المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ منهاج السورة - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٥

[مأمون حموش]

فهرس الكتاب

- ‌20 - سورة طه

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌ دروس ونتائج وأحكام

- ‌21 - سورة الأنبياء

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌22 - سورة الحج

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌23 - سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌24 - سُوْرَةُ النَّوُرِ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام:

- ‌1 - الولاء والبراء هو محور منهج الإيمان عند المسلمين:

- ‌2 - بشرية الرسول وعدم علمه بالغيب:

- ‌3 - براءة عائشة إلى يوم القيامة:

- ‌4 - الأصل في المؤمنين الظن بأنفسهم خيرًا:

- ‌5 - تمحيص الله لقلوب المؤمنين بالابتلاء وتأخر الوحي:

- ‌6 - ثبوت إقامة الحد على القاذفين:

- ‌7 - مشروعية الإقراع بين النساء في السفر وجواز خروجهن للغزو ومشاركتهن بذلك:

- ‌آداب الاستئذان:

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌25 - سورة الفرقان

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌26 - سُورَةُ الشُّعَراءِ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌27 - سُورَةُ النَّمْلِ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌28 - سُورَةُ القصَصِ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌29 - سورة العنكبوت

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

الفصل: ‌ منهاج السورة

‌24 - سُوْرَةُ النَّوُرِ

وهي سورة مدنية في غالبها، وعدد آياتها (64).

‌موضوع السورة

أحكام العفاف والستر

ونور الوحي في حياة وقلوب المؤمنين

-‌

‌ منهاج السورة

-

1 -

التنبيه على شأن هذه السورة، وذكر عقوبة الزنى لغير المحصن.

2 -

الإعلام بأن الزاني لا يطأ إلا زانية أو مشركة، وتحريم نكاح الزانية أو تزويج الزاني.

3 -

تحريم القذف وبيان حدّه وعواقبه، وتشريع الملاعنة وأحكامها.

4 -

قصة أهل الإفك، وبراءة عائشة رضي الله عنها إلى يوم القيامة.

5 -

تشريع آداب عالية في الاستئذان قبل الدخول، واستثناء الأماكن العامة.

6 -

الأمْرُ بغض البصر - للمؤمنين والمؤمنات - عما لا يحل النظر إليه، وأَمْرُ المؤمنات بعدم إبداء زينتهن إلا الوجه والكفين، وبيان ما يحل إظهاره أمام المحارم، والنهي عن الضرب بالأرجل لما يحرك الفتنة على الرجال.

ص: 303

7 -

الترغيب في التزويج للأحرار والعبيد والوعد بالغنى والرزق على ذلك.

8 -

الأمر بالاستعفاف حتى يكون النكاح، والترغيب بمساعدة المكاتبين، والتحذير من إكراه الإماء على الزنى.

9 -

تمثيل بديع لقلب المؤمن الذي شعّ بنور الوحي الكريم، والله تعالى منوّر السماوات والأرض وهادي أهلهما وهو بكل شيء عليم.

10 -

ذِكْرُ أطهر البيوت في الأرض عقب ذكر أطهر القلوب وأزكاها، وفضيلة إعمار المساجد والثناء على عمارها.

11 -

ضرب مثلين لنوعي الكفار: الرؤساء والأتباع. لا تنفعهم أعمالهم يوم الحساب، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.

12 -

إثباتُ تسبيح جميع المخلوقات، وسوقُ الله السحاب وإنزاله المطر، ولمعان البرق يأخذ بالبصر، وتعاقب الليل والنهار، وخَلْقُ كل دابة من ماء، آيات لقوم يتفكرون.

13 -

ذِكْرُ بعض صفات المنافقين، يعلنون الإيمان وما هم بمؤمنين، ويعرضون عن التحاكم لله ورسوله وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين. وأما المؤمنون فهم يخبتون لله ويرضون بحكمه وأولئك هم الفائزون.

14 -

فضحُ المنافقين في تأكيدهم الخروج للجهاد مع رسول الله بالحلف وهم كاذبون. ومن يطع الله ورسوله ينعم بنور الهداية ومن يعرض فما على الرسول إلا البلاغ المبين.

15 -

وعْدُ الله تعالى المؤمنين الاستخلاف في الأرض والتمكين، وعجزُ الكافرين عن الهروب من عذاب الله الأليم.

16 -

آداب رفيعة في الاستئذان، وبيان وجوب ذلك على الأطفال إذا بلغوا الحلم، ولا جناح على القواعد من النساء أن يضعن ثيابهن غير متبرجات وأن يلتمسن العفاف والله سميع عليم.

17 -

رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض، وجواز الأكل من بيوت القرابة، والأمر بإلقاء السلام عند الدخول.

ص: 304

18 -

إرشاد الله تعالى عباده المؤمنين إلى الأدب مع نبيهم، وإذا دخلوا أو خرجوا فليستأذنوا ولا يتفرقوا إلا عن أمره.

19 -

النهي عن مناداة الرسول كمناداة غيره، أو ظن دعائه كدعاء غيره.

20 -

الوعيد الشديد على من تعمد مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم والله بكل شيء عليم.

* * *

ص: 305

بسم الله الرحمن الرحيم

1 -

2. قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)}.

في هذه الآياتِ: تعظيمُ الله تعالى شأن هذه السورة الكريمة المشتملة على بيان أحكام العفاف والستر لقوم يَذَّكَرون. إن عقوبة الزنى لغير المحصن الجلد دون رأفة مع شهود هذا الحدّ من طائفة من المؤمنين.

فقوله: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} . سورة: خبر لمبتدأ محذوف تقديره هي، أو هذه. و {أَنْزَلْنَاهَا} صفة لها. قال القاسمي:(والتنكير للتفخيم). وقال ابن كثير: فيه تنبيه إلى الاعتناء بها ولا يَنْفي ما عداها).

