المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ منهاج السورة - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٥

[مأمون حموش]

فهرس الكتاب

- ‌20 - سورة طه

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌ دروس ونتائج وأحكام

- ‌21 - سورة الأنبياء

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌22 - سورة الحج

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌23 - سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌24 - سُوْرَةُ النَّوُرِ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام:

- ‌1 - الولاء والبراء هو محور منهج الإيمان عند المسلمين:

- ‌2 - بشرية الرسول وعدم علمه بالغيب:

- ‌3 - براءة عائشة إلى يوم القيامة:

- ‌4 - الأصل في المؤمنين الظن بأنفسهم خيرًا:

- ‌5 - تمحيص الله لقلوب المؤمنين بالابتلاء وتأخر الوحي:

- ‌6 - ثبوت إقامة الحد على القاذفين:

- ‌7 - مشروعية الإقراع بين النساء في السفر وجواز خروجهن للغزو ومشاركتهن بذلك:

- ‌آداب الاستئذان:

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌25 - سورة الفرقان

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌26 - سُورَةُ الشُّعَراءِ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌27 - سُورَةُ النَّمْلِ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌28 - سُورَةُ القصَصِ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌29 - سورة العنكبوت

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

الفصل: ‌ منهاج السورة

‌27 - سُورَةُ النَّمْلِ

وهي سورة مكية، وعدد آياتها (93).

‌موضوع السورة

ملك سليمان عليه الصلاة والسلام وتسخير الله لدولته الجن والإنس والطير والنمل لإقامة سلطان الإِسلام

-‌

‌ منهاج السورة

-

1 -

ثناء الله تعالى على القرآن الكريم، وأهله المؤمنين، وذمّ المشركين المكذبين.

2 -

قصة موسى عليه الصلاة والسلام، وخبر خروجه من مدين إلى مصر، ورؤيته النار وتكليم الله له، وتحميله المهمة مع الآيات إلى فرعون وقومه، وجحود فرعون وملئه ونزول العذاب بهم.

3 -

خبرُ داود وسليمان عليهما السلام، وتسخيره تعالى لسليمان الجن والإنس والطير وسماع حوار النمل، ومقابلة سليمان ربه تعالى بالشكر والتعظيم.

4 -

تفقُّد سليمان الهدهد، ومجيء الهدهد بالخبر المُسَوِّغ لتأخره.

5 -

استقبال سليمان عليه السلام الخبر من الهدهد على وجه التثبت والتحقق قبل اتخاذ القرار، وإعطاؤه رسالة عاجلة منه إلى بلقيس يأمرهم بالخضوع لسلطانه القائم بأمر الله قبل أن لا ينفعهم الفرار.

ص: 524

6 -

استشارة بلقيس قومها محذرة لهم بأس الملوك، واستقرار رأيها على إرسال هدية لسليمان تستطلع بذلك طبيعة الأمر وما يُتوقع من السلوك.

7 -

غضب سليمان عليه السلام من فعل بلقيس، وتقريره الزحف بجيش كبير نحوها، ورؤيته إبراز شيء من قوته وسلطانه ليباغتها به عند وصولها، واستعانته بجنوده من الجن لتحقيق ذلك.

8 -

وصول بلقيس ووضعها أمام الاختبار، وإعلان إسلامها في نهاية الأمر