المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ منهاج السورة - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٥

[مأمون حموش]

فهرس الكتاب

- ‌20 - سورة طه

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌ دروس ونتائج وأحكام

- ‌21 - سورة الأنبياء

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌22 - سورة الحج

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌23 - سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌24 - سُوْرَةُ النَّوُرِ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام:

- ‌1 - الولاء والبراء هو محور منهج الإيمان عند المسلمين:

- ‌2 - بشرية الرسول وعدم علمه بالغيب:

- ‌3 - براءة عائشة إلى يوم القيامة:

- ‌4 - الأصل في المؤمنين الظن بأنفسهم خيرًا:

- ‌5 - تمحيص الله لقلوب المؤمنين بالابتلاء وتأخر الوحي:

- ‌6 - ثبوت إقامة الحد على القاذفين:

- ‌7 - مشروعية الإقراع بين النساء في السفر وجواز خروجهن للغزو ومشاركتهن بذلك:

- ‌آداب الاستئذان:

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌25 - سورة الفرقان

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌26 - سُورَةُ الشُّعَراءِ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌27 - سُورَةُ النَّمْلِ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌28 - سُورَةُ القصَصِ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌29 - سورة العنكبوت

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

الفصل: ‌ منهاج السورة

‌28 - سُورَةُ القصَصِ

وهي سورة في غالبها مكية، وعدد آياتها (88)

روى أحمد في المسند بسند رجاله ثقات عن معد يكرب قال: [أتينا عبد الله فسألناه أن يقرأ علينا {طسم} المئتين، فقال: ما هي معي، ولكن عليكُم مَنْ أخذَها من رسول الله صلى الله عليه وسلم: خَبَّابُ بن الأرت. قال: فأتينا خَبَّابَ بن الأرتِّ، فقرأها علينا، رضي الله عنه](1).

‌موضوع السورة

تقرير الله تعالى بالقصص الحق

سنته في نصر المؤمنين وإهلاك الكافرين

-‌

‌ منهاج السورة

-

1 -

انتصار الله للقرآن، وخبر موسى عليه السلام، مع الطاغية فرعون أمكر اللئام.

2 -

تقريرُ الله تعالى جعل الغلبة والقوة للمستضعفين المؤمنين، ليكونوا هم الوارثين، وليري الطغاة منهم ما كانوا يحذرون.

(1) رجاله ثقات. أخرجه أحمد (3980)، والطبراني (3614)، وقال الهيثمي في "المجمع" (7/ 84): ورجاله ثقات. وأورده الحافظ ابن كثير في مقدمة هذه السورة.

ص: 587

3 -

قصة إرضاع موسى، والتقاط آل فرعون التابوت، ليربى موسى في بيت الطاغية بإذن الله الذي يمكر بالمجرمين من حيث لا يشعرون.

4 -

تثبيت الله تعالى أم موسى، وتحريمه المراضع حتى أرجعهُ سبحانه إلى أمه.

5 -

رعايةُ الله موسى، وإعطاؤه العلم والحكمة، ودخول موسى المدينة ووقوفه جانب الرجل من شيعته، وشعور موسى بالخوف من تبعة قتله القبطي، واستصراخ الرجل به ثانية، والنصيحة لهُ بالخروج وتوجهه إلى مدين.

6 -

قصة موسى والمرأتين وسقايتهُ لهما، ودعوة والد الفتاتين له وتزويجه إحداهما.

7 -

انقضاء المدة في خدمةِ موسى والد زوجته، ومسيره إلى مصر وتكليم الله له، وإظهار الآيات له لتعينه في مهمته إلى فرعون، وشُدَّ عضده بأخيه.

8 -

جحود فرعون وقومه الآيات، وإهلاك الله فرعون والطغاة، ولعنهم في الدنيا والآخرة.

9 -

إنزال التوراة، وإهلاك فرعون، أخبار تصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

10 -

مطالبة المشركين بالآيات والمعجزات، وكفرهم بالوحي واتباعهم الأهواء.

11 -

مضاعفة الأجر لمؤمني أهل الكتاب، آمنوا بنبيهم ثم آمنوا بمحمد، - عليه وعلى الأنبياء والرسل الصلاة والسلام -.

12 -

أمر الهداية لله، والحرم الآمنُ نعمة الله على قريش، وإهلاك القرى الظالم أهلها سنة الله في العالمين.

13 -

بهجة الدنيا وزينتها إلى فناء، والدار الآخرة هي الحيوان لو كانوا يعلمون، والمجرمون يساقون يوم القيامةِ ليكونوا من المحضرين، ويقال لهم ماذا أجبتم المرسلين، فعميت عليهم الأنباء ولم ينجُ إلا من كان من المؤمنين التائبين.

14 -

كمال علم الله تعالى ونفاذ مشيئته، فهو الحَكمُ وله الحُكْمُ وإليهِ ترجعون.

15 -

امتنان الله تعالى على عباده نعمة تقليب الليل والنهار ولعلهم يشكرون.

16 -

إثبات خزي المشركين يوم يناديهم ربهم تبارك وتعالى ليخرجوا شركاءه الذين كانوا يزعمون. وخروج الرسول من كل أمة ليشهد عليها وضل عن المشركين ما كانوا يفترون.

ص: 588

17 -

قصة قارون وغروره، واستخدامه الأموال للفساد، وخسف الله به الأرض، وجعله عبرة لمن يعتبر.

18 -

تكريمُ الله المؤمنين في الجنة لقيامهم على منهاج النبوة، ومحاربتهم الفساد والطغاة في الأرض، وتضاعف الحسنات لهم.

19 -

إثبات المعاد إلى الله ليجزي نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم أجر المجاهدين الصابرين، والله تعالى هو أعلمُ بالمهتدين.

20 -

هذا القرآنُ نعمة الله الكبرى على النبي والمؤمنين، وفيه الهدى وبه الثبات على الحق إلى يوم الدين.

* * *

ص: 589

بسم الله الرحمن الرحيم

1 -

6. قوله تعالى: {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)}.

في هذه الآيات: انتصارٌ من الله تعالى لهذا الكتاب المبين، فيه خبر موسى عليه السلام مع فرعون الطاغية الذي كان من المفسدين، وفيه تأكيدُ إرادته سبحانه تمكين المستضعفين في الأرض من المؤمنين، لِيُرِيَ الطغاة منهم ما كانوا يحذرون.

فقوله تعالى: {طسم} . شأن الحروف المقطعة أوائل جميع السور تفيد الإعجاز وتحدي الثقلين أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو سورة منه، مع أنه مركب من مثل هذه الأحرف التي يتخاطب العرب بها.

وقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} . انتصار لهذا القرآن العظيم، الواضح في آياته، الكاشف عن العلوم العالية التي فيها سرّ السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة. قال قتادة:({مبين} يعني مبين والله بركته ورشده وهداه).

وقوله تعالى: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .

أي: نقرأ عليكَ - يا محمد - ونقص في هذا القرآن من خبر موسى عليه السلام مع الطاغية فرعون، ليفيد بذلكَ أهل الإيمان باللهِ وسننه وأيامه.

قال قتادة: (يقول: في هذا القرآن نبؤهم).

ص: 590

وقوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} . قال السدي: (يقول: تجبر في الأرض). وقال قتادة: (بغى في الأرض).

وقوله: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} . قال مجاهد: (فِرقًا). وقال: (فَرَّقَ بينهم). قال ابن زيد: (الشيع: الفِرَق).

والمقصود: قَسّمهم طوائف وأصنافًا ليستعملهم في أمور دولته وخدمة مصالحه.

وقوله: {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} .

قال قتادة: (يستعبد طائفة منهم، ويذبح طائفة، ويقتل طائفة، ويستحي طائفة).

قال ابن كثير: ({يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ}، يعني بني إسرائيل. وكانوا في ذلكَ الوقت خيارَ أهل زَمانِهم. هذا وقد سُلِّطَ عليهم هذا الملكُ الجبَّار العَنيد يَسْتَعْمِلهم في أخَسِّ الأعمال، ويَكُدُّهم ليلًا ونهارًا في أشغاله وأشغال رَعيَّتِهِ، ويقتلُ مع هذا أبناءهم ويَسْتَحيى نِساءَهم، إهانةً لهم واحتقارًا، وخَوْفًا مِنْ أَنْ يُوجَدَ منهم الغلامُ الذي كان قد تخوَّفَ هو وأهلُ مَمْلَكَتِهِ مِنْ أَنْ يُوجَد منهم غلامٌ يكونُ سَبَبُ هَلاكِهِ وذهابُ دولتِهِ على يديهِ. وكانت القِبطُ قد تَلَقَّوا هذا من بني إسرائيل فيما كانوا يَدْرُسُونه من قولِ إبراهيم الخليل، حينَ ورَدَ الديار المصريَّة، وجَرَى لهُ مَع جَبَّارها ما جَرى، حين أخَذَ سارَة ليَتَّخِذَها جاريةً، فصَانَها الله منه، ومَنَعها منه بقدرته وسُلْطانِهِ. فبشَّر إبراهيم عليه السلام ولَده أنه سَيُولَدُ مِنْ صُلْبِهِ وَذُرِّيَتِهِ مَنْ يكون هلاك مَلِكِ مِصرَ على يديهِ، فكانتِ القبطُ تتحدَّثُ بهذا عند فِرْعَونَ، فاحترز فِرعونُ مِنْ ذلكَ، وأَمر بِقَتْل ذُكورِ بني إسرائيل. ولن ينفعَ حَذَرٌ من قَدَر، لأنَّ أجل الله إذا جاء لا يُؤخَّرُ، ولكل أَجَلٍ كتابٌ).

وقوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} . أي: ونريد أن نتفضل على المؤمنين الذين استضعفوا من بني إسرائيل ونحدث الشوكة لهم.

قال قتادة: (بنو إسرائيل {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} أي: ولاة الأمر {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}: أي: يرثون الأرض بعد فرعون وقومه).

وقوله: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} . قال ابن جرير: (يقول: ونوطئ لهم في أرض الشام ومصر).

ص: 591

وقوله: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} .

قال النسفي: (أي يرون منهم ما حذروه من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137].

2 -

وقال تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان: 25 - 28].

3 -

وقال تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 57 - 59].

قلت: وهذه الآيات الكريمة تحمل بشائر النصر والظفر لطائفة الحق والإيمان على مدار الزمان، وتحملُ الويل والدمار وبشائر الهلاك للطغاة والعتاة الذين يستهزئون بالحق ويكيدونَ لدين الله وأوليائه.

7 -

9. قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)}.

في هذه الآيات: وَحْيُ الله تعالى إلى أم موسى إرضاعهُ ثم إلقاءه في البحر ليرجع إليها بإذن الله وليكون من المرسلين. والتقاط آل فرعون التابوت ليربى موسى في بيت فرعون بإذن الله وهم لا يشعرون.

فعن قتادة: ({وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} وحيًا جاءها من الله، فقذف في قلبها، وليس

ص: 592

بوحي نبوة أن أرضعي موسى {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي} الآية).

وعن السدي قال: (أمر فرعون أن يذبح مَنْ وُلدَ مِنْ بني إسرائيل سنة، ويتركوا سنة، فلما كان في السنة التي يذبحون فيها حملت بموسى، فلما أرادت وضعه، حزنت من شأنهِ، فأوحى اللهُ إليها، أن أرضعيهِ فإذا خفتِ عليه فألقيهِ في اليم).

وفي التفاسير أن فرعون لما أكثر من قتلِ ذكور بني إسرائيل خافت القِبْطُ أن يُفني بني إسرائيل فيتحملون هم الأعمال الشاقة، فألمحوا لفرعون ذلكَ، فأمر بقتل الولدان عامًا وتركهم عامًا، فوُلدَ هارون عليه السلام في السنة التي يتركون فيها، ووُلدَ موسى عليه السلام في السنة التي يقتلون فيها الولدان. وكانت دار أمه على حافة النيل، فاتخذت تابوتًا ومَهَدَتْ فيهِ مهدًا، وجعلت ترضِعُ ولدها، فإذا دخل عليها من تخافه جعلته في ذلكَ التابوت وسَيَّرته في البحر، وربطته بحبل عندها.

فنسيت يومًا ربطهُ فذهب مع الماء حتى مرَّ بدارِ فرعون فاحتملته الجواري إلى امرأةِ فرعون، وألقى اللهُ عليهِ محبةً فأقنعت زوجها أنه قرة عين، وكان لم يولد لها ولدٌ منه.

وعن السدي: ({فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} قال: هو البحر، وهو النيل).

وقوله: {وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي} . قال ابن زيد: (لا تخافي عليه البحر، ولا تحزني لفراقهِ {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ}).

قال ابن جرير: (يقول: لا تخافي على ولدك من فرعون وجنده أن يقتلوه، ولا تحزني لفراقه).

وقوله: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} . أي: لتكوني أنت ترضعيه.

وقوله: {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} . قال ابن إسحاق: (وباعثوه رسولًا إلى هذا الطاغية، وجاعلو هلاكه ونجاة بني إسرائيل مما هم فيه من البلاء على يديه).

وقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} . أي: ليقضي الله بالتقاطهم ما كتب عليهم من الخزي. قال القرطبي: (لما كان التقاطهم إياهُ يؤدي إلى كونه لهم عدوًا وحزنًا، {لِيَكُونَ} لام العاقبة ولام الصيرورة)(1).

قال ابن كثير: (ولكن إذا نظر إلى معنى السياق فإنه تبقى اللام للتعليل، لأن معناهُ

(1) وكذلكَ قال محمد بن إسحاق: (اللام هنا لام العاقبة لا لام التعليل).

ص: 593

أن الله - تعالى - قيَّضَهم لالتقاطهِ ليجعلهُ لهم عدوًا وحزنًا فيكون أبلغ في إبطال حذرهم منه).

وقوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} . أي: كانوا بربهم آثمين.

قال النسفي: (أي كانوا مذنبين فعاقبهم الله بأن ربى عدوهم ومن هو سبب هلاكهم على أيديهم).

وقوله: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} .

قال قتادة: (ألقيتْ عليه رحمتها حين أبصرته).

والمقصود: أن آسية بنت مزاحم - امرأة فرعون - شرعت تحبب الطفل إلى زوجها فرعون لئلا يفكر بقتلهِ وذبحه، فقالت له: هو قرةُ عينٍ لي ولك، وربما انتفعنا باتخاذهِ ولدًا حيث ليس لنا ولد.

وقوله: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} . قال قتادة ة (وهم لا يشعرون أن هلكتهم على يديهِ، وفي زمانه). وقال ابن إسحاق: (يقول الله: وهم لا يشعرون أي بما هو كائن بما أراد الله به).

10 -

13. قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)}.

في هذه الآيات: تثبيتُ الله تعالى أم موسى وإنزال الصبر والطمأنينة على قلبها لتكون من المؤمنين. وتحريمُ الله المراضع عليهِ حتى عملوا بنصيحةِ أُختهِ برده إلى أمِّه وهم لا يشعرون.

ص: 594

فقوله: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} .

قال ابن عباس: (فارغًا من كل شيءٍ إلا من همّ موسى). قال: (لا تذكرُ إلا موسى). وقال مجاهد: {فَارِغًا} من كل شيءٍ غير ذكر موسى).

وقوله: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} قال قتادة: (أي لتبدي به أنه ابنها من شدةِ وجدها). والمقصود: أي: إن كادت من شدة حزنها وأسفها لتظهر أنه ذهبَ لها ولد، وتعلنَ بحالها، لولا تثبيت الله لها وتصبيرها.

وهو قوله: {لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .

قال القاسمي: (أي: لولا أن ألهمناها الصبر. ومعنى {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} من المصدقين بوعد الله).

وقوله: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} . قال مجاهد: (اتبعي أثره كيف يصنع به).

أي: أمرت أم موسى ابنتها - وكانت كبيرة تعي ما يجري حولها - أن تتبع أثر ابنها في نواحي البلد. وفي لغة العرب: قصصت آثار القوم: إذا اتبعتُ آثارهم.

وقوله: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} . قال ابن عباس: (عن جانب). وقال مجاهد: (عن بُعد). وقال قتادة: (يقول: بصرت به وهي محاذيته لم تأته). وقال: (جعلت تنظر إليه وكأنها لا تُريد).

قال ابن كثير: (وذلك أنه لما استقرّ موسى عليه السلام بدار فِرعون، وأَحَبَّتْهُ امرأةُ الملك، واستطلقته منه، عَرَضوا عليهِ المراضعَ التي في دارهم، فلم يقبل منها ثَدْيًا، وأبى أن يقبلَ شيئًا من ذلكَ. فخرجوا به إلى السوق لَعلَّهم يجدون امرأة تصلح لرضاعته، فلما رأته بأيديهم عرفته. ولم تُظْهِر ذلكَ ولم يشعروا بها).

