المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ منهاج السورة - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٥

[مأمون حموش]

فهرس الكتاب

- ‌20 - سورة طه

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌ دروس ونتائج وأحكام

- ‌21 - سورة الأنبياء

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌22 - سورة الحج

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌23 - سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌24 - سُوْرَةُ النَّوُرِ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام:

- ‌1 - الولاء والبراء هو محور منهج الإيمان عند المسلمين:

- ‌2 - بشرية الرسول وعدم علمه بالغيب:

- ‌3 - براءة عائشة إلى يوم القيامة:

- ‌4 - الأصل في المؤمنين الظن بأنفسهم خيرًا:

- ‌5 - تمحيص الله لقلوب المؤمنين بالابتلاء وتأخر الوحي:

- ‌6 - ثبوت إقامة الحد على القاذفين:

- ‌7 - مشروعية الإقراع بين النساء في السفر وجواز خروجهن للغزو ومشاركتهن بذلك:

- ‌آداب الاستئذان:

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌25 - سورة الفرقان

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌26 - سُورَةُ الشُّعَراءِ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌27 - سُورَةُ النَّمْلِ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌28 - سُورَةُ القصَصِ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌29 - سورة العنكبوت

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

الفصل: ‌ منهاج السورة

‌20 - سورة طه

وهي سورة مكية، وعدد آياتها (135).

أخرج الحاكم والطحاوي بإسناد حسن عن القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة مرفوعًا: [اسمُ الله الأعظمُ في سور من القرآن ثلاث: في "البقرة" و"آل عمران" و"طه"](1).

قال القاسم أبو عبد الرحمن: (فالتمست في "البقرة" فإذا هو في آية الكرسي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، وفي "آل عمران" فاتحتها:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، وفي "طه":{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} .

‌موضوع السورة

قصة موسى وفرعون منهاج للجماعة المؤمنة في مجاهدة الطغاة والمجرمين، وهذا القرآن سبيل السعادة للبشرية في الدارين.

-‌

‌ منهاج السورة

-

1 -

ثناء الله على القرآن، نَزله رحمة لنبيّه وتذكرة للأنام، والله على العرش استوى، ويعلم السر وأخفى، وله الأسماء الحسنى.

(1) حديث حسن. أخرجه الحاكم (1/ 506)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(1/ 63)، وإسناده حسن. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (746).

ص: 5

2 -

ذكر قصة موسى عليه السلام، وتكليم الله له ورعايته وحمايته، وإظهار آية العصا وآية اليد، ليذهب مطمئنًا بالقوة لدعوة فرعون وقد طغى.

3 -

رجاء موسى ربه شرح صدره، وتيسير أمره، وإزالة العجمة من لسانه، وجعل هارون وزيرًا له، وإجابة الله دعوته.

4 -

امتنان الله على موسى حمايته ورعايته منذ طفولته إلى شبابه إلى وقت نبوته.

5 -

خشية موسى بطش فرعون به وبأخيه، وإنزال الله الطمأنينة على قلبه.

6 -

إبلاغ موسى فرعون رسالة ربه، ومحاولة فرعون التكذيب بالربوبية، ومقابلة موسى له بقوارع الوحي وحجج الله البالغة.

7 -

استكبار فرعون، واتهامه لموسى بالسحر، وانصرافه لجمع السحرة للمكر والكيد، وتحذير موسى لهم مغبة الوعد والوعيد.

8 -

بدء الاستعراض من السحرة بحبالهم وعصيهم، وشعور موسى بالخوف من سحرهم، وتثبيت الله له ليلقي عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون، ونزول السحرة ساجدين، معلنين أمام الملأ: آمنا برب موسى وهارون.

9 -

استنفار فرعون لضبط نفوذه وسلطانه، وتهديدهُ السحرة بالقتل والصلب، وإيثار السحرة ما عند الله.

10 -

أمْرُ الله موسى المسير بالمؤمنين ليلًا ثم اختراق البحر بهم، واتباع فرعون له بجنوده وغرقهم عن آخرهم.

11 -

امتنان الله على بني اسرائيل بالنعم الكبيرة، ومواعدة موسى جانب الطور الأيمن وتكليمه، وإنزال التوراة والمن والسلوى.

12 -

قدوم موسى لميقات ربه، وإضلال السامري القوم بعبادة العجل، ورجوع موسى غضبان أسفًا يحذر قومه مغبة ما وقعوا به من الشرك بالله.

13 -

نصيحة هارون لبني إسرائيل بطاعة الرحمان عز وجل، وعدم الوقوع في هذه الوثنية القبيحة، ورجوع موسى مؤنبًا هارون، وحواره مع السامري وتوعده له.

14 -

تسلية الله نبيّه صلى الله عليه وسلم في ذكره أخبار ما قد سبق، ونَعْتُ المجرمين يوم القيامة في ذلهم وحوارهم، ووصف أهوال الموقف يوم الحشر والحساب.

ص: 6

15 -

ثناء الله على القرآن، ووصيته لنبيّه الإنصات لجبريل عليه السلام.

16 -

عهدُ الله إلى آدم ونسيانه، وأمره تعالى الملائكة السجود له، وامتناع إبليس وتحذير الله عداوته، ووسوسة الرجيم للأبوين حتى أكلا من الشجرة، والتماس آدم التوبة من ربه حتى تاب عليه وهدى.

17 -

هبوط آدم وحواء وإبليس إلى الأرض، وإرسال الله الرسل، وضمانه السعادة للمؤمنين، والشقاء للكافرين، وذلك في الدارين.

18 -

ترتيب الله المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره، وذكر حال الأمم التي زلزلها بكفرها، وحثّ الله رسوله على الصبر والتسبيح.

19 -

تنبيه الله نبيّه إلى ترك النظر إلى المستكبرين المترفين، والانشغال باستنقاذ أهله من النار بإقام الصلاة والصبر على ذلك، ورزق الله مقسوم والعاقبة للمتقين.

20 -

سؤال المشركين الآيات والمعجزات، وهذا القرآن أكبر معجزة، وفي اتباع هذا النبي منهاج الهداية والنجاة.

ص: 7

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}

1 -

8. قوله تعالى: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)}.

في هذه الآيات: ثناء الله تعالى على القرآن، نَزَّله نورًا ورحمة لنبيّه وتذكرة للأنام، إنه الله تعالى على العرش استوى، يعلم ما في السماوات وما في الأرض ويعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى.

فقوله تعالى: {طه} - هو من مثيل الحروف المقطعة التي سبقت في أوائل السور، وأنها أفضل ما تدل على إعجاز هذا الكتاب الذي هو من جنس هذه الأحرف.

وقوله تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} . انتصار مباشر لهذا القرآن، بعد الافتتاح بتلك الحروف المقطعة، وأنه كلام الله العظيم المعجز، الذي فيه سرّ النجاة من شقاء الدنيا والآخرة، وسرّ حصول سعادة الدارين.

قال قتادة: ({مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} لا والله ما جعله الله شقيًّا، ولكن جعله رحمةً ونورًا، ودليلًا إلى الجنة).

قال النسفي: ({لِتَشْقَى} لتتعب لفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا، أو بقيام الليل (1)).

(1) أي كقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} - كما قال مجاهد. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل حتى تورمت قدماه.

ص: 8

وقوله تعالى: {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} .

قيل: هو استثناء منقطع، أي: ولكن أنزلناه تذكرة. وقيل نصب {تَذْكِرَةً} على المصدر، أي أنزلنا لتذكِّرَ به تذكرة. أو على المفعول لأجله، والتقدير: ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى به، ما أنزلناه إلا تذكرة. وكلها وجوه محتملة تدل على الإعجاز.

قال قتادة: (وإن الله أنزل كتبه، وبعث رسله رحمة رحم الله بها العباد، ليتذكر ذاكر، وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله، وهو ذكر له أنزل الله فيه حلاله وحرامه).

وقوله تعالى: {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} - فيه إشارة إلى صفة العلو لله العلي العظيم، فإنه تعالى فوق العرش يدبر الأمر، وهو بائن من خلقه كما وصف سبحانه نفسه.

وقوله: {تَنْزِيلًا} مصدر، أي نزلناه تنزيلًا. وقيل: بدل من {تَذْكِرَةً} .

وقرأ أبو حيوة الشامي {تَنْزِيلًا} بالرفع، والنصب أرجح وأشهر. والعُلا: أي العالية الرفيعة، وهي جمع العُليا. والمعنى كما قال ابن كثير:(هذا القرآنُ الذي جاءك يا محمد تنزيلٌ من ربِّ كلِّ شيء ومليكه، القادر على ما يشاء، الذي خلق الأرض بانخفاضها وكثافتِها، وخلق السماوات العُلا في ارتفاعها ولطافَتِها).

وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} - أي علا وارتفع، كما يليق بجلاله وكماله.

وقوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} .

قال القاسمي: (بيان لشمول قهره وملكته للكل. أي كلها تحت ملكته وقهره وسلطنته وتأثيره. لا توجد ولا تتحرك ولا تسكن ولا تتغير ولا تثبت إلا بأمره).

وقال النسفي: ({وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} ما تحت سبع الأرضين أو هو الصخرة التي تحت الأرض السابعة).

وقوله تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} .

قال ابن عباس: (السّر: ما علمته أنت، وأخفى: ما قذف الله في قلبك مما لم تعلمه).

وقال أيضًا: (يعني بأخفى: ما لم يعلمه، وهو عامله، وأما السّر: فيعني ما أسرّ

ص: 9

في نفسه). أو قال: (السّر: ما أسرّ ابن آدم في نفسه. وأخفى: قال: ما أخفى ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعمله، فالله يعلم ذلك). أو قال: (وأخفى: ما لا يعلم الإنسان مما هو كائن). وعن مجاهد: ({يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} قال: أخفى: الوسوسة). وقال عكرمة: (أخفى حديث نفسك). وقال سعيد بن جبير: ({يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} قال: السرّ: ما أسررت في نفسك، وأخفى من ذلك: ما لم تحدث به نفسك). وقال أيضًا: (أنت تعلم ما تُسِرُّ اليوم، ولا تعلم ما تُسِرُّ غدًا، والله يعلم ما تُسِرُّ اليوم، وما تُسِرُّ غدًا).

قلت: وكلها أقوال مفيدة تثري المعنى وتزيد من بيان آفاقه ومدلولاته وإعجاز لفظه.

وقوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} .

قال القاسمي: ({اللَّهُ} أي ذلك المُنْزِل الموصوف بهذه الصفات هو الله {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} أي الفضلى، لدلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية والأفعال التي هي النهاية في الحسن).

9 -

16. قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)}.

في هذه الآيات: قصة موسى عليه الصلاة والسلام وكيف كان ابتداء الوحي إليه وتكليم الله تعالى له، وذلك بعدما قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين صِهْره في رعاية الغنم وسار بأهله قاصدًا بلاد مصر بعدما غاب عنها أكثر من عشر سنين، فخرج ومعه زوجته فأضل الطريق وكانت ليلةً شاتية، ونزل منزلًا بين شعاب وجبال في ذلك البرد والظلام، فجعل تَقْدَحُ بِزَنْدٍ معه ليوريَ نارًا فلم يخرج شَرَرٌ منه، وهناك ظهر له من جانب الطور نارًا، من جانب الجبل الذي هناك عن يمينه، فقال لأهله يبشرهم إني

ص: 10

آنست نارًا لعلي آتيكم منها بشهاب من نار أو أجد عندها ما يدلني على الطريق. فلما اقترب من النار ناداه ربه تعالى بأجمل العبارات، وبشره بالنبوة وأمره بعبادته وإقام الصلوات، وأكّد له أمر الساعة ليحذر الناس من مغبة الوقوع في الشرك والآثام والموبقات.

فقوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} . تسلية من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من أعدائه المشركين. أي هل أتاك - يا محمد - خبر موسى. قال النسفي: (ليتأسى به في تحمل أعباء النبوة بالصبر على المكاره ولينال الدرجة العليا كما نالها موسى).

وقوله: {إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} . قال ابن عباس: (لما قضى موسى الأجل، سار بأهله فضلّ الطريق. قال: كان في الشتاء، ورُفعت لهم نارٌ، فلما رآها ظن أنها نار، وكانت من نور الله {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} .

يروي ابن جرير عن ابن إسحاق، عن وهب بن منبه اليمائي:(لما قضى موسى الأجل، خرج ومعه غنم له، ومعه زند له، وعصاه في يده يهشّ بها على غنمه نهارًا، فإذا أمسى اقتدح بزنده نارًا، فبات عليها هو وأهله وغنمه، فإذا أصبح غدا بأهله وبغنمه، فتوكأ على عصاه، فلما كانت الليلة التي أراد الله بموسى كرامته، وابتداءه فيها بنبوته وكلامه، أخطأ فيها الطريق حتى لا يدري أين يتوجه، فأخرج زنده ليقتدح نارًا لأهله ليبيتوا عليها حتى يصبح، ويعلم وجه سبيله، فأصلد زنده فلا يوري له نارًا فقدح حتى أعياه، لاحت النار فرآها، {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى}).

وقوله: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} . أي لعلي أجيئكم من النار بشعلة. والقبس في كلام العرب: النار في طرف القصبة أو العود.

وقوله: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} . قال ابن عباس: (يقول: من يدلّ على الطريق).

وقال قتادة: (من يهديني إلى الطريق).

وقوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} . أي: فلما أتى النار موسى ناداه ربه، إني أنا ربك فاخلع نعليك وأفض بقدميك إلى بركة الوادي. قال مجاهد:(أمر أن يباشر بقدميه بركة الأرض). وقال ابن أبي نجيح: (في قوله: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} يقول: أفض بقدميك إلى بركة الوادي). وعن ابن عباس: (قوله: {طُوًى}: هو اسم للوادي).

ص: 11

وفي التنزيل: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30].

وقوله تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} .

أي: إني اصطفيتك للرسالة من بين جميع أهل زمانك فأصغ لهذا الوحي العظيم.

وفي التنزيل نحو ذلك: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144].

وقوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} .

قال ابن كثير: (هذا أول واجب على المكلّفين أن يعلموا أنه لا إله إلا الله، وحده لا شريك له). قلت: وهذه الكلمة العظيمة هي أصل العبادة وهي دعوة الرسل جميعًا وسرّ سعادة الدنيا والآخرة.

قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء: 25].

وفي صحيح مسلم عن عثمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من مات وهو يعلم أنهُ لا إله إلا الله دخل الجنة](1).

وفي الصحيحين عن عتبان بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ الله حرَّم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله عز وجل](2).

وقوله: {فَاعْبُدْنِي} . قال ابن جرير: (يقول: فأخلص العبادة لي دون كل ما عبد من دوني).

وقوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} - فيه أكثر من تأويل:

التأويل الأول: أقم الصلاة عند ذكرك لي. ذكره ابن كثير. قال مجاهد (إذا ذكر عبَد ربه).

التأويل الثاني: أقم الصلاة لتذكرني فيها. ذكره القرطبي.

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (26) - كتاب الإيمان، بابُ الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (11/ 206)، وأخرجه مسلم في الصحيح (33) - كتاب الإيمان، من حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا.

ص: 12

التأويل الثالث: أقم الصلاة لأذكرك بالمدح في عليين بها. قال القرطبي: (فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل وإلى المفعول).

التأويل الرابع: أقم الصلاة إذا نسيتها حين تذكرها. قال إبراهيم: ({وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}: يصليها حين يذكرها).

التأويل الخامس: أي حافظ بعد التوحيد على الصلاة.

قلت: وكلها معان متكاملة يتسع لها اللفظ الإلهي المعجز، وقد دلّت السنة الصحيحة على بعضها في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ نَسِيَ صلاةً فَلْيُصَلِّ إذا ذكَرَ، لا كفّارة لها إلا ذلك {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}](1).

الحديث الثاني: أخرج مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده، عن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم:[إذا رقَدَ أحدكم عن الصلاة، أو غفل عنها، فليصلّها إذا ذكرها، فإن الله تعالى قال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}](2).

الحديث الثالث: أخرج الترمذي في سننه بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال: [لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر أسرى ليلة حتى أدركه الكَرى أناخ فعرّس ثم قال: "يا بلال اكْلأ لنا الليلة". قال: فصلى بلال، ثم تساند إلى راحلته مستقبل الفجر، فغلبته عيناه فنام، فلم يستيقظ أحد منهم، وكان أولهم استيقاظًا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أي بلالٌ"، فقال بلال: بأبي أنت يا رسول الله، أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقْتادُوا"، ثم أناخ فتوضأ فأقام الصلاة، ثم صلى مثل صلاته في الوقت في تمكُّث، ثم قال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}](3).

