الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات: (1- 4)[سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 4]
بسم الله الرحمن الرحيم
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4)
التفسير:
قوله تعالى:
هذا هو دأب الوجود كلّه فى السموات والأرض، إنه فى صلاة دائمة مستغرقة، وعلى وجه واحد، قائم بين يدى الله فى ولاء وخشوع.
وتسبيح هذه العوالم التي يضمها الوجود، هو فى خضوعها السلطان لله سبحانه، وفى جريانها على ما أقامها عليه خالقها، دون أن يكون من أىّ ذرّة منها خروج على الحدود التي ألزمها الله إياها وأجراها فيها:«لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» :
(40: يس) .
وفى قوله تعالى: «لَهُ الْمُلْكُ» إشارة إلى هذا السلطان القائم على الوجود
من قدرة الله.. فهو المالك لكلّ شىء، لا شريك له.. وإذ كان هذا شأنه فهو- سبحانه- الذي يصرف مخلوقاته كيف يشاء، ويقيمها حيث أراد..
وفى قوله تعالى: «وَلَهُ الْحَمْدُ» إشارة أخرى، إلى أنه سبحانه وحده، هو المستحق الحمد من كلّ مخلوق، فى أية صورة كان خلقه، وعلى أي حال كان وضعه.. فالخلق إيجاد، ووجود الكائن المخلوق، والوجود نعمة، بالإضافة إلى العدم، الذي هو ضلال فى عالم التيه والضياع.
قوله تعالى:
«هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ..
وهذا هو تدبير الله فى خلقه، وحكمه فى عباده.. وهكذا خلقهم.. منهم الكافر ومنهم المؤمن.. كما أن منهم الذكر والأنثى، والذكىّ والغبىّ، والغنىّ، والفقير.. إلى غير ذلك من أنماط الناس، وأشكالهم..
ثم هو سبحانه «بصير» أي عالم علما متمكنا، من كل ما يعمل العاملون، من مؤمنين، وكافرين.
وقدّم الكافرون هنا على المؤمنين، لأن الكافرين كثرة فى العدد، حتى لكأنهم يشبهون الجسد الإنسانىّ، على حين يمثل المؤمنون الرأس فى هذا الجسد..
وقيل إن المعنى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ» كلام تام، ثم كان بعد هذا الخلق أن ظهر فى الناس ما هم عليه من كفر وإيمان، كما يقول سبحانه بعد هذا:
«فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» .. وهذا مثل قوله تعالى: «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ
دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ»
(45: النور) .
وهذا المعنى، لا ينفى أن الله سبحانه خلق المؤمن مهيأ للإيمان مستعدّا له، وخلق الكافر مهيأ للكفر ومتقبّلا له، كما خلق الدواب، فكان لكل نوع، الخلق الذي هو عليه بين المخلوقات، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى، «أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» .. أي أعطى كل مخلوق ما قدّر له، ثم هداه إلى هذا الذي قدّره له.
وليس ببعيد عن هذا ما يقول به جمهور علماء السنة من أن الله خلق الكافر، وكفره فعل له وكسب، مع أن الله خالق الكفر، وخلق المؤمن، وإيمانه فعل له وكسب، مع أن الله خالق الإيمان..
قوله تعالى:
أي أنه سبحانه خلق هذا الوجود- فى أرضه وسمائه- بالحقّ، الذي عدل بين المخلوقات، وأقام كل مخلوق بالمكان المناسب له فى هذا الوجود..
«وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ» ..
«أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» (115: المؤمنون) ..
«لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ» (17: الأنبياء) .
وقوله تعالى: «وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» - هو خطاب للناس جميعا، حيث كان وضعهم بين المخلوقات أحسن وضع، وكانت صورتهم أحسن صورة.. «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ
فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ»
.. (6- 8: الانفطار) .. «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» (4: التين) ..
فهذا الخلق السوىّ الذي أقام الله عليه الإنسان، هو نعمة جليلة تستحق من كل إنسان أن يقوم فيها بحمد الله، والشكر له..
والسؤال هنا: أيحسب الكافرون، والمشركون، وأهل الضلال، ممن هم من أصحاب النار- أيحسبون من هذا الخلق الذي صوره الله فأحسن صوره؟ ..
والجواب- بلا تردد- نعم!! فكل مخلوق خلقه الله، هو مخلوق فى أحسن صورة وأعدلها، إذا هو أخذ مكانه فى الوجود العام، ولم يخرج على وضعه الذي هو فيه..
فأىّ مخلوق أيّا كان قدره من الضالة، والضمور، هو بعض من الصورة العامة للوجود، وحيث كان من هذه الصورة، هو ذو شأن فيها، لا تكمل إلا به.. إنه أشبه بالنغم فى اللحن الموسيقى الكبير، أو ما يعرف «بالسمفونية» ..
والصوت الذي يخرج عن هذا اللحن، ولا يتّسق معه، هو صوت ضائع، لا حساب له، ومن الخير للحن ألا يكون فيه لهذا الصوت وجود أصلا..
والكافرون، والمشركون، وأهل الضلال، هم أصوات ضالة فى هذا اللحن الكبير، الذي يسبّح به الوجود لله، وينشد على أنعامه نشيد الولاء لله رب العالمين..
ومع هذا، فإن هؤلاء الضالين، كانوا قبل أن يفسدوا ويضلوا- كانوا على فطرة سليمة، وخلق سوىّ.. ولكنهم أفسدوا هذه الفطرة، وغيّروا