؤمنون والصالحون من عباد الله، إلى الله، بالتصدّى لها، وإعلان الحرب عليها.. وبهذا ينالون من ثواب لله ورضوانه بقدر ما يعملون.. ولولا هذا لما كان ثمة عمل يمتاز به الخبيث من الطيب! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ» أي هذا الاختلاف بين الناس، وهذا الصدام الذي يقع بين المؤمنين والكافرين منهم، إنما هو ابتلاء وامتحان لهم، حيث يكشف احتكاك بعضهم ببعض عن معدن كل منهم، كما يقول الله تعالى:«وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» (31: محمد) ..

هذا، وأرى شفاها تتحرك عليها عبارات التساؤل أو الإنكار، لهذا الذي نقوله، من أن وجود أهل الضلال فى هذه الدنيا، هو سبيل من السبل التي يتخذها المؤمنون للتقرب إلى الله، ولرفع درجاتهم عند الله بجهادهم، وقتلهم، أو الاستشهاد فى سبيل الله على أيديهم.. وقد يقول قائل:

ما ذنب هؤلاء الضالين فى تقديمهم على مذبح القربان لله؟ وأ لهذا كنت الغاية من خلقهم؟.

وقول: وماذا ينكر المنكرون من هذا؟ ولم لا يكون هؤلاء المشركون والكافرون والضالون جميعا قربانا يتقرب إلى الله بجهادهم من أهل الإيمان؟.

وقد يقول قائل: أهذا ممكن أن يكون فى شأن الإنسان، الذي كرمه الله سبحانه، ورفعه على سائر مخلوقات الأرض، وجعله خليفة له فيها؟.

ص: 317

ونقول: نعم، هذا ممكن.. فإن هذا الإنسان الذي كرّمه الله سبحانه وتعالى، وفضله على كثير من خلقه، وجعله خليفة له فى الأرض- هذا الإنسان، قد نزع بيده هذا الثوب الكريم الذي ألبسه الله إياه، وتخلى عن عقله الذي هو التاج الذي نال به شرف الانتماء إلى الإنسانية.. وقد عطل وظيفة هذا العقل، فلم ينظر به فى آيات الله الكونية، ولم ير من خلال هذا النظر وجه خالقه، ولم يتعرف إلى ما للخالق سبحانه من جلال وقدرة، ثم إنه حين جاءته آيات الله على يد رسله لم يتنبه من غفلته، ولم يحد عن طريق ضلاله، بل ازداد كفرا بالله، ومحادّة له- فكان بهذا على غير صورة الإنسان الذي كرمه الله، وخلقه فى أحسن تقويم. إنه حينئذ هو الإنسان فى أسفل سافلين، ومن هنا كان إلى الحيوان أقرب منه إلى الإنسان، ومن هنا أيضا كان حيوانا يقدّم على مذبح التقرب إلى الله، إذا هو أعمل قرونه ومخالبه وأنيابه فى عباد الله..

وأولياء الله.. فإن هو أمسك شره، فلم يعرض لعباد لله بأذى، ترك وشأنه، كما تترك الوحوش فى الغابات.

قوله تعالى: «وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ» .

هو تنويه خاص بشأن الذين يستشهدون فى سبيل الله. فهؤلاء الشهداء لن يضل الله أعمالهم، بل سيقيمها على طريقه المستقيم، حيث تنزل منازل الرضا والقبول من الله رب العالمين.. فهم داخلون أولا فى قوله تعالى:«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ» ثم هم مختصون ثانيا بهذا لذكر، الذي يقيمهم بعد موتهم، مقام الأحياء، الذين لم يفارقوا هذه الدنيا، وذلك بإصلاح بالهم، على حين يقيمهم مقام أهل الجنة قبل أن يدخلها أحد غيرهم، فهم ساعون إلى الجنة، آخذون طريقهم التي يعرفونها، إليها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلا تَحْسَبَنَّ

ص: 318

الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»

(169: آل عمران) قوله تعالى:

«سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ» - هو بيان لقوله تعالى: «وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ» .. أي أن الله سبحانه وتعالى سيهدى الذين قتلوا فى سبيل الله، ويقيم بين أيديهم من أعمالهم الدليل الذي يأخذ بهم إلى الجنة التي أعدها الله لهم، وعرّفهم الطريق إليها..

وهذا مثل قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ» (9: يونس) .

فأعمل الشهداء، مستنيرة مبصرة، تعرف طريقها إلى مقام الرضا والقبول، وأصحاب هذه الأعمال، وهم الشهداء، يتبعون أعمالهم تلك، ويأخذون طريقهم على هديها، حيث تنتظرهم عند الله فى جنات النعيم التي أعدها سبحانه لأصحاب هذه الأعمال الطيبة كما يقول سبحانه:«يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ»

(12: الحديد) فالذى يسعى بين أيديهم هو هذا النور المشع مما فى أيمانهم، وهو سجل أعمالهم، التي صارت كتبا تناولوها بأيديهم اليمنى.

قوله تعالى:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» .