وقوله: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} . أي: إن الساعة جائية أكاد أخفيها لنفسي لا تأتيكم إلا بغتة. قال ابن عباس: ({أَكَادُ أُخْفِيهَا} يقول: لا أظهر عليها أحدًا غيري).

(1) حديث صححيح. أخرجه البخاري (597) - كتاب مواقيت الصلاة. وفي رواية: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} . ورواه مسلم (684)، وأبو داود (442)، والترمذي (178)، والنسائي (1/ 293)، وابن ماجة (696)، وأحمد (3/ 243)، وابن حبان (1555).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (684)، (316)، ورواه أحمد (3/ 184) من طريق المثنى به.

(3)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي (3387) في التفسير، سورة طه، آية (14)، وانظر صحيح سنن الترمذي (2530)، وصحيح سنن أبي داود (420 - 421)، وفي صحيح مسلم نحوه.

ص: 13

وقال: (لا تأتيكم إلا بغتة). وعن سعيد بن حبير: ({أَكَادُ أُخْفِيهَا} قال: من نفسي).

وقال السُّدي: اليس أحدٌ من أهل السماوات والأرض إلا قد أخفى الله عنه عِلْمَ الساعة، وهي في قراءة ابن مسعود:{آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ} ، يقول: كتمتُها من الخلائق، حتى لو استطعتُ أن أكتُمَها من نفسي لفعلتُ).

وقال قتادة: ({أَكَادُ أُخْفِيهَا}، وهي في بعض القراءة {أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ}، ولعمري لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين، ومن الأنبياء والمرسلين).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)} [النمل: 65].

2 -

وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [الأعراف: 187].

3 -

وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} [النازعات: 42 - 44].

ومن صحيح السنة العطرة:

أخرج الإمام أحمد في المسند بسند صحيح عن بريدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[خمسٌ لا يعلمهُنَّ إلا الله: إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيب، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسِبُ غدًا، وما تدري نفس بأي أرض تموت، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}](1).

وقوله: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} . أي: لتثاب كل نفس قضى الله امتحانها في الدنيا بما تسعى. فمن يعمل صالحًا فلنفسه، ومن يعمل غير ذلك فإثمه على نفسه.

وفي التنزيل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8].

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 353)، وكذلك (2/ 24)، (2/ 52)، وهو في صحيح البخاري في كتاب التفسير من حديث ابن عمر- نحوه - ورواه مسلم وغيره.

ص: 14

وفي سنن ابن ماجة بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنما يبعث الناس على نياتهم](1).

ورواه من حديث جابر بلفظ: [يحشر الناس على نياتهم].

وبنحوه عند ابن حبان من حديث عائشة: [

ثم يبعثون على نياتهم وأعمالهم].

وقوله تعالى: {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} .

أي: فلا يردنّك عن التهيؤ للساعة يا موسى والتأهب لها من لا يؤمن بها ومضى خلف شهواته وأهوائه معظمًا لها، فتهلك بذلك وتشقى.

قال الزمخشري: (وفي هذا حث عظيم على العمل بالدليل، وزجر بليغ عن التقليد، وإنذار بأن الهلاك والردى مع التقليد وأهله).

17 -

24. قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)}.

في هذه الآيات: إبرازُ الله تعالى آية لموسى، عصاه ألقاها فانقلبت بإذن الله حية تسعى، قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى، ثم أراه آية أخرى، يده ضمّها إلى جناحه فخرجت بيضاء بإذن ربه الأعلى. ليذهب محملًا باليقين ممتثلًا أمر الله إلى فرعون الذي طغى.

فقوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى} - استفهام تقرير.

أي هو تنبيه من الله سبحانه ليقرّر بنفسه أنها خشبة يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه، لِيُعَرِّفَه قدرته تعالى على تحويلها إلى حية تسعى.

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن (4229)، (4230) - كتاب الزهد - باب في النية، وانظر صحيح سنن ابن ماجة (3407) - (3408)، ورواه ابن حبان في صحيحه نحوه، وقد مضى.

ص: 15

قال النسفي: (والسؤال للتنبيه لتقع المعجزة بها بعد التثبت، أو للتوطين لئلا يهوِّله انقلابها حَيَّة، أو للإيناس ورفع الهيبة للمكالمة).

وقوله تعالى: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} . أي: فأجاب موسى أنها عصاه يعتمد عليها حال المشي ويهزّ بها الشجرة ليسقط ورقُها لترعاه غنمه، وأن له بها مصالح ومنافع أخرى.

قال قتادة: ({وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي}: أخبط بها الشجر). وقال: (كان نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم يهشُّ على غنمه ورق الشجر). وقال السدي: (يقول: أضرب بها الشجر للغنم، فيقع الورق). وقال الضحاك: (يقول: أضرب بها الشجر حتى يسقط منه ماتأكل غنمي).

وعن ابن عباس: ({وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} قال: حوائج أخرى قد علمتها). وقال مجاهد: (حاجات). أي حاجات أخرى سوى ذلك.

وقوله تعالى: {قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى} - ابتداء لأسباب ظهور المعجزة. قال ابن عباس: (لما قيل لموسى: ألقها يا موسى، ألقاها) - أي العصا التي كانت في يده.

وقوله تعالى: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} . أي: قَلَبَ الله أوصافها وأعراضها، فصارت العصا حَيَّةً بإذن الله {تَسْعَى} أي: تنتقل وتمشي وتتحرك. قال وهب بن منبه: (تهتزّ، لها أنياب وهيئة كما شاء الله أن تكون، فرأى أمرًا فظيعًا، فولى مدبرًا).

وفي التنزيل: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} [النمل: 10]. فنودي: {يَامُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 10].

وقوله تعالى: {قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} .

قال وهب بن منبه: (فولى مُدبرًا، ولم يعقّب، فناداه ربه: يا موسى أقبل ولا تخف {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى}. قال: أي سنردها عصًا كما كانت).

وعن ابن عباس: ({سِيرَتَهَا الْأُولَى} يقولى: حالتها الأولى). أي سنردها إلى هيئتها الأولى عصًا كما كانت.

وقوله تعالى: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى} .

أي: أدخل يدك - يا موسى - في جيبك كما تفسّره الآية الأخرى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل: 12]. وكذلك الآية: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ

ص: 16

{بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص: 32]. فهذا برهان ثانٍ لموسى صلى الله عليه وسلم إذْ أمره ربه أن يدخل يده في جيبه تخرج بيضاء من غير سوء: أي من غير برص ولا أذى ولا شين.

وعن ابن عباس: ({تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} قال: من غير برص). قال الحسن: (أخرجها الله من غير سوء، من غير برص، فعلم موسى أنه لقي ربه).

وقوله تعالى: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} .

قال ابن جرير: (كي نريك من أدلتنا الكبرى على عظيم سلطاننا وقدرتنا).

وقوله تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} . أي تجاوز قدره وحدّه، وتمرَّدَ على ربه.

قال ابن كثير: (أي: اذهب إلى فرعون ملك مصر، الذي خَرَجت فارًّا منه وهاربًا، فادعه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وَمُرْهُ فليُحْسِن إلى بني إسرائيل ولا يعذبهم، فإنه قد طغى وبغى، وآثر الحياة الدنيا، ونسي الرب الأعلى).

25 -

35. قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)}.

في هذه الآيات: رجاءُ موسى عليه الصلاة والسلام رَبّه، أن يشرح صدره، وييسر أمره، ويزيل العجمة من لسانه، ويجعل هارون وزيرًا له يعينه في أمره، رجاء إقامة منهج التعظيم لله وحده والإكثار من ذكره، إنه هو السميع البصير.

فقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} - سؤال من موسى عليه السلام ربّه تبارك وتعالى ليشرح صدره فيما بعثه به، إلى أكبر طغاة الأرض وأكثرهم جنودًا وأعمرهم ملكًا. وأن يكون له في مهمته عَونًا ونصيرًا وظهيرًا.

قال ابن زيد: ({رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} قال: جرأة لي). وقال القرطبي: ({رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} أي وسَّعه ونوّره بالإيمان والنبوة {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} أي سهّل عليّ ما أمرتني به من

ص: 17

تبليغ الرسالة إلى فرعون). وقوله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} - أي أزل العجمة التي في لساني يفقهوا عني ما أخاطبهم به بالكلام. قال ابن عباس: (كانت في لسانه رُتَّة). قيل: يعني العجمة التي كانت فيه من جمرة النار التي أطفأها في فيه وهو طفل). وقيل غير ذلك، والله تعالى أعلم.

وقوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} . هو من تمام سؤال موسى ربه عونه في تيسير مهمته لدعوة ذلك الطاغية المتجبر فرعون. فسأل ربه أن يجعل له عونًا من أهل بيته. قال النسفي: ({وَزِيرًا} ظهيرًا أعتمد عليه، من الوزر الثقل، لأنه يتحمل عن الملك أوزاره ومؤنته، أو من الوزر الملجأ، لأن الملك يعتصم برأيه، ويلتجئ إليه في أموره، أو معينًا من الموازرة وهي المعاونة).

أخرَج النسائي بسند صحيح عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من ولي منكم عملًا فأراد الله به خيرًا جعل له وزيرًا صالحًا إن نسي ذكَّرَه، وإن ذكَر أعانه](1).

وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد مرفوعًا: [ما بعث الله من نبيّ ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتحضّه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضّه عليه، فالمعصوم من عصمه الله](2).

وقوله: {هَارُونَ} عطف بيان لـ "وزيرًا"، وقوله {أَخِي} بدل أو عطف بيان آخر.

وعن ابن عباس: ({اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} يقول: اشدد به ظهري). وقال ابن زيد: (يقول: اشدد به أمري، وقوّني به، فإن لي به قوّة). وعن مجاهد: ({اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} قال: ظهري). وفي لغة العرب: أزر فلان فلانًا: إذا أعانه وشدّ ظهره. قال الرازي: (الأزْر: القوة. وقوله تعالى: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} أي ظهري. و"آزره" أي عاوَنَه).

قال ابن جرير: (وقوله: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} يقول: واجعله نبيًّا مثل ما جعلتني نبيًّا، وأرسله معي إلى فرعون). وقال ابن كثير: ({وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} أي: في مشاورتي).

وقوله تعالى: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} .

أي: كي نعظمك بالذكر والتسبيح والدعاء، فإنك العليم بأحوالنا البصير بحاجاتنا.

(1) حديث صحيح. أخرجه النسائي (7/ 159) من حديث القاسم عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وإسناده صحيح، ويشهد له الحديث الذي بعده.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (7198)، وأخرجه أحمد (3/ 39) من حديث أبي سعيد، ورواه أحمد (2/ 289) وأبو يعلى (6000)، وصححه ابن حبان (6191) من حديث أبي هريرة.

ص: 18

قال القاسمي: (أي كي نتعاون على تسبيحك وذكرك. لأن التعاون - لأنه مهيج الرغبات - يتزايد به الخير ويتكاثر {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} أي عالمًا بأحوالنا، وبأن المدعوّ به مما يفيدنا).

وعن مجاهد قال: (لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرًا حتى يذكر الله قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا).

36 -

40. قوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى (40)}.

في هذه الآيات: إجابةُ الله تعالى دعوة موسى صلى الله عليه وسلم، وامتنانه عليه بإلهام أمه أيام طفولته قذفه بالتابوت في اليم ليلقيه الله إلى بيت عدوه، ثم إرجاعه إلى أمه لإرضاعه أثناء سعي أخته في ذلك، ثم ما كان من حماية الله له أثناء الشباب بعد قتله القبطي واختباره اختبارًا كثيرًا.

فقوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى} .

قال القرطبي: (لما سأله شرح الصدر، وتيسير الأمر إلى ما ذكر، أجاب سؤاله، وأتاه طِلْبَتَه ومرغوبه).

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} .

قال ابن كثير: (تذكير له بنِعَمِهِ السَّالِفة عليه، فيما كان ألهم أمَّه حينَ كانت تُرْضِعُهُ، وتحذو عليه من فرعون وَمَلئِه أن يقتلوه، لأنه كان قد وُلِدَ في السَّنة التي يقتلون فيا الغلمان. فاتخذت له تابُوتًا، فكانت ترضِعُه ثم تَضَعُه فيه، وتُرسِلُه في البحر - وهو النيل - وتُمْسِكُه إلى مَنْزلها بحبل، فذهبت مرة لتربطه فانفلت منها وذهب به البحر،

ص: 19

فَحصل لها من الغمِّ والهمَّ ما ذكره الله عنها في قوله: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص: 10]، فذهب به البحر إلى دار فِرعون، {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، فحَكَم الله - وله السلطان العظيم والقدرة التامة - أن لا يُرَبَّى إلا على فراش فرعون، ويُغْذَى بطعامه وشرابه، مع محبَّتِه وزوجته له. ولهذا قال تعالى:{يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} . أي: عند عَدُوّك، جعلتُه يُحبُّك. قال سلمة بن كُهيل:{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} قال: حَبَّبْتُكَ إلى عبادي).

وعن ابن إسحادق قال: (لما ولدت موسى أمه أرضعته، حتى إذا أمر فرعون بقتل الولدان من سنته تلك عمدت إليه، فصنعت به ما أمرها الله تعالى، جعلته في تابوت صغير، ومهدت له فيه، ثم عمدت إلى النيل فقذفته فيه، وأصبح فرعون في مجلس له كان يجلسه على شفير النيل كل غداة، فبينا هو جالس، إذ مرّ النيل بالتابوت فقذف به وآسية ابنةُ مُزَاحم امرأته جالسة إلى جنبه، فقال: إنّ هذا لشيء في البحر، فأتوني به، فخرج إليه أعوانه حتى جاؤوا به، ففتح التابوت فإذا فيه صبي في مهده، فألقى الله عليه محبته، وعطف عليه نفسه، وعنى جل ثناؤه بقوله: يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} فرعون هو العدوّ، كان لله ولموسى).

وعن السدي: ({فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} وهو البحر، وهو النيل).

وقوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} .

قال قتادة: (هو غذاؤه، ولتغذى على عيني). وقال ابن جريج: (أنت بعيني إذ جعلتك أمك في التابوت، ثم في البحر). وقال أبو نهيك: (ولتعمل على عيني). قال ابن جرير -شيخ المفسرين-: (معناه: ولتغذى وتربى على محبتي وإرادتي).

والمقصود: أنّ تربية موسى عليه الصلاة والسلام إنما كانت برعاية الله سبحانه، لأن العرب حين تقول:(فلان يسير على عيني) يعنون: برعايتي. و (رَبَّيْتُه على عيني) أي: تحت نظري ومراقبتي وإشرافي.

قلت: فلفظ "العين" في التنزيل قد يفيد الصفة التي لابد من إثباتها لله سبحانه، وقد يفيد العناية والرعاية، والله المستعان.

ص: 20

وقوله. {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} .

إخبار من الله تعالى أنه لما استقر موسى عليه السلام رضيعًا في بيت فرعون، عَرَضوا عليه المراضع فأباها، وهو قوله سبحانه:{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} فجاءت أخته وقالت: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 12]. أي: هل أدلكم على مرضعة ترضِعُه لكم بالأجرة؟ فذهبت به وهم معها إلى أمه، فعرضت عليه ثَدْيها، فَقَبِلَهُ، فردّ الله موسى إلى أمه وأدخل عليها السرور والفرح من جديد، وأزال عنها الهم والحزن، ونالها إضافة إلى سرورها أجر الإرضاع، ولثواب الله في الآخرة أطيب وأكمل.

وقوله: {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} .

قال ابن جرير: ({وَقَتَلْتَ نَفْسًا} يعني جل ثناؤه بذلك: قتله القبطي الذي قتله حين استغاثه عليه الإسرائيلي، فوكزه موسى). وقال مجاهد: ({فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ}: من قتل النفس). أي: نجيناك ممّا نزل بك من غم ذلك القتل وما تبعه من محاولة القوم أن يقتلوك بما صدر منك، فخلصناك منهم، حتى هربت إلى أهل مدين، فلم يبلغوا إلى قتلك أو قودك سبيلًا. ثم لجأت إلى ذلك الرجل الصالح فطمأنك وقال لك:{لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25].

وعن ابن عباس: (قوله: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} يقول: اختبرناك اختبارًا). أو قال في رواية أخرى: (ابتليت بلاء). والمقصود: استعراض تلك المحن والبلايا التي قضى الله لموسى أن يمرّ بها حتى يكتمل ويصلب ويواجه حمل أمانة الوحي والنبوة.

وفي صحيح مسلم عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: [يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة وأركبَكم للكبيرة؟ ! سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الفتنة تجيء من ها هنا"، وأومَأ بيده نحو المشرق من حيث يطلع قرنا الشيطان، وأنتم يضرب بعضكم رقاب بعض، وإنما قتل موسى عليه السلام الذي قتل من آل فرعون خطأ فقال الله عز وجل له: {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا}](1).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (2905)(50) - كتاب الفتن. باب الفتنة نحو المشرق.

