الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
22 - سورة الحج
قال الجمهور: (السورة مختلطة، منها مَكِّي ومنها مَدَنيّ). وعدد آياتها (78).
موضوع السورة
تشريع الحج إلى بيت الله الحرام وإحياء ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
-
منهاج السورة
-
1 -
الأمر بصدق التقوى لمواجهة أحداث زلزلة الساعة وأهوال القيامة.
2 -
ذمّ المكذبين بالبعث والنشور، والمتبعين في منهاجهم كل شيطان مريد.
3 -
الاستدلال على البعث ببدء الخلق، ومراحل خلق الإنسان حتى البعث من القبر.
4 -
نَعْتُ أرباب الضلال بعد وصف الضُّلال، فهم يجمعون بين قلة العلم وحب الجدل.
5 -
نَعْتُ حال أكثر الناس في تأرجح صلتهم بالله، فهم يعبدونه على شرط العافية والرزق، فإن نزل بهم بعض الآلام والمصائب تغيّر حالهم.
6 -
ذكر أهل السعادة بعد ذكر أهل الشقاوة، فهم في روضات الجنات ناعمون.
7 -
دعوة للحاقدين على نصر هذا الدين أن يموتوا بغيظهم، فإن الله ناصر رسوله ودينه.
8 -
الفصل بين الملل يوم القيامة، واشتراك جميع المخلوقات في السجود لله، وامتناع الكافرين وقد حقّ عليهم الخزي والعذاب.
9 -
اختصام الفريقين يوم القيامة: فريق الأولياء، وفريق الكفرة الأعداء. فالفريق الأول أهل النعيم، والفريق الثاني أهل الشقوة والجحيم.
10 -
ذَمُّ الله الصادّين عن سبيله والمسجد الحرام، وَأَمْرُ الله إبراهيم بعمارة البيت ومناداة الناس للحج من جميع البلدان.
11 -
تعظيمُ الحرمات وتعظيم الشعائر من تقوى القلوب، والبُدْن فيها منافع ثم محلها إلى البيت العتيق، وذبحُ المناسك على اسم الله أَمْرٌ للمؤمنين المخبتين، والله تعالى يناله التقوى من المؤمنين.
12 -
دفاع الله تعالى عن المؤمنين، وسخطه على الخائنين الكافرين، وتشريع القتال لإقامة هذا الدين، ودفْعُ الله الناس بعضهم ببعض لنصرة الحق المبين.
13 -
الوعد للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بالشوكة والتمكين.
14 -
إخبار الله تعالى عن تكذيب الأمم المرسلين، ونزول الدمار والهلاك على القوم المسرفين المستكبرين.
15 -
استعجال المشركين العذاب وليسوا بمعجزين، ولهم في الآخرة عذاب الجحيم، والمؤمنون موعودون بالنصر في الدنيا ولهم في الآخرة جنات النعيم.
16 -
إبطال الله وساوس وأماني الشيطان، ونسخ الله بحكمته بعض الأحكام.
17 -
استمرار الكفار في الشك والريب من هذا القرآن، حتى تنزل بهم ساعة الانتقام.
18 -
ثناء الله على المهاجرين والمجاهدين، ووعدهم بالنصر المبين والرزق الكريم.
19 -
ربْطُ النصر بأمر الله، والله هو الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال.
20 -
إخبار الله عن عجائب آياته في هذا الكون، ولكن الإنسان كفور.
21 -
تقرير الله الشرائع في كل أمة، وجعل لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لكل لشريعة، وتهديد ووعيد للذين جعلوا منهاجهم جدال المرسلين.
22 -
إخبارُ الله عن كمال قدرته وكتابته كل شيء، ونعتُ سلوك المجرمين تجاه المؤمنين، والنار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير.
23 -
تسفيهُ آلهة المشركين، فهي عاجزة عن خلق ذباب واحد، وهم عاجزون عن الانتصار لها لو سلبها الذباب شيئًا، فضعف الطالب والمطلوب، والله هو القوي العزيز.
24 -
اجتباءُ الله الرسل وعلمه بأعمالهم وما هم قادمون عليه، ومردّ جميع الأمور ومصير جميع العباد إلى الله تعالى.
25 -
أمْرُه تعالى عباده المؤمنين بالصلاة والجهاد وبذل وسعهم لخدمة هذا الدين، ملة أبيهم إبراهيم الذي سمّاهم المسلمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
2. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)}.
في هذه الآيات: أمْرُ الله عباده أنْ يَصْدُقوه التقوى فإن زلزلةَ أهوال القيامة شيء عظيم. فهنالك تترك الأم ولدها لشدة الكرب وتُسْقِطُ كل حامل حملها وترى الناس سكارى من شدة الخوف وليس من الشراب، فلقد عَظُم ما يعاينونه من الأهوال.
فقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} .
ترغيب وترهيب، وتطميع وتخويف، يحث الله تعالى بذلك عباده على استفراغ وسعهم في تقواه، والاستعداد لمواجهة أحداث يوم عصيب، وأهوال قيام الساعة.
وأصل الزلزلة شدة الحركة، فهي من زَلَّ عن الموضع إذا زال عنه وتحرّك. والجمهور على أنها الزلزلة المعروفة التي هي إحدى شرائط الساعة، والتي تكون في الدنيا قبل يوم القيامة.
قلت: والراجح أن هذه الزلزلة تشمل إضافة لذلك أهوال يوم الحشر وما يكون فيه من أمور عظيمة، فإن لفظة "الزلزلة" تستعمل في تهويل الشيء، وقد جاءت السُّنةُ الصحيحة بتفصيل زلزلة ذلك اليوم في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الترمذي بسند صحيح عن عمران بن حصين قال: [كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فتفاوت بين أصحابه في السير، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته بهاتين الآيتين:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} - إلى قوله - {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} . فلما سمع ذلك أصحابه حثوا المطي وعرفوا أنه عِندَ قَول يقوله. فقال:
"هَلْ تَدْرُونَ أيُّ يَوْمٍ ذلِكَ؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "ذلك يَوْمٌ يُنادي الله فيه آدمَ فيناديه رَبُّهُ فيقول: يا آدمُ ابْعَث بَعْثَ النار. فيقول: أي رَبِّ وما بعثُ النار؟ فيقول: مِنْ كلِّ ألف تِسْعُ مَئَةٍ وتِسْعَةٌ وتِسعون إلى النار، وواحِدٌ إلى الجنة". فَيَئِسَ القومُ حتى ما أبْدَوا بِضاحِكةٍ. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بأصحابه قال: "اعملوا وأبشروا، فوالذي نَفسُ مُحَمَّدٍ بيدِه، إنّكمُ لَمعَ خليقَتَيْنِ ما كانتا مع شيء إلا كَثَّرتاهُ: يأجوجُ ومأجوجُ، ومَنْ ماتَ مِنْ بني آدم، وَبَني إبليسَ".
قال: فسُرِّيَ عن القوم بعض الذي يجدون، قال:"اعملوا وأبْشِروا فوالذي نَفْسُ محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشَّامَةِ في جَنْب البعير أو كالرَّقْمَةِ في ذراع الدّابة"] (1).
الحديث الثاني: أخرج البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [يقول الله عز وجل يومَ القيامة: يا آدمُ، فيقولُ: لَبَّيْكَ رَبَّنا وسَعْدَيك. فَيُنادَى بِصَوْتٍ: إنَّ الله يأمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَتِكَ بَعْثًا إلى النار. قال: يا رَبّ وما بَعْثُ النار؟ قال: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ -أُراه قال- تِسْعَ مئَةٍ وتِسْعَةً وَتِسْعينَ، فحينَئذٍ تضُعُ الحامل حَمْلَها ويشيبُ الوليد {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}. فَشَقَّ ذلك علىٍ الناس حتى تَغَيَّرَتْ وُجُوهُهُمْ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مِنْ يأجوجَ ومأجوجَ تِسعَ مئَةٍ وتِسْعَةً وتِسْعينَ ومنْكم وَاحدٌ. ثم أنتم في الناس كالشَّعْرَةِ السَّوْداء في جَنْبِ الثَّوْرِ الأبيضِ أو كالشَّعْرَةِ البيضاء في جَنْبِ الثَّوْر الأسْوَدِ، وإني لأرجو أن تكونوا رُبُعَ أهل الجنة" فَكَبَّرْنا، ثُمَّ قال: "ثُلُثَ أهل الجنة" فَكَبَّرْنا، ثم قال: "شَطْرَ أهل الجنة" فَكَبَّرْنا](2).
الحديث الثالث: أخرج أبو يعلى وابن حبان والحاكم بسند حسن من حديث أنس قال: [{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} - إلى - {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مَسير له، فرفع بها صوته حتى ثابَ إليه أصحابه فقال: "أتدرون أيَّ يوم هذا؟ هذا يوم يقول الله عز وجل لآدم صلى الله عليه وسلم يا آدم قم فابعث بَعْثَ أهل النار، من كل ألف تِسع مئةٍ وتسعة وتسعون إلى النار وواحد
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (3394) - في التفسير، سورة الحج، الآيات:"1 - 2". وانظر صحيح سنن الترمذي - حديث رقم - (2534)، وصحيح مسلم (1/ 139).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4741)، كتاب التفسير، سورة الحج، باب قوله:{وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} [الحج: 12] وانظر صحيح مسلم (222)، ومسند أحمد (3/ 32).
إلى الجنة". فَكَبُرَ ذلك على المسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سَدِّدُوا وقارِبوا وأبشروا فوالذي نفسي بيده ما أنتم في الناس إلا كالشَّامَة في جنب البعير أو كالرَّقْمة في ذراع الحمار وإن معكم خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثّرتاه يأجوج ومأجوج ومن هلك من كفرة الجن والإنس"] (1).
وعن ابن زيد: ({يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} قال: تترك ولدها للكرب الذي نزل بها). وقال الحسن: (ذهلت عن أولادها بغير فطام). والمقصود: شدة الهول يوم الحشر ومتاعب النفوس القادمة على الحساب.
وعن الحسن: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} ، يقول: وتسقط كل حامل من شدّة كرب ذلك حملها). قال: ({وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} من الخوف {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} من الشراب).
وعن ابن جريج: ({وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} قال: ما هم بسكارى من الشراب {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}).
وعن ابن وهب قال: (قال ابن زيد، في قوله: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} قال: ما شربوا خمرًا {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} يقول تعالى ذكره: ولكنهم صاروا سكارى من خوف عذاب الله عند معاينتهم ما عاينوا من كرب ذلك وعظيم هوله، مع علمهم بشدّة عذاب الله).
والمقصود: أن الناس يصيرون يومئذ في دهشة في عقولهم، فتغيب أذهانهم من شدة الهول حتى يحسبهم من ينظر إليهم أنهم سكارى وما هم كذلك على الحقيقة.
3 -
4. قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)}.
في هذه الآيات: ذمُّ الله تعالى مُكَذّبي البعث والنشور، ومنكري قدرة الله تعالى على إحياء مَنْ في القبور، وَهُمْ بذلك مُتَّبعون كل شيطان مريد من أهل الجن أو الإنس
(1) حديث حسن. أخرجه أبو يعلى (3122)، وصححه ابن حبان (7354)، والحاكم (1/ 29)، (4/ 566) ووافقه الذهبي، وإسناده على شرطهما، وهو متصل الإسناد، وتقدم شاهداه.
أصحاب العتو والغُلُوّ والشرور. لقد قضي على الشيطان وكتب عليه أن أتباعه يقتبسون من ضلاله المفضي إلى عذاب السعير.
فعن ابن جُريج: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} قال: النضْر بن الحارث.
ويعني بقوله: {مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} من يخاصم في الله، فيزعم أن الله غير قادر على إحياء من قد بَلي وصار ترابًا، بغير علم يعلمه، بل بجهل منه بما يقول، {وَيَتَّبِعُ} في قيله ذلك وجداله في الله بغير علم {كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} ).
ولا شك أن هذا حال كثير من أهل البدع والضلال، فهم يعرضون عن اتباع الحق بدليل صحيح، ويَمْضوُنَ خلف أهوائهم وما ألْفَوا عليه آباءهم ومشايخهم، فيقعون في الغلو أو الابتداع أو تحكم المردة من الشياطين.
ففي مسند الإمام أحمد بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إياكم والغُلُوّ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو](1).
وفي الصحيحين عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ](2).
وقوله: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ} . قال قتادة: (كُتب على الشيطان، أنه من اتبع الشيطان من خلق الله). وقال مجاهد: {أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ} قال: الشيطان اتبعه. وقوله: {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} يقول: فإن الشيطان يضله، يعني: يُضِلّ من تولاه).
والمقصود: قضي على الشيطان وسبق أن كتب عليه أنه يُضل أتباعه ولا يهديهم الحق.
وقوله: {وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} .
قال ابن جرير: (يقول: ويسوق من اتّبَعهُ إلى عذاب جهنم الموقدة، وسياقه إياه إليه بدعائه إياه إلى طاعته ومعصية الرحمن، فذلك هدايته من تبعه إلى عذاب جهنم).
قلت: والآية تجمع بين مراتب الضلال الثلاث:
أ- الضياع والانحراف.
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (1/ 215) من حديث عبد الله بن عباس، وسنده صحيح. انظر تحقيق:"فتح المجيد"(249 - 250).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (5/ 221) - في الصلح، وأخرجه مسلم (1718) - في الأقضية.
ب- الترك والإهمال والتناسي والخذلان.
ج- الهداية إلى النار يوم القيامة.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 168 - 169].
2 -
وقال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 22 - 24].
وفي جامع الترمذي بسند حسن عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال](1).
5 -
7. قوله تعالى {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)}.
في هذه الآيات: استدلالٌ على البعث ببدء الخلق، فالله تعالى بدأ خلق الإنسان من طين، ثم من نطفة من ماء مهين، ثم سواه علقة فمضغة لِيُتَابع تشكيله وتخطيطه أو يُوقَف فيكون الإسقاط، فتارة يستقر في الرحم وتارة لا يستقر، ثم يخرج الجنين طفلًا
(1) حديث حسن. انظر صحيح سنن الترمذي (2025)، وتخريج المشكاة (5112)، وصحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (7896).
فيرعاه ليصبح شابًّا يمدُّه بالهمة والقوة، ثم قد يُقبضُ في حالة الشباب، وقد يُمَدّ له في العمر إلى الشيخوخة والهرم، وظهور علامات العجز وضعف العقل والفهم، وكذلك الأرض تتحرك بالنبات بنزول المطر عليها، وتخرج الأصناف من الثمار والزروع. كل ذلك بسبب أن الله هو الحق وحده المحي والمميت، فهو الذي يبعث من في القبور ليوم الحشر والحساب.
ردٌّ على المنكرين للبعث والمعاد، بذكره سبحانه إحاطته بأحوال العباد، فهو خلقهم أول مرة من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}. قال قتادة:(تامة وغير تامة). وقال مجاهد: (السِّقط مخلوق وغير مخلوق).
قال النسفي: (يعني إن ارتبتم في البعث فمزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم وقد كنتم في الابتداء ترابًا وماء، وليس سبب إنكاركم البعث إلا هذا وهو صيرورة الخلق ترابًا وماء {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ} أي أباكم {مِنْ تُرَابٍ} خلقتم {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} أي قطعة دم جامدة {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} أي لحمة صغيرة قدر ما يمضغ {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} المخلقة المسواة الملساء من النقصان والعيب، كأن الله عز وجل يخلق المضغة متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ومنها ما هو على عكس ذلك، فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم، وإنما نقلناكم من حال إلى حال ومن خلقة إلى خلقة {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} بهذا التدريج كمال قدرتنا وحكمتنا، وأن من قدر على خلق البشر من تراب أولًا ثم من نطفة ثانيًا ولا مناسبة بين التراب والماء، وقدر أن يجعل النطفة علقة والعلقة مضغة والمضغة عظامًا قادر على إعادة ما بدأه).
وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: [حَدَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق- قال: إنّ أحدكم يجمع خلقُه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكًا، ويؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح](1).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3208)، ومسلم (2643)، وأبو داود (4708)، والترمذي (2137)، وابن ماجة (76)، وأحمد (1/ 382)، وابن حبان (6174).
قال ابن كثير: (وذلك أنه إذا استقرت النطفة في رحم المرأة، مكثت أربعين يومًا كذلك، يُضاف إليه ما يجتمع إليها، ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله، فتمكث كذلك أربعين يومًا، ثم تستحيل فتصيرِ مضغة: قطعةً من لحم لا شكلَ فيها ولا تخطيط، ثم يشْرَعُ في التشكيل والتخطيط، فيُصَوَّرُ منها رأس ويَدان، وصدر وبطن، وفخذان، ورِجْلان، وسائر الأعضاء. فتارة تُسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط، وتارة تُلقيها وقد صارت ذات شَكل وتخطيط، ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}، أي كما تشاهدونها).
وقوله: {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} . قال مجاهد: (التمام).
وقال ابن زيد: (الأجل المسمى: إقامته في الرحم حتى يخرج).
والمقصود: أنه تارة يستقر الحمل في الرحم وتارة لا يستقر. قال القرطبي: (والأجل المسمى يختلف بحسب جنين وجنين، فَثَمَّ من يسقط وثَمَّ من يكمل أمره ويخرج حَيًّا).
وقوله: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} . أي: في حالة من الضعف في البدن والحواس يحتاج إلى رعاية الأهل وحنان الأبوين. قال القرطبي: ({ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} أي أطفالًا، فهو اسم جنس. وأيضًا فإن العرب قد تسمّي الجمع باسم الواحد).
وقوله: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} . أي: في كمال الشباب واستواء العقل وحسن المنظر.
قال ابن جرير: (يقول: ثم لتبلغوا كمال عقولكم ونهاية قواكم بعمركم).
أي: ومنكم من يقبض في حالة شبابه وقوته، ومنكم من يُمَدُّ له في العمر إلى حالة الشيخوخة والهرم، وظهور علامات العجز وضعف العقل والفهم.
وفي التنزيل:
قلت: ومَنْ بلّغَهُ الله من العمر ستين سنة فقد أقام حجته تعالى عليه في العمر،
فيكون بذلك قد أخذ حدّه الكامل ليختار طريق الإيمان أو طريق الكفر، وإنما الناس في غفلة عن ذلك.
ومن كنوز صحيح السنة في آفاق هذا المعنى أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[أعذر الله إلى امرئٍ أخَّرَ أجله حتى بلغ ستين سنة](1).
الحديث الثاني: أخرج الحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة مرفوعًا: [إذا بلغَ الرجل من أمتي ستين سنة، فقد أعذر الله إليه في العمر](2).
ورواه عبد بن حميد من حديث سهل بن سعد بلفظ: [إذا بَلَّغَ الله العبدَ ستين سنة فقد أعْذَرَ إليه، وأبْلَغَ إليه في العُمُرِ].
الحديث الثالث: أخرج الحاكم بسند صحيح عن سهل بن سعد مرفوعًا: [من عَمَّرَ من أمتي سبعين سنة، فقد أعذر الله إليه في العمر](3).
وله شاهد في المسند من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ: [لقد أعذر الله إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة، لقد أعذر الله إليه](4).
الحديث الرابع: أخرج الترمذي وابن ماجة بسند حسن لذاته عن أبي هريرة مرفوعًا: [أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك](5).
وقوله: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً} . قال ابن جريج: (لا نبات فيها).
وقوله: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} . قال قتادة: (حسنت، وعُرِف الغيث في ربوها).
والمقصود: تحركت بالنبات بنزول المطر عليها، {وَرَبَتْ}. أي: ضاعفت النبات
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (11/ 200 - فتح)، وانظر مسند أحمد (2/ 275).
(2)
حديث صحيح. أخرجه الحاكم (2/ 427 - 428)، والخطيب في "التاريخ"(1/ 290)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1089). وانظر لرواية عبد بن حميد -بعده- صحيح الجامع (408).
(3)
حديث صحيح. أخرجه الحاكم (2/ 428)، وقال:"صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي.
قال الألباني في السلسلة الصحيحة (3/ 80) - عقب الحديث 1089 - (وهو كما قالا).
(4)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (2/ 275)، وانظر مستدرك الحاكم (2/ 427 - 428).
(5)
حسن لذاته، صحيح لغيره. أخرجه الترمذي (2/ 272)، وابن ماجة (4236)، وابن حبان في "صحيحه"(96/ 2)، وأنظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (757).