وقوله: {وَفَرَضْنَاهَا} . أصل الفرض القطع، أي جعلناها مقطوعًا بها - حكاه النسفي. وقد قرأ قُرَّاءٌ من الحجاز والبصرة بتشديد الراء:"وَفَرَّضناها". قال مجاهد: (أي بَيَّنا الحلال والحرام والأمر والنهي والحدود). فالتأويل: فصّلناها ونزّلنا فيها فرائض مختلفة. وأما عامّة قراء المدينة والكوفة والشام فقرؤوها بالتخفيف: {وَفَرَضْنَاهَا} . قال ابن عباس: (يقول: بيناها). وقال البخاري: (يقول: فَرَضنا عليكم وعلى مَنْ بَعْدكم). والقراءتان مشهورتان في الأمصار، ولا مانع من اختيار إحداهما.

وقوله: {وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} . قال ابن جريجٍ: (الحلال والحرام والحدود). والمقصود: اشتمال السورة على آيات واضحات الدلالة صريحات البيان في مفاهيم الستر والعفاف وغير ذلك من الأحكام الشرعية، التي يحفظ الله بها النفوس والبيوت من سبل الشياطين.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . قال ابن جريجٍ: (يقول: لتتذكروا بهذه الآياتِ البينات التي أنزلناها).

ص: 306

وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} . فيه تفصيل حكم الزاني والزانية في الإسلام، مع ما جاء بيانه في السنة المطهرة. وتفصيل ذلك:

الزاني إما أن يكون بكرًا أو محصنًا:

أ - حدّ الحر المحصن.

إذا زنى الحر المحصن المكلف مختارًا فحدّه الرجم حتى يموت. والمقصود بالمحصن مَنْ سَبَقَ له الوطء بنكاحٍ صحيح. والمكلف هو البالغ العاقل، فلا حدّ على الصبي والمجنون لحديث:"رفع القلم عن ثلاثة"(1).

فقد أخرج أبو داود والترمذي بسند صحيح عن جابر بن عبد الله الأنصاري: [أن رَجُلًا من أسلم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَحدَّثه أنه قد زنى، فشهد على نفسه أربع شهادات، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَ، وكان قد أُحْصِن](2).

وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس يومًا فقال: [إنَّ الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف](3).

ب - حدّ الرقيق.

إذا زنى غير الحر - عبدًا كان أو أمة - فلا رجم عليه، ولكن يجلد خمسين جلدة، لقوله تعالى:{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25].

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[رُفِعَ القلمُ عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يَعْقِل أو يُفيقَ] وسنده صحيح. انظر صحيح سنن ابن ماجة (1660)، وصحيح الترمذي (1150).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن - حديث رقم - (4407). انظر صحيح سنن أبي داود (3725)، ورواه الترمذي في الجامع (1454).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (6830)، ومسلم (1691)، وأبو داود (4395)، وأخرجه الترمذي (1456)، من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.

ص: 307

أخرج الإمام مالك في الموطأ، والبيهقي بسند حسن، عن عبد الله بن عياش المخزومي قال:[أمرني عمر بن الخطاب في فتية من قريش، فجلدنا ولائد من ولائد الإمارة، خمسين خمسين في الزنا](1).

ج - حدّ البكر.

قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)} .

أخرج البخاري عن زيد بن خالد الجهني قال: [سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يأمر فيمن زنى ولم يحصن جلد مئة وتغريب عام](2).

وفي صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مئة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مئة والرجم](3).

ء - من أُكره على الزنا فلا حدّ عليه.

فقد أخرج البيهقي بسند صحيح عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: [أتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بامرأة جهدها العطش، فمرّت على راع فاستسقت، فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها، ففعلت، فشاور الناس في رجمها، فقال عليّ رضي الله عنه: هذه مضطرة أرى أن تخلي سبيلها، ففعل](4).

وقوله: ({وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ}. قال مجاهد: (أن تقيم الحدّ). قال ابن زيد: (فتدعوهما من حدود الله التي أمر بها، وافترضها عليها). والمقصود: عدم تعطيل حدود الله، وليس المنهي عنه الرأفة الطبيعية الا تكون حاصلة، فإذا رفعت الحدود إلى السلطان وجب إقامتها وعدم تعطيلها. وفي ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج أبو داود بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أنَّ

(1) حديث حسن. أخرجه مالك (1508/ 594)، وكذلك البيهقي (8/ 242) بسند حسن.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (6831)، وانظر:"إرواء الغليل"(2347).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (1690)، وأبو داود (4392)، والترمذي (1461)، وأخرجه ابن ماجة (2550)، وانظر مختصر صحيح مسلم (1036).

(4)

حديث صحيح. أخرجه البيهقي (8/ 236)، وانظر الإرواء (2313)، وكتاب:"الوجيز في فقه السنة والكتاب العزيز" - (ص 430 - 434).

ص: 308

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [تَعافوا الحدودَ فيما بينكم، فما بلغني مِنْ حَدٍّ فقدْ وَجَبَ](1).

الحديث الثاني: أخرج ابن ماجة بسند حسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [حَدٌّ يُعْمَلُ به في الأرض، خيرٌ لأهل الأرض مِنْ أنْ يُمْطَروا أربعين صَبَاحًا](2).

ورواه من حديث ابن عمر بلفظ: [إقامةُ حَدٍّ من حدود الله، خيرٌ من مَطَرِ أربعين ليلةً، في بلاد الله عز وجل].

الحديث الثالث: أخرج ابن ماجة بسند حسن عن عُبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أقيموا حُدودَ الله في القريب والبعيد. ولا تأخذكم في الله لَوْمَةُ لائمٍ](3).

وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} . قال ابن جرير: (يقول: إن كنتم تصدقون بالله ربكم وباليوم الآخر، وأنكم فيه مبعوثون لحشر القيامة، وللثواب والعقاب).

وقوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . قال قتادة: (نفر من المسلمين)(4).