وقوله: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} . قال قتادة: (أنها أخته، قال: جعلت تنظرُ إليهِ كأنها لا تُريده). وقال ابن إسحاق: (أي: لا يعرفون أنها منه بسبيل). وقال مجاهد: ({وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} قال: آل فرعون).

وقوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} . أي: تحرًا قدريًا ليمتن الله على أمه بتسكين نفسها وتطمين قلبها حين لا يقبل إلا ثديها. قال مجاهد: (لا يقبل ثدي امرأةٍ حتى يرجعَ إلى أمه).

قال السدي: (أرادوا له المرضعات، فلم يأخذ من أحد من النساء، وجعل النساء

ص: 595

يطلبن ذلكَ لينزلن عند فرعون في الرضاع، فأبى أن يأخذ).

وقوله: {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} .

قال النسفي: ({فَقَالَتْ} أخته وقد دخلت يبن المراضع ورأته لا يقبل ثديًا {هَلْ أَدُلُّكُمْ} أرشدكم {عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ} أي موسى {لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ}).

قال ابن جريج: ({وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ}: هم للملك ناصحون). وقال ابن إسحاق: ({وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} أي لمنزلته عندكم، وحرصكم على مسرّة الملك، قالوا: هاتي).

وقوله: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} .

قال قتادة: (ووعدها أنه رادّه إليها وجاعله من المرسلين، ففعل الله ذلك بها).

وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} .

أي: ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن وعد الله حق، ولا يعلمون أن قضاءه في شؤون عباده ليس إلا في خير، وأن أهل الإيمان منهم يرعاهم سبحانه برحمته وعنايته.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].

2 -

وقال تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

3 -

وقال تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6 - 7].

ومن صحيح السُّنة العطرة في ذلكَ أحاديث:

الحديث الأول: روى أحمد في المسند، ومسلم في الصحيح - نحوه - عن صهيب قال: [بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد مع أصحابه إذ ضحك، فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ قالوا: يا رسول الله! ومم تضحك؟ قال: عجبتُ لأمر المؤمن، إنَّ أمره كله خير، إن

ص: 596

أصابه ما يحب حمد الله وكان له خير، وإن أصابه ما يكره فصبر كان له خير، وليس كل أحد أمره كله خير إلا المؤمن] (1).

الحديث الثاني: روى عبد الله بن أحمد في مسند أبيهِ، وكذلكَ أبو يعلى بسند صحيح عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [عجبًا للمؤمن لا يقضي اللهُ له شيئًا إلا كان خيرًا له](2).

الحديث الثالث: أخرج البيهقي والطيالسي بسند صحيح من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعًا: [عجبت للمسلم إذا أصابتهُ مصيبةٌ احتسب وصبر، وإذا أصابه خيرٌ حمدَ الله وشكر، إن المسلم يُؤجَرُ في كل شيء حتى في اللّقمةِ يرفعها إلى فيه](3).

14 -

17. قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)}.

في هذه الآيات: رعايةُ الله تعالى موسى عليه السلام، وإعطاؤهُ العلم والحكمة جزاء الإحسان، ودخول موسى المدينةَ ووقوفه بجانب الرجل من شيعتهِ ليَكز خصمهُ فيقتله، ثم يندمُ ويستغفرُ ويعترف بذنبه، ونعمة الله عليهِ، ويعاهد الله تعالى ألا يكون ظهيرًا للمجرمين.

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (6/ 16)، والدارمي (2/ 318)، وسنده صحيح على شرط مسلم، وقد أخرجه في "صحيحه"(8/ 227) نحوه. وانظر السلسلة الصحيحة (147).

(2)

حديث صحيح. رواه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه (5/ 24)، وأبو يعلى (2/ 200)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (148).

(3)

إسناده صحيح. أخرجه الطيالسي (211)، والبيهقي من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

انظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (3881).

ص: 597

فقوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} .

قال ابن جرير: ({وَلَمَّا بَلَغَ} موسى. {أَشُدَّهُ}، يعني حان شدّة بدنه وقواه، وانتهى ذلكَ منه). قال مجاهد: ({آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}: الفقه والعقل والعمل قبل النبوة). وقال ابن إسحاق: (آتاه الله حكمًا وعلمًا: فقهًا في دينهِ ودين آبائه، وعلمًا بما في دينهِ وشرائعهِ وحدوده). وقيل: النبوة.

قلت: والراجح أنه أوتي عند استوائه واشتداد قوتهِ ما يمهد لاستقبال النبوة والرسالة.

وقوله: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} .

قال الزجاج: (جعل الله تعالى إيتاء العلم والحكمة مجازاة على الإحسان لأنهما يؤديان إلى الجنة التي هي جزاء المحسنين).

وقوله: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} . أي: من غير أن يشعروا بدخوله.

قال النسفي: ({وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ} أي مصر {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} حال من الفاعل، أي مختفيًا، وهو ما بين العشاءين أو وقت القائلة يعني انتصاف النهار. وقيل: لمّا شبّ وعقل أخذ يتكلم بالحق وينكر عليهم فأخافوه، فلا يدخل المدينة إلا على تغفل).

وقوله: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} .

قال قتادة: (أما الذي من شيعتهِ فمن بني إسرائيل، وأما الذي من عدوّه فقبطي من آل فرعون).

وقال ابن إسحاق: ({هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ} مسلم، وهذا من أهل دين فرعون كافر).

وقوله: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} .

قال ابن إسحاق: (وكان موسى قد أوتي بسطة في الخلق وشدّة في البطش، فغضب بعدوّهما فنازعه {فَوَكَزَهُ مُوسَى} وكزة قتله منها وهو لا يريد قتله).

قال مجاهد: ({فَوَكَزَهُ مُوسَى}: بجمعِ كفهِ). قال ابن كثير: (فاستغاث الإسرائيلي بموسى عليه السلام، ووجد موسى فُرصةً، وَهِيَ غفلة الناس، فَعَمَدَ إلى القبطي {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} قال: أي: كان فيها حتفُه فمات).

ص: 598

وقوله: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: قال موسى حين قتل القتيل: هذا القتل من تسبب الشيطان لي بأن هَيَّجَ غضبي حتى ضربتُ هذا فهلكَ من ضربتي، {إِنَّهُ عَدُوٌّ} يقول: إن الشيطان عدوّ لابن آدم {مُضِلٌّ} له عن سبيل الرشاد بتزيينه له القبيح من الأعمال، وتحسينهِ ذلكَ له {مُبِينٌ} يعني أنه يبين عداوته لهم قديمًا، وإضلاله إياهم).

وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .

قال ابن جريج: (قوله {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} قال: بقتلي، من أجل أنه لا ينبغي لنبيّ أن يقتل حتى يؤمر، ولم يؤمر). قال قتادة: (عرف المخرج، فقال: {ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ}).

قلت: وهذا هو المخرجُ دومًا من ألم اجتراح الذنوب أن يهرع العبد إلى ربهِ تعالى متذللًا له بالتوبة والاستغفار راجيًا رحمتهُ ومغفرته وتجاوز الزلل والصفح والستر، وقد وعد اللهُ تعالى عباده إذا أخبتوا إليهِ بالمغفرة والرحمة.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37].

2 -

وقال تعالى - في تفصيل تلك الكلمات -: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].

3 -

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].

ومن صحيح السنة المطهرة في آفاق هذه الآية أحاديث:

الحديث الأول: أخرج مسلم في صحيحه عن أبي أيوب مرفوعًا: [لو أنكم لم تكن لكم ذنوب يغفرها الله لكم، لجاء اللهُ بقومٍ لهم ذنوب يغفرها لهم](1).

وله شاهد عند البزار من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا بلفظ: [لو لم تُذنبوا لذهب اللهُ بكم، ولجاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم].

الحديث الثاني: أخرج الطبراني بإسنادٍ حسن عن أبي سعيد الأنصاري رضي اللهُ

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 94)، وانظر للشاهد:"مجمع الزوائد"(10/ 215).

ص: 599

عَنْهُ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[الندم توبة والتائب من الذنب كمن لا ذنب له](1).

الحديث الثالث: أخرج الترمذي بسند صحيح عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم إنَّكَ ما دعوتني ورَجَوتني غَفَرْتُ لك، على ما كان فيك ولا أبالي. يا ابنَ آدمَ لو بَلغَتْ ذنوبُكَ عَنَانَ السماءِ ثم استغفرتني غَفَرْتُ لكَ ولا أُبالي. يا ابن آدم إنَّكَ لو أتَيْتَنِي بقُرابِ الأرض خطايا ثمَ لقيتني لا تُشْرِكُ بي شيئًا لأتيتُكَ بقُرابِها مَغْفِرَةً](2).

وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} .

أي: قال موسى مقبلًا على ربه متواضعًا بين يديهِ بعد اجتراحِ الذنب: رب بما آتيتني من العلم والحكمة والجاه والعزة والقوة فلن أكون معينًا لأعدائكَ أو مقويًا لهم، بل وليًا للمؤمنين من غير تفريط ولا ظلم.

قال قتادة: (يقول: فلن أعين بعدها ظالمًا على فُجْره).

18 -

19. قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)}.

في هذه الآيات: شعورُ موسى عليه السلام بالخوف من تبعة قتله القبطي، واستصراخ صاحبه مرة أخرى به على قبطي آخر، وظنُّ الإسرائيلي أن موسى يهجم عليهِ ليقتله هو بدل القبطي.

فقوله: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} . قال ابن عباس: (خائفًا من قتله النفس، يترقب أن يؤخذ).

وقوله: {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} . قال السدي: (يقول: يستغيثه).

(1) حديث حسن. أخرجه الطبراني بإسناد حسن. انظر صحيح الجامع الصغير (6679).

(2)

حديث صحيح. أخرجهُ الترمذي في السنن (3789). وانظر صحيح سنن الترمذي (2805).

ص: 600

قال قتادة: (الاستنصار والاستصراخ واحد). وقال عكرمة: (الذي استنصره: هو الذي استصرخه).

والمقصود: بينما موسى عليه الصلاة والسلام يمشي خائفًا من مغبة قتل القبطي بالأمس، يتلفت ويتوقع ما يمكن أن يكون، إذ مرّ ببعض الطرق بذلكَ الإسرائيلي يقاتل قبطيًا آخر فاستصرخهُ فقال له موسى:{إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} . أي شديد الغواية، كثير الوقوع في المآزق والشرور. قال ابن إسحاق:(فأصبح موسى غاديًا الغد، وإذا صاحبه بالأمس معانق رجلًا آخر من عدوه، فقال له موسى: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} أمس رجلًا، واليوم آخر؟ ).

وقوله: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ} .

قال ابن كثير: (ثم عزم على البطش بذلكَ القبطي، فاعتقد الإسرائيلي لِخَوَرِهِ وضَعْفِهِ وذِلَّتِهِ أن موسى إنما يُريدُ قَصْدَهُ لمَّا سَمِعَهُ يقولُ ذلك، فقال يدفع عن نفسه: {يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ}. وذلكَ لأنه لم يعلم به إلا هُوَ وموسى عليه السلام، فلما سَمِعَها ذلكَ القبطي لَقِفَها من فَمِهِ، ثم ذهبَ بها إلى باب فِرعونَ فألقاها عندهم، فعَلِمَ بذلكَ، فاشتدَّ حَنَقُه، وعَزَمَ على قتلِ موسى، فطلبوَه وبَعثُوا وراءَهُ لِيُحْضِروه لذلك).

وقوله: {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ} . قال قتادة: (إن الجبابرة هكذا، تقتل النفس بغير النفس). وقال ابن جريج: (تلك سيرةُ الجبابرة أن تقتل النفس بغير النفس).

وقوله: {وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} . قال ابن إسحاق: (أي: ما هكذا يكون الإصلاح). وقال ابن جريج: (يقول: ما تريد أن تكون ممن يعملُ في الأرض بما فيهِ صلاحُ أهلها، من طاعة الله).

20 -

22. قوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ

ص: 601

رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)}.

في هذه الآيات: تحذيرُ رجل - من شيعة موسى - موسى عليه السلام من مكر القومِ به، ناصحًا له بالخروج من المدينةِ، وخروج موسى على خوفٍ يرجو ربّه النجاة من القومِ الظالمين، وتوجّهُه إلى مدين بإذن الله السميع العليم.

فقوله: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} .

قال ابن عباس: (فأرسل فرعون الذَّباحين لقتل موسى، فأخذوا الطريق الأعظم، وهم لا يخافون أن يفوتهم، وكان رجل من شيعة موسى في أقصى المدينة، فاختصر طريقًا قريبًا، حتى سبقهم إلى موسى، فأخبره الخبر). قال ابن كثير: (وصفه بالرُّجُوليَّةِ لأنه خالفَ الطريق، فسلك طريقًا أقرب من طريقِ الذين بُعثوا وراءه، فسبق إلى موسى، فقال له: يا موسى، {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ}، أي: يتشاورون فيكَ {لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ}، أي: من البلد، {إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}).

وقوله: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} قال قتادة: (خائفًا من قتله النفس يترقب الطلب).

وقال ابن زيد: (يترقب مخافة الطلب).

وقوله: {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . قال ابن إسحاق: (ذُكر لي أنه خرج على وجهه خائفًا يترقب ما يدري أي وجه يسلك، وهو يقول: {رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}).

وقوله: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} . قال ابن عباس: (خرج ولم يكن له علم بالطريق إلا حسن الظن بربه).

ومدين: قرية لم تكن في سلطان فرعون، بينها وبين مصر مسيرة ثمانية أيام.

وقوله: {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} . قال مجاهد: (الطريق إلى مدين).

وقال قتادة: (قصد السبيل). وقال الحسن: (الطريق المستقيم).

23 -

28. قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ

ص: 602

الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)}.

في هذه الآيات: قصة موسى عليه السلام والمرأتين وسقايته لهما، ودعوةُ والد الفتاتين موسى إلى بيتهِ وتزويجه إحداهما.

فقوله: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} .

قال السدي: (يقول: كثرةُ من الناس يسقون). وقال ابن إسحاق: (وقع إلى أمة من الناس يسقون بمدين أهل نعم وشاء).

والمقصود: لما وصل موسى عليه السلام إلى مدين وورد بئرًا فيها كانت ترده رعاء الشاء، وجد جماعة من الناس قائمين على ذلكَ الماء يسقون مواشيهم ونعمهم.

وقوله: {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} . الذود: الطرد والدفع. قال ابن عباس: (تحبسان). وقال السدي: (تحبسان غنمهما). والمقصود: تحبسان غنمهما لئلا تختلط مع غنم القوم.

قال النسفي: (تطردان غنمهما عن الماء، لأن على الماء من هو أقوى منهما فلا تتمكَّنان من السقي، أو لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم).

وقوله: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} . قال ابن عباس: (قال لهما: {مَا خَطْبُكُمَا} معتزلتين لا تسقيان مع الناس).

أي: لما رآهما موسى عليه الصلاة والسلام رقَّ لهما وتوجه إليهما مستخبرًا عن شأنهما لماذا لا ترِدان مع هؤلاء؟

ص: 603

وقوله: {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} . قال ابن إسحاق: (امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال). وقال ابن عباس: (أي: لا نستطيعُ أن نسقي حتى يسقي الناس، ثم نتبع فضلاتهم). قال ابن جريج: (تنتظران تسقيان من فضول ما في الحياض حياض الرعاء).

وقوله: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} . قال ابن إسحاق: (لا يقدر أن يمسّ ذلكَ من نفسه، ولا يسقي ماشيته فنحن ننتظر الناس حتى إذا فرغوا أسقينا ثم انصرفنا).

وقوله: {فَسَقَى لَهُمَا} .

قال مجاهد: (فتح لهما عن بئر حجرًا على فيها، فسقى لهما منها). قال شريح: (انتهى إلى حجر لا يرفعهُ إلا عشرة رجال، فرفعهُ وحده).

قال السدي: (رحمهما موسى حين {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} فأتى إلى البئر فاقتلع صخرة على البئر كانَ النفر من أهل مَدْين يجتمعون عليها، حتى يرفعوها، فسقى لهما موسى دلوًا فأروتا غنمهما، فرجعتا سريعًا، وكانتا إنما تسقيان من فُضول الحياض).

وعن ابن إسحاق، قال:(أخذ دلوهما موسى، ثم تقدّمَ إلى السقاء بفضل قوته، فزاحم القوم على الماء حتى أخَّرهم عنه، ثم سقى لهما).

قال أبو بكر بنُ أبي شَيْبة: حدثنا عُبيد الله، أنبأنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عَمْرو بن مَيمون الأَوْدِيِّ، عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه:(أنَّ موسى عليه السلام لما وَرَدَ ماءَ مَدْينَ، وجَدَ عليه أمةً من الناسِ يسقون، قال: فلما فرغوا أعادُوا الصخرة على البئر، ولا يُطيقُ رفعَها إلا عَشَرةُ رجالٍ، فإذا هو بامرأتين تذودان، قال: ما خطبُكُما؟ فحَدَّثتاه، فأتى الحجر فرفعه، ثم لم يَسْتَقِ إلا ذنوبًا واحدًا حتى رَوِيت الغنم)(1).