ص: 21

وقوله: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى} .

قال ابن عباس: (يقول: لقد جئت لميقات يا موسى). وقال مجاهد: (على ذي موعد). وقال قتادة: (قدر الرسالة والنبوة).

والمقصود: لقد لبثت يا موسى تلك السنين مقيمًا في أهل مدين فارًّا من فرعون وملئه، وكنت ترعى على صهرك، حتى انتهت المدة وانقضى الأجل، لتأتي من جديد إلى مصر على قدر الله وإرادته لتبدأ مرحلة جديدة، وهي مرحلة القيام بأعباء الرسالة والنبوة ومواجهة الطواغيت.

41 -

44. قوله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)}.

في هذه الآيات: امتنان الله تعالى على موسى صلى الله عليه وسلم في لبثه سنين في أهل مدين آمنًا من فرعون، ثم مجيئه إلى مصر على موعد لبدء مرحلة جديدة هي القيام بأعباء النبوة، ليذهب مع أخيه هارون بأمر الله لمقابلة الطاغية فرعون ودعوته إلى الحق بقول لين لعله يتذكر أو يخشى.

وقوله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} - أي اخترتك نبيًّا، واجتبيتك رسولًا، واصطفيتك لنفسي كما أريد وأشاء للقيام بأمري ونهيي.

وفي صحيح البخاري - عند تفسير هذه الآية - عن محمد بن سِيرينَ عن أبي هريرة عن رسول الله قال: [التقى آدمُ وموسى، فقال موسى لآدمَ: أنت الذي أَشْقَيْتَ الناسَ وأَخْرَجْتَهم من الجنة؟ قال له آدمُ: أَنْتَ الذي اصْطفاك الله برساليِهِ، واصْطفاكَ لِنَفْسِهِ، وأنزل عليك التوراة؟ قال: نعم، قال: فوجَدْتَها كُتِبَ عَلَي قبلَ أن يَخْلُقَني؟ قال: نعم، فَحَجَّ آدمُ موسى](1).

وقوله تعالى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} .

أي: اذهب أنت وهارون بأدلتي وحججي إلى فرعون الذي تمرّد في ضلاله وعتا في غَيِّه وظلمه، فادعواه إلى الحق ولا تضعفا في ذكري فإن في ذِكْرِكُما لي قوة وعزيمة لكما.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم - (4736) - كتاب التفسير- سورة طه - آية (41)، ورواه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (2652).

ص: 22

قال ابن عباس: ({وَلَا تَنِيَا} يقول: لا تبطئا). وقال: (يقول: ولا تضعفا في ذكري).

قال ابن زيد: (الواني: هو الغافل المفرط ذلك الواني).

والمقصود: استحضار عظمة الله عز وجل بذكره عند لقاء الطاغية أو الظالم، فإن ذلك ممّا يهوّن على المؤمن أمر العتاة والبغاة وأهوال اقتحام حواجز الكبر التي يصنعها أئمة الكفر في الأرض لِيَحُولوا دون وصول دعوة الله إلى الناس في الأرض.

وقوله تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} .

أي اذهبا إلى فرعون الذي تمرّد وعتا، وتَجَهْرَم على الله وعصا، ودعا الناس إلى عبادته وتعظيمه من دون الله، ومع ذلك استميلاه بِلَيِّنِ القول ولطيفه لعله يتذكر أو يخشى.

قال ابن كثير: (هذه الآية فيها عبرةٌ عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العُتُوِّ والاستكبار، وموسى صَفْوَةُ الله من خَلْقِهِ إذ ذاك، ومع ذلك أُمِرَ ألَّا يخاطِبَ فِرْعون إلا بالملاطفة واللِّين، كما قال يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ عند قوله: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا}: يا مَن يَتَحَبَّبُ إلى من يعاديه، فكيف بمن يتولاه ويُناديه؟ ).

ويُروى هنا من شعر زيد بن عمرو بن نُفيل، أو أمية بن أبي الصَّلْت فيما ذكره ابن إسحاق:

وأنْتَ الذي من فَضْلِ مَنٍّ ورحْمَةٍ

بَعَثْتَ إلى موسى رسولًا مُناديًا

فقلتَ له: فاذهَبْ وهارونَ فادعُوا

إلى الله فرعونَ الذي كان باغِيًا

فقُولا له: هل أنْتَ سَوَّيْتَ هذِه

بلا وَتَدٍ حتى اسْتَقَلَّتْ كما هِيَا؟

وقولا له: آأنت رَفَّعْتَ هذِهِ

بلا عَمَدٍ؟ أَرْفِقْ إذن بك بانِيًا

وقولا له: آأنت سَوَّيْتَ وَشطَها

مُنيرًا إذا ما جَنَّهُ الليل هاديًا؟

وقولا له: مَنْ يُخرجُ الشمس بُكْرَةً

فَيُصْبحَ ما مَسَّت مِنَ الأرض ضاحِيًا؟

وقولا له: من يُنْبِتُ الحبَّ في الثّرى

فَيُصبحَ ممْه البَّقْلُ يَهْتَزُّ رابيًا؟

ويُخْرِجُ مِنْهُ حَبَّهُ في رؤوسه

ففي ذاكَ آياتٌ لِمَنْ كان واعِيَا

45 -

48. قوله تعالى: {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا

ص: 23

تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)}.

في هذه الآيات: خشيةُ موسى بطش فرعون به وبأخيه، وطمأنَةُ الله له بأنهما تحت رعايته وحمايته - جلّت عظمته -، وأمْرُه تعالى لهما بلقاء فرعون وإخباره أنهما رسولا الله تعالى إليه ليطلق بنى إسرائيل من الاستعباد، وقد أتيناك بحجة على صدق دعوانا، والسلام من عذاب الله على من أسلم واتبع الهدى. فإن العذاب - كما أوحي إلينا من ربنا - على من كذّب بكتاب الله وتولى عن طاعته.

فقوله تعالى: {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} .

الإفراط: الإسراف والإشطاط والتعدي. والتفريط: التواني.

قال ابن زيد: ({إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} قال: نخاف أن يعجل علينا إذ نبلغه كلامك أوأمرك، يفرط ويعجل). وعن مجاهد: ({أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} قال: عقوبة منه). وعن ابن عباس: ({أَوْ أَنْ يَطْغَى}: يعتدي).

والمقصود: خشية موسى وهارون عليهما السلام من اعتداء فرعون عليهما عند سماعه كلام الحق، فيحمله ذلك على الشطط في الطغيان والعقوبة والبغي. فهما يستجيران بالله من حدوث ذلك.

وقوله تعالى: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} .

طمأنة من الله سبحانه لرسوليه موسى وهارون عليهما السلام من أن ينالهما أذى من فرعون، فهو تعالى معهما بسمعه وبصره، والمراد بحفظه ونصره وتأييده.

قال ابن عباس: (أسمع دعاءكما فأجيبه، وأرى ما يراد بكما فأمنع، لست بغافل عنكما فلا تهتما).

قلت: وجميع آيات المعية مُفَسَّرة بما قبلها أو بعدها، وهذه الآية العظيمة واحدة من تلك الآيات، فالله سبحانه معنا بصفاته لا بذاته، فذاته الكريمة فوق العرش وهو يدبر الأمر في هذا الكون، كما قال سبحانه:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5].

ص: 24

وقوله تعالى: {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} .

أي: فأتيا فرعون فأخبراه أنكما رسولا الله تعالى إليه أن أطلق بني إسرائيل من الاستعباد والاسترقاق، ولا تعذبهم بتكليف المشاق، وقد أيناك بحجة على صدق دعوانا، وقد سلم من عذاب الله من أسلم واتبع الهدى.

وبنحو ذلك كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم كتابًا - كما روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس - وفيه: [بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتَّبَعَ الهدى، أما بعْدُ: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ الله أجرك مرتين .... ]، الحديث (1).

وقوله تعالى: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} .

قال قتادة: (- أي - كذب بكتاب الله، وتولى عن طاعة الله).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النا زعات: 37 - 39].

2 -

وقال تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 14 - 16].

3 -

وقال تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة: 31 - 32].

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [كُلُّ أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: يا رسول الله، ومَنْ يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى](2).

49 -

56. قوله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (7) - كتاب بدء الوحي، في أثناء حديث طويل.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (7280) - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة.

ص: 25

رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)}.

في هذه الآيات: محاولةُ فرعون أثناء لقائه موسى وهارون إنكار وجود الصانع الخالق، وتأكيد موسى على ربوبية الله عز وجل الذي خلق كل شيء فَقَدَّرَهُ تقديرًا، فهو تعالى الذي مهّد الأرض وجعل فيها السبل وأنزل الماء وأخرج النبات متاعًا للإنسان والأنعام ثم المرجع إليه تعالى، فإليه يصرف التعظيم وجميع أعمال العبادة، فما كان من فرعون إلا أن استكبر وكذب وأبى.

فقوله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى} . في الكلام محذوف تقديره: فَأَتَيَاه فَأَبْلَغَاه رسالةَ ربهما عز وجل فقال: من ربكما يا موسى. قال النسفي: (خاطبهما ثم نادى أحدهما لأن موسى هو الأصل في النبوة وهارون تابعه). وقد أراد فرعون بذلك إنكار وجود الصانع الخالق، رب كل شيء وإلهه ومليكه.

وقوله تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} .

هو جواب موسى البليغ المفحم. قال ابن عباس: (يقول: خلق لكل شيء زوجة، ثم هداه لمنكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه ومولده). وقال مجاهد: (أعطى كل شيء صورته ثم هدى كل شيء إلى معيشته). وقال أيضًا: (سوَّى خلق كلّ دابة ثم هداها لما يُصلحها وعلَّمها إياه، ولم يجعل الناس في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الناس، ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرًا). وقال حميد عن مجاهد: (هداه إلى حيلته ومعيشته).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 2 - 3].

2 -

وقال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة: 7].

قلت: وهذه الهداية هي هداية الخالق جميع خلقه لمصالحهم، وهي النوع الأول

ص: 26

من مراتب الهداية: الهداية العامة للخلق. فإن الله سبحانه قد هدى الأشياء والمخلوقات لأسلوب حياتها ولوظيفتها منذ أن خلقها. كما روى الإمام مسلم في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة، في آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل](1).

قال الراغب الأصبهاني رحمه الله: (كُلُّ ما أوجده الله تعالى فإنه هداه لما فيه مصلحتُه كما نبَّه عليه بقوله: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}. لكن هدايته للجمادات بالتسخير فقط، كالأشياء الأرضية التي إذا تركت تنحو نحو الأسفل، وكالنار التي تنحو نحو العلوّ. وهدايته للحيوانات إلى أفعال تتعاطاها بالتسخير والإلهام، كالنحل فيما يتعاطاه من السياسة ومن عمل العسل، وكالسُّرْفة (2) فيما تبنيه من الأبنية، وكالعنكبوت في نسجه) (3).

وقوله تعالى: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} .

محاولةٌ ماكرةٌ من فرعون لصرف المسألة الأولى - مسألة الربوبية - وإبعادها، لَمَّا واجَهَهُ موسى عليه الصلاة والسلام بتلك الحجة الدامغة:{رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} . فأعاده موسى بذكاء وحنكة إلى المسألة التي يهرب منها: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} .

قال ابن كثير: (أصح الأقوال في معنى ذلك أنَّ فرعونَ لما أخبرهُ موسى بأنَّ ربَّهُ الذي أرسله هو الذي خلقَ ورزقَ وَقَدَّرَ فهدى، شَرَعَ يحتج بالقُرون الأولى، أي: الذين لم يَعْبدوا الله، أي: فما بالُهم إذا كان الأمرُ كما تقول لم يعبُدوا ربَّك، بل عبدوا غيره؟ فقال له موسى في جواب ذلك: هم وإن لم يعبُدوه، فإن عَمَلَهم عند الله مضبوطٌ

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2789)، وأحمد (2/ 327)، والنسائي في الكبرى (11010)، وأخرجه البيهقي في "الصفات"(2/ 124 - 125).

(2)

السُّرْفة: دويبة تتخذ لنفسها بيتًا مربعًا من دقاق العيدان، تضم بعضها إلى بعض باللعاب، ثم تدخل فيه وتموت.

(3)

ذكره الراغب في كتابه: "تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين". وانظر تفصيل البحث في كتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 893 - 907) في بحث القدر، مراتب الهداية والضلال.

ص: 27

علمهم، وسيجزيهم بعملهم في كتاب الله، وهو اللوح المحفوط وكتابُ الأعمال، {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} ، أي: لا يَشِذُّ عنه شيء، ولا يفوته صغيرٌ ولاكبيرٌ، ولا ينسى شيئًا. يَصِفُ علمه تعالى بأنه بكل شيء محيطٌ، وأنه لا ينسى شيئًا، تبارك وتعالى وتقدّس، فإن علمَ المخلوق يعتريه نُقصانان، أحدُهما: عدمُ الإحاطة بالشيء، والآخر نسيانُه بعد عِلمه، فنزّه نفسه عن ذلك).

وقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} .

متابعة من موسى عليه الصلاة والسلام في ذكر بعض صفات الرب سبحانه: إنه - تعالى - الذي جعل لكم الأرض قرارًا تستقرون عليها وتمشون في حوائجكم وتسافرون على ظهرها، وجعل لكم فيها طرقًا ومسالك (1) تسلكون فيها لأعمالكم وأسفاركم، وأنزل من السماء ماء فأخرج لكم به من ألوان النباتات والثمار المختلفة الأكل والطعوم والأنواع. كلوا منها وأطعموا بهائمكم، وفي ذلك آيات كبيرة لأصحاب العقول وأولي الألباب.

قال القرطبي: ({كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} أمر إباحة. {وَارْعَوْا} من رعت الماشية الكلأ، ورعاها صاحبها رعاية، أي أسامها وسرحها، لازم ومتعد، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} أي العقول. الواحدة نُهْيَة. قال لهم ذلك، لأنهم الذين يُنْتهى إلى رأيهم. وقيل: لأنهم ينهون النفس عن القبائح. وهذا كله من موسى احتجاج على فرعون في إثبات الصانع جوابًا لقوله: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى}. وبيّن أنه إما يستدل على الصانع اليوم بأفعاله).

وقوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} .

أي: من الأرض خلقنا أباكم آدم عليه السلام ثم كنتم من بعد ذلك الأصل، ثم نعيدكم بعد مماتكم إلى الأرض، ثم تخرجون منها للبعث والحساب.

قال ابن زيد: ({تَارَةً أُخْرَى} قال: مرة أخرى الخلق الآخر).

أخرج الإمام أحمد والحاكم بسند صحيح من حديث البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إنّ العبد المؤمن إذا خرجت روحه صعدت به الملائكة فلا يمرّون بها على ملأ من الملائكة

ص: 28

إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ ! فيقولون: فلان ابن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، فيستفتحون لها فيفتح، فيشيّعه من كل سماء مقرّبوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهى بها إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا لعبدي كتابا في عِلّيين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتعاد روحه في جسده

] الحديث (1).

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: ولقد أرينا فرعون آياتنا، يعنى أدلتنا وحججنا على حقيقة ما أرسلنا به رسولينا موسى وهارون إليه كلها {فَكَذَّبَ وَأَبَى} أن يقبل من موسى وهارون ما جاءا به مق عند ربهما من الحق استكبارًا وعتوًّا).

57 -

64. قوله تعالى: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَامُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)}.

في هذه الآيات: اتهام فرعون موسى بالسحر ومحاولة تقويضه بسحر مثله، واجتماع الناس لرؤية مشهد السحرة في مبارزتهم موسى، وتحذير موسى القوم من مغبة الكذب على الله وإنكار الحق أمام تشجيع فرعون لهم.

فقوله تعالى: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَامُوسَى} .

محاولةٌ من فرعون للتخلص من سلطان حجج موسى وقوة أدلته بالاتهام بالسحر واللجوء إلى المكر والحيلة.

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 287)، والحاكم (1/ 37)، والآجري في "الشريعة" ص (367) - (370) من حديث البراء، وله شواهد عند ابن ماجة والطيالسي وأبي داود وغيرهم.

ص: 29

قال النسفي: (فيه دليل على أنه خاف منه خوفًا شديدًا، وقوله: {بِسِحْرِكَ} تعلل، وإلا فأي ساحر يقدر أن يخرج ملكًا من أرضه؟ ! ).

وقوله تعالى: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} .