والمقصود: ليكون ذلك موعظة للناس وعبرة ونكالًا وإعلانًا لسلطان الحق في الأرض.

3.

قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} .

في هذه الآية: إخبارُ الله تعالى بحقيقةِ مهمة: الزاني لا يطأ إلا زانية أو مشركة، أي: لا يُطاوعه على مُراده من الزنا أو فجوره إلا زانية مثله، أو مشركة تَسْتَبيحُ ذلك، وكذلك حُرِّم على المؤمنين نكاح الزانية أو تزويج الزاني، فإن الزنى من صفات المشركين.

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4376) - كتاب الحدود. وانظر صحيح أبي داود (3680).

(2)

حديث حسن. أخرجه ابن ماجة في السنن (2538). وانظر صحيح ابن ماجة (2056) - (2057).

(3)

حديث حسن. أخرجه ابن ماجة في السنن - حديث رقم - (2540) - كتاب الحدود، باب إقامة الحدود، وانظر صحيح سنن ابن ماجة (2058).

(4)

قال مالك: (الطائفة أربعةُ نفرٍ فصاعدًا؛ لأنه لا يكون شهادةٌ في الزنا دون أربعة شهداء فصاعدًا) - رواه عبد الرزاق، وهو قول الشافعي. قلت: والمهمّ في الأمر حضور بعض المسلمين للحكمة السابقة في الاعتبار وإظهار سلطان الحق.

ص: 309

أخرج أبو داود والترمذي بسند جيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: [كان رَجُلٌ يقال له: مَرْثَدُ بن أبي مَرْثَدٍ، وكان رجلًا يحمل الأُسارى من مكة حتى يأتيَ بهم المدينة. قال: وكانت امرأة بَغِيٌّ بمكة يقال لها: عَناق، وكانت صديقة له، وأنه واعد رجلًا من أُسارى مكة يَحْملُهُ. قال: فجئتُ حتى انتهيتُ إلى ظل حائطٍ من حوائطِ مكة في ليلة مقمرة، قال: فجاءت عَنَاق فأبْصَرَتْ سوادَ ظلٍّ تحت الحائط، فلما انتهَتْ إليَّ عَرَفَتْني، فقالت: مَرْثَد؟ فقلت: مَرْثَد. فقالت: مرحبًا وأهلًا، هَلُمَّ فَبِت عندنا الليلة. قال: فقلت: يا عناقُ، حَرَّمَ الله الزنا. فقالت: يا أهلَ الخيام، هذا الرجُل يحملُ أَسْراكم، قال: فتبعني ثمانية ودخلتُ الخَنْدَمَةَ (1)، فانْتَهيْتُ إلى غار - أو: كَهْف - فدخلت فيه، فجاؤوا حتى قاموا على رأسي فبالُوا، فَطَلَّ بولُهم على رأسي، فأعماهم الله عني. قال: ثم رجَعوا ورجعتُ إلى صاحبي فَحَمَلْتُه، وكان رجلًا ثقيلًا، حتى انتهيْتُ إلى الإِذْخَرِ، ففككت عنه أكبُلَهُ، فجعلت أحمِلُه ويُعينني، حتى قدمت المدينة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أَنكِحُ عناقًا؟ - مرتين - فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد عَليَّ شيئًا، حتى نزلت: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا مَرْثَدُ، {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ}، فلا تَنْكِحَها](2).

وأخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو: [أنَّ رجلًا من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها: أم مهْزُولٍ - كانت تُسافِحُ، وتشترط له أن تُنفق عليه - قال: فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو: ذُكِرَ له أمرُها - قال: فقرأ عليه نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ}](3).

وفي رواية: [فأنزل الله عز وجل: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}]).

(1) الخندمة: جبل بمكة.

(2)

إسناده جيد. أخرجه أبو داود (2051)، والترمذي (3177)، والنسائي في "الكبرى"(5338)، والبيهقي (7/ 153)، والحاكم (2/ 166) مختصرًا. وقال صحيح الإسناد وأقره الذهبي. وانظر:"الصحيح المسند من أسباب النزول" - الوادعي - سورة النور، آية (3).

(3)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 159)، وانظر لما بعده (2/ 225)، ورواه النسائي في "التفسير"(379)، والبيهقي (7/ 153)، والحاكم (2/ 193 - 194) وصححه ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في المجمع (7/ 74): ورجال أحمد ثقات.

ص: 310

قلت: وفي قوله: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} - تحريم صريح بتزويج المرأة الحرة العفيفة بالرجل الفاجر المُسَافح حتى يتوب توبة صادقة نصوحًا، وكذلك تحريم تَزَوُّج الرجل الصالح بالمرأة الزانية الفاجرة إلا أن تقلع عن فعلها المشين وتصدق التوبة والعفاف. وقد جاءت السنة المطهرة بآفاق ذلك في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج أبو داود بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يَنكحُ الزاني المجلودُ إلا مِثله](1).

الحديث الثاني: أخرج أحمد والنسائي بسند صحيح عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ثلاثة لا يدخلون الجَنَّة، ولا ينظر الله إليهم يومَ القيامة: العاقُّ لوالديه، والمرأة المترجِّلة (2) والديُّوث. وثلاثةٌ لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاقُّ لوالديه، ومدمنُ الخمر، والمَنَّانُ بما أعطى](3).

وله شاهد عند الطبراني من حديث عمار بن ياسر بلفظ: [ثلاثة لا يدخلون الجَنَّة أبدًا: الدَّيوثُ، والرَّجُلةُ منَ النساء، ومدمنُ الخمر].

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد بسند حسن في الشواهد عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: حدّثني عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ثلاثةٌ قَدْ حَرَّمَ الله عليهم الجَنَّة: مدمن الخمر، والعاقُّ، والدَّيوث الذي يقر في أهله الخبث](4).

4 -

5. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}.

