المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ منهاج السورة - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٥

[مأمون حموش]

فهرس الكتاب

- ‌20 - سورة طه

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌ دروس ونتائج وأحكام

- ‌21 - سورة الأنبياء

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌22 - سورة الحج

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌23 - سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌24 - سُوْرَةُ النَّوُرِ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام:

- ‌1 - الولاء والبراء هو محور منهج الإيمان عند المسلمين:

- ‌2 - بشرية الرسول وعدم علمه بالغيب:

- ‌3 - براءة عائشة إلى يوم القيامة:

- ‌4 - الأصل في المؤمنين الظن بأنفسهم خيرًا:

- ‌5 - تمحيص الله لقلوب المؤمنين بالابتلاء وتأخر الوحي:

- ‌6 - ثبوت إقامة الحد على القاذفين:

- ‌7 - مشروعية الإقراع بين النساء في السفر وجواز خروجهن للغزو ومشاركتهن بذلك:

- ‌آداب الاستئذان:

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌25 - سورة الفرقان

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌26 - سُورَةُ الشُّعَراءِ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌27 - سُورَةُ النَّمْلِ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌28 - سُورَةُ القصَصِ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌29 - سورة العنكبوت

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

الفصل: ‌ منهاج السورة

‌29 - سورة العنكبوت

وهي سورة مكية، وعدد آياتها (69)

‌موضوع السورة

الشرك ووهن أهله في الدارين كوهن بيت العنكبوت لو كانوا يعلمون والنصر والعاقبة للمحسنين والمجاهدين

-‌

‌ منهاج السورة

-

1 -

سنة الله في اختبار المؤمنين، لبيان الصادقين وكشف المنافقين.

2 -

بيان سبيل النجاة المتضمن الإيمان والجهاد والعمل الصالح، والله يجزي المحسنين.

3 -

الوصية ببر الوالدين والإحسان إليهما، وترك طاعتهما في المعصية، والإخبار بما أعدّ الله في الجنة لعباده الصالحين.

4 -

سقوط كثير من الناس في الفتن، وسلوك المنافقين عند الغنائم، والله تعالى أعلم بالمؤمنين الصادقين والمنافقين الكاذبين.

5 -

استهتار الكافرين يحمل الأوزار، وسيحملون أوزارًا مع أوزارهم، وليسألن عما كانوا يفترون.

ص: 660

6 -

إرسال الله تعالى نبيَّه نوحًا صلى الله عليه وسلم، ومكثه فيهم طيلة ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله، وهم يصرون على الكفر حتى أخذهم الطوفان وهم ظالمون، وأنجى الله برحمته المؤمنين.

7 -

دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم قومه، وتحذيره لهم مغبة الشرك ومصير الأمم الهالكة.

8 -

احتجاج الله تعالى على منكري المعاد والبعث، ودعوتهم للنظر في بدء الخلق.

9 -

مكر الكفار بإبراهيم، ونجاته من النار بإذن الله، وتحذيره لهم الإصرار على الكفر.

10 -

تصديق لوط وهجرته وإبراهيم -عليهما الصلاة والسلام- إلى الله العزيز الحكيم، وإكرامه تعالى إبراهيم بإسحاق ويعقوب وجعله النبوة في ذريته وهو في الآخرة من الصالحين.

11 -

تحذير لوط قومه مغبة الإصرار على الفاحشة التي ما سبقهم إليها أحد من العالمين، واستعجال القوم العذاب حتى لجأ لوط إلى الله طالبًا النصر على القوم المفسدين.

12 -

بثُّ الملائكة البشر ى لإبراهيم عليه السلام بولد صالح وبإهلاك القوم الظالمين. ووصول الرسل إلى لوط صلى الله عليه وسلم وخوفه عليهم حتى بشروه بهلاك القوم المفسدين.

13 -

قصة شعيب وقومه، وخبر الأمم الكثيرة: كعاد وثمود وقارون وفرعون وهامان، وقصة إهلاكهم بالصيحة أو الخسف أو الريح أو الطوفان.

14 -

تمثيل تعلق المشركين بآلهتهم كالمتعلق بشبكة العنكبوت لا تفيد شيئًا.

15 -

خَلْقُ الله السماوات والأرض بالحق، ودعوته الرسول والمؤمنين لتلاوة الوحي وإقام الصلاة، ولذكر الله أكبر، والله عليم بما يصنعون.

16 -

الدعوة لمجادلة أهل الكتاب بالحسنى، وهذا القرآن آيات بينات في صدور أهل العلم، وهو أكبر معجزة في الأرض إلى قيام الساعة.

17 -

استعجال المشركين العذاب، والعذاب قريبًا سيغطيهم من فوقهم ومن تحتهم.

18 -

النصيحة بالهجرة إلى دار الإيمان، فكل نفس ذائقة الموت، ثم إلى الله ترجعون.

19 -

المؤمنون العاملون للصالحات يسكنون الغرف يوم القيامة، تجري من تحتها الأنهار ثوابًا لهم مقابل صبرهم وحسن توكلهم.

ص: 661

20 -

ما من دابة ممن لا يستطيع ادخار رزقه لغد إلا والله رازقها وإياكم.

21 -

إقرار المشركين أن الله تعالى خالق السماوات والأرض ومسخِّر الشمس والقمر ثم هم يشركون.

22 -

بَسْطُ الله تعالى الرزق وتضييقه بحكمته، والكفار مقرّون أنه -تعالى- المنزل للماء من السماء ليحيي به الأرض الميتة ثم هم به يعدلون.

23 -

إعلامُ الله تعالى بغرور هذه الحياة الدنيا، وأن العيش عيش الآخرة.

24 -

إخلاص المشركين الدعاء لله عند الهلاك في البحر، وامتنان الله عليهم بنعمة الحرم الآمن.

25 -

جعل الله في جهنم مثوى للمتكبرين، وكتب الهداية والنصر للمجاهدين، وإنه تعالى لَمَعَ المحسنين.

* * *

ص: 662

بسم الله الرحمن الرحيم

1 -

7. قوله تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)}.

في هذه الآيات: تقريرُ الله تعالى سنته في اختبار المؤمنين وكشف الصادق من الكاذب وفضح المنافقين. وإخباره -جلّت صفاته- عن سبيل النجاة المتضمن الإيمان والجهاد والعمل الصالح والله يجزي المحسنين.

فقوله تعالى: {الم} - كسابقه في سورة البقرة وغيرها من السور التي ابتدأت بمثل هذه الحروف المقطعة، والتي تقتضي الإعجاز لهذا القرآن العظيم المؤلف من جنس هذه الأحرف، ومع ذلك فالخلق عاجزون عن معارضته بمثله.

وقوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} . استفهام إنكار، والمقصود: أظنّ الناس أن يدّعوا الإيمان دون أن يحصل لهم من ربهم اختبار يبيّن صدق دعواهم، قال مجاهد:{آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} قال: يُبْتَلونَ في أنفسهم وأموالهم). وقال قتادة: {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} : أي لا يُبْتَلون).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)} [آل عمران: 142].

ص: 663

2 -

وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)} [البقرة: 214].

3 -

وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)} [محمد: 31].

ومن صحيح السنة المطهرة في آفاق هذه الآية أحاديث:

الحديث الأول: أخرج ابن ماجه والحاكم بسند صحيح من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "أشدُّ الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر، حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة التي يحويها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء] (1).

الحديث الثاني: أخرج الإِمام أحمد في المسند بسند حسن عن أبي عبيدة بن حذيفة عن عمته فاطمة أنها قالت: [أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، نعوده في نسائه، فإذا سقاء معلق نحوه يقطر ماؤه عليه من شدة ما يجد من حرّ الحمى، قلنا: يا رسول الله لو دعوت الله فشفاك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم](2).

الحديث الثالث: أخرج الترمذي وابن ماجه وابن حبان بسند جيد عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاءً؟ قال: فقال: [أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب (وفي رواية: قدر) دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة](3).

الحديث الرابع: أخرج الترمذي وابن ماجه بإسناد حسن عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه (4024)، والحاكم (4/ 307)، وابن سعد (2/ 208).

(2)

حديث حسن. أخرجه أحمد (6/ 369)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (145).

(3)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2/ 64)، وابن ماجه (4023)، والدارمي (2/ 320)، والطحاوي (3/ 61)، وابن حبان (699)، والحاكم (1/ 40 - 41)، وأحمد (1/ 172)، وسنده جيد رجاله كلهم ثقات معظمهم رجال الشيخين.

ص: 664

[إنّ عِظَمَ الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط](1).

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت: 3].

أي: ولقد اختبرنا الذين مضوا من الأمم قبل أمتك -يا محمد-، ولَيُظْهِرَنَّ اللهُ صِدْقَ الصادقين وكَذِبَ الكاذبين.

قال مجاهد: ({وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}: ابتلينا الذين من قبلهم).