وقوله: {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} .

قال ابن عباس: (انصرف موسى إلى شجرة، فاستظل بظلها، {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا

(1) رواه ابن أبي شيبة من طريق عمرو بن ميمون. وذكره الحافظ ابن كثير في "التفسير" -سورة القصص- آية (24). وقال: إسناد صحيح.

ص: 604

أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِير}). قال ابن عطاء: (نظر من العبوديةِ إلى الربوبية وتكلم بلسان الافتقار، لما ورد على سره من الأنوار).

قلت: وقد أكثر المفسرون هنا من روايات لا تقوم بها الحجة فصرفوا الآية إلى حاجة موسى إلى الطعام وليسَ له دراهم وقد اشتد عليه الجوع. والأَوْلى أن يكون قال ذلكَ تواضعًا لله وعظمته أن أعطاه ما أعطاه من القوة والعلم، وصرفَ عنه طلب أهل الظلم، ورعاه منذ طفولتهِ إلى أن أوصلهُ إلى مضارب هؤلاء القومِ، وهو الآن يطمعُ في خيرِ ربهِ من أسباب القوةِ والمال والنجاة والعناية بشكلها الأعم.

وقوله: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} .

في الكلام محذوف، والتقدير: فذهبتا مسرعتين إلى أبيهما على غير عادتهما، فأخبرتاه عن روعة هذا الرجل الذي سقى لهما، فأمر إحداهما أن تذهب وتدعوه له.

فجاءته تمشي على استحياء. أي: مَشْي الحرائر. قال النسفي: (أي: مستحية، وهذا دليل كمال إيمانها وشرف عنصرها لأنها كانت تدعوهُ إلى ضيافتها، ولم تعلم أيجيبها أم لا، فأتته مستحية قد استترت بكم درعها).

وجملة: {عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} في محل نصب حال. أي جاءته مستحية.

وروى ابن جرير بسنده عن ضرار بن عبد الله بن أبي الهُذيل عن عمر رضي الله عنه قال: (مستترة بِكمِّ درعها، أو بكم قميصها). أو قال: (واضعة يدها على وجهها مستترة). ودِرْعُ المرأةِ: قميصها- والمِدْرعة: ثوبٌ لا يكون إلا من صوف.

وروى ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن عمرو بن ميمون قال: قال عُمر رضي الله عنه: (جاءَتْ تمشي على استحياء، قائِلةً بِثَوبها، على وَجْهِها، ليست بِسَلْفَعٍ من النساء، خرَّاجَةً ولّاجَةً)(1).

وقوله: {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} .

قال ابن كثير: (وهذا تأدُّبٌ في العبارة، لم تطلبهُ طلبًا مُطلقًا لئلا يُوهِمَ ريبةً، بل قالت: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}، يعني: لِيُثِيبَكَ ويُكافِئَكَ على سَقْيِكَ لغنمنا).

(1) ذكره الحافظ ابن كثير وقال: هذا إسناد صحيح. قال الجوهري: السَّلْفَعُ من الرجال: الجسور. ومن النساء: الجريئة السليطة، ومن النوق: الشديدة.

ص: 605

وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .

أي: فلما أقبل إليهِ وقابله وأخبره أمره وسبب خروجه من بلده، طمأنهُ الرجل الصالح (1) بأن لا سلطان لفرعون في هذه القرية -مدين- وقد أصبحت بإذن الله ناجيًا من مكر القومِ الظالمين.

وقوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} .

أي: قالت إحداهما -قيل هي التي أرسلها أبوها لتأتي بموسى- يا أبتِ: استعملهُ ليرعى ماشيتكَ وشؤونك، فإنه القوي على ذلكَ الأمينُ فيما ولي واستودع لا تخشى منه خيانة.

قال ابن عباس: (فأحفظته الغيرةُ أن قال: وما يدريكِ ما قوّته، وأمانتهُ؟ قالت: أما قوتهُ، فما رأيت منه حين سقى لنا، لم أرَ رجلًا قط أقوى في ذلكَ السقي منه -وفي رواية غيره قالت: إنه رفَعَ الصخرة التي لا يُطيقُ حَملَها إلا عَشَرَةُ رجال- وأما أمانتهُ، فإنه نظر حين أقبلت إليهِ وشخصت له، فلما علمَ أني امرأة صوّب رأسه فلم يرفعه، ولم ينظر إلي حتى بلغته رسالتكَ، ثم قال: امشي خلفي وانعتي لي الطريق، ولم يفعل ذلكَ إلا وهو أمين، فسريَ عن أبيها وصدَّقها وظنَّ به الذي قالت).

وفي رواية: قال ابن عباس: (إن موسى لما سقى لهما، ورأت قوّتهُ، وحرّكَ حجرًا على الركِيّةِ، لم يستطعهُ ثلاثون رجلًا، فأزالهُ عن الركية، وانطلقَ مع الجاريةِ حينَ دعته، فقال لها: امشي خلفي وأنا أمامك، كراهية أن يرى شيئًا من خلفها مما حَرَّمَ اللهُ أن ينظر إليه).

وفي الأثر عن عبد الله بن مسعود قال: (أفرسُ الناس ثلاثةٌ: أبو بكر حين تفَرَّسَ في عُمَرَ، وصاحب يوسف حين قال: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ}، وصاحبة موسى حين قالت: {يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}).

وقوله: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} .

أي: قال الشيخ الصالح لموسى عليه السلام إني أرغبُ بتزويجكَ إحدى ابنتي

(1) أكثر المفسرون هنا من اعتبار الرجل والد الفتاتين أنه شعيب عليه الصلاة والسلام، ولا دليلَ عندهم تقوم به الحجة، وإنما الراجح أنه رجل صالح في ذلكَ الزمان في تلك القرية.

ص: 606

هاتين مقابل أن ترعى غنمي وتكونَ لي أجيرًا ثماني سنين، فإن رأيتَ زيادة سنتين تطوعًا منك فالأمرُ إليك.

وقوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} . قال ابن كثير: (أي: لا أشاقك، ولا أؤذيكَ، ولا أُمَاريك). وقال ابن جرير: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} باشتراط الثماني الحجج عشرًا عليك). قلت: والراجح الأول، فهو أعم وأشمل، أي: وما أبتغي في معاملتكَ إيذاء ومشقة وضررًا يلحقُ بك.

وقوله: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} قال ابن إسحاق: (أي في حسن الصحبة والوفاء بما قلت). قال النسفي: (ويجوز أن يرادَ الصلاح على العموم ويدخل تحته حسن المعاملة، والمراد باشتراطه مشيئة الله فيما وعد من الصلاح الاتكال على توفيقه فيه ومعونته لأنه إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ذلك).

قلت: وجعل المهر فائدة ترجع على الأب في التزويج خاص بهذه القصة وشرع لمن قبلنا، وإلا فالمهر حق المرأة مقابل استحلال فرجها.

قال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4].

وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه: [أن عبد الرحمن بن عوف جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه أثر صفرة، فسالهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار، قال: كم سقت إليها؟ قال: زِنَةَ نواة من ذهب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَوْلمْ ولو بشاة](1).

وفي الصحيحين والسنن الأربعة عن سهل بن سعد قال: [إني لفي القوِم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قامت امرأة فقالت: يا رسول الله إنها قد وهبت نفسها لك، فرَ فيها رأيك. فلم يجبها شيئًا. ثم قامت فقالت: يا رسول الله إنها قد وهبت نفسها لكَ، فرَ فيها رأيك. ثم قامت الثالثة فقالت: يا رسول الله إنها قد وهبت نفسها لك، فَرَ فيها رأيكَ. فقام رجل فقال: يا رسول الله، أنكحنيها، قال: هل عندكَ من شيء؟ قال: لا. قال: اذهب فاطلب ولو خاتمًا من حديد، فذهب وطلب، ثم جاء فقال: ما وجدتُ شيئًا ولا خاتمًا من حديد.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5153)، ومسلم (1427)، وأبو داود (2095)، والترمذي (1100)، وابن ماجة (1907)، وأخرجه النسائي (119).

ص: 607

قال: هل معكَ من القرآن شيءٌ؟ قال: معي سورة كذا وسورة كذا. قال: اذهب فقد أنكحتكها بما معكَ من القرآن] (1).

فالصداق حق المرأةِ على الرجل، وهو ملك لها، لا يحلُ لأحدٍ أبًا كان أو غيره أن يأخذ منهُ شيئًا إلا إذا طابت المرأة نفسًا بهذا الأخذ.

وقوله: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ} .

أي: قال موسى لوالد زوجته: الأمرُ على ما قلت، فقد رضيتُ بالزواج بابنتكَ مقابل أنك استأجرتني على ثمان سنين، فإن تَبَرَّعْتُ بسنتين فأكملتها عشرًا، فذاك إليّ، ولا حرج على في اختيار أقلهما وأكون قد برئت من العهد.

وقوله: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} . قال مجاهد: (شهيد على قول موسى وختنه).

قال ابن جرير: (يقول: واللهُ على ما أوجب كل واحد منا لصاحبه على نفسه بهذا القول، شهيد وحفيظ).

أخرج أبو يعلى وابن جرير والحاكم بسند يتقوى بكثرةِ طرقه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسألتُ جبريل: أيَّ الأجلين قضى موسى عليه السلام؟ قال: أكملَهما وأتمهما] (2).

وله شاهد عند البزار من حديث أبي ذر: [أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيَّ الأجلين قضى موسى؟ قال: أوفاهما وأبرَّهما].

29 -

32. قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5149)، ومسلم (1425)، واللفظ للبخاري، وأخرجه أبو داود (2097)، والترمذي (1121)، وابن ماجة (1889)، مختصرًا، وأخرجه النسائي (123).

(2)

حسن بمجموع طرقه وشواهده، أخرجه أبو يعلى (2/ 634)، وابن جرير (20/ 44)، والحاكم (2/ 407)، وانظر للشاهد ما أخرجه البزار (2244)، والطبراني في "الصغير"(815)، والحديث أورده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1880).

ص: 608

الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)}.

في هذه الآيات: انقضاءُ المدةِ في خدمة موسى والد زوجته، ومسيره في طريق العودة إلى مصر، وتكليم الله له عند النار التي استأنس بها في الليل أثناء الطريق، وإظهار الله تعالى له الآيات التي تعينهُ في مهمته إلى فرعون وملئه.

فقوله: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ} . قال ابن عباس: (أتمهما وأخيرَهما). وقال: (قضى موسى آخر الأجلين). وقد مضى حديث ابن عباس وأبي ذر في ذلك.

وقوله: {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} . قال ابن جرير: (شاخصًا بهم إلى منزله من مصر).

وقوله: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} . قال قتادة: (أي أحسست نارًا. أي: أبصر موسى في طريقه وأحسّ نارًا فقال لأهله: تمهّلوا وانتظروا، إني أبصرتُ نارًا.

قال ابن كثير: (كان موسى قد اشتاق إلى بلاده وأهله، فعزمَ على زيارتهم في خِفْيَةٍ مِنْ فِرعونَ وقَومِه، فتَحمَّلَ بأهله وما كانَ معه من الغنم التي وهبَها له صِهرُه، فسلكَ بهم في ليلةٍ مطيرة مظلمة باردة، فنزل منزلًا، فجعل كلما أورى زَنْدَه لا يُضيء شيئًا، فتعجَّب من ذلكَ، فبينما هو كذلكَ إذ {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا}، أي: رأى نارًا تُضيءُ له على بُعْدٍ، {قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا}، أي: حتى أذهبَ إليها، {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَر}. ودْلك لأنه كان قد أضلَّ الطريق، {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ}، أي: قِطعة منها، {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}، أي: تتدفؤون بها من البرد).

وعن ابن عباس: {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} يقول: شهاب). قال قتادة: (والجذوة: أصل شجرة فيها نار). قال: {أَوْ جَذْوَةٍ} : أو شُعلة من النار).

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} . قال ابن جرير: (يقول: لعلكم تسخنون بها من البرد، وكان في شتاء).

ص: 609

وقوله: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} . أي: فلما وصل إليها نودي موسى من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينهِ من ناحية الغرب، كما قال تعالى:{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} [القصص: 44].

قال ابن كثير: (فهذا مما يرشد إلى أن موسى قصد النار إلى جهة القبلة، والجبلُ الغربي عن يمينه، والنار وجدها تضطرمُ في شجرة خضراء في لِحْفِ الجبل مما يلي الوادي، فوقف باهتًا في أمرها، فناداه ربه: {مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ}).

وقوله: {أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .

أي: إنما يتوجه إليكَ الخطاب يا موسى من الله تعالى رب العالمين، رب كل شيء ومليكهُ، لا إله إلا هو، الإله الحق، ليس كمثلهِ شيء وله صفات الكمال والجمال.

وقوله: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} . أمرٌ من الله تعالى لموسى عليه السلام بإلقاء عصاه التي في يدهِ، ليريه تعالى فيها آية تناسب مقام التكليم، ومفاجأة هذا الأمر العظيم.

وقوله: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} . الجانّ واحد الجِنَّان، وهو نوع عظيم من الحيات. والمقصود: فألقى موسى عصاه فصارت حية تَسعى، فلما رآها تضطرب وتتحرك كالجان من الحيات ولى موسى هاربًا منها ومن هول ما رأى. قال قتادة:{وَلَّى مُدْبِرًا} فارًا منها، {وَلَمْ يُعَقِّبْ} يقول: ولم يرجع على عقبه). أو قال: (لم يلتفت من الفرق). وقال السدي: (لم ينتظر).

وقوله: {يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} . أي: ناداه ربه مطمئنًا له ليرجع. قال النسفي: (أي أمنتَ من أن ينالك مكروه من الحية).

وقوله: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} .

أي: أدخل يدك في جيب قميصكَ تخرج بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس من غير برص ولا أذى. قال الحسن: (فخرجت كأنها المصباح، فأيقن موسى أنه لقي ربه).

وقوله: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} . قال ابن عباس: (يدك).

وقوله: {مِنَ الرَّهْبِ} . قال مجاهد: (الفَرَق). وقال قتادة: (أي من الرعب).

قلت: والمقصود: واضمم يدكَ إلى صدركَ -يا موسى- يذهب عنكَ ما وجدته من

ص: 610

الفزع والخوف من الحية. ثم هي آية لك كلما شعرت بخوف أو فزع أثناء مسيركَ في مواجهة فرعون وطغيانهِ هو وجنودهِ، ولذلك قال جل ذكرهُ بعدها:{فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} . أي خارجين عن طاعة ربهم.

وعن السدي: ({فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ}: العصا واليد آيتان).

وقال مجاهد: ({فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ}: تبيانان من ربك).

33 -

35. قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)}.

في هذه الآيات: توجه موسى عليه الصلاة والسلام إلى ربه عز وجل حين أمره بالذهاب إلى فرعون في مصر -وكان قد خرج فرارًا من أذاهُ وبطشه- بما يجد من خوف من ذلكَ على حياته بعد قتله القبطي منهم. فلما علم أمر الله له بذلك وتوليه له سأله الاستعانة بأخيه هارون، حيث هو أفصح في التعبير منه، بسبب عقدة اللسان القديمةِ عند موسى، فآنسه الله تعالى وجعل هارون وزيرًا له ومقويًا لأمره وكتب لهما الحمايةَ من بطش فرعون والغلبة بآياته وإبلاغ رسالته.

قال ابن جرير: ({فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}: فأخاف إن أتيتهم فلم أبن عن نفسي بحجة أن يقتلوني لأن في لساني عقدة، ولا أبين معها ما أريد من الكلام). قال ابن كثير: (وذلكَ أن موسى عليه السلام كان في لسانهِ لُثغَةٌ بسبب ما كان تناول تلك الجَمْرَة، حين خُيِّر بينها وبين التمرة أو الدُّرَّة، فأخذ الجمرة فوضعها على لسانهِ، فحصل فيهِ شدة في التعبير، ولهذا قال: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 27 - 32]).

وقوله: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} . أي أحسن بيانًا وإعرابًا عما يريدُ بيانهُ وتبليغه.

وقوله: {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} . أي: عونًا يصدقني ويدعمُ حجتي ويبين لهم

ص: 611

مفهوم خطابي. قال ابن إسحاق: (أي يبين لهم عني ما أكلمهم بهِ، فإنه يفهم ما لا يفهمون).

وقال ابن زيد: ({يُصَدِّقُنِي}: لأن الاثنين أحرى أن يصدّقا من واحد).

وعن قتادة: ({رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} أي عونًا). قال ابن عباس: (كي يصدقني). أو قال: (يقول كيما يصدقني). والردء في كلام العرب: هو العون.

وقوله: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} .