واشتد ثمرها، فأنبتت ما فيها من الألوان والفنون من أصناف الثمار والزروع وأنواع النباتات المختلفة الطعوم والروائح والأشكال والمنافع والألوان.
وقوله {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} . قال قتادة: (حسن). والبهيج: ما هو حسن المنظر طيب الريح.
وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} . قال القاسمي: (أي ذلك الذي ذكر من خلق الإنسان على أطوار مختلفة، وتصريفه في أحوال متباينة، وإحياء الأرض بعد موتها، حاصل بسبب أن الله هو الحق وحده في ذاته وصفاته وأفعاله. المحقق لما سواه من الأشياء. فهي من آثار ألوهيته وشؤونه الذاتية وحده، وما سواه مما يعبد باطل، لا يقدر على شيء من ذلك).
وقوله: {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى} . أي: كما أحيا النطفة والأرض الميتة، فهو سبحانه القادر على ذلك.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39].
2 -
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف: 33].
3 -
وقال تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79].
ومن صحيح السنة العطرة في آفاق ذلك المعنى أحاديث:
الحديث الأول: أخرج أبو نعيم في "الحلية" بسند حسن في الشواهد، عن عبد الله بن سلام مرفوعًا:[لا تفكروا في الله، وتفكروا في خلق الله، فإن ربنا خلَقَ مَلَكًا، قدماه في الأرض السابعة السفلى، ورأسه قد جاوز السماء العليا، ما بين قدميه إلى ركبتيه مسيرة ست مئة عام، وما بين كعبيه إلى أخمص قدميه مسيرة ست مئة عام، والخالق أعظم من المخلوق](1).
الحديث الثاني: روى الطبراني في "الأوسط" بسند حسن لشواهده، عن عبد الله بن
(1) حسن لشواهده. أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(6/ 66 - 67)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (1788)، وما في حاشيته من التحقيق.
عمر مرفوعًا: [تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله عز وجل](1).
وله شاهد من حديث أبي هريرة مرفوعًا به. وزاد: [فإنكم لن تدركوه إلا بالتصديق].
وشاهد من حديث ابن عباس بلفظ: [تفكروا في خلق الله، ولا تفكروا في الله](2).
الحديث الثالث: أخرج أبو داود وابن ماجة بسند حسن عن أبي رزين، قال موسى العقيلي، قال:[قلت: يا رسول الله، أكلنا يرى ربه؟ مخليًا به يوم القيامة، وما آية ذلك في خلقه؟ قال: يا أبا رزين، أليس كلكم يرى القمر ليلة البدر مخليًا به؟ قلت: بلى! قال: فالله أعظم فإنما هو خلق من خلقِ الله، فالله أجل وأعظم](3).
وقوله: {وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . أي: لا يمتنع على قدرته العجيبة شيء.
وقوله: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا} . أي: قادمة لا شك في ذلك ولا ريب.
وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} . أي: من الأموات، لموقف الحشر، ونوال الثواب والعقاب.
8 -
10. قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)}.
في هذه الآيات: وَصْفُ أرباب الضلال بعد نَعْتِ الضُلّال، فَهُمْ في حالة تَنَطُّعٍ وغُرور، وقِلَّةٍ في العلم والحجةَ، وإنما يدفعهم للكلام بغير علم حب الرياسة والظهور، أولئك سيلقون الخزي والنكال يوم النشور.
فقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} .
قال ابن كثير: (لما ذكر تعالى حال الضُّلال الجُهَّال المقلِّدين في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ
(1) حسن في الشواهد. اْخرجه الطبراني في "الأوسط"(6456) من حديث ابن عمر، والبيهقي في "الشعب"(1/ 75)، وانظر للشاهد ابن عساكر في "المجلس"(139) من الأمالي (50/ 1)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (1788).
(2)
حديث حسن. أخرجه أبو نعيم في "الحلية" من حديث ابن عباس. انظر صحيح الجامع (2973).
(3)
حديث حسن. رواه ابن ماجة (180)، وأبو داود (4731) -كتاب السنة- باب في الرؤية. وانظر صحيح سنن أبي داود -حديث رقم- (3957).
مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج: 3]، ذكر في هذه حال الدُّعاة إلى الضلال من رؤوس الكفر والبِدَع، فقال:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِي} ، أي بلا عقل صحيح، ولا نَقْل صريح، بل بمجرَّدِ الرأي والهوى).
والمقصود: وصف حال طائفة من المدّعين أهل التنطع والغرور بأن جدالهم لا يكون ببرهان وحجة، ولا ببيّنة وبصيرة، ولا بوحي من كتاب أو سنة، وإنما هو التعالم أو حب الظهور، الذي يفسد ويقطع الظهور.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
2 -
وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 144].
وفي سنن أبي داود وابن ماجة بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من تعلم علمًا مما يُبْتغى به وجهُ الله تعالى، لا يتعلمه إلا ليصيبَ به عرضًا من الدنيا، لم يجد عَرْفَ الجنة يوم القيامة](1). يعني ريحها.
وفي سنن ابن ماجة بإسناد صحيح عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا تماروا به السفهاءَ، ولا تخيّروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار](2).
وقوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} . قال المبرّد: (العِطْفُ ما انثنى من العنق). وقال المفضّل: (والعطف الجانب، ومنه قولهم: فلان ينظر في أعطافه: أي في جوانبه). وعِطْفَا الرجل من لدُن رأسه إلى وَركيْه. والعرب تقول: ثنى فلان عني عِطفه إذا أعرض واستكبر. والمقصود بالآية وصف المعرض عن الحق في جداله واستكباره.
فقوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} - قال ابن عباس: (يقول: مستكبرًا في نفسه). أو قال: (يعرض عن ذكري). وقال مجاهد وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} ،
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (3664)، وابن ماجة وغيرهما. وانظر صحيح أبي داود (3112).
(2)
حديث صحيح. رواه ابن ماجة وابن حبان والحاكم. انظر صحيح الجامع الصغير (7247).
أي: (لاوِي عُنُقِهِ، وهي رقبته). وقال ابن زيد: (لاويًا رأسه، معرضًا موليًا، لا يريد أن يسمع ما قيل له). قلت: والعطف الجانب.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون: 5].
2 -
وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا} [لقمان: 7].
3 -
وقال تعالى: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات: 38 - 39].
4 -
وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 61].
ومن كنوز صحيح السنة في آفاق معنى الآية أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[بينما رجل يمشي في حلة تُعْجِبُهُ نفسُه، مُرَجِّلٌ رأسَهُ، يختال في مِشْيَتِهِ، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة](1).
الحديث الثاني: خَرَّج مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لا يدخل الجنة من كان في قلبه مِثقالُ ذرة من كِبر. فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة؟ قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطرُ الحق وغَمْطُ الناس](2).
الحديث الثالث: أخرج الشيخان عن حارثة بن وهب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ألا أخبركم بأهل النار؟ كُلُّ عُتُلٍّ جوّاظ مستكبر](3).
وقوله: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . أي: ليصد المؤمنين بالله عن دينهم، ويقف عثرة دون دخول الناس في الدين الحق.
وقوله: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} . قال ابن جرير: (يقول جل ثناؤه: لهذا المجادل في الله
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (10/ 221)، (10/ 222)، وأخرجه مسلم (2088).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (91)، وأخرجه أبو داود (4091)، والترمذي (1999).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (8/ 507 - 508)، (10/ 408)، وأخرجه مسلم (2853).
بغير علم، في الدنيا خزي وهو القتل والذّل، والمهانة بأيدي المؤمنين، فقتله الله بأيديهم يوم بدر).
وقوله: {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} . أي: نسلط عليه في الآخرة عذاب الحرق في جهنم. ويكون بذلك قد جمع له عذاب الدارين.
وقوله: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} . تقريع وتوبيخ، أي إنما صَلِيتَ هذا العذاب بما اجترحت يداك وبما اكتسبت من عمل. قال النسفي:(أي السبب في عذاب الدارين هو ما قدمت نفسه من الكفر والتكذيب، وكنى عنها باليد لأن اليد آلة الكسب).
وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} .
أي: هو المُقْسِط سبحانه والعادل في حكمه بين عباده فلا يظلم تعالى أحدًا.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال:[يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا .. ] الحديث (1).
11 -
13. قولى تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)}.
في هذه الآيات: نَعْتُ حال كثير من الناس يعبدون الله على شرط القوة والرزق والعافية، فإن نزل بهم من المصائب والفتن انقلبوا إلى الجادّة الثانية، وأشركوا بالله وجحدوا نعمه الباقية.
فعن مجاهد: ({وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} قال: على شَكٍّ، {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} رخاء وعافية {اطْمَأَنَّ بِهِ}: استقر {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} عذاب ومصيبة {انْقَلَبَ} ارتدّ {عَلَى وَجْهِه} كافرًا).
وعن قتادة: ({فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} يقول: أكثر ماله، وكثرت ماشيته اطمأنَّ وقال: لم
(1) حديث صحيح. رواه مسلم في الصحيح (8/ 17)، ورواه أحمد في المسند (3/ 160).
يصبني في ديني هذا منذ دخلته إلا خير {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} يقول: وإن ذهب ماله، وذهبت ماشيته {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} ).
وعن ابن زيد قال: (هذا المنافق، إن صلحت له دنياه أقام على العبادة، وإن فسدت عليه دنياه، وتغيّرت انقلب، ولا يقيم على العبادة إلا لما صَلَحَ من دنياه. وإذا أصابته شدّة أو فتنة، أو اختبار أو ضيق، ترك دينه ورجع إلى الكفر).
وفي صحيح البخاري -عند تفسير هذه الآية- عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:[{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} قال: كان الرَّجُلُ يَقْدَمُ المدينة، فَيُسْلِمُ، فإنْ ولَدَتِ امرأتُهُ غُلامًا وَنُتِجَتْ خَيْلُهُ قال: هذا دينٌ صالحٌ، وإنْ لمْ تَلِدِ امْرأتُهُ ولمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ قال: هذا دينُ سُوءٍ](1).
وقوله: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} . أي: ما أصاب من الدنيا ولا سَعِدَ في الآخرة، فالكفرُ بالله ونعمه يورث الشقاء والإهانة في الدار الآخرة.
قال القرطبي: (وخسرانه الدنيا بأن لا حظّ له في غنيمة ولا ثناء، والآخرة بأن لا ثواب له فيها).
وقال النسفي: (والخسران في الدنيا بالقتل فيها، وفي الآخرة بالخلود في النار).
وقوله: {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} . أي: هذا الخسران في الدارين، هو أبلغ الخسارة وأظهرها. قال القاسمي:(أي الواضح الذي لا يخفى على ذي بصيرة).
وقوله: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} . قال ابن زيد: (يكفر بعد إيمانه).
وقال أبو السعود: ({يَدْعُو}: استئناف مبين لعظيم الخسران). والمقصود: أنه يستنصر الأوثان والأنداد ويسترزقها ويستغيث بها وهي لا تنفعه ولا تضره، بل سيكون هذا التوجّه الفاسد سبب خسارته في الدنيا وشقائه في الآخرة.
وقوله: {ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} . أي: ذلك المنهج هو منهج الشقاء الأبعد عن الاستقامة.
قال ابن جرير: (يقول: ارتداده ذلك داعيًا من دون الله هذه الآلهة هو الأخذ على غير استقامة، والذهاب عن دين الله ذهابًا بعيدًا).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (4742) - كتاب التفسير- سورة الحج، آية (11).
وقوله: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} . قال ابن كثير: (أي: ضَرَرُه في الدنيا قبل الآخرة أقربُ من نفعه فيها، وأما في الآخرة فَضَرَرُهُ محقَّقٌ متيقّنٌ).
وقوله: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} . قال مجاهد: (يعني الوثن).
وقال ابن زيد: (العشير: هو المعاشر الصاحب، وقد قيل: عني بالمولى في هذا الموضع: الوليّ الناصر).
قلت: وعموم الآية يشمل كل ما عبد من دون الله وصرفت له العبادة والتعظيم، من الأوثان وطواغيت الإنس والجن، فإنه بئس المولى: أي الناصر الصاحب، وبئس العشير: أي المعاشر المصاحب.
14.
في هذه الآية: عَطْفٌ على ذكر أهل الشقاوة، بذكر أهل النجاة والسعادة، فإن أهل الإيمان والعمل الصالح سيرثون جنان النعيم، تجري من تحتها الأنهار في سرور مقيم، فإنه تعالى هدى هؤلاء وأشقى أولئك: بعلمه وحكمته وكمال عدله، فهو سبحانه أعلم بالشاكرين، وهو تعالى يفعل ما يريد.
أخرج ابن أبي عاصم في "السّنة"، بسند صحيح عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب أنه قال:[قلت يا رسول الله: أرأيت عملنا هذا على أمر قد فرغ منه أم على أمر نستقبله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل على أمر قد فرغ منه. قال عمر: ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا، لا يُنال إلا بعمل. فقال عمر: إذن نجتهد](1).
وكذلك روى الآجري، والبيهقي في "الأسماء والصفات"، عن هشام بن حكيم: [أن رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: أنبتدئ الأعمال أم قد قُضِيَ القضاء؟ فقال: إنَّ الله تعالى أخذ ذرية آدم من ظهورهم وأشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه، فقال: هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل
(1) رجاله ثقات. أخرجه ابن أبي عاصم في "كتاب السنة"(161). قال الألباني: حديث صحيح. ورجال إسناده ثقات. انظر "تخريج كتاب السنة" ص (71).
الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار] (1).
قال الإمام الطحاوي رحمه الله: (وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عددَ مَنْ يدخل الجنة وعدد من يدخل النار، جملة واحدة، فلا يزاد في ذلك العدد ولا ينقص منه، وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه، وكل ميسر لما خُلِقَ له، والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله)(2).
15 -
16. قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)}.
في هذه الآيات: دَعْوَةُ الحاقدين على نَصْرِ الله نبيّه أن يموتوا بغيظهم، ويخنقوا أنفاسهم، فإن الله أنزل عليه القرآن بالحق، ووعده النصر، وهو تعالى يوفق ويهدي من يريد.
فعن قتادة: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} قال: من كان يظنّ أن لن ينصر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم، {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} يقول: بحبل إلى سماء البيت {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} يقول: ثم ليختنق ثم لينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ).
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ({فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ}، أي: ليتوصَّلَ إلى بلوغ السماء، فإن النصرَ إنما يأتي محمدًا من السماء، {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} ذلك عنه، إن قَدَرَ على ذلك).
وعن السدي: ({فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ}: يعني من شأن محمد صلى الله عليه وسلم).
وقال عطاء: (فلينظرْ هل يَشْفي ذلك ما يجدُ في صدره من الغيظ).
وغاية المعنى: من ظَنَّ أن الله سيخذل محمدًا وكتابه ودينه فليذهب فليقتل نفسه، فإن الله تعالى تكفّل بنصره وتأييده وإظهاره على عدوه، فمن لم يعجبه ذلك فليخنق نفسه وليحترق غيظًا. فهو كما قال ابن عباس:(من كان يظن أن لن ينصر الله محمدًا، فليربط حبلًا في سقف، ثم ليختنق به حتى يموت).
(1) سنده صحيح. أخرجه الآجري (ص 172)، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(ص 326).
(2)
متن العقيدة الطحاوية. وانظو تفصيل البحث في كتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 803 - 907).
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
2 -
وقال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21].
وقد حصل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من التأييد العجيب والنصر البليغ يوم بدر، حتى أراه الله مصرع أعدائه أمام عينه، وشاركته الملائكة ذلك الظفر.
ففي صحيح البخاري ومسند أحمد عن رفاعة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [جاء جبريل فقال: ما تعدّون من شهد بدرًا فيكم؟ قلت: خيارنا. قال: وكذلك من شهد بدرًا من الملائكة هم عندنا خيار الملائكة](1).
وقوله: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} - يعني هذا القرآن. أنزله الله تعالى آيات واضحات في اللفظ والمعنى، معجزات في البيان والآفاق، ليكون حجة منه سبحانه على عباده.
وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} . أي: يوفق لإصابة الحق من شاء فهو أعلم بالشاكرين.
17 -
18. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)}
في هذه الآيات: فَصْلُ الله بين الطوائف في اختلاف منهاج عبادتها وتوجهاتها يوم القيامة والله على كل شيء شهيد. إنَّ الله تعالى يسجد له من في السماوات ومن في
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في المغازي (3992)، باب شهود الملائكة بدرًا، ورواه أحمد وابن ماجة وابن حبان من طريق رافع بن خديج. انظر صحيح الجامع (3081).
الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والمؤمنون، وأبى السجود الكافرون، فحق عليهم العذاب، فما يصح الخروج عن طاعة ربّ الأرباب.
فعن قتادة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} . قال: (الصابئون: قوم يعبدون الملائكة، ويصلون للقبلة، ويقرؤون الزبور .. والمجوس: يعبدون الشمس والقمر والنيران. والذين أشركوا: يعبدون الأوثان. والأديان ستة: خمسة للشيطان، وواحد للرحمن).
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .
أي: إنّ الله تعالى يحكم بينهم بالعدل يوم القيامة فيجازي كلًّا منهم ما يستحق، فمن آمن به تعالى وأقام أركان الإيمان أدخله الجنة، ومن كفر به وكذّب بالوحي أدخله النار، إنه سبحانه شهيد على أعمالهم جميعًا، حفيظ لأقوالهم، عليم بسرائرهم، ولا يُظْلَمُ عنده أحد من عباده.
وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} . قال مجاهد: (ظلال هذا كله).
والمعنى: ألم تر -يا محمد- بقلبك، أن كل شيء في هذا الكون الفسيح يسجد لله العظيم، فالملائكة في السماوات، والحيوانات في جميع الجهات، من الإنس والجن والدواب والطير، كل قد علم صلاته وتسبيحه. قال ابن كثير:(وقوله: {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ}، إنما ذكر هذه على التنصيص، لأنها قد عُبدت من دون الله، فَبَيَّنَ أنها تسجد لخالقها، وأنها مربوبة مُسَخَّرة، {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37]).
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} [النحل: 48].
2 -
وقال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 49].
3 -
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41].
ومن صحيح السنة العطرة في آفاق معنى الآية أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده، والنسائي وابن حبان في صحيحه، عن أبي ذر الغِفاري قال:[سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] قال: مستقرّها تحت العرش].
وفي رواية أخرى: قال أبو ذر: [دخَلْتُ المسجدَ ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالِسٌ، فلما غابت الشمس قال: يا أبا ذر! هل تدري أينَ تذهَبُ هذه الشمس؟ قال: قلتُ: الله ورسوله أعلَمُ. قال: فإنها تذهب فتستأذن في السجود، فيؤذَنُ لها، وكأنها قد قيل لها: ارجعي من حَيْثُ جِئْتِ، فتطلعُ من مَغْرِبها](1).
الحديث الثاني: أخرج ابن ماجة والترمذي بسند حسن -واللفظ لابن ماجة- عن ابن عباس قال: [كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فقال: إني رأيت البارحة، فيما يرى النائم، كاني أُصَلّي إلى أصل شجرة. فقرأت السجدة فسجدت. فسجدت الشجرة لسجودي. فسمعتها تقول: اللهم احطُط عني بها وِزرًا، واكتب لي بها أجرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا. قال ابن عباس: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ السجدة فسجد. فسمعته يقول في سجوده مثل الذي أخبره الرجل عن قول الشجرة](2).
وفي لفظ الترمذي: [قال الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد: قال لي ابن جريج: يا حسن! أخبرني عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني رأيتني الليلة وأنا نائم، كأني أصلي خلف شجرة، فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي، فسمعتها وهي تقول:"اللهم اكتب لي بها عندك أجرًا، وضَع عني بها وزرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود".
قال الحسن: قال لي ابن جريج: قال لي جدك: قال ابن عباس: فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (159)، كتاب الإيمان، والنسائي في "الكبرى"(11176)، وأحمد في المسند (5/ 177)، وابن حبان (6153) - (6154)، وغيرهم.
(2)
حديث حسن. أخرجه ابن ماجة (1053) في الصلاة، باب سجود القرآن، وأخرجه الترمذي (584). وانظر صحيح سنن ابن ماجة (865)، وصحيح سنن الترمذي (473).
سجدة ثم سجد. فقال ابن عباس: فسمعته وهو يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة].
الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد في المسند، والترمذي في الجامع، وابن ماجة في السنن، بسند حسن عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:[إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تَئِطَّ، ما فيها موضِعُ أربع أصابعَ إلا وملك واضِعٌ جبهته لله تعالى ساجدًا، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتم بالنساء على الفُرُش ولخرجتم إلى الصُّعُدات تجأرون إلى الله](1).
وقوله: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} . قال مجاهد: (المؤمنون). قال ابن جرير: (يقول: ويسجد كثير من بني آدم، وهم المؤمنون بالله).
وقوله: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} . قال مجاهد: (وكثير أبى السجود، لأن قوله {حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} يدل على معصية الله وإبائه السجود، فاستحقّ بذلك العذاب). وقال أيضًا: (وكثير من بني آدم حقّ عليه عذاب الله، فوجب عليه بكفره به، وهو مع ذلك يسجد لله كله).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا قرأ ابْنُ آدم السَّجْدَةَ فسَجَدَ، اعتزلَ الشيطانُ يبكي، يقول: يا وَيْلَهُ -وفي رواية: يا وَيْلي! - أُمِرَ ابْنُ آدمَ بالسجود فسَجَدَ فله الجَنَّة، وأمِرْتُ بالسجود فَأبَيْتُ فَلِيَ النَّار](2).
وفي رواية: "فعصيت فلي النار".
وقوله: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} .
أي: ومن يهن الله بالشقاوة فما له من مكرم بالسعادة.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} . قال النسفي: (من الإكرام والإهانة وغير ذلك، وظاهر هذه الآية والتي قبلها ينقض على المعتزلة قولهم، لأنهم يقولون شاء أشياء ولم يفعل، وهو يقول يفعل ما يشاء).
(1) حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند، والترمذي في الجامع (2428)، وابن ماجة في السنن (4190). انظر صحيح سنن الترمذي (1882).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (81)، كتاب الإيمان. ورواه ابن ماجة (1052)، وأحمد (2/ 443).
19 -
22. قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)}.
في هذه الآيات: اختصامُ الفريقين عند ربهم يوم القيامة: فويق الأولياء، وفويق الكفرة الأعداء. فالكفار في نار العذاب يصب على رؤوسهم الحميم، فيصهر به ما في بطونهم والجلود، ويضربون بسياط من جديد، ويمنعون من الخروج ليتضاعف عليهم العذاب الشديد.
أخرج البخاري في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: [نزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} في ستة من قويش: علي وحمزة وعبيدة بن الحارث، وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة](1).
وفي رواية: عن قَيْسِ بن عُبَادِ، عن أبي ذر رضي الله عنه أنه كان يُقسم قسمًا:[إنَّ هذه الآية: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} نزلت في حمزة وصاحبيه، وعُتْبَة وصاحِبَيْه يوم بَرَزُوا في يوم بدر](2).
وأخرج البخاري في الصحيح، والنسائي في التفسير، عن قَيْسِ بن عُبادٍ، عن عليٍّ رضي الله عنه قال:[أنا أوّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يدي الرحمن للخصومة يومَ القيامة، قال قيس: وفيهم نزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}. قال: هم الذين بارزوا يوم بَدْرٍ: عَليٌّ وحَمْزَةُ وعُبَيْدَةُ، وشَيْبَةُ بنُ ربيعةَ وعُتْبَةُ بن ربيعةَ والوليدُ بنُ عُتبة](3).
والمقصود: إخبار من الله تعالى عن الفريقين المتخاصمين الذين خرجوا للمبارزة يوم بدر، الفريق الأول: أهل الإيمان حمزة وعلي وعبيدة رضي الله عنهم. والفريق الثاني: أهل الكفر من أبناء عمومتهم عتبة وشيبة والوليد بن عتبة عليهم سخط الله
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3966)، كتاب المغازي. وانظر كذلك (3968).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4743)، كتاب التفسير، سورة الحج، آية (19).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4744)، كتاب التفسير، وأخرجه النسائي في "التفسير"(362).
وغضبه. قال مجاهد: (مثل الكافر والمؤمن اختصما في البعث). وقال عطاء: (هم المؤمنون والكافرون). قلت: وخصام الفريقين كان في الإيمان بالوحي وتصديق النبوة.
وقوله: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} . أي: فُصِّلَت لهم ثياب ملتهبة من النار.
قال مجاهد: (الكافر قطعت له ثياب من نار، والمؤمن يدخله الله جنات تجري من تحتها الأنهار).
وقال سعيد: ({ثِيَابٌ مِنْ نَار}: ثياب من نحاس، وليس شيء من الآنية أحمى وأشد حَرًّا منه).
وقوله: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} . قال مجاهد: (يقول: يصب على رؤوسهم ماء مُغْلى).
وقال سعيد: (هو النحاس المذاب، أذاب ما في بطونهم من الشَّحم والأمعاء).
وقوله تعالى: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} . أي يذيب هذا السائل المغلي شحومهم وأمعاءهم وكذلك يشوي جلودهم حتى تتساقط.
وقوله تعالى: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} . المقامع: جمع مِقْمَعة.
قال النسفي: (سياط مختصة بهم يضربون بها). وقيل: المقامع المطارق، وهي المرازب.
وقوله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} .
أي: كُلّما هموا بالخروج من النار أعيدوا فيها بالضرب من الملائكة بالمقامع والإهانة وغير ذلك، وقيل لهم: ذوقوا عذاب الحريق المؤلم الموجع.
قال الفضيل بن عياض: (والله ما طمعوا في الخروج، إنَّ الأرجُلَ لَمُقَيَّدَة، وإن الأيدي لموثَّقَةٌ، ولكن يرفعُهم لَهَبُها، وتَرُدُّهم مقامِعُها).
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 20].
2 -
وقال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة: 37].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[نارُكم جُزْءٌ من سبعين جُزْءًا من نار جهنم. قيل: يا رسول الله، إن كانت لكافية، قال: فُضِّلتْ عليهن بِتِسْعةٍ وستِّينَ جُزْءًا كُلُّهنَ مِثْلُ حَرِّها](1).
23 -
24. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)}.
في هذه الآيات: ذكْرُ الصورة المقابلة للصورة السابقة، فأهل الجنة في النعيم المقيم، في الوقت الذي فيه أهل النار في أشد الجحيم، فالمؤمنون تجري من تحتهم الأنهار ويحلون من أساور الذهب واللؤلؤ ويلبسون الحرير وينعمون بتمام المِنّة. وقد هداهم الله إلى طيب القول وإلى منازلهم في الجنة.
قال ابن كثير: (أي: تتخَرّق في أكنافها وأرجائها وجوانبها، وتحت أشجارها وقُصورها، يَصْرفونها حيث شاؤوا وأين شاؤوا).
وقوله: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} . الأساور: جمع أَسْوِرة، وأسورة واحدها سِوار. قال القرطبي:(قال المفسرون: لما كانت الملوك تلبَس في الدنيا الأساور والتِّيجان جعل الله ذلك لأهل الجنة، وليس أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أسورة: سوار من ذهب، وسوار من فضة، وسوار من لؤلؤ. قال هنا وفي فاطر: {مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [فاطر: 33]. وقال في سورة الإنسان: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان: 21]).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3265)، كتاب بدء الخلق. وانظر مختصر صحيح مسلم (1976).
وقوله: {وَلُؤْلُؤًا} - منصوب بفعل محذوف دلّ عليه الأول. أي: ويحلون لؤلؤًا.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: [تبلغ الحِليةُ منَ المؤمن حيثُ يَبْلغُ الوضوء](1).
وفي التنزيل:
{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21].
قال ابن القيم: (جمَّل البواطن بالشراب الطهور، والسواعد بالأساور، والأبدان بثياب الحرير)، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَوَّلُ زُمْرَةٍ تلجُ الجنة صورَتُهم على صورة القمر ليلةَ البدر، لا يَبْصُقون فيها ولا يَمْتَخِطون، ولا يَتَغوَّطُون، آنِيَتُهم فيها الذهب، أمْشاطهم من الذهب والفضة، ومَجامِرُهُم الألُوَّةُ، ورشْحُهم المِسْكُ، ولكل واحدٍ منهم زَوْجَتان يُرَى مُخُّ سوقِهما من وراء اللحم من الحُسْن، لا اختلاف بينهم ولا تباغُضَ، قلوبهم قَلْبٌ واحِدٌ، يُسبِّحونَ الله بُكرةً وعَشِيًّا](2).
وقوله: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} .
قال ابن جرير. (يقول: ولبوسهم التي تلي أبشارهم فيها ثياب حرير).
فكما أن ثياب أهل الشقاء قد فُصِّلت لهم من نار، فكذلك -في مقابلة ذلك- ثياب أهل النعيم من الحرير بنوعيه -السندس والإستبرق- قد فُصِّلت لهم.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} [الإنسان: 21].
2 -
وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} [الدخان: 51 - 53].
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (250)، كتاب الطهارة، باب تبلغ الحلية حيث يبلغ الوضوء.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (3245)، كتاب بدء الخلق، ورواه مسلم (1953) - (1957).
3 -
وقال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 31].
والسندس مَا رَقَّ من الديباج، والإستبرق ما غلظ منه. قال الزجاج:(هما نوعان من الحرير).
وقوله في آية "الإنسان" -"عاليهم"-: يفيد أن ذلك اللباس ظاهر بارز للزينة والجمال.
ومن كنوز صحيح السنة في آفاق معنى الآية أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال: [أهدى أكيدر (1) دومة إلى النبي صلى الله عليه وسلم جبة من سندس، فتعجب الناس من حسنها، فقال: لمناديل سعد في الجنة أحسن من هذا](2).
وله شاهد فيهما من حديث البراء قال: [أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثوب حرير فجعلوا يعجبون من لينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعجبون من هذا؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا](3).
الحديث الثاني: أخرج البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[إنما يلبَسُ الحريرَ في الدنيا مَنْ لا خَلاقَ له في الآخرة](4).
ويشهد له رواية أخرى فيه عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ لبس الحرير في الدنيا لم يَلْبَسْهُ في الآخرة].
الحديث الثالث: خرَّج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس ولا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه، في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر](5).
(1) أي: أميرها.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (3248)، كتاب بدء الخلق، وكذلك (2615) - (2616)، ورواه مسلم (2461)، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل سعد بن معاذ، رضي الله عنه.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (5836)، كتاب اللباس، باب منْ مسّ الحرير من غير لُبْسٍ، ورواه مسلم. انظر صحيح مسلم (2469)، الكتاب السابق، الباب السابق.
(4)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (5835)، كتاب اللباس. وانظر للشاهد حديث (5834) منه.
(5)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (2836)، كتاب الجنة ونعيمها. باب في دوام نعيم أهل الجنة.
وقوله: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} - فيه أقوال متقاربة متكاملة.
1 -
قال ابن عباس: (ألهموا). وقيل: الطيب من القول: القرآن، وقيل: لا إله إلا الله. وقيل: الأذكار المشروعة.
2 -
قال ابن زيد: (هدوا إلى الكلام الطيب: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله، قال الله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]).
3 -
قال ابن جرير: (وهداهم ربهم في الدنيا إلى شهادة أن لا إله إلا الله).
4 -
قال ابن كثير: (فهُدوا إلى المكان الذي يسمعون فيه الكلام الطيب) - يعني في الجنة. ولا شك أن الكلام الطيب يشمل تحية أهل الجنة، وتحية الملائكة لهم "السلام"، وكذلك التسبيح والتحميد.
ففي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ [إبراهيم: 23].
2 -
وقال تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23 - 24].
3 -
وقال تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} [الواقعة: 25 - 26].
وفي صحيح مسلم عن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [إنَّ أهلَ الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يَتْفِلونَ ولا يبولون، ولا يتغوَّطون ولا يمتخِطون. قالوا: فما بال الطعام؟ قال: جُشاءٌ وَرَشْحٌ كَرَشْحِ المسْكِ، يُلْهمون التسبيح والتحميد، كما يُلهمونَ النَّفَس](1). وفي رواية: (ويُلهمون التسبيح والتكبير، كما يُلهمون النَّفَس).
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا: [قلوبهم قلبٌ واحدٌ، يسبحون الله بُكرةً وعَشِيًّا](2).
وقوله: {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} . أي: في الدنيا والآخرة. والحميد فعيل بمعنى
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2835) - كتاب الجنة ونعيمها.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (3245)، وأخرجه مسلم (2834) ح (17)، وقد مضى بتمامه.
مفعول: أي محمود. قال النسفي: (أي أرشد هؤلاء في الدنيا إلى كلمة التوحيد وإلى صراط الحميد أي الإسلام، أو هداهم الله في الآخرة وألهمهم أن يقولوا الحمد لله الذي صدقنا وعده، وهداهم إلى طريق الجنة. والحميد الله المحمود بكل لسان).
قلت: والهداية المذكورة في هذه الآية هي النوع الرابع من أنواع الهداية. فالهداية كما وردت في القرآن والسنة تقسم إلى الأقسام الآتية:
1 -
هداية الخالق العامة لجميع خلقه لمصالحهم. كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 2 - 3].
2 -
هداية الدلالة والإرشاد. وهي هداية البيان وإقامة الحجة من الرسل على أممهم. قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمً} [النساء: 165]. وقال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3].
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: [إنه لم يكن نبيّ قبلي إلا كان حقًّا عليه أن يدلَّ أمته على خيرِ ما يعلمه لهم وينذرهم شرَّ ما يعلمه لهم .. ] الحديث (1).
3 -
هداية التوفيق والإلهام. وهي هداية خاصة بالمؤمنين الذين أخلصوا دينهم لله. قال تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
وفي جامع الترمذي بسند صحيح عن قتادة بن النعمان، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[إذا أحبَّ الله عَبْدًا حَماهُ في الدنيا كما يَظَلُّ أحدُكُم يَحْمي سَقيمَهُ الماء](2).
4 -
هداية الله المؤمنين يوم القيامة إِلى الجنة. وهي هداية في الدار الآخرة إلى مساكن النعيم والخلود. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس: 9]. قال مجاهد: (يهديهم ربهم بإيمانهم: يكون لهم نورًا يمشون به). وقال ابن جرير: (يرشدهم ربهم بإيمانهم إلى الجنة).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح، وأحمد في المسند. انظر مختصر صحيح مسلم (1199).
(2)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2123) - أبواب الطب. انظر صحيح سنن الترمذي (1659).
وعن مجاهد: ({سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 5 - 6]. قال: يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا، لا يستدلون عليها أحدًا). وقال ابن عباس:(هم أعرف بمنازلهم من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم).
وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: [إذا خَلَصَ المؤمنون من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، يتقاصُّون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم بدخول الجنة، والذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أدل منه بمسكنه كان في الدنيا](1).
وله شاهد فيه من حديث أبي هريرة مرفوعًا: [والذي بعثني بالحق ما أنتم في الدنيا بأعرف بأحوالكم ومساكنكم من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم إذا دخلوا الجنة].
25 -
29. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)}.
في هذه الآيات: ذمُّ الله الكفار الذين يصدون عن سبيله ويمنعون المؤمنين من المسجد الحرام الذي جعله الله للصلاة والطواف والعبادة يقصده الناس من جميع الأمصار. وتوعّد من يَهّم في الحرم بأمر فظيع من الشرك أو المعاصي الكبار بعذاب أليم. وتعيين الله تعالى لخليله إبراهيم مكان البيت للعمارة والعبادة، وأمره مناداة
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2440) - كتاب المظالم. وانظر مسند أحمد (3/ 13)، (3/ 74).
الناس بالحج إليه من جميع الأقطار. ليجمعوا أثناء حجهم من المنافع الأخروية والدنيوية ويشكروا الله على كتابتهم في الحجاج والعُمّار.
فقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . قال النسفي: (أي يمنعون عن الدخول في الإسلام). وقال ابن كثير: ({وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، أي: ومن صفتهم مع كُفرهم أنهم يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام، أي: ويصدون عن المسجد الحرام مَنْ أراده من المؤمنين الذين هم أحقُّ الناس به في نفس الأمر).
فقوله: {وَيَصُدُّونَ} حال من فاعل كفروا، والتقدير: وهم يصدون، أي هي صفة استمرار منهم، فقد جمعوا بين الكفر والصد عن سبيل الله والمسجد الحرام، احتكارًا وكبرًا وعلوًا في الأرض بالظلم والإفساد.
وقوله: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} . أي: جعله الله للصلاة والطواف والعبادة لجميع الناس حاضرهم وباديهم. والعاكف: المقيم الملازم. والبادي: أهل البادية ومَنْ يقدُم عليهم.
قال القرطبي: (يقول: سواء في تعظيم حرمته وقضاء النّسك فيه الحاضرُ والذي يأتيه من البلاد، فليس أهل مكة أحقّ من النازح إليه).
فائدة: دور مكة توهب وتورث وتباع وتملك بخلاف الأرض.
وهذا مأخوذ من فعله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح إذ لم يقسم أراضي مكة بين الغانمين.
وذهب الإمام أحمد إلى أن الإمام مخيَّرٌ بين وقفها وقسمتها، وبنحوه ذهب أبو حنيفة. ولكن هناك فرق بين الأرض وبين الدور، فأرض مكة وقف من الله على العالمين فهي أرض لا تقسم كسائر القرى المفتوحة، لقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} الآية.
قال ابن القيم: (وأما مكة، فإن فيها شيئًا آخر يمنع من قسمتها ولو وجبت قسمة ما عداها من القرى، وهي أنها لا تُملك، فإنها دارُ النسك، ومتعبَّدُ الخلق، وحرَمُ الرب تعالى الذي جعله للناس سواء العاكِفُ فيه والباد، فهي وقف من الله على العالمين)(1).
(1) انظر: "زاد المعاد"(3/ 434)، وكتابي: السيرة النبوية (1300 - 1312) لتفصيل البحث.
وقال في موضع آخر: (فإن الأرض ليست داخلةً في الغنائم التي أمر الله بتخميسها وقسمتها، ولهذا قال عمر: إنها غيرُ المال). ثم قال: (فالصواب القول بموجب الأدلة من الجانبين، وأن الدور تُملكُ، وتوهبُ، وتورثُ وتُباع، ويكون نقلُ الملك في البناء لا في الأرض والعرصة، فلو زال بناؤه، لم يكن له أن يبيع الأرض، وله أن يبنيها ويُعيدها كما كانت، وهو أحق بها يَسْكنُها ويُسْكِنُ فيها من شاء)(1).
وإليه ذهب الشافعي رحمه الله: إلى أن رِباع مكة تملك وتورَّث وتؤجَّر، واحتج بما روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد قال:[قلت يا رسول الله، أتنزل غدًا في دارك بمكة؟ فقال: وهل ترك لنا عَقيلٌ من رِباع؟ وفي رواية: (يا رسول الله أين نَنْزِلُ غدًا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وهل تركَ لنا عقيلٌ من مَنْزِلٍ؟ "). ثم قال: لا يرث المؤمن الكافر، ولا الكافر المؤمن"](2).
وكذلك احتجّ بما ثبت أن عمر بن الخطاب اشترى من صفوان بن أمية دارًا بمكة، فجعلها سِجْنًا بأربعة آلاف درهم، وهو أول من حبس في السجن في الإسلام.
وقوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} .
قال ابن عباس: (يعني أن تستحل من الحرام ما حرّم الله عليك من لسان أو قتل، فتظلم من لا يظلمك، وتقتل من لا يقتلك، فإذا فعل ذلك فقد وجب له عذاب أليم).
وعن ابن عباس أيضًا: ({بِظُلْمٍ} بشرك). وقال مجاهد: (هو أن يعبد فيه غير الله).
وكذلك عن مجاهد: ({وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} قال: يعمل فيه عملًا سيئًا).
وقال ابن زيد: (الإلحاد: الظلم في الحرم).
والخلاصة: إنَّ مَنْ يَهُمُّ في الحرم بأمرٍ فظيع من الشرك أو المعاصي الكبار عامدًا قاصدًا الظلم غير متأول فقد وجب له عذاب أليم.
وذهب بعض علماء العربية أن الباء في قوله تعالى: {بِإِلْحَادٍ} زائدة، والتقدير: ومن يرد فيه إلحادًا. ومثله قوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20]، والتقدير: تُنْبِتُ الدُّهن.
(1) انظر: "زاد المعاد"(3/ 437)، وانظر المرجع السابق ص (1311 - 1312) - المجلد الثالث.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4282) - (4283)، كتاب المغازي، ورواه مسلم (1351)، وأبو داود (2910)، وابن ماجة (2730)، وأحمد (5/ 201)، والبيهقي (6/ 34)، وغيرهم.
