المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآيات: (1- 5) [سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 5] - التفسير القرآني للقرآن - جـ ١٤

[عبد الكريم يونس الخطيب]

فهرس الكتاب

- ‌(الآيات: (31- 37) [سورة الذاريات (51) : الآيات 31 الى 37]

- ‌الآيات: (38- 46) [سورة الذاريات (51) : الآيات 38 الى 46]

- ‌الآيات: (47- 60) [سورة الذاريات (51) : الآيات 47 الى 60]

- ‌52- سورة الطور

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 16) [سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 16]

- ‌[البعث.. وعلى أية صورة يكون

- ‌الآيات: (17- 28) [سورة الطور (52) : الآيات 17 الى 28]

- ‌الآيات: (29- 49) [سورة الطور (52) : الآيات 29 الى 49]

- ‌53- سورة النجم

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 18) [سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 18]

- ‌الآيات: (19- 30) [سورة النجم (53) : الآيات 19 الى 30]

- ‌الآيات: (31- 55) [سورة النجم (53) : الآيات 31 الى 55]

- ‌[الّلمم.. والمعفوّ منه]

- ‌الآيات: (56- 62) [سورة النجم (53) : الآيات 56 الى 62]

- ‌54- سورة القمر

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 8) [سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 8]

- ‌[النبي.. وانشقاق القمر]

- ‌الآيات: (9- 42) [سورة القمر (54) : الآيات 9 الى 42]

- ‌الآيات: (43- 55) [سورة القمر (54) : الآيات 43 الى 55]

- ‌55- سورة الرحمن

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 13) [سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 13]

- ‌[سورة الرحمن.. ونظمها]

- ‌الآيات: (14- 32) [سورة الرحمن (55) : الآيات 14 الى 32]

- ‌الآيات: (33- 61) [سورة الرحمن (55) : الآيات 33 الى 61]

- ‌الآيات: (62- 78) [سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 78]

- ‌56- سورة الواقعة

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات (1- 26) [سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 26]

- ‌الآيات: (27- 40) [سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 40]

- ‌الآيات: (41- 56) [سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 56]

- ‌الآيات: (57- 74) [سورة الواقعة (56) : الآيات 57 الى 74]

- ‌الآيات: (75- 96) [سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 96]

- ‌57- سورة الحديد

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 6) [سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 6]

- ‌الآيات: (7- 11) [سورة الحديد (57) : الآيات 7 الى 11]

- ‌الآيات: (12- 15) [سورة الحديد (57) : الآيات 12 الى 15]

- ‌الآيات: (16- 20) [سورة الحديد (57) : الآيات 16 الى 20]

- ‌الآيات: (21- 24) [سورة الحديد (57) : الآيات 21 الى 24]

- ‌الآيات: (25- 29) [سورة الحديد (57) : الآيات 25 الى 29]

- ‌[المسيحية رأفة ورحمة.. ثم ماذا؟] أمريكا والمسيح

- ‌58 سورة المجادلة

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 6) [سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 6]

- ‌الآيات: (7- 10) [سورة المجادلة (58) : الآيات 7 الى 10]

- ‌الآيات: (11- 13) [سورة المجادلة (58) : الآيات 11 الى 13]

- ‌الآيات: (14- 22) [سورة المجادلة (58) : الآيات 14 الى 22]

- ‌59: سورة الحشر

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 5) [سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 5]

- ‌الآيات: (6- 10) [سورة الحشر (59) : الآيات 6 الى 10]

- ‌الآيات: (11- 17) [سورة الحشر (59) : الآيات 11 الى 17]

- ‌الآيات: (18- 24) [سورة الحشر (59) : الآيات 18 الى 24]

- ‌(أسماء الله الحسنى)

- ‌60- سورة الممتحنة

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 3) [سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 3]

- ‌الآيات: (4- 9) [سورة الممتحنة (60) : الآيات 4 الى 9]

- ‌الآيات: (10- 13) [سورة الممتحنة (60) : الآيات 10 الى 13]

- ‌61: سورة الصّفّ

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 6) [سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 6]

- ‌الآيات: (7- 14) [سورة الصف (61) : الآيات 7 الى 14]

- ‌62- سورة الجمعة

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 8) [سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 4]

- ‌الآيات: (5- 8) [سورة الجمعة (62) : الآيات 5 الى 8]

- ‌الآيات: (9- 11) [سورة الجمعة (62) : الآيات 9 الى 11]

- ‌63- سورة «المنافقون»

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 6) [سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 6]

- ‌الآيات: (7- 11) [سورة المنافقون (63) : الآيات 7 الى 11]