في هذه الآياتِ: تحريم القذف وبيان حدّه وعواقبه، والذين يستهينون بأمر القذف أولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم.

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2052)، كتاب النكاح. وانظر صحيح أبي داود (1807).

(2)

هي المرأة المتشبهة بالرجال.

(3)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 134)، والنسائى (5/ 80)، والطبراني (13180) وأخرجه ابن حبان (7340)، والبيهقي (8/ 388)، وانظر للشاهد صحيح الجامع (3057).

(4)

حسن لشواهده، أخرجه أحمد في المسند (2/ 69)، (2/ 128) من حديث عبد الله بن عمر، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - عقب الحديث - (674).

ص: 311

فقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} .

{يَرْمُونَ} : أي يقذفون بالزنى. و {الْمُحْصَنَاتِ} : أي المسلمات الحرائر العاقلات البالغات العفيفات عن الزنى. فيه بيان حد القذف، فمن قذف مسلمًا، وليس لديه أربعة شهداء عدول يشهدون أنهم رأوه - أو رأوها - على الزنا، حُدَّ ثمانين جلدة، ولم تقبل شهادته أبدًا في أي واقعة كانت، لظهور كذبه.

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)} [النور: 23].

قال القاسمي: (وتخصيص النساء لخصوص الواقعة، ولأن قذفهن أغلب وأشنع. وإلا فلا فرق فيه بين الذكر والأنثى). وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات](1).

وقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . قال ابن زيد: (الكاذبون).

وقوله تعالى: ({إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . أي: إلا الذين تابوا من بعد القذف وأصلحوا أعمالهم، فإن الله تعالى غفور رحيم، يقبل توبتهم ويعفو عنهم.

قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": (ذهب الجمهور إلى أن شهادة القاذف بعد التوبة تقبل. ويزول عنه اسم الفسق. سواء كان بعد إقامة الحد أو قبله، لقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}. روى البيهقي عن ابن عباس في هذه الآية: فمن تاب فشهادته في كتاب الله تقبل. وتأولوا قوله تعالى: {أَبَدًا} على أن المراد ما دام مصرًّا على قذفه. لأن "أبد كل شيء" على ما يليق به).

وقال الزمخشري: (والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها، أن تكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط. كأنه قيل: ومن قذف المحصنات فاجلدوهم، وردّوا شهادتهم وفسّقوهم. أي فاجمعوا لهم الجلد والرد والتفسيق، إلا الذين تابوا عن

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5/ 294) في الوصايا، وأخرجه مسلم (89) في الإيمان.

ص: 312

القذف وأصلحوا، فإن الله يغفر لهم، فينقلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مُفَسَّقين).

وفي صحيح البخاري في "كتاب الشهادات" - باب شهادة القاذف والسارق والزاني - عن عمر رضي الله عنه، أنه جَلَدَ أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعًا، بقذف المغيرة بالزنى، لما شهدوا بأنهم رأوه متبطن المرأة. ولم يَبُتَّ زيادٌ الشهادة. ثم استتابهم وقال: من تاب قبلتُ شهادته. وفي رواية قال لهم: من أكذب نفسه قبلت شهادته فيما يستقبل. ومن لم يفعل، لم أجز شهادته. فأكذب شبل نفسه ونافع. وأبى أبو بكرة أن يرجع.

وقد ذهب الإمام مالك والشافعي وأحمد بن حنبل إلى أنه إذا تاب قُبلت شهادته، وارتفع عنه حكم الفسق. وخالف أبو حنيفة وذهب إلى أن الفسق يرتفع بالتوبة ويبقى مردودَ الشهادة أبدًا، وما عليه الجمهور أقرب وأرجح، والله تعالى أعلم.

6 -

10. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)}.

في هذه الآياتِ: تشريع الملاعنة، إذا قذف الرجل زوجته ولا شهود له فيحضرها إلى الإمام فيدعي عليها بذلك، فَيُحْلِفُه الحاكم أربع شهادات بالله في مقابلة أربعة شهداء، إنه لصادق في رميه إياها بالزنا. والخامسة أن لعنة الله عليه إن كذب في دعواه، فإذا قال ذلك بانت منه وتوجه عليها حدّ الزنا. ويدرأ عنها الحد أن تُلاعن فتشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماها به. {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} . ولولا لطفُ الله ورحمته ومنّه على المؤمنين ما شرع هذا الفرج من الضيق والخلاص من الحرج، وهو مع ذلك تواب لما يجترحه عباده من الآثام، رحيم بهم إذا أقبلوا عليه وأنابوا إليه، حكيم في أقواله وأفعاله وتشريعه.

أخرج البخاري ومسلم وأحمد ومالك وأكثر أهل السنن عن سهل بن سعد: [أن

ص: 313

عويمرًا أتى عاصم بن عدي وكان سيد بني عجلان فقال: كيف تقولون في رجل وجد مع إمرأته رجلًا يقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ سَلْ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فأتى عاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، فَكَرِه رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل، فسأله عويمر فقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كره المسائل وعابها. قال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فجاء عويمر فقال: يا رسول الله، رجل وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أنزل الله القرآن فيك وفي صاحبتك، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملاعنة بما سمى الله في كتابه فلاعنها، ثم قال: يا رسول الله، إنْ حبستها فقد ظلمتها فَطَلَّقها فكانت سنة لمن كان بعدهما في المتلاعنين. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انظروا فإن جاءت به أَسْحَمَ أَدْعَجَ العينين عظيم الأليتين خَدَلَّجَ الساقين فلا أحسب عويمرًا إلا قد صدق عليها، وإن جاءت به أحيمر كأنه وَحَرَةٌ فلا أحسب عويمرًا إلا قد كذب عليها، فجاءت به على النعت الذي نعت به رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصديق عويمر، فكان بعد ينسب إلى أمه] (1).