والعلم هنا بمعنى الإظهار. قال ابن عباس: ("إلا لنعلم": إلا لنرى). وكذلك الآيات المشابهة، فإن الله عليم بما كان ويكون وسيكون وما لن يكون كيف لو كان يكون. قال ابن كثير:(وذلك أن الرؤية إنما تتعلق بالموجود، والعلم أعَمُّ من الرؤية، فإنه يتعلَّق بالمعدوم والموجود). وقال القرطبي: (ولكن القصد قصد وقوع العلم بما يجازى عليه).

قال ابن عطاء: (يتبين صدق العبد من كذبه في أوقات الرخاء والبلاء، فمن شكر في أيام الرخاء وصبر في أيام البلاء فهو من الصادقين، ومن بطر في أيام الرخاء وجزع في أيام النبلاء فهو من الكاذبين).

وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} .

أي: أمْ ظَنَّ الذين يجترحون السيئات أن يفوتونا فَيَفِرُّوا من الفِتْنهِ والبلاء، والامتحان في الشدة والرخاء، كلا فإن من ورائهم العقوبة والنكال، وَوُرودِ أسوأِ الأحوال.

قال قتادة: ({أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} هو أي: الشرك). وقال مجاهد: {أَنْ يَسْبِقُونَا} : أن يعجزونا). وقال القاسمي: ({أَنْ يَسْبِقُونَا} أي يفوتونا، فلا نقدر على مجازاتهم بمساوئ أعمالهم {سَاءَ مَا يَحْكُمُون} أي بئس الذي يحكمونه حكمهم).

وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .

أي: من كان يرجو الله عند لقائه، ويطمع في ثوابه، والنجاة من عذابه، فإن أجل الله الذي أجّله لبعث عباده وإكرام أوليائه لآت قريبًا، وهو السميع لدعاء عباده

(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي (2/ 64)، وابن ماجه (4031)، بإسناد حسن.

ص: 665

ورجائهم، العلم بصدق إيمانهم من كذب توجههم. فليبادر الصادق إلى إثبات صدقه بالإيمان والعمل الصالح.

وقوله تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} .

قال النسفي: {وَمَنْ جَاهَدَ} نفسه بالصبر على طاعة الله، أو الشيطان بدفع وساوسه، أو الكفار {فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} لأن منفعة ذلك ترجع إليها. {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} وعن طاعتهم ومجاهدتهم وإنما أمَرَ ونهى رحمة لعباده).

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

قال القرطبي: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} أي: صدقوا {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي: لَنُغَطِّيَنها عنهم بالمغفرة لهم {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي بأحسن أعمالهم وهو الطاعات).

قلت: ويشمل هذا من كان في الجاهلية ثم أحسن في الإِسلام. فقد أخرج الحاكم بسند حَسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لَيَتَمَنَّيَنَ أقْوامٌ لَوْ أَكْثَروا من السَّيئاتِ، قالوا: بِمَ يا رسول الله؟ قال: الذين بَدَّلَ الله سيئاتهم حَسنات](1).

8 -

9. قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)}.

في هذه الآيات: وصيةُ الله الإنسان ببر الوالدين والإحسان إليهما وترك طاعتهما في معصيته ولكن مصاحبتهما بالمعروف والله عليم بالمتقين. وإخباره تعالى عن جميل ما أعدّ في الجنة لعباده الصالحين.

أخرج الإِمام مسلم في صحيحه عن مصعب بن سعد عن أبيه أنه نزلت فيه آيات من القرآن قال: [حلفت أم سعد ألا تكلمه أبدًا حتى يكفر بدينه ولا تأكل ولا تشرب. قالت: زَعَمْتَ أن الله وَصَّاك بوالديك وأنا أمك وأنا آمرك بهذا. قال: مَكَثَتْ ثلاثًا حتى

(1) حديث حسن. أخرجه الحاكم (4/ 252)، بإسناد حسن. وانظر السلسلة الصحيحة (2177).

ص: 666

غشي عليها من الجهد، فقام ابن لها يقال له عمارة فسقاها فجعلت تدعو على سعد، فأنزل الله عز وجل في القرآن هذه الآية:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8]، {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]] (1).

فالآية أَمْرٌ من الله تعالى عباده بالإحسان إلى الوالدين بعد أَمْرِهِ جَلَّ ثناؤه بإحسانِ العبادة إليه، وإفراده بالتعظيم والاستعداد للوقوف بين يديه، فإن برّ الوالدين من أحسن الأعمال، فهما سبب وجوده، وهما نَبْعُ العطف والحنان عليه، فالوالد بالإنفاق، والوالدة بالإشفاق، وقد ربط الله تعالى برّهما ببره، وعلَّق هذا الرحم بعرشه، فالإحسان إليهما واجب كبير، والإساءة إليهما شر مستطير، فإن أمراه بشِرْكٍ أو كُفْرٍ فلا يتابعهما ولكن يُصاحبهما بالمعروف.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23 - 24].

2 -

وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)} [لقمان: 14].

3 -

وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15].

ومن كنوز السنة الصحيحة في ذلك أحاديث:

الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه عن أسماءَ قالت: أقلت: يا رسول الله، إن أمِّي قدمت على، وهي راغبةٌ -أو راهبةٌ- أفأصِلُها؟ قال: نعم].

وفي رواية: قالت أسماء بنت أبي بكر: [قلت: يا رسول الله، قَدِمت عَلَيَّ أُمِّي وهيَ مُشْرِكَةٌ، في عهد قريشٍ إذْ (2) عاهَدَهم، فاسْتَفْتَيْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قلتُ:

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1748) - كتاب فضائل الصحابة، باب في فضل سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، في أثناء حديث طويل.

(2)

قال الحافظ ابن حجر: (أرادت بذلك ما بين الحديبية والفتح، أي مدة عهد قريش).

ص: 667

يا رسولَ الله! قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وهي راغِبَةٌ، أفأصِلُ أُمِّي؟ قال: نعم، صِلي أُمَّكِ] (1).

الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بأن مسعود رضي الله عنه قال:

[سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ العمل أحَبُّ إلى الله تعالى؟ قال: الصلاةُ على وَقْتِها. قُلْتُ: ثُمَّ أيُّ؟ قال: بِرُّ الوالدين. قلتُ: ثُمَّ أيُّ؟ قال: الجهادُ في سبيل الله](2).

الحديث الثالث: روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يَجْزيَ ولدٌ والِدًا إلا أن يَجِدَهُ مَمْلوكًا، فَيَشْتَرِيَهُ، فيُعْتِقَهُ](3).

وقوله تعالى: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} .

أي: المرجع والمآل إليه تعالى فيجازي عباده بأعمالهم، فالذين صدقوه الإيمان وأكدوا ذلك بالعمل الصالح سيدخلهم سبحانه في كرامة عباده الصالحين.

وفي الآية فائدة جليلة، فإنه تعالى عطف العمل الصالح على بر الوالدين، وكأنّ المقصود أن أفضل ذلك العمل بعد الإيمان بالله هو مباشرة رضي الوالدين، فهو طريق السعادة في الدارين.

أخرج البخاري في "الأدب المفرد" بإسناد صحيح عن ابن عباس، أنَّهُ أتاه رجل فقال:[إني خَطَبْتُ امرأةً فَأبَتْ أن تَنْكِحَني، وخطبها غيري فأحَبَّتْ أن تنكِحَهُ، فَغِرْتُ عليها فقتلتها، فهل لي من توبة؟ قال: أمُّكَ حيَّة؟ قال: لا، قال: تُبْ إلى الله عز وجل، وتقرَّب إليه ما استطعت. قال عطاء بن يسار: فذهبت فسألت ابن عباس: لِمَ سمألته عن حياة أُمِّهِ؟ فقال: إنِّي لا أعلمُ عملًا أقربُ إلى الله عز وجل مِنْ برِّ الوالدة](4).

ثم روىَ في باب: "لين الكلام لوالديه" - عن طَيْسَلَةَ بن مَيّاس قال: [كنتُ في النَّجدات (5)، فأصبْتُ ذنوبًا لا أراها إلا من الكبائر، فذكرت ذلك لابن عمر قال: ما هي؟ قلت: كذا وكذا. قال: ليست هذه من الكبائر، هن تسع: الإشراك بالله، وقتل

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1003) -كتاب الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين، ولو كانوا مشركين. ح (49)، ح (50).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (10/ 336)، وأخرجه مسلم في الصحيح (85).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (1510)، وأبو داود (5137)، والترمذي (1907).

(4)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(4) - باب بر الأم. وسنده صحيح.

(5)

النَّجدات: أصحاب نجدة بن عامر الخارجي، وهم قومٌ من الحروريّة.

ص: 668

نسمة، والفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وإلحاد في المسجد، والذي يستسخر (1)، وبكاء الوالدين من العقوق. قال لي ابن عمر: أتفرق (2) من النار وتحب أن تدخل الجنة؟ قلت: إي، والله، قال: أحيٌّ والدك؟ قلت: عندي أمي. قال: فوالله! لو ألنتَ لها الكلام وأطعمتها الطعام لتدخلن الجنة ما احتنبت الكبائر] (3).

