المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[البعث.. وعلى أية صورة يكون - التفسير القرآني للقرآن - جـ ١٤

[عبد الكريم يونس الخطيب]

فهرس الكتاب

- ‌(الآيات: (31- 37) [سورة الذاريات (51) : الآيات 31 الى 37]

- ‌الآيات: (38- 46) [سورة الذاريات (51) : الآيات 38 الى 46]

- ‌الآيات: (47- 60) [سورة الذاريات (51) : الآيات 47 الى 60]

- ‌52- سورة الطور

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 16) [سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 16]

- ‌[البعث.. وعلى أية صورة يكون

- ‌الآيات: (17- 28) [سورة الطور (52) : الآيات 17 الى 28]

- ‌الآيات: (29- 49) [سورة الطور (52) : الآيات 29 الى 49]

- ‌53- سورة النجم

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 18) [سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 18]

- ‌الآيات: (19- 30) [سورة النجم (53) : الآيات 19 الى 30]

- ‌الآيات: (31- 55) [سورة النجم (53) : الآيات 31 الى 55]

- ‌[الّلمم.. والمعفوّ منه]

- ‌الآيات: (56- 62) [سورة النجم (53) : الآيات 56 الى 62]

- ‌54- سورة القمر

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 8) [سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 8]

- ‌[النبي.. وانشقاق القمر]

- ‌الآيات: (9- 42) [سورة القمر (54) : الآيات 9 الى 42]

- ‌الآيات: (43- 55) [سورة القمر (54) : الآيات 43 الى 55]

- ‌55- سورة الرحمن

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 13) [سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 13]

- ‌[سورة الرحمن.. ونظمها]

- ‌الآيات: (14- 32) [سورة الرحمن (55) : الآيات 14 الى 32]

- ‌الآيات: (33- 61) [سورة الرحمن (55) : الآيات 33 الى 61]

- ‌الآيات: (62- 78) [سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 78]

- ‌56- سورة الواقعة

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات (1- 26) [سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 26]

- ‌الآيات: (27- 40) [سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 40]

- ‌الآيات: (41- 56) [سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 56]

- ‌الآيات: (57- 74) [سورة الواقعة (56) : الآيات 57 الى 74]

- ‌الآيات: (75- 96) [سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 96]

- ‌57- سورة الحديد

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 6) [سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 6]

- ‌الآيات: (7- 11) [سورة الحديد (57) : الآيات 7 الى 11]

- ‌الآيات: (12- 15) [سورة الحديد (57) : الآيات 12 الى 15]

- ‌الآيات: (16- 20) [سورة الحديد (57) : الآيات 16 الى 20]

- ‌الآيات: (21- 24) [سورة الحديد (57) : الآيات 21 الى 24]

- ‌الآيات: (25- 29) [سورة الحديد (57) : الآيات 25 الى 29]

- ‌[المسيحية رأفة ورحمة.. ثم ماذا؟] أمريكا والمسيح

- ‌58 سورة المجادلة

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 6) [سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 6]

- ‌الآيات: (7- 10) [سورة المجادلة (58) : الآيات 7 الى 10]

- ‌الآيات: (11- 13) [سورة المجادلة (58) : الآيات 11 الى 13]

- ‌الآيات: (14- 22) [سورة المجادلة (58) : الآيات 14 الى 22]

- ‌59: سورة الحشر

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 5) [سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 5]

- ‌الآيات: (6- 10) [سورة الحشر (59) : الآيات 6 الى 10]

- ‌الآيات: (11- 17) [سورة الحشر (59) : الآيات 11 الى 17]

- ‌الآيات: (18- 24) [سورة الحشر (59) : الآيات 18 الى 24]

- ‌(أسماء الله الحسنى)

- ‌60- سورة الممتحنة

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 3) [سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 3]

- ‌الآيات: (4- 9) [سورة الممتحنة (60) : الآيات 4 الى 9]

- ‌الآيات: (10- 13) [سورة الممتحنة (60) : الآيات 10 الى 13]

- ‌61: سورة الصّفّ

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 6) [سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 6]

- ‌الآيات: (7- 14) [سورة الصف (61) : الآيات 7 الى 14]

- ‌62- سورة الجمعة

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 8) [سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 4]