قال ابن جرير: (يقول: إني أخاف أن لا يصدقوني على قولي لهم إني أرسلتُ إليكم).

وقوله: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} .

العضد من الإنسان: الساعد، وهو ما بينَ الكتف والمرفق، وعَضَدَهُ أي أَعانه، فكُني عن الإعانة بقوة الساعد. والمعاضَدَةُ المعاونة. والعضد في كلام العرب فيهِ لغات أربع: العَضُد، والعَضْدُ، والعُضُد، والعُضْد. ذكره الرازي.

والمقصود: أجاب الله تعالى سؤال موسى عليه السلام بأن سنقوي أمرك، ونُعِزُّ جانبك بأخيك، الذي سألت له أن يكون نبيًّا معك.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى} [طه: 36].

2 -

وقال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 53].

وقوله: {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} . قال مجاهد: (حجة). قال النسفي: (غلبة وتسلطًا وهيبة في قلوب الأعداء).

وقوله: {فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا} . أي: فلا يصلون إليكما بالأذى، وإنما تمتنعان منهم بإبلاغكما آيات الله وحجته البالغة.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 39].

ص: 612

2 -

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67].

فتبليغُ آيات الله وهديه وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم فيه عناية الله ورعايته وتوفيقه.

أخرج الترمذي بإسناد حسن عن عائشة قالت: [كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحرَسُ حتى نزلت هذه الآية: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}. فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبةِ، فقال لهم: يا أيها الناس انصرفوا، فقد عصمني الله](1).

وقوله: {أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} .

قال الأخفش: (بآياتنا). واختاره ابن جرير، والتقدير: أنتما ومن اتبعكما الغالبون بآياتنا. فالباء في قوله: {بِآيَاتِنَا} من صلة غالبون. قال المهدوي: (وفي هذا تقديم الصلة على الموصول).

والمقصود الأعم: أنتما -يا موسى وهارون- ومن تابعكما على الحق ومنهج النبوة ستحفلون بالنصر والتأييد والغلبة على عدوكم.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21].

2 -

وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].

قلت: وهذه البشارة بالنصر والتمكين لفئة الحق على منهاج النبوة قد بُثَّت إلى أمة نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم في أحاديث:

الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة مرفوعًا: [لا يزالُ هذا الدين عزيزًا منيعًا إلى اثني عَشَرَ خَليفة. كلهم من قريش](2).

الحديث الثاني: روى مسلم عن جابر بن عبد الله يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [لا تزال طائفةٌ من أمتي يُقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة. قال: فينزل عيسى

(1) حديث حسن. انظر صحيح سنن الترمذي (2440)، وكتابي: السيرة النبوية (1/ 523).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (1821) ح (9) - كتاب الإمارة. باب الناس تبع لقريش، والخلافة في قريش. وانظر كذلكَ ح (5)، ح (6)، ح (7)، ح (8).

ص: 613

ابن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم: تعالَ صَلِّ لنا، فيقول: لا، إنَّ بعضكم على بعضٍ أُمراءُ، تكرمة اللهِ هذه الأمة] (1).

الحديث الثالث: أخرج أبو يعلى والبزار في مسنديهما، وابن المبارك في "الزهد" عن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يظْهَرُ هذا الدين حتى يجاوزَ البحار، وحتى تُخاضَ بالخيلِ في سبيل الله] الحديث (2).

36 -

42. قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)}.

في هذه الآيات: جحودُ فرعون وقومهِ الآيات التي جاء به موسى عليه الصلاة والسلام، واستكبار فرعون ومطالبتهُ الناس بصرف الطاعةِ والألوهيةِ له، وإهلاك الله له ولجندهِ وتسليطه عذاب القبر عليهم إلى يوم الدين، ولعنهم على ألسنةِ الخلق في الدنيا ثم هم يوم القيامةِ من المقبوحين.

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (156)، كتاب الإيمان، باب: نزول عيسى بن مريم حاكمًا بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإكرام الله هذه الأمة زادها الله شرفًا.

(2)

حسن في مجموع الطرق والشواهد. أخرجه ابن المبارك في "الزهد"(152/ 450)، وأخرجه أبو يعلى (12/ 56/ 6698)، وأخرجهُ البزار:(1/ 99/ 174)، وانظر السلسلة الصحيحة (3230).

ص: 614

فقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى} .

قال القرطبي: ({بَيِّنَاتٍ} أي ظاهرات واضحات. {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى} مكذوب مختلق). والمقصود: لما عرض موسى حجج الله تعالى البالغات، والمعجزات الباهرات بين يدي فرعون وملئه وحوصروا بدلالة الحق، لجؤوا إلى الاتهام بالسحر واستخدام المكر والحيلة.

وقوله: {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} . قال الشهاب: (وهذا إما تعمد للكذب وعناد بإنكار النبوات، وإن كان عهدُ يوسف قريبًا منهم. أو لأنهم لم يؤمنوا به أيضًا).

والمقصود: محاولة من فرعون وملئه إنكار دعوة موسى إليهم إلى عبادة الله وحده، ونبذ الشرك والكفر الذي هم عليه، وذلك بادعاء غرابة ما يدعوهم إليه وأنه لم يكن في أسلافهم وآبائهم الذين مضوا قبلهم.

وقوله: {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} .

أي: قال موسى لفرعون: إن ربي -يا فرعون أمحلم مَنِ المحِقُّ مِنَا مِنَ المُبْطل، الذي غَرَّ قومهُ وأضل أتباعهُ وأهلكَ جنوده أم الذي قرّب إليهم طريق الهداية والنجاة، وجاءهم بالآيات البينات؟ ! قال المهايمي:(معناه: كفى دليلًا على كونها آيات، أنها خوارق لم يسبق لها نظير. مع أن ما جئت به هدى. والساحر لا يدعو في العموم إلى هدى. فإن لم تعترفوا بكونهِ هُدى، فربي أمحلم بمن جاء بالهدى من عندهِ، ويعلم ذلكَ بالعاقبة، فإن الله يحسن عاقبة أهل الهدى لا محالة).

قال النسفي: (والمراد بالدار الدنيا، وعاقبتها أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان وتلقي الملائكة بالبشرى والغفران).

وقوله: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} . أي: إن الله عزيز حكيم، لا يرسل الكاذبين، ولا ينبئ السحرة المشعوذين، وقد كتب الخسارة على الظالمين.

وقوله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} .

هو انهزام قبيح من فرعون أمام حجة الحق البالغة، ولجوء إلى بسط التسلط والجبروت، والاستفادة من تخويف الناس بالبطش والرعب لاستعادة الأبهة الكاذبة. قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وقال فرعون لأشراف قومه وسادتهم {يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ

ص: 615

مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} فتعبدوه، وتصدقوا قول موسى فيما جاءكم به من أن لكم وله ربًا غيري ومعبودًا سواي).

وقوله: {فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} .

أي: أَمَرَ فرعونُ وزيرَهُ هامان أن يعملِ له صرحًا من الآجر ليرتفع عليه فينظر إلى إله موسى في الأعلى. قال القاسمي: {فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ} أي نارًا، فأتخذ منه آجرًّا). قال الزمخشري:({صَرْحًا} أي قصرًا رفيعًا إلى السماء).

وقوله: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} . أي في قوله إن ثمَّ ربًّا غيري.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29].

2 -

وقال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37].

قال الإمام الجويني أبو محمد والد إمام الحرمين: (وهذا يدل على أن موسى أخبره بأن ربه تعالى فوق السماء، ولهذا قال: وإني لأظنهُ كاذبًا)(1).

قلت: ومن ثمَّ فمن شكّ أن الله في السماء اليوم، فقد تشبهَ بطريقة فرعون.

وقوله تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} .

أي: أصَرَّ فرعون وجنوده الذين معه على الطغيان والكفر بآياتِ الله وحجج الحق تعديًا وعتوًا على ربهم وحسبوا أنهم بعد مماتهم لا يبعثون ولا يحاسبون. فركبوا أهواءهم وتمردوا على بارئهم وضيّعوا فرصة عمرهم في الإخبات لله العظيم، والإنابة إليه ليصفح عن جرائمهم وهو التواب الرحيم، فأخذهم الله جميعًا فأهلكهم غرقى في البحر في صورة من الخزي والذل، فانظر -يا محمد- كيف كان مآل القوم الظالمين، وقُصّ خبرهم على قومكَ لعلهم يختاروا غير هذه النهاية القبيحة.

أخرج الترمذي بسند صحيح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أنّه ذكر أنّ جبريلَ

(1) انظر: "مختصر العلو".-الذهبي- ص (80). وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 175).

ص: 616

جَعَلَ يَدُسُّ في فِي فِرعونَ الطِّين، خشية أن يقول: لا إله إلا الله فيرحمه الله، أو خشية أَنْ يَرْحَمَهُ] (1).

وله شاهد عنده عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لما أغرق اللهُ فرعونَ قال: آمنْتُ أنه لا إله إلا الذي آمنت بهِ بنو إسرائيل. فقال جبرئيل: يا محمدُ لو رأيتني وأنا آخذُ مِنْ حالِ البَحْرِ وَأَدُسُّهُ في فِيهِ مخافةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرحمة].

وقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} . قال ابن كثير: (أي: لمن سَلَكَ وراءَهم وأخذ بطريقتهم، في تكذيب الرسُل وتعطيل الصانع).

والمقصود: تركهم الله تعالى في الأرض مثلًا لأهل العتو والبغي والكفر ليصيروا إلى ما صاروا إليه.

وقوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ} .

أي ولَّى زمن الاستعلاء بالنصرة في الدنيا من الجنود والقادة والوزراء والأتباع، ولم يبق إلا الخزي في الدار الآخرة. ليجتمع عليهم سوء النهاية في الدنيا موصولًا بسوء المصير يوم القيامة.

وقوله: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} .

أي: جعل الله لعنتهم ولعنة ملكهم الطاغية فرعون تمضي على ألسنةِ المؤمنين في هذه الحياة الدنيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وقوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} . قال أبو عبيدة وابن كيسان: (أي: من المهلكين الممقوتين). قال قتادة: العنوا في الدنيا والآخرة. هو كقوله: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} [هود: 99]).

والمقصود: أنهم يكونون يوم الحساب في أسوأ حال، وأشقى مآل، والعياذ باللهِ الكبير المتعال.

43 -

47. قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ

(1) صحيح الإسناد. أخرجه الترمذي في التفسير (3321) - سورة يونس-. انظر: صحيح سنن الترمذي (2484)، وكذلك (2483) للشاهد به.

ص: 617

الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)}.

في هذه الآيات: إخبارُ الله تعالى عن إنعامه على موسى صلى الله عليه وسلم بإنزال التوراة بعد إهلاكه فرعون لتكون هدى ورحمة لقوم يتذكرون. وإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لمنكريها أمام هذا الإخبار بالغيوب الماضية التي لا تكون إلا بالوحي الكريم.

فقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره، ولقد آتينا موسى التوراة من بعد ما أهلكنا الأمم التي كانت قبله، كقومِ نوحٍ وعادٍ وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين).

وقال ابن كثير: (يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله موسى الكليم -عليه من ربه الصلاة والتسليم- من إنزال التوراة عليه بعد ما أهلكَ فِرعونَ ومَلَأهُ.

وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} يعني أنه بعد إنزال التوراة لم يُعَذِّب أُمَّةً بعامةٍ، بل أمر المؤمنين أن يقاتلوا أعداءَ الله من المشركين، كما قال:{وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة: 9 - 10]).

قلت: والذي ذهب إليه ابن كثير متوافق مع الحديث الصحيح الوارد في هذه الآية.

فقد أخرج الحاكم والبزار بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: أما أهلك اللهُ قومًا، ولا قَرْنًا، ولا أمّةً، ولا أهل قريةٍ منذُ أَنْزَلَ التوراةَ على وجه الأرض بعذاب من السماء، غيرَ أهل القريةِ التي مُسِخَتْ قِرَدَةً، ألمْ تَرَ إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا

ص: 618

مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}] (1).

وقوله: {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} .

قال النسفي: ({بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} حال من الكتاب، والبصيرة نور القلب الذي يبصر به الرشد والسعادة، كما أن البصر نور العين الذي يبصر به الأجساد. يريد آتيناه التوراة أنوارًا للقلوب لأنها كانت عميًا لا تستبصر ولا تعرف حقًّا من باطل {وَهُدًى} وإرشادًا لأنهم كانوا يخبطون في ضلال، {وَرَحْمَةً} لمن اتبعها لأنهم إذا عملوا بها وصلوا إلى نيل الرحمة {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يتعظون).

وقوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} .

قال قتادة: ({وَمَا كُنْتَ} يا محمد {بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} يقول: بجانب غربي الجبل {إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ}).

قال القرطبي: (إذ كلفناه أمرنا ونهينا، وألزمناهُ عهدنا).

والمقصود: إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لمنكريها من قومه أمام هذا الإخبار بالغيوب الماضية التي لا يمكن برهانها إلا بالوحي من الله عز وجل.

وقوله: {وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} . أي: وما كنت لذلكَ من الشاهدين.

وقوله: {وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا} . قال القاسمي: (أي بين زمانك وزمان موسى).

وقوله: {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} . أي طالت فترةُ انقطاع الوحي، وعمّ الظلم والجهل والبغي، فاقتضت حكمتهُ سبحانه استئنافَ النبوةِ فبعثكَ يا محمد بهذا الوحي.

قال النسفي: {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} أي طالت أعمارهم وفترت النبوة، وكادت الأخبار تخفى، واندرست العلوم، ووقع التحريف في كثير منها، فأرسلناكَ مجددًا لتلكَ الأخبار، مبينًا ما وقع فيه التحريف، وأعطيناكَ العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى).

(1) حديث صحيح. أخرجه الحاكم (2/ 408)، والبزار (2248 - الكشف)، وكذلكَ ابن جرير في "التفسير"(20/ 50) من طرق، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (2258).

ص: 619

وقوله: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} .

قال ابن زيد: (الثاوي: المقيم. {تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا}. يقول: تقرأ عليهم كتابنا {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}. يقول: لم تشهد شيئًا من ذلكَ يا محمد، ولكنا كنا نحنُ نفعك ذلكَ ونرسل الرسل).

والمقصود: نحن -يا محمد- أوحينا إليكَ خبر أهل مدين مع نبيّهم شعيب عليه الصلاة والسلام، ولم تكن أنتَ مقيمًا بينهم حين أَخْبَرْتَ قومكَ عنهم، بل قَصَصْتَهُ عليهم مِنْ خَبَرِ هذا الوحي العظيم، فليعتبر قومكَ بهذا على برهان نبوتك.

وقوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} . أي: إذ نادينا موسى لحمل الأمانةِ وأخذ الكتاب بقوة.

قال القرطبي: (أي كما لم تحضر جانب المكان الغربي إذ أرسل اللهُ موسى إلى فرعون، فكذلكَ لي تحضر جانب الطور إذ نادينا موسى لما أتى الميقات مع السبعين).

ويبدو أن هذه الآية تخصيص لعموم الآية التي قبلها: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء: 10].

2 -

وقال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [النازعات: 15 - 16].

3 -

وقال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52].

وقوله: {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} .

قال مجاهد: (كان رحمة من ربك النبوة). وقال ابن زيد: ({وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} قال: الذي أنزلنا عليك من القرآن {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ}) قال النسفي: (في زمان الفترة بينك وبين عيسى وهو خمس مئة وخمسون سنة).

والمقصود: إنما بعثناكَ -يا محمد- بهذا القرآن رحمة لقومكَ بعد فتور النبوات،

ص: 620

لتنقذ أمتكَ بهذا الوحي المُثْبِتِ لصدقكَ بما فيه من صحيح الأخبار عن الأمم قبلك، لعلهم ينتفعون بالذكرَى وينجون في الآخرة.

وقوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .

أي: إنما بعثناكَ -يا محمد- بالرسالة إلى قومكَ لإقامة الحجةِ عليهم إعذارًا وإنذارًا، فإذا نزل بهم أمر الله بعقاب أو مصيبة كان ذلكَ بما قدمت أيديهم، سنةُ الله تعالى في جميعِ الأمم.

وفي التنزيل نحو ذلكَ:

1 -

قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].

2 -

وقال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 19].

3 -

وقال تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} [الأنعام: 156 - 157].

وفي صحيح البخاري عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَثَلي وَمَثَلُ ما بعثني الله كمثل رَجُلٍ أتى قومًا فقال: رأيتُ الجيش بِعَيْنَيَّ، وإني أنا النذير العُريانُ، فالنَّجاءَ النَّجاءَ. فاطاعهُ طائفةٌ فأَدْلجوا على مَهْلِهِمْ فَنَجَوْا، وكَذَّبَتْهُ طائفةٌ فَصَبَّحهُم الجيشُ فاجْتَاحهم](1). وفي رواية: [فذلكَ مثلُ من أطاعني فاتبعَ ما جئت بهِ، ومثلُ من عصاني وكذّب بما جئتُ به من الحق](2).