وفي مسند الإِمام أحمد والطيالسي بسند صحيح عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [الوالد أوسط أبواب الجنة](4).

10 -

11. قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)}.

في هذه الآيات: سقوطُ كثير من الناس عند هبوب رياح الفتن مع الساقطين، فإذا كان الرخاء والنصر وتدفّق النعم طالبوا إشراكهم في الغنائم ليكونوا من الفرحين. والله تعالى هو أعلم بالمؤمنين الصادقين والمنافقين الكاذبين.

فقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} .

قال ابن عباس: (فتنته أن يرتد عن دين الله إذا أوذي في الله). وقال مجاهد: (أناس يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاءً من الله أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا، فجعلوا ذلك في الدنيا كعذاب الله في الآخرة).

والآية إخبارٌ عن قوم يدّعون الإيمان بألسنتهم، فإذا جاءت الفتن والمحن سقطوا وانتكسوا ورجعوا إلى الكفر والضياع.

(1) يستسخر: الاستسخار من السخرية واللمز.

(2)

أتفرق من النار: الفَرَق، الخوف والفزع.

(3)

حديث صحيح. انظر: "صحيح الأدب المفرد" - (6)، باب لين الكلام لوالديه.

(4)

صحيح الإسناد. أخرجه أحمد (5/ 196)، وابن ماجه (2089)، والحاكم (4/ 152)، والطيالسي في "مسنده"(981)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (913).

ص: 669

كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)} [الحج: 11].

أخرج ابن جرير ورجاله ثقات عن ابن عباس قال: أكان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإِسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم وقتل بعض. فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97] إلى آخر الآية. قال: وكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين هذه الآية لا عذر لهم قال: فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة فنزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} إلى آخر الآية. فكتب المسلمون إليهم بذلك فخرجوا وأيسوا من كل خير، ثم نزلت فيهم:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)} [النحل: 110] فكتبوا إليهم بذلك إن الله قد جعل لكم مخرجًا فخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم ثم نجا من نجا وقتل من قتل] (1).

وقوله: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} .

أي: ولئن جاء نصر من ربك -يا محمد- لأهل الإيمان وفتح ومغانم، ليقولن هؤلاء لكم: إنا كنا معكم ننصركم على أعدائكم، ونحن إخوانكم في الدين. أو ليس الله بأعلم بما تخفيه قلوبهم وما تكنه صدورهم! !

وفي التنزيل نحو ذلك:

- قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 141].

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [تَعِسَ عَبْدُ الدِّينار وعَبْدُ الدرهم وعَبْدُ الخميصة، إنْ أُعطي رَضِيَ وإنْ لم يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وانتكسَ، وإذا شيك فلا انتقَشَ، طوبى لِعَبْدٍ آخذٍ بِعنانِ فرَسه في سبيل الله أشعثَ

(1) أخرجه ابن جرير في "التفسير"(27706) -وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح، غير محمد بن شريك هو ثقةٌ. وانظر:"الصحيح المسند من أسباب النزول" -الوادعي- النحل (110).

ص: 670

رأسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قدماه، إنْ كان في الحِراسةِ كان في الحِراسةِ، وإنْ كان في السَّاقةِ كان في السَّاقةِ .. ] الحديث (1).

وقوله تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} .

أي: وليميزنّ الله أولياءه وحزبه أهل الإيمان والثبات على الحق بالابتلاء في السَّراء والضراء، وكذلك ليميزنَّ أهل النفاق بالمحن والاختبار والابتلاء. فإنه بالاختبار يتميز هؤلاء من هؤلاء، وَبِغير ذلك فالادّعاء سهل وأكثر الناس يزعمون ويدّعون.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} [يوسف: 103].

2 -

وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)} [محمد: 31].

3 -

وقال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179].

وفي صحيح مسلم عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [تُعْرَضُ الفِتَنُ على القلوب كالحصير عُودًا عُودًا، فأيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَها نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ سوداءُ، وأيُّ قلب أنكرها نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ بيضاءُ، حتى تصيرَ على قلبين، على أبيض مِثْل الصَّفا، فلا تضُرُّه فِتْنَةٌ ما دامتِ السماوات والأرض. والآخرُ أسْوَدُ مُرْبادًا كالكوزِ مُجَخِّيًا لا يَعْرفُ مَعروفًا ولا يُنكِرُ مُنكرًا إلا ما أُشرِبَ من هواه](2).

12 -

13. قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2887) -كتاب الجهاد والسير. باب الحراسة في الغزو في سبيل الله. وانظر كذلك (2886) من الباب نفسه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (144) -كتاب الإيمان، باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب وعرض الفتن على القلوب. ورواه كذلك في كتاب الفتن في أثناء حديث أطول.

ص: 671

وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)}.

في هذه الآيات: استهتارُ الكافرين يحمل الذنوب وسيعلمون مغبة ما يستهزئون.

إنهم سيحملون يوم القيامة أوزارهم وأوزار من أضلوا وليسألن يومئذ كما كانوا يفترون.

فقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} .

قال مجاهد: (قول كفار قريش بمكة لمن آمن منهم. يقول: قالوا: لا نبعث نحن ولا أنتم، فاتبعونا إن كان عليكم شيء فهو علينا).

وقال الضحاك: (هم القادة من الكفار، قالوا لمن آمن من الأتباع: اتركوا دين محمد واتبعوا ديننا).

والمقصود: أن كفار قريش أرادوا إغراء من آمن منهم واتبع سبيل الهدى بالرجوع إلى دين الآباء الذي كانوا عليه، ويزعمون أن ذلك في رقابهم وهم يتحملون تبعته.

وقوله: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} . تكذيب من الله تعالى لهم. فإنه لا يحمل أحد وزر أحد، ولا يستطيع أحد أن يقف يوم القيامة ويقول: عليّ فلان.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: 18].

2 -

وقال تعالى: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ} [المعارج: 10 - 11].

3 -

وقال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34 - 37].

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: [قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214] قال: يا معشر قريش اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبدِ مَنَاف لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بنَ عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا صفية عمَّة رسول الله لا أغني

ص: 672

عنك من الله شيئًا، ويا فاطمةُ بنتَ محمد سليني ما شِئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئًا] (1).

وقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} .

إِثْباتٌ لِحَمْلِ توابعِ إضلالهم، فإنهم يحملون أوزارَ أنفسهم، ثم يُضاف عليهم أوزار الذين أضلوهم، وتوابع انتشار إفسادهم في الأرض.

فعن قتادة: ({وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} أي: أوزارهم {وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} يقول: أوزار من أضلوا).

وفي التنزيل نحو ذلك: قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)} [النحل: 25].

ومن صحيح السنة المطهرة في آفاق هذا المفهوم أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإِمام مسلم في صحيحه عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تُقْتَلُ نفسٌ ظُلْمًا، إلا كان على ابن آدمَ الأوَّل كِفْلٌ من دَمِها؛ لأنه كان أوَّلَ مَنْ سَنَّ القتل](2).

الحديث الثاني: أخرج الإِمام مسلم أيضًا عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[مَنْ دعا إلى هُدًى، كان له من الأجْرِ مِثْلُ أُجورِ من تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلك مِنْ أجورهم شيئًا، ومَنْ دعا إلى ضلالةٍ، كان عليه من الإثْمِ مِثْلُ آثام مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلك من آثامهم شيئًا](3).

الحديث الثالث: أخرج ابن ماجه بسند صحيح عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوفٍ المزني. حدّثني أبي، عن جَدِّي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [مَنْ أحْيَا سُنّةً مِنْ سُنَّتي فَعَمِلَ بها الناسُ، كانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بها لا يَنْقُصُ مِنْ أُجورهم شيئًا. ومن ابتدع

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم - (4771) -كتاب التفسير. وانظر صحيح مسلم- حديث رقم - (204) - كتاب الإيمان.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (1677) -كتاب القسامة والمحاربين، باب بيان إثم من سنّ القتل، وفي لفظ آخر لآخر الحديث:"لأنه سَنَّ القَتل".

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (2674) - كتاب العلم، وأخرجه أبو داود (4609)، وابن ماجه في السنن (206). وانظر صحيح أبي داود (3853) - كتاب السنة.

ص: 673

بِدْعَةً فَعُملَ بها، كان عليه أوزار مَنْ عَمِلَ بها لا ينقصُ مِنْ أوزارِ مَنْ عَمِلَ بها شيئًا] (1).

وقوله: {وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} .

قال ابن جرير: (وليسألن يوم القيامة عما كانوا يكذبونهم في الدنيا بوعدهم إياهم الأباطيل، وقيلهم لهم: اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم فيفترون الكذب بذلك).

14 -

15. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)}.