أي: فلنعارضَنَّكَ بسحر مثل سحرك، فاختر لذلك مكانَ موعدٍ على النَّصَفِ بيننا وبينك. قال مجاهد:({مَكَانًا سُوًى}: منصفًا بينهم). وقال قتادة: (نصفًا بيننا وبينك، أي عادلًا بيننا وبينك).

قلت: وأصل قوله {سُوًى} من الاستواء، كما قال ابن زيد:({مَكَانًا سُوًى}: مكانًا مستويًا يتبين للناس ما فيه، لا يكونُ صُوَبٌ ولا شيءٌ فيغيب بعضُ ذلك عن بعض، مُسْتَوٍ حينَ يُرَى).

وقوله تعالى: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} .

أي: في يوم عيدهم ذلك. قال ابن عباس: (فإنه يوم زينة يجتمع الناس إليه ويحشر الناس له).

وعن ابن جريج قال: (يوم زينة لهم، ويوم عيد لهم {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} إلى عيد لهم).

وقال السدي: ({يَوْمُ الزِّينَةِ} وذلك يوم عيد لهم). وقال ابن زيد: (يوم العيد، يوم يتفرَّغُ الناس من الأعمال، ويشهدون ويحضُرون ويرون). قال ابن كثير: ({ضُحًى} أي: ضَحْوَة من النهار ليكونَ أظهرَ وأجلَى وأَبْيَنَ وأوضحَ. وهكذا شأنُ الأنبياء، كُلُّ أمرهم واضحٌ بيِّنٌ، ليس فيه خَفاءٌ ولا ترويج. ولهذا لم يقل: ليلًا، ولكن نهارًا ضُحىً).

وقوله تعالى: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} - فيه إشارة إلى انتفاض فرعون لمواجهة ما أشغله وأهمه، فشرع يجمع الكيد والسحر والسحرة الماهرين من جميع مدائن مملكته، ثم حضر بقوة سلطانه وأبّهته وكيده وسحرته.

وقوله تعالى: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} . أي: بادأهم موسى عليه الصلاة والسلام حين اجتمعوا بالتحذير من بطش الله إن عاندوا حججه وآياته سبحانه بالكذب والافتراء - يقول ذلك للسحرة.

ص: 30

وعن ابن عباس: ({فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} يقول: فيهلككم). وقال قتادة (فيستأصلكم بعذاب فيهلككم). وقال ابن زيد: (يهلككم هلاكًا ليس فيه بقية، قال: والذي يسحت ليس فيه بقية).

قلت: وأصل السحت في كلام العرب الاستئصال. قال الرازي: (أسحته: استأصله).

وقوله تعالى: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} .

قال قتادة: (قال السحرة بينهم: إن كان هذا ساحرًا فإنا سنغلبه، وإن كان من السماء فله أمر). وقال وهب بن منبه: (فترادّ السحرة بينهم، وقال بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر).

أي: تشاجر السحرة فيما بينهم أن هذا ليس بكلام ساحر، إنما هذا كلام نبي، وتناجوا فيما بينهم.

وقوله تعالى: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} .

قال وهب بن منبه: (أشار بعضهم إلى بعض بتناج: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا}). وقال قتادة: (موسى وهارون صلى الله عليهما).

والمعنى: قال السحرة فيما بينهم: هذان الرجلان - يعنون موسى وهارون - فيما يبدو ساحران خبيران بصناعة السحر، فحذار أن يغلباكم اليوم ويستوليا على قلوب الناس ويستبدا بطريقة السحر لهما ينتفعان بها دونكم، بعدما كان لكم منها رزق وعيش ومكانة وصدارة. فإذا كان ذلك وانتصرا وتبعهما العامة قاتلا فرعون وجنوده فانتصرا عليه وأخرجاكم من أرضكم.

وعن ابن عباس: ({وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} يعني: مُلْكَهُم الذي هم فيه والعيش).

وعن مجاهد: ({وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} قال: أولي العقل والشرف والأنساب).

قال قتادة: (وطريقتهم المُثلى يومئذ كانت بنو إلصرائيل، وكانوا أكثر القوم عددًا وأموالًا وأولادًا. قال عدو الله: إنما يريدان أن يذهبا بهم لأنفسهما).

قلت: والمقصود أنهم خافوا على طريقتهم التي كانوا عليها من إتقانهم السحر

ص: 31

وأساليبه والتي كانت تدرّ عليهم الأموال والمناصب والصدارة بين بني إسرائيل وعند فرعون وملئه.

وقوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} .

أي: اجتمعوا صفًا واحدًا، ثم ألقوا ما في أيديكم مرةً واحدة، فإنكم إذا فعلتم ذلك كان أهيبَ في صدور الرائين، ومن ثمّ تكون لكم الغلبة على هذين الرجلين.

وعن وهب بن منبه قال: (جمع فرعون الناس لذلك الجمع، ثم أمر السحرة فقال: {ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} أي قد أفلح من أفلح اليوم على صاحبه).

والمقصود: إنْ كانت لكم الغلبة فقد أفلحتم اليوم بعطايا فرعون، وتمكّن فرعون من رياسته العظيمة وملكه العجيب.

65 -

70. قوله تعالى: {قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)}.

في هذه الآيات: بدء الاستعراض من السحرة بحبالهم وعصيهم أمام موسى وأعين الناس، وشعور موسى بالخوف من رهبة ما رأى، وتثبيت الله تعالى له بأمره إلقاء ما في يمينه لتحصد سحرهم وكذبهم، وانتهاء المشهد بسجود السحرة لله قائلين آمنا برب هارون وموسى.

فقوله تعالى: {قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا} .

أي: قال السَّحرة لموسى لما استعدوا لبدء اللقاء والسجال إما أن تلقي أنت أولًا وإما أن نبدأ نحن بالإلقاء. فأجابهم موسى عليه الصلاة والسلام بل أنتم ألقوا. قال ابن كثير: (أي: أنتم أولًا لنرى ماذا تصنعون من السَّحر، وليظهر للناس جليَّةُ أمرهم).

وقوله: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} .

في الكلام متروك، والتقدير: فألقى السحرة ما معهم من الحبال والعصي.

ص: 32

والمعنى: فإذا الحبال والعصي تتحرك وتضطرب وتميد بما أودعوها من الزئبق. قال النسفي: (رُوي أنهم لطخوها بالزئبق فلما ضربت عليها الشمس اضطربت واهتزت فخيلت ذلك).

أي: يخيّل للناظر أنها حيات تسعى باختيارها ويركب بعضها بعضًا حتى امتلأ منها الوادي.

وقوله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} .

قال القاسمي: (أي: أحس {فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} وذلك لما جُبِلَ عليه الإنسان من النفرة من الحيات. أو خاف من توهم الخلق المعارضة، بأن لهم من حبالهم وعصيهم حيات، كما أن له من عصاه حية). وقال ابن كثير: (أي: خاف على الناس أن يفْتَتِنُوا بسِحرهم ويَغْترّوا بهم قبل أن يلقي ما في يمينه، فأوحى الله تعالى إليه في الساعة الراهنة أن {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ}، يعني عصاه، فإذا هي تلقف ما صنعوا، وذلك أنها صارت ثعبانًا عظيمًا هائلًا ذا عيون وقوائمَ وعُنُق ورأس وأضراس، فجعلت تتبَعُ تلك الحبالَ والعصي حتى لم تُبقِ منها شيئًا إلا تَلَقَّفَتْهُ وابتلَعَتْهُ، والسحرةُ والناسُ ينظرون إلى ذلك عِيانًا جَهْرَةً، نَهَارًا ضحوةً. فقامت المعجزةُ، واتضح البرهان، ووقع الحق وبطل السِّحر، ولهذا قال تعالى: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}).

وقوله تعالى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} .

أي: فخرّ السحرة سجدًا حين رأوا ما أبهر العيون والعقول والقلوب، وهم يلهجون بذكر الرحمن عز وجل ويقولون:{آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} .

قال القرطبي: ({فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} لما رأوا من عظيم الأمر وخرق العادة في العصا، فإنها ابتلعت جميع ما احتالوا به من الحبال والعصي).

71 -

76. قوله تعالى: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ

ص: 33

السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)}.

في هذه الآيات: استنفارُ فرعون لضبط سلطانه أمام زعزعة الحق لمكره وكيده، وتهديدُه السحرة بالقتل والتقطيع والصلب، وإيثار السحرة المؤمنين ما عند الله.

فقوله: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} - هو من كفر فرعون وعناده وكبره وغروره حين شعر بالهزيمة وانحسار السلطان. قال القرطبي: (إنكار منه عليهم، أي تعديتم وفعلتم ما لم آمركم به).

وقوله: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} . قال القاسمي: (أي فاتفقتم معه ليكون لكم الملك). وقال ابن كثير: (قال قولًا يعلم هو والسحرة والخلق كلهم أنه بَهْتٌ وكذِبٌ: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ}، أي: أنتم إنما أخذتم السّحر عن موسى، واتَّفَقْتُم أنتم وإياه عليَّ وعلى رعيتي لتظهروه، كما قال في الآية الأخرى: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 123]).

وقال القرطبي: ({إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ}. أي رئيسكم في التعليم، وإنما غلبكم لأنه أحذق به منكم. وإنما أراد فرعون بقوله هذا ليشبه على الناس حتى لا يتبعوهم فيؤمنوا كإيمانهم، وإلا فقد علم فرعون أنهم لم يتعلموا من موسى، بل قد علموا السحر قبل قدوم موسى وولادته).

وقوله: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} .

قال وهب بن منبه: (يقول: فلأقطعن أيديكم وأرجلكم مخالفًا بين قطع ذلك، وذلك أن يقطع يمنى اليدين ويسرى الرجلين، أو يسرى اليدين ويمنى الرجلين، فيكون ذلك قطعًا من خلاف).

قال ابن جرير: (وقوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} يقول: ولأصلبنكم على جذوع النخل).

قال السدي: (فقتلهم وقطعهم، كما قال عبد الله بن عباس بن قالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126]. وقال: كانوا في أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء).

ص: 34

وقوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} .

قال ابن جرير: (يقول: ولتعلمنّ أيها السحرة أيّنا أشدّ عذابًا لكم، وأدوم، أنا أو موسى).

وقال النسفي: ({وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا} أنا على ترك إيمانكم بي أو رب موسى على ترك الإيمان به. وقيل يريد نفسه لعنه الله وموسى صلوات الله وسلامه عليه بدليل قوله: {آمَنْتُمْ لَهُ}).

وقوله تعالى: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} .

أي: لن نختارك على ما أكرمنا الله به من الهدى والإيمان بعظيم الحجج والبرهان.

وقوله: {وَالَّذِي فَطَرَنَا} يحتمل تأويلين عند المفسرين:

التأويل الأول: أن يكون معطوفًا على البينات. والتقدير: لن نختارك على ما جاءنا من الإيمان، ولا على فاطرنا وخالقنا الرحمان، فهو المستحق للعبادة وحده العزيز المنّان.

التأويل الثاني: أن يكون قسمًا، وجوابه لن نؤثرك مقدّم على القسم. والتقدير: والله الذي فطرنا لن نختارك على ما جاءنا من الحق والهدى والإيمان.

وقوله: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} . أي من القتل والصلب وألوان التعذيب. قال وهب بن منبه: (أي اصنع ما بدا لك).

وقوله: {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} . قال وهب: (أي ليس لك سلطان إلا فيها. ثم لا سلطان لك بعده).

وقوله: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} .

أي إنا أقررنا لربنا بتوحيده، وصدقنا بوعده ووعيده، ونحن نرجو بذلك أن يغفر لنا خطايانا وما تعلمناه من السحر وعلمناه، وتجرأنا به على مواجهة الحق ومعارضة آيات الله بإكراهك لنا على ذلك.

وقوله: {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} . قال ابن إسحاق: (خير منك ثوابًا، وأبقى عذابًا). وعن محمد بن كعب، ومحمد بن قيس في قول الله:{وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} قالا: (خيرًا منك إنْ أُطِيع، وأبقى منك عذابًا إن عُصي).

ص: 35

وقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} .

قال ابن كثير: (الظاهرُ من السِّياق أن هذا من تَمام ما وَعَظَ به السحرةُ لفرعون، يُحذِّرونه من نِقْمَة الله وعذابه الدائم السَّرمَدِي ويُرَغِّبونه في ثوابه الأبديَّ المخلَّد، فقالوا: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا}، أي: يلقى الله يوم القيامةِ وهو مجرم، {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى}. كقوله: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر: 36]، وقال: {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [الأعلى: 11 - 13]. وقال تعالى: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77]).

وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، يجاء بالموت كأنه كبش أملحُ، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون فينظرون ويقولون: نعم هذا الموت وكلهم قد رآه، ثم ينادى: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون فينظرون فيقولون: نعم هذا الموت وكلهم قد رآه، فيؤمر به فيذبح، ويقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت](1).

وفي لفظ عند البخاري: [فيزداد أهل الجنة فَرَحًا إلى فرحهم، ويزداد أهلُ النار حُزْنًا إلى حُزنهم].

وفي صحيح مسلم ومسند أحمد من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يَحْيَون، ولكن أناسٌ تُصيبهم النار بذنوبهم فتميتُهم إماتةً، حتى إذا صاروا فحمًا أُذِنَ في الشفاعة، فجيء بهم ضبائِرَ، فَبُثوا على أنهار الجنة، فيقال: يا أهل الجنة، أفيضوا عليهم، فينبتون نباتَ الحبَّةِ تكون في حَميل السيل](2).

وقوله تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} .

أي: ومن يأت ربه يوم القيامة صادق الإيمان صحيح الدين قد عمل ما أمره الله واجتنب ما نهاه عنه، فأولئك لهم البشارة ببلوغ درجات الجنة العُلا.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6548) - كتاب الرقاق، وأخرجه مسلم في الصحيح (8/ 153).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (185)، وأحمد في المسند (3/ 11)، (3/ 78)، وابن ماجة في السنن (4309)، وغيرهم.

ص: 36

وقد حفلت السنة الصحيحة بذكر بعض هذه الدرجات العاليات، وبديع الغرف الآمنات، والروضات الفاتنات، وذلك في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ أهل الجنة يَتَراءَوْن أهْلَ الغُرَفِ منْ فَوقِهم، كما تتراءَوْنَ الكوكبَ الدُّرّيَّ الغابرَ في الأفق من المشرقِ أو المغرب لتفاضُلِ ما بينهم. قالوا: يا رسول الله، تلك منازِلُ الأنبياء لا يَبْلُغها غيرُهم؟ قال: بَلى، والذي نفسي بيده رجالٌ آمنوا بالله وصدَّقوا المرسلين](1).

الحديث الثاني: أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [في الجنة مئة درجةٍ ما بَيْنَ كُلَّ درجتين مئةُ عام](2).

الحديث الثالث: أخرج أحمد والترمذي بسند صحيح عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [في الجنة مئةُ درجة، ما بين كلِّ درجتين كما بينَ السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تُفَجَّرُ أنهارُ الجنة الأربعة، ومن فوقها يكون العَرْش، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس](3).

الحديث الرابع: أخرج الترمذي بسند صحيح عن معاذ بن جبل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[مَن صام رمضانَ وصلَّى الصلاة وحجَّ البيتَ، لا أدري أذَكَرَ الزكاة أم لا. إلا كان حقًّا على الله أنْ يَغْفِرَ لَهُ إنْ هاجَرَ في سبيل الله أو مكثَ بأرضه التي وُلدَ بها. قال معاذ: ألا أخبر بها الناس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذرِ الناس يعملونَ فإنَّ في الجنة مئةَ دَرَجَةٍ ما بين كلِّ درجَتَيْن كما بَيْنَ السَّماء والأرض، والفِرْدَوسُ أعلى الجنة وأوسَطها وفوقَ ذلك عرشُ الرَّحمن، ومنها تُفَجَّر أنهارُ الجنة، فإذا سألتم الله فاسألوه الفِرْدَوس](4).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3256) - كتاب بدء الخلق، وكذلك (6556)، وأخرجه مسلم (2831)، وأحمد (5/ 340)، وأخرجه ابن حبان (7393).

(2)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2662) - أبواب صفة الجنة. باب ما جاء في صفة درجات الجنة.

(3)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 292)، (5/ 316)، والترمذي (2664) - واللفظ له - انظر صحيح سنن الترمذي (2056) - أبواب صفة الجنة، الباب السابق.

(4)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي بسند صحيح من حديث معاذ. انظر صحيح سنن الترمذي (2055) - أبواب صفة الجنة. وسلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (921).

ص: 37

وقوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} .

أي: جنات إقامة تتخللها الأنهار ماكثين فيها أبدًا، وهو جزاء من تزكى بالإيمان والعمل الصالح، فطهَّر نفسه من الشرك وعمله من الرياء، وصدق المرسلين وتابعهم على منهاجهم.

77 -

79. قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)}.