- ‌64- سورة التغابن

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 4) [سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 4]

- ‌الآيات: (5- 10) [سورة التغابن (64) : الآيات 5 الى 10]

- ‌الآيات: (11- 18) [سورة التغابن (64) : الآيات 11 الى 18]

- ‌65- سورة الطلاق

- ‌الآيات: (1- 7) [سورة الطلاق (65) : الآيات 1 الى 7]

- ‌الآيات: (8- 12) [سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 12]

- ‌66- سورة التحريم

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 5) [سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 5]

- ‌الآيات: (6- 9) [سورة التحريم (66) : الآيات 6 الى 9]

- ‌الآيات: (10- 12) [سورة التحريم (66) : الآيات 10 الى 12]

الفصل: ‌الآيات: (1- 5) [سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 5]

بسم الله الرحمن الرحيم

‌الآيات: (1- 5)[سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 5]

بسم الله الرحمن الرحيم

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4)

ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)

التفسير:

قوله تعالى:

«سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..

تبدأ السورة بهذا النشيد القدسي الذي ينتظم الوجود كله، فى سمواته وأرضه، مسبّحا بحمد الله، فى ولاء لعزته، وانقياد لسلطانه.

وهذا النشيد، هو تقدمة حمد وشكر لله على ما أخذ به أهل الضلال والفساد من عقاب، فأنزلهم منازل الهون، وضرب على أيديهم الآثمة، التي طالما تطاولت

ص: 847

على أولياء الله، وتصافحت على الكيد لهم، وإلحاق الضرر بهم..

فهذه نعمة عظمى تستحق من المؤمنين التسبيح بحمد الله، والشكر له..

وليس المؤمنون وحدهم هم الذين يحمدون الله ويسبحونه، ويذكرون آلاءه على ما أنزل بالمنافقين والكافرين من خزى، وهوان، وعلى ما كتب للمؤمنين من إعزاز وتأييد ونصر- بل إن كل ما فى السموات والأرض يسبح بحمد الله، أن أحق الحق وأزهق الباطل، وأزاح هذه العلة، التي كانت قذّى فى عين الوجود، وسحابة سوداء فى سمائه الصافية..

هذا، وقد ورد التسبيح لله فى القرآن الكريم بالصيغ الثلاث، الدالة على أزمنة الحدث، ماضيا، وحاضرا، ومستقبلا..

فجاء بصيغة الماضي فى قوله تعالى: «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (الحشر) ..

وجاء بصيغة المضارع فى قوله تعالى: «يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» .. (1: الجمعة) وجاء بصيغة الأمر فى قوله تعالى: «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» ..

(1: الأعلى) .

وفى هذا ما يشير إلى أن جميع آنات الزمن ولحظاته مملوءة بذكر الله، والتسبيح بحمده.. من عوالم الوجود فى السموات والأرض جميعا.

فمن لم يسبح اختيارا، سبّح اضطرارا.. «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» .

قوله تعالى:

«هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ

ص: 848

اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ»

..

أي أن الله سبحانه بعزته وحكمته، هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم، ومكّن للمسلمين منهم، ومن ديارهم..

والذين كفروا من أهل الكتاب هنا، هم جماعة من جماعات اليهود، التي كانت تسكن المدينة، وهم بنو النضير: الذين كان النبي- صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، عقد معهم عقدا، على أن يقفوا موقفا حياديّا منه ومن أصحابه، فلا يقاتلوه، ولا يقاتلوا معه.. وقد كانوا من هذا العقد على دخل وخيانة..

وكانوا يتربصون بالنبي والمسلمين الدوائر.. حتى إذا كانت وقعة أحد، ورأوا فيها هزيمة المسلمين، تحركت نوازع الغدر فى صدورهم، فسعى كبيرهم كعب بن الأشرف إلى عقد حلف مع قريش، ضد النبي وأصحابه، وجاء إلى مكة ومعه أشراف قومه، يعرض على قريش أن يدخل معها هو وقومه بنو النضير فى حلف لحرب النبي، وأنه إذا جاءت قريش إلى المدينة، وخرج النبي وأصحابه لحربهم، كان بنو النضير جيشا محاربا مع قريش، يضرب فى ظهور المسلمين، على حين تضرب قريش فى وجوههم..

وقد علم النبي بهذا الذي أحدثه بنو النضير، من نقض العهد، فأمر النبي بقتل كعب بن الأشرف بأمر من الله سبحانه، جاءه به جبريل، عملا بقوله تعالى:

«إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ.. ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» ..

(33: المائدة) ..

ص: 849

وكما كان جزاء كعب بن الأشرف- رأس الفتنة- القتل، كان جزاء قومه النفي من الأرض..