وفي صحيح البخاري وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجة عن ابن عباس: [أنَّ هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: البيِّنة أو حدّ في ظهرك. فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلًا ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: البينة وإلا حدٌّ في ظهرك. فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، فلينزلن الله ما يُبْرِّئ ظهري من الحد. فنزل جبريل وأنزل عليه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} فقرأ حتى بلغ: {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ}، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليها، فجاء هلال فشهد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا: إنها موجبة. قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت حتى ظَنَنَّا أنَّها ترجع. ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم. فمضت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين، سابع الإليتين، خَدَلَّجَ الساقين، فهو لشريك بن سحماء، فجاءت به كذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن](2).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4745)، ومسلم (1492) ح (2)، (3)، وأخرجه أبو داود (2247)، (2248)، وأحمد (5/ 334)، وابن ماجة (2066)، وغيرهم.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (4747)، وأبو داود في السنن (2237)، والترمذي في الجامع (3229)، وأخرجه ابن ماجة (2067)، وغيرهم.

ص: 314

الأحكام المترتبة على اللعان:

إذا تلاعن الزوجان ترتب على تلاعنهما هذه الأحكام:

1 -

التفريق بينهما.

ففي الصحيحين عن ابن عمر قال: [لاعنَ النبي صلى الله عليه وسلم بين رجل وامرأة من الأنصار وفرّق بينهما](1).

2 -

التحريم المؤبد.

لقول سهل بن سعد - كما روى أبو داود والبيهقي بسند صحيح -: (مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما، ثم لا يجتمعان أبدًا)(2).

3 -

استحقاق الملاعَنَة الصداق.

ففي الصحيحين عن أيوب عن سعيد بن جبير قال: [قلت لابن عمر: رجل قذف امرأته؟ فقال: فرّق النبي صلى الله عليه وسلم بين أخوي بني العجلان، وقال: الله يعلم أن أحدكما لكاذب، فهل منكما تائب؟ فأبيا. وقال: الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ فأبيا. فقال: الله يعلم أن أحدكما لكاذب، فهل منكما تائب؟ فأبيا، ففرّق بينهما. قال أيوب: فقال لي عمرو بن دينار: إن في الحديث شيئًا لا أراك تحدثه، قال: قال الرجل: مالي؟ قال: قيل: لا مال لك، إن كنت صادقًا فقد دخلت بها، وإن كنت كاذبًا فهو أبعد منك](3).

4 -

التحاق الولد بالملاعنة.

ففي الصحيحين عن ابن عمر: [أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لاعَنَ بين رجل وامرأته، فانتفى من ولدها، ففرَّق بينهما، والحق الولد بالمرأة](4).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5314)، وأخرجه مسلم (1494).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2233)، والبيهقي (7/ 410)، وانظر الإرواء (2104).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (5311)، ومسلم (1493)، وأبو داود (2241)، والنسائي (6/ 177)، من حديث سعيد بن جبير.

(4)

متفق عليه. أخرجه البخاري (5315)، ومسلم (1494)، وأبو داود (2242)، والترمذي (1218)، والنسائي (6/ 178)، وابن ماجة (2069).

ص: 315

5 -

ثبوت التوارث بين الملاعنة وولدها.

ففي الصحيحين وسنن أبي داود - في حديث سهل بن سعد - قال ابن شهاب: (فكانت السنة بعدهما أن يفرق بين المتلاعنين، وكانت حاملًا، وكان ابنها يُدعى لأمه. قال: ثم جرت السنة في ميراثها أنَّها ترثه، ويرث منها ما فرض الله له)(1).

وفي قوله تعالى: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} نكتة لطيفة في اختصاصها بالغضب إن صدق عليها، واختصاصه من قبل باللعن إن كان من الكاذبين. قال ابن كثير:(فَخَصَّها بالغضب، لأنَّ الغالب أن الرجل لا يَتَجَشَّم فضيحة أهله وَرَمْيَها بالزنا إلا وهو صادقٌ مَعْذورٌ، وهي تعلمُ صدقه فيما رماها به. ولهذا كانت الخامسة في حقها أن غَضَب الله عليها، والمغضوبُ عليه هو الذي يعلم الحقَّ ثم يحيدُ عنه).

قال القاسمي: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)} : أي لحرجتم وشق عليكم كثير من أموركم، ولكن لرحمته ولطفه، شرع لكم من الفرج والمخرج، ما أنزله وأحكمه).

11 -

26. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ

(1) متفق عليه. أخرجه البخاري (3309)، ومسلم (1492)، وأبو داود (2235)، من حديث سهل.

ص: 316

وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)}.

في هذه الآياتِ: تبرئة عائشة أم المؤمنين مما رماها به المنافقون، أهل الإفك والبهتان المبين، وتأديب الله تعالى عباده المؤمنين بآداب حفظ أعراضهم وسمعة بيوتهم وعدم الخوض في حكايات الثرثارين والكاذبين، وبيان بعض السنن والحكم التي قضاها الله تبارك وتعالى في العالمين. فإلى تفصيل حادثة الإفك وما تبعها من أحكام وآداب شرعية عالية.

لقد سقطت ورقة عبد الله بن أبي بن سلول في قومه إثر القرآن النازل في تكذيبه، وفضح ما كان من محاولته لإثارة الفتنة وتحريك دعوى الجاهلية بين المسلمين، وذلك أثناء العودة من غزوة بني المصطلق، فكان قومه بعد ذلك يعنفونه ويلومونه كلما ظهرت منه حماقة أو خطأ أو غباء، حتى إن ابنه عبد الله همَّ بقتله والتخلص منه.

يروي ذلك ابن إسحاق بسند حسن، قال: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: [أن عبد الله أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتلَ عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت لا بد فاعلًا فمُرني به، فأنا أحمل إليك رأسَه، فوالله لقد علمت الخزرجُ ما كان لها من رجل أبرَّ بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر غيري فيقتلَه، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس، فأقتلَه، فأقتلَ رجلًا

ص: 317

مؤمنًا بكافر، فأدخل النار. فقال رسول الله: بل نترَفَقُ به، ونُحْسنُ صُحْبَتَهُ ما بقي معنا] (1).