في هذه الآيات: وَحْيُ الله تعالى إلى موسى صلى الله عليه وسلم المسير بالمؤمنين ليلًا- للخلاص من قبضة فرعون وبطشه - واختراق البحر بهم، واتباع فرعون وجنوده لهم، وخوضهم في البحر الذي أطبق مياهه عليهم، ليغرق فرعون وجنده بكفرهم.

فقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} .

قال مجاهد: ({يَبَسًا}: يابسًا). وعن ابن عبالس: ({لَا تَخَافُ} من آل فرعون {دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} من البَحْر غرقًا). قال قتادة: (يقول: لا تخاف أن يدركك فرعون من بعدك ولا تخشى الغرق أمامك).

فإنه حين أبى فرعون أن يرسل مع موسى بني إسرائيل، أوحى الله إلى موسى أن يُسري بهم في الليل ويخلّصهم من قبضة فرعون وبطشه، فخرج بهم ليلًا فأصبحوا وليس منهم بمصر لا داع ولا مجيب، فغضب فرعون وأرسل يجمع الجند من أرجاء بلاده ويقول:{إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} (1)، ثم مضى في الجند والعتاد {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} - أي: عند طلوع الشمس. {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} أي: نظر كل فريق إلى الآخر، {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} . ووقف موسى ببني إسرائيل، البحر أمامهم، وفرعون وراءهل، فأوحى الله تعالى إلى موسى:{أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} فضربه: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} أي: كالجبل

(1) انظر سورة الشعراء، الآيات [54 - 63].

ص: 38

العظيم. قال ابن كثير: (وأرسلَ الله الريح على أرض البحر فلفحته حتى صار يابسًا كوجه الأرض، ولهذا قال: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا}، أي: من فرعون، {وَلَا تَخْشَى}، يعني من البحر أن يغرق قومك).

وقوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} .

أي: فلحقهم فرعون بمن معه فخاض وراءهم حين قطعوا البحر، فغشي فرعون وجنده من اليم -أي من البحر- ما غشيهم فغرقوا جميعًا. وسلك فرعون بذلك بقومه طريق الضلال وسبيل أهل النار. قال القاسمي:({فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} أي علاهم منه وغموهم، ما لا يحاط بهوله {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} أي أوردهم الهلاك، بعتوّه وعناده في الدنيا والآخرة. وما هداهم سبيل الرشاد).

80 -

82. قوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}.

في هذه الآيات: يمتن سبحانه وتعالى على بني إسرائيل ببعض النعم الكبيرة، والآلاء الوفيرة، وأعظمها ما كان من نجاتهم من فرعون وجنده أهل الآثام والشرور الخطيرة، وهم ينظرون إلى مصارعهم إذ غرقوا عن آخرهم في صبيحة واحدة، وما نجا منهم أحد. ومواعدة الله موسى وبني إسرائيل إلى جانب الطور الأيمن وتكليمه تعالى موسى وإنزال التوراة والمن والسلوى ليحمدوه تعالى ويعظموه ويتوبوا إليه، وهو الغفار لمن تاب وعمل صالحًا ثم اهتدى.

فقوله: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ} - أي فرعون وجنوده، فقد كانوا يسومونكم سوء العذاب، يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم. فأقر أعينكم برؤية مصارعهم. قال تعالى:{وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} .

ومن ثمَّ فكان من شكر تلك النعمة على بني إسرائيل أن يعظموا التوراة ولا يخالفوا نبيَّ الله موسى، وأن يحمدوا الله دومًا على الخلاص من ذلك الطاغية الفاجر.

ص: 39

أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: [ما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واليهودُ تصومُ عاشوراء، فسألهم فقالوا: هذا اليومُ الذي أظهر الله فيه موسى على فرعونَ. فقال: نحن أولى بموسى، فصوموه](1).

وفي رواية: [أنتم أحقُّ بموسى منهم فصوموا].

وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدِمَ المدينة، فوجَدَ اليهودَ صِيامًا، يَوْمَ عاشوراء. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يومٌ عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرَّق فرعونَ وقومه، فصامه موسى شُكْرًا، فنحن نصومه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن أحقُّ وأوْلى بموسى منكم. فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرَ بصيامه]. (2) وفي لفظ للبخاري: [قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجّى الله بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى. قال: فأنا أحق بموسى منكم. فصامه وأمَرَ بصيامه].

وفي صحيح البخاري عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: [كانَ يوم عاشوراء تعدُّه اليَهود عيدًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فصوموه أنتم](3).

وقوله: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} .

وذلك بعد هلاك فرعون، فقد واعد الله تعالى موسى وبني إسرائيل إلى جانب الطور الأيمن، فكلّم موسى وأعطاه التوراة، وهناك سأل موسى الرؤية، وسقط بنو إسرائيل أثناء ذلك في عبادة العجل.

وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} . أي: رحمة من الله تعالى بهم، فيأخذون حاجتهم إلى الغد. والمنّ: حلوى كانت تنزل عليهم من السماء. والسَّلوى: طائر يسقط عليهم. وهذا امتنان عظيم من الله سبحانه على بني إسرائيل وآية من آيات الثبات على الحق ولكن أكثرهم لا يعلمون.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم - (2004)، كتاب الصوم، وأخرجه كذلك برقم (4680)، (4337)، ورواه مسلم في الصحيح (1130) ح (127)، وأخرجه أبو داود (2444)، وأحمد (1/ 291) وغيرهم.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (1130) ح (128)، كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (2005) - كتاب الصوم - باب صوم يوم عاشوراء.

ص: 40

وقوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} .

قال ابن عباس: ({وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ} يقول: ولا تظلموا). وقال قتادة: {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} يقول: فينزل عليكم غضبي).

قال القرطبي: ({كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي من لذيذ الرزق. وقيل: من حلاله إذ لا صنع فيه لآدمي فتدخله شبهة). وقال ابن كثير: ({وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ}، أي: كلوا من هذا الذي رزقتُكم، ولا تطغوا في رِزقي فتأخذوه من غير حاجة، وتخالفوا ما آمركم به). وقوله: {فَيَحِلَّ} منصوب بالفاء في جواب النهي. وقرأها الأعمش: {فَيَحِلَّ} ، {وَمَنْ يَحْلِلْ} من الحلول أي الوقوع. وهي بالكسر {فَيَحِلَّ} من حلَّ يحِلّ إذا وجب وهما قراءتان والكسر أشهر.

وقوله: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} . قال ابن عباس: (أي فقد شقي). وقال الزجاج: (فقد هلك).

وقوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} .

هو باب عظيم من أبواب رحمة الله تعالى فتحه لعباده إلى قبيل قيام الساعة، فكل من تاب من ذنبه مهما كان -من الشرك حتى الصغائر- وأتبعه بالعمل الصالح وثبت على الإيمان، فإنه سيصير بإذن الله إلى المغفرة والجنان.

وعن ابن عباس: ({ثُمَّ اهْتَدَى} يقول: لم يشكُك). وقال قتادة: (يقول: ثم لزم الإسلام حتى يموت عليه). وعن الربيع بن أنس: ({ثُمَّ اهْتَدَى} قال: أخذ بسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم). وقال ابن زيد: (أصحاب العمل). وقال سعيد بن جبير: (أي: استقام على السنة والجماعة).

قلت: وجميعها تفيد المعنى وتزيده وضوحًا وجلاء وتكشف آفاقه وأبعاده.

89 -

83. قوله تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ

ص: 41

مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)}.

في هذه الآيات: قدوم موسى لميقات ربه، وإضلال السامري بني إسرائيل بعبادة العجل، ورجوع موسى غضبان أسفًا محذرًا قومه عبادة من لا يملك لهم ضرًا ولا نفعًا.

فقوله تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى} .

أي: وأيّ شيء أعجلك عن قومك يا موسى، فتقدمتهم وخلفتهم وراءك.

فإنه بعد هلاك فرعون، مضى موسى ببني إسرائيل:{فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 138 - 139]. وواعده ربه ثلاثين ليلة ثم أتمّها بعشر، واختار من قومه سبعين رجلًا لميقات ربه - كما مر في سورة الأعراف.

قال النسفي: (مضى معهم إلى الطور على الموعد المضروب ثم تقدمهم شوقًا إلى كلام ربه وأمرهم أن يتبعوه، قال الله تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ} أي: أيّ شيء أوجب عجلتك؟ استفهام إنكار، وما مبتدأ وأعجلك الخبر).

وقوله تعالى: {قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} .

قال ابن جرير: (يقول: قومي على أثري يَلْحقون بي. يقول: وعجلت أنا فسبقتهم رب، كيما ترضى عني).

وقوله تعالى: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} .

أي: فإنا ياموسى قد ابتلينا قومك من بعدك بعبادة العجل الذي دعاهم إليه السامري، فأطاعوه حين استخفهم بذلك، وعصوا أمرك وأمر أخيك هارون وركبوا الأهواء.

وقوله: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} . أي: يجمع بين الغضب والحزن على ما صدر. قال ابن عباس: (يقول: حزينًا). وقال قتادة: (أي حزينًا على ما صنع قومه من بعده).

ص: 42

وقوله: {قَالَ يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} . قال القرطبي: (وعدهم عز وجل الجنة إذا أقاموا على طاعته، ووعدهم أن يسمعهم كلامه التوراة على لسان موسى، ليعملوا بما فيها فيستحقوا ثواب عملهم. وقيل: وعدهم النصر والظفر. وقيل: وعده قوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ} الآية).

وقوله: {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} . أي: فهل نسيتم بسبب طول العهد وحصلت الغفلة.

وقوله: {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} .

قال النسفي: (أي أردتم أن تفعلوا فعلًا يجب به عليكم الغضب من ربكم: {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} وعدوه أن يقيموا على أمره وما تركهم عليه من الآيات فأخلفوا موعده باتخاذ العجل).

وقوله: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} . قال ابن عباس: (بأمرنا). وقال قتادة: (بطاقتنا).

وقال ابن زيد: (يقول: بهوانا، قال ولكنه جاءت ثلاثة، قال ومعهم حلي استعاروه من آل فرعون وثياب).

قال الزمخشري: (أي ما أخلفنا موعدك، بأن ملكنا أمرنا. أي لو ملكنا أمرنا، وخلينا وراءنا، لما أخلفناه. ولكن غلبنا من جهة السامري وكيده).

والمقصود: اعتراف منهم بالضعف وحصول الخطأ، والوقوع في الفتنة.

وقوله: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} .

أي: حملنا أثقالًا وأحمالًا من حلي القبط - قوم فرعون -، وهو حليُّ نسائهم {فَقَذَفْنَاهَا} أي في النار لسبكها فكان هذا إلقاء السامري.

وقوله: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} .

أي: أخرج لهم من تلك الحليّ المذابة عجلًا جسدًا له خوار- أي صوت عجل. والمقصود أنه صنع منه شكل عجل يخور كما يخور العجل وجعل فيه منافذ ومخارق، بحيث تدخل فيها الرياح فيخرج من جراء ذلك صوت يشبه صوت العجل.

وقوله: {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} .

أي: فقال السامري والضلال الذين افتتنوا به هذا إلهكم وإله موسى نَسِيَه هاهنا

ص: 43

وذهب يتطلَّبه. وعن ابن عباس: ({فَنَسِيَ}، أي: نَسِيَ أن يذكِّركم أن هذا إلهكم).

وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: (فقالوا: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ}، قال: فعكفوا عليه وأحيّوه حبًا لم يحبُّوا شيئًا قطّ يعني مثله، يقول الله: {فَنَسِيَ}، أي: ترك ما كان عليه من الإسلام، يعني السامري).

قلت: وكلها تأويلات محتملة تدل على ضلال السامري ومن اتبعه وانخراطهم في سخافة عبادة العجل، ولذلك سفّه الله أحلامهم وعاب عليهم الجهل الذي وقعوا فيه كما تدل على ذلك الآية الآتية.

وقوله تعالى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} .

أي: أفلا يرون أن العجل الذي عبدوه لا يجيبهم إذا سألوه أو خاطبوه ولا يملك لهم في دنياهم ولا في أخراهم ضرًا ولا نفعًا. قال ابن عباس: (لا والله ما كان خُوارُه إلا أن يدخُلَ الريح في دُبره فيخرج من فيه، فَيُسمَع له صوتٌ).

95 -

98. {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)}.

في هذه الآيات: نصيحة هارون لبني إسرائيل بطاعة الرحمان عز وجل وعدم السقوط في هذه الوثنية القبيحة، وإصرار القوم على أمرهم، ورجوع موسى مؤنبًا هارون، وحواره مع السامري وتوعده له، وتأكيده لقومه أن إلههم الحق هو الله الذي لا إله غيره قد وسع كل شيء علمًا.

ص: 44

فقوله: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ} . هو تحذير هارون لعبدة العجل من بني إسرائيل قبل رجوع موسى إليهم. قال السدي: (يقول: إنما ابتليتم به، يقول: بالعجل).

قال ابن جرير: (يقول: إنما اختبر الله إيمانكم ومحافظتكم على دينكم بهذا العجل، الذي أحدث فيهم الخوار، ليعلم به الصحيح الإيمان منكم من المريض القلب الشاك في دينه).

وقوله: {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} .

أي: وإن ربكم الرحمان خالق كل شيء ومليكه، وهو وحده المستحق للعبادة، فاتبعوني فيما آمركم به واجتنبوا ما أنهاكم عنه.

وقوله تعالى: {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا} .

هو من عِنَادِ ضُلَّالِ بني إسرائيل. قال ابن كثير: (أي: لا نترك عبادته حتى نسمع كلام موسى فيه. وخالفوا هارونَ في ذلك وحاربوه، وكادوا أن يقتلوه).

وقوله تعالى: {قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} .

قال ابن عباس: (لما قال القوم: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} أقام هارون فيمن تبعه من المسلمين ممن لم يُفتتن، وأقام من يعبد العجل على عبادة العجل، وتخوّف هارون إن سار بمن معه من المسلمين أن يقول له موسى {فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} وكان له هانبًا مطيعًا).

والمعنى: لما رجع موسى ورأى ما وقع به القوم من الفتنة امتلأ غيظًا وألقى ما كان بيده من الألواح الإلهية، وراجعهم في ذلك وعاتبهم، ثم أخذ برأس أخيه هارون يستخبر منه: أي شيء منعك إذ رأيتهم ضلوا عن دينهم ألا تتبعني فتخبرني بالأمر أوّل ما وقع.

وعن ابن جريج: (قوله: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ} قال: أمر موسى هارون أن يصلح، ولا يتبع سبيل المفسدين، فذلك قوله:{أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} بذلك).

ص: 45

وقوله تعالى: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} .

في الكلام محذوف، والتقدير: ثم أخذ موسى بلحية أخيه هارون ورأسه يجرّه إليه. فاعتذر إليه هارون أن تأخر عليه ولم يلحقه فيخبره خشية أن يقول له موسى: لم تركتهم وحدهم وفرقت بينهم {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} .

قال ابن عباس: ({وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}: لم تحفظ قولي).

قال ابن كثير: (- في قوله -: {يَبْنَؤُمَّ}، ترفَّقَ له بذكر الأمِّ، مع أنه شقيقُه لأبوَيه، لأنّ ذكر الأم هاهنا أرَو وأبلَغ في الحنوَّ والعَطْف).

وقوله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ} . هو قول موسى للسامري: أن ما شأنك وما الذي دعاك إلى ما صنعت. قال ابن زيد: (ما أمرك؟ ما شأنك؟ ما هذا الذي أدخلك فيما دخلت فيه). وقال السدي: (ما لك يا سامري).

وقوله: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ} . أي علمت أمرأ لم يعلموه فصرت به بصيرًا.

وقوله: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} .

قال ابن عباس: (قبض قبضة منه من أثر جبريل، فألقى القبضة على حليهم فصار عجلًا جسدًا له خوار، فقال: هذا إلهكم وإله موسى).

وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال:(لما قذفت بنو إسرائيل ما كان معهم من زينة آل فرعون في النار، وتكسّرت ورأى السامريّ أثر فرس جبرئيل عليه السلام، فأخذ ترابًا من أثر حافره (1)، ثم أقبل إلى النار فقذفه فيها. وقال: كن عجلًا جسدًا له خوار، فكان للبلاء والفتنة).

وقال ابن زيد: ({وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} قال: كذلك حدثتني نفسي). أي: زينت لي نفسي. قلت: والمقصود أن الله تبارك وتعالى أراد ما كان من التقاء التراب من أثر حافر فرس جبريل، مع الحليّ في النار ليخرج من ذلك عجل له خوار ليفتتن الناس به ويمتحنوا في صدق إيمانهم بالله. وهذا كما يحصل اليوم من خرق العادة على يد

(1) قيل: رأى السامري أثر جبريل يوم فلق البحر، وقيل: وقت ذهابه بموسى إلى الطور. والله أعلم.