في هذه الآيات: إرسالُ الله تعالى نبيّه نوحًا صلى الله عليه وسلم إلى قومه لينذرهم طيلة ألف سنة إلا خمسين عامًا وهم يصرون على كفرهم حتى أخذهم الطوفان وهم ظالمون. وكتب الله النجاة في السفينة للمؤمنين وجعلها آية للعالمين.

فقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} .

تسليةٌ من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من أذى قومه وتكذيبهم، فهذا نوح عليه الصلاة والسلام قبله مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى عبادة الله وحده، ونبذ ما هم عليه من الجاهلية والوثنية والكبر، ثم ما آمن معه إلا قليل.

قال ابن عباس: (بُعِثَ نوحٌ وهو لأربعين سنة، ولبث في قومه ألفَ سنة إلا خمسين عامًا، وعاش بعد الطوفان ستين عامًا، حتى كَثُر الناسُ وفَشُوا).

فإنه قد كَثُرَ الجهلُ وانتشر الشركُ قُبيل بعثة نوح صلى الله عليه وسلم، وبَعُدَ العهدُ بالنبوة على الناس بعد آدم عليه الصلاة والسلام، فاحتاج الأمر لجهاد طويل في طريق دعوة الناس ومحاولة إنقاذهم من عذاب الله.

أخرج الحاكم بسند صحيح عن أبي أمامة مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: [كان بين آدمَ ونوحٍ عشرَةُ قرونٍ، وبينَ نوحٍ وإبراهيمَ عشَرةُ قرون](2).

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه (209) - باب من أحيا سنة قد أميتت. انظر صحيح ابن ماجه -حديث رقم- (173). وكذلك (170)، (171)، (172) من الباب قبله.

(2)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم (2/ 262)، والطبراني في "المعجم الكبير"(8/ 139 - 140)، =

ص: 674

وقوله: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} . قال الضحاك: (الطوفان: الغرق). وقال قتادة: (هو الماء الذي أرسل عليهم).

والمعنى: كانت نهاية إصرار القوم على كفرهم وظلمهم أنفسهم أن أغرقهم الله تعالى بالطوفان ليكونوا عبرة لمن بعدهم.

وقوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: فأنجينا نوحًا وأصحابَ سفينته، وهم الذين حملهم في سفينته من ولده وأزواجهم. يقول: وجعلنا السفينة التي أنجيناه وأصحابه فيها عبرة وعظة للعالمين، وحجة عليهم).

16 -

18. قوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)}.

في هذه الآيات: دعوةُ إبراهيم عليه الصلاة والسلام قومه إلى إفراد الله تعالى بالعبادة والتعظيم، وتحذيره لهم مغبة شركهم ومصير الأمم الهالكة قبلهم وما على الرسول إلا البلاغ المبين.

فقوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .

أي: واذكر أيضًا يا محمد إبراهيم الخليل إذ أنذر قومه وحذرهم مغبة الشرك باللهِ، وأمرهم بإفراد الله تعالى بالعبادة والتعظيم. قال النسفي:({ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} من الكفر {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إن كان لكم علم بما هو خير لكم مما هو شر لكم).

وقوله: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} . أي: أصنامًا. قاله قتادة.

= وفي "المعجم الأوسط"(1/ 24/ 2/ 398). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (3289).

ص: 675

وقوله: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} - فيه أقوال متقاربة:

1 -

قال ابن عباس: (يقول: تصنعون كذبًا). وقال مجاهد: (يقول: تقولون كذبًا).

2 -

وقال عطاء عن ابن عباس: (تنحتون تصورون إفكًا). وقال قتادة: (أي: تصنعون. أصنامًا).

3 -

وققال ابن زيد: ({وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} الأوثان التي ينحتونها بأيديهم).

وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} .

قال القرطبي: (أي: اصرفوا رغبتكم في أرزاقكم إلى الله، فإياه فياسألوه وحده دون غيره).

وقوله: {وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .

قال ابن جرير: ({وَاعْبُدُوهُ} يقول: وذلوا له {وَاشْكُرُوا لَهُ} على رزقه إياكم، ونعمه التي أنعمها عليكم. إلى الله تردون من بعد مماتكم، فيسألكم عما أنتم عليه من عبادتكم غيره وأنتم عباده وخلقه، وفي نعمه تتقلبون، ورزقه تأكلون).

وقوله تعالى: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} .

هو من تمام كلام إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم لقومه كما هو ظاهر من السياق، وفي الآية تعزيةٌ من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من تكذيب قومه وعنادهم. فإنه على الرسول البلاغ، وعلى الله الحساب.

19 -

23. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ

ص: 676

مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)}.

في هذه الآيات: احتجاجُ الله تعالى على منكري المعاد والبعث للحساب، ودعوتُهم للنظر في بدء الخلق والاستعداد للرحيل والنشأة بعد ذلك من القبور للجزاء وقيل الثواب أو العقاب.

فعن قتادة: ({أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} قال: بالبعث بعد الموت). والآية إخبار من الله تعالى عن إرشاد الخليل إبراهيم عليه السلام قومه إلى إثبات المعاد بما يرونه من آيات المقدرة له تعالى. قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: أو لم يروا كيف يستأنف الله خلق الأشياء طفلًا صغيرًا، ثم غلامًا يافعًا، ثم رجلًا مجتمعًا، ثم كهلًا. وقوله: {ثُمَّ يُعِيدُهُ} يقول: ثم هو يعيده من بعد فنائه وبلاه، كما بدأه أوّل مرة خلقًا جديدًا، لا يتعذر عليه ذلك {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير} إن سهل كما كان يسيرًا عليه إبداؤه).

وقوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} . قال قتادة: (خلق السماوات والأرض).

وقوله: {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} . قال ابن عباس: (هي الحياة بعد الموت وهو النشور).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . أي: إنه تعالى قادر على إنشاء خلقه بعد إفنائهم، وعلى غير ذلك فلا يعجزه شيء.

وقوله تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} .

قال النسفي: ({يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} بالخذلان {وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} بالهداية، أو بالحرص والقناعة، أو بسوء الخلق وحسنه، أو بالإعراض عن الله وبالإقبال عليه، أو بمتابعة البدع وبِملازمة السنة {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} تردون وترجعون).

وفي سنن أبي داود وابن ماجه من حديث زيد بن ثابت مرفوعًا: [إن الله لو عذب

ص: 677

أهل سَماواته وأهل أرضه لعذَّبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم] (1).

وقوله تعالى: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} .

أي: هو القاهر سبحانه لأهل سماواته وأهل أرضه، وكل شيء فقير إليه، محتاج إلى رحمته، وما لكم أيها الناس من دون الله من ناصر ولا معين إن أنزل به نقمته، وأحلّ بكم عذابه.

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

قال القرطبي: ({وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ} أي: بالقرآن، أو بما نصب من الأدلة والأعلام. {أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} أي: من الجنة، ونسب اليأس إليهم والمعنى أويسوا. وهذه الآيات اعتراض من الله تعالي تذكيرًا وتحذيرًا لأهل مكة).

24 -

25. قوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)}.

في هذه الآيات: عودةٌ إلى قصة خطاب إبراهيم عليه السلام مع قومه، فإنهم لما عجزوا عن مواجهة حجج الحق البالغة لجؤوا إلى استخدام الجاه والقوة والسطوة، فأنجاه الله من النار ومن مكرهم، وقد حذّرهم إبراهيم مغبة شركهم، والخزي يوم القيامة إذا ركبوا الهوى ومضوا على إصرارهم وكفرهم.

(1) إسناده قوي. أخرج أبو داود (4699) - في القدر، وابن ماجه (77)، وأحمد (5/ 182)، (5/ 189)، وابن حبان (727)، والبيهقي (10/ 204)، وانظر صحيح أبي داود (3932).

ص: 678

فقوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} .

كقوله تعالى: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} [الصافات: 97 - 98].

قال النسفي: (قال بعضهم لبعض، أو قاله واحد منهم وكان الباقون راضين فكانوا جميعًا في حكم القائلين فاتفقوا على تحريقه {فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّار} حين قذفوه فيها).

وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .

أي: إن في إنجاء الله إبراهيم من لهب النار وسعيرها، وجعلها عليه بردًا وسلامًا، لأدلة وحججًا لقوم يصدقون بالحجج والأدلة إذا رأوا وعاينوا. وإن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون بقدرة الله على خرق العادات والسنن فيزيدهم ذلك إيمانًا وتسليمًا.

وقوله: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . قال ابن جرير: (أي: تتحابون على عبادتها، وتتوادون على خدمتها، فتتواصلون عليها). وهذا على قراءة {مودةَ} بالنصب على أنه مفعول له. وأما على قراءة الرفع {مودةُ} فالمعنى: إنما اتخذتم هذا لتحصل لكم المودة في الدنيا فقط. والمقصود متقارب، والقراءتان مشهورتان.

وقوله: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} .