والذي تولّى قتل كعب بن الأشرف، بأمر من رسول الله، هو محمد بن مسلمة الأنصاري..

وقوله تعالى: «لِأَوَّلِ الْحَشْرِ» إشارة إلى أن هذا أول إخراج لليهود من ديارهم، وأنه سيكون بعده إخراج لجماعات أخرى منهم.. وقد حدث هذا فعلا، فأخرج بنو قريظة بعد غزوة الأحزاب، وقتل كل من بلغ الحلم منهم، وسبى النساء، والأطفال والشيوخ، ثم أخرج اليهود جميعا من الجزيرة العربية فى عهد عمر بن الخطاب، حيث أجلى البقية الباقية منهم، والتي كانت تعيش فى خيبر..

وسمّى هذا الإجلاء حشرا، لأنه أشبه بالحشر الموعود يوم القيامة، حيث وقع عن قهر، ولم يقع عن رغبة منهم.. ثم إنه كان إجلاء عامّا، لم يدع أحدا منهم، كما لم يدع حشر القيامة أحدا ممن فى القبور.. ثم إنه من جهة ثالثة كان جماعيّا فوريّا، وليس جماعة جماعة، وزمنا بعد زمن..

فالحشر: يشير إلى القوة الضاغطة الحاشرة، التي تسوق المحشورين سوقا عنيفا، وتجمع أشتاتهم فى دائرة واحدة، وتقيمهم على وجه واحد.. فهو والحشد بمعنى، ومنه قوله تعالى:«فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ» (53: الشعراء) وقوله تعالى: «فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا» .. أي فطلع عليهم قدر الله فيهم من حيث لم يقدّروا، فقد كانوا يحسبون أنهم من حصونهم فى أمن من كل يد تنالهم، وخاصة يد النبي والمسلمين الذين كانوا يرون أنهم لن ينالوا

ص: 850

منهم منالا أبدا، وهم فى داخل هذه الحصون التي لا تنال.. فكان من تقدير الحكيم العليم أن يبطل حساب هؤلاء الأشقياء، ويفسد تدبيرهم، ويختل تقديرهم، فيكون النبي وأصحابه هم الذين تتداعى بين أيديهم هذه الحصون، ويخرج منها القوم كما تخرج الفئران من أجحارها، وقد أغرقها السيل الجارف!! وقوله تعالى:«وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ» إشارة إلى ما كان من تدبير الله سبحانه وتعالى، لإبطال عمل هذه الحصون، فقد قذف الله سبحانه الرعب والفزع الشديد فى قلوب المتحصنين بها، فبدت لهم هذه الحصون الحصينة وكأنها بيوت من زجاج أو ورق، فلم يكن منهم حين رأوا المؤمنين يحاصرونهم إلّا أن يستسلموا من غير قتال، أو اعتداد بتلك الحصون..

وقوله تعالى: «يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ» - أي أن هذه الحصون التي كانت بمكان الإعزاز والإعجاب من نفوسهم، قد هانت عليهم، وخفت موازينها فى أعينهم، بعد أن رأوا- بما امتلأت به قلوبهم من رعب- أنها لا تردّ عنهم عدوا، ولا تدفع مغيرا، فأخذوا يخربونها بأيديهم، ويفتحون معاقلها للمسلمين، كما تركوا للمسلمين أن يدخلوها عليهم، وأن يفتحوا مغالقها، ويطلعوا على مسالكها.. وهذا هو معنى خرابها، الذي يبدو فى تعطيلها، وتعطيل وظيفتها التي أعدت لها.. ومنه قوله تعالى:«وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها» (114: البقرة) وقوله تعالى: «فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» - هو إلفات إلى هذا الحدث، وما فيه من دلالات على قدرة الله سبحانه، وعلى تدبيره المحكم الذي لا يغالب، وهذا ما لا يراه إلا أصحاب الأبصار النافذة إلى حقائق الأمور، وإلى مواقع العبرة والعظة منها..

ص: 851

قوله تعالى:

«وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ» أي أن هؤلاء القوم الذي كتب الله عليهم الجلاء، وقضى عليهم به- لو نظروا إلى المستقبل القريب، ورأوا ما سوف يحلّ بإخوانهم من بنى قريظة، من قتل، إذن لحمدوا الله وشكروا له، أن كان الجلاء هو الجزاء الذي أخذوا به، فأجلوا عن المدينة، فكان بعضهم فى خيبر، وبعضهم فى الشام.

