الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله تعالى: «وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» - أي ومن يعرض عن الاستجابة لدعوة الله، والإنفاق فى سبيل الله، فقد ظلم نفسه، وأوردها موارد السوء، وأغلق بيديه هذا الباب الذي فتحه الله له، ليدخل فى رحمته، وينزل منازل رضوانه.. أما الله سبحانه وتعالى، فهو الغنى الذي بيده خزائن السموات والأرض، وما دعوته سبحانه وتعالى، لعباده أن ينفقوا مما أعطاهم، إلا فضلا من فضله عليهم، وإحسانا من إحسانه إليهم إذ أفسح لهم المجال للإنفاق على الفقراء والمساكين، الذين لو شاء الله سبحانه لأغناهم، ولسدّ الطريق على المنفقين عليهم، ولحرمهم ثواب هذا العمل المبرور.
وفى وصفه سبحانه بأنه «الحميد» بعد وصفه جل شأنه بأنه «الغنى» - فى هذا إشارة إلى أنه سبحانه هو المستحق للحمد وحده. على السراء والضراء، وعلى الغنى والفقر، وأنه سبحانه- هو الغنى الذي لا تنفد خزائنه- لم يفقر الفقراء ويحرم المحرومين إلا لحكمة وتقدير، وما كان من حكمة الله وتقديره فلا يستقبله المؤمن إلا بالحمد والرضا.
الآيات: (25- 29)[سورة الحديد (57) : الآيات 25 الى 29]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَاّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَاّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَاّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
التفسير:
قوله تعالى:
البينات: المعجزات التي يضعها الله سبحانه فى يد رسله، لتقوم بين الناس شهادة على أنهم مبعوثون من عند الله، إلى عباده.
والكتاب: هو ما ينزل الله سبحانه وتعالى على رسله من كتب، كالتوراة والزبور، والإنجيل، والقرآن.. وسمى ما أنزل على الرسل من كتب، بالكتاب، إشارة إلى أن جميع الكتب السماوية كتاب واحد، فى دعوتها إلى الحق، وإلى الخير.
والميزان، هو شريعة الله التي يدعو إليها رسل الله، بكتاب الله الذي فى أيديهم.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الله سبحانه: قد وصف ذاته بأنه «الحميد» المستحق للحمد على ما أنعم على عباده، ولما كان من أجلّ هذه النعم
نعمة الهداية إليه، فقد ناسب أن تذكر هنا هذه النعمة الجليلة، نعمة إرسال الرسل، وما معهم من كتب الشرائع، وما فى أيديهم من معجزات، تشهد لهم بأنهم رسل الله، وأن دعوتهم التي يحملونها إلى الناس هى دعوة الله.
وقوله تعالى: «لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» هو بيان الحكمة من إرسال الرسل، وما يحملون إلى الناس من آيات الله وكلماته، وما تحمل هذه الآيات والكلمات من أحكام وشرائع- فالحكمة من هذا، هى هداية الناس، وإقامتهم على طريق الحق والخير، لتطيب لهم الحياة، ولتقوم بينهم روابط الأخوّة والمحبة والتعاون على البر والتقوى. هذا هو المقصد الأول لما يبشر به الرسل فى الناس، من الدعوة إلى الله، وإلى دين الله.. ولكن دعوة الخير شىء، والمدعوون إليها شىء آخر.. إنها أشبه بريح محملة بالطيب، فتنتعش بها نفوس وتختنق بها نفوس..
أو هى أشبه بالشمس، تشرق فتكتحل بنورها كثير من الكائنات، ويحيا بحرارتها كثير من المخلوقات، على حين يعمى فى ضوئها كثير من العيون، ويموت تحت أشعتها كثير من الجراثيم، والهوامّ! وقوله تعالى:
«وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ» .
نظر أكثر المفسرين إلى «الحديد» هنا، على أنه إنما ذكر فى معرض التعداد لنعم الله على عباده، وأنه إذا كان بعث الرسل نعمة من أجلّ النعم، فإن الحديد كذلك نعمة من النعم العظيمة، التي يدفع به الناس عدوان بعضهم على بعض، كما يتخذون منه أدوات كثيرة غير أدوات الحرب والقتال.