48 -

51. قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِىَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6482) - كتاب الرقاق. باب الانتهاء عن المعاصي.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (7283) - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة. باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في ختامِ نحو الحديث السابق.

ص: 621

كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)}.

في هذه الآيات: مطالبةُ المشركين بالآيات والمعجزات وقد كفروا بما أوتي موسى من قبل وكانوا ظالمين. فقل لهم -يا محمد-: فهلّا أتيتم بكتاب من عند الله بعد كفركم بهذين الكتابين. فإن لم يفعلوا فاعلم -يا محمد- أن القوم إنما يتبعون أهواءهم فهم في غيِّهم يعمهون.

فقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} .

قال مجاهد: (يهود تأمر قريشًا أن تسأل محمدًا مثل ما أوتي موسى، يقول الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: قل لقريش يقولوا لهم: أولم بكفروا بما أوتي موسى من قبل).

قلت: وقد يكونُ ذلكَ التعنت من قريش على سبيل العناد، يريدون تقليد الأمم السالفة قبلهم في طلب الآيات، مع أن الإيمان باللهِ وصدق وَحْيهِ لا يحتاج إلى الخوارق لإثباته، فهو حجة بنفسه، فهم يطلبون مثل ما أوتي موسى من الآيات الكثيرة: كالعصا واليد، والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى، فأجابهم الله تعالى بقوله:{أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} . قال ابن كثير: (أي: أولم يكفر البشر بما أوتي موسى من تلك الآيات العظيمة).

وقوله: {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} . قال مجاهد: (يعني موسى وهارون عليهما السلام. و {تَظَاهَرَا} أي تعاونا وتناصرا وصدّق كل منهما الآخر.

وعن ابن عباس: ({قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} يعني موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم). وفي رواية عنه: (يعنون التوراة والقرآن). قال السدي: (يعني صدّق كل واحد منهما الآخر).

قلت: والبيانُ الإلهي يحتمل ما سبق من التأويل، وأما من أدخل في التأويل: عيسى عليه السلام والإنجيل فقد أبعد لعدم ورود ذلكَ في السياق.

وقوله: {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} . أي: إنا بكل واحد منهما كافرون.

ص: 622

قال مجاهد: (قال يهود أيضًا: نكفر بما أوتي محمد أيضًا).

قال النسفي: (وقيل: إن أهل مكة كما كفروا بمحمد عليه السلام وبالقرآن فقد كفروا بموسى والتوراة، وقالوا في موسى ومحمد: ساحران تظاهرا، أو في التوراة والقرآن: سحران تظاهرا).

وقوله تعالى. {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .

قال ابن زيد: (فقال الله: ائتوني {بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا} من هذين الكتابين، الذي بعث به موسى، والذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم).

والمقصود: قل -يا محمد- لكفار قومك، أما وقد كفرتم بهذين الكتابين فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه ليكون ذلكَ عذرًا لكم في الكفر عند ربكم إن كنتم صادقين في أنهما سحران.

وقوله: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} .

قال القرطبي: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} يا محمد أن ياتوا بكتاب من عند الله {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} أي آراء قلوبهم وما يستحسنونه ويحببه لهم الشيطان، وأنه لا حجة لهم).

وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} .

أي: لا أحد أضل وأبعد سبيلًا ممن مضى خلف هواه بغير حجة من كتاب الله وهديه.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: إن الله لا يوفق لإصابة الحق وسبيل الرشد القوم الذين خالفوا أمر الله وتركوا طاعته، وكذبوا رسوله، وبدّلوا عهده، واتبعوا أهواء أنفسهم إيثارًا منهم لطاعة الشيطان على طاعة ربهم).

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} . قال سفيان بن عيينة: (وصلنا: بَيَّنا). وقال مجاهد: (فصلنا لهم القول). وقال قتادة: (وصل الله لهم القول في هذا القرآن، يخبرهم كيف صنع بمن مضى، وكيف هو صانعُ، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}).

ص: 623

والمقصود: ولقد وصلنا -يا محمد- هذا الحق إلى قريش ليكون عليهم حجة وبيانًا مبينًا.

أخرج الطبراني في "الكبير"، وابن جرير في التفسير، بسند صحيح عن يحيى بن جعدة، عن رِفاعَةَ القَرَظِيّ، قال:[نزلت هذه الآية في عشرةٍ أنا أحدهم: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}](1).

ورواه ابن جرير من طريق آخر -بعد روايته عن ابن عباس: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} قال يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم ثم قال ابن جرير: (فكأن ابن عباس أراد بقوله يعني محمدًا، لعلهم يتذكرون عهد الله في محمد إليهم، فيقرّون بنبوته ويصدقونه).

52 -

55. قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)}.

في هذه الآيات: ثناءُ الله تعالى على المؤمنين من أهل الكتاب آمنوا بنبيّهم وآمنوا بمحمد صلوات الله وسلامهُ عليهما وعلى المرسلين أجمعين، فأولئك يؤتون أجرهم مرتين، ثم هم يدفعون بحسنات أفعالهم سيئاتهم ومما رزقهم ربهم ينفقون، ويعرضون عن اللغو وأماكنه وعن مصاحبة الجاهلين.

فقوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} .

قال ابن عباس: (يعني من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب). وقال مجاهد: (هم مُسْلِمةُ أهل الكتاب).

والمقصود: إخبار عن العُلماء الأولياء من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالقرآن كما آمنوا بكتابهم.

(1) إسناده صحيح. أخرجه ابن جرير في "التفسير"(27504)، (27505)، وكذلكَ ذكره الهيثمي في "المجمع"، وقال: رواه الطبراني في "الكبير" ورجاله ثقات. وانظر: "الصحيح المسند من أسباب النزول"- الوادعي- سورة القصص- آية (51).

ص: 624

وقوله: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وإذا يُتلى هذا القرآن على الذين آتيناهم الكتاب من قبل نزول هذا القرآن {قَالُوا آمَنَّا بِهِ} يقول: يقولون: صدّقنا به {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا} يعني من عند ربنا نزل).

وقوله: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} . قال ابن زيد: (على دين عيسى). والمقصود قولهم: إنه من قبل هذا القرآن كنّا مسلمين. أي: مُوَحِّدين مخلصين لله مستجيبين له.

وقوله: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} .

قال ابن زيد: (فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أسلموا، فكان لهم أجرهم مرتين: بما صبروا أول مرّة، ودخلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام). قال ابن كثير: (أي: هؤلاء المتصفون بهذه الصفة الذين آمنوا بالكتاب الأول ثم بالثاني {يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} بإيمانهم بالرسول الأول ثم الثاني. ولهذا قال: {بِمَا صَبَرُوا}، أي: على اتباع الحقّ، فإنَّ تَجَشُّمَ مثل هذا شديد على النفوس). وقال القرطبي: {بِمَا صَبَرُوا} عام في صبرهم على ملتهم، ثم على هذه وعلى الأذى الذي يلقونه من الكفار وغير ذلك).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} [آل عمران: 199].

2 -

وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121].

3 -

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} [الإسراء: 107 - 108].

4 -

وقال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 82 - 83].

5 -

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4].

ص: 625

وفي الصحيحين والمسند والسنن عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[ثلاثةٌ يوتونَ أجرهم مَرَّتَيْن: رجل مِنْ أهل الكتابِ آمَنَ بِنَبِّيهِ وأدْركَ النبي صلى الله عليه وسلم فآمنَ بهِ واتَّبعَهُ وصدَّقَهُ فله أجران، وعَبْدٌ مَمْلوك أَدّى حقَّ الله تعالى عليه وحق سَيّده فله أجران، ورجل كانت له أمةٌ فغذاها فأحسن غِذاءها، ثم أَدَّبَها فأحْسَنَ أَدبَها، ثم أعتقها وتزوَّجَها، فله أجران](1).

وقوله: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} . قال مجاهد: (يقول: ويدفعون بحسنات أفعالهم التي يفعلونها سيئاتهم). وقال النسفي: (يدفعون بالطاعة المعصية أو بالحلم الأذى).

وقوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} . قال مجاهد: (في طاعة الله، إما في جهاد في سبيل الله، وإما في صدقة على محتاج، أو في صلة رحم).

وقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} . قال القاسمي: ({وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ} أي من الجهال. وهو كل ما حقه أن يلغى ويترك، من العبث وغيره {أَعْرَضُوا عَنْهُ} أي تكريمًا للنفس عن ملابسة الأدنياء، وتشريفًا للسمع عن سقط باطلهم).

وقوله: {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} . أي بطريق التوديع والمتاركة والترفع عن النزول إلى سوية الجاهلين. قال النسفي: ({سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} أمان منا لكم بأن نقابل لغوكم بمثله).

وقوله: {لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} .

قال الحسن: (كلمة حلم من المؤمنين {لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} أي لا نريد مخالطتهم وصحبتهم، ولا نريد مجازاتهم بالباطل على باطلهم).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63].

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (97)، (3011)، (3446)، وأخرجه مسلم (154) - كتاب الإيمان- واللفظ له، وأخرجه أبو داود (2053)، والترمذي (1116)، والنسائي (6/ 115)، وابن ماجة (1956)، وأخرجه أحمد (4/ 395)، وابن حبان (227).

ص: 626

2 -

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72].

وفي جامع الترمذي بإسناد حسن عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أليس المؤمن بالطّعان، ولا اللَّعان ولا الفاحش، ولا البذِيّ] (1).

56 -

59. قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)}.

في هذه الآيات: إعلامُ الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن أمر الهداية بيده سبحانه فهو أعلم بالمستحقين. وامتنانٌ منه -جلّ ذكره- على قريش نعمة الحرم الآمن يجبى إليهِ الرزقُ من جميع الأمصار بإذن الله رب العالمين. وإخبار منهُ -تعالى- عن سنته في إهلاك القرى إذا فسد أهلها وكانوا ظالمين.

فقوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ} يا محمد {لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} هدايته، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أن يهديه من خلقه، بتوفيقه للإيمان به وبرسوله).

وقوله: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} . قال مجاهد: (لمن قدر له أن يهتدي). أو قال: (بمن قدر له الهدى والضلالة).

قلت: والآية في مفهومها عامة بحق جميع الخلق، فإن التوفيق للهداية بيد الله سبحانه الذي اطلع على قلوب عبادهِ، وهو أعلم بالشاكرين.

(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي (1978)، وأخرجه أحمد (3839)، والحاكم (1/ 12).

ص: 627

وأما سبب نزولها فقد صحّ الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها نزلت في عمه أبي طالب، واسمه عبد مناف، الذي كان يحوطه وينصره، ويغضب له ويقوم في صفِّه، ويحبه حبًا شديدًا طبعيًا لا شرعيًا.

ففي الصحيحين عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: [لما حَضرتْ أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل، وعبدَ الله بن أبي أمية بن المغيرة.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم قل لا إله إلا الله، كلمةً أشهد لكَ بها عند الله.

فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملةِ عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليهِ ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخِرَ ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما واللهِ لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عَنك. فانزل اللهُ عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]، وأنزل الله تعالى في أبي طالب فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ] (1).

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِعَمِّهِ، عند الموت "قل: لا إله إلا الله، أشهدُ لكَ بها يوم القيامة". فأبى. قال: فأنزل اللهُ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الآية](2).

وفي رواية: [قال: لولا أن يُعَيِّرَني قريش -يقوِلون: إنما حَمَلَهُ على ذلكَ الجَزَعُ- لأقْرَرْتُ بها عَيْنكَ، فأنزل الله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}].

والخلاصة: لما احتضر أبو طالب دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، فسبق القدر فيهِ، واختطف من يده، ومات على الكفر وللهِ الحكمةُ التامة.

لقد شبَّ أبو طالب على أفكار الجاهليةِ التي رسخت في قلبهِ وعقله، وعلى التعلق بالعصبية وتقليد الآباء الذي شغل على أمثاله حياتهم، فما تمكن من تغييرها وهو شيخٌ كبير، وقد حضره أقرانه عند احتضاره، فقضى وأبى أن يقول لا إله إلا الله.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1360)، (3884)، وأخرجه مسلم (24) واللفظ له، وأخرجه النسائي (4/ 90)، وأحمد (5/ 433)، وأخرجه ابن حبان (982).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (25) كتاب الإيمان، ح (41)، وانظر للرواية بعده ح (42)، وكذلكَ سنن الترمذي (3188).

ص: 628

أخرج الإمامُ أحمد في المسند، بإسناد صحيح عن علي رضي الله عنه قال:[لما توفي أبو طالب، أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقلتُ: إنَّ عمَّكَ الشيخ الضالَ قد مات، فمن يواريه؟ قال: اذهب فوارِه، ثم لا تحدث شيئًا حتى تأتيني. فقال: إنه مات مشركًا، فقال: اذهب فواره. قال: فواريتهُ ثم أتيتهُ، قال: اذهب فاغتسل ثم لا تحدث شيئًا حتى تأتيني، قال: فاغتسلت، ثم أتيته، قال: فدعا لي بدعوات ما يسرني أن لي بها حُمُر النّعَم وسودها، قال: وكان علي إذا غسل الميت اغتسل](1).

لقد أفقد موت أبي طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم سندًا كبيرًا، فلم يعد بنو هاشم مستعدين لتقديم الحماية نفسها، وتطاولت قريش، وقد خفف الله عن أبي طالب قسطًا كبيرًا من العذاب يوم القيامةِ بسبب مساندته لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

يروي البخاري في صحيحه عن العباس بن عبد المطلب: [أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أغنيت عن عمك؟ فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار](2).

وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وذكر عنده عمه- فقال: [لعلهُ تنفعه شفاعتي يوم القيامة. فيجعل في ضحضاح من النار تبلغ كعبيه](3).

وفي صحيح الإمام مسلم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أهون أهل النار عذابًا أبو طالب، وهو منتعل بنعلين من نار، يغلي منهما دماغه](4).

وفي لفظ: [أهونُ أهل النار عذابًا يوم القيامة رجل، يوضع في أخمص قدميهِ جمرتان يغلي منهما دماغُه].

وقوله: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} .

قال ابن عباس: (هم أناس من قريش قالوا لمحمد: إن نتبعك يتخطفنا الناس، فقال الله:{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} .

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند برقم (807)، وأخرجه أبو داود في السنن (2/ 70)، وصححه الألباني في:"أحكام الجنائز" - ص (134).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3883)، وانظر كذلك:"فتح الباري"(7/ 194).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (3885)، وأخرجهُ مسلم في الصحيح (210).

(4)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح- حديث رقم (212) - كتاب الإيمان، من حديث ابن عباس، وانظر كذلك -حديث رقم- (213) للفظ بعده.

ص: 629

والمقصود: محاولة بعض كفار قريش اعتذارهم للنبي صلى الله عليه وسلم عن اتباع هذا الوحي الذي هو الدين الحق بتَخَوُّفِهم من تألُّبِ قبائل العرب عليهم، واستهدافهم بالمحاربةِ والأذى فأثبت اللهُ تعالى كذبهم في ما اعتذروا به، وبطلان استدلالهم.

فقال: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} . قال ابن عباس: (ثمرات الأرض).

قال قتادة: (أولم يكونوا آمنين في حرمهم لا يغزون فيه ولا يخافون، يُجبى إليهِ ثمراتُ كل شيء).

قال ابن زيد: (آمناكم به. قال: هي مكة، وهم قريش).

قال ابن كثير: (يعني هذا الذي اعتذروا به كَذِبٌ وباطل، لأن الله تعالى جعلهم في بلد أمين، وحَرَمٍ مُعَظَّمٍ آمِنٍ منذُ وُضعَ، فكيف يكونُ هذا الحرم آمنًا لهم في حال كفرهم وشركهم، ولا يكون آمنًا لهم وقد أسلموا وتابعوا الحق؟ ! وقوله تعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ}، أي: من سائر الثمار مما حوله من الطائف وغيره، وكذلكَ المتاجر والأمتعة).

وقوله: {رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . أي: هذه النعم العظيمة من الأمن والرزق إنما كانت رزقًا من عندنا، ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلون نعمة الله عليهم ولا يقومون بما يجب عليهم من شكرها.

وقوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} .

قال ابن زيد: (البطر: أَشَرُ أهل الغفلهَ وأهل الباطل والركوب لمعاصي الله).

وقال الزجاج: (البطر الطغيان بالنعمة).

وفي التنزيل نحو ذلك:

قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [النحل: 112 - 113].

أخرج البيهقي في "شعب الإيمان" بسند صحيح لغيره عن عائشة مرفوعًا: [إذا ظهرَ

ص: 630

السوء في الأرض أنزل الله عز وجل بأسه بأهل الأرض، وإن كان فيهم صالحون، يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يرجعون إلى رحمة الله] (1).

