الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منهم ومنه كيانا واحدا، وكأنهم هم المكذّبون بآيات الله كلها، الوارثون لفرعون فى ضلاله، وكبره وعناده.. والقرآن الكريم، يقرن فى مناسبات كثيرة بين مشركى قريش، وبين فرعون.. إذ كانوا أقرب الناس شبها به، فى التعالي والتشامخ، والتصامّ عن كلمة الحق، والتعامي عن آيات الله..
وثالثا: تكرر فى هذه الآيات قوله تعالى: «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ» أربع مرات، كما تكرر قوله تعالى:«وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» أربع مرات كذلك..
وداعية هذا التكرار، هو التعقيب على هذه الأحداث، بإشارتين؟
الإشارة الأولى، إلى مواقع نقمة الله، وما أخذ به المكذبين برسله من بلاء «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ» ..
والإشارة الثانية، هى دعوة إلى طريق الخلاص والنجاة من نقمة الله وبلائه:«وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ» .. فهذا هو طريق النجاة، وهو الاستماع إلى القرآن الكريم، وإلى الإيمان به، والعمل بما يدعو إليه..
فهل من مدّكر؟.
الآيات: (43- 55)[سورة القمر (54) : الآيات 43 الى 55]
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47)
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَما أَمْرُنا إِلَاّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ» ..
كان المتوقع بعد ذكر فرعون، وما أخذه الله به من نكال، أن يجىء هذان التعقيبان:«فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ» .. «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» .. وذلك على نسق النظم الذي جاءت عليه الآيات التي سبقت الحديث عن فرعون، بالحديث عن قوم نوح وعاد وثمود، وقوم لوط- كان هذا هو المتوقع، ولكن جاء قوله تعالى:«أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ» - ليصل- كما قلنا- مشركى قريش، بفرعون، ويجعلهم هذا التعقيب المباشر لقصته امتدادا له، حتى إنهم ليأخذون المكان الذي كان من المتوقع أن يأخذه قوله تعالى:«فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ» ..
فقوله تعالى: «أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ» خطاب لمشركى قريش، فى صورة استفهام إنكارى، ينكر عليهم هذه المشاعر الخاطئة التي يعيشون فيها، وهى أنهم لن يؤخذوا بما أخذ به الكافرون المكذبون من قبلهم..
«أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ» ؟ أي فلا تحل بهم النقم كما حلت بأشياعهم من قبل؟ ..
وقوله تعالى: «أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ» .. استفهام إنكارى آخر، ينكر على المشركين أن يكون لهم عهد عند الله، فى كتاب بين أيديهم، بأنهم بمنجاة من أن ينالهم ما نال إخوانهم الضالين من قبل، من عذاب وبلاء؟
والزبر: جمع زبور، وهو القطعة من الشيء، والمراد به هنا الكتاب، والمراد بالزبر: كتب الله المنزلة على رسله، إذ كان كلّ منها قطعة من الكتاب الأم.. وهو أم الكتاب، أو القرآن الكريم، الذي جمع ما تفرق فى الكتب السماوية، والذي به كمل دين الله قوله تعالى:
«أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ» ..
أم هنا حرف عطف، حيث يجمع هذا السؤل الموجه المشركين، إلى السؤالين السابقين:
«أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ؟ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ؟» .
وعدل عن الخطاب إلى الغيبة، استخفافا بشأن هذا الجمع المتحدّى، الذي ملأه العجب والغرور، فلم ير أية قوة تقف له، وتأخذ النصر منه..
والجميع، بمعنى الجمع، وعبر عن الجمع بالجميع، إشارة إلى استطالتهم فى الغرور، وإدلالهم بكثرة جمعهم..
قوله تعالى:
«سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ» .
أي إن هذا الجمع المفتون بكثرته، المغرور بقوته، سيهزم ويولى الدبر.. تلك هى آخرة مطافه..
وعدل عن لفظ «الجميع» الذي هو من مقول قول المشركين، إلى لفظ «الجمع» استصغارا لهم، وأنهم جمع لا جميع..
وهذا من أنباء الغيب التي حمل القرآن الكريم قدرا كبيرا منها.. فهذه الآية مكية، فى سورة مكية، وما كان المؤمنون يومئذ يتوقعون فى أي حال أن يهزم هذا الجمع الذي توعده الله سبحانه وتعالى بالهزيمة وتولية الأدبار.. حتى إن عمر ابن الخطاب- رضى الله عنه- كان فيما يروى عنه- يقول حين نزلت هذه الآية:
ما كنت أدرى: «من هذا الجمع الذي سيهزم» ، حتى كان يوم بدر فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب فى الدرع وهو يتلو قوله تعالى:«سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ» فعلمت تأويلها..
قوله تعالى:
«بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ» ..
إضراب على الهزيمة التي ستحل بهؤلاء المشركين، واعتبارها كأن لم تكن، لأنها لا تعدّ شيئا إلى ما ينتظر المشركين من عذاب الله يوم القيامة..