وفي مسند الإمام أحمد بإسناد على شرط الشيخين عن سعيد بن عمرو قال: [أتى عبد الله بن عمرو بن الزبير: وهو جالس في الحِجر فقال: يا ابن الزُّبير، إياكَ والإلحادَ في الحَرَم، فإني أشهد لسمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يُحِلُّها ويُحلُّ به رجُلٌ من قريش، لو وُزِنَتْ ذنوبُه بذنوب الثقلين لوزَنَتْها. قال: فانظر لا تكون هو](1).
وفي رواية: [يا ابن الزبير، إياكَ والإلحادَ في حرم الله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه سَيُلحِدُ فيه رجلٌ من قُرَيش، لو توزنُ ذنوبُه بذنوب الثقلين لَرَجَحَتْ، فانظر لا تكونُه](2).
وقوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} - أي عيَّنا له موضعه وأريناه أصله ليبنيه.
قال ابن جرير: (بوأنا: وطأنا له مكان البيت). وقال النسفي: (واذكر يا محمد حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت مباءة أي مرجعًا يرجع إليه للعمارة والعبادة، وقد رفع البيت إلى السماء أيام الطوفان وكان من ياقوتة حمراء، فأعلم الله إبراهيم مكانه بريح أرسلها فكنست مكان البيت فبناه على أساسه القديم) - وبنحوه ذكر القرطبي.
قلت: والذي ذكره القرطبي والنسفي له ما يشهد له من حديث أبي قلابة -كما ذكر الذهبي- قال: (لما أهبط الله تعالى آدم قال: "يا آدم إني مهبط معك بيتًا يطاف حوله كما يطاف حول عرشي، ويصلى عنده كما يصلى عند عرشي". فلم يزل كذلك حتى كان الطوفان رفع، فكانت الأنبياء تحجه، يأتونه فلا يعرفون موضعه، حتى بوأه الله تعالى لإبراهيم عليه السلام. قال الذهبي: (وهو ثابت عن أبي قلابة، وأين مثل أبي قلابة في الفضل والجلالة؟ هرب من تولية القضاء من العراق إلى الشام)(3).
وفي التنزيل ما يؤيد ذلك:
1 -
قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 96 - 97].
(1) إسناده على شرطهما. أخرجه أحمد (2/ 196 - 219)، ورجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي في "المجمع"(3/ 284 - 285).
(2)
أخرجه أحمد (2/ 136)، وذكره الهيثمي في "المجمع" (3/ 285) وقال: رجاله ثقات. وكون الحجاج هو المراد بالحديث أقرب من كونه ابن الزبير، فالحجاج لم يقتصر على رمي الكعبة بالمنجنيق، بل قتل الآلاف من المسلمين، فجزاه الله بما كسبت يداه.
(3)
انظر: مختصر العلو (129)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 189) - الأثر (5).
2 -
وقال تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125].
3 -
وقال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].
فالأساسات التي قام عليها البيت موجودة من قبل، وإنما رفع البناء عليها وجدّده إبراهيم بمعاونة ابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام.
وفي صحيح البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه قال: [قلت: يا رسول الله، أيُّ مَسْجدٍ وُضِعَ في الأرض أؤَل؟ قال: "المسجد الحرام"، قال: قلت: ثم أيُّ؟ قال: المسجِدُ الأقصى. قلت: كم كانَ بينَهما؟ قال: أربعون سنة، ثم أيْنَما أدْرَكتْكَ الصلاةُ بَعْدُ فَصَلِّهِ فإن الفَضْلَ فيه](1). وفي رواية: (ثم قال: حَيْثما أدركتك الصلاة فصَلِّ والأرض لك مسجدٌ).
قلت: وإنما جدّد سليمان عليه الصلاة والسلام بناء بيت القدس بعد خرابه كما هو معلوم.
وقوله: {أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} .- "أنْ "- هي التفسيرية. أي المفسرة للقول، والتقدير: قائلين له {ألَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} - أي ابنه خالصًا على اسمي وحدي، لتكون العبادة لله وحده.
وقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} . قال مجاهد: (من الشرك). وقال قتادة: (من الشرك وعبادة الأوثان).
وقوله: {لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} .
قال ابن زيد: (القائم والراكع والساجد هو المصلي، والطائف هو الذي يطوف به.
وقوله: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} يقول: والركع السجود في صلاتهم حول البيت).
قال ابن كثير: (أي: اجعله خالصًا لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له، فالطائف به معروفٌ، وهو أخصُّ العبادات عند البيت، فإنه لا يفْعَل ببقعة من الأرض سواها، والقائمين، أي: في الصلاة، ولهذا قال:{وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} ، فقرن الطواف بالصلاة، لأنهما لا يُشرَعان إلا مختصين بالبيت، فالطواف عنده، والصلاة
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3366)، كتاب أحاديث الأنبياء، وانظر (3425) منه.
إليه في غالب الأحوال، إلا ما استثنى من الصلاة عند اشتباه القبلة وفي الحرب، وفي النافلة في السَّفر، والله أعلم).
قلت: والطواف في البيت صلاة، فيجب لها الوضوء والتطهر من الجنابة، إلا أنه أبيح فيها الكلام. وللطائف أن يقرأ القرآن ويدعو ويسبح ويهلل وغير ذلك مما هو مشروع في الذكر.
فقد أخرج الترمذي بسند صحيح عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[الطواف بالبيت صلاة، ولكن الله أحل فيه النطق، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير. وفي رواية: فأقلوا فيه الكلام](1).
وقوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} .
أي: ناد في الناس داعيًا لهم إلى إقامة هذه المناسك العظيمة بحج بيت الله الحرام.
وعن سعيد بن جبير قال: (لما فرغ إبراهيم من بناء البيت أوحى الله إليه أن أذّن في الناس بالحج. فخرج فنادى في الناس: يا أيها الناس إن ربكم قد اتَّخَذَ بيتًا وأمركم أن تحجوه. قال: قال ابن عباس: فسمعه ما بين السماء والأرض، ألا ترى الناس يجيئون من أقصى الأرض يلبون).
وقوله: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} .
قال ابن عباس: ({رِجَالًا} على أرجلهم، {وَعَلَى كُلِّ ضَامِر} قال: الإبل).
فجُمع لأنه أريد بكل ضامر: النوق. ولذلك قال: {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} . قال ابن عباس: (من مكان بعيد).
وفي التنزيل:
{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37]. قال ابن كثير: (فليس أحدٌ من أهل الإسلام إلا وهو يَحِنُّ إلى رؤية الكعبة والطواف، والناس يقصِدُونها من سائر الجهات والأقطار).
وقوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} . قال مجاهد: (الأجر في الآخرة، والتجارة في الدنيا).
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن (960). انظر صحيح سنن الترمذي (767)، ورسالتي: الحج والعمرة ص (32) لتفصيل أكبر.
وقوله: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} . قال قتادة: (أيام العشر، والمعدودات أيام التشريق).
وقوله: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} - أي الهدايا والبُدْن التي أهدوها من الإبل والبقر والغنم.
وقوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} - أمر إباحة لا وجوب. قال مجاهد: (إنما هي رخصة).
وقوله: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} .
قال عكرمة: (هل المضطرُّ الذي عليه البؤس، والفقير: المتعفِّف). وقال مجاهد: (هو الذي لا يبسط يده). وقال قتادة: (هو الزَّمِنُ). وقال مقاتل: (هو الضَّرير).
قلت: وقد ذكر البخاري في "كتاب العيدين" من صحيحه، بابًا سمّاه: باب فضل العمل في أيام التشريق، وقال ابن عباس:{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]: أيام العشر، والأيام المعدودات: أيامُ التشريق، وكان ابنُ عمرَ وأبو هريرة يَخْرجان إلى السوق في أيام العشر يُكبِّران ويكبِّرُ الناس بتكبيرهما، وكبَّر محمدُ بن عَليٍّ خلف النافلة.
ثم روى البخاري في الباب عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:[ما العملُ في أيام (العشر) أفضلُ منها في هذه. قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهادُ، إلا رجُلٌ خرجَ يُخاطِرُ بنفسه وماله فلمْ يَرْجِعْ بشيءٍ](1).
وقوله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} . قال ابن عمر: (التفثُ: المناسكُ كلُّها).
وقال مجاهد: (حلق الرأس وحلق العانة وقص الأظفار وقص الشارب ورمي الجمار). وزاد ابن جريج: (والأخذ من اللحية).
قلت: والراجح ما ذكره ابن عمر من أن التفث جميع المناسك، لحديث عروة بن مُضَرس مرفوعًا:[من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى يَدْفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا، فقد تَمَّ حَجُّه وقضى تَفَثَهُ](2).
وقوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} - وهو ما نذر المرء على نفسه في الحج من شيء مشروع أو مباح. فإن كان غير مشروع أو غير مباح فلا وفاء به.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (969)، والترمذي (757)، وأحمد (1/ 224)، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي (891)، وابن ماجه (3016). انظر صحيح الترمذي (707).
فقد أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [من نذر أن يُطيعَ الله فَلْيُطِعْهُ، ومَنْ نذَرَ أن يعصي الله فلا يعصه](1).
وفي سنن النسائي بسند صحيح عن عِمران بن حُصَين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[النذر نَذْران، فما كان مِنْ نَذْرٍ في طاعة الله فذلك لله، وفيه الوفاء. وما كان من نذر في معصية الله فذلك للشيطان، ولا وفاء فيه، ويكفِّره ما يكفِّر اليمين](2).
وقوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} .
قال ابن الزبير: (إنما سمي البيت العتيق، لأن الله أعتقه من الجبابرة).
وفي الصحيحين عن ابن عباس أنه قال: [أُمِرَ الناس أن يكون آخرَ عهدهم بالبيت الطوافُ، إلا أنه خُفِّفَ عن المرأة الحائض](3).
فيودِّع المسلم البيت بطواف، كما استقبله بطواف، فإن قضى حجّه واستطاع أن يتابع بعد فترة بعمرة كان ذلك خيرًا كبيرًا.
فقد أخرج الترمذي والنسائي بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقرَ والذنوب، كما ينفي الكيرُ خبثَ الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة](4).
وأخرج البزار بسند صحيح عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الحجَّاجُ والعُمَّار وَفْدُ الله، دعاهم فأجابوه، سألوه فأعطاهم](5).
30 -
33. قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (11/ 504) - في الأيمان والنذور.
(2)
حديث صحيح. أخرجه النسائي -كما في صحح الجامع (6680) - وانظر كتابي: أصل الدين والإيمان. (1/ 460) لتفصيل البحث.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (1755)، ومسلم (1328)، والبيهقي (5/ 161).
(4)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي (807)، والنسائي (115)، وانظر صحيح الجامع (2901).
(5)
حديث صحيح. أخرجه البزار (1133)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1820).
خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)}.
في هذه الآيات: تعظيمُ الحرمات تعظيمٌ للدين، والشركُ أكبر الآثام وعقابه أليم. وتعظيمُ الشعائر من تقوى القلوب، ولكم في البدن منافع في الشرب والركوب، إلى وقت وجوب نحرها عند البيت العتيق.
فعن مجاهد، في قوله:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} قال: (الحرمة: مكة والحجّ والعمرة، وما نهى الله عنه من معاصيه كلها). وقال الليث: (حرمات الله ما لا يحل انتهاكها).
وقال قوم: (الحرمات هي الأمر والنهي). وقال الزجاج: (الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه).
قلت: وكل ما سبق داخل في مفهوم حرمات الله، فإن تعظيم الشرع الممثل بالقرآن والسنة العطرة وما جاء فيهما من أحكام يورث الخير في الدنيا والآخرة.
قال ابن القيم: (وأول التعظيم تعظيم الأمر والنهي، وهو أن لا يُعارضا بترخص جاف، ولا يُعَرَّضا لتشدّد غال).
أخرج الترمذي بسند صحيح عن ابن شهاب، أن سالم بن عبد الله حَدَّثَه:[أنه سمع رجلًا من أهل الشام، وهو يسأل عبد الله بن عمر: عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال عبد الله بن عمر: هي حلال. فقال الشامي: إنَّ أَباك قد نهى عنها. فقال عبد الله بن عمر: أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم! أمرُ أبي يُتبَع، أم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال الرجل: بل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: لقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم](1).
وقوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} . أي هذا التعظيم لأحكام هذا الدين يتبعه عند الله يوم القيامة ثوابٌ جزيل وخير وفير.
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن (830)، أبواب الحج. باب ما جاء في التمتع. انظر صحيح سنن الترمذي -حديث رقم- (658).
{وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} .
قال ابن جرير: (يقول جل ثناؤه: وأحلّ الله لكم أيها الناس الأنعام، أن تأكلوها إذا ذكَّيتموها، فلم يحرّمِ عليكم منها بحيرة، ولا سائبة، ولا وصيلة، ولا حاميًا، ولا ما جعلتموه منها لآلهتكم {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} يقول: إلا ما يتلى عليكم في كتاب الله، وذلك: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهلّ لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردّية، والنطيحة، وما أكل السبع، وما ذُبح على النُصب، فإن ذلك كله رجس).
وقوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} . قال ابن عباس: (يقول تعالى ذكره: فاجتنبوا طاعة الشيطان في عبادة الأوثان). أي: فعبادة الأوثان هي الرجس من ذلك.
وقوله: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} . أي: واحذروا قول الكذب وما هو افتراء على الله.
وعن ابن عباس: ({وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} يعني: الافتراء على الله والتكذيب).
وعن عاصم، عن وائل بن ربيعة، عن عبد الله، قال:(تعدل شهادة الزور بالشرك، وقرأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}).
وفي الصحيحين وسنن الترمذي عن أبي بَكْرَةَ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ألا أُنَبِّئكُمُ بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى، يا رسول الله. قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين -وكان مُتَّكِئًا فجَلَسَ- فقال: ألا وقولُ الزور، ألا وشهادةُ الزور. فما زال يكرِّرُها، حتى قلنا: ليته سكتَ](1).
وقوله: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ} . أي مستقيمين على الإخلاص لله وتوحيده وتعظيم شرعه. و {حُنَفَاءَ} نصب على الحال.
وقوله: {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} . أي: لا تدعون مع الله إلهًا غيره. فله العبادة وله الكبرياء وحده لا شريك له.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5976)، وأخرجه مسلم (87)، وأخرجه الترمذي (1901).
قال قتادة: (هذا مثل ضربه الله لمن أشرك بالله في بُعده من الهدى وهلاكه).
وعن مجاهد: ({فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} قال: بعيد).
والمقصود: أنّ مثل المشرك بالله في بعده عن الهدى وإصابة الحق وهلاكه وذهابه عن ربه كمثل ذلك الذي خرّ من السماء فتخطفه الطير في الهواء وتقطعه وتمزقه، فهلك، أو هوت به الريح في مكان بعيد فلقي مصيره الفاجع.
وفي حديث البراء -في المسند وسنن أبي داود ومستدرك الحاكم- في صعود ملائكة العذاب بروح الكافر وخروج الريح الخبيثة منها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان -بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا-، حتى ينتهي به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له، فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ}. فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى، ثم يقال: أعيدوا عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتطرح روحه من السماء طرحًا حتى تقع في جسده، ثم قرأ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}] الحديث (1).
وقوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} .
يشمل تعظيم أوامر الله جميعها، ومن ذلك استحسان البُدن واستسمانها، وأداء مناسك الحج كما جاءت في القرآن وصحيح السنة، دون ترخص جاف أو تشدّد غال.
قال مجاهد: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} : الاستسمان والاستعظام).
أو قال: (استعظام البدن، واستسمانها، واستحسانها).
وقال ابن زيد: (الشعائر: الجمار، والصفا والمروة من شعائر الله، والمَشْعَر الحرام، والمزدلفة).
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2/ 281)، والحاكم (1/ 37 - 40)، وأحمد (4/ 287 - 288)، وكذلك (4/ 295 - 296) في أثناء حديث طويل، وقد مضى بتمامه.
وقال محمد بن أبي موسى: (الوقوف بعرفة من شعائر الله، وبِجَمْع (1) من شعائر الله، ورمي الجمار من شعائر الله، والبُدْن من شعائر الله، ومن يعظمها فإنها من شعائر الله في قوله:{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} فمن يعظمها فإنها من تقوى القلوب).
وفي كنوز صحيح السنة العطرة من ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج أبو داود بسند صحيح عن يزيد بن شيبان قال: أتانا ابن مربع الأنصاري ونحن بعرفة فقال: أما إني رَسولُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إليكم، يقول لكم:[قِفوا على مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم](2).
الحديث الثاني: أخرج البخاري عن أنس: [أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحّى بكبشين أَملحَين أقرنين](3).
الحديث الثالث: أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن عائشة وعن أبي هريرة: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يضحي، اشترى كبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوءين. فذبح أحدهما عن أمّته، لمن شهد لله بالتوحيد، وشهد له بالبلاع. وذبح الآخر عن محمد وعن آل محمد صلى الله عليه وسلم](4).
الحديث الرابع: أخرج أحمد وأبو داود بسند صحيح عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أربعٌ لا تجوز في الأضاحي: العَوْراءُ البَيِّنُ عَوَرُها، والمريضة البَيِّنُ مَرَضُها، والعَرْجاءُ البيِّنُ ظَلَعُها، والكسيرة التي لا تُنْقي](5).
والظلع: هو العرج، والكسيرة: المنكسرة الرجل التي لا تقدر على المشي.
وقوله: "لا تنقي" من أنقى إذا صار ذا نِقيٍ. فالمعنى: التي ما بقي لها مخ من غاية العجف.
(1) جَمْع: المزدلفة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (1919) - كتاب المناسك. باب موضع الوقوف بعرفة.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (3358)، ومسلم (1966)، وأبو داود (1794)، وأخرجه أحمد في المسند (3/ 170) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(4)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (3122)، كتاب الأضاحي. وانظر صحيح ابن ماجة (2531).
(5)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2802)، والترمذي (1497)، والنسائي (7/ 215)، وابن ماجة (3144)، وأحمد (4/ 284)، ورجاله ثقات.
وقوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} .
أي: لكم في هذه البدن منافع من الركوب عند الحاجة وشرب ألبانها عند الضرورة إلى أن تنحر، وهو الأجل المسمى، ثم محلها -وهو وقت وجوب نحرها- انتهاؤه إلى البيت العتيق، وهو الكعبة. وأقوال أئمة التفسير حول هذا المعنى:
1 -
قال ابن عباس: ({لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} قال: ما لم يسمّ بدنًا).
2 -
قال مجاهد: ({لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} قال: الركوب واللبن والولد، فإذا سميت بدنة أو هديًا ذهب كله). وقال: (لكم في ظهورها وألبانها وأوبارها، حتى تصير بُدْنًا). أو قال: (في أشعارها وأوبارها وألبانها، قبل أن تسميها بدنة). وفي لفظ: (قبل أن تسمى هديًا).
3 -
وعن عطاء قال: (منافع في ألبانها وظهورها وأوبارها، إلى أجل مسمى: إلى أن تقلد).
4 -
وقال آخرون: بل له أن ينتفع بها وإن كان هَدْيًا، إذا احتاج إلى ذلك.
ومن كنوز صحيح السنة في ذلك أحاديث:
الحديث الأول: في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه: [أنّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يسوقُ بَدَنَةً، قال: "اركبْها"، قال: إنّها بَدَنَةٌ. قال: "ارْكَبْها"، قال: إنّها بَدَنَةٌ، قال: "اركبها" ثلاثًا](1). وفي لفظ: [فقال في الثالثة أو في الرابعة: ارْكَبْها وَيْلكَ أو وَيْحَك].
الحديث الثاني: روى مسلم عن أنس قال: [مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم ببدنة أو هَدِيّة، فقال: "اركبْها" قال: إنها بَدَنَةٌ أو هَدِيّةٌ، فقال: "وإنْ"](2).
الحديث الثالث: خرّج مسلم في الصحيح عن أبي الزبير قال: سمعت جابر بن عبد الله سُئِلَ عَنْ رُكوبِ الهَدْي؟ فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [ارْكبْها بالمعروف إذا أُلْجِئْتَ إليها، حتى تجدَ ظَهْرًا](3). وفي لفط: [اركبْها بالمعروف، حتى تجد ظهْرًا].