ورواه الطبراني والبزار بلفظ آخر وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (لا، ولكن بر أباك وأحسن صحبته) وسنده صحيح (2).

وقد ظهر مباشرة أثر هذه الحكمة النبوية في معالجة النفاق، إذ أصبح رأس النفاق موضع التوبيخ من قومه، كلما بدرت منه حماقة جديدة أو فاحت رائحة الغل والحقد من قلبه.

ففي رواية ابن إسحاق السابقة: (قال: وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويُعَنِّفونه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب، حين بلغه ذلك من شأنهم: كيف ترى يا عمر، أما والله لو قتلتُه يوم قلتَ لي اقتُله، لأُرْعِدت له آنُفٌ، لو أمرتها اليوم بقَتْلِه لقتلته، قال: قال عمر: قد والله علمتُ لأمرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظمُ بركة من أمري)(3).

ثم وقف عبد الله رضي الله عنه على باب المدينة يمنع أباه من دخولها، واستل سيفه مهددًا والده رأس النفاق أن لا يدخلها إلا بإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

روى ذلك الإمام الترمذي بإسناد حسن عن جابر، قال:[فقال له ابنُه عبد الله بن عبد الله: والله لا تَنْقَلِب حتى تُقِرَّ أنك الذليل ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم العزيز ففعل](4).

وهنا دخل المدينة ذليلًا صاغرًا ولكنه بيت شرًّا، فما لبث فيها قليلًا حتى أحدث فتنة عمياء كادت تودي بصواب طائفة من المسلمين، وتركت آخرين منهم حيارى قلقين لا يعرفون رشدًا من أمرهم، حين أقدم الخبيث على اتهام سيدة البراءة عائشة رضي الله عنها بالزنا والفاحشة، وعلى إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم بالتطاول على عرضه وبسط القول فيه كذبًا وزورًا.

فلندع أم المؤمنين، أسوة الطاهرات العفيفات في الأمة، تروي لنا خبر الإفك

(1) انظر: سيرة ابن هشام (2/ 291) بسند حسن.

(2)

حديث حسن. قال الهيثمي في المجمع (9/ 318): رواه البزار ورجاله ثقات. وانظر صحيح السيرة - إبراهيم العلي - ص 255.

(3)

انظر: سيرة ابن هشام (2/ 290 - 292)، وهو حديث حسن لغيره كما مضى.

(4)

انظر: سنن الترمذي (3315)، كتاب التفسير، وهو حسن صحيح.

ص: 318

وما نزل ببيت النبوة ومجتمع المسلمين حينئذ من الأذى:

فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرًا قرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه. فأقرع بيننا في غزاة غزاها، فخرج سهمي فخرجت معه بعدما أنزل الحجاب، فأنا أحمل في هودج وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين أذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحيل، فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه.

فأقبل الذين يرحلون لي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي أركب وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافًا لم يثقلن ولم يغشهن اللحم، وإنما يأكلهن العلقة من الطعام، فلم يستثكر القوم حين رفعوه ثقل الهودج فاحتملوه. وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منزلهم وليس فيه أحد، فأممت منزلي الذي كنت وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي، فبينما أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت.

وفي رواية لابن إسحاق: (فتَلفَّفت بجلبابي: ثم اضطجعتُ في مكاني، وعرفت أن لو قد افتُقدت لرُجع إليّ).

قالت: وكان صفوان بن المُعَطّل السُّلَمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم وأتاني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين أناخ راحلته. (وفي رواية ابن إسحاق: قالت: فوالله إني لمُضطجعة إذ مَرَّ بي صفوان بن المعطَّل السُّلَمي، وقد كان تخلَّف عن العسكر لبَعْض حاجته، فلم يبتْ مع الناس، فرأى سوادي، فأقبل حتى وقف عليّ، وقد كان يراني قبل أنْ يُضربَ علينا الحجاب، فلما رآني قال: إنَّا لله وإنا إليه راجعون، ظعينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا متلفِّفَةٌ في ثيابي، قال: ما خلَّفك يرحمك الله؟ قالت: فما كَلَّمْتُه، ثم قرّب البعير، فقال: اركبي، واستأخر عني. قالت: فركبت، وأخذ برأس البعير، فانطلق سريعًا، يطلب الناس، فوالله ما أدركنا الناس، وما افتقدْت حتى أصبحتُ، ونزل الناس، فلما اطمأنوا طلع الرجلُ يقود بي، فقال أهل الإفك ما قالوا، فارتعج العسكر - أي تحرك واضطرب -، والله ما أعلم بشيء من ذلك).

ص: 319

وأما رواية البخاري: قالت: فاستيقظت باسترجاعه حين أناخ راحلته، فوطئ يدها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا معرسين في نحو الظهيرة، فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول، فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهرًا، والناس يفيضون من قول أصحاب الإفك ويريبني في وجهي أني لا أرى من النبي صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أمرض، إنما يدخل فيسلم ثم يقول كيف تيكم؟ لا أشعر بشيء من ذلك حتى نقهت فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع متبرزنا لا نخرج إلا ليلًا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبًا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في البرية أو في التنزه، فأقبلت أنا وأم مسطح بنت أبي رهم نمشي فعثرت في مِرطها فقالت: تَعِسَ مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت! أتسبين رجلًا شهد بدرًا. فقالت: يا هنتاه ألم تسمعي ما قالوا؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضًا إلى مرضي. فلما رجعت إلى بيتي دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَسلم فقال: كيف تيكم؟ فقلت: ائذن لي إلى أبوي. قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت أبواي فقلت لأمي: ما يتحدث به الناس؟ فقالت: يا بنيّة! هوني على نفسك الشأن، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، فقلت: سبحان الله! أو لقد يتحدث الناس بهذا، قالت: فبت تلك الليلة حتى أصبحت لا يَرْقَأ لي دَمْعٌ ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار عليه بالذي يعلم في نفسه من الودّ لهم، فقال أسامة: أهلك يا رسول الله ولا نعلم والله إلا خيرًا. وأما عليّ فقال: يا رسول الله لَمْ يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وسل الجارية تصدقك. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: يا بريرة! هل رأيت فيها شيئًا يريبك؟ فقالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق، إن رأيت منها أمرًا أغمض عليها قط أكثر من أنَّها جارية حديثة سِنٍّ تنام عن العجين، فتأتي الداجن فتأكله، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يَعْذِرُني (1) من رجل بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، وقد ذكروا رجلًا ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي؟ فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله أنا والله أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فيه أمرك. فقام سعد بن عبادة وهو