عند هذه النظرة وقف المفسرون.. ولم نر أحدا- فيما بين أيدينا من كتب التفاسير- قد جاوز هذه النظرة، وجعل للحديد شأنا غير هذا الشأن الذي له فى حياة الناس، كمعدن من المعادن التي بين أيديهم..
وأول ما يلفت النظر من أمر الحديد هنا، هو أنه خصّ بالذكر من بين المعادن كلها، وهو ليس أكثرها فائدة، ولا أعظمها نفعا.
ثم إنه مع الاختصاص بهذا الذكر من بين المعادن، قد ازداد شرفا وعظم قدرا بأن سميت سورة كريمة من سور القرآن الكريم به..
وإذا كان الأمر كذلك، فإنه لا بد أن يكون للحديد هنا شأن غير شأنه المعروف، بمعنى أن ذكره فى مواجهة ذكر بعثة الرسل، وما يحملون من آيات الله وكلماته، لا بد أن يكون مقصودا لأكثر من معنى غير المعنى المعروف له..
والذي وقع لمفهومنا من ذكر الحديد هنا- والله أعلم- هو أنه يشير إلى ما يحمل الرسل إلى الناس من وعد، ووعيد، ومن يد تمتد بالخير والنجاح، والسلامة لمن يستجيبون لهم، وينضوون تحت أجنحتهم، ويد تمتد بالبلاء، والهلاك لمن يلقونهم بالعناد، ويرجمونهم بالسفاهات والضلالات..
فمع كل رسالة كل رسول من رسل الله، بشريات ومهلكات، بشريات للمؤمنين، ومهلكات للمكذبين، وفى أعقاب كل دعوة من دعوات الرسل حصاد كثير، بعضه للصون والحفظ، وبعضه للضياع والانحلال..
فالناس قبل بعثة الرسول إليهم يتركون لما هم فيه، من خير وشر، ومن هدّى وضلال، فإذا جاءهم رسول من رسل الله، وبلغهم رسالة ربه، قامت عليهم الحجة، وأخذوا بما أنذروا به، كما يقول سبحانه:«وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (15: الإسراء) .
فآيات الله التي ينزلها للناس على يد رسله هى أشبه بالحديد، فيه بأس شديد ومنافع للناس.. ولهذا أشير إلى الحديد هنا بقوله تعالى: و «أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ» فالحديد هنا هو البأس الذي ينزل مع آيات الله، وهو الزواجر التي تحلّ بالمكذبين
المحاربين لله ولرسله.. والحديد أيضا هو هذا الخير الكثير الذي تتلقاه النفوس المهيأة للإيمان من آيات الله وكلماته المنزلة على الرسل.. وهذا لا يمنع من أن تبقى للحديد صفته المادية التي يعرف بها، فيتخذ منه فيما يتخذ أدوات الحرب للجهاد فى سبيل الله، وأنه كما يجاهد الرسل والمؤمنون معهم، أعداء الله بألسنتهم، فإنهم يجاهدون بأيديهم، ويدفعون بغيهم وعدوانهم بسيوفهم.
وقدّم ما فى الحديد من بأس شديد على ما فيه من منافع، لأن أكثر ما تنجلى عنه دعوة رسل الله، هو هلاك الأكثرين، ونجاة القليلين. كما يقول سبحانه عن دعوة نوح عليه السلام:«وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» (40: هود) وكما يقول سبحانه مخاطبا النبي الكريم. «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» (103: يوسف) .
قوله تعالى: «وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ» - هو معطوف على قوله تعالى «لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» .. فهو تعليل آخر يكشف عن وجه ثان من وجوه الحكمة فى بعثة الرسل، وما يضع الله سبحانه وتعالى فى أيديهم من معجزات، وما ينزل عليهم من آياته وكلماته..
والحكمة الأولى من بعثة الرسل هى هداية الناس، وإقامتهم على طريق الحق والعدل..