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1690)، كتاب الحج، وكذلك (2754) - (2755)، كتاب الوصايا، ورواه مسلم (2323)، والترمذي (911)، والنسائي (5/ 176)، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (1323)، كتاب الحج، في روايات مختلفة.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (1324)، كتاب الحج، باب جواز ركوب البدنة المهداة لمن احتاج إليها، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
34 -
35. قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)}.
في هذه الآيات: ذْبحُ المناسك وإراقة الدماء على اسم الله أمْرُ الله في جميع الأمم والبشرى للمخبتين. الذين ذلّت قلوبهم لله بالخشوع وجوارحهم بأداء الصلاة وإيتاء الزكاة والصدقات وكانوا مع الصابرين.
فعن مجاهد: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} قال: إهراق الدماء {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} عليها).
وعن ابن عباس: ({وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا}، قال: عيدًا). وقال عكرمة: (ذَبْحًا).
قال ابن كثير: (يخبر تعالى أنه لم يزل ذبحُ المناسك وإراقة الدّماء على اسم الله مَشْروعًا في جميع المِلَل).
قال القرطبي: (أي على ذبح ما رزقهم. فأمر تعالى عند الذبح بذكره وأن يكون الذبح له، لأنه رازق ذلك. ثم رجع اللفظ من الخبر عن الأمم إلى إخبار الحاضرين بما معناه: فالإله واحد لجميعكم، فكذلك الأمر في الذبيحة إنما ينبغي أن تخلص له).
وفي الصحيحين عن أنس قال: [ضحّى النبي صلى الله عليه وسلم بكَبْشَينِ أمْلَحين، فرأَيْتُه واضِعًا قدَمَهُ على صِفاحِهما يُسَمِّي ويكبِّرُ فَذَبَحَهُما بيده](1).
فالسنة أن يذبح الرجل بيده إن تيسَّر، وأن يستقبل بذبيحته القبلة.
فقد روى عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عمر: [أنه كان يكره أن يأكل ذبيحة ذبحت لغير القبلة](2).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5558)، كتاب الأضاحي، وأخرجه مسلم (1966)، وغيرهما.
(2)
حديث صحيح. أخرجه عبد الرزاق (8585) بإسناد صحيح عنه. وانظر كتابي: الحج والعمرة على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة (ص 50 - 52) لتفصيل أكبر.
فيضجعها على جانبها الأيسر ويضع قدمه اليمنى على جانبها الأيمن. قال الحافظ في الفتح "10/ 16": (ليكونَ أسهل على الذابح في أخذ السكين باليمين، وإمساك رأسها بيده اليسار).
وأما الإبل فالسنة أن ينحرها وهي قائمة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها ووجهها قِبَل القبلة، ويقول عند الذبح:(بسم الله والله أكبر، اللهم إنّ هذا منك ولك، اللهم تقبّل مني).
وقوله تعالى: {مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} ، لأن من البهائم ما ليس من الأنعام، كالخيل والبغال والحمير. وقيل: إنما قيل للبهائم بهائم لأنها لا تتكلم- ذكره ابن جرير.
وقوله: {فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} .
أي فلله إلهكم الحق اخضعوا وذلوا له بالعبودية والطاعة، وبشر -يا محمد- المنيبين لربهم المتواضعين لأمره المذعنين لطاعته، الخاشعين لذكره.
وعن مجاهد: ({وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} قال: المطمئنين). أو قال: (المطمئنين إلى الله).
وقال قتادة: (المتواضعين). وقال عمرو بن أوس: (المخبتون: الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا). وقال السدي: (الوَجِلين). وقال الثوري: ({وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ}، قال: المطمئنين الراضِينَ بقضاء الله، المستسلمين له).
وقوله: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} . أي: خافت من تذكر عظمته قلوبهم، وهو أحسن التفسير للآية السابقة {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} .
وقوله: {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} . قال ابن زيد: (من شدة في أمر الله، ونالهم من مكروه في جنبه).
وقوله: {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} . أي بأركانها وواجباتها ووضوئها وشروطها.
وقوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} .
قال ابن زيد: ({وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} من الأموال {يُنْفِقُونَ} في الواجب عليهم إنفاقها فيه في زكاة، ونفقة عيال، ومن وجبت عليه نفقته، وفي سبيل الله).
36 -
37 قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ
سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)}.
في هذه الآيات: تشريعُ ذبح البدن وذِكْرُ اسم الله عليها مصطفة، وتذليل لحومها ولبنها وركوبها إنما هو فضل الله عليكم -أيها المؤمنون- لعلكم تشكرون. إنه لن يصل إلى الله لحمها ودمها وإنما يناله التقوى منكم، ومن ذلك إتمام مناسككم، والبشرى للمحسنين.
فعن عطاء: ({وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} قال: البقرة، والبعير). وقال مجاهد: (إنما البُدْن من الإبل). قلت: فالبدن يشمل البقر والإبل، وهو من أفضل ما يهدى إلى بيت الله الحرام. وقد صحّ أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل البقرة في الأضاحي عن سبعة، وكذلك البَدَنة، وإليه ذهب الإمام الشافعي، وكذلك الإمام أحمد في المشهور عنه.
ففي صحيح مسلم عن ابن عباس قال. [نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ الحديبية، البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة](1).
وأما إسحاق وغيره من الفقهاء فقد ذهبوا إلى أن البدنة تجزئ عن عشرة.
وفي التحقيق فإن البدنة تجزئ عن سبعة أو عشرة حسب حجمها. وعليه تدل مجموع الأحاديث، ومن ذلك:
الحديث الأول: أخرج البخاري عن رافع بن خديج: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَسَمَ بينهم الغنائم، فعدل الجَزُور بِعَشْرِ شِياه](2).
الحديث الثاني: أخرج مسلم عن جابر قال: [خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُهِدِّينَ بالحج معنا النساءُ والولدانُ، فلما قدمنا مكة، طُفْنا بالبيت وبالصفا والمروة، وأمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كُلُّ سبعة منا في بَدَنة](3).
الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد والنسائي بسند حسن عن ابن عباس قال: [كنّا
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1318)، كتاب الحج، ورواه البخاري وغيره من أهل السنن.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (2307)، كتاب الشركة، باب من عدل عَشَرَةً من الغنم في القَسْم. وانظر كتابي: السيرة النبوية (3/ 1723) لتفصيل البحث.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1318)، كتاب الحج. باب الاشتراك في الهدي.
مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فحضَر الأضحى، فاشتركنا في البقرة سَبْعة، وفي الجزور عشرة] (1).
وواضح أن أحاديث السبعة أكثر وأصح. قال ابن القيم: (وإما أن يُقال: عَدْلُ البعير بعشرة من الغنم، تقويمٌ في الغنائم لأجل تعديل القِسمة، وأما كونُه عن سبعة في الهدايا، فهو تقدير شرعي، وإما أن يُقال: إن ذلك يختلف باختلاف الأزمنة، والأمكنة، والإبل، ففي بعضها كان البعير يعدل عشر شياه، فجعله عن عشرة، وفي بعضها يَعْدِلُ سبعة، فجعله عن سبعة، والله أعلم)(2).
وقوله: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} . قال مجاهد: (أجرٌ ومنافع). وقال إبراهيم النَخعِيُّ: (يركبها ويحلبها إذا احتاج إليها).
وقوله: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} . قال ابن عباس: (قيامًا على ثلاث قوائم، معقولة يدُها اليسرى، يقول: [باسم الله والله أكبر، اللهم منك ولك).
وقال مجاهد: (إذا عُقِلت رجلُها اليسرى قامت على ثلاث). قال: ({صَوَافَّ}: تُصَفُّ بين يديها).
وفي قراءة لابن مسعود: "صوافن"- قال قتادة: (أي: مُعَقّلة قيامًا). وفي قراءة طاووس والحسن: {فاذكروا الله عليها صوافي} ، يعني خالصةً لله عز وجل، وكذلك رواه مالك عن الزهري. وقال عبد الرحمن بن زيد:("صوافي": ليس فيها شِرْكٌ كَشِرْكِ الجاهلية لأصنامهم).
واختار ابن جرير القراءة المشهورة: {صَوَافَّ} بمعنى مصطفة، واحدها: صافة، وقد صفت بين أيديها وهي المعقولة إحدى قوائمها.
وقال القرطبي: ({فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} أي انحروها على اسم الله، و {صَوَافَّ} أي قد صُفّت قوائمها. والإبل تُنحر قيامًا معقولة. وأصل هذا الوصف في الخيل، يقال: صَفَنَ الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاث قوائم وثنى سُنْبُك الرابعة، والسّنبك طرف الحافر).
(1) حديث حسن. أخرجه أحمد (1/ 275)، والنسائي (7/ 222)، والترمذي (905).
(2)
انظر: "زاد المعاد"(2/ 266 - 267)، وكتابي: السيرة النبوية (3/ 1724).
وقد جاءت السنة العطرة بهذا المعنى في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري في صحيحه عن زِيادِ بن جُبيرٍ قال: [رأَيْتُ ابنَ عمرَ رضي الله عنهما أتى على رَجُلٍ قد أناخ بدنَتَهُ يَنْحَرُها، قال: ابعثها قيامًا مُقَيَّدةً، سُنَّةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم](1).
قال البخاري في كتاب الحج من صحيحه -باب نحرِ البُدْن قائمة- وقال ابن عمر رضي الله عنهما: سنة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: {صَوَافَّ} : قيامًا.
الحديث الثاني: أخرج أبو داود بسند حسن عن جابر: [أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه كانوا ينحرون البُدْن معقولةَ اليُسْرى، قائمة على ما بقي من قوائمها](2).
الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد بسند جيد عن أبي رافع: [أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحّى اشترى كبشين سمينين أقرنيق أملحَين، فإذا صلى وخطبَ الناس أُتي بأحدهما وهو قائم في مُصَلّاه فَذَبحه بنَفْسِهِ بالمُدْية، ثم يقول: "اللهمّ، هذا عن أمتي جميعها، مَنْ شَهِدَ لك بالتوحيد وشَهدَ لي بالبلاغ". ثم يُؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه، ثم يقول: "هذا عن محمد وآل محمد" فيطعِمُها جميعًا المساكين، ويأكل هو وأهله منهما](3).
وقوله: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} . أي: إذا سقطت على جنوبها ميتة. فكنى عن الموت بالسقوط. قال مجاهد: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} سقطت إلى الأرض).
أو قال: (نحرت). وقال ابن زيد: (فإذا ماتت). وقال ابن إسحاق: (إذا فرغت ونُحِرت).
والمقصود: لا يجوز الأكل من البدنة إذا نحرت حتى تموت وتبرد حركتها، ولا بد من الإسراع في الذبح وتحديد الشفرة لئلا تُعَذّب البهيمة.
ففي صحيح مسلم عن شداد بن أوس قال: [ثِنْتان حَفِظْتُهُمَا عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ الله كتب الإحسانَ على كل شيء، فإذا قَتَلتُمْ فأحِسنُوا القِتْلَةَ، وإذا ذَبَحْتُم فأحسنوا
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1713)، كتاب الحج. باب نحر الإبل مقيدة. وأخرجه مسلم (1320)، وأبو داود (1768)، وأحمد (2/ 3)، وابن حبان (5903) من حديث ابن عمر.
(2)
حديث حسن. أخرجه أبو داود في السنن (1767)، ويشهد له ما قبله.
(3)
أخرجه أحمد (6/ 8)، (6/ 391 - 392)، وأخرجه ابن ماجة كما مضى، والحديث صحيح.
الذَّبْحَ، وليُحِدَّ أحدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَليُرحْ ذبيحته] (1).
وفي سنن أبي داود وابن ماجة بسند حسن عن أبي واقد اللَّيثيّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما قُطِعَ من البهيمة وهي حَيَّةٌ فهو مَيْتةٌ](2).
وقوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} . قال مالك: (يستحب ذلك). فهو أمر إباحة لا وجوب.
وعن مجاهد: (هي رخصة. وقال: إن شاء أكل، وإن شاء لم يأكل).
وقوله: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} - فيه أقوال متقاربة متكاملة:
1 -
قال ابن عباس: (القانع: المستغني بما أعطيته، وهو في بيته. والمعتز: الذي يتعرَّض لك، ويلمّ بك أن تطعمه من اللحم ولا يسأل، وهؤلاء الذين أمر أن يطعموا من البدن).
2 -
قال مجاهد: (القانع: جارك الذي يقنع بما أعطيته. والمعتزّ: الذي يتعزض لك ولا يسألك). وقال: (القانع: أهل مكة. والمعتزّ: الذي يعتريك فيسألك).
3 -
قال قتادة: (القانع: المتعفف الجالس في بيته، والمعترّ: الذي يعتريك فيسألك).
وقد استدل بعض أهل العلم بهذه الآية: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} أنّ الأضحية تُجَزَّأُ ثلاثةَ أجزاء، فثلث لصاحبها يأكله، وثلث يهديه لأصحابه، وثلث يتصدق به على الفقراء.
وفي صحيح البخاري من حديث سلمة بن الأكوع قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ ضَحّى منكم فلا يُصْبِحَنَّ بعدَ الثالثة وبَقيَ في بيتهِ منه شيء. فلما كان العامُ المقبلُ قالوا: يا رسول الله، نفعلُ كما فعلنا العام الماضي؟ قال: كلوا وأطعموا وادَّخِروا، فإن ذلك العام كان بالناس جَهْدٌ فأرَدْتُ أن تُعينوا فيها](3).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (1955)، كتاب الصيد والذبائح. باب الأمر بإحسان الذبح والقتل، وتحديد الشفرة.
(2)
حسن صحيح. أخرجه أبو داود (2858)، وابن ماجة (3216)، والترمذي (4480)، وأخرجه أحمد (5/ 218)، والحاكم (4/ 239) وصححه ووافقه الذهبي.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (5569) - كتاب الأضاحي. وأخرجه ابن حبان في صحيحه (5929).
وفي لفظ مسلم: (فكلوا وادّخِروا وتصدقوا)(1). وفي رواية: (كلوا وتزودوا وادّخروا).
وفي لفظ آخر: (كلوا وأطعموا واحْبِسوا أو ادّخِروا)(2).
وقوله: {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
أي: هذا التذليل من الله تعالى لهذه البدن لكم: في ركوبها ولحومها ولبنها إنما هو فضل الله وكرمه عليكم لعلكم تحسنون شكره وعبادته.
وفي التنزيل نحو ذلك:
ولكنْ: قليل من عباد الله هم الشاكرون، وأكثر الناس في غفلة عن نعم الله التي تغمرهم.
ففي المسند للإمام أحمد بسند صحيح عن عتبة بن عبد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لو أنَّ رجلًا يُجَرُّ على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرمًا في مرضاة الله تعالى لَحَقِرَهُ يوم القيامة](3).
وفي جامع الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة وعن أبي سعيد قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول له: ألمْ أجْعل لك سَمْعًا وبَصَرًا ومالًا وَوَلدًا وسَخَّرْت لك الأنعام والحرث، وتركتُكَ تَرْأَسُ وتَرْبَعُ، فكنتَ تَظُنُّ أنك ملاقِيَّ يَوْمَكَ هذا؟ فيقول: لا. فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني](4).
وقوله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} .
قال إبراهيم: (ما أريد به وجه الله). وهو كما قال ابن زيد: (إن اتقيت الله في هذه
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1971) - كتاب الأضاحي. وانظر للرواية الأخرى (1972) منه.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (1973) - كتاب الأضاحي، في ختام حديث أطول.
(3)
حديث حسن. انظر صحيح الجامع (5125)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 675)، وكتابي: تحصيل السعادتين على منهج الوحيين (98 - 99) لتفصيل هذا البحث.
(4)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2558). أبواب صفة القيامة. انظر صحيح سنن الترمذي- حديث رقم- (1978)، وأصله في صحيح مسلم.
البُدن، وعملت فيها لله، وطلبت ما قال الله تعظيمًا لشعائر الله، ولحرمات الله).
وعن ابن جريج قال: (كان أهل الجاهلية ينضَحُون البيتَ بلُحوم الإبل ودِمَائها، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق أن ننضح. فأنزل الله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللهَ لا ينظرُ إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم](1).
وفي رواية: [إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم].
وقوله: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} .
أي: كذلك سخر الله لكم هذه البدن وذلّلها كي تعظموا الله على ما هداكم له من أمر دينكم وإتمام مناسك حجكم.
قالى ابن زيد: ({لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} قال: على ذبحها في تلك الأيام {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} يقول: وبشِّر يا محمد الذين أطاعوا الله فأحسنوا في طاعتهم إياه في الدنيا بالجنة في الآخرة).
38 -
في هذه الآيات: دفاعُ الله عن المؤمنين، وسخطه على الخائنين الكافرين، وتشريعُ
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2564)(33)، وأخرجه أيضًا برقم (34) - وهي الرواية الأخرى.
القتال لإقامة هذا الدين، ودفعُ الله الناس بعضهم ببعض لنصرة الحق المبين. والمؤمنون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر موعودون بالشوكة والتمكين.
فقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} .
قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: إن الله يدفع غائلة المشركين عن الذين آمنوا بالله وبرسوله، إن الله لا يحبّ كلّ خوّان يخون الله، فيخالف أمره ونهيه ويعصيه، ويطيع الشيطان {كَفُورٍ} يقول: جَحود لنعمه عنده، لا يعرف لمنعمها حقه فيشكره عليها).
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3].
2 -
وقال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 36]
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنّ الله تعالى قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينّه، وإن استعاذني لأعيذنّه، وما تردّدت عن شيء أنا فاعله تردّدي عن قبض نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته](1).
فمن كان وليًّا لله آذن الله تعالى من عاداه بالحرب، وكان في عناية الله وحراسته.
وفي صحيح مسلم عن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ صلّى صلاة الصبح فهو في ذِمَّة الله، فلا يَطْلُبَنَّكُم الله من ذِمَّتِهِ بشيء، فإنه من يَطْلُبْهُ من ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ يُدْرِكْهُ، ثم يَكْبّهُ على وجهه في نار جهنم](2).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (6502) - كتاب الرقاق، باب التواضع.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (657) - كتاب المساجد- باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة، من حديث جندب رضي الله عنه.
وقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} .
أخرج أحمد في المسند ورجاله رجال الصحيح، وكذلك الترمذي في السنن بسند صحيح عن ابن عباس قال:[لمّا خرجَ النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيّهم! إنا لله وإنا إليه راجعون، لَيَهْلِكُنَّ. قال: فأنزل الله عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} قال أبو بكر رضي الله عنه: فعرفت أنه سيكون قتال. قال ابن عباس: (وهي أول آية نزلت في القتال)](1)
وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} . قال ابن كثير: (أي: هو قادرٌ على نصر عباده المؤمنين من غير قتال، ولكن هو يريد من عباده أن يبلو جُهدَهم في طاعته، كما قال: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 4 - 6]).
وعن ابن عباس: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} قال: وقد فَعَل).
وفي التنزيل أيضًا:
1 -
قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 14 - 15].
2 -
وقال تعال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [التوبة: 16].
3 -
وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].
4 -
وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].
أخرج الخطيب في "التاريخ" وبنحوه الإمام أحمد والحاكم بسند صحيح عن أنس
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (3170)، والنسائي في "الكبرى"(11345)، وأخرجه ابن جرير (25254) - (25255)، وإسناده صحيح، ورواه أحمد والحاكم وغيرهم.
مرفوعًا: [النَّصْرُ مع الصَّبْرِ، والفَرَجُ مع الكَرْب، وإنَّ مع العُسْرِ يُسْرًا](1).
وقوله: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} .
قال ابن عباس: (أُخرجوا من مكة إلى المدينة بغير حق، يعنى محمدًا وأصحابه).
وقوله: {إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} .
أي: ما كان لهم من ذنب حين أخرجهم الكفار واضطروهم إلى الهجرة إلا أنهم أخلصوا التوحيد لله بقولهم: ربنا الله وحده لا شريك له، وأفردوه بالعبادة والتعظيم.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} [الممتحنة: 1].
2 -
وقال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8].
وفي صحيح البخاري من حديث أسامة بن زيد أنه قال زمن الفتح: يا رسول الله أين تنزل غدًا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [وهل ترك لنا عقيل مِنْ منزل](2).
الصوامع: المعابد الصِّغار التي تخصّ الرهبان. قال مجاهد: (صوامع الرهبان).
وقال الضحاك: ({لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} وهي الصوامع الصغار يبنونها).
والبيع أوسع من الصوامع، وأكثر عابدين فيها، وهي خاصة بالنصارى أيضًا. وقيل بل هي كنائس اليهود.