أي: ثم يوم القيامة تنقلب عليكم هذه المودة لتصبح هذه الصداقة بَغْضَةً وشنآنًا، ثم تتجاحدون ما كان بينكم ويبرأ بعضكم من بعض، ويلعن بعضكم بعضًا. قال قتادة:(صارت كُلُّ خُلَّةٍ في الدنيا عداوة على أهلها يوم القيامة إلا خُلّة المتقين).

قال القاسمي: ({ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} أي: تتجاحدون ما كان بينكم، ويلعن الأتباع المتبوعين، والمتبوعون الأتباع).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)} [الزخرف: 67].

2 -

وقال تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38].

3 -

وقال هنا: {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} . أي: ما لكم من منقذين

ص: 679

يحولون بينكم وبين عذاب الله الذي كتبه عليكم، أنتم ومن كنتم معه على منهاج الوثنية وتعظيم غير الله.

أخرج الحاكم بإسناد صحيح عن عبد الله بن قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إنَّ أهلَ النار ليَبْكُون، حتى لو أُجْريَت السُّفُنُ في دُموعهم، لجرت، وإنهم ليبكون الدم -يعني- مكان الدمع](1).

وله شاهد عن ابن ماجه وابن أبي الدنيا بسند صحيح لغيره عن أنس بن مالك مرفوعًا بلفظ: [يُرْسَلُ البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود، لو أرسلت فيه السفن لجرت](2).

26 -

27. قوله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)}.

في هذه الآيات: تصديقُ لوط وهجرته وإبراهيم - عليهما الصلاة والسلام - إلى الله العزيز الحكيم. وإكرامه تعالى إبراهيم بإسحاق ويعقوب وجعله النبوة في ذريته وهو في الآخرة من الصالحين.

فقوله: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} . قال ابن عباس: (صدّق لوط).

وقوله: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} . قال: ابن عباس: (هو إبراهيم).

قال قتادة: (هاجرا جميعًا من كوثى، وهي من سواد الكوفة إلى الشام).

وقال ابن زيد: (كانت هجرته إلى الشام).

أخرج أبو داود والحاكم بسند حسن في الشواهد عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا: [ستكونُ هجرةٌ بَعْدَ هِجرةٍ، فخِيارُ أهل الأرض ألزمُهم مهاجَرَ إبراهيم، ويبقى

(1) حديث صحيح. أخرجه الحاكم (4/ 605) وقال: "حديث صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي.

(2)

صحيح لغيره. أخرجه ابن ماجه (4324)، وابن أبي الدنيا في "صفة النار"(ق 12/ 1). وأخرجه الخطيب (11/ 283)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1679).

ص: 680

في الأرض شِرارُ أَهْلِها، تلفِظُهم أرضُوهم، تقذُرهم نَفْسُ الله، وتحشُرُهم النار مع القردة والخنازير] (1).

ووجه الجمع بين قوله إبراهيم لسارة: "ليس على وجه الأرض مؤمن غيرك وغيري، فأنت أختي في الدين" - حين عرض لها الطاغية، وإيمان لوط في ذلك الزمان أن المراد - والله أعلم - ليس على وجه الأرض زوجان على الإِسلام غيري وغيرك، أو المقصود ليس على وجه تلك الأرض زوجان على الإِسلام غيري وغيرك، أو المقصود ليس على وجه تلك الأرض التي مرّا عليها، أو المراد ذلك على التغليب، وإلا فإن لوطًا عليه الصلاة والسلام آمن به من قومه، وهاجرَ معه إلى بلاد الشام، ثم أرسله الله في حياة الخليل إلى أهل "سَدُوم" وإقليمها، فكان من أمرهم انتشار تلك الفاحشة الخبيثة حتى قلب الله عليهم قريتهم وجعل عاليها سافلها.

وقوله: {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . أي: العزيز في نصرة رسله والمؤمنين، وفي انتقامه من أعدائه المجرمين، الحكيم في أقواله وأفعاله وقدره وشرعه.

وقوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} .

إخبار عن هديته -تعالى- الكبرى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، لما فارق قومه واعتزلهم في عبادتهم، فأكرمه في غربته أن جعل النبوة في ذريته، والكتب المنزلة ترافق بعثتهم. كما قال تعالى:{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)} [مريم: 49].

وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:[الكريمُ ابنُ الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يُوسفُ بنُ يعقوبَ بنِ إسحاقَ بن إبراهيم عليهم السلام](2).

والخلاصة: إن شجرة الأنبياء جميعها تنبعث في أصلها من إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فجميع أنبياء بني إسرائيل من سلالة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، حتى

(1) حديث حسن في الشواهد. أخرجه أبو داود (1/ 388 - جهاد)، والحاكم (4/ 486 - 487)، وأحمد (2/ 84)، (2/ 198 - 199)، وعبد الرزاق (11/ 376/ 20790)، وكذلك أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(6/ 54 - 66). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (3203).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3382) -كتاب أحاديث الأنبياء، وانظر كذلك (3390)، وكذلك (4688) -كتاب التفسير، ورواه مسلم وغيره من أهل السنن.

ص: 681

كان آخرهم عيسى بن مريم -الذي بشر بخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الوحيد من سلالة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وجميع الكتب التوراة والإنجيل والزبور والفوقان رافقت تلك الذرية المباركة. فالمراد بقوله:{وَالْكِتَابَ} جنس ذلك، أي: من الكتب المشار إليها.

وقوله: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} . قال مجاهد: (الثناء). وقال ابن عباس: (الولد الصالح والثناء). أو قال: (الذكر الحسن). وقال عكرمة: (أجره في الدنيا أن كل ملة تتولاه، وهو عند الله من الصالحين).

وعن قتادة: ({وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} قال: عافية وعملًا صالحًا، وثناء حَسَنًا، فلست بلاق أحدًا من الملل إلا يرى إبراهيم ويتولاه).

والخلاصة: لقد أبقى الله تعالى لإبراهيم عليه السلام الثناء الحسن في الأرض، والصلاة عليه إلى آخر الدهر، ومحبة أهل الملل له، واستمرار الذرية الصالحة في عقبه.

وقوله: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} . قال الحسن: (أي من أهل الجنة).

قال ابن جرير: ({إِنَّهُ} مع ذلك {فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} فله هناك أيضًا جزاء الصالحين، غير منتقص حَظُّه بما أعطي في الدنيا من الأجر على بلائه في الله، عَمَّا له عنده في الآخرة).

28 -

30. قوله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)}.

في هذه الآيات: يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد لوطًا إذ حذر قومه مغبة الفاحشة التي كانوا عليها من إتيان المذكور دون النساء ولم يسبقهم إليها أحد من العالمين، ومقابلة قومه له بالتكذيب والإصرار واستعجال العذاب حتى لجأ إلى الله طالبًا النصر على القوم المفسدين.

ص: 682

فقوله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ مِنَ الْعَالَمِينَ} .

قال عمرو بن دينار: (ما نزا ذكَرٌ على ذكر حتى كان قوم لوط).

وقوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} .

أي: إنهم جمعوا بين منكرات كثيرة، من كفر بالله وتكذيب لرسوله، وقطع للطرق على المسافرين يبتزّونهم للفاحشة ويقتلونهم ويأخذون أموالهم، ويفعلون ما لا يليق فعله في مجالسهم من مجاهرة بالمنكر وتضارُطٍ وتضاحك خبيث وتكشُّفٍ مَشين.

فعن ابن زيد: ({وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} قال: السبيل: الطريق. المسافر إذا مرَّ بهم، وهو ابن السبيل قطعوا به، وعملوا به ذلك العمل الخبيث).

وعن عكرمة: ({وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} قال: كانوا يُؤذون أهل الطريق يحذفون من مرَّ بهم). وقال مجاهد: (كان يجامع بعضهم بعضًا في المجالس). وقال ابن زيد: (ناديهم المجالس، والمنكر: عملهم الخبيث الذي كانوا يعملونه، كانوا يعترضون بالراكب فيأخذونه ويركبونه). وذكر ابن جرير بسنده عن عروة بن الزبير، عن عائشة في قوله:{وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} قال: (الضراط). قيل: كانوا يتضارطون ويضحكون.

قلت: والآية بعمومها تشمل جميع أنواع المنكرات التي ذُكِرَتْ، وغير ذلك مما لم يُذكر، وتدلّ أنّ قوم لوط جمعوا من الخبائث ألوانًا شتى وأصزوا عليها متكبرين مستهزئين بالعذاب مطالبين به تهكّمًا، وهو قوله:{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} .

وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} .

لجوءٌ صحيح من لوط صلى الله عليه وسلم إلى ربه حين استعصى عليه قومه، وأَصَرُّوا على بَغْيهم وكفرهم وفجورهم، فاستنصر ربه عز وجل عليهم.

31 -

35. قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ

ص: 683

رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)}.

في هذه الآيات: بثُّ الملائكة البشرى لإبراهيم عليه السلام بولد صالح وبإهلاك القوم الظالمين، ووصول الرسل إلى لوط وضيقه وخوفه عليهم حتى بشروه بهلاك القوم المفسدين، لتبقى قصتهم آية لقوم يعقلون.

فقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} .

أي: جمعوا له بين البشارة بولد صالح وبين إهلاك قوم لوط الذين أصروا على الظلم من كفر ومعصية.

قال ابن كثير: (لما استنْصَرَ لوطٌ عليه السلام الله عليهم، بعثَ الله لِنُصْرَتِه ملائكةً فَمَرُّوا على إبراهيم عليه السلام في هيئة أضياف، فجاءهم بما يَنْبغي لِلضَّيفِ، فلما رأى أنه لا هِمَّةَ لهم إلى الطعام نَكِرَهُم وأوجسَ منهم خيفة، فَشَرَعوا يؤانسونه ويُبَشِّرونه بوجود ولدٍ صالحٍ من امرأته سارَّة -وكانت حاضرة- فتعجَّبَت من ذلك. قال: فلما جاءت إبراهيم البُشرى، وأخبروه بأنهم أُرسِلوا لهلاكِ قوم لوطٍ، أخذَ يدافِعُ لعلهم يُنْظرون، لعل الله أن يَهديهم. ولما قالوا: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ}، {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}، أي: من الهالكين؛ لأنها كانت تُمالِئُهم على كُفْرهم وبَغْيِهم ودَبْرِهِم).

وقوله: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} .

قال قتادة: (ضاق ذرعه بضيافتهم لِما علم من خُبث فعل قومه). أو قال: ({وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} بالضيافة مخافة عليهم مما يعلم من شرّ قومه).

والمقصود: أنه لما سارت الملائكة من عند إبراهيم متوجهين إلى لوط عليهما السلام وَرَدُوا عليه في صورة شبابٍ حسان فلما رآهم اغتَمَّ بأمرهم فإن أضافهم خشي

ص: 684

عليهم مكر قومه، وإن لم يضفهم خاف عليهم اعتداءهم، ولم يعرف حقيقة أمرهم بعد.

وقوله: {وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: قالت الرسل للوط: لا تخف علينا أن يصل إلينا قومك، ولا تحزن مما أخبرناك من أنّا مهلكوهم. وذلك أن الرسل قالت لهْ: {يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 81]. {إِنَّا مُنَجُّوكَ} من العذاب الذي هو نازل بقومك {وَأَهْلَكَ} يقول: ومنجو أهلَك معك {إِلَّا امْرَأَتَكَ} فإنها هالكة فيمن يهلك من قومها، كانت من الباقين الذين طالت أعمارهم).

وقوله تعالى: {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} .

أي: إنا منزلون -يا لوط- على أهل هذه القرية -سدوم- عذابًا من السماء بما كانوا يستهترون بركوبهم الفواحش وإصرارهم عليها.

لقد اقتلع جبريل عليه السلام قراهم من قرار الأرض فرفعها إلى عنان السماء ثم قلبها عليهم. وأتبعهم الله حجارة من سجيل منضود. مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد.

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .

قال مجاهد: (عبرة). وقال قتادة: (هي الحجارة التي أمطرت عليهم).

قال القاسمي: ({وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يعني قصتها العجيبة، أو آثارها الخربة).

قال تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137 - 138].

36 -

40. قوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ

ص: 685

مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)}.

في هذه الآيات: خبرُ شعيب صلى الله عليه وسلم وقومه ودعوتهم لعبادة الله والاستعداد لليوم الآخر وترك الفساد في الأرض، وإصرارهم حتى أخذتهم الرجفة فأصبحوا جاثمين. وخبر عاد وثمود وقارون وفرعون وهامان وغيرهم من الأمم الباغية الذين سلّط الله عليهم ألوان العذاب وما كانوا سابقين.

فقوله: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وأرسلت إلى مَدْين أخاهم شعيبًا، فقال لهم: يا قوم اعبدوا الله وحده، وذِلُّوا له بالطاعة، واخضعوا له بالعبادة، {وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ} يقول: وارجوا بعبادتكم إياي جزاء اليوم الآخر وذلك يوم القيامة).

وقال بعضهم: ({وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ}: واخشوا اليوم الآخر). وقيل: ({وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ} أي صدقوا به فإن القوم كانوا ينكرونه).

وقوله: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} .

العُثُوُّ والعِثيّ أشد الفساد. والمقصود: نهيهم عن السعي في الأرض بالفساد والبغي والإفساد. وذلك أنهم كانوا ينقصون المكيال والميزان، ويقطعون الطريق على الناس، هذا مع كفرهم بالله ورسوله.

وقوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} .

قال قتادة: ({جَاثِمِينَ}: أي ميتين). وقال غيره: (قد أُلقي بعضهم على بعض).

قال ابن كثير: (فأهلكهم الله بِرَجْفَةٍ عظيمة زَلْزَلَت عليهم بلادهم، وصَيحةٍ أخرجت القلوب من حَنَاجرها، وعذاب يَوْمِ الظلّة الذي أزهَقَ الأرواحَ من مُستَقَرِّها، إنه كان عذاب يوم عظيم).

ص: 686

وقوله: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} .

أي: واذكروا كذلك -أيها القوم- مصير عاد وثمود ومآل مساكنهم إلى الدمار والخراب. وذلك أن عادًا -قوم هود- كانوا يسكنون الأحقاف، وهي قرية قريبة من حَضْرموت بلاد اليمن، وثمود -قوم صالح- كانوا يسكنون الحِجْرَ قريبًا من وادي القرى. وكانت العرب تعرف مساكنهما جيدًا، فهم يقرون على آثار ديارهم كثيرًا أثناء الأسفار والترحال، فذكرهم الله تعالى بما يشاهدونه من تلك البقايا من الأطلال.

وقوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} . قال القرطبي: (أي أعمالهم الخسيسة فحسبوها رفيعة). والمقصود: حَسّن لهم الشيطان ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي.

وقوله: {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} .

أي: فأزاحهم الشيطان بتزيينه لهم الكفر والآثام عن سبيل الله القويم، وطريق الحق المتين، وكانوا في ضلالتهم مستبصرين، فهم مُعْجَبون ببغيهم يحسبون أنهم على هدى وصواب وهم على الضلال المبين.

ففي قوله: {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} قولان متكاملان في المعنى:

1 -

قال ابن عباس: ({وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} يقول: كانوا مستبصرين في دينهم). وقال مجاهد: ({وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} في الضلالة). وقال قتادة: ({وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} في ضلالتهم مُعْجبين بها).

2 -

قال الفراء: (كانوا عقلاء ذوي بصائر فلم تنفعهم بصائرهم). وقال النسفي: ({وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} عقلاء متمكنين من النظر وتمييز الحق من الباطل ولكنهم لم يفعلوا).

وقوله: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} .

أي: وكذلك اذكر يا محمد -وَذَكِّر قومك- أمر قارون صاحب الأموال الجزيلة ومفاتيح الكنوز الثقيلة، وأمر فرعون ملك مصر في زمان موسى ووزيره هامان، وكانا -من القبط- على الكفر بالله ورسوله، جاءهم موسى بالبينات من الأدلة الواضحات، فاستكبروا في الأرض وأبوا الإيمان بالله الواحد الأحد، فَدَكَّهم العذاب وما كانوا سابقينا بأنفسهم فيفوتونا، بل كنا مقتدرين عليهم. قال القاسمي: ({وَمَا كَانُوا

ص: 687

سَابِقِينَ} أي: فائتين لله سبحانه، بل لحقهم عذابه فدمرهم تدميرًا).

وقوله: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} .

قال ابن عباس: ({فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} قوم لوط). أي: أمطر الله عليهم حجارة من سجيل منضود. قال ابن جرير: (والعرب تسمي الريح العاصف التي فيها الحصى الصغار أو الثلج أو البَرَد والجليد حاصبًا).

وعن ابن جريج، عن ابن عباس:({وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} قال: ثمود). وقال قتادة: (قوم شعيب). ولا شك أن ثمود ومدين قد أخذتهم الصيحة فيشملهما الإخبار.

وعن ابن عباس قال: ({وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ} قارون، {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} يعني قوم نوح وفرعون وقومه).

والخلاصة: لقد أخذ الله جميع هؤلاء الأقوام بذنوبهم، فكانت عقوبة كل منهم بما يناسب ظلمهم، فقدم عاد طغوا وقالوا من أشد منا قوة؟ فأزاحتهم ريح عاتية محملة بالحصباء ترفع الرجل منهم عاليًا ثم تنكسه على رأسه فتشدخُه، فيبقى بدنًا بلا رأس كأنهم أعجاز نخل منقعر. وثمود الذين عقروا الناقة وعتوا وتهددوا نبيَّ الله صالحًا ومن آمن معه بأن يخرجوهم ويرجموهم، فجاءتهم صيحة أخمدت أصواتهم وحركاتهم.

وقارون الذي مشى متبخترًا، فرحًا بالمال متكبرًا، فخسف الله به وبداره الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.