هو التفات من الله سبحانه وتعالى إلى المؤمنين، ودعوة منه جل شأنه إلى أن يكونوا جميعا فى هذه المنزلة التي أعدها للمجاهدين فى سبيله..

فالمؤمنون الذين يقاتلون فى سبيل الله إنما ينصرون الله.. فهم جند الله، الذين يحاربون من حارب الله..

ونصر المؤمنين لله، إنما هو بنصر دينه، وإقامة شريعته، ودفع الضلال والشرك والإثم، وكل ما يعترض سبيل الله، ويخالف ما أمر به..

ص: 319

وفى إسناد نصر الله إلى المؤمنين تكريم لهم، ورفع لقدرهم، وإنزالهم منزلة المعين لله، المؤيّد له، والله سبحانه غنى عن كل معين ومؤيد.. إذ كل شىء فى هذا الوجود هو منه، وله.. لا يملك أحد شيئا.. فكيف يطلب النصر من خلقه الذين لا يقوم وجودهم لحظة واحدة إلا بحفظه، ورعايته؟ إن ذلك- كما قلنا- هو تكريم للمؤمنين، وإحسان من الله إليهم. كما فى قوله تعالى:

«مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» .. فالله سبحانه هو المعطى لكل ما فى أيدى الناس.. ثم هو سبحانه- فضلا وإحسانا منه- يدعوهم إلى أن يقرضوه مما أعطاهم!!.

وفى قوله تعالى: «يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» - إشارة إلى أن نصر المؤمنين لله، ليس نصرا على حقيقته، وإنما هو مظهر من مظاهر الطاعة والولاء لله..

وإلا فإن النصر الحقيقي هو الذي يمنحه الله سبحانه وتعالى المؤمنين، ويمدهم بالأسباب الممكنة لهم منه.. فهو سبحانه الذي ينصرهم على عدوهم، وثبت أقدامهم فى مواقع القتال على حين يملأ قلوب الذين كفروا رعبا وفزعا..

«وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (10: الأنفال) .. ومع أن هذا النصر من عند الله، فإنه محسوب للمؤمنين، يلقون عليه أحسن الجزاء فى جنات النعيم.

قوله تعالى:

«وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» .

هو فى مقابل قوله تعالى للمؤمنين: «يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» فإنه- سبحانه- إذ ينصر المؤمنين ويثبت أقدامهم- يخذل الكافرين، وينزلهم منازل البوار والتعس، ويبطل أعمالهم، فلا يقبل منهم عدلا ولا صرفا. فكل عمل للكافرين إلى ضلال، وضياع.. وإذ كان الإنسان من وراء عمله، ينظر إليه، ويتبع آثاره ليجى ثمرة ما عمل، فإن الكافرين ستقودهم أعمالهم التي أصلها الله، إلى الضلال، وإلى عذاب السعير.

ص: 320

وفى التعبير عن التّعس والخسران، بالمصدر «فَتَعْساً لَهُمْ» ، وعن ضلال الأعمال، بالفعل «وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» .. فى هذا ما يشير إلى أن التّعس والبوار والخسران، صفة ملازمة لهم، مستولية على كيانهم كله، فى أقوالهم وأفعالهم، وفى ماديات حياتهم ومعنوياتها.. فالمصدر- كما قلنا- يجمع كل معانى الأحداث المشتقة منه.. على نحو ما أشرنا إليه فى قوله تعالى «فَضَرْبَ الرِّقابِ» . أما ضلال أعمال الكافرين، فهو حدث متسلط على أعمالهم، فكن ما يقع منهم من عمل تسلط عليه الضلال، وطواه تحت جناحه..

وفى التعبير بالماضي «أضل» بدلا من المضارع «يضل» - إشارة أخرى إلى أن الكافر محكوم مقدما على كل عمل من أعماله بالضلال، دون نظر فى وجه العمل، فإنه يستوى فى ذلك الحسن والقبيح، والخير والشر، من أعمال الكافرين.. إذ كل أعمالهم قبيحة، وكل أفعالهم شر.. هكذا تقع أعمال المشركين تحت حكم الضلال، وقوعا مطلقا، فلا ينتظر فى الحكم عليها حتى ينكشف وجهها، ويعرف الحسن والقبيح منها.. إنها كلها قبيحة الوجوه، منكرة الوجود، قبل أن تولد! ..

قوله تعالى:

«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ» ..

هذا بيان للسبب الذي من أجله كل الحكم عليهم بالبوار والخسران، وبإبطال كل عمل يعملونه، ولو كان مما يعدّ فى الأعمال الصالحة.. إنهم «كرهوا ما أنزل الله» .. وهو القرآن الكريم، الذي يدعوهم إلى الإيمان بالله، ويحمل إليهم الهدى والنور..

وكراهيتهم لما أنزل الله، هى التي دعتهم إلى اتخاذ هذا الموقف العدائىّ لرسول الله، ولآيات الله التي يتلوها عليهم.. فإن من كره شيئا تجنبه،

ص: 321