قال الضحاك: (البيع: بيع النصارى). وقال مجاهد: ({وَبِيَعٌ} قال: وكنائس).
وقال ابن زيد: (البيع: الكنائس). وروي عن ابن عباس: (أنها كنائس اليهود).
والصلوات: قال ابن عباس: (يعني بالصلوات الكنائس). وقال الضحاك: ({وَصَلَوَاتٌ} كنائس اليهود، ويسمون الكنيسة صلوتًا). وقال أبو العالية: (هي مساجد الصابئين).
(1) حديث صحيح. أخرجه الخطيب في "التاريخ"(10/ 287)، والديلمي (4/ 111 - 112)، وانظر مسند أحمد (1/ 307)، ومستدرك الحاكم (3/ 541 - 542)، والسلسلة الصحيحة (2382).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4282) - كتاب المغازي. وانظر تفصيل البحث في كتابي: السيرة النبوية. (3/ 1276) - في أثناء فتح مكة.
وقال مجاهد: ({وَصَلَوَاتٌ} مساجد لأهل الكتاب، ولأهل الإسلام بالطرق)، والله تعالى أعلم.
وقوله: {وَمَسَاجِد} قال رفيع: (مساجد المسلمين). وقال قتادة: (المساجد: مساجد المسلمين يذكر فيها اسم الله كثيرًا).
وقوله: {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} . قال الضحاك: (الجميع يذكر فيها اسم الله كثيرًا).
وقيل: بل الضمير في قوله {فِيهَا} عائد إلى المساجد لأنها أقرب المذكورات.
قال ابن جرير: (الصوابُ لَهُدِّمَت صوامع الرهبان وبيعُ النصارى وصلواتُ اليهود، وهي كنائسهم، ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسمُ الله كثيرًا، لأن هذا هو المستعمل المعروف في كلام العرب). وقال بعض أهل العلم: (هذا تَرَقٍّ من الأقل إلى الأكثر إلى أن ينتهي إلى المساجد، وهي أكثر عُمَّارًا وأكثر عُبّادًا، وهم ذوو القَصْدِ الصحيح).
والخلاصة: هذه سنة من سنن الله تعالى في خلقه وعباده، فإنه لولا أنه سبحانه يدفع عن قوم بقوم، ويكشف شرَّ أناس عن غيرهم بما يخلقه ويقدّره من الأسباب والتصريف لشؤون وأحوال العباد، لفسدت الأرض، وأهلك القوقي الضعيف، ولَبَالَغَ المتجبرون والطغاة في عتوهم وبطشهم، ولكن إرادة الله وأقداره تكسرهم وتمنعهم.
وقوله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} .
سنة أخرى من سنن الله تعالى، وهي في أوليائه وأتباع أنبيائه ورسله. فإنهم إن صدقوا الله تعالى نَصْرَ دينه، صَدَقَهُم الله جل ثناؤه النصرَ والتمكين.
ففي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
2 -
وقال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21].
3 -
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 7 - 8].
وفي مسند الإمام أحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن عبد الرحمن بن
كعب بن مالك عن أبيه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: [إن المؤمنَ يجاهدُ بسيفه ولسانه](1).
وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ألا إن القوة الرمي، ألا إنّ القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي] (2).
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} . أي: هو القوي فيمكن المؤمنين بقوته وجبروته ليقهروا عدوهم، وهو العزيز فكل الطغاة مقهورون بعزته مهزومون بكبريائه أذلاء تحت حكمه وقضائه.
وقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} . هو غاية التمكين، ومنهاج المؤمنين، فإن في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إقامة للدين.
قال أبو العالية: (كان أمرهم بالمعروف أنهم دعوا إلى الإخلاص لله وحده، لا شريك له، ونهيهم عن المنكر، أنهم نهوا عن عبادة الأوثان، وعبادة الشياطين، قال: فمن دعا إلى الله من الناس كلهم، فقد أمر بالمعروف، ومن نهى عن عبادة الأوثان وعبادة الشيطان، فقد نهى عن المنكر).
وفي التنزيل:
وقوله: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور} . قال زيد بن أسلم: (وعند الله ثواب ما صنعوا).
قال ابن جرير: (يقول: ولله آخر أمور الخلق، يعني: أن إليه مصيرها في الثواب عليها، والعقاب في الدار الآخرة).
وفي التنزيل:
{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 35].
وفي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن مسعود مرفوعًا: [من أَحْسَنَ في
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (6/ 387)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1631).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم والترمذي. انظر مختصر صحيح مسلم -حديث رقم- (1102).
الإسلام لم يُؤاخذ بما عمِلَ في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أُخِذَ بالأول والآخر] (1).
42 -
46. قوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)}.
في هذه الآيات: إخبارُ الله تعالى عن تكذيب الأمم المرسلين، كقوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم، وقوم لوط وكذلك كُذِّبَ موسى رغم الحجج البينات، والأدلة القاطعات الواضحات، فأملى تعالى للكافرين، ثم أخذهم بعذاب مهين. إنه كم من قرية كذَّبَ أهلها فنزل بها العذاب، فإذا هي خراب، وبئر لا يُستسقى منها ولا يردها أحد، وقد كانت تعج بالواردين، وَقَصْرٍ محكم البنيان، لم يمنع أهله من الخزي والخذلان. أفلم يبصر هؤلاء المكذبون أثناء تحركهم في الأرض مصارع أمثالهم من الأمم المكذبة الزائلة، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
فقوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى} الآية.
تسلية من الله سبحانه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من أذى قومه وتكذيبهم له، وإخباره أن هذا الموقف الساقط الذي يواجه به قومه ما يأتيهم من الحق والحجة والبرهان إنما هو سنة إخوانهم من الأمم الخالية المكذبة مع رسل الله إليهم.
وقوله: {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} .
قال ابن جرير: (يقول: فأمهلت لأهل الكفر بالله من هذه الأمم، فلم أعاجلهم
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6924) -كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم-، ورواه مسلم في الصحيح (120) ح (190) - كتاب الإيمان- باب هل يؤاخذ بأعمال الجاهلية.
بالنقمة والعذاب {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} : ثم أحللت بهم العقاب بعد الإملاء {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} يقول: فانظر يا محمد كيف كان تغييري ما كان بهم من نعمة، وتنكري لهم عما كنت عليه من الإحسان إليهم، ألم أبدلهم بالكثرة قلة، وبالحياة موتًا وهلاكًا، وبالعمارة خرابًا؟ يقول: فكذلك فعلي بمكذّبيك من قريش، وإن أمليت لهم إلى آجالهم، فإني مُنْجِزك وعدي فيهم، كما أنجزت غيرك من رسلي وعدي في أممهم، فأهلكناهم، وأنجيتهم من بين أظهرهم).
وفي الصحيحين عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنّ الله لَيُمْلي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه. قال: ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]] (1).
وقوله: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} .
أي: وكم -يا محمد- من قرية أهلكتها وهي مكذبة لرسولها، وتقوم على الكفر وفعل المعصية.
وقوله: {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} . قال الضحاك: (خواؤها: خرابها، وعروشها: سقوفها).
وقال قتادة: {خَاوِيَةٌ} : خربة ليس فيها أحد).
وقوله: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} . أي: لا يُستقى منها، ولا يرِدُها أحد بعد أن كانت تعجّ بكثرة الواردين لها، والمزدحمين على السقاية منها.
وعن عطاء عن ابن عباس: ({وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} قال: التي تُرِكت، وقال غيره: لا أهل لها).
وعن قتادة قال: (عطلها أهلها، تركوها).
وقوله: {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} - فيه أقوال متقاربة:
1 -
عن عكرمة: ({وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} قال: مُجَصَّص). قال: (والجصّ بالمدينة يسمى الشِّيد).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4686)، ومسلم (2583)، والترمذي (3110)، والبيهقي (6/ 94)، وأخرجه ابن ماجة (4018)، وابن حبان (5175).
2 -
وعن مجاهد: ({وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} قال: بالقِصَّة أو الفضة). وقال: (بالقصة يعني بالجصّ).
3 -
قال قتادة: (كان أهله شيّدوه وحصَّنوه، فهلكوا وتركوه). وقال الضحاك: ({وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} يقول: طويل).
وكلها أقوال محتملة، وإنما العبرة من كل ما سبق أن شدة البناء والإحكام والتحصين والارتفاع لم تحم أهل القصر والبنيان من حلول بأس الله ونقمته بهم لما جاء أجلهم وحان وقت عذابهم مقابل تكذيبهم وبغيهم.
وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} .
أي: أفلم يسيروا -هؤلاء المكذبون رسلهم الجاحدون قدرة ربهم على إحداث التغيير والدمار- فينظروا إلى مصارع ضربائهم وأمثالهم من الأمم الماضية المكذّبة الزائلة.
وقوله: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} .
قال النسفي: (أي يعقلون ما يجب أن يعقل من التوحيد ونحوه، ويسمعون ما يجب سماعه من الوحي).
وقوله: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} .
قال ابن كثير: (أي: ليس العمى عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة، وإن كانت القوة الباصرةُ سليمةً فإنها لا تنفذ إلى العِبَر، ولا تدري ما الخبر).
فائدة: القلب مركز التفكير والفقه، وليس العقل الذي في الدماغ.
1 -
2 -
وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
والحق أن الدماغ هو متأثر بالقلب الذي هو من جهة: مركز حياة الأبدان وموجه حركتها، وبتعطله تتعطل الحياة. ومن جهة ثانية: فهو مركز الفكر والعقل والفقه والوعي والفهم.
وفي الصحيحين من حديث النعمان بن بشير مرفوعًا: [ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسدَ الجسد كلّه، ألا وهي القلب](1).
47 -
51. قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)}.
في هذه الآيات: استعجالُ المشركين العذاب ولن يخلف الله وعده في الانتقام منهم، وإن مقدار ألف سنة عند خَلْقِه كيوم واحدٍ عنده بالنسبة إلى حكمه. إنه كم من قرية طغى أهلها فكان إنظارهم ثم نزول العذاب بهم وإلى الله المصير. قل -يا محمد- معلنًا للناس أنك نذير مبين، فالمؤمنون لهم مغفرة لذنوبهم وهم في جنات النعيم، والكافرون ليسوا معجزين ولهم عذاب الجحيم.
فقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} . أي: استهزاء وكبرًا. والمقصود: طغاة مكة الذين كذبوا النبوة وجحدوا الدار الآخرة.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32].
2 -
وقال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [العنكبوت: 53].
3 -
وقال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: 16].
وفي مسند الإمام أحمد بإسناد قوي عن عقبة بن عامر مرفوعًا: [إذا رأيت الله يعطي
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (52)، كتاب الإيمان. وكذلك (2051)، ورواه مسلم. وانظر تفصيل البحث -العلاقة بين الروح والقلب والنفس والعقل- في كتابي: تحصيل السعادتين على منهج الوحيين (198 - 212).
العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج. ثم تلا: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} ] (1).
وقوله: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} - عام في أوليائه وأعدائه.
قال ابن جرير: (ولن يخلف الله وعده الذي وعدك فيهم، من إحلال عذابه ونقمته بهم في عاجل الدنيا، ففعل ذلك، ووفى لهم بما وعدهم، فقتلهم يوم بدر).
قلت: ووعد الله تعالى في الانتقام من أعدائه لا يقتصر على الدنيا، بل يشمل خزي يوم القيامة.
وقوله: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} .
قال ابن عباس: (من الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض). وقال النسفي: (أي كيف يستعجلون بعذاب من يوم واحد من أيام عذابه في طول ألف سنة من سنيكم لأن أيام الشدائد طوال).
قال ابن كثير: (أي: هو تعالى لا يعجَلُ، فإنَّ مقدارَ ألفِ سنةٍ عند خَلْقِهِ كيوم واحدٍ عنده بالنسبة إلى حُكمِهِ، لعِلْمِهِ بأنَهُ على الانتقام قادر، وأنه لا يفوتُه شيء، وإن أجَّلَ وأنْظَرَ وأمْلَى).
وفي جامع الترمذي ومسند أحمد بسند حسن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [يدخلُ فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، خمس مئة عام](2).
وفي سنن أبي داود بسند صحيح عن سعد بن أبي وقاص: [أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني لأرجو، أنْ لا تعجزَ أمتي عند ربها أن يؤخرهم نِصفَ يوم. قيل لسعد: وكم نصف ذلك اليوم؟ قال: خمس مئة سنة](3).
وله شاهد عنده من حديث أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لَنْ يُعْجزَ الله هذه الأمةَ من نصف يوم](4).
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 145)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (414).
(2)
حديث حسن. أخرجه الترمذي في الجامع (2353) - (2354)، وأحمد في المسند (2/ 296)، والنسائي في "الكبرى"(11348)، وابن حبان (676).
(3)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4350)، كتاب الملاحم. وانظر صحيح سنن أبي داود (3656).
(4)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4349)، كتاب الملاحم، باب قيام الساعة، من حديث أبي ثعلبة الخشني. انظر صحيح سنن أبي داود -حديث رقم- (3655).
وأخرج ابن جرير بسنده إلى أبي نَضْرَة، عن سُمَير بن نَهار قال: قال أبو هريرة: (يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بمقدار نصف يوم. قلت: وما نصف يوم؟ قال: أو ما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قال: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ})(1).
وقوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} .
قال النسفي: (أي: وكم من أهل قرية كانوا مثلكم ظالمين قد أنظرتهم حينًا {وَثُمَّ أَخَذْتُهَا} بالعذاب {وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} أي المرجع إلي فلا يفوتني شيء).
وقوله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} .
ردٌّ على كفار مكة حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجيل العذاب، فأخبرهم أنه إنما عليه النذارة وليس إليه أمر العقاب، فالله يحكم {لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد: 41].
وقوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} .
قال ابن جريج: (الجنة). فإن أهل الإيمان والعمل الصالح موعودون من ربهم بستر ذنوبهم ومضاعفة حسناتهم.
قال محمد بن كعب القرظي: (إذا سمعت الله تعالى يقول: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}، فهو الجنة).
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} .
1 -
قرأ قراء المدينة والكوفة "معاجزين".
قال ابن عباس: ("معاجزين": مشاقّين)، أو قال:(مراغمين). وعن قتادة قال: (كذّبوا بآيات الله، فظنوا أنهم يُعجزون الله، ولن يعجزوه).
2 -
وقرأ بعض قراء مكة والبصرة: "مُعَجِّزين" أي عَجَّزوا الناس وثَبَّطُوهم عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الإيمان بالقرآن. قال مجاهد: (قوله: "مُعَجِّزين": مُبَطِّئين، يَبُطِّئُونَ الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم).
والقراءتان مشهورتان في الأمصار، والمعنى متقارب، فإن المكذبين بآيات الله
(1) موقوف في حكم المرفوع. رواه ابن جرير في "التفسير"، ويشهد له حديث الترمذي (2353).
ووعده ووعيده يحسبون أنهم يفلتون من حكم الله ويحاربون أولياءه ويصدون الناس عن سبيل الله، ونار الجحيم تنتظرهم لتكون مستقرهم ومآلهم.
52 -
54. قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)}.
في هذه الآيات: إبطالُ الله وساوس وأماني الشيطان من دعوة الرسل، وجعل تلك الأماني والوساوس فتنة للشاكين المنافقين والقاسية قلوبهم، ففي إنزال إلله آيات القرآن ونسخ ما ألقى الشيطان تثبيت للمؤمنين، ودحض لأمنيات المبطلين، والله يهدي المؤمنين إلى صراط مستقيم.
فقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآية.
قال البخاري: (وقال ابن عباس في {إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}: إذا حَدَّثَ ألقى الشيطان في حديثه، فيُبْطِلُ الله ما يكقي الشيطان ويُحْكِمُ آياته، ويُقال أُمْنِيَّتُهُ قِراءتُه، {إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]: يقرؤون ولا يكتبون)(1).
وقال القاسمى: ({إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} أي رغب في انتشار دعوته، وسرعة علوّ شرعته {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أي بما يصد عنها، ويصرف المدعوّين عن إجابتها {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} أي يبطله ويمحقه {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} أي يثبتها {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} يعلم الإلقاءات الشيطانية، وطريق نسخها من وجه وحيه {حَكِيمٌ} يحكم آياته بحكمته).
قلت: وأما ما ذكر المفسّرون عند هذه الآية من قصة الغرانيق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) انظر صحيح البخاري، كتاب التفسير، سورة الحج، الحاشية.
مدح أصنام الكفار بقوله: "تلك الغرانيق العُلا، وإن شفاعتهن لترتجى" فهو كذب وافتراء وباطل. ويبدو أنه من صنع المشركين الذين لم يتمالكوا عند سماع سورة النجم يتلوها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الكعبة إلا أن خرّوا ساجدين.
فقد أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما: [أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سجدَ بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس](1).
وكذلك أخرج البخاري من طريق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أقرأ النبي صلى الله عليه وسلم النجم بمكة، فسجد فيها وسجد من معه غيرَ شيخ، أخذ كفًا من حصى، أو تراب، فرفعه إلى جبهته، وقال يكفيني هذا، فرأيته بعد ذلك قُتِلَ كافرًا] (2).
والذي يظهر في التحقيق أنه لما توالى على الذين سجدوا من المشركين اللوم والعتاب ممن لم يحضر من رفاقهم وعشائرهم، لجؤوا إلى الكذب والافتراء وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدح أصنامهم فسجدوا لذلك. ثم إن القصة لا تثبت من الجهة الحديثية، فإن أسانيدها مظلمة يحطم بعضها بعضًا (3)، فضلًا عن أنها مرفوضة متنًا لاصطدامها مع العصمة النبوية، في قضية الوحي والتوحيد والأمور الإيمانية الشرعية.
قال ابن جريج: (يقول: وللذين قست قلوبهم عن الإيمان بالله، فلا تلين ولا ترعوي، وهم المشركون بالله). وقال: ({لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}: هم المنافقون).
والآية تشير إلى بعض مقتضيات حكمته تعالى من ذلك أنه يجعل هذا الإلقاء
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1071) - كتاب الكسوف، وكذلك في كتاب سجود القرآن.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (1070) - الكتاب السابق. وانظر تفصيل البحث في كتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة (1/ 310 - 311).
(3)
قال ابن كثير: (وكلها مرسلات ومنقطعات). فالزنادقة -فيما يبدو- ركبوا الأسانيد إلى التابعين بل وصل به بعضهم إلى ابن عباس. وقد حكم ببطلان قصة الغرانيق، أبو بكر بن العربي، والشوكاني، والبيهقي، وابن إسحاق صَاحب السيرة حيث سئل عن هذه القصة فقال: هذا من وضع الزنادقة. نقله عنه أبو حيان في البحر. وقال أبو منصور الماتريدي: (هذا الخبر من إيحاء الشيطان إلى أوليائه الزنادقة). وجمع الألباني رسالة في بطلان طرق هذا الخبر سماها: "نصب المجانيق في نسف قصة الغرانيق".
الشيطاني فتنة للشاكين المنافقين والقاسية قلوبهم عن قبول الحق، ابتلاء لهم ليزدادوا عتوًا وإثمًا، ورحمة للمؤمنين ليزدادوا يقينًا وثباتًا.
وقوله: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} . أي: في ضياع وضلال ومخالفة وعناد عن قبول الحق والإذعان إليه.
وقوله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} . هو إخبار من الله تعالى عن بعض حكمته من إنزال آيات القرآن، في دحض أمنيات الشيطان. قال ابن جريج:({وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}: يعني القرآن).
قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وكي يعلم أهل العلم بالله أن الذي أنزله الله من آياته التي أحكمها لوسوله، ونسخ ما ألقى الشيطان فيه، أنه الحق من عند ربك يا محمد، {فَيُؤْمِنُوا بِهِ}: يقول: فيصدقوا به، {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ}: يقول: فتخضع للقرآن قلوبهم، وتذعن بالتصديق به، والإقرار بما فيه).
وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
يدل على هداية التوفيق والإلهام، للثبات على الحق والإيمان، ضد محاولات كيد الشيطان.
قال النسفي: (فيتأولون ما تشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة، ويطلبون لما أشكل منه المحمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة حتى لا تلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة).
أخرج البيهقي بسند حسن عن إبراهيم بن عبد الرحمن العُذري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يحمل هذا العلم من كل خلف عُدولُه، ينفون عنه تحريفَ الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين](1).
