الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وثانيهما: تكريم العاملين، وإطعامهم من ثمرة عملهم.. ففى هذا لذة مضاعفة لهذا الثمر الذي غرسوا مغارسه، وتعهدوها بالعمل.. على خلاف ما يناله الإنسان عفوا من غير عمل له.. فإنه وإن كان طيبا كريما، يجد فيه المرء هناءته وسعادته- فإنه يقوم معه شعور فى النفس بأنه ليس ملكا خالصا لصاحبه، وأنه أشبه بالضيف الوارد عليه.. وفى هذا ما يزعج الإنسان عما يجد فيه من هناءة وسعادة..
وفى التعبير القرآنى: «وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ما يجعل هذه الجنة ونعيمها، ملكا، مصفّى من كل شائبة، معزولا عن كل شعور يعزل الإنسان عن هذا النعيم، أو يقطعه عنه.. فهى ميراث ينفق منه الإنسان كيف يشاء، وينال منه ما يريد.. وهى ثمرة عمل وجهد.. ومن حق العامل أن ينعم بما عمل!.
الآيات: (74- 83)[سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 83]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78)
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ» .
هو بيان لما يلقى أهل الضلال والكفر من عذاب وبلاء فى الآخرة، بعد هذا البيان الذي كشف عما للمؤمنين المتقين عند الله من جنات ونعيم.. فالناس فى الآخرة فريقان: فريق فى الجنة، وفريق فى السعير.. فريق يتلقى الكرامة والتكريم، وفريق يلقى الهوان والعذاب..
وفى التعبير عن أهل الضلال بالمجرمين، إشارة إلى أنهم أصحاب جنايات جنوها على أنفسهم وعلى غيرهم من عباد الله.. وأن هذا العذاب الذي يعذّبون به فى الآخرة بالخلود فى نار جهنم- إنما هو جزاء لهذه الجرائم التي اقترفوها فى دنياهم..
قوله تعالى:
«لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» .
هو صفة للعذاب الذي يخلد فيه المجرمون.. فهو عذاب لا ينقطع عنهم أبدا، ولا يفتر أو يضعف أبدا، بل هو متصل دائما، وعلى حال واحدة من الشدة والبلاء، وإن اختلف صورا وألوانا.
وقوله تعالى: «وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» حال كاشفة عن هؤلاء المجرمين وهم يصلون هذا العذاب الأليم.. والإبلاس: هو الوجوم، والجمود، من شدة الحزن واليأس.. فهم أجسام قد تبلدت فيها العقول، وجمدت منها المشاعر، وذهلت النفوس..
قوله تعالى:
«وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ» .
أي أن هذا العذاب الذي هم فيه، لم يكن لظلم وقع عليهم، حيث يراهم الرائي فيستفظع هذا العذاب، الذي لا ينقطع أبدا، ويخيل إليه أنه ليس هناك من ذنب يستحق هذا العذاب الذي لا تحتمله السموات والأرض.. وكلا فإنهم لم يظلموا، وإنما هم الذين ظلموا أنفسهم، فأوردوها هذا المورد، وسعوا بها إلى هذا البلاء، فكفروا بالله، وحاربوا الخالق، وخرجوا بهذا على الولاء لله، والانقياد لرب العالمين، الذي انقاد له الوجود كله..
قوله تعالى:
«وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ، قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» .
مالك، هو الملك الموكّل بالنار من عند الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يقوم على أهل النار، كما يقوم السبحان على المسجونين..
وفى قولهم: «يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ» ما يكشف البلاء النازل بهم، كما يكشف اليأس الذي وقع فى نفوسهم من أن ينالوا من الله خيرا.. فهم لا يرجون الله فى هذا اليوم، ولا يطمعون فى رحمته، حتى إنهم لينادون مالكا:
«يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ» ولم يقولوا «ليقض علينا ربنا» - إنهم على يأس من أن ينسبوا إلى الله، وأن يقبل الله منهم قولا.. وذلك من ضلالهم الذي صحبهم فى آخرتهم. فلم يقدروا الله قدره.. ولم يروا سعة رحمته..
وقوله تعالى: «قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» - هو ردّ مالك على ما طلبوه منه أن يسأل ربه القضاء عليهم، وإهلاكهم، حتى ينقطع عنهم هذا العذاب..
وقول مالك: «إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» .. أبلغ من قوله إنكم لن تموتوا أو لن
يقضى عليكم، لأن قوله:«إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» يدل على أنهم لن يموتوا، ولن يقضى عليهم، كما يدل فى نفس الوقت على أنهم لن يتحولوا عن حالتهم تلك التي هم فيها.. إنهم ماكثون فيما هم فيه من عذاب أليم، وعلى تلك الحال التي هم عليها..
أما لو قيل لهم لن يقضى عليكم، أو لن تموتوا، فقد يظلون أحياء، ولكن فى غير صحبة هذا العذاب الذي معهم! وإن كان ذلك بعيدا عن محامل اللفظ، إلّا أن المكروب يتعلق بأوهى الأسباب، وفى هذا القول متعلق لهم، وإن كان متعلقا كاذبا.. فجاء قوله تعالى:«إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» ليقطع حتّى هذا الوهم الذي يتعلقون به!.
قوله تعالى:
«لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» ..
يكاد يجمع المفسرون على أن هذا الخطاب موجه إلى أهل النار، وأنه من مقول القول الذي ردّ به مالك عليهم، وأن جمع الضمير فى قوله «جِئْناكُمْ» لأن مالكا إنما يتحدث إليهم بلسان الملائكة الذين هو منهم، والذين جاوءا إلى هؤلاء المشركين بالحق من ربهم، فيما حملوا إلى رسل الله من آيات الله! وهذا مردود من وجهين:
فأولا: فى قوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» ما يشير إلى أن بعضا من المخاطبين بهذا الحديث غير كارهين للحق، بل هم مستعدون لقبوله، والانتفاع به..