والحكمة الثانية، هى أن تنكشف بدعوة الرسل أحوال الناس، وما يكونون عليه من إيمان وكفر.. فيحاسب كل بما انكشف منه، وإنه لا حساب ولا جزاء إلا عن ابتلاء واختيار..
فقوله تعالى «وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ، بِالْغَيْبِ» - بيان لما ينكشف عنه أمر الناس من دعوة رسل الله إليهم، فعلى ضوء هذه الدعوة يعرف من هم
أعداء الله، ومن هم أولياؤه، ومن يحارب دعوة الله، ومن ينتصر لها، ويدافع عنها.
وفى اختصاص الذين يؤمنون بالله، وينصرون دعوته، ويؤازرون رسله- فى اختصاص هؤلاء بالذكر- إشارة إلى أنهم هم أصحاب هذه الدعوة، وأنها فى حقيقتها إنما جاءت لتقودهم إلى الله، وقد انقادوا فعلا.. أما أولئك الذين كذبوا بآيات الله، وأبوا أن يستجيبوا لدعوته، فإنهم إنما كانوا شيئا عارضا فى طريق الدعوة الموجهة إلى من هم أهل لإجابتها، وإن كانت قد وجهت إليهم الدعوة ضمنا.. إن ذلك أشبه بمن يبذر بذرا، ثم يسوق إليه الماء، فإذا ظهر الزرع على وجه الأرض، ظهرت معه بعض الحشائش الضارة، التي لا يجد الزارع بدّا من اقتلاعها حتى يسلم ما زرع..!
وعلم الله سبحانه علم قديم أزلىّ، وهو غيب عن الناس، فإذا وقع من هذا العلم شىء فى الحياة وعلمه الناس، كان علما للناس، وهو فى الوقت نفسه من علم الله، وعلم الله تعالى حينئذ، علم لما وقع، وهو فى علم الله قبل أن يقع.. فعلم الله سبحانه واقع على الأمور فى كل حال من أحوالها، وفى كل زمان من أزمانها.
وقوله تعالى «بالغيب» متعلق بالفعل فى قوله تعالى: «مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ» أي وليعلم الله من ينصره ورسله فى غير مشهد من الناس، أي عن إيمان قد استقر فى القلب، واستولى على المشاعر..
وخص النصر لله ولرسله بالذكر فى تلك الحال- حال الغيب- لأنه هو النصر الذي يصدر عن صدق، وعن يقين، وهو النصر الذي لا ينقطع أبدا فى سر أو جهر، وفى قول أو عمل.. أما النصر الذي يكون بمشهد من الناس فقد يكون
عن إيمان، وقد يكون عن نفاق، ورياء، ومصادفة.. ولهذا فإن المعوّل عليه، هو ما فى القلوب من إيمان، وما انعقدت عليه النيات من إخلاص.. فإذا صدقت القلوب وأخلصت النيات، صحت الأعمال، ووقعت موقع الرضا والقبول عند الله.
وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» - إشارة إلى أن نصر المؤمنين لله، ولرسل الله، ليس لحاجة الله سبحانه إلى من ينصره وينصر رسله، فهو سبحانه القوى الذي لا يملك معه أحد قوة، وهو العزيز الذي يملك العزة جميعا، فلا يدخل على عزته- جل شأنه- ضيم أو جور، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. وأن ما يطلبه سبحانه من المؤمنين من نصره ونصر رسله، هو فضل من فضل الله على المؤمنين، إذ ندبهم لأمر هو فى غنى عنه، وذلك لينالوا أجرا، وليكسبوا خيرا.. وهذا مثل قوله تعالى فى دعوته إلى الإنفاق فى سبيل الله، وفى التعقيب على هذا بقوله:
«وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» .
قوله تعالى:
هو معطوف على قوله تعالى: «لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ» .. وهو تفصيل لهذا الإجمال..
فمن أرسل الله من رسل بالبينات، نوح وإبراهيم عليهما السلام.. وخصّا بالذكر لأنهما الأبوان لجميع أنبياء الله، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى «وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ» .
وقوله تعالى: «فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» أي أن من ذرية هدين النبيين الكريمين الأنبياء والمؤمنين، كما أن من ذريتهما الأشقياء والفاسقين،