وفرعون الطاغية الذي ادّعى الربوبية وملك البلاد والأنهار والبحار، فسلّط الله عليه مياه اليم فأغرقه وجنوده، وأبقاه عبرة لمن جاء بعده.

وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .

قال القرطبي: (لأنه أنذرهم وأمهلهم وبعث إليهم الرسل وأزاح العذر).

41 -

43. قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ

ص: 688

الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)}.

في هذه الآيات: تمثيلٌ بديع لحال المشركين في تَعَلُّقِهم بآلهتهم التي لا تضر ولا تنفع فهم كالمتعلق بشبكة خيوط العنكبوت لو كانوا يعلمون. وهذه الأمثال يضربها الله للناس وما يعقلها إلا العالمون.

قال ابن عباس: (قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا .. } إلى آخر الآية، قال: ذلك مثل ضربه الله لمن عبد غيره، إن مثله كمثل بيت العنكبوت). قال ابن جرير: ({وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ} أي: أضعف البيوت). {لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} . قال الضحاك: (ضرب مثلًا لضعف آلهتهم ووهنها فشبهها ببيت العنكبوت). وقال قتادة: (هذا مثل ضربه الله للمشرك، مثل إلهه الذي يدعوه من دون الله كمثل بيت العنكبوت واهن ضعيف لا ينفعه).

وقال ابن زيد: (هذا مثل ضربه الله، لا يغني أولياؤهم عنهم شيئًا كما لا يغني العنكبوت بيتها هذا). قال القرطبي: ({لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}: أي لو علموا أن عبادة الأوثان كاتخاذ بيت العنكبوت التي لا تغني عنهم شيئًا، وأن هذا مثلهم لما عبدوها، لا أنهم يعلمون أن بيت العنكبوت ضعيف).

والمقصود: أن اتخاذ المشركين آلهة من دون الله وتعظيم الطواغيت يرجون نَصْرهم ورزقهم ويستغيثون بهم في النائبات والشدائد، إنما هم في ذلك كمن يتعلق للنجاة ببيت العنكبوت لا يجدي عنه شيئًا لضعفه ووهنه.

وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .

تجهيلٌ للكفار حين عبدوا من دون الله جمادًا لا علم له ولا قدرة، وتركوا عبادة الله الواحد القادر القاهر الأحد. فالله تعالى يعلم عجز الهتهم التي يدعون من دونه، وهو {الْعَزِيزُ} الغالب الذي يقهر كل الأوثان والطواغيت ومن عظّمها، الحكيم في تدبير شؤون خلقه وإمهال المشركين إلى حين.

وقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} .

أي: وهذه الأمثال البديعة التي يضربها الله تعالى للناس إنما هي ليتدبروا أمرهم قبل ذوات الأوان، فيفردوه تعالى بالعبادة والتعظيم، وإنما يعي آفاق هذه الأشباه والنظائر والحكم الراسخون في العلم والإيمان.

ص: 689

قال النسفي: (كان سفهاء قريش وجهلتهم يقولون: إنّ رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت ويضحكون من ذلك، فلذلك قال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} به وبأسمائه وصفاته، أي: لا يعقل صحتها وحسنها ولا يفهم فائدتها إلا هم، لأن الأمثال والتشبيهات إنما هي الطرق إلى المعاني المستورة حتى تبرزها وتصورها للأفهام). وعن عمرو بن مرة قال: (ما مررت بآية من كتاب الله لا أعرفها، إلا أحزنني. لأني سمعت الله تعالى يقول: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}).

44 -

45. قوله تعالى: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)}.

في هذه الآيات: خَلْقُ الله السماوات والأرض بالحق، ودعوته تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لتلاوة الوحي وإقام الصلاة، فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، وألله يعلم جميع شؤون عباده وأعمالهم.

فقوله: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} . أي: محقًا، أراد بخلقه ذلك الجِدّ والعمل، لا اللهو والعبث والكسل. قال النسفي:(يعني لم يخلقهما باطلًا بل لحكمة، وهي أن تكونا مساكن عباده، وعبرة للمعتبرين منهم، ودلائل على عظم قدرته).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 16 - 18].

2 -

وقال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)} [النجم: 31].

ومن صحيح السنة العطرة في آفاق ذلك أحاديث، منها:

الحديث الأول: أخرج ابن ماجه بسند حسن عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ص: 690

[إنِّي أرَى ما لا تَرَوْنَ، وأسْمَعُ ما لا تَسْمعون. إنَّ السَّماء أطَّت (1) وحقَّ لها أن تَئِطَّ. ما فيها مَوْضِعُ أَرْبَعِ أصابعَ إلا وَمَلَكٌ واضعٌ جَبْهَتَه ساجدًا لله والله، لو تعلمون ما أعْلَمُ، لَضَحِكْتُم قليلًا ولبكيتم كثيرًا. وما تَلذَّذْتُم بالنساء على الفُرُشاتِ. ولخرجتم إلى الصُّعُدات تجأرون إلى الله](2).

الحديث الثاني: يروي ابن ماجه في كتاب الزهد بإسناد حسن عن عبد الله بن ضمرة السلولي، قال: حدثنا أبو هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: [الدنيا مَلْعُونَةٌ. مَلْعونٌ ما فيها، إلا ذِكْرَ الله وما والاهُ، أو عالِمًا أو مُتَعَلِّمًا](3).

وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} . أي: لدلالة بينة أنه تعالى الإله الحق المستحق للعبادة دون ما سواه.

وقوله: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} .

أمْرٌ من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بقراءة القرآن وتبليغه والقيام بأوامره ومقتضى ما فيه من الحق.

وقوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} - أمْرٌ من الله تعالى نبيّه والمؤمنين بإقام الصلاة بحدودها وأركانها وواجباتها، وما يجب لها من إتمام الوضوء والتطهر.

وقوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} .

قال ابن عباس: (يقول: في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله).

أخرج الإِمام أحمد في المسند، ورجاله رجال الصحيح عن أبي هريرة قال: أجاءَ رَجُلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ فلانًا يُصَلِّي بالليل فإذا أصْبَحَ سَرَق! فقال: إنه سَيَنْهَاهُ ما تقولُ] (4).

(1) الأطيط: صوت الأقتاب، وأطيط الإبل أصواتها وحنينها، والمقصود سُمعَ صوت ثقل الملائكة وكثرتها وازدحامها كصوت الحركة على السقف من الخشب.

(2)

حديث حسن. أخرجه ابن ماجه في السنن (4190) -كتاب الزهد، باب الحزن والبكاء. وانظر صحيح سنن ابن ماجه -حديث رقم- (3378).

(3)

إسناده حسن. أخرجه ابن ماجه (4112) -في السنن- كتاب الزهد. باب مثل الدنيا. وانظر صحيح سنن ابن ماجه (3320)، وتخريج المشكاة (5176).

(4)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 447)، والبزار كما في "المجمع"(2/ 258)، وقال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح. وله رواية للبزار من طريق جابر، ورجاله ثقات.

ص: 691

قلت: وأما حديث أكثر من ذكره هنا المفسرون: "مَنْ لم تنْهَهُ صلاتُه عن الفحشاء والمنكر لم يزْدَد بها من الله إلا بُعْدًا"- فهو ضعيف. أخرجه الطبراني وفي سنده ليث بن أبي سُليم قد اختلط. وكذلك حديث: "لا صلاة لمن لم يُطع الصلاة" -فهو ضعيف جدًّا- أخرجه ابن جرير في التفسير، وفيه جويبر متروك متهم، فتَنبَّه.

والمقصود: أَنَّ إِقبال العبد على الله في صلاته بصدق يورثه تعظيم أوامره واجتناب نواهيه، فلا بد أن تأمره صلاته بترك الفحشاء والمنكر.

وقوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} . أي: منهاج الذكر أكبر شيء وأجَلُّه، والذي في الصلاة جزء منه، وإنما ذِكْرُهُ تعالى فَوْقَ كُلِّ أَمْر.

ومن أقوال المفسرين في ذلك:

1 -

قال ابن عون الأنصاري: (إذا كنت في صلاة فأنت في معروف، وقد حَجَزتك عن الفحشاء والمنكر، والذي أنت فيه من ذكر الله أكبر).

2 -

قال ابن عباس: (يقول: ولذكر الله لعباده أكبر إذا ذكروه من ذكرهم إياه). أو قال: (ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته).

3 -

وقال ابن عطاء: (ذِكْرُ اللهِ لكم أكبر من ذكركم له الآن؛ لأن ذكره بلا علة وذكركم مشوب بالعلل والأماني، ولأن ذكره لا يفنى وذكركم لا يبقى).

4 -

وقال سلمان: (ذكر الله أكبر من كل شيء وأفضل).

5 -

وقيل: ذكر الله أكبر من أن تحويه أفهامكم وعقولكم.

6 -

وقيل: ذكر الله أكبر من تلقي معه معصية. أو ذكر الله أكبر عن الفحشاء والمنكر من غيره.