وهذا لا يتفق مع أهل النار، الذين قيل إن هذا الخطاب موجّه إليهم، إذ ليس فيهم أحد لم يكن كارها للحق، مجانبا له، بل ومحاربا لكل من
يتجه إليه.. ولو كان على غير تلك الصفة لما ورد هذا المورد، ولما لقى هذا المصير المشئوم!! وثانيا: أن قوله تعالى فى الآية التالية: «أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ» .
- هو- وبإجماع المفسرين- خطاب إلى المشركين! وهذا الخطاب- كما ترى متصل بالكلام الذي سبقه، إذ هو إضراب عنه، وإنشاء لخطاب آخر معهم.. كما سنرى..
وعلى هذا، فإن قوله تعالى:
«لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» - هو خطاب.
من الله سبحانه وتعالى للمشركين، على لسان النبي صلوات الله وسلامه عليه..
وفى هذا الخطاب ردّ على هؤلاء المشركين، الذين يدعون إلى هذه النار التي يعذّب فيها المجرمون، الذين نادوا مالكا قائلين:«لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ» هؤلاء المشركون يدعون فى هذه اللحظة إلى تلك النار، وهم إذ يطلبون وجها للفرار منها، يلقاهم هذا القول الذي يمسك بهم، ويدفعهم دفعا إلى جهنم:«لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» .. والمخاطبون بهذا إنما هم أكثر المشركين الذين كانوا إلى هذا الوقت يقفون من الله هذا الموقف العنادي، فأبوا أن يستمعوا لآيات الله، وأن يستجيبوا لها..
أما الذين استجابوا للرسول، وآمنوا بالله، فقد كانوا قلة قليلة منهم..
ولهذا صح أن يخاطبوا بقوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» ..
قوله تعالى:
هو إضراب عن هذا الخطاب الذي وجه إليهم، والذي كان من شأنه أن يحدث لهم ذكرا، وأن ينقادوا للحق، ويذعنوا له.. وأما ولم يكن لهم من هذا الحديث عبرة وعظة، فقد كان من التدبير الحكيم أن يطوى عنهم هذا الحديث، وأن يواجهوا بهذا الواقع الذي هم فيه، وهو أنهم قد أبرموا أمرهم وأحكموه على هذا الضلال، والله سبحانه قد أحكم أمره، على أن يأخذ المجرمين يجرمهم.. وفى هذا وعيد لهم بما سيلقون من عذاب أليم، يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون.
قوله تعالى:
«أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ؟ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ» .
هو إضراب أيضا عن الخطاب الذي وجه إليهم فى قوله تعالى: «أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ» .. حيث أن هذا الوعيد الذي يحمله الخطاب إليهم لم يلق منهم إلا استهزاء، واستخفافا، لأنهم على ظنّ بأن لا بعث، ولا حساب، ولا جزاء.. وأنه إذا كان بعث وحساب وجزاء- فأين هى أعمالهم التي يحاسبون عليها؟ ومن رآها منهم وأحصاها عليهم؟ وإذا كان هناك من يرى أعمالهم الظاهرة التي يعملونها على مشهد من الناس، فأين من يعلم ما يعملونه فى الخفاء، وما يضمرونه فى الصدور؟.
فجاء قوله تعالى: «أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ؟» ليكشف عن هذا الوسواس، الذي توسوس به لهم ظنونهم الكاذبة، عن علم الله سبحانه وتعالى، وليقرر لهم الحقيقة التي غابت عنهم، وهى أن كل شىء عملوه فى السرّ أو فى الجهر، يعلمه الله الذي لا تخفى عليه خافية.. بل وليس هذا فحسب، بل إن أعمالهم كلها- سرها وجهرها- مسجلة فى كتب يكتبها رسل من عند الله موكّلون بهم.. «ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» (18: ق)
قوله تعالى:
«قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ» .
هو بيان للموقف الذي يتخذه النبي من دعوى المشركين بأن لله ولدا، وهم الملائكة الذين نسبوهم إلى الله، ثم عبدوهم من دونه..
فلو أنه سلّم بهذا الأمر جدلا، وكان للرحمن ولد كما يزعمون- فهذا لا يجعل للولد مكانا متقدما على الوالد، حتى يؤثر بالعبادة من دونه.. فالوالد مقدّم على الولد رتبة وزمانا.. فهو بهذا معبود قبل أن يوجد الولد.. فإذا وجد الولد بعد هذا، فليس له أن يزيل الوالد عن مكانه! وعلى هذا، فإنه لو سلّم للمشركين بما يقولونه من أن لله ولدا، فإن هذا لا يعطيهم حجّة على عبادة الولد دون الوالد.. ولهذا كان أن واجههم النبي بما ينبغى أن يكون عليه الأمر- على فرض التسليم بدعواهم الباطلة- وهو أن النبىّ أول العابدين لله، دون التفات إلى هذا الولد على فرض التسليم به..!
وهذا الأسلوب فى محاجّة الخصم، هو أبلغ الأساليب فى إفجامه، وقطع حجته، وذلك بإقامة الحجة عليه من واقع إقراره واعترافه، عملا بالمثل القائل:
قوله تعالى:
«سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» .
هو تنزيه لله سبحانه وتعالى عن هذا القول الذي يقوله المشركون بالله، من نسبة الولد إليه، والذي سلم به جدلا، لإظهار فساد منطقهم حتى مع هذا المدعى الباطل الذي يدّعونه على الله.. أما الله سبحانه وتعالى فهو منزه عن أن يكون له ولد.. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.