- ‌الآيات: (5- 8) [سورة الجمعة (62) : الآيات 5 الى 8]

- ‌الآيات: (9- 11) [سورة الجمعة (62) : الآيات 9 الى 11]

- ‌63- سورة «المنافقون»

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 6) [سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 6]

- ‌الآيات: (7- 11) [سورة المنافقون (63) : الآيات 7 الى 11]

- ‌64- سورة التغابن

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 4) [سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 4]

- ‌الآيات: (5- 10) [سورة التغابن (64) : الآيات 5 الى 10]

- ‌الآيات: (11- 18) [سورة التغابن (64) : الآيات 11 الى 18]

- ‌65- سورة الطلاق

- ‌الآيات: (1- 7) [سورة الطلاق (65) : الآيات 1 الى 7]

- ‌الآيات: (8- 12) [سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 12]

- ‌66- سورة التحريم

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 5) [سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 5]

- ‌الآيات: (6- 9) [سورة التحريم (66) : الآيات 6 الى 9]

- ‌الآيات: (10- 12) [سورة التحريم (66) : الآيات 10 الى 12]

الفصل: ‌[البعث.. وعلى أية صورة يكون

‌[البعث.. وعلى أية صورة يكون

؟]

فإذا أخذنا جانب الإنسان، وهو الذي تقع لعينيه هذه الأحداث التي تكون يوم القيامة، وجدنا أنه قد تغيّر فعلا، تغيرا يتناول طبيعته، كما يتناول الموقف الذي يرى الوجود منه..

فهو من حيث طبيعته، قد صار كائنا روحانيا، محلّقا فوق هذا العالم الأرضى، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:«يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» (4: القارعة) .. فالفراش حشرة طائرة، لطيفة الهيئة، دقيقة الجرم، هشة الجسم، تكاد تنخلع عن جسدها، وهى طائرة..

ومن إعجاز القرآن الكريم هنا أن الفراشة تمثّل الدورة الإنسانية كلها، من مولده، إلى مماته، إلى مبعثه من قبره، إلى طيرانه إلى محشره..

فهى تكون بيضة.. على حين يكون الإنسان نطفة.

ثم تكون دودة.. على حين يكون الإنسان وليدا، يتحرك فى الحياة، أشبه بالدودة.

ثم تكون عذراء «1» داخل الشرنقة «2» .. على حين يكون الإنسان مقبورا فى جدثه..

(1) العذراء.. هى الدودة داخل الشرنقة.

(2)

الشرنقة. بيت تنسجه الدودة من لعابها، ثم تدخل فيه الدودة وتسمى فى هذا الدور العذراء.

ص: 549

ثم تخرج من الشرنقة فراشة «1» على حين يكون الإنسان قد خرج من قبره، كما تخرج الفراشة من الشرنقة، وقد تخلّقت لها أجنحة تسبح بها فى الفضاء! ثم ماذا؟ وماذا؟ وماذا؟

لا جواب الآن.. إن القلم يضطرب فى يدى، لما تملكنى من روعة هذا الجلال، ولما أخذنى من وجد ونشوة حيال هذا الإعجاز، الذي ألمح سنا برقه من بعيد، وأنا لا زلت على شاطىء هذا البحر الذي لا يحدّه البصر! وإنّى لأبخس نفسى حظّها، إن أنا انتزعتها الآن من هذه الحال التي لبستها من غبطة وحبور، فى هذا المقام الكريم، لأصوّر بالقلم بعض ما ترى من جلال وروعة، ولأمسك ببعض ما وقع فى الخاطر من رؤى ومشاهد بين يدى هذه المعجزة الباهرة القاهرة..

فلتأخذ النفس إذن حظها من تلك النشوة، وليرتشف القلب كأس هذه الخمر السماوية، قطرة قطرة.. حتى يرتوى!! فإذا كان لنا فى غد صحوة من هذا الانتشاء، وإذا كان لنا فى العمر غد نعيش فيه- كان لنا عودة إلى هذا الموقف، وكان لنا نظر مجدّد فى تلك المعجزة، وكان لنا قول فيما يؤدّى إليه هذا النظر..

فإلى غد- إن شاء الله- وإلى ما يأذن الله لنا به، من فضله وإحسانه، حتى يستقيم للقلم طريقه، ويجد اليد القادرة على الإمساك به، والسيطرة على زمامه..