55 -
57. قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ
(1) الحديث روي موصولًا من طريق جماعة من الصحابة، وصحح بعض طرقه الحافظ العلائي. انظر تفصيل ذلك في كتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 269).
فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)}.
في هذه الآيات: استمرارُ الكفار في الشك والريب من هذا القرآن حتى تنزل بهم ساعة النقمة فجأة أو عذاب يوم القيامة. إنه في ذلك اليوم يتفرد الله تعالى بالملك والحكم فالمؤمنون في جنات النعيم، والكفار في شقاء الجحيم.
فعن ابن جريج: ({وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} قال: من القرآن).
أي: لا يزال الكفار في شك وريب من هذا القرآن الذي أحكم الله آياته. واختاره ابن جرير.
وقوله: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} . أي حتى تأتيهم ساعة النقمةِ فجأة، فيحلّ بهم بأس الله وسخطه. قال مجاهد:({بَغْتَةً}: فجأة). وقال قتادة ({بَغْتَةً}، بَغَتَ القومَ أمرُ الله، وما أخذ الله قومًا قط إلا عند سكرتهم وَغِرَّتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، إنه لا يغْتَرُّ بالله إلا القوم الفاسقون).
وقوله: {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} . قال مجاهد: (قال أبي بن كعب: هو يوم بدر) - واختاره ابن جرير. وقال مجاهد -في رواية أخرى- وعكرمة: (هو يومُ القيامة لا ليلةَ له).
قلت: والسياق يدل على القول الثاني، وهو وعيد القيامة وما يكون من الهول والمصيبة على الكفار في ذلك اليوم العقيم، ولذلك قال تعالى في الآية بعدها:{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} . واختاره الحافظ ابن كثير وقال: (وهذا القولُ هو الصحيح -يشير إلى قول عكرمة ومجاهد- وان كان يوم بدر من جُملة ما أوعدوا به).
وقوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} . أي السلطان والحكم لله يوم يحشر الناس، ويوضع الميزان، ويكون القصاص.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4].
2 -
وقال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان: 26].
ومن كنوز السنة العطرة في ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الحاكم بسند جيد عن سلمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:[يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسعت، فتقول الملائكة: يا رب: لِمَنْ يرنُ هذا؟ فيقول الله تعالى: لمن شئت من خلقي. فتقول الملائكة: سبحانَك ما عبدناك حقّ عبادتك. ويوضع الصراط مثل حد الموسى فتقول الملائكة: من تجيز على هذا؟ فيقول: من شئت من خلقي. فيقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك](1).
الحديث الثاني: خزج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة مرفوعًا: [لتؤدُّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء](2).
الحديث الثالث: أخرج أحمد في المسند بسند صحيح عن أبي هريرة مرفوعًا: [يقتص الخلق بعضهم من بعض حتى الجماء من القرناء، وحتى الذرة من الذرة](3).
ورواه من طريق أبي حجيرة عنه مرفوعًا بلفظ: [ألا والذي نفسي بيده، ليختصمن كل شيء يوم القيامة حتى الشاتان فيما انتطحتا](4).
وفيه من حديث أبي ذر قال: [رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاتين تنتطحان، فقال: يا أبا ذر! أتدري فيمَ تنتطحان؟ قلت: لا، قال: ولكن ربك يدري، وسيقضي بينهما يوم القيامة](5).
الحديث الرابع: أخرج الشيخان عن عائشة: [أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس أحد يحاسَبُ يومَ القيامة إلا هلك. قلت: أو ليس يقول الله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} فقال: إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش في الحساب يهلك](6).
(1) حديث صحيح. رواه الحاكم (4/ 586)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (941).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم وبعض أهل السنن. انظر مختصر صحيح مسلم (1837).
(3)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 363)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1967).
(4)
إسناده حسن. أخرجه أحمد في المسند (2/ 290)، واتطر الصحيحة ج (3) ص (609).
(5)
أخرجه أحمد (5/ 162)، وانظر تفصيل البحث في كتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 742).
(6)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4939)، وأخرجه مسلم (2876)، وغيرهما.
وقوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} .
نعتٌ لِمُسْتَحِقّي جنات الخلد والنعيم المقيم، إنهم المؤمنون على منهاج النبوة، أهل العمل الصالح والمسابقة في الخيرات.
وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} .
نَعْتٌ لِمُسْتَحِقّي صلي الجحيم والعذاب المهين، إنهم الذين كفروا بالوحي وكذبوا النبوة، فإن جَزاء الاستكبار عن الإيمان بالله وحده ومتابعة الرسل هو نار جهنم.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56].
2 -
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
وفي جامع الترمذي بسند حسن عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثالَ الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، يُساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يُسْقون من عُصارة أهل النار، طينةِ الخبال](1).
58 -
60. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)}.
في هذه الآيات: ثناءُ الله تعالى على المهاجرين والمجاهدين ووعدهم الرزق الحسن وخير المنازل إذا قضوا في سبيل الله والله خير الرازقين. ووعدٌ لِمَنْ بُغِي عليه من المؤمنين فأخرجوا من ديارهم بانتصار الله لهم من المشركين الظالمين.
(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي وأحمد. انظر صحيح سنن الترمذي (2025)، وتخريج المشكاة (5112)، وصحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (7896).
فيه أجر مفارقة العشائر والأوطان، والأهلين والخلّان، لإعلاء كلمة الحق ودين الرحمن، ولو كان ثمن ذلك الأرواح والأبدان.
قال النسفي: ({وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} خرجوا من أوطانهم مجاهدين {ثُمَّ قُتِلُوا} في الجهاد {أَوْ مَاتُوا} حتف أنفهم {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} قيل الرزق الحسن الذي لا ينقطع أبدًا).
وقد حفلت السنة العطرة بآفاق هذا الرزق الحسن في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [تَكَفَّلَ الله لِمَنْ جَاهَدَ في سبيله، لا يُخْرِجُهُ إلا الجهادُ في سبيله وتصديقُ كَلِماتِه، بأنْ يُدْخِلهُ الجَنَّةَ أو يرجِعَهُ إلى مَسْكَنِهِ الذي خرجَ منه مع ما نالَ من أجْرٍ أو غنيمة](1).
الحديث الثاني: أخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [انتدب الله لِمَنْ خرجَ في سبيله لا يُخْرجُه إلا إيمانٌ بي وتصديق بُرِسُلي أنْ أَرْجِعَهُ بما نالَ مِنْ أَجْرٍ أو غنيمة أو أدخِلَهُ الجنة، ولولا أَنْ أَشقَّ على أمتي ما قَعَدْتُ خَلْفَ سَريّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أني أقتل في سبيل الله، ثم أُحْيَا، ثم اقْتَلُ ثم أُحْيَا ثم أقتلُ](2).
الحديث الثالث: أخرج أبو داود بسند صحيح عن أبي أمامة الباهلي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[ثلاثة كُلُّهم ضامِن على الله عز وجل، رجلٌ خرج غازيًا في سبيل الله، فهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة، أو يرده بما نال من أجر وغنيمة، ورجل راح إلى المسجد فهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة، ورجل دخل بيته بسلام فهو ضامن على الله عز وجل](3).
وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} .
قال ابن جرير: (يقول: وإن الله لهو خير من بسط فضله على أهل طاعته وأكرمهم).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (7457)، كتاب التوحيد، ورواه مسلم وغيره.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (36)، كتاب الإيمان، باب: الجهادُ من الإيمان. وانظر الحديث (2787)، ) (2797، (7227) منه.
(3)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2494)، كتاب الجهاد، وانظر صحيح سنن أبي داود (2178).
وقال النسفي: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} لأنه المخترع للخلق بلا مثال، المتكفل للرزق بلا ملال).
يروي ابن جرير في التفسير، وكذلك ابن أبي حاتم -واللفظ له- قال:(حَدّثنا أبو زُرْعةَ، حدثنا زيد بن بِشْر، أخبرني همَامٌ، أنه سمع أبا قبيل وربيعةَ بنَ سَيْفٍ المَعَافِرِيَّ يقولان: كنا بِرودِسَ، ومعنا فَضالةُ بن عُبَيد الأنصاري صاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَمُرَّ بجنازتين، إحداهما قتيل والأُخرى مُتَوفّى، فمال الناسُ على القتيل، فقال فَضالة: ما لي أرى الناسَ مالُوا معَ هذا وتركوا هذا؟ ! فقالوا: هذا قتيلٌ في سبيل الله تعالى. فقال: والله ما أُبالي من أيِّ حُفْرتَيْهما بُعِثْتُ، اسمعوا كتاب الله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}).
وقوله: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} - أي الجنان. وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} . قال ابن عباس: (عليم بنياتهم، حليم عن عقابهم).
وقوله: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} .
وعدٌ من الله تعالى المؤمنين بالنصر على المشركين الذين بغوا عليهم فأخرجوهم من ديارهم.
قال القرطبي: ({ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} أي بالكلام والإزعاج من وطنه، وذلك أن المشركين كذّبوا نَبيَّهم وآذَوا مَنْ آمن به وأخرجوه وأخرجوهم من مكة، وظاهروا على إخراجهم {لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} أي لينصرنَّ الله محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإن الكفار بغوا عليهم).
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} .
أي: إنه تعالى ذو عفو وصفح عمن انتصر من ظالمه، غفور لما صَدَر من انتصاره مِمَّن ظَلَمه مثل ما فُعِل به من الظلم.
61 -
62. قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ
النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)}.
في هذه الآيات: رَبْطُ نصر الله الغائب الموعود، بقدرته في هذا الكون المشهود، والله هو الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال، سبحانه هو السميع البصير العلي الكبير.
فقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} .
أي: ذلك النصر للمظلوم ممن بغى عليه هو بعض ما يجريه الله تعالى في هذا الكون من التدبير، فهو القادر على كل شيء، ومن آيات قدرته إيلاج الليل في النهار، والنهار في الليل: أي إدخاله مِنْ هذا في هذا، ومِنْ هذا في هذا، فتارة يطولُ الليل ويقصر النهار كما هو في الشتاء، وتارة يطولُ النهار ويقصر الليل كما هو في الصيف، ذلك بأنه خالق الليل والنهار ومصرفهما.
وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} .
قال النسفي: (فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر والبغي والإنصاف، وأنه سميع لما يقولون ولا يشغله سمع عن سمع، وإن اختلفت في النهار الأصوات بفنون اللغات، بصير بما يفعلون ولا يستتر عنه شيء بشيء في الليالي، وإن توالت الظلمات).
وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} . أي: الإله الحق الذي لا تصلح العبادة إلا له، ولا ينبغي التعظيم إلا إليه، فهو الخالق الواحد الأحد المهيمن القهار.
وقوله: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} .
أي: إنَّ كل ما عُبِدَ مِنْ غير الله باطل، من الأصنام والأوثان والطواغيت والشياطين.
وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} .
قال ابن جرير: ({الْعَلِيُّ} ذو العلوّ على كل شيء، هو فوق كل شيء، وكل شيء دونه. {الْكَبِيرُ} يعني العظيم، الذي كل شيء دونه، ولا شيء أعظم منه).
وفي التنزيل من أدلة العلو:
1 -
قال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا
يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 49 - 50].
2 -
وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 15].
3 -
وقال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4].
ومن صحيح السنة العطرة في ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري عن أنس: أن زينب بنت جحش كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: [زَوَّجَكُنَّ أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات].
وفي لفظ: [إن الله أنكحني في السماء].
وفي رواية: [زوجنيك الرحمن من فوق عرشه](1).
الحديث الثاني: خَرَّجَ مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ألا تأمنوني وأنا أمين مَنْ في السماء؟ يأتيني خبر السماء صباحًا ومساءً](2).
الحديث الثالث: أخرج الحاكم بسند صحيح عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اتقوا دعوة المظلوم، فإنها تصعد إلى الله كأنها شرارة](3).
وأما {الْكَبِيرُ} : فهو الموصوف بالجلال وكبر الشأن:
1 -
قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 9].
2 -
وقال تعالى: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12].
فالله تعالى هو الكبير لأنه أكبر من كل شيء، والمتعال: لأنه علا كل شيء وقهره وأحاط بكل شيء علمًا، فهو الذي خضعت له الرقاب ودان له العباد طوعًا وكرهًا.
63 -
66. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في "التوحيد"، والترمذي (2/ 210)، وأحمد (3/ 226).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري ومسلم في أثناء حديث طويل. انظر مختصر صحيح مسلم -حديث رقم- (514) ص (140).
(3)
حديث صحيح. أخرجه الحاكم (1/ 29)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (871).
اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)}.
في هذه الآيات: إخبارُ الله تعالى عن عجائب آياته في هذا الكون، من إنزاله الماء واخضرار الزرع، وتسخيره ما في الأرض والفلك تجري في البحر، وحمله السماء أن تقع على الأرض وإحياؤه الموتى، ولكن الإنسان كفور.
فقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} .
دلالة جديدة على قدرة الله وعظيم سلطانه، فهو الذي يرسل الرياح فتثير سحابًا، فينزل الماء على الأرض اليابسة الممحلة فتصبح خضراء عُقيب المطر قد أخرجت نباتها بإذن ربها.
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} [الزمر: 21].
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} . أي: لطيف باستخراج النبات من الأرض، خبير بحاجة العباد وفاقتهم.
قال ابن عباس: ({خَبِيرٌ} بما ينطوي عليه العبد من القنوط عند تأخير المطر. {لَطِيفٌ} بأرزاق عباده).
وقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} . قال القرطبي: (خلقًا وملكًا، وكلٌّ محتاج إلى تدبيره وإتقانه).
وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} . أي: الغني في كل شيء، المحمود على كل حال.
وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} .
ذِكْرٌ لنعمة أخرى مما امتن الله به على عباده، فقد سخّر لعباده ما يحتاجون إليه من الدواب والشجر والأنهار وغير ذلك.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: [خلق الله
التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبثَّ فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة، في آخر الخلق، في آخر ساعةٍ من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل] (1).
وقوله: {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} .
أي: وكذلك سَخَّرَ لكم الفلك تجري في البحر بأمره، ولكم من جَرْيها منافع كثيرة، في النقل والتجارة والأسفار.
وقوله: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} - هو كقوله تعالى: ({إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41].
قال ابن كثير: (أي: لو شاء لأذن للسماء فسقطت على الأرض، فَهَلك مَنْ فيها، ولكن من لُطْفِهِ ورحمته وقدرته، يُمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه).
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} .
أي: إنه تعالى رحيم بعباده رغم ذنوبهم وظلمهم، فكل ما سبق بعض أفضاله وآلائه فيهم: من ألوان التسخير الكثيرة، وإمساك السماوات لئلا تقع عليهم، وغير ذلك من النعم وألوان الرزق التي تدل على رأفته سبحانه بهم.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد: 6].
2 -
وقال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [النحل: 61].
وفي صحيح البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لَيْسَ أحدٌ أصْبَرَ على أذى سَمِعَه من الله، إنهم ليدعون له ولدًا، وإنه ليعافيهم ويرزقهم](2).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (2789)، كتاب صفات المنافقين. باب ابتداء الخلق، وخلق آدم عليه السلام.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (6099)، كتاب الأدب، باب الصبر في الأذى، من حديث أبي موسى. وكذلك (7378).
وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: [يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم] الحديث (1).
وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ} .
قال النسفي: ({وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ} في أرحام أمهاتكم {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء آجالكم {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} لإيصال جزائكم {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ} لجحود لما أفاض عليه من ضروب النعم، ودفع عنه من صنوف النقم، أو لا يعرف نعمة الإنشاء المبدئ للوجود، ولا الإفناء المقرب إلى الموعود، ولا الإحياء الموصل إلى المقصود؟ ! ).
67 -
69. قوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)}.
في هذه الآيات: تقريرُ الله الشرائع في كل أمة وجعل شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لجميع الشرائع قبلها. وتهديد ووعيد للذين جعلوا منهاجهم جدال المرسلين، ويوم الفصل يعلمون ما كانوا فيه يمترون.
فقوله: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} . قال ابن عباس: (يقول: عيدًا).
وقال مجاهد: (إراقة الدم بمكة). وقال قتادة: ({مَنْسَكًا}: ذبحًا وحَجًّا).
وأصل المنْسَك الموضع الذي يعتاده الإنسان ويتردّد إليه لخير أو شر، ولكنه غالبًا ما يربط بالتعبد وأعمال العبادة. ومنه مناسك الحج. قال الرازي:(و"المَنْسِك" بفتح السين وكسرها الموْضِعُ الذي تُذْبَحُ فيه النَّسَائِك، وقرئ بهما قولُه تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا}).
قلت: والراجح من سياق الآية أن المقصود أعم من الذبح، فقوله: {مَنْسَكًا هُمْ
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 17)، وأحمد (5/ 160) في أثناء حديث طويل.
نَاسِكُوهُ} أي شرعًا هم عاملون به مأمورون باتباع تفاصيله. وهذا متكرر في كل أمة مضت من الأمم، حتى ختم الله الرسالات ونسخ الشرائع بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم التي لا يُقبل اليوم غيرها.
وقوله: {فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} . قال الزجاج: (أي فلا يجادلنك). قال القرطبي: (أي لا ينازعنك أحد منهم فيما يشُرع لأمتك، فقد كانت الشرائع في كل عصر).
وقوله: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} .
أي: لا تلتفت -يا محمد- إلى جدال المشركين، وامض في دعوتك إلى التوحيد والدين الحق، فإنك أنت على الدين القويم الذي لا اعوجاج فيه.
وقوله تعالى: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} . أي: إن جادلوك بالباطل فأعرض عن مماراتهم.
قال مجاهد: {وَإِنْ جَادَلُوكَ} قال: قول أهل الشرك: أما ما ذبح الله بيمينه {فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} لنا أعمالنا ولكم أعمالكم).
والآية فيها تهديد ووعيد، فإن جدال الأنبياء والمرسلين ليس كجدال أحد من الناس.
وقوله تعالى: {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} .
قال النسفي: (هذا خطاب من الله للمؤمنين والكافرين، أي يفصل بينكم بالثواب والعقاب، ومسلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان يلقى منهم).
وقال القرطبي: (في هذه الآية أدبٌ حَسَن علّمه الله عبادَه في الرد على من جادل متَعنِّتًا ومِراء ألا يجاب ولا يُناظر ويُدفع بهذا القول الذي علّمه الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم).
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41].
2 -
3 -
وقال تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا
أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ: 24 - 26].
4 -
وقال تعالى: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الأحقاف: 8].
وفي مستدرك الحاكم بسند صحيح عن ابن سابط عن عمرو بن ميمون الأودي قال: قام فينا معاذ بن جبل فقال: يا بني أود! إني رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: [تعلمون المعادَ إلى الله، ثم إلى الجنة أو إلى النار، وإقامةٌ لا ظعن فيه، وخلودٌ لا موت، في أجسادٍ لا تموت](1).
70 -
72. قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)}.
في هذه الآيات: إخبارُ الله تعالى عن كمال علمه وقدرته وكتابته كل شيء وما هو كائن إلى الأبد، والمشركون على مدار الزمان يعبدون آلهة لا تضر ولا تنفع وينسون الواحد الأحد. وإذا تُتلى على مشركي قريش -وأمثالهم- آيات القرآن الواضحة الدلالة والحجة علت وجوههم الكراهة لما يسمعون، وجوارحهم الهمّ بالبطش بالذين يؤمنون، فقل لهم -يا محمد-: أفأنبئكم أيها المشركون بأكره إليكم من ذلك: النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير.
فقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} .
إخبار عن كمال علمه سبحانه وإحاطته بخلقه وتمام تقديره، وكتابته تفاصيل كل
(1) صحيح الإسناد. أخرجه الحاكم (1/ 83)، وله شواهد كثيرة. وانظر السلسلة الصحيحة (1668).
ذلك في اللوح المحفوظ، فلا ينفذ قضاء في هذا الكون إلا قد عَلِمَه وكَتَبَه، وأن كل شيء عليه تعالى يسير.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16].
2 -
وفي كنوز السنة العطرة من آفاق ذلك أحاديث:
الحديث الأول: خرّج الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. وكان عرشه على الماء](1).
الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد في المسند بإسناد صبحيح من حديث عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إن أول ما خلق الله القلم، ثم قال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة](2).
وفي رواية: [إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب. قال: يا رب وما أكتب؟ قال: اكتب القدر وما هو كائن إلى الأبد].
وفي لفظ: [اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة].