ص: 46

بعض الناس الذين يتعاملون مع الجن، فيكون منهم بإذن الله ما يفتن الناس، فيثبت الصادق على دينه ويسقط المنافق.

وقوله: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ} .

قال ابن كثير: (أي: كما أخَذْت ومَسِسْتَ ما لم يكن لك أخذُه ومسُّه من أثر الرسول، فعقوبتك في الدنيا أن تقولَ: لا مِسَاسَ، أي: لا تُماسَّ الناسَ ولا يمسُّونك).

وعن قتادة: ({أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ} قال: عقوبةٌ لهم، وبقاياهم اليوم يقولون: لا مسَاس).

قلت: والمقصود عقوبة السامري أن لا يَمسّ ولا يُمَسّ، والمراد منعه من الناس ومخالطتهم.

وقوله: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ} . قال الحسن: (لن تغيب عنه). والمراد: يوم القيامة.

وقوله: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} .

أي: وانظر إلى ذلك العجل الذي أقمت على عبادته لنحرقنه بالنار قطعة قطعة، ثم لنذرينه في البحر تذرية يغيب معها ذلك الوثن.

قال ابن عباس: ({ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} الذي أقمت عليه. {لَنُحَرِّقَنَّهُ} فحرّقه ثم ذراه في اليم). وقال: ({ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} يقول: لنذرينه في البحر). قال: (واليمّ: البحر).

وقوله تعالى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} .

هو من قول موسى لقومه. أي: ما لكم أيها القوم من إله إلا الله، فهو وحده الذي تصلح العبادة له. قال قتادة: ({وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} يقول: ملأ كل شيء علمًا تبارك وتعالى.

ونصب {عِلْمًا} على التمييز، أي هو عالم بكل شيء، كما قال سبحانه:{أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]. وكقوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59].

وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ص: 47

يقول: [كتبَ الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعَرْشُه على الماء](1).

99 -

104. قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)}.

في هذه الآيات: تسليةٌ من الله تعالى لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم في ذكره أخبار ما سبق، وأنَّ من أعرض عن قبول هذا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة يحمل إثمًا عظيمًا. وفي النار يكون من الخالدين، فبئس الحمل وبئس المستقر. إنه يوم ينفخ في القَرْن نفخة القيام تحشر الملائكة المجرمين يومئذ زرق العيون من شدة الأهوال، فيقول بعضهم لبعض ما لبثتم في الدنيا إلا قليلًا، عشرة أيام أو نحوها. فيقول أوفاهم عقلًا بل لبثتم يومًا واحدًا.

فقوله تعالى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} .

قال القرطبي: (أي كما قصصنا عليك خبر موسى {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ} قصصًا كذلك من أخبار ما قد سبق، ليكون تسلية لك، وليدل على صدقك. {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} يعني القرآن. وسمى القرآن ذكرًا، لما فيه من الذكر كما سمى الرسول ذكرًا، لأن الذكر كان ينزل عليه. وقيل: {آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} أي شرفًا، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ} [الزخرف: 44] أي شرف وتنويه باسمك).

وقوله تعالى: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} . قال مجاهد: (إثمًا). والمعنى: من تولى وأدبر عن قبول هذا القرآن وجعله منهجًا له في حياته فإنه يأتي يوم القيامة يحمل إثمًا عظيمًا.

وقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} أي: خالدين في النار بأوزارهم فبئسما حملوا. قال ابن عباس: ({وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} يقول: بئسما حملوا. قال:

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2653) - كتاب القدر، وبنحوه في مسند أحمد بلفظ (قَدَّرَ الله المقادير)، وفي معجم الطبراني بلفظ:(فرغ الله من المقادير وأمور الدنيا).

ص: 48

يعني بذلك: ذنوبهم). أي بئس الحمل حملهم الذي آل بهم إلى الخلود في العذاب.

وقوله تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} .

أي: يوم يَنْفُخُ إسرافيل في الصور نفخة الفزع ثم الصعق ثم نفخة القيام بين يدي رب العالمين للحساب والجزاء، وتحشر الملائكة المجرمين يومئذ زرق العيون من شدة ما هم فيه من الأهوال.

والصور قرْن ينفخ إسرافيل فيه بأمر الله تعالى، وما زال يحمله ينتظر إشارة الأمر له بذلك.

ففي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[الصور قَرْنٌ يُنْفَخُ فيه](1).

وأخرج الإمام أحمد والترمذي بسند حسن عن ابن عباس في قوله: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كيف أنعمُ وصاحب القَرْن قد التقم القرن وحنى جبهته، يسمع متى يؤمر فينفخ؟ فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما نقول؟ قال: قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا](2).

وقوله تعالى: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} .

قال ابن عباس: ({يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ} يتسارون بينهم). أي: يقول بعضهم لبعض: ما لبثتم في الدنيا إلا قليلًا. عشرة أيام أو نحوها.

وقوله تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} .

قال شعبة: ({أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً}: أوفاهم عقلًا). وقال ابن كثير: ({نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} ، أي: في حال تناجيهم بينهم، {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} ، أي: العاقل الكامل فيهم، {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} ، أي: لِقِصَر مُدَّةِ الدنيا في أنفسهم يوم المعاد، لأن الدنيا كُلَّها وإن تكررت أوقاتها وتعاقَبَت لياليها وأيامُها وساعاتُها كأنها يومٌ واحِدٌ، ولهذا يستقصر الكافوون مدة الحياة الدنيا يوم القيامة. وكان غرضهم في ذلك دَرْءَ قيام

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4742) - كتاب السنة - باب في ذكر البعث والصور. وأخرجه الترمذي (3243)، (3244)، وأحمد (2/ 312)، وصححه ابن حبان (7312)، والحاكم (2/ 436)، وكذا الذهبي. وانظر صحيح سنن أبي داود (3968).

(2)

حديث حسن. أخرجه أحمد (3/ 7)، (3/ 73)، والترمذي (2431)، والحاكم (4/ 559).

ص: 49

الحجة عليهم، لقِصَر المدَّة، ولهذا قال تعالى:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الروم: 55 - 56]. وقال تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37]. وقال تعالى: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 112 - 114]. أي: إنما كان لُبثكم فيها قليلًا، ولو أنكم كنتم تعلمون لآثرتم الباقي على الفاني، ولكن تصَرَّفتم فأسأتُم التصرَّف، قَدَّمتم الحاضِرَ الفاني على الدائم الباقي).

105 -

112. قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)}.

في هذه الآيات: نَسْفُ الله الجبال يوم القيامة فلا منخفض ولا مرتفع، واتباع الناس صوت داعي الله إلى موقف الحشر مسرعين لا انحراف لهم عنه، وسكون الأصوات لله تعالى من هيبة الموقف، والشفاعة لا تكون إلا بإذن الله العليم الحكيم، الذي خشعت له الوجوه وقد خسر من حمل ظلمًا، وربح المؤمن فلا يخاف لعمله هضمًا.

فقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: ويسألك يا محمد قومك عن الجبال، فقل لهم: يذريها ربي تذرية، ويطيرها بقلعها واستئصالها من أصولها، ودكّ بعضها على بعض، وتصييره إياها هباء منبثًا).

وقوله: {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا} . قال ابن عباس: (يقول: مستويًا لا نبات فيه). وقال ابن زيد: (الصفصف: المستوي). والمقصود أنه سبحانه يذهب الجبال يوم

ص: 50

القيامة عن أماكنها ويمحقها ويُسيرها ويذر الأرض بساطًا واحدًا. قال ابن كثير: (القاع: هو المستوي من الأرض. والصفصف تأكيدٌ لمعنى ذلك. وقيل: الذي لا نبات فيه. والأول أولى. وإن كان الآخر مُرادًا أيضًا باللازم).

وقوله: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} . أي: لا ترى يومئذ في الأرض منخفضًا ولا مرتفعًا، ولا واديًا ولا محدّبا. قال ابن عباس:({لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} يقول: واديًا، ولا أمتًا: يقول: رابية). وعن مجاهد: ({لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} قال: ارتفاعًا، ولا انخفاضًا).

وقوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ} . أي: يومئذ يتبع الناس صوت داعي الله إلى موقف الحشر مسرعين لا انحراف لهم عنه. قال القاسمي: (أي يجيبونَ الداعي إلى المحشر، فينقلبون من كل صوب إليه). وقال النسفي: ({لَا عِوَجَ لَهُ} أي لا يعوج له مدعو، بل يستوون إليه من غبر انحراف متبعين لصوته).

وقوله: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} . أي: سكنت الأصوات لله تعالى من هيبة الموقف فلا كلام لأحد إلا من أذن الله له قولًا.

قال ابن عباس: ({وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ}، يقول: سكنت. {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} قال: وطء الأقدام). أو قال: (همس الأقدام، وهو الوطء). وفي رواية قال: (يقول: الصوت الخفي). وعن مجاهد: ({هَمْسًا} قال: خفض الصوت. أو قال: تخافتًا، قال: كلام الإنسان لا تسمع تحرّك شفتيه ولسانه). وقال ابن جريج: (هو صوت وقع الأقدام بعضها على بعض إلى المحشر). وعن سعيد بن جبير: ({فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} قال: الحديث وسره، وَوَطْء الأقدام).

وخلاصة المعنى: وسكنت الأصوات وذلّت يومئذ للرحمان هيبة وإجلالًا، فلا تسمع إلا صوتًا خفيفًا لتحريك الشفاه أو وقع الأقدام لتأخذ أماكنها في أرض المحشر.

وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} .

أي: لا يستطيع أن يتقدم - يومئذ - بالشفاعة أحد إلا أن يأذن الله تعالى لمن يشاء ويرضى.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23].

ص: 51

2 -

وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255].

3 -

وقال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38].

4 -

وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26].

وفي الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض، فيأتون آدم فيقولون: اشفع إلى ربك، فيقول: لست لها ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن. فيأتون إبراهيم فيقول: لست لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله. فيأتون موسى فيقول: لست لها ولكن عليكم بعيسى فإنه روح الله وكلمته. فيأتون عيسى فيقول: لست لها ولكن عليكم بمحمد. فيأتوني فأقول: أنا لها فأستأذن على ربي فيؤذن لي ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد وأخرّ له ساجدًا. فيقال: يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع. فأقول يا رب أمتي أمتي. فيقال: انطلق فأخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخزُ له ساجدًا فيقال: يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخرُّ له ساجدًا فيقال: يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع. فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردلة من إيمان فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل. ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخرُّ له ساجدًا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع، فأقول: يا رب! ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله! قال: ليس ذلك لك، ولكن وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله](1).

وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا:

[حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده! ما مِنْ أحَدٍ منكم بأشَدَّ

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في "التوحيد" من حديث أنس، انظر: مختصر صحيح البخاري - حديث رقم - (2133)، وأخرجه مسلم في الإيمان (193).

ص: 52

مُنَاشدةً لله في استيفاء الحق، من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون: رَبَّنا كانوا يصومون معنا وَيُصَلُّون ويَحُجُّون، فيقال لهم: أخرجوا مَنْ عَرَفْتُمْ -فَتُحَرَّمُ صُوَرُهم على النار- فَيُخرجونَ خَلْقًا كثيرًا قَدْ أَخذتِ النارُ إلى نِصْفِ ساقيه وإلى رُكبَتَيْه. ثم يقولون: ربَّنا! ما بقَيِ فيها أحدٌ مِمَّنْ أَمَرْتنا به. فيقول: ارجِعوا، فَمَنْ وَجَدْتُم في قلبه مثقالَ دينارٍ مِنْ خيْرٍ فأخرِجوه، فَيُخْرِجون خَلْقًا كثيرًا، ثم يقولون: رَبَّنا! لم نَذرْ فيها أحدًا مِمَّنْ أمَرْتَنا به. ثم يقول: ارجعوا، فَمَنْ وَجَدتُمْ في قلبه مِثْقَالَ نصفِ دينارٍ مِنْ خير فَأَخْرِجوه، فَيُخرجونَ خلقًا كثيرًا، ثم يقولون: رَبَّنا! لمْ نَذَرْ فيها مِمَّنْ أمَرْتنا أحدًا، ثم يقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذَرَّةٍ من خيرٍ فأخرجوه، فيخرجون خَلْقًا كثيرًا، ثم يقولون: رَبَّنا لم نَذَرْ فيها خيرًا. فيقول الله تعالى: شَفَعَت الملائكةُ وشَفَعَ النبيونَ وشفعَ المؤمنون، ولم يَبْقَ إلا أرحَمُ الراحمين، فَيَقْبضُ قَبْضَةً من النار فَيُخرجُ منها قومًا لم يعملِوا خيرًا قطُّ، قد عادوا حُمَمًا فَيُلْقِيهم في نَهْرٍ في أفواهِ الجنة يقال له نَهْرُ الحياة، فيَخْرجُونَ كما تخْرُجُ الحبَّةُ في حميل السَّيل .......... ] الحديث (1).

وقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} .

قال قتادة: ({يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من أمر الساعة {وَمَا خَلْفَهُمْ} من أمر الدنيا).

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: يعلم ربك يا محمد ما بين أيدي هؤلاء الذين يتبعون الداعي من أمر القيامة، وما الذي يصيرون إليه من الثواب والعقاب {وَمَا خَلْفَهُمْ} يقول: ويعلم أمر ما خلفوه وراءهم من أمر الدنيا).

وقال النسفي: ({وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} أي بما أحاط به علم الله). أي لا يحيط الخلق بربهم علمًا، بل الله تعالى قد أحاط بكل شؤون خلقه علمًا.

وقوله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} . قال ابن عباس: (يقول: ذلت).

وقال مجاهد: (خشعت). وقال ابن زيد: (استأسرت الوجوه للحي القيوم. صاروا أسارى كلهم له. قال: والعاني: الأسير).

والمقصود: خضعت الوجوه يومئذ وذلت، فاستسلمت الخلائق جميعها لجبّارها

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (183) - كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، في أثناء حديث طويل.

ص: 53

الحيّ: الذي لا يموت، القيوم: الذي لا ينام، الذي هو قيِّم على كل شيء بالحفظ والتدبير ولا قِوام لشيء إلا به.

وقوله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} . قال قتادة: (من حمل شركًا). وقال ابن زيد: (الظلم هاهنا: الشرك).

قلت: بل الظلم يشمل عند الإطلاق الشرك والمعاصي وأكل الحقوق والبغي، ومن ثمَّ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، يصيب صاحبه من الخيبة يومئذ حسب مظلمته.

ففي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج: 71].

2 -

وقال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18].

وفي صحيح السنة المطهرة في التخويف من الظلم أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة، واتقوا الشّح فإن الشّحَ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم](1).

الحديث الثاني: خَرّجَ مسلم - كذلك - في الصحيح عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يُقادَ للشاة الجَلْحَاء - التي لا قرن لها - من الشاة القرناء](2).

الحديث الثالث: أخرج البخاري عن أبي هريرة: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: [مَن كانت عِنْدَه مظْلَمَةٌ لأخيه فليتحَلَّلْهُ مِنْها، فإنه ليس ثَمَّ دينارٌ ولا دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أن يُؤْخَذَ لأخيه من حَسناتِه، فإن لم يكنْ له حسناتٌ أُخِذَ من سيئاتِ أخيه فطُرِحت عليه](3).

وفي لفظ: [من كانت له مظلمةٌ لأخيه مِنْ عِرْضِهِ أو شيءٍ فليتحلَّلْهُ منه اليوم قبل أن لا يكون دينارٌ ولا درهم، إنْ كان له عملٌ صالح أُخِذَ منه بقدْرِ مَظْلَمتِهِ، وإنْ لم يكن له حسناتٌ أُخِذَ من سيئات صاحبه فَحُمِلَ عليه].

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (2578) - كتاب البر والصلة.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2582) - كتاب البر والصلة - الباب السابق.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم - (2449) - كتاب المظالم، وأخرجه كذلك (6534) - كتاب الرقاق.

ص: 54

وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} .

أي: ومن يكن في حياته الدنيا على منهج الإيمان والعمل الصالح فإنه يأتي يوم القيامة آمنًا لا يظلم من عمله شيئًا ولا ينقص من حق عمله.

والآية هي الصورة المقابلة للصورة السابقة صورة الظالمين، فإنه تعالى بعد أن ذَكَرَ حالهم ثنّى بذكر المتقين ومآلهم.

قال قتادة: ({وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وإنما يقبل الله من العمل ما كان في إيمان). وعن ابن عباس: ({فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} قال: لا يخاف ابن آدم يوم القيامة أن يظلم، فيزاد عليه في سيئاته، ولا يظلم فيهضم في حسناته).