(1) الفراشة: وهى العذراء تخرج من الشرنقة بعد أن تستكمل وجودها وتتخلق لها الأجنحة فى هذا الدور.

ص: 550

وكان صباح.... وكان مساء..!

وجاء صباح يوم آخر.. وقد هدأت موجات الجلال التي غشيت النفس بالأمس، وهأنذأ أمسك بالقلم، ولكن لا أجد شيئا مما كان يملأ صدرى من خواطر وتصورات!! فأين ذهب كل هذا؟ إنى لا أكاد أذكر شيئا مما كنت فيه بالأمس، بل لا أكاد أذكر فيم كنت.. وأحسب أن الأمر يحتاج إلى معاودة النظر فى الآية الكريمة، نظرا مجدّدا يستجيش المشاعر، ويحرّك المدارك، ويبعث من جديد هذه النشوة التي خمدت، أو كادت..

ومن النظر فى وجه الآية الكريمة: «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» تجد أن تشبيه الناس بالفراش المبثوث- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- يمثل أكمل تمثيل وأدقه تلك الصورة التي يكون عليها الناس يوم القيامة، وأن حياة الفراشة من بدئها إلى نهايتها تمثّل حياة الإنسان من حال كونه نطفة إلى أن يولد، وينمو، ويقطع مسيرته فى الحياة الدنيا، ثم إلى أن يموت، ثم يبعث فى هيئة فراشة، كانت بيضة، ثم دودة، ثم عذراء ملففة فى أكفان من الشرنقة، ثم تنشق عنها الشرنقة، فإذا هى فراشة! ..

هذا ما وقفنا عنده- على ما أذكر- من قبل..

الناس إذن يكونون يوم القيامة كالفراش المبثوث- فحين يخرجون من الأجداث يطيرون فى خفّة كما يطير الفراش المنطلق نحو النور والنار! ..

ولكن إلى أين يطير هذا الفراش الآدمي؟

ص: 551

وإلى أين يطير الفراش الحشرى إذا رأى نارا، أو أحس ضوءا؟

إنه لا وجهة له حينئذ إلا هذه النار وهذا الضوء!! وكذلك الناس، أو الفراش البشرى، لا مورد لهم إلا هذه النار التي سعّرت وتأججت.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا» (71: مريم) .

وما مصير هذا الفراش الحشرى المتدافع إلى النار؟ إنه يتقحمها، ويلقى بنفسه فيها، وكأنّ يدا قوية تدفعه إليها دفعا ليكون وقودا لها.. وقليل قليل هو الذي ينجو بنفسه، ويعدل بوجهه عن لهيبها..

كذلك شأن الفراش البشرىّ الوارد على نار جهنم، إنه وقود هذه النار إلا قليلا قليلا ممن أنجاهم الله منها، وكتب لهم الفوز بجنات النعيم، كما يقول سبحانه:«ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» (72: مريم) ..

فهذا القليل هو الذي يقف فى منطقة النور دون أن يتقحم النار..

وأما الكثير الغالب، فإنه يغشى فى هذا الضوء فيهوى فى جهنم.. إنه أعمى لا يرى إلى أين مساقه، لأنه حشر على ما كان فى الدنيا من عمى:«قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى» .. فالهلكى فى الآخرة كثيرون، والناجون قليل بل وأقل من القليل!! وأكاد أقول إن الناس سيكونون يوم القيامة على صورة الفراش حقيقة لا تشبيها، وذلك لهذا التوافق العجيب الدقيق بين الصورتين، - صورة الفراش الحشرى، وصورة الفراش البشرى- فى الملامح، والألوان، والظلال..

ص: 552

ويتأكد هذا المفهوم، إذ نجد القرآن الكريم يلتزم هذا التشبيه فى معرض آخر، من معارض البعث والنشور، فيقول سبحانه:«يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ» (7- 8: القمر) ..

فالجراد المنتشر، والفراش المبثوث.. صورتان متماثلتان فى مرأى العين، وفى أطوار الحياة التي يتنقل فيها كلّ من الفراش والجراد!.

فالجراد يأخذ فى خلقه وتطوره نفس المراحل التي يقطعها الفراش فى مسيرة الحياة..