الحديث الثالث: أخرج الإمام مسلم في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده، عن أبي هريرة قال:[جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر. فنزلت: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 48 - 49]] (3).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 51) - في القدر باب: كتب المقادير قبل الخلق. وانظر مختصر صحيح مسلم (1841) بلفظ: (كتب الله مقادير الخلائق
…
).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (5/ 317)، والترمذي في التفسير (2/ 232)، وانظر تخريج:"مشكاة المصابيح"(94)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 806) لتفصيل البحث.
(3)
حديث صحيح. أخرجه أحمد ومسلم وبنحوه البخاري. انظر مختصر صحيح مسلم (1838).
وقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ.
إخبار عن حال المشركين على مدار الزمان، فإنهم يدعون آلهة لا تضر ولا تنفع، ولا علم لهم فيما اختلقوه وائتفكوه، وإنما هو تعظيم مسلك الآباء والأجداد بلا في ليل ولا حجة ولا برهان، ولا يليق التعظيم والكبرياء إلا بالله عز وجل.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50].
2 -
وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117].
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[قال الله تعالى: الكبرياء ردائي، والعِزُّ إزاري، فمن نازعني في شيء منهما عذّبته](1).
ورواه أحمد عنه بلفظ: [قال الله تعالى: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما قذفتُه في النار].
وقوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} . أي: من ناصر ينصرهم ويدفع عنهم ما كتب الله عليهم من الشقاء والنكال والعقاب.
أي: وإذا تتلى على مشركي قريش آيات القرآن الواضحة الدلالة والحجة تتبين في وجوههم -يا محمد- العبوس والكراهة لما يسمعون من الحق، شأن المشركين مع الوحي على مدار الزمان.
وقوله: {يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} .
قال ابن عباس: ({يَكَادُونَ يَسْطُونَ} يقول: يبطشون). أو قال: (يقعون بمن ذكرهم).
وقال مجاهد: (يكادون يقعون بهم).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 35 - 36)، والبخاري في "الأدب المفرد"(552) نحوه، ورواه أحمد باللفظ الآخر، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (540).
قال النسفي: ({يَكَادُونَ يَسْطُونَ} يبطشون، والسطو الوثب والبطش {بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} هم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه).
قال الضحاك: (يقول: أفأنبئكم أيها المشركون بأكره إليكم من هؤلاء الذين تتكرّهون قراءتهم القرآن عليكم، هي {النَّارُ}، وعدها الله الذين كفروا).
فقوله: {النَّارُ} خبر لمبتدأ محذوف تقديره هي. والمقصود: ستكون النار أغيظَ عليكم -معشر المشركين- من غيظكم من التالين الذكر، وأشد عليكم مما تجدونه من جرّاء ذلك من الضجر والكراهة، بل ستكون النار يوم القيامة مصدر تعاستكم وشقائكم، فبئست النار المستقر والمنزل والمقام لكم.
73 -
74. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)}.
في هذه الآيات: تسفيه آلهة المشركين بضرب مثل لعجزها، فهي عاجزة عن خلق ذباب واحد، وهم عاجزون عن الانتصار لها لو سلبها الذباب شيئًا، فضعف الطالب والمطلوب. إنهم لم يقدروا الله حق قدره حين أشركوا به والله هو القوي العزيز.
فقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} .
أي: ضرب مثل لسخافة وحقارة الأصنام التي يعبدها المشركون فانصتوا له وتفهّموا مغزاه. قال ابن زيد: (هذا مثل ضربه الله لآلهتهم).
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} .
أي: إن الذين تدعون وتعبدون من دون الله من الأوثان والطواغيت والسادة والشياطين وغيرهم مما يدعى ويعبد من الآلهة الباطلة لن يقدروا على خلق الذباب المعروف في صغره وضعفه ولو اجتمعوا من أجل ذلك.
قال القرطبي: (الذباب اسم واحد للذكر والأنثى، والجمع القليل أَذِبَّة والكثير ذِبّان).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال: [قال الله عز وجل: ومن أظلمُ مِمَّنْ ذهبَ يخلقُ كَخَلْقي؟ فليخلُقوا ذَرَّةً، أوْ لِيَخْلُقوا حَبَّةً أو شعيرة](1).
وفي مسند الإمام أحمد بسند حسن في الشواهد عن أبي زُرْعة عن أبي هريرة -رفع الحديث- قال: [ومن أظلم مِمَّن خَلَقَ كخلقي! فَلْيَخْلُقُوا مثلَ خَلقي ذَرّة، أو ذُبابة، أو حَبَّة](2).
وقوله: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} .
قال ابن كثير: (أي: هم عاجِزونَ عن خَلْقِ ذُبَابٍ واحدٍ، بل أبلغ من ذلك عاجزون عن مقاومته والانتصار منه، لو سَلَبَها شيئًا من الذي عليها من الطيب، ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك. هذا والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها، ولهذا قال: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}).
وعن ابن عباس: ({ضَعُفَ الطَّالِبُ} قال: آلهتهم {وَالْمَطْلُوبُ}: الذباب).
أي عجز الطالب وهو الصنم أو الآلهة الباطلة أن تستنقذ من الذباب شيئًا سلبه، كالطيب وما أشبهه، فالذباب هو المطلوب، والصنم أو الوثن هو الطالب.
وقوله: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} . قال ابن زيد: (حين يعبدون مع الله ما لا ينتصف من الذباب ولا يمتنع منه).
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} . أي: هو القوي سبحانه الذي كل شيء دونه ضعيف فقير محتاج إلى عونه وقوته، وهو العزيز الذي قد عزَّ كلَّ شيء فقَهَرَهُ وغلبه، ولا يليق الكبر إلا به سبحانه.
أخرج الإمام أحمد بسند رجاله ثقات عن أبي هريرة مرفوعًا: [قال الله عز وجل:
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (7559)، كتاب التوحيد، وكذلك (5953)، وأخرجه مسلم (2111)، وابن حبان (5859)، وأخرجه البيهقي) (7/ 268).
(2)
حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (2/ 391) ح (8839)، وسنده حسن في الشواهد.
الكبرياء ردائي، والعزة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما ألقيه في النار] (1).
ورواه أبو داود بلفظ: [قال الله عز وجل: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحِدًا مِنهما، قَذَفْتُهُ في النار](2).
75 -
78. قوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)}.
في هذه الآيات: اجتباءُ الله الرسل، وعلمه بأعمالهم وما هم قادمون عليه وبعد فنائهم، ومرد الأمور والعباد كله إلى الله. وأمْر الله تعالى عباده المؤمنين بإقامة ركوعهم وإتمام سجودهم والتذلل الكامل لربهم وفعل الخيرات لعلهم يفلحون. وأمره لهم بالجهاد في سبيل الله بأموالهم وألسنتهم وأنفسهم وبذل وسعهم في ذلك، فهو اختارهم لدينه واصطفاهم لحرب أعدائه والجهاد في سبيله، وما أراد بهم الحرج والتضييق، بل ملة أبيهم إبراهيم الذي سماهم المسلمين، ليكونوا بذلك شهداء مع نبتهم على بلاع الرسل ضد أممهم المكذبة بذلك يوم القيامة، فليقابلوا شكر هذه النعمة العظيمة بالقيام بحقها من الصلاة والزكاة وإقامة الدين وتمكين الصلة بالله نعم المولى ونعم النصير.
فقوله: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} .
إخبار منه تعالى أنه يختار من الملائكة رسلًا -كجبريل وميكائيل- يرسلهم إلى
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 248) ورجاله ثقات. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (541).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن -حديث رقم- (4090)، كتاب اللباس. باب ما جاء في الكبر. وانظر صحيح سنن أبي داود (3446).
أنبيائه ومن شاء من عباده، ويختار من الناس من شاء أنبياء يرسلهم إلى الناس لإبلاع رسالاته.
وقد حفلت السنة العطرة بذكر آفاق ذلك في أحاديث، منها:
الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد في المسند، عن أبي زُرعة عن أبي هريرة قال: أجلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى السماء، فإذا ملك ينزل، فقال له جبريل: هذا الملك ما نزل منذُ خُلقَ قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد أرسلني إليك ربك: أملكًا أجعلك أم عبدًا رسولًا؟ قال له جبريل: تواضع لربك يا محمد! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، بل عبدًا رسولًا] (1).
الحديث الثاني: أخرج أحمد وأبو يعلى والبزار بسند صحيح عن علي قال: [قال لي النبي صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر يوم بدر: مع أحدكما جبريل ومع الآخر ميكائيل، وإسرافيل ملك عظيم يشهد القتال، أو يكون في الصف](2).
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} . أي: سميع لأقوال عباده، بصير بأعمالهم وشؤونهم.
وقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} .
أي: يعلم أفعال ملائكته ورسله من قبل أن يخلقهم ومن قبل أن يرسلهم، ويعلم ما يكون مما لم يأت مما هم قادمون عليه وبعد فنائهم، ومَرَدّ الأمور والعباد كله إلى الله سبحانه.
وفي التنزيل:
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 231)، وسنده صحيح على شرط مسلم. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (1002).
(2)
إسناده صحيح. أخرجه أحمد في المسند (1/ 147)، وأبو يعلى (340). وانظر كتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 540) - لتفصيل البحث.
قال النسفي: (والذي هو بهذه الصفات لا يسأل عما يفعل، وليس لأحد أن يعترض عليه في حكمه وتدابيره واختيار رسله).
وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
أمر منه سبحانه لعباده المؤمنين بإقامة ركوعهم وإتمام سجودهم -لله تعالى- في صلاتهم، والتذلل لربهم والخضوع له بالطاعة في أعمالهم كلها، وفعل الخيرات التي يرجى من ورائها النجاح والفلاح.
وقوله: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} . أي: بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم، ابذلوا ما بوسعكم.
قال ابن عباس: (لا تخافوا في الله لومة لائم).
وبنحوه قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} . أي عظموا أمره وخافوه سبحانه حق الخوف.
وقوله: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} . قال ابن زيد: (هو هداكم).
قال ابن جرير: (يقول: هو اختاركم لدينه، واصطفاكم لحرب أعدائه، والجهاد في سبيله).
وقال ابن كثير: ({هُوَ اجْتَبَاكُمْ}. أي: يا هذه الأمة، الله اصطفاكم واختاركم على سائر الأمم، وفضّلكم وشرَّفكم وخَصَّكم بأكرم رسول، وأكملِ شرع).
وفي التنزيل:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ما مِنَ الأنبياء نبيٌّ إلا أُعطي من الآيات ما مِثْلُهُ آمَنَ عليه البَشَرُ، وإنما كان الذي أوتيتُهُ وَحْيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكونَ أكثرهم تابعًا يومَ القيامة](1).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4981)، كتاب فضائل القرآن، وانظر (7274)، ورواه مسلم.
وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} .
قال ابن عباس: (الحرج: الضيق، فجعل الله الكفارات مَخْرجًا من ذلك).
وقال أبو العالية: (إن الله لم يضيق عليكم، لم يجعل عليكم في الدين من حرج).
وقال الضحاك: (جعل الدين واسعًا، ولم يجعله ضيقًا).
قلت: ويشمل هذا على ما رخّصَ الله لعباده في حالات الحرج من مرض أو ضيق أو عجز أو بعض ما يكون من ذلك في الحضر والسفر.
وأمثلة ذلك كثيرة: في الاستنجاء والوضوء أو التيمّم والصلاة وما يكون في السفر من قصر وجمع، وكذلك جمع في الحضر حالة الضيق أو الحرج، وفي الصيام والحج وبعض أنواع البيوع والمعاملات والتي تدل بمجموعها على مرونة هذا الدين واستيعابه لكل أحوال العباد.
ومن أحاديث السنة العطرة في ذلك:
الحديث الأول: روى النسائي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار فَلْيَسْتَطِبْ بها فإنها تجزئ عنه](1).
الحديث الثاني: أخرج الترمذي والنسائي بسند حسن عن صفوان قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرًا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم](2).
الحديث الثالث: أخرج مسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس قال: [جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر](3).
قيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: (أراد أن لا يحرج أمته).
الحديث الرابع: أخرج النسائي والطبراني بسند حسن عن ابن عمر قال: قال
(1) حديث صحيح. أخرجه النسائي (1/ 42)، وأبو داود (40/ 61/ 1)، وانظر صحيح النسائي (43).
(2)
حديث حسن. أخرجه الترمذي (96/ 65/ 1)، والنسائي (1/ 84)، وسنده حسن.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (705/ 489/ 1)، والنسائي في السنن (1/ 290)، وأخرجه كذلك أبو داود في السنن (1198/ 77/ 4).
رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا حضر أحدكم الأمر يخشى فوته فليصل هذه الصلاة. (يعني الجمع بين الصلاتين)](1).
الحديث الخامس: أخرج أبو داود بسند صحيح عن أسامةَ بن شريك قال: [خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم حاجًا، فكان الناس يأتونه، فَمَنْ قال: يا رسول الله سعيت قبل أن أطوفَ أو قدّمت شيئًا أو أخّرت شيئًا فكان يقول: لا حرَجَ لا حرجَ] الحديث (2).
الحديث السادس: أخرج أبو داود بسند صحيح عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعَرْج يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحر](3).
الحديث السابع: أخرج الإمام مسلم عن عائشة قالت: [دَخَلَتْ هندُ بنتُ عُتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النَّفَقَةِ ما يكفيني ويكفي بَنيَّ إلا ما أخذتُ من ماله بغير علمه، فهل عليَّ في ذلك مِنْ جُناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك](4).
إلى غير ذلك من المرونة العالية في منهاج الفقه الإسلامي المستنبط من سيرته العطرة - صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} . قال الزجاج: (المعنى اتبعوا ملة أبيكم). وقال الفرّاء: (انتصب على تقدير حذف الكاف، كأنه قال كمِلّة). وبنحوه أفاد ابن جرير حيث قال: (نصب {مِلَّةَ} بمعنى: وما جعل عليكم في الدين من حرج، بل وسّعه، كملّة أبيكم، فلما لم يجعل فيها الكاف اتصلت بالفعل الذي قبلها فنصبت، وقد يحتمل نصبها أن تكون على وجه الأمر بها، لأن الكلام قبله أمر، فكأنه قيل: اركعوا واسجدوا، والزموا ملة أبيكم إبراهيم).
(1) حديث حسن. أخرجه النسائي (1/ 98)، والطبراني في "الكبير"(3/ 194 - 2/ 1)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1370).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2014)، كتاب المناسك، وسنده صحيح.
(3)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (2348). وانظر صحيح سنن أبي داود (2072).
والعَرْج: قرية على أيام من المدينة.
(4)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه -حديث رقم- (1714)، كتاب الأقضية. وانظر تفصيل ذلك في كتابي: السيرة النبوية (3/ 1301 - 1320).
وقال النسفي: (أي اتبعوا ملة أبيكم، أو نصب على الاختصاص، أي: أعني بالدين ملة أبيكم).
وقوله: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} - فيه تأويلان محتملان:
1 -
قال ابن عباس: (يقول: الله سماكم المسلمين من قبل). وقال مجاهد: (الله سماكم).
2 -
قال ابن زيد: ({هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ}، يعني إبراهيم، وذلك لقوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128]).
واختار الأول ابن جرير رحمه الله، وإن كان التأويل الثاني سالكًا بإعادة الضمير إلى إبراهيم.
ويمكن أن يقال: الله تعالى سمانا المسلمين -كما جاء في النص الآتي من حديث الحارث الأشعري- وكذلك صدر ذلك في كلام ودعاء إبراهيم، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وقوله: {وَفِي هَذَا} - يعني القرآن.
قال مجاهد: (الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة، وفي الذكر).
وفي مسند أحمد وسنن الترمذي والنسائي بسند صحبح من حديث الحارث الأشعري مرفوعًا: [ومن دعا بدعوةِ الجاهلية فهو مِنْ جُثاء جهنم، وإن صامَ وصلى وزعمَ أنه مسلم، فادعوا بدعوة اللهِ التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عبادَ الله](1).
وفي رواية: [ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جُثاء جهنم. قالوا: يا رسول الله وإن صلى وصام؟ فقال: وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائهم التي سمّاهم الله عز وجل: المسلمين المؤمنين، عباد الله].
وقوله: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} .
قال مجاهد: ({مِنْ قَبْلُ} قال: في الكتب كلها والذكر {وَوَفِي هَذَا} يعني القرآن، وقوله:{لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} يقول تعالى ذكره اجتباكم الله وسماكم أيها المؤمنون بالله وآياته، من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مسلمين، ليكون محمد
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 202)، والترمذي (2867)، (2868) في الأمثال، وأخرجه النسائي عِند تفسير هذه الآية، ورواه ابن حبان والحاكم. انظر فتح المجيد (494 - 495).
رسول الله شهيدًا عليكم يوم القيامة، بأنه قد بلغكم ما أرسل به إليكم، وتكونوا أنتم شهداء حينئذٍ على الرسل أجمعين، أنهم قد بلّغوا أممهم ما أرسلوا به إليهم).
قلت: وهذا المعنى قد ورد في القرآن وصحيح السنة.
ففي التنزيل:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
ومن كنوز السنة العطرة:
الحديث الأول. أخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما في خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أيام التشريق- قال: [ألا إن الله حرّم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد ثلاثًا](1).
وله شاهد في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم عرفة: ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. وفي لفظ: (وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلّغت وأدّيت ونصحت)].
الحديث الثاني: أخرج البخاري في صحيحه، وأحمد في مسنده عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يجيء نوحٌ وأمَّتُه، فيقول الله: هل بلَّغت؟ فيقول: نعم، أي ربِّ! فيقول لأمته: هَلْ بلَّغكم؟ فيقولون: لا، ما جاء لنا من نبيّ؟ فيقول لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمدٌ وأمته، وهو قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} والوسط: العدل، فَيُدْعَون، فيشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم](2).
الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد في المسند والنسائي وابن ماجة في السنن، بسند صحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل، والنبيُّ ومعه الرجلان، والنبيّ ومعه الثلاثة، وأكثر من ذلك، فَيُقال
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4402)، كتاب المغازي، باب حجة الوداع. وانظر للشاهد بعده مختصر صحيح مسلم -حديث رقم- (707) ص (188).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (6/ 286)، (8/ 139)، وأحمد (3/ 32)، وغيرهما.
له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فَيُدْعى دومه، فيقال لهم: هل بلَّغَكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال له: من يشهدُ لك؟ فيقول: محمدٌ وأمته، فيدعى محمدٌ وأمتُه، فَيقالُ لهم: هل بلَّغَ هذا قومه؟ فيقولون: نعم، فيقال: وما عِلْمُكُم بذلك؟ فيقولون: جاءنا نبيُّنا، فأخبرنا أن الرسل قد بَلَّغوا فصدَّقناه، فذلك قوله:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ] (1).
وقوله: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} . أي: فأقيموا الإسلام في حياتكم، وأخصُّ ذلك صلاتكم وزكاتكم. قال ابن كثير:(أي: قابلوا هذه النعمةَ العظيمة بالقيام بِشُكْرِها، وأدّوا حَقَّ الله عليكم في أداء ما افترض، وطاعةِ ما أوجَبَ، وتَرْكِ ما حَرَّم. ومن أهمِّ ذلك إقامُ الصلاة وإيتاء الزكاة، وهو الإحسان إلى خلقِ الله بما أوجبَ للفقير على الغني، من إخراجِ جُزْءٍ نَزْرٍ من ماله في السَّنة للضعفاء والمحاويج).
وقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ} . قال ابن جرير: (يقول: وثقوا بالله، وتوكلوا عليه في أموركم).
وقوله: {هُوَ مَوْلَاكُمْ} . أي: حافظكم ومؤيدكم ومعينكم وناصركم على أعدائكم.
وقوله: {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} . أي: فنعم الولي ونعم الناصر المعين.
وفي المعجم "الأوسط" للطبراني بسند حسن، من حديث أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:[يا وليَّ الإسلام وأهله، مسِّكني بالإسلام حتى ألقاك](2).
تم تفسير سورة الحج بعون الله وتوفيقه، وواسع منِّه وكرمه
(1) حديث صحيح. انظر مسند أحمد (3/ 32)، وصحيح البخاري (6/ 286)، وصحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (7889).
(2)
حديث حسن. رواه الطبراني في "الأوسط" ورجاله ثقات. انظر: "مجمع الزوائد"(10/ 186)، وكذلك سلسلة الأحاديث الصحيحة (1476).