وهذا يعنى أن اليهود فى الجزيرة العربية كانوا يومئذ بين أمرين من أمر الله: إما الجلاء، وإما القتل والسبي.. وأن أحسنهم حظّا من كتب عليهم الجلاء.. وفى هذا إرهاص بالبقية الباقية من اليهود فى المدينة، وأنهم إذا لم يجلوا عنها، عذّبوا فى الدنيا بالقتل وبالسبي.. أما فى الآخرة فلهم جميعا عذاب النار..

وهذا العذاب الأخروى ليهود الجزيرة العربية، إنما هو لكفرهم برسول الله، بعد علمهم بدعوته، والوقوف على معطيات رسالته، وشهودهم شواهد الإعجاز منها.. ولهذا، كان أهل الكتاب- من اليهود والنصارى- الذين بلغتهم الرسالة النبوية- كانوا يخاطبون فى القرآن الكريم على أنهم كافرون، كما يقول سبحانه:«لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ» (1: 3 البينة) ومن هذا قوله تعالى: «يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ» (70: آل عمران) قوله تعالى:

«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ»

ص: 852

هو بيان للسبب الذي من أجله أنزل الله سبحانه ما أنزل من بلاء فى الدنيا، وما أعد من عذاب فى الآخرة- لهؤلاء القوم من بنى النضير، ومن على شاكلتهم.. إنهم شاقّوا الله ورسوله، أي كانوا على شقاق وخلاف لله ولرسوله.. وإنه ليس لمن يشاقّ الله، ويحيد عن صراطه المستقيم إلا أن يلقى العذاب الشديد من الله..

«فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» لمن يشاقه، ويشاق رسوله.

هذا، وقد جاء التعليل للعذاب جامعا بين مشاقة الله ومشاقة رسوله فى قوله تعالى:«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ..

ثم جاء الشرط الموجب للعذاب، بمشاقة الله وحده، دون رسوله فى قوله تعالى:

«وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» .. وذلك للإشارة إلى أن مشاقة الرسول، هى مشاقة لله، سواء بسواء، إذ كان الرسول هو رسول الله، وكلماته التي يتلوها على الناس، هى كلمات الله.. فذكر الرسول مع الله، أولا، ثم الاكتفاء بذكر الله وحده ثانيا- هو تأكيد لهذا المعنى، وإقامته على التسوية بين مخالفة الله ومخالفة رسوله.. وكما يكون هذا فى المعصية والخلاف، يكون فى الطاعة والولاء.. كما يقول سبحانه:«مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ» (80: النساء) ..

قوله تعالى:

«ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ»

ص: 853

اللينة: النخلة، وهى من اللّين، الذي يدل على الرخاء والنعمة، ولين العيش، إذ كانت النخلة نعمة طيبة، ورزقا كريما لأهل البادية، فأطلقوا عليها هذا الاسم، احتفاء بها، وإشارة بفضلها، كما سموا الخيل خيرا، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى على لسان سليمان عليه السلام. «فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي» (32: ص) .. يريد الخيل.

والخطاب هنا للمسلمين الذين حاصروا بنى النضير، الذين تحصنوا بحصونهم وأبوا أن يستسلموا، فاتجه المسلمون إلى قطع نخيلهم التي كانت تحيط بديارهم..

فلما استسلموا للمسلمين بعد هذا، وقع فى نفوس بعض المسلمين ندم على أنهم قطعوا هذا النخل الذي صار إلى أيديهم، فجاء قوله تعالى هنا، مسرّيا عن المسلمين ومعزيا لهم فى هذا الخير الذي فاتهم.. فما قطع من النخيل، أو بقي منه، فهو بما قضى به الله سبحانه وتعالى وإذن فلا يأس المسلمون على مافاتهم.. إذ كان ذلك عن إرادة الله سبحانه، وعن إذن منه..

ثم إنه لكى يرضى المسلمون بهذا القضاء، وليروا وجه الحكمة منه، فليعلموا أن ذلك إنما كان ليخزى الله به هؤلاء الفاسقين، وليذلّهم، وليريهم أن ما غرسوه بأيديهم، وبذلوا له جهدهم وأموالهم، قد استبدّت به يد المسلمين، وحصدته يد المنايا كما يحصد الموت أبناءهم بين أيديهم، دون أن يملكوا لذلك دفعا..

وفى هذا ما فيه من إذلال لهم، ومضاعفة للحسرة فى قلوبهم.. فإذا كان المسلمون قد خسروا شيئا من هذا الرزق الطيب، فهو إنما هو الثمن الذي أدّوه لخزى أعدائهم وكتبهم، تماما كما يؤدّون مثل هذا الثمن بمن يقتل منهم فى ميدان القتال، لقاء النصر على العدو!.

ص: 854