البيضة، فالدودة، فالعذراء، فالفراشة التي تطير..

«والفراش» كائن لطيف، رقيق، يكاد يكون من عالم الروح أكثر منه من عالم المادة..

وأما «الجراد» - وإن كان أكثر كثافة من الفراش، فإن أجنحته- الكبيرة القويّة، تغلب كثافة جسده، فيطير بخفة أشبه بخفة الأرواح..

وفى الجمع بين الفراش المبثوث، والجراد المنتشر، تصوير معجز للصورة التي يبعث عليها الناس يوم القيامة..

ففى الناس: فراش، وجراد.. فى الدنيا وفى الآخرة..

فالمؤمنون، يمثلون الفراش.. فى لطفه، ورقته، ووداعته، ومواقعه فى فى الحياة، وتناوله من رحيق أزهارها، وطيّب ثمارها.. حيث هم زينة

ص: 553

هذه الحياة الدنيا، وحيث لا يقع منهم أذّى على أحد، أو عدوان على شىء، بيد أو لسان..

والكافرون، والضالون، يمثلون الجراد فى نهمه، وشراسته، وعدوانه على مواقع الخصب، فيفسدها، وو يحيلها جدبا..

وهكذا يبعث الناس، على ما كانوا عليه فى الدنيا، من كان منهم على صورة الفراش، فى اللطف، والوداعة، بعث على صورة الفراش، ومن كان منهم على هيئة الجراد، فى الشراسة والنّهم، بعث على هيئة الجراد..

وأكثر من هذا، فإن الفراش قلّة قليلة بالنسبة لأعداد الجراد الكثيرة التي تتكاثر مواليدها وتتضاعف بين ساعة وأخرى.. وكذلك المؤمنون هم قلة فى محيط الكافرين، والمشركين.. وهذا ما نامحه فى قوله تعالى فى وصف كل من الفراش والجراد.. فقد جاء وصف الفراش، بالبثّ:

«كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» .. والبث، هو إذاعة الحديث الطيب فى رفق، وعلى هينة، ولطف.. وجاء وصف الجراد بالانتشار:«كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ» والانتشار، إنما يكون فى سرعة مجنونة، كما ينتشر الوباء فى الناس، وكما تنتشر النار فى الهشيم..!

ويكاد يصرفنا هذا الموقف الرائع المعجز، عن الموضوع الذي نعالجه، بل إنه ليكاد يغنينا عن النظر إلى ماوراءه، لما نالت النفس منه، من شبع ورىّ! ولكن وفاء بحق هذا البحث، نعود فنقول:

إنه بالنظر فى حال للإنسان يوم القيامة، نجد فى قوله تعالى عن هذا

ص: 554

الإنسان يوم القيامة: «فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ» - نجد فى هذا إشارة إلى ما يقع لبصر الإنسان من تحول، يزداد به قوة خارقة فى مجال الرؤية، حيث يامع كما يامع البرق، فيكشف بنوره المنبعث منه حقائق الأشياء، وينفذ إلى الصميم منها، وكأنه يراها لأول مرة، رؤية جديدة، تبدو فيها المفارقة بعيدة، بين ما يراها عليه الآن، وبين ما كان يراها عليه فى الحياة الدنيا.. وفى هذا يقول الله تعالى:«لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (22: ق) .

هذه صورة مجملة للإنسان يوم القيامة، ولموقفه من الموجودات فى هذا اليوم..

فهو كائن سابح فى عالم علوىّ، قد يبلغ فى سبحه هذا، مدارج الكواكب والنجوم، ثم هو فى هذا العلو السحيق يملك بصرا حديدا كاشفا لا يمكن تصوره..

ومن هذا الأفق العالي، وبهذا البصر الحديد النافذ، ينظر الإنسان إلى هذه الأرض التي كان يعيش فيها.. فيرى الأرض غير الأرض، والسماء غير السماء..

«يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ» (48: إبراهيم) إنه تبدل يقع فى إحساس الإنسان نفسه، وفى معطيات بصره..

إنه يرى البحار وكأنها قد فجّرت، وفاضت مياهها.. إنه يرى البحر كله، وقد اشتمل على الكرة الأرضية وأحاط بها..