قلت: والراجح عندي إطلاق اللفظ على حاله، فهو إضافة لأنه يشمل كل ما ذكر، إلا أنه يفيد في تأصيل مفهوم عظيم، وهو أن ذكره تعالى أعلى من كل شيء، بل هو غاية كل عمل صالح. قال تعالى:{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} .

فقد أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي الدرداء قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ألا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أعمالِكُمْ وأزكاها عِنْدَ مَليكِكُمْ وأرفَعِها في درجاتِكُم، وخَيْرٌ لكم من إنفاق الذَّهَبِ

ص: 692

والوَرِقِ، وخيْرٌ لكم مِنْ أَنْ تَلْقوا عَدُوَّكُم فتضربوا أعناقَهُم ويضربوا أعناقكمْ؟ قالوا: بلى، قال: ذِكْرُ الله] (1).

قال معاذ بن جبل: (ما شيء أنجى من عذاب الله، من ذكر الله).

فذكر الله تعالى أعلى من الجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الإِسلام، لأن الجهاد إنما شُرعَ لإعلاء كلمة الله والحكم بمنهاجه، فَذِكْرُهُ تعالى وكلامه وصفاته وأسماؤه فوق كل شيء.

وقد جاء في آفاق منهج الذكر أحاديث جليلة، منها:

الحديث الأول: أخرج الإِمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: [خرج معاوية إلى المسجد فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال: الله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تُهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقلَّ حديثًاًا عنه مِنِّي: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج على حلقة من أصحابه، فقال: ما يُجلِسُكُمْ؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده، لما هدانا للإسلام، ومَنَّ علينا به. فقال: الله. ما أجْلَسَكُمْ إلا ذاك. قالوا: الله ما أجلسنا إلا ذاك. قال: أما أنّي لمْ أسْتَحْلِفْكُم لِتُهْمَةٍ لكم، إنه أتاني جِبْرَئيلُ وأخبرني: أن الله يُباهي بكم الملائكة](2).

الحديث الثاني: أخرج ابن ماجه بسند صحيح عن عبد الله بن بسر، أن أعرابيًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شرائعَ الإِسلام قد كثرت علي. فأنبئني منها بشيء أتشبث به. قال: [لا يزالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ الله عز وجل](3).

الحديث الثالث: روى مسلم والترمذي وابن ماجه عن الأغَر أبي مُسلم: أنه شهد على أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ما مِنْ

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (3617) -أبواب الدعوات، وكذلك ابن ماجه (3790) - في فضل الذكر، وانظر صحيح سنن الترمذي (2688).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 72)، ورواه الترمذي (3619) - أبواب الدعوات، باب ما جاء في القوم يجلسون فيذكرون الله ما لهم من الفضل. انظر صحيح سنن الترمذي (2690).

(3)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه (2793) - في فضل الذكر. والترمذي (3615) - أبواب الدعوات. باب فضل الذكر. انظر صحيح سنن الترمذي (2687)، وصحيح ابن ماجه (3060).

ص: 693

قوم يذكرون الله إلا حَفَّتْ بهم الملائِكَةُ، وغَشيتهم الرحمةُ، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده] (1).

منهاج الذكر كما جاء في الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة:

وهنا فائدة جليلة: لما أفادت الآية السابقة أن ذكر الله أجل الأعمال، كان من الواجب على العباد الاعتناء بآداب ذكرهم لله تعالى ولزومهم لهدي نبيّه صلى الله عليه وسلم ومنهاجه في ذلك:

أ - مجالس الذكر هي مجالس العلم.

جاء في "المدخل" لابن الحاج "1/ 86 - 87": (قال علماؤنا رحمهم الله: الذكر والمجالس المذكورة في هذه الأحاديث مجالس العلم، وهي مجالس الحلال والحرام، هل يجوز أو لا يجوز، كيف يتوضأ، وما يجب عليه، ويسن ويستحب، ويكره ويمنع، وكيف يصلي، وكيف ينكح، وكيف يبيع ويشتري، إلى غير ذلك، حتى الحركات والسكنات، والنطق والصمت).

وجاء فيه " 1/ 89 - 90": (وقد قالت عائشة رضي الله عنها: "كم من قارئٍ يقرأ القرآن والقرآن يلعنه، يقرأ: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] وهو ظالم).

وقد قال ابن بطال (2) في شرح البخاري عن العلماء أنهم قالوا: (الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم يحتاج فيها إلى معرفة تلقي الصحابة رضي الله عنهم لها. كيف تلقوها عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم فإنهم أعرف بالمقال، وأفقه بالحال).

ب - عدم رفع الصوت عند الذكر.

قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)} [الأعراف: 205].

قال قيس بن عُباد (3): (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت عند

(1) حديث صحيح. رواه مسلم (8/ 72)، وابن ماجه (2/ 418)، وانظر صحيح سنن ابن ماجه (3058)، وصحيح سنن الترمذي (2689).

(2)

هو علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال أبو الحسن القرطبي عالم بالحديث شرَحَ صحيح البخاري. توفي سنة (449 هـ) رحمه الله تعالى.

(3)

هو قيس بن عُبَاد الضُبَعي أبو عبد الله البصري، ثقةٌ مخضرم. مات بعد الثمانين -رحمه الله تعالى-.

ص: 694

الذكر). وممن روى كراهة رفع الصوت عند قراءة القرآن: سعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، والحسن وابن سيرين والنخعي، وكرهه مالك بن أنس، وأحمد بن حنبل.

روى مالك في الصلاة، باب العمل في القراءة، من حديث البياضي رضي الله عنه مرفوعًا - أنه خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه رضي الله عنهم وهم يرفعون أصواتهم بالقرآن، فكره ذلك وقال:[لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن](1).

وله شاهد عند أبي داود في السنن، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:[اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف السِّتْرَ وقال: ألا كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضًا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة](2).

وفي صحيح البخاري عن أبي موسى الأشعري قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر أشرف الناس على واد، فرفعوا أصواتهم بالتكبير: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ارْبَعُوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصَمَّ ولا غائبًا. إنكم تدعون سميعًا قريبًا وهو معكم](3).

ج - عدم الاجتماع على صوت واحد في الذكر.

قال ابن وهب: قلت لمالك رحمه الله: أرأيت القوم يجتمعون فيقرؤون جميعًا سورة واحدة حتى يختموها؟ فأنكر ذلك وعابه وقال: (ليس هكذا كان يصنع الناس إنما كان يقرأ الرجل على الآخر يعرضه)(4).

ثم ذكر حديث: "لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن". وقال: (ومحال في حقهم أن يكون صلى الله عليه وسلم نهاهم عن رفع الصوت بالقرآن فيجتمعون للذكر رافعين أصواتهم به).

ثم قال: (وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله

(1) أخرجه مالك في "الصلاة" - باب العمل في القراءة (1/ 80) -حديث رقم- (29).

(2)

رواه أبو داود (1332) - في الصلاة، باب رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل، ورواه البيهقي في "شعب الإيمان"(2/ 543) رقم (2658). وسنده صحيح.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه -حديث رقم- (4202) - كتاب المغازي. باب غزوة خيبر. وانظر كذلك (2992).

(4)

انظر: "المدخل" لابن الحاج (1/ 91)، وكتاب:"إنارة الفكر بما هو الحق في كيفيّة الذكر" - البقاعي (ت: 885 هـ)(ص 36).

ص: 695

ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة

". فالدراسة المذكورة تشعرك بأنهم لم يجتمعوا على التلاوة صوتًا واحدًا متراسلين، لأن المدارسة إما أن تكون تلقينًا، أو عرضًا، وهذا هو المروي عنهم).

وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} .

أي والله يعلم أحوالكم وصفة عبادتكم وموافقتها لمنهاج النبوة أو انحرافها، كما يعلم جميع أعمالكم وشؤونكم.

46 -

49. قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)}.

في هذه الآيات: الدعوةُ لمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، والتصريح بالإيمان بهذا القرآن وما قبله من الكتب، وتوحيد الله الإله الحق منزل الكتاب بالحق وما يجحد به إلا الكافرون. إنك -يا محمد- لو كنت قارئًا كاتبًا في قومك ثم جئتهم بهذا القرآن لاتهمّك بأخذه من الكتب المبطلون. وإنما هذا القرآن آيات بينات في صدور أهل العلم وما يجحد بآيات الله إلا الظالمون.

قوله: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .

قال مجاهد: (هي محكمة، فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن على معنى الدعاء لهم إلى الله عز وجل، والتنبيه على حججه واياته، رجاء إجابتهم إلى الإيمان، لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة). وقيل منسوخة بآية السيف، فلهم الإِسلام أو السيف أو الجزية. قلت: والراجح قول مجاهد، فإن الآية عامة في ملاطفة المعتدلين من أهل الكتاب بالجميل من القول، رجاء إسلامهم واتباعهم هدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

ص: 696