وعن حبيب بن أبي ثابت قال: (الهضم: الانتقاص). قال قتادة: ({فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} قال: لا يخاف أن يظلم، فلا يجزى بعمله، ولا يخاف أن ينتقص من حقه، فلا يوفى عمله).

وقال الحسن: (لا ينتقص الله من حسناته شيئًا، ولا يحمل عليه ذنب مسيء. وأصل الهضم: النقص).

113 -

114. قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)}.

في هذه الآيات: ثناءُ الله على هذا القرآن العربي المبين، الذي قد فُصِّل فيه الوعد والوعيد فهو ذكرى للذاكرين، فتقدّس الله الملك الحق العليم الحكيم. وأمْرُ الله نبيّه الإنصات لجبريل عند تلاوته القرآن، ثم ليقبل عليه بالحفظ ورجاء الله زيادته في العلم والإيمان.

فقوله: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} . أي بلسان عربي مبين فصيح، وهو لسانكم أيها العرب. قال القرطبي:(أي كما بيّنا لك في هذه السورة من البيان، فكذلك جعلناه {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أي بلغة العرب).

وقوله: {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} . أي خوفناهم فيه بضروب من الوعيد. قال

ص: 55

القاسمي: (أي بعبارات شتى، تصريحًا وتلويحًا، وضروب أمثال، وإقامة براهين).

وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} . قال قتادة: (ما حُذّروا به من أمر الله وعقابه، ووقائعه بالأمم قبلهم).

وقوله: {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} . أي موعظة وتذكرًا، أو مقامًا وشرفًا. قال قتادة:({أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} قال: جِدًا وورعًا. وقد قال بعضهم - معناه -: أو يحدث لهم شرفًا بإيمانهم به).

وقوله: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} . أي تناهى سبحانه في العلو والعظمة، وتنزه وتقدس.

قال ابن كثير: (أي: تَنزَّهَ وتقدَّسَ الملكُ الحق، الذي هو حَقٌّ، ووعده حقٌّ، ووعيده حقٌّ، ورسُله حقٌّ، والجنة حقٌّ، والنار حقٌّ، وكل شيء منه حقٌّ. وعدله تعالى ألا يُعَذَّبَ أحدًا قبل الإنذار وبعثة الرسل والإعذار إلى خَلْقِه، لئلا يبقى لأحدٍ حُجَّةٌ ولا شبهة).

وقوله: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} .

أي: بل أنصت - يا محمد - لجبريل وهو يتلوه عليك، فإذا فرغ الملك من قراءته فاقرأه بعده.

والآية كقوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16 - 19].

قال القاسمي: (وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لَقَّنَهُ جبريل الوحيَ، يتبعه عند تلفط كل حرف وكل كلمة، لكمال اعتنائه بالتلقي والحفظ. فأرشد إلى أن لا يساوقه في قراءته، وأن يتأنَّى عليه ريثما يسمعه ويفهمه. ثم ليقبل عليه بالحفظ بعد ذلك).

قلت: بل ضمن الله تعالى له حفظه في صدره بقوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17]. أي نحن سنجمعه لك في صدرك لئلا تنشغل بعناء حفظه عن مهام الدعوة والجهاد، وإنما تقرأه على الناس من غير أن تنسى منه شيئًا.

فقد أخرج البخاري في صحيحه عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما

ص: 56

قال: [كانَ النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحيُ حَرَّك به لسانَه يريد أن يَحفَظهُ، فأنزل الله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16]] (1).

وفي الباب بعده قال البخاري: حدثنا عُبَيدُ الله بنُ موسى عن إسرائيلَ، عن موسى بن أبي عائشة: أنه سأل سعيد بن جبير عن قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} قال: وقال ابن عباس: [كان يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ إذا أُنزلَ عليه، فقيل له: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} - يخشى أنْ يَتَفَلَّتَ منهُ - {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ}: أن نَجْمَعَهُ في صدرك {وَقُرْآنَهُ} أَنْ تَقْرَأَه، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} يقول: أُنزل عليه {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أن نُبَيّنَهُ على لسانك](2).

وفي رواية قال: [فكان إذا أتاهُ جبريلُ أطْرَقَ، فإذا ذَهَبَ قرأَهُ كما وَعَدَهُ الله]. وقوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} . أي رب زدني علمًا إلى ما علمتني. قال ابن عيينة: (ولم يزل صلى الله عليه وسلم في زيادة العلم حتى توفاه الله عز وجل.

وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك: [أَنَّ الله عز وجل تَابعَ الوَحْيَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته، حتى تُوُفِّيَ، وأكثَرُ ما كان الوحيُ يومَ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم](3).

115 -

122. قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)}.

في هذه الآيات: عهدُالله تعالى إلى آدم ونسيانه، وأمره تعالى الملائكة السجود لآدم

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (4927) - كتاب التفسير- سورة القيامة، آية (16).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4928) - كتاب التفسير، وانظر كذلك (4929) للرواية بعده.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (3016) - كتاب التفسير، وانظر مسند أحمد (3/ 236)، وكذلك النسائي في "فضائل القرآن"(8) من حديث أنس.

ص: 57

وجحود إبليس، وتحذير الله آدم وزوجته عداوته، ووسوسة الرجيم لهما حتى أكلا من الشجرة وبدت سوآَتهما، والتماس آدم التوبة من ربه حتى تاب عليه وهدى.

فقوله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} . قال مجاهد: (ترك أمر ربّه).

وعن ابن عباس قال: (إنما سُمَّيَ الإنسان لأنه عُهِدَ إليه فنسي).

والمقصود: لقد وصينا آدم من قبل وجود هؤلاء أن لا يقرب الشجرة فخالف إلى ما نُهِيَ عنه. وهكذا النسيان في ذرية آدم وحدوث الغفلة، فأساس أمر بني آدم قائم على ذلك. وإنما خير الخطائين التوابون.

وقوله: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} . قال قتادة: (صبرًا). وقال عطية: (حفظًا لما أمرته به).

وقال ابن زيد: ) العزم: المحافظة على ما أمره الله تبارك وتعالى بحفظه، والتمسك به).

وقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} .

أي امتنع واستكبر. وكان ذلك الأمر من الله لملائكته بالسجود لآدم تشريفًا له وتكريمًا - كما مضى في سورة البقرة -. وإنما اعتز إبليس بخلقة النار، واستوهن خلق الصلصال، واعترته الحمية، وغلبت عليه الشقوة.

وقوله تعالى: {فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} .

قال الحسن: ({فَتَشْقَى} شقاء الدنيا، لا يُرى ابن آدم إلا ناصبًا).

أي: هذا الشيطان - يا آدم - عدو لك ولزوجك حواء عليهما السلام حيث لم يسجد لك ولم ير فضلك، وأظهر لك العداوة والحسد، فلا يكون سببًا لإخراجكما من الجنة.

قال النسفي: ({فَتَشْقَى} فتتعب في طلب القوت، ولم يقل فتشقيا مراعاة لرؤوس الآي، أو دخلت تبعًا، أو لأن الرجل هو الكافل لنفقة المرأة). وقال القرطبي: (وإنّما خصّه بذكر الشقاء ولم يقل فتشقيان: يعلمنا أن نفقة الزوجة على الزوج، فمن يومئذ جرت نفقة النساء على الأزواج).

ص: 58

وقوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} .

أي: إن لك في الجنة: الكسوة والطعام والشراب والمسكن، فاحذر من التفريط في ذلك.

وعن ابن عباس: ({وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} يقول: لا يصيبك فيها عطش ولا حرّ). أو قال: (يقول: لا يصيبك حرّ ولا أذى). وقال سعيد بن جبير: (لا تصيبك الشمس). قال القرطبي: (أعلمنا في هذه الآية: أن النفقة التي تجب للمرأة على زوجها هذه الأربعة: الطعام والشراب والكسوة والمسكن، فإذا أعطاها هذه الأربعة فقد خرج إليها من نفقتها، فإن تفضل بعد ذلك فهو مأجور، فأما هذه الأربعة فلا بد لها منها، لأن بها إقامة المهجة).

وقوله تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} .

قال قتادة: (يقول: فألقى إلى آدم الشيطان وحدّثه. يقول: قال له: هل أدلك على شجرة إن أكلت منها خلدت فلم تمت، وملكت ملكًا لا ينقضي فيبلى).

وقوله: {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: فأكل آدم وحوّاء من الشجرة التي نُهيا عن الأكل منها، وأطاعا أمر إبليس، وخالفا أمر ربهما {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} يقول: فانكشفت لهما عوراتهما، وكانت مستورة عن أعينهما).

قلت: وفي الآية دليل أن موافقة إبليس تفضي إلى ظهور العورة والعيوب، وكشف الستر والفضيحة، وما فيه أذى على النفوس وفي واقع الحياة.

وقوله: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} . أي أقبلا يغطيان عليهما من ورق شجر الجنة. قال قتادة: (يقول: يوصلان عليهما من ورق الجنة).

وقوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} . أي: ففسد عليه عيشه بنزوله إلى الدنيا. وقيل معناه: جهل موضع رشده، وسلامة أمنه واستقراره. والغيّ الجهل.

أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [حاجَّ موسى آدم فقال له: أنتَ الذي أخْرَجْتَ الناسَ من الجنة بذنبكَ فأشقيتَهُم؟ قال آدمُ: يا موسى أنت

ص: 59

الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، أتلومني على أمْرٍ كتبه الله عليَّ قبلَ أن يَخْلُقني؟ أوْ قَدَّرَهُ عليَّ قبل أن يخلقني؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَحجَّ آدم موسى] (1).

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [احتجَّ آدم وموسى عليهما السلام عند رَبِّهما، فحَجَّ آدمُ موسى، قال موسى: أنت آدمُ الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكتَهُ، وأسْكَنَكَ في جنَّتهِ، ثم أهْبَطْتَ الناس بخطيئتكَ إلى الأرض؟ قال آدم عليه السلام: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاكَ الألواح فيها تِبْيانُ كل شيءً، وقَرَّبَكَ نَجِيًّا، فبكم وجدتَ الله كتبَ التوراةَ قبِل أن أُخْلَقَ؟ قال موسى: بأربعين عامًا. قال آدم: فهل وجدت فيها: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}. قال: نعم. قال: أفتلومني علًى أن عملتُ عملًا كتبهُ الله على أن أعْمَلَهُ، قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحَجَّ آدمُ موسى](2).

وقوله تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} .

قال ابن جرير: (يقول: اصطفاه ربه من بعد معصيته إياه فرزقه الرجوع إلى ما يرضى عنه، والعمل بطاعته، وذلك هو كانت توبته التي تابها عليه. وقوله {وَهَدَى} يقول: وهداه للتوبة، فوفَّقَهُ لها).

123 -

126. قوله تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)}.

في هذه الآيات: هبوط آدم وحواء وإبليس إلى الأرض بأمر الله، وإرسال الله الرسل والأنبياء للبيان والهدى، وضمانه تعالى للمؤمنين السعادة في الدارين، وللمعرضين عن هديه وذكره الشقاء في الدارين.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4738) - كتاب التفسير، سورة طه، آية (117). وأخرجه البخاري (6614)، ومسلم (2652)، وأحمد (2/ 248)، وبعض أهل السنن.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2652) ح (15) - كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى صلى الله عليهما وسلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 60

فقوله: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} .

هو كقوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة: 38]، . يعني آدم وحواء وإبليس.

قال ابن كثير: ({بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}، قال: آدم وذرَّيته، وإبليس وذريته).

وقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} . قال أبو العالية: (الأنبياء والرسل والبيان).

وقال القرطبي: (يعني الرسل).

وقوله: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} . قال ابن عباس: (لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة). وقال ابن عباس: (ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه، ألا يضلّ في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، وتلا الآية). وعنه قال: (من قرأ القرأن واتبع ما فيه هداه الله من الضلالة، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب، ثم تلا الآية).

وقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} .

قال ابن عباس: (يقول: الشقاء). وقال مجاهد: ({ضَنْكًا}: ضيقة). وقال قتادة: (الضنك: الضيق). قال ابن كثير: (قوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي}، أي: خالَف أمري وما أنزلته على رسولي، أَعْرَضَ عنه وتناساه وأخذ من غير هداه، {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}، أي في الدنيا، فلا طمأنينة له، ولا انشراحَ لصدره، بل صَدْرُهُ ضَيّقٌ حَرجٌ لضلاله، وإن تَنَعَّمَ ظاهره، ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلُص إلى اليقين والهدى، فهو في قلقٍ وحيرة وشك. فلا يزال في ريبة يتردَّد، فهذا من ضَنْكِ المعيشة). وبعض المفسرين ذهب إلى أن المعيشة الضنك في عذاب القبر، وجعلوا هذه الآية أحَد الأدلة على عذاب القبو. قلت: والآية تعمّ في عمومها شقاء الدنيا وحياة البرزخ.

وقوله: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} . قال مجاهد: (يحشر أعمى البصر). وقال أبو صالح: ليس له حجة). قال ابن جرير: (والصواب من القول في ذلك ما قال الله تعالى ذكره، وهو أن يحشر أعمى عن الحجة ورؤية الشيء كما أخبر جلّ ثناؤه، فعمّ ولم يخصص)(1).

(1) قلت: وقد يراد أن الكافر يحشر أعمى، ثم يبصر مقعده في جهنم فيكون أعمى في حال المحشر وبصيرًا فيما بعده. والله تعالى أعلم.

ص: 61

وفي التنزيل نحو ذلك: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: 97].

وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} .

قال القرطبي: (بأي ذنب عاقبتني بالعمى. {وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} أي في الدنيا، وكأنه يظن أنه لا ذنب له).

وقوله تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} .

قال قتادة: (نسي من الخير، ولم ينس من الشر). وقال مجاهد: (وكذلك اليوم تترك في النار). والمقصود مقابلة الجزاء للعمل، فإن تناسي آيات الله وحججه وأوامره في الدنيا يقابله يوم القيامة تناسي صاحبه في عذاب جهنم.

أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة، وعن أبي سعيد قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يُؤتى العبد يوم القيامة فيقول له: ألمْ أجعلْ لك سمعًا وبصرًا ومالًا وولدًا وسَخَّرْت لك الأنعام والحرثَ، وتركتك تَرْأَسُ وتَرْبَعُ فكنتَ تَظُنُّ أنَّكَ ملاقِيَّ يَوْمَكَ هذا؟ فيقول: لا. فيقول له: اليومَ أنساك كما نسيتني](1).

قال أبو عيسى: (ومعنى قوله: "اليوم أنساك كما نسيتني": اليوم أتركك في العذاب، وكذا فسَّر بعض أهل العلم هذه الآية: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ} [الأعراف: 51] قالوا: معناه: اليوم نتركهم في العذاب).

وأصله في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: [فيلقى العبدَ فيقول: أي فُلْ (2)! ألم أكرِمْكَ وأُسَوِّدْك وأُزَوِّجْكَ وأسخِّر لك الخيلَ والإبل وأَذَرْكَ تَرْأَسُ وتَرْبَعُ؟ فيقول: بلى أي ربِّ، قال: فيقول: أَفَظَنَنْتَ أنَّك ملاقيَّ؟ فيقول: لا. فيقول: فإني أنساك كما نسيتني](3).

127 -

130. قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2558)، أبواب صفة القيامة. انظر صحيح الترمذي (1978).

(2)

معناه: يا فلان، وهو ترخيم على خلاف القياس.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (8/ 216)، كتاب التوبة وقبولها، من حديث أبي هريرة. وانظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (1932).

ص: 62

الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)}.

في هذه الآيات: ترتيبُ الله المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره، ولعذاب الآخرة أشد ألمًا وأدوم زمانًا. وتنبيهه تعالى على حال الأمم التي زلزلها بآثامها لتكون عبرة وبيانًا. واستحقاق مشركي العرب العذاب لكن قد جعل الله لذلك أجلًا وزمانًا ومكانًا. وحثُّ الله نبيّه على الصبر والتسبيح قبل طلوع الشمس وقبل غروبها والأخذ من الليل والنهار قنوتًا وقيامًا.

فقوله: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ} . أي: من العذاب الضنك في الدنيا والبرزخ. قال ابن القيم في "الجواب الكافي": (وفسّرت المعيشة الضنك بعذاب القبر، ولا ريب أنه من المعيشة الضنك. والآية تتناول ما هو أعمّ منه، وإن كانت نكرة في سياق الإثبات، فإن عمومها من حشا المعنى. فإنه سبحانه رتّب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره. فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه، وإن تنعم في الدنيا بأوصاف النعم، ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب، والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه. وإنما تواريه عنه سكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة، إن لم ينضم إلى ذلك سكر الخمر. فسكر هذه الأمور أعظم من سكر الخمر. فإنه يفيق صاحبه، ويصحو. وسكو الهوى وحب الدنيا لا يصحو صاحبه إلا إذا سكر في عسكر الأموات. فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا وفي البرزخ ويوم المعاد. ولا تقرّ العين ولا يهدأ القلب ولا تطمئن النفس إلا بإلهها ومعبودها الذي هو حق، وكل معبود سواه باطل، فمن قرّت عينه بالله، قرّت به كلُّ عين. ومن لم تقر عينه بالله، تقطعت نفسه على الدنيا حسرات).