وإنه يرى الجبال وكأنها قد سيّرت، وهى فى حقيقتها سائرة لا تتوقف،

ص: 555

فى دورتها مع دورة الأرض حول نفسها، كما يقول الله تعالى:(وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب (88: النمل) .. ويراها وكأنها وقد نسفت، وزايلت مواضعها من الأرض، شأن من ينظر إلى الأرض من علو شاهق، فتبدو له وكأنها سطح مستو لا أغوار فيه، ولا نجود.. ويراها من هذا العلو وكأنها العهن المنفوش، أشبه بذرات متطايرة فوق سطح الأرض.. ويراها، ويرى الأرض معها كرة معلقة فى الفضاء، قد اندمج بعضهما فى بعض، فصارا كيانا واحدا:«لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً» (107: طه) .. (وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة)(14: الحاقة) ..

هكذا تبدو الجبال، على صور شتى، بين الصغر والكبر، وبين الظهور والخفاء، حسب الأفق الذي يشرف منه الإنسان عليها يومئذ.

ولقد أحسن الشاعر «شوقى» غاية الإحسان، فى تصوير الطائرة، وهى تنطلق مصعّدة فى السماء، وكلما ارتفعت كان لها فى موقع البصر صورة، على غير سابقتها أو لا حقتها.. يقول شوقى:

ثم تسامت فكانت أعقبا فنسورا.. فصقورا.. فحماما أمّا السماء وعوالمها، فإنه يقع عليها من التبدل والتحول، فى نظر الإنسان، ما وقع له فى العالم الأرضى من تحول وتبدل..

إنه يرى السماء، التي- كانت تبدو له فى دنياه سقفا صفيقا مصمتا- يراها، وقد فتحت فكانت أبوابا، وكانت فروجا، وإذا سقفها هذا قد بدا واهيا، لا يحول بينه وبين اختراق أجوائها إلى غير حدود..

ص: 556

«وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ» .. «وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً» .. «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ» ..

تلك هى السماء، كما يراها الإنسان، ويختبر تصعيده فيها.. أما هى فى حقيقتها فهى هى، لم تتبدل، ولم تتحول..!

وحال أخرى من السماء، يجدها الإنسان فى هذا اليوم، وهى ما جاء فى قوله تعالى:«يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ» .. فهذه حال من السماء يجدها الإنسان، حين يرتفع إلى مواقع النجوم منها، فيجد لذلك مسّ حرارة هذه النجوم، ويشهد منها هذا الغليان والفوران المتأجج فى كيانها..

إذ النجوم فى حقيقتها عوالم من لظى يأكل بعضه بعضا..

أما النجوم والكواكب، فإنه يراها- كذلك- فى أحوال شتى، حسب موقعه منها.. فيرى النجوم وقد انكدرت وطمست، واختفى ضوءها.. حيث أن هذا الضوء الذي نراه للنجوم، إنما هو من أثر هذا الغلاف الهوائى المحيط بالأرض.. فإذا خرج الإنسان من محيط هذا الغلاف لم يقع على بصره هذا الضوء اللامع الذي نراه لها..

كذلك يرى الكواكب، التي كان يراها فى العالم الأرضى على مستوى واحد، متجاورة كما تتجاور حيات العقد- يراها متناثرة، كل واحد منها عالم يدور فى فلك، بينه وبين النجوم الأخرى آماد بعيدة، تقدر مسافاتها بالألوف والملايين من السنين الضوئية!.

والشمس- وهى نجم من تلك النجوم- تبدو كرة ملتهبة، لا شعاع فيها، لأن هذا الشعاع الذي نراه منها، هو- كما قلنا- أثر من الغلاف الهوائى المحيط بالأرض.. فإذا خرج الإنسان من دائرة

ص: 557

هذا الغلاف لم يكن لهذه الأشعة وجود فى مرأى العين..

أما قوله تعالى: «وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» - فهو أيضا أثر من آثار خروج الإنسان يوم القيامة من عالم الأرض.. حيث يرى الشمس شمسا، والقمر قمرا، فى حال واحدة، لا يحكم رؤيته لهما، ليل أو نهار..

هذه وقفة قصيرة غاية القصر مع تلك المشاهد التي يراها الإنسان يوم القيامة، من عوالم الوجود.. ولو أننا ذهبنا نتقصّى وجوه النظر المختلفة، لخرج بنا ذلك عن المنهج الذي التزمناه، فى هذا التفسير لكتاب الله..