وأخرج الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا ظهر الزِّنا والرِّبا في قريةٍ، فقد أحلُّوا بأنفسهم عذاب الله](2).

وقوله: {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا} .

قال ابن عباس: (لم يسكنها إلا المسافر أو مارّ الطريق يومًا أو ساعة).

قال القرطبي: (أي لم تسكن بعد إهلاكِ أهلها إلا قليلًا من المساكن وأكثرها خراب).

وقوله: {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} .

أي: دثرت ديارهم وعادت كما كانت قبل سُكْناهم فيها، لا مالك لها إلا الله، الذي له ميراث السماوات والأرض.

وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} .

قال النسفي: ({وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى} في كل وقت {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا} أي في القرية التي هي أمها أي أصلها ومعظمها {رَسُولًا} لإلزام الحجة وقطع المعذرة. أو وما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلكَ القرى في الأرض حتى يبعثَ في أم القرى -يعني مكة لأن الأرض دحيت من تحتها- رسولًا، يعني محمدًا عليه السلام {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} أى القرآن).

وقوله: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} .

قال ابن عباس: (قال الله: لم يهلك قرية بإيمان، ولكنه يهلكُ القرى بظلمِ إذا ظلم أهلها، ولو كانت قرية آمنت لم يهلكوا مع من هلك، ولكنهم كذّبوا وظلموا، فبذلكَ أُهلكوا).

60 -

61. قوله تعالن: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا

(1) صحيح لغيره. أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(2/ 441/ 2)، وأبو نعيم في "الحلية"(10/ 218)، وأحمد في المسند (6/ 294). وانظر السلسلة الصحيحة (1372).

(2)

حديث صحيح. أخرجه الطبراني والحاكم. انظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (692).

ص: 631

عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)}.

في هذه الآيات: إعلامُ الله تعالى عن فناءِ بهجة الحياة الدنيا وزينتها وأنّ ما عنده خير وأبقى للذاكرين. وتأكيدٌ أنّ وعدهُ المؤمنين في الدار الآخرة ليس كهذه الزينة الزائلة من يد المسرفين، ثم يكون صاحبها بأيدي الملائكةِ يُساقُ إلى الحساب في الأذلين.

فقوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} . أي: إن كل ما في هذه الدنيا من زينةٍ وبهجةٍ ومتاع إنما هو مما يتمتع ويتزين بهِ أيامًا قلائل، ثم تنقضي بالموتِ أو الزوال، وأما ما عند اللهِ مما أعدَّهُ لعبادهِ الصالحين في جنات الخلود فهو دائم لا محيدَ عنهُ ولا انقطاعَ، ولا يشوبهُ مُنَغِّصٌ أو خوف أو قلق.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96].

2 -

وقال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد: 26].

3 -

وقال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16 - 17].

4 -

وقال تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [آل عمران: 198].

ومن صحيح السنة المطهرة في آفاق هذه الآية أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الترمذي والحاكم بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود قال: [اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فأثر في جنبه، فلما استيقظ جعلتُ أمسح جنبه، فقلتُ: يا رسول الله ألا آذنتنا حتى نبسط لك على الحصير شيئًا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لي وللدنيا؟ ! ما أنا والدنيا؟ ! إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظَلَّ تحت شجرة ثم راحَ وتركَها](1).

الحديث الثاني: أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن قيس بن أبي حازم، قال: سمعتُ

(1) حديث حسن صحيح. أخرجه الترمذي (2/ 60)، والحاكم (4/ 310)، وابن ماجة (2/ 526)، وأحمد (1/ 391 - 441)، وانظر السلسلة الصحيحة (439).

ص: 632

المُستَورِدَ، أخا بني فِهْرٍ، يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ما مثل الدنيا في الآخرةِ، إلا مَثَلُ ما يجعَلُ أحَدُكُمْ إصبَعَه في اليمِّ. فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِع](1).

الحديث الثالث: أخرج ابن حبان والحاكم وأحمد بسند صحيح لغيره، عن ابن عباس:[أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليهِ عمر وهو على حصير قد أثَّرَ في جنبهِ فقال: يا نبي الله لو اتخذت فراشًا أوثر من هذا؟ فقال: ما لي وللدنيا؟ ! ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظلَّ تحت شجرةٍ ساعة من نهار، ثم راح وتركها](2).

الحديث الرابع: أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن سهل بن سعد قال: [كنا معٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحُليفة. فإذا هو بشاة ميتة شائلة برجلها. فقال: [أَتُرَوْنَ هذه هَيِّنَةً على صاحبها؟ فوالذي نفسي بيدهِ! للدنيا أهونُ على اللهِ، مِنْ هذه على صاحبها. ولو كانت الدنيا تَزِنُ عند الله جناحَ بعوضَةٍ، ما سقى كافرًا مِنْها قَطْرَةً أبدًا](3).

الحديث الخامس: أخرج الإمامُ مسلم في الصحيح عن أبي هريرةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [مَنْ يَدْخُلِ الجنَّةَ يَنْعَمُ لا يَبْأَسُ، لا تَبْلى ثيابُهُ ولا يَفْنَى شَبابُهُ](4).

والخلاصة: الآية السابقة تخبر عن حقارة هذه الحياة الدنيا، وما فيها من الزينةِ الدنيئةِ والزهرة الفانية، وعدم الاستقرار بالنسبة لاستقرار نعيم الآخرة ودوام بهجته وزهرته وزينته. وقوله:{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} . أي: أفلا يعقل من يعطمُ أمر هذه الدنيا ومتاعها فوق أمر الآخرة.

وقوله تعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} . أي: هل يستوي المؤمن الموعود جزيل الثواب على الإيمان والعمل الصالح بالكافر الممتَّعِ أيامًا قلائل في هذه الحياة الدنيا ثم يحضر يوم القيامةِ إلى العذاب الأليم.

قال قتادة: (المؤمن سمع كتاب الله فصدق به وآمن بما وعد الله فيه {كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن (4108) - كتاب الزهد، باب مثل الدنيا انظر صحيح سنن ابن ماجة (3316)، وأصله في صحيح مسلم.

(2)

حديث صحيح. أخرجه ابن حبان (2526)، والحاكم (4/ 309 - 310)، وأحمد (1/ 301)، ورواه البيهقي كما في "الترغيب"(4/ 114)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (440).

(3)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (4110) - كتاب الزهد. انظر صحيح ابن ماجة (3318).

(4)

حديث صحيح. رواه مسلم في الصحيح (2836) - كتاب الجنة ونعيمها. باب في دوام نعيم أهل الجنة، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 633

الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} هو هذا الكافر، ليس واللهِ كالمؤمنِ {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} أي في عذاب الله).

وقال مجاهد: ({ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}: من المعذبين).

62 -

67. قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)}.

في هذه الآيات: تصويرُ الله تعالى الخزي وذل المشهد يوم القيامة على المشركين، وقد حيل بينهم ويبن ما يشتهون ونودوا ماذا أجبتم المرسلين، فعميت عليهم الأنباء ولم ينج يومئذ إلا من كانَ من المؤمنين التائبين.

فقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} .

تاتريع وتهديد، وتوبيخ وتنديد، بالمشركين الذين عبدوا الأوثان والأنداد والطواغيت في الدنيا من دون الله. قال القرطبي:(أي ينادي الله يوم القيامةِ هؤلاء المشركين {فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ} بزعمكم أنهم ينصرونكم ويشفعون لكم).

وقوله: {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} . يعني الشياطين والطواغيت والرؤساء.

وقوله: {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} . قال قتادة: (هم الشياطين).

قال القاسمي: ({قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} أي وجب وثبت مقتضاه. وهو لحوق الوعيد بهم. والمراد بهم، رؤساء الضلال، وقادة الكفر والفساد {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا} أي أضللناهم. {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} أي أضللناهم بالوسوسةِ والتسويل، كما ضللنا باختيارنا، وإيثار ما يفنى على ما يبقى).

وقوله: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} . قال النسفي: (منهم ومما اختاروه من الكفر).

وقوله: {مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} . أي لم يكونوا يعبدوننا. فشهدوا عليهم أنهم

ص: 634

أغووهم فمضوا خلفهم واتبعوهم وعَظَّموهم، ثم تبرؤوا من عبادتهم وتنصَّلوا من أفعَالهم.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81 - 82].

2 -

وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5 - 6].

3 -

وقال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 166 - 167].

4 -

وقال تعالى: -يحكي كلام الخليل لقومه- {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: 25].

ومن صحيح السنة المطهرة في آفاق هذه الآية أحاديث، منها:

الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشِّرك، مَنْ عَمِلَ عملًا أَشْرَكَ فيهِ معي غيري، تَرَكْتُهُ وشِرْكَهُ](1).

الحديث الثاني: أخرج الترمذي بسند حسن عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري -وكان من الصحابة- قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إذا جمع الله الناسَ ليوم القيامةِ لِيَومٍ لا ريْبَ فيهِ، نادى منادٍ: مَنْ كَانَ أشركَ في عَمَل عَمِلَهُ للهِ أحدًا، فليطلب ثوابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله، فإن اللهَ أغنى الشركاء عن الشِّرك](2).

الحديث الثالث: أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2985) - كتاب الزهد، باب تحريم الرياء.

(2)

حديث حسن. أخرجه الترمذي (3374) - في التفسير، انظر صحيح سنن الترمذي (2521)، وأخرجهُ ابن ماجة في السنن (4203) - كتاب الزهد، باب: الرياء والسمعة.

ص: 635

قال: [قال الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عَمِلَ لِي عملًا أشركَ فيه غيري، فأنا منه بريءٌ. وهو للذي أشرك](1).

وقوله تعالى: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} .

أي: وقيل نادوا شركاءكم اليوم ليخلصوكم من هذا المأزق وينقذوكم مما أنتم قادمون عليه من العذاب، فدعوهم كما كانوا يدعونهم في الدنيا فلم يجيبوهم، ومحاينوا العذاب وودّوا أنهم كانوا في الدنيا مهتدين للحق متبعين سبيل الرسل.

وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} .

قال ابن جُريج: (قال: بلا إله إلا الله، التوحيد).

قال ابن كثير: (النداء الأول عن سؤال التوحيد، وهذا فيه إثبات النبوَّات: ماذا كانَ جوابكم للمرسلين إليكم؟ وكيف كان حالُكم معهم؟ ).

قلت: وكُلُّ مَنْ مات بعد خاتم النبيين، محمد عليه وعلى المرسلين أفضل الصلاة والتسليم، فإنه يُسأل عنه صراحة إذا نزل في قبرهِ بعد سؤالهِ عن التوحيد: عن ربه ودينهِ. وفي ذلكَ أحاديث:

الحديث الأول: أخرج أحمد وأبو داود والحاكم بسند صحيح من حديث البراء مرفوعًا قال: أفيأتيهِ ملكان شديدا الانتهار، فينتهرانه ويجلسانهِ فيقولان له: من ربك؟ ميقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينكَ؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان لهُ: وما عملك؟ فيقول: قرأتُ كتاب الله، فآمنتُ بهِ، وصدقت] (2).

وأما الفاجرُ والكافر: [فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه، هاه -لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه- لا أدري، فيقولان: فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فلا يهتدي لاسمهِ، فيقال: محمد! فيقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون ذاك! فيقال: لا دريت ولا تلوت].

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن (4202) - كتاب الزهد. الباب السابق. وانظر صحيح سنن ابن ماجة -حديث رقم- (3387).

(2)

حديث صحيح. أخر جه أحمد (4/ 287)، وأبو داود (2/ 281)، والنسائي (1/ 282)، وابن ماجة (1/ 469)، والحاكم (1/ 37 - 40)، وانظر:"أحكام الجنائز"(159).

ص: 636

الحديث الثاني: أخرج الترمذي بسند حسن من حديث أبي هريرةَ مرفوعًا: [إذا قُبِرَ الميتُ أتاهُ ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر، وللآخر النكير، فيقولان: ما كنت تقولُ في هذا الرجل؟ فيقول: ما كانَ يقول: هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول](1).

قال: [وإن كان منافقًا قال: سمعتُ الناس يقولون قولًا فقلتُ مثلهُ، لا أدري].

وفي لفظ عند ابن ماجة: [فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول: سمعت الناس يقولون قولًا فقلته].

الحديث الثالث: أخرج ابن ماجة بسند صحيح من حديث أبي هريرةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [فيجلس الرجل الصالح في قبره، غيرَ فزع ولا مَشْعوف -الشعف: شدة الفزع- ثم يقال له: فيمَ كنتَ؟ فيقول: كنتُ في الإسلام، فيقالُ لهُ: ما هذا الرجل؟ فيقول: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه، فيقالُ لهُ: هل رأيتَ الله؟ فيقول: ما ينبغي لأحدٍ أن يرى الله](2).

والخلاصة: يُسأل الرجل في قبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن يُسأل عن أصول دينه: معرفة الله ودينه وبعض الصفات الموافقة لمنهج التوحيد.

ورحم اللهُ القائل:

فَواحَرَّ قَلبي من جهول مُسَوَّدٍ

بهِ يُقتدى في جهله لشقائه

إذا قلت قول المصطفى هو مذهبي

متى صَحَّ عندي لم أقل بسوائهِ

يرى أنها دعوى اجتهاد صحيحة

فواعجبًا من جَهْلِهِ وجفائه

فسَلْهُ أَقَوْلُ الله ماذا أجبْتُم

لمن هو يوم الحشر عند ندائه

أيسألهم ماذا أجبتم مُلوكَكُمْ

وما عَظَّمَ الإنسانُ من رؤسائه

أم الله يوم الحشر يمتحن الورى

بماذا أجابوا الرُّسْلَ من أنبيائه

وهل يُسألُ الإنسان عن غير أحمد

إذا ما ثوى في الرّمْسِ تحتَ ثرائه

وهل قوْلُه يا ربّ قَلَّدْتُ غيره

لدى الله عُذْرٌ يوم فصل قضائه

(1) حديث حسن أخرجه الترمذي (2/ 163)، وابن أبي عاصم في "السنة"(864)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (1391).

(2)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن (4268)، وانظر صحيح الجامع الصغير (1964).

ص: 637

وقوله تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} .

قال ابن جريج، عن مجاهد:(بالأنساب. وقيل معنى ذلك: فعميت عليهم الحجج يومئذ فسكتوا، فهم لا يتساءلون في حال سكوتهم).

وعن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:({فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} قال: لا يتساءلون بالأنساب، ولا يتماتُّونَ بالقرابات، إنهم كانوا في الدنيا إذا التقوا تساءلوا وتَماتُّوا).

قال الشهاب: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ} - فيه استعارة تصريحية تبعية استعير العمى لعدم الاهتداء. فهم لا يهتدون للأنباء. ثم قلب للمبالغة. فجعل الأنباء لا تهتدي إليهم. وضمن معنى الخفاء. فعدّي بـ {عَلَى} . ففيه أنواع من البلاغة: الاستعارة والقلب والتضمين).

قال النسفي: (خفيت عليهم الحجج أو الأخبار. وقيل: خفي عليهم الجواب فلم يدروا بماذا يجيبون إذ لم يكن عندهم جواب {فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} لا يسأل بعضهم بعضًا عن العذر والحجة رجاء أن يكون عنده عذر وحجة، لأنهم يتساوون في العجز عن الجواب).

وقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} .

أي: فأما من تدارك نفسه في هذه الدنيا من المشركين فأناب إلى الله وأخلص له الألوهية وأفرده بالعبادة والتعظيم، وعَدَّل ما فاته بالعمل الصالح، فهو بإذن الله من الناجين المُنجِحين المدركين رجاءهم السعادة والخلود في جنات النعيم.

68 -

70. قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)}.

في هذه الآيات: كمال علم الله ونفاد إرادته ومشيئته في خلقه وأكثرهم يشركون. وهو سبحانهُ يعلم ما تخفي صدورهم وما يعلنون، وهو الله الإله الحق الأحد الصمد الحَكَمُ وإليهِ يرجعون.

ص: 638

فقوله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} .

قال ابن عباس: (والمعنى: وربك يخلق ما يشاء من خلقه ويختار منهم من يشاء لطاعته).

وقال يحيى بن سلّام: (وربك يخلق ما يشاء من خلقه ويختار من يشاء لنبوته).

والآية بعمومها إخبار من الله تعالى أنه المنفرد بالخلق والاختيار، فلا منازع لأمره ولا معقب لحكمهِ فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

وقوله: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} . قال النسفي: (ما لنفي اختيار الخلق تقريرًا لاختيار الحق). والمقصود: ليس لهم أن يختاروا على الله شيئًا ما، وله الخيرة عليهم.