إن هزيمتهم فى الحرب، وإن كانت خزيا يلبسهم، وعارا يتجللهم، وحسرة تملأ قلوبهم- فإنها إلى ما يلقاهم من عذاب الله فى الآخرة، تعدّ عافية، وتحسب رحمة..!!
قوله تعالى:
هو تعقيب على قوله تعالى: «بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ» .. أي إن ما يلقى هؤلاء المشركين من عذاب يوم القيامة، هو مما أعد للمجرمين، وهؤلاء المشركون هم رأس من رءوس المجرمين، يردون
موردهم، ويلقون مصيرهم.. إنهم مجرمون، وإن المجرمين فى ضلال وسعر، أي جنون، وسعار، كسعار الكلاب، فلا يكون منهم إلا النباح..
إذ يسحبون على وجوههم فى النار، ويدعّون إلى جهنم دعّا- يشيعون من الزبانية الموكلين بسوقهم إلى النار، بتلك الكلمات القاتلة:«ذوقوا مس سقر» .. اى انعموا بهذا النعيم، واهنئوا به..
والمس: اللفح، والعذاب الوارد عليهم من جهنم، ومنه قوله تعالى:
«وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ» (41: ص) .
وسقر: واد من أودية جهنم، ومنزل من منازلها، نعوذ بالله منها، ومن عذاب الله وسخطه.
قوله تعالى:
«إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ» أي إنا خلقنا كل شىء بقدر.. أي بحساب وتقدير..
فما من ذرة فى السماء أو فى الأرض، إلا وهى فى علم الله، وفى تصريف قدرته، وإلا هى آخذة مكانها فى هذا الوجود، كما يأخذ كل عضو فى الجسد مكانه منه..
قوله تعالى:
«وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» .
أي ما أمرنا لشىء إذا أردناه، إلا أن نقول له كن فيكون.. فبكلمة واحدة، يدعى أي أمر، فيجيب فى لمحة كلمح البصر.. وفى هذا إشارة إلى أن الموجودات كلها واقعة فى علم الله، فى كل حال من أحوالها،
وفى كل صورة من صورها، وأنها إذ تدعى إنما تدعى من حضور هى فيه.. فعلا..
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» .
هو عودة بهؤلاء المشركين من مشاهد القيامة، وما سيلقاهم هناك من بلاء وضنك- عودة بهم إلى حيث هم فى هذه الدنيا.. فإن تلك هى فرصتهم، إن أرادوا أن يصلحوا ما أفسدوا، وأن يتجنبوا هذا الطريق الذي ينتهى بهم إلى جهنم..
فليعيدوا النظر فى موقفهم هذا، وليتدبروا ما حل بأشياعهم، ومن هم على شاكلتهم من الأمم السابقة، الذين كفروا بآيات الله، وكذبوا رسله، وكيف أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.. ولكن أين من يتدبر، ويتذكر؟ ..
والأشياع: جمع شيعة، وشيعة المرء أنصاره، ومن هم على طريقته..
وأهل الضلال جميعا شيعة، وإن لم يجمعهم زمان أو مكان.. لأنهم جميعا على طريق الغواية، والبوار..
ومدّكر: بمعنى متذكر، وفعله ادّكر، الذي أصله إذ دكر، فقلبت الذال دالا وأدغمت فى الدال..
قوله تعالى:
«وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ» .
أي كل شىء فعله هؤلاء الضالون وأشياعهم، مسجل عليهم فى الزبر، أي الكتب التي تكتب فيها أعمالهم.. فكل إنسان له كتابه الذي
سطّر فيه كل ما عمل من خير أو شر.. «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً» (13: الإسراء) .
قوله تعالى:
«وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ» .
أي وكل صغير من أعمال الناس وكبيرها مستطر، أي مكتوب فى أسطر، على صفحات هذا الكتاب الذي يعطاه كل إنسان يوم القيامة.
قوله تعالى:
«إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» .
وإذا كانت تلك هى حال الضالين والمكذبين، فى الآخرة، وهى حال تشيب لها الولدان، فإن هناك حالا أخرى، هى حال أهل الإيمان والتقوى، حيث النعيم المقيم، والرضوان العظيم.. إن أهل التقوى فى جنات وأنهار تجرى من تحت هذه الجنات، وإنهم فى منزل كريم عند مليك مقتدر، بيده كل شىء.
وفى وصف المقعد بالصدق، إشارة إلى أنه منزل شريف كريم، شرف الصدق وكرامته، وأنه دائم باق دوام الصدق وبقاءه..
وفى وصف مقعد الصدق بأنه «عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» أي عند الله المالك لكل شىء، المقتدر على كل شىء- فى هذا الوصف إشارة إلى قرب هؤلاء المتقين من ربهم، وأنهم فى ساحة فضله وإحسانه، فهو قرب رضا ورضوان، وإدناء فضل وإحسان.. جعلنا الله سبحانه من عبادة المقربين المكرمين..