بقيت كلمة لا بد منها فى التعقيب على هذا البحث، وهى، الإجابة على هذا السؤال:

هل يكون البعث بالأجساد، أو الأرواح؟.

وهذه قضية كثرت فيها الأقوال وتضاربت الآراء، ولا نحسب أن إجابتنا على هذا السؤال بالذي يحسم الأمر، ويرفع الخلاف فيها، بل إنه ربما وسّع من شقة الخلاف، وأضاف إلى المقولات المتخالفة مقولة! ومع هذا، فإن إمساكنا عن القول فى هذه القضية، لا يخفف من حدة الخلاف فيها، ولا يمسك ذوى الآراء عن الخوض فى تلك القضية، التي هى وسواس كل خاطر، وامتدا كل نظر إلى الحياة، وما وراء الحياة.

فنقول إننا نرجح الرأى القائل بأن البعث يكون بالأرواح لا بالأجسام..

ص: 558

ولنا فى قوله تعالى: «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» ، وقوله سبحانه:

«يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ» - لنا فى هذا شاهد نلمح منه صورة الحياة التي يكون عليها الناس يوم القيامة، وهى أنها حياة أشبه بحياة الطير، حيث ينطلق الناس فى العوالم العليا، إلى حيث الكواكب والنجوم..

والأرواح الإنسانية التي نلمحها من الآبتين الكريمتين، ليست أرواحا مجردة، بل هى أرواح، تلبس أجسادا شفافة، هى قوالب روحانية، على هيئات بشرية يعيش فيها الناس.. وهى ما يسمى بالنفس، التي هى وسط بين الروح، والجسد «1» ..

قوله تعالى:

«هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ» ..

فى الإشارة إلى النار، دعوة لأهلها إلى ورودها، ونزولهم ضيوفا عليها، ليطعموا مما تقدّمه لهم من زاد عتيد تلقاهم به، وتغاديهم وتراوحهم بصنوفه وأكوانه..!!

وفى الدعوة إلى هذا المكروه، مزيد من الاستهزاء والإيلام لهؤلاء الأشقياء، الذين يساقون إلى هذا العذاب الأليم.. مثل قوله تعالى:

«ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» ..

وقوله تعالى:

«أَفَسِحْرٌ هذا؟ أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ» ؟

(1) انظر هذا البحث فى كتابنا قضية الألوهية الكتاب الثاني.. الله والإنسان

ص: 559

هو عرض على أسماع هؤلاء المجرمين المكذبين باليوم الآخر- لتلك المقولات الهازئة الساخرة التي كانوا يقولونها عن البعث، والحساب، والجزاء.. وكان من مقولاتهم تلك، اتهام النبي بالكذب، وبالسحر، وأن ما يحدثهم به عن اليوم الآخر ليس إلا من قبيل الشعوذة والخداع! ..

فهم يسألون هذا السؤال التقريعيّ، الذي لا يجدون له جوابا إلا الإبلاس والوجوم، وإلا الحسرة القاتلة، والنّدم الأسود الكئيب! ..

«أَفَسِحْرٌ هذا؟» أي أهذا العذاب الذي، تساقون إليه، والذي كان يتلوه عليهم من آيات الله- أسحر هو؟

وإنه لأسلوب من أساليب العقاب، أن يوقف المجرم على جسم جريمته، وأن يواجه بها، وأن يذكر بها حالا بعد حال، وخاصة إذا كان بين يدى السلطان القاهر الذي يأخذه بجريمته ويوقّع عليه الجزاء الذي يستحقه، فإن جريمته هى التي ساقته إلى هذا البلاء الذي هو فيه، وإنها لهى العدوّ الذي ألقاه فى التهلكة!.

وفى قوله تعالى: «أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ» هو زيادة فى إبلامهم بأن ينظروا فى هذا العذاب، وأن يملأوا عيونهم منه، قبل أن يذوقوه بأجسامهم، ويلبسوه ثيابا تقطّع لهم من تلك النار الموقدة أمام أعينهم..

قوله تعالى:

«اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..

هو دعوة أخرى لهؤلاء المكذبين، إلى تذوق ما فى هذه النار التي دعوا

ص: 560