(1) أي من يقوم بعذري إن كافأته على سوء صنيعه فلا يلومني.

ص: 320

سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلًا صالحًا ولكن احتملته الحمية، فقال: كذبت لعمرو الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك. فقام أسيد بن الحضير فقال: كذبت لعمرو الله والله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين.

فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فنزل وخفضهم حتى سكتوا وسكت، وبكيت يومي لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم فأصبح عندي أبواي وقد بكيت ليلتي ويومًا حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي. قال: فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي، فبينما نحن كذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ولم يجلس عندي من يوم قيل فِيَّ ما قيل قبلها، وقد مكث شهرًا لا يوحى إليه في شأني شيء.

قالت: فتشهد ثم قال: يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أُحسُّ منه قطرة، وقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: والله وما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ . قالت: وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرًا من القرآن، فقلت: إني والله لقد علمت أنكم سمعتم ما يتحدث به الناس ووقر في أنفسكم وصدقتم به، ولئن قلت لكم إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لَتُصَدِّقُنِّي، والله ما أجد لي ولكم مثلًا إلا أبا يوسف إذ قال:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]. ثم تحولت على فراشي وأنا أرجو أن يبرئني الله، ولكن والله ما ظننت أن ينزل في شأني وحيًا، ولأنا أحقر في نفسي من أن يتكلم بالقرآن في أمري، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله، فوالله ما رام مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيمت حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، حتى أنه ليتحدر مثل الجمان من العرق في يوم شات، فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي: يا عائشة احمدي الله فقد برأك الله. فقالت أمي: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله. فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} - الآياتِ - فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر رضي الله عنه، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه: والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد ما قاله لعائشة،

ص: 321

فأنزل الله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} إلى قوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فقال أبو بكر: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمري! فقال: يا زينب! ما علمت؟ ما رأيت؟ فقالت: أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيرًا، قالت: وهي التي كانت تساميني فَعصمها الله بالورع] (1).

فإلى تفصيل ما نزل من القرآن الكريم، وهو يفضح سوءة المنافقين، ويرتقي بالمؤمنين المخلصين، ليرفعهم إلى مستوى الأدب الرفيع وحسن الظن، فإن المنافقين والشياطين يحبون أن تشيع الفاحشة في الأرض، ويودون خراب بيوت المسلمين.

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .

وفي التفاسير عن ابن عباس: (قوله: {جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ}

الآية قال: الذين افتروا على عائشة: عبد الله بن أبي، وهو الذي تولى كِبْره، وحسان بن ثابت، ومِسْطَح، وحَمْنة بنت جحش).

فقد أغري بدعاية رأس النفاق جماعة من المؤمنين استزلهم الشَيطان فوقعوا في الإفك منهم حسان بن ثابت، ومِسْطَحُ بن اثاثة، وحَمْنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم التي عصمها الله بالورع، بينما هلكت أختها وخاضت مع الخائضين.

وقوله: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} . قال ابن جرير: (يقول: لا تظنوا ما جاؤوا به من الإفك شرًّا لكم عند الله، وعند الناس، بل ذلك خير لكم عنده وعند المؤمنين، وذلك أن الله يجعل ذلك، كفارة للمرمي به، ويُظهر براءته مما رمي به، ويجعل له منه مخرجًا).

وعن علقمة بن وقاص وغيره قالوا: قالت عائشة: (كان الذي تولى كبره: الذين يجمعهم في بيته، عبد الله بن أبي بن سَلُول).

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (4141)، كتاب المغازي. وكتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة - حادثة الإفك - لتفصيل البحث.

ص: 322

وقال ابن زَيد: (أما الذي تولى كبره منهم، فعبد الله بن أُبي بن سلول الخبيث، هو الذي ابتدأ هذا الكلام، وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقود بها).

وعن عروة عن خالته عائشة قال: (وأخبرت أنه كان يحدّث به عنهم، فيقره ويسمعه ويستوشيه).

وقال مجاهد: (والذي تولى كِبْرَهُ هو عبد الله بن أبي بن سلول، وهو بدأه).

ثم عاتب الله من خاض بالإفك من المؤمنين، وعلمهم الأدب الرفيع الذي كان ينبغي أن يتحلّوا به إذا ما عصفت بهم محاولات أهل المكر والكذب والنفاق، فقال جل ذكره:{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} .

قال ابن زيد في التفسير: (الخير ظنّ المؤمن أن المؤمن لم يكن ليفجر بأمه، وأن الأم لم تكن لتفجر بابنها، إن أراد أن يفجر فجر بغير أمه، يقول: إنما كانت عائشة أمًّا، والمؤمنون بنون لها، محرّمًا عليها، وقرا: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الآية).

في حين أثنى الله على أبي أيوب وطائفة من المؤمنين كذبوا الخبر لثقتهم بآل بيت النبوة، وإدراكهم طبيعة المهزلة الساقطة التي كان يديرها المنافقون، فما إن سمع أبو أيوب بها قال:(سبحانك ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم).

فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: [أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: ما تشيرونَ عليّ في قوم يَسُبّون أهلي ما علمتُ عليهم من سوءٍ قط. وعن عروة قال: لما أُخبرت عائشةُ بالأمر قالت: يا رسول الله أتأذنُ أن أنطَلِقَ إلى أهلي فأذِنَ لها وأرسل معها الغلامَ. وقال رجلٌ من الأنصار سبحانك {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}](1).

وفي التفاسير عن محمد بن إسحاق، عن أبيه، عن بعض رجال بني النجار: [أن أبا أيوب خالد بن زيد، قالت له امرأته أمّ أيوب: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله، قال: فعائشة والله خير منك. قال: فلما نزل القرآن، ذكر الله من قال في الفاحشة ما قال من أهل الإفك:{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} وذلك حسان وأصحابه

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (9/ 92)، وفتح الباري (13/ 344).

ص: 323

الذين قالوا ما قالوا، ثم قال:{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ}

الآية: أي كما قال أبو أيوب وصاحبته].

فهلَّا جاء هؤلاء العصبة الذين اختلقوا الإفك ورموا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالبهتان، بأربعة شهداء يشهدون على حقيقة ما يزعمون، فإذْ لم يفعلوا فأولئك عند الله هم الكاذبون. ولولا تفضل الله عليكم أيها الخائضون، بتركه تعجيل عقوبتكم في الدنيا، ثم رحمته بقبول توبتكم وعفوه عنكم في الدنيا والآخرة، لمسكم فيما خضتم فيه من أمرها عذاب عظيم معجل في الدنيا، لقاء ما أسرفتم على أنفسكم وآذيتم أمكم ونبيكم.

وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة حد القذف على مسطح وحسان وحمنة كما يروي البزار والبيهقي بإسناد حسن، وأما رأس النفاق فلا داعي لإقامة الحد عليه، إذ إن في إقامته عليه كفارة، وهو ممن توعده الله جهنم يصلاها ذليلًا صاغرًا، ويذوف فيها عذابًا أليمًا، فهو أدنى بكثير من أن يقام عليه الحد، هذا تفسير، والتفسير الآخر أورده ابن القيم بزاد المعاد: أنَّ ذلك المنافق كان لا يترك دليلًا ضده يدينه في كلامه، فكان لا يتكلم بالإفك أمام المؤمنين، وأميل إلى التفسير الأول.

ثم عاب الله على الذين تلقونه بألسنتهم وخاضوا فيه دون دليل أو علم، وهم يحسبون ذلك هينًا وهو عند الله عظيم، وإنما كان الأليق بهم أن يقولوا: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم.

فعن مجاهد: (إذ تلقونه بألسنتكم: قال: ترْوونه بعضُكم عن بعض).

وقال ابن جرير: (يقول: وتلقيكم ذلك كذلك، وقولكُموه بأفواهكم، عند الله عظيم من الأمر، لأنكم كنتم تؤذون به رسول الله صلى الله عليه وسلم وحليلته. فلولا أيها الخائضون في الإفك، الذي جاءت به عصبة منكم {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} ممن جاء به {قُلْتُمْ} ما يحل لنا أن نتكلم بهذا، وما ينبغي لنا أن نتفوه به {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} تنزيهًا لك يا رب، وبراءة إليك مما جاء به هؤلاء).

ثم أخبر المؤمنين ليحذروا: أنَّ هناك من يحب أن تَشيع الفاحشة في صفوفهم، ويخرب بيوتهم ويهددها من الداخل، وأولئك لهم عذاب اليم، فإياكم أن تتبعوا خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر وفاسد القول والعمل. {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا}. قال ابن عباس: (ما اهتدى منكم من الخلائق لشيء من

ص: 324

الخير، ينفع به نفسه، ولم يتق شيئًا من الشر يدفعه عن نفسه).

وقال ابن زيد: (ما زكى: ما أسلم، وقال: كل شيء في القرآن من زكى أو تزكى فهو الإسلام). والله سميع لما تقولون، عليم بكل ما يصدر عنكم، فهو محصيه عليكم ليجازيكم به.

ثم خاطب الله الصديق الذي أصيب في أهله ونالت ألسنة المفترين ابنته الطاهرة، وقد كان عزم على قطع معونته وصدقاته عن مسطح بن أثاثة الذي خاض في الإفك مع الخائضين، فقال أبو بكر بعدما نزلت براءة عائشة رضي الله عنها: والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعدما قاله لعائشة، فأنزل الله تعالى هذه الآية:{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)} .

فقال أبو بكر كما يروي البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها: [بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه].

ثم بين سبحانه أنّ جزاء كل من يرمي محصنة لم تقارف سوءًا هو اللعن في الدنيا والآخرة ما لم يحدث توبة ويقام عليه الحد فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)} .

واختار ابن جرير قولَ مَنْ قال: (نزلت هذه الآية في شأن عائشة، والحكم بها عام في كل من كان بالصفة التي وصفه بها فيها).

ثم أخبر سبحانه أن هؤلاء المفترين القاذفين المحصنات بالسوء ستشهد عليهم يوم القيامة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، وسوف ينالون يومئذ ما يستحقون، ثم بين جل ذكره أن الخبيثات للخبيثين والطيبات للطيبين.

قال ابن عباس: (يقول: الخبيثات من القول، للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال، للخبيثات من القول).

وقال الضحاك وَزاد: (والطيبات من القول للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من القول، فهذا في الكلام، وهم الذين قالوا لعائشة ما قالوا، هم الخبيثون. والطيبون المبرؤون مما قال الخبيثون).

ووعد الطيبين أن {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} . قال قتادة: (مغفرة لذنوبهم، ورزق كريم في الجَنَّة).

ص: 325