واختار ابن جرير أنَّ "ما" بمعنى الذي، واستفاد من ذلكَ طائفةٌ من المعتزلة على وجوب مراعاة الأصلح. أي: ويختار الذي لهم فيه خيرة. والراجح أنها نافية. قال ابن كثير: (نفي على أصحِّ القولين. فإن المقام في بيان انفراده تعالى بالخَلقِ والتقدير والاختيار، وأنه لا نظير له في ذلك).

وقوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . تنزيه لله وتقديس وتمجيد، فهو المنفرد بالخلق والتدبير، لا ما يشرك به المشركون من الأنداد والأوثان والطواغيت.

وقوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} .

تمدح له سبحانه بأنه عالم الغيب والشهادة لا يخفى عليهِ شيءٌ، وأنه يعلمُ ما تخفيهِ صدور عباده وما يعلنونه بجوارحهم.

كقوله جل ذكره: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10].

وكقوله جل ثناؤه: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19].

وقوله: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} . تقرير للألوهية بعد إثبات تفرّده بخصائص الربوبية.

أي: فكما أنه وحده يخلق ويختار فهو الربّ العظيم لا ربَّ سواه، فكذلكَ هو الإله الحق المستحق للعبادة لا إله غيره.

والآية تقريع للمشركين الذين هم مقهورون بربوبيته عز وجل، والتي كان ينبغي أن تقتضي منهم إفراده تعالى بالعبادةِ والتعظيم.

ص: 639

وقوله: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} . قال القرطبي: (جميع المحامد إنما تجبُ له).

أي: فهو المحمود أولًا وآخرًا لكمال عدلهِ وحكمته جل ثناؤه.

وقوله: {وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . أي: لا حكم إلا له، والمرجع للفصل إنما هو بين يديه.

قال ابن جرير: (يقول: وله القضاء بين خلقه {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يقول: وإليه تردّون من بعدِ مماتكم، فيقضي بينكم بالحق).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57].

2 -

وقال تعالى: {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 46].

وفي صحيح سنن أبي داود والنسائي عن هانئ بن يزيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ الله هو الحَكَمُ، وإليهِ الحُكْم](1).

71 -

73. قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)}.

في هذه الآيات: امتنانُ الله تعالى على عبادهِ نعمة تقليب الليل والنهار وتعاقبهما، فإنه تعالى لو شاء استمرار الليل على عبادهِ دون انقطاع لوقع الضرر بمصالحهم، ولسئمت نفوسهم، ولأظلمت آمالهم. ولو شاء استمرار النهار عليهم دون انقطاع لحصل الضرر بأبدانهم، ولوقع المللُ والضجر من تتابع أشغالهم.

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (4955)، وكذلكَ النسائي. انظر صحيح سنن أبي داود -حديث رقم- (4145)، وصحيح الجامع (1841).

ص: 640

ولكنه سبحانه وتعالى عاقب الليل والنهار عليهم لينتشروا في نهارهم بالأسفار والترحال، والحركات والأشغال، وليسكنوا في ليلهم من تعب الحركة والانتقال، ولعلهم بذلك أن يكونوا من الشاكرين.

فقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} . قال ابن عباس: (يقول: دائمًا). وقال مجاهد: (قوله: {سَرْمَدًا} دائمًا لا ينقطع).

وقوله: {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} . أي: قل -يا محمد- لهؤلاء المشركين: كيف يكون حالكم لو تابع الله تعالى عليكم الليل دون انقطاع، من معبود يقدر أن يأتيكم بضياء النهار إلا الله المعبود الحق.

وقوله: {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} . قال ابن جرير: (يقول أفلا تُرعون ذلكَ سمعكم، وتفكرون فيه فتتعظون، وتعلمون أن ربكم هو الذي يأتي بالليل ويذهب بالنهار إذا شاء، وإذا شاء أتى بالنهار وذهب بالليل، فينعم باختلافهما كذلك عليكم).

وقال القرطبي: ({أَفَلَا تَسْمَعُونَ} سماع فهم وقبول).

وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} . قال ابن جرير: (فتستقرّون وتهدؤون فيه).

وقوله: {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} . قال القرطبي: (ما أنتم فيهِ من الخطأ في عبادةِ غيره، فإذا أقررتم بأنه لا يقدر على إيتاء الليل والنهار غيره فلمَ تشركون به).

قال النسفي: (قرن بالضياء {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده، وقرن بالليل {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنتَ من السكون ونحوه).

وقوله: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} . هو من باب اللفِّ والنَّشر.

أي: ومن رحمته بكم أيها الناس خالف بين الليل والنهار، فجعل الليل ظلامًا تسكنون فيهِ وترتاحونَ من عناء السعي وتعب التصرف، وجعل النهار ضياءً ليناسب انتشاركم في الأسفار والترحال، والحركات والأشغال.

وقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . قال ابن كثير: (أي: تشكرون الله بأنواع العبادات في الليل والنهار. ومن فاته شيء بالليل استدركهُ بالنهار، أو بالنهار استدركهُ بالليل).

ص: 641

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62].

2 -

وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 39 - 40].

3 -

وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130].

وفي صحيح مسلم عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ الله عز وجل يَبْسُطُ يَدَهُ بالليل، ليتوبَ مُسيءُ النَّهار، ويَبْسُطُ يَدَهُ بِالنهار، ليتوبَ مُسيءُ الليل، حتى تطلعَ الشمس من مغربها](1).

74 -

75. قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)}.

في هذه الآيات: إثباتُ خزي المشركين يوم يناديهم ربهم تبارك وتعالى لِيُخْرجوا له شركاءَهُ الذين كانوا يزعمون. وخروجُ الرسول من كل أمةٍ ليشهد عليها وضل عن المشركين ما كانوا يفترون.

فقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} .

توبيخ آخر وتقريع وزيادة خزي. يناديهم الرب تبارك وتعالى على رؤوس الأشهاد مطالبًا لهم بإخراج شركائه الذين صرفوا لهم العبادة والأموال.

قال النسفي: (كرر التوبيخ لاتخاذ الشركاء ليؤذن أن لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك به، كما لا شيء أدخل في مرضاتهِ من توحيده).

(1) حديث صحيح. رواه مسلم في الصحيح (2759)، كتاب التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة، من حديث أبي موسى رضي الله عنه.

ص: 642

وقوله: {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} . قال مجاهد: (رسولًا). وقال قتادة: (وشهيدُها: نبيها، يشهدُ عليها أنه قد بَلَّغَ رسالة ربه). وهذا كقولهِ تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41].

وقوله: {فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} . قال مجاهد: (حجتكم لما كنتم تعبدون وتقولون).

وقوله: {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} . قال القرطبي: (أي علموا صدق ما جاءت به الأنبياء).

وقال القاسمي: ({فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} أي في الألوهية، لا يشاركه فيها أحد).

وقوله: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} .

أي: وغاب عنهم واضمحل ما كانوا يشركون، وما كانوا يتخرصون ويكذبون على ربهم، فلم ينفعوهم ولم يشفعوا لهم كما كانوا يزعمون ويظنون.

76 -

82. قوله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ

ص: 643

تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)}.

في هذه الآيات: قصة قارون -صاحب الأموال العظيمة- الذي كان من المفسدين، وكان يتمنى ما عنده كل من حولهُ ولم ينج من فتنة ذلكَ إلا من كانَ من أهل العلم الراسخين. فخرج على قومهِ مستكبرًا متزينًا بالعجب والغرور حتى خسف الله به الأرض ليكون عبرة للمعتبرين.

فقوله: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} - فيه تأويلان:

1 -

قال القاسمي: (أي من شاكلتهم في الكفر والطغيان. وقوم موسى، جماعته الذين أرسل إليهم، وهم القبط وطاغيتهم فرعون {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} أي بالكبر والاستطالة عليهم، لما غلب عليهم الحرص ومحبة الدنيا، لغروره وتعززه برؤية زينة نفسه).

2 -

قال النسفي: (كان إسرائيليًا ابن عم لموسى. قال: وكان يسمىِ المُنَوِّر لِحُسْنِ صوته، وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة ولكنهُ نافق كما نافق السامري {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} من البغي وهو الظلم، قيل: ملكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم، أو من البغي الكبر، تكبّر عليهم بكثرة ماله وولده، أو زاد عليهم في الثياب شبرًا).

قلت: وقيل غير ذلك، وأهمها ما سبق. والعبرة أنه كان قريبًا من قومِ موسى دون يقين راسخ بالله تعالى وتديبر أمور خلقه وشؤونهم، فأتاه المنصب والمال فكانت فتنته فيهما التي أفسدت عليه مصيره، وجعله الله تعالى عبرة لمن يعتبر.

وقوله: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} .

أي: وآتاه الله من وفرة الأموال ما تحتاج العصبة لتنهض بمفاتح خزائنه.

قال ابن كثير: ({وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} أي: الأموال. {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ}، أي: لَيُثقلُ حملُها الفِئامَ من الناسِ لِكَثْرَتِها).

قلت: وأصل تنوء -في لغة العرب- من نوأ. وناءَ فلانٌ بالحِمْلِ إذا نَهضَ بهِ مُثْقلًا. قال الرازي: (وناءَ به الحِمْلُ أَثْقَلَهُ، ومنه قوله تعالى: {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} أي لَتُنِيءُ العُصْبَة بثقلِها).

وقد ورد في التفاسير هنا من المبالغات الكثيرة في وصف تلك المفاتيح دون دليل

ص: 644

صحيح تقوم به الحجة، فنكتفي بمجمل التنزيل ودلالته البليغة دون خوض فيما لا فائدة منه.

وقوله: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} .

أي: أرشده صالحو قومه أن لا تَبطر فيما وهبك الله من هذه الأموال الكثيرة، فإن الله تعالى لا يحب أهل البَطَرِ والكبر والغرور.

قال ابن عباس: ({إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}: يعني المرحين). وقال مجاهد: (يعني الأشِرين البَطِرين، الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم).

فالفرح هنا بمعنى العجب والغرور، والكبر الذي يدفع إلى الظلم والشرور.

قال مجاهد: (هو فرح البغي).

أخرج ابن عدي والعقيلي بسند حسن لغيره عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لو لم تكونوا تذنبون خشيت عليكم أكثر من ذلك: العجب](1).

ورواه البيهقي بسند حسن عن أنس كذلكَ بلفظ: [لو لم تكونوا تُذنِبُون، لخِفْتُ عليكم ما هو أكبرُ من ذلكَ، العُجْبَ العُجْب].

وقوله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} .

قال ابن كثير: (أي: استعمِل ما وَهَبكَ الله من هذا المالِ الجزيلِ والنّعمةِ الطائلةِ في طاعةِ رَبِّك والتقرّب إليه بأنواع القُربات التي تُحصِّل لك الثواب في الدار الآخرة. {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}، أي: ما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكِن والمناكِح، فإن لِرَبكَ عليكَ حقًّا، وَلنَفْسِكَ عَليكَ حقًّا، ولأهلِكَ عليكَ حقًّا، ولزَوْرِكَ (2) عَليكَ حقًّا، فآت كلَّ ذي حقٍّ حقَّه).

وقوله: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} .

قال النسفي: ({وَأَحْسِنْ} إلى عباد الله ({كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}. أو: أحسِن بشكرك وطاعتك لخالق الأنام كما أحسن إليكَ بالإنعام).

(1) حديث حسن. أخرجه العقيلي (171)، وابن عدي (1/ 164)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(1/ 117)، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (658)، ورواه البيهقي وغيره. وانظر صحيح الجامع (5179) للرواية الثانية.

(2)

ولزَوْرِك: أي زوّارك الذين يزورونك.

ص: 645

وقوله: {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} . قال القرطبي: (أي لا تعمل بالمعاصي).

وقال ابن جرير: (يقول: ولا تلتمس ما حرَّم الله عليكَ من البغي على قومك. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} يقول: إن الله لا يحب بُغاة البغي والمعاصي).

وقوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} . قال قتادة: (على خبر عندي).

وقال ابن زيد: (قال: لولا رضا الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [الزمر: 49] أي: على عِلم من الله بي وباستحقاقي وفضلي.

2 -

وقال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت: 50].

وإنما هذه فتنة واستدراج من الله تعالى للمغرورين والمستكبرين يعقبها النقمة وحلول العذاب.

فقد أخرج الإمام أحمد في المسند، وابن جرير في "التفسير" بسند صحيح عن عقبة ابن عامر مرفوعًا:[إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج. ثم تلا: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}](1).

وقوله: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} .

أي: لو كان الله يعطي الأموال والقوة كُلَّ من يحب، لما أهلك أرباب الأموال وأصحاب القوة عبر الزمان. قال ابن كثير:(أي: قد كان من هو أكثرُ منه مالًا وما كانَ ذلكَ عن محبَّةٍ منا له، وقد أهلكهم الله مع ذلكَ بكفرهم وعدم شكرهم، ولهذا قال: {وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}، أي: لكثرةِ ذنوبهم).

(1) حديث صحيح. أخرجهُ أحمد (4/ 145)، وابن جرير في "التفسير"(7/ 115)، وقال الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" (4/ 115):"رواه أحمد والطبراني والبيهقي في "الشعب" بسند حسن". وانظر السلسلة الصحيحة (414).

ص: 646

وقوله: {وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} - فيه أقوال متقاربة متكاملة:

1 -

قال الحسن: (أي لا يسألون سؤال استعتاب كما قال: {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [النحل: 84]. {فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت: 24]. وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ لقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92]).

2 -

قال مجاهد: (لا تسأل الملائكةُ غدًا عن المجرمين، فإنهم يعرفون بسيماهم، فإنهم يحشرون سود الوجوه زرق العيون).

3 -

وقال قتادة: (لا يسأل المجرمون عن ذنوبهم لظهورها وكثرتها، بل يدخلون النار بلا حساب).

4 -

وقيل: لا يسأل مجرمو هذه الأمةِ عن ذنوبِ الأمم الخالية الذين عذبوا في الدنيا.

وقيل: أهلك من أهلك من القرون على علم منه بذنوبهم فلم يحتج إلى مسألتهم عن ذنوبهم. ذكره القرطبي.

وقوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} .

قال ابن كثير: (يقول تعالى مخبرًا عن قارون: أنه خرجَ ذاتَ يومٍ على قومِهِ في زينةٍ عظيمةٍ، وتَجَمُّلٍ باهِرٍ، مِنْ مراكبَ وملابسَ عليهِ وعلى خَدَمه وحَشمه، فلما رآهُ مَنْ يريدُ الحياة الدنيا ويميلُ إلى زُخرفها وزينتها تَمنَّوا أن لو كان لهم مثل الذي أعطي، {يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}، أي: ذو حظٍّ وافر من الدنيا. فلما سمعَ مقالتَهم أهل العلم النافع قالوا لهم: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}، أي: جزاء الله لعبادهِ المؤمنين الصالحين في الدار الآخرة خير مما ترون، كما في الحديث الصحيح: [يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أُذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، واقرؤوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]).

قلت: وقد امتلأت كتب التفاسير بروايات لا تقوم بها الحجة في وصف الزينةِ التي خرج بها قارون على قومهِ بأشكالها وألوانها وأعدادها وغير ذلكَ مما لا حاجة إلى معرفتهِ، وإنما يكفينا العبرةُ بإجمال القرآن، وأنها زينة عظيمة بهرت العيون وشغلت

ص: 647

القلوب، ولكنها كانت في موضع غرور وكبر، فكان مآلها التدمير والهلاك.

وقد أحسن الحافظ ابن كثير رحمه الله بتجاوز تلك الروايات والإتيان بكلامِ جامع مفيد كما سبق، في حين أكثر مُعظَمُ المفسرين من تلك الروايات.

وقوله: {وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} . إمّا من تمام كلام أهل العلم، أو هو كلام مستأنف. قال ابن جرير:(يعني بذلك: الذين صبروا عن طلب زينةِ الحياة الدنيا، وآثروا ما عند الله من جزيل ثوابه على صالحات الأعمال على لذّات الدنيا وشهواتها، فجدّوا في طاعةِ الله، ورفضوا الحياة الدنيا).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

2 -

وقال تعالى: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].

وفي جامع الترمذي بسند حسن عن أنس، قال النبي صلى الله عليه وسلم:[إنَّ عِظَمَ الجزاء مع عِظَمِ البلاء، وإن الله تعالى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فَمَنْ رضي فله الرِّضى، ومن سَخِطَ فَلهُ السُّخطُ](1).

وفي سنن الترمذي كذلك بإسناد حسن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما يزالُ البلاءُ بالمؤمن والمؤمنةِ في نفسه وولدهِ وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليهِ خطيئة](2).

وقوله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} .

هو إخبار عن نهاية الكبر والخيلاء، والبطر والغرور وسبيل الأشقياء. فقد خسف الله بقارون وبداره التي فيها أمواله ومتاعه وزينته الأرض.