وفي التنزيل: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [الرعد: 34].

ص: 63

وأخرج الطبراني في "الصغير" بسند صحيح عن البراء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ما اختلج عرق ولا عينٌ إلا بذنب، وما يدفع الله عنه أكثر](1).

وقوله: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} . أي أشد ألمًا وأدوم زمانًا.

وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} .

قال النسفي: (يريد أن قريشًا يمشون في مساكن عاد وثمود وقوم لوط ويعاينون آثار هلاكهم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} لذوي العقول، إذا تفكروا علموا أن استئصالهم لكفرهم فلا يفعلون مثل ما فعلوا).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].

2 -

وقال تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)} [العنكبوت: 40].

3 -

وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)} [السجدة: 26].

وخلاصة المعنى: أنَّ الأمة إذا عصت ربها وأصرّت على مخالفة أوامره سلّط الله عليها ألوان الذل والعذاب وهانت عليه، كما كان حال الأمم السالفة التي زلزلها الله بآثامها.

أخرج الطبراني والحاكم بسند صحيح عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا ظَهَرَ الزنا والرِّبا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذابَ الله](2).

وأخرج البيهقي في "شعب الإيمان"، وأبو نعيم في "الحلية" بسند صحيح عن عائشة مرفوعًا: [إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله عز وجل بأسه بأهل الأرض، وإن

(1) حديث صحيح. رواه الطبراني في "المعجم الصغير" رقم (1033)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (2213).

(2)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم والطبراني. انظر صحيح الجامع الصغير- حديث رقم - (692).

ص: 64

كان فيهم صالحون، يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يرجعون إلى رحمة الله] (1).

وقوله تعالى: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} . بيان لحكمة تأخير عذابهم مع ما ورد من الإشارة في الآية السابقة لاستحقاقهم ذلك العذاب.

قال ابن كثير: (أي: لولا الكلمة السابقة من الله، وهو أنه لا يعذِّبُ أحدًا إلا بعد قيام الحجَّة عليه - والأجلُ المسمى الذي ضربه الله تعالى لهؤلاء المكذبين إلى مدّةٍ مُعَيَّنة - لجاءهم العذاب بغتة).

وقوله: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} .

أي: فاصبر - يا محمد - على تكذيب قومك واتهامهم لك بالسحر والجنون وكلام الشَّعر، وعظِّم ربك بالثناء عليه والتسبيح والحمد قبل طلوع الشمس - وذلك صلاة الصبح - وقبل غروبها - وتلك صلاة العصر-.

وقد جاءت السنة الصحيحة بتأكيد هذا المعنى في أحاديث، منها:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم وأكثر أهل السنن عن جرير بن عبد الله البَجَليِّ رضي الله عنه قال: [كنا جلوسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: إنكم سترون ربكم كما تَرَوْنَ هذا القمر، لا تُضَامون في رُؤْيَتِه، فإن استطَعْتُم ألا تُغْلبوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، فافعلوا، ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39]] (2).

الحديث الثاني: أخرج مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده، عن أبي بَكْرِ بنِ عُمَارَةَ بْنِ رُوَيْبَةَ، عن أبيه: قال: [سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لن يلجَ النارَ أحدٌ صَلَّى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها" يعني الفجر والعَصْرَ. فقال له رجل من أهل البصرة: آنْتَ سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال الرجل: وأنا أشهد أني

(1) حديث صحيح. أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(2/ 441/ 2)، وأبو نعيم في الحلية (10/ 218)، ورواه أحمد في المسند (6/ 294)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1372).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (554)، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر، وأخرجه كذلك (4851)، ورواه مسلم (633)، وأبو داود (4729)، والترمذي (2551)، وابن ماجة (177)، وأحمد (4/ 360)، وابن حبان (7442).

ص: 65

سَمِعْتُهُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سَمِعَتْهُ أُذُنايَ وَوَعاهُ قلبي] (1).

وقوله: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} .

قال ابن عباس: ({وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ} قال: آناء الليل: جوف الليل). وقال الحسن: (من أوّله، وأوسطه، وآخره). والمقصود: ومن ساعات الليل فتهجد به، ومن أطراف النهار فسَبِّح كذلك لعلك ترضى بثواب الله لك.

وعن قتادة: ({وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} قال: هي صلاة الفجر {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} قال: صلاة العصر. {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} قال: صلاة المغرب والعشاء. {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} قال: صلاة الظهر). وعن ابن زيد: ({لَعَلَّكَ تَرْضَى} قال: الثواب، ترضى بما يثيبك الله على ذلك).

قال النسفي: ({لَعَلَّكَ تَرْضَى} أي اذكر الله في هذه الأوقات رجاء أن تنال عند الله ما به ترضى نفسك ويسر قلبك).

قلت: والخطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر وإقامة الصلوات المكتوبة، والتماس الصلوات النافلة - مما يعين على مواجهة الأذى والمحن -، فهو للأمة من باب الأولى. والعاقبة رضوان الله تعالى.

ففي الصحيحين والمسند من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحدًا من خلقك؟ فيقول: أنا أُعطيكم أَفْضلَ من ذلك، قالوا: يا ربَّ وأيُّ شيء أفضلُ من ذلك؟ فيقول: أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا](2)،

131 -

132. قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (634)، كتاب المساجد، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما. ورواه أبو داود (427)، والنسائي (1/ 235)، وأحمد (4/ 136)، وابن حبان (1740).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (6549)، كتاب الرقاق، وكذلك (7518)، وأخرجه مسلم (2829)، وأحمد (3/ 88)، والترمذي (255)، وأبو نعيم في "صفة الجنة"(282).

ص: 66

الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)}.

في هذه الآيات: حثُّ الله نبيّه على ترك النظر إلى المترفين أهل الاستكبار، فما هم فيه من متاع الحياة الدنيا صائر إلى الزوال، وإنما هم في امتحان واختبار. وأمرُه له تعالى باستنقاذ أهله من النار، بإقام الصلاة والصبر على ذلك، ورزق الله مقسوم والعاقبة للمتقين.

فقوله: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} . قال مجاهد: (يعني الأغنياء، فقد آتاك الله خيرًا مما آتاهم). وعن أبي رافع: (يعني بقوله: {أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} رجالًا منهم أشكالًا). قال القاسمي: ({أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} أي أصنافًا من الكفرة). وقال ابن كثير: (يقول تعالى لنبيه محمد - صلوات الله وسلامُه عليه -: لا تنظر إلى ما متَّعنا به هؤلاء المترفين وأشباههم ونُظراءهم، وما هم فيه من النعيم، فإنما هو زهرة زائلة، ونِعمةٌ حائِلة، لِنَختبرهم بذلك، وقليل من عبادي الشكور).

وقوله: {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . أي زينتها. وهو منصوب على أنه بدل من {أَزْوَاجًا} أو نُصب بـ {مَتَّعْنَا} على تضمينه معنى: أعطينا وخوّلنا.

وقوله: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} . قال قتادة: (لنبتليهم فيه).

وقوله: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} . أي مما متعنا به هؤلاء في هذه الدنيا.

قال ابن جرير: ({وَرِزْقُ رَبِّكَ} الذي وعدك أن يرزقكه في الآخرة حتى ترضى، وهو ثوابه إياه {خَيْرٌ} لك مما متعناهم به من زهرة الحياة الدنيا. {وَأَبْقَى} يقول: وأدوم، لأنه لا انقطاع له ولا نفاد).

قلت: والآية وإن كانت خطابًا للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنها منهاجُ حياة لكل مسلم، لئلا يغتر بما فَتن الله به الطغاة في الأرض وهم يعيثون فيها فسادًا ويحاربون دينه وأولياءه. بل إن النبي صلى الله عليه وسلم خشي على هذه الأمة من زهرة الدنيا وزينتها وما يفتح عليهم فيها من ذلك. فإلى ذكر بعض هذه الأحاديث من سنته العطرة:

الحديث الأول: أخرج البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المِنْبَر، وجَلَسْنا حَوْلَهُ فقال: [إنّ مما أخافُ عليكم

ص: 67

من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتِها .... ] الحديث (1).

الحديث الثاني: أخرج الشيخان من حديث ابن عباس عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - في حديث اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه - قال: [ثم رفعت بصري في بيتهِ فوالله ما رأيت فيه شيئًا يردّ البصر عن أَهَبَةٍ ثلاثة، فقلت: يا رسول الله ادع الله فليوسع على أمتك، فإن فارسَ والرومَ وُسِّعَ عليهم وأعطوا الدنيا، وهم لا يعبدون الله، وكان متكئًا فقال: أو في شكٍّ أنت يا ابن الخطاب! أولئك قومٌ عُجِّلتْ لهم طيباتُهم في الحياة الدنيا

] الحديث (2).

وفي رواية مسلم: [فقال: يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا. قلت: بلى].

الحديث الثالث: أخرج الترمذي في "الشمائل" بسند صحيح عن مالك بن دينار قال: [ما شبِعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من خُبْزٍ قطّ، ولا لحمٍ إلا على ضفف (3)](4).

قال مالك: (سألت رجلًا من أهل البادية: ما الضفف؟ قال: أن يتناول مع الناس).

الحديث الرابع: أخرج ابن ماجة بسند حسن عن أبي الدرداء قال: [خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نذكر الفقر ونتخوفه، فقال: آلفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده لَتُصَبَّنَّ عليكم الدنيا صبًّا، حتى لا يُزيغَ قلب أحدكم إن أزاغهُ إلا هيَ، وَايْمُ الله، لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها ونهارها سواء](5).

وقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} .

أي: استنقذ أهلك من عذاب الله بإقام الصلاة والصبر على ذلك، واعلم أن رزقك

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم - (1465) - كتاب الزكاة، ورواه مسلم (1052) في أثناء حديث طويل.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (89) - كتاب العلم، و (378) كتاب الصلاة. وكذلك (2468) - كتاب المظالم. ورواه مسلم (1479) - كتاب الطلاق.

(3)

قال عبد الله بن عبد الرحين شيخ الترمذي: (قال بعضهم: هو كثرة الأيدي).

(4)

حديث صحيح. انظر: "مختصر كتاب الشمائل"(109)، باب ما جاء في عيش رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(5)

إسناد حسن، رجاله ثقات. أخرجه ابن ماجة (5) - باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (688).

ص: 68

مقسوم في دنياك فلا يشغلك عن إقامة أمر دينك ودين أهلك، ثم العاقبة الصالحة لأهل التقوى.

فربط سبحانه تعالى العبادة بمفهوم الرزق، فإن الشيطان يهم بالعبد كلما حاول تفريغ جزء من وقته لأهله، فجاءت الآية تطمئن المؤمن أن الصبر على تعليم الأهل والولد الحق والصلاة وحب الله ورسوله والجهاد في سبيله لا يؤخر من الرزق شيئًا.

ففي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6].

2 -

وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3].

3 -

وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58].

ومن كنوز صحيح السنة في ذلك أحاديث:

الحديث الأول: يروي الإمام أحمد في المسند، والترمذي في السنن، عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لو أنكم توكلون على الله تعالى حقَّ توكله، لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا](1).

الحديث الثاني: أخرج أحمد والترمذي وابن حبان بسند جيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله تعالى يقول: يا ابنَ آدم تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسُدَّ فقرك، وإن لا تفعل ملأت يديك شغلًا ولم أسُدَّ فقرك](2).

الحديث الثالث: أخرج الترمذي بسند صحيح عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من كانت الآخرة همَّه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة.

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن (2461). انظر صحيح سنن الترمذي (1911)، وتخريج:"مشكاة المصابيح"(23). ورواه أحمد.

(2)

إسناده جيد. أخرجه الترمذي (2466)، وأحمد (2/ 338)، وابن ماجة (4017)، والحاكم (4432)، وابن حبان (393). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1359).

ص: 69

ومن كانت الدنيا همَّه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّرَ له] (1).

133 -

135. قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)}.

في هذه الآيات: سؤال المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات والمعجزات، وإنما أهلك الله القرون السالفة بعد وضوح البينات وظهور الدلالات. ولو أُهلك هؤلاء قبل إرسال هذا الرسول الكريم، وتنزيل هذا الكتاب العظيم، لاحتجوا على إهلاكهم معترضين. فقل لهم يا محمد: كل منا منتظر، فانتظروا فستعلمون من أصحاب الصراط المستقيم، وأتباع المنهج القويم، منهاج النجاة والهداية للعالمين.

فقوله: {وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ} . هو من قيل المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: قال هؤلاء المشركون الذين وصف صفتهم في الآيات قبل هلا يأتينا محمد بآية من ربه، كما أتى قومه صالح بالناقة وعيسى بإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص).

وقوله: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} . قال مجاهد: (التوراة والإنجيل).

وقال قتادة: (الكتب التي خلت من الأمم التي يمشون في مساكنهم).

والمقصود: أولم يأتهم في هذا القرآن العظيم أخبار القرون قبلهم والأمم التي سلفتهم من أهل الكتاب وغيرهم.

وفي التنزيل نحو ذلك: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 50 - 51].

(1) إسناده صحيح. أخرجه الترمذي (2596)، وانظر صحيح سنن الترمذي - حديث رقم - (2003).

ص: 70

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ما مِنَ الأنبياء نَبِيٌّ إلا أُعْطيَ منَ الآيات ما مِثْلُهُ أومِنَ - أوْ آمَنَ - عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وَحْيًا أوْحاه الله إليَّ، فأرجو أني أكثرهُمْ تابِعًا يومَ القيامة](1).

وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} .

أي: لو أنا أهلكنا هؤلاء المعاندين المتكبرين قبل أن نرسل إليهم هذا الرسول الكريم، وننزل عليهم هذا الكتاب العظيم، لاحتجوا بأنهم كيف يُهلكون ولما يرسل إليهم رسول يدعوهم إلى الإيمان، وما يجب عليهم في حق الله تعالى من اتباع شرعه وتعظيم دينه.

قال النسفي: ({مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ} بنزول العذاب {وَنَخْزَى} في العقبى).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 159 - 110].

2 -

وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [فاطر: 42].

3 -

وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 155 - 157].

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (7274) - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة. ورواه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (152) كتاب الإيمان.

ص: 71

وإنما يحتج يوم القيامة فتقبل حجته عند ربه من لم تبلغه دعوة الرسل، أو حال دونه ودون فهمها وبلوغها حائل.

فقد أخرج الطبراني بسند صحيح عن الأسود بن سريع مرفوعًا: [أربعة يوم القيامة يدلون بحجة: رجل أصم لا يسمع، ورجل أحمق، ورجل هرم، ومن مات في الفترة. فأما الأصم فيقول: يا رب جاء الإسلام وما أسمع شيئًا. وأما الأحمق فيقول: جاء الإسلام والصبيان يقذفونني بالبعر. وأما الهرم فيقول: لقد جاء الإسلام وما أعقل. وأما الذي مات على الفترة فيقول: يا رب ما أتاني رسولك، فيأخذ مواثيقهم ليطعنه، فيرسل إليهم رسولًا أن ادخلوا النار. قال: فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا](1).

وقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى} .

أي: قل - يا محمد - لهؤلاء المكذبين من قومك: كُلّ منا منتظر لمن يكون له الفلاح والعاقبة والظفر، فانتظروا وترقبوا، فستعلمون من أصحاب الطريق المستقيم ومن المهتدي الذي قد أصاب منهاج الهداية والنجاة.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 42].

2 -

وقال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} [القصص: 56].

3 -

وقال تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ: 24 - 26].

4 -

وقال تعالى: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ} [القمر: 26].

(1) حديث صحيح. أخرجه الطبراني (79/ 2)، وأحمد (4/ 24)، وابن حبان (1827)، وأخرجه الديلمي (1/ 1/ 171)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1434).

ص: 72

وفي سنن ابن ماجة ومعجم الطبراني من حديث سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [عند الله خزائن الخير والشر مفاتيحها الرجال، فطوبى لمن جعله الله مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر، وويل لمن جعله الله مفتاحًا للشر مغلاقًا للخير](1).

تم تفسير سورة طه

بعون الله وتوفيقه، وواسع منِّه وكرمه

(1) حديث حسن. انظر تخريج السنة (296 - 219)، وصحيح الجامع الصغير- حديث رقم - (3987).

ص: 73