أخرج البخاري ومسلم عن الزُّهري، قال: أخبرني سالِمٌ: أنَّ ابن عمر حدَّثَه أن

(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي (2398) وقال: حديث حسن. وانظر سنن ابن ماجة (4024) من حديث أبي سعيد الخدري، والحديث حسن في الشواهد.

(2)

رواه الترمذي في السنن -حديث رقم- (2401)، وقال حديث حسن صحيح. وإسناده حسن.

ص: 648

النبي صلى الله عليه وسلم قال: [بينما رجلٌ يَجُرُّ إزارَهُ من الخُيلاء خُسِفَ بهِ فهو يتجَلْجَلُ في الأرض إلى يومِ القيامة](1).

وفي صحيح البخارى عن أبي هريرة يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم أو قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: [بينما رجلٌ يمشي في حُلّةٍ تُعْجبُهُ نفسُهُ، مُرَجِّلٌ جُمَّتَه، إذ خَسَفَ اللهُ به، فهو يَتجَلْجَلُ إلى يوم القيامة](2).

وقوله: {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} .

أي: فلم يكن له جند يستنجد بهم، ولا فئة يرجع إليهم، يلتمس منهم النجدة والنصر، ولا كانَ هو ممن ينتصر من الله إذ أنزل عليهِ سخطه وأحلَّ بهِ نقمته.

قال قتادة: ({فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ} أي جند ينصرونه، وما عنده منعة يمتنعُ بها من الله).

وقوله: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} .

قال قتادة: ({وَيْكَأَنَّهُ} ألم تر أنه). وفي رواية: (أولا يعلمُ أنه). وقيل: {وَيْكَأَنَّ} : معناها: "ويلك اعلم أنّ". وقيل: "وي" للتعجب أو التنبيه، وكأنَّ: بمعنى أحسب وأظن.

والمقصود: فلما رأى الذين تمنوا زينة قارون بالأمسِ ما حَلَّ به من سخط الله ونِقمتهِ علموا أن المال ليس بدال على رضا الله عن صاحبهِ، فإنه تعالى قد يعطي المال استدراجًا لعصاة عباده، فهو الذي يُضَيِّق ويوسِّع، ويخفض ويرفع، ويعطي ويمنع، وإنما يقسم الأرزاق بين عباده بحكمته جل ثناؤه.

أخرج الإسماعيلي في "المعجمِ" بسند صحيح عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الله قسَمَ بينكم أخلاقكم كما قسَمَ بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحبُّ ومن لا يحبُّ، ولا يعطي الإيمان إلا من أَحبَّ، فمن ضنَّ بالمال أن ينفقَه، وخافَ

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3485)، كتاب أحاديث الأنبياء، وكذلكَ (7590)، كتاب اللباس، ورواه مسلم (2088) من حديث أبي هريرة بنحوه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (5789)، كتاب اللباس. باب من جرَّ ثوبَهُ من الخيلاء.

ص: 649

العدو أن يجاهِدَهُ، وهابَ الليل أن يكابدَهُ، فليكثر من قول: سبحان الله، والحمدُ لله، ولا إله إلا الله، واللهُ أكبر] (1).

وقوله: {لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} .

أي: لولا لطف الله ورحمته بنا لخسف بنا كما خسف بقارون الذي تمنّينا مثل حاله بالأمس.

وقوله: {وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} . قال ابن جرير: (يقول: ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون، فتُنْجِح طلباتهم).

قال ابن كثير: (يعنون أنه كان كافرًا، ولا يفلحُ الكافرون عند الله، لا في الدنيا ولا في الآخرة).

83 -

84. قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)}.

في هذه الآيات: إعدادُ الله تعالى في الجنةِ منازل لأهل كرامته الذي كانوا على منهاج النبوةِ ولم يكونوا من المسرفين. وتضاعف الحسنات للمؤمنين ولا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون.

فقوله: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} .

قال عكرمة: (العُلُوّ: التجبر). وقال سعيد بن جبير: (العلو: البغي).

وقال سفيان الثوري: (العلو في الأرض: التكبّر بغير حق. والفساد: أخذُ المال بغير حق). وقال ابن جُريج: ({لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ}، تَعظُّمًا وتجبرًا، {وَلَا فَسَادًا}: عملًا بالمعاصي).

والمقصود: إنّ الله تعالى أعدّ النعيم المقيم في دار الخلود لعباده الصالحين،

(1) حديث صحيح في الشواهد. أخرجه الإسماعيلي في "المعجم"(1/ 114)، وانظر مستدرك الحاكم (1/ 33)، ومعجم الطبراني "الكبير"(8990)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (2714)، وذكر الألباني أنه موقوف في حكم المرفوع، وأورد له بعض الشواهد المرفوعة.

ص: 650

المؤمنين المتواضعين، المخبتين المتذللين لأمره وشرعه، الذين يريدون إعلاء كلمته في الأرض والحكم بشريعته، ولا يبغون ظلمًا ولا تكبرًا، ولا تجبرًا ولا نشرًا للمعاصي والآثام.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 18 - 19].

2 -

وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15 - 16].

3 -

وقال تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 63].

ومن صحيح السنة العطرة في آفاق هذه الآية أحادبث:

الحديث الأول: أخرج الطبراني في "المعجم الكبير" بسند حسن لغيره عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ما من آدمي إلا في رأسهِ حَكَمَة بيد ملك، فإذا تواضعَ قيل للملك: ارفع حكمته، وإذا تكبَّر قيل للملك: ضع حكمته](1).

قلت: والحَكَمَةُ: موضع أعلى الناصية، كما هو معروف في كلام العرب.

الحديث الثاني: أخرج مسلم وأبو داود وابن ماجة من حديث عياض بن حمار، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:[إنَّ الله أوْحَى إليَّ أن تواضَعوا حتى لا يَفْخَرَ أَحَدٌ على أَحَدٍ، ولا يبغي أَحَدٌ على أَحَدٍ](2).

الحديث الثالث: خرّج مسلم في الصحيح عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(1) حسن لشواهده. أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(3/ 182/ 1) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه، وقال الهيثمي في "المجمع" (82/ 8):"رواه الطبراني وإسناده حسن". وقال المنذري في "الترغيب"(4/ 16): "رواه الطبراني، والبزار بنحوه من حديث أبي هريرة، وإسنادهما حسن". وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (538).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2865) ح (64)، كتاب الجنةِ ونعيمها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار. ورواه أبو داود (4895)، وابن ماجة (4214).

ص: 651

[لا يدخلُ الجنَّةَ مَنْ كانَ في قلبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ. قال رجل: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يكونَ ثوبُهُ حَسَنًا، ونَعْلُهُ حَسَنةً. قال: إن الله جميلٌ يُحِمث الجمال، الكِبْرُ: بَطَرُ الحَق وغَمْطُ الناس](1).

وقوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} . قال قتادة: (أي: الجنة للمتقين).

والمقصود: إن غاية السرور والرضا وحسن الختام وحسن الاستقبال يومَ القيامة إنما هو لأهل التقوى في جنات النعيم المقيم.

وقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

قال قتادة: ({مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا}. أي: لهُ منها حظّ خير، والحسنة: الإخلاص، والسيئةُ: الشرك).

قال ابن كثير: ({مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} أي: يوم القيامة {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا}: أي ثوابُ الله خير من حسنة العبدِ، فكيفَ والله يضاعفه أضعافًا كثيرة، وهذا مقامُ الفَضْل. ثم قال: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، كما قال في الآية الأخرى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90]، وهذا مقامُ الفَصْلِ العَدْل).

وفي التنزيل نحو ذلك:

قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160].

وفي صحيح مسلم عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل، قال:[إنَّ الله كتَبَ الحسنات والسيئات، ثم بيَّنَ ذلك، فَمَنْ هَمَّ بِحسَنةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتبَها اللهُ عِندَهُ حَسنةً كامِلةً، فإنْ هَمَّ بها فعَمِلها كَتَبها اللهُ عز وجل عنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إلى سَبع مئةِ ضعفٍ إلى أضعاف كثيرة، وإنْ هَمَّ بسيئة فَلم يَعْمَلْها كَتبها اللهُ عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعَمِلَهَا، كَتبَها اللهُ سيئةً واحدة](2).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (91)، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (131)، كتاب الإيمان. باب إذا همَّ العبد بحسنةٍ كُتبت، وإذا همّ بسيئة لم تكتب. وانظر كذلكَ الحديث (130).

ص: 652

وفي رواية: [ولا يَهْلِكُ على الله إلّا هالِكٌ].

85 -

88. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)}.

في هذه الآيات: إثباتُ المعاد إلى الله ليجزي نبيّه صلى الله عليه وسلم أجر المجاهدين الصابرين، واللهُ تعالى أعلم بعبادهِ المهتدين ممن كان في ضلال مبين. وإعلامُ الله تعالى نبيّهُ رحمته به بإنزال هذا القرآن ليثبته على الحق ولئلا يكونَ ظهيرًا للكافرين، أو يزل في فتنةِ أهل الشرك والهوى فلله الحكم وإليهه جميع الخلق يرجعون.

فقوله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} . قال مجاهد: (الذي أعطاكَ القرآن).

أي: إنَّ الذي أنزل عليكَ القرآن -يا محمد- وافترض عليك أداءه إلى الناس {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} - وهو يوم القيامة، فسائلك عما استرعاكَ من أعباء النبوة.

وقوله: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} فيه أقوال كثيرة:

1 -

قال ابن عباس: ({لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}: إلى مَعْدِنِك من الجنة). أو قال: (إلى الجنة). وقال أبو سعيد الخدري: (معاده آخرته الجنة).

2 -

قال أبو مالك: (إلى الجنة ليسألك عن القرآن).

3 -

وقال مجاهد: ({لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قال: يجيء بك يوم القيامة).

4 -

وعن الحسن: (إي والله، إن له لمعادًا يبعثهُ الله يوم القيامةِ، ويدخلهُ الجنة).

5 -

وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:({لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قال: إلى الموت).

6 -

روى البخاري عن عكرمة، عن ابن عباس:{لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قال: إلى مكة). وقال: (يقول: لرادّكَ إلى مكة، كما أخرجكَ منها). قال مجاهد: (إلى مولدك بمكة).

ص: 653

قلت: والجمع ممكن بين هذه الأقوال: فإن الله تعالى افترض على رسوله صلى الله عليه وسلم إبلاغ هذا القرآن الذي أنزله عليه، ثم هو سبحانهُ نصره على طغاة مكة حتى فتحها بعد ما أخرجوه منها، ثم إنه تعالى قبضه إليه ثم إن الموعد ين يديه، ليثيبه على جهاده وقيامهِ بأعباء النبوةِ في جنَّةِ عرضها السماوات والأرض، هو خيرُ من يدخلها ويستقر فيها.

وقوله: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} .

أي: قل -يا محمد- لمن كذّبكَ من قومكَ وأصرّ على مخالفتكَ، ولمن مضى على منهاجهم في الكفر: إن ربي هو أعلم بالمهتدي الذي هو على سبيل الهدى، وإذا سلكه نجا، ومن هو على منهاجِ الغي والضلال، يمضي على سبيل العمى، ويجور عن طريق الهدى.

وقوله: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وما كنت ترجو يا محمد أن ينزل عليكَ هذا القرآن، فتعلم الأنباء والأخبار عن الماضين قبلك، والحادثة بعدك، مما لم يكن بعدُ، مما لم تشهده ولا تشهده، ثم تتلو ذلكَ على قومكَ من قريش، إلا أن ربكَ رحمك، فأنزله عليك، فقوله: {إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} استثناء منقطع).

وقوله: {فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} .

قال ابن كثير: (أي: إنما أُنزل الوحي عليكَ من الله من رَحْمَتِهِ بكَ وبالعبادِ بسَبَبِكَ فإذا مَنَحكَ بهذه النعمة العظيمة {فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} أي: معينًا. {لِلْكَافِرِينَ}، ولكن فارِقْهمْ ونابِذْهُم وخالِفهم).

وقوله: {وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ} . قال القرطبي: (يعني أقوالهم وكذبهم وأذاهم، ولا تلتفت نحوهم وامض لأمرك وشأنك).

والمقصود: لا تلتفت يا محمد إلى محاولات مكرة قومك في تكذيبك وصدّ الناس عنك، بل امض مستعينًا بربكَ، فإن الله ناصرك ومؤيدك.

وقوله: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} . أي: إلى توحيده وإفراده بالعبادةِ والتعظيم.

وقوله: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . قال ابن جرير: (يقول: ولا تتركنّ الدعاء إلى ربك، وتبليغ المشركين رسالته، فتكون ممن فَعَل فِعل المشركين بمعصيته ربه، وخلافه أمره).

ص: 654

وقوله: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَر} .

قال ابن عباس: (الخطاب في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أهل دينه).

وقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} . أي: لا معبود تصلح له العبادة إلا الله جل ثناؤه.

وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} . فيه أكثر من تأويل:

التأويل الأول: كل شيء هالك إلا هو.

قال ابن كثير: (إخبارٌ بأنه الدائم الباقي الحيُّ القيُّوم، الذي تموت الخلائق ولا يموتُ، كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26 - 27] ، فعبَّر بالوجه عن الذات، وهكذا قولنا ها هنا:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} ، أي: إلا إيّاه).

التأويل الثاني: كل شيء هالك إلا ما ابتغي به وجهه.

قال مجاهد: ({كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} أي: إلا ما أريد بهِ وجهُه).

قال البخاري في كتاب التفسير من صحيحه: ({كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}: إلا مُلْكَهُ، ويُقالُ: إلا ما أريد به وَجْهُ الله).

التأويل الثالث: فيه إثبات صفة الوجه لله تعالى.

والتقدير: كل شيء هالك إلا الله الذي له الوجهُ الكريم.

قال البيهقي: (تكرر ذكر الوجه في القرآن والسنة الصحيحة وهو في بعضها صفة ذات، كقوله صلى الله عليه وسلم: "إلا رداء الكبرياء على وجهه". وفي بعضها بمعنى من أجل، كقوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ}. وفي بعضها بمعنى الرضى كقوله تعالى: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}، وقوله تعالى: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)} [الليل: 20].

قلت: ولا منافاة بين هذه الأقوال، فإنه يفنى كل شيء إلا الله ذو الوجه الكريم، وتبقى الباقيات الصالحات التي قُصد بها وجهُه جل ثناؤه. وكذلكَ تحمل الآيات والأحاديث على إثبات تلك الصفة له جل ذكره -صفة الوجه- وعلى المعاني الطيبةِ الأخرى.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن: 27].

ص: 655

2 -

وقال تعالى: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 272].

3 -

وقال تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)} [الإنسان: 9].

وفي صحيح مسلم عن أبي موسى قال: [قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسِ كلمات فقال: إنّ الله عز وجل لا ينامُ، ولا يَنْبَغِي له أن ينامَ، يَخْفِضُ القِسْطَ ويَرْفعُهُ، يُرْفَعُ إليهِ عَملُ الليل قَبْلَ عَملِ النهار، وعَمَلُ النَهار قَبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ ما انتهى إليهِ بصرهُ من خلقهِ [(1).

فهذا الحديث العظيم، فيه إثبات كثير من صفاته جل ذكره، كصفة الوجه، وصفة البصر، وصفة خفض القسط ورفعه، وصفة القيومية على عبادهِ فهو سبحانه لا ينام لكمال حياته وقيوميته، وصفات أخرى جليلة يمكن استنباطها من هذا النص النبوي الكريم.

وقوله: {لَهُ الْحُكْمُ} . قال النسفي: (القضاء في خلقه). وقال القاسمي: (أي القضاء النافذ في الخلق).

قلت: والمقصود، أنَّ الله تعالى له الملك والتصرف فهو الحاكم الذي سُلِّمَ له الحُكم وَرُدَّ إليهِ.

كما في التنزيل:

1 -

قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57].

2 -

وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50].

3 -

وقال تعالى: {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 46].

وقد ثبت في السنة الصحيحة أن من أسمائه الحسنى: "الحَكَم".

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (179)، وأخرجه الطيالسي (491)، وأحمد (4/ 395)، ورواه ابن ماجه (195)، وابن حبان (266) من حديث أبي موسى.

ص: 656

ففي صحيح سنن أبي داود والنسائي عن هانئ بن يزيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله هو الحَكَمُ، وإليهِ الحُكْمُ](1).

وقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . أي: إليهِ تردون يوم معادكم، فيقضي بينكم بالعدل، فيثيب مؤمنكم ويعاقب كافركم.

تمّ تفسير سورة القصص بعون الله وتوفيقه، وواسع مَنّهِ وكرمه

* * *

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (4955)، وانظر صحيح سنن أبي داود (4145)، وأخرجه النسائي وغيره. انظر صحيح الجامع (1841)، وكذلك "إرواء الغليل"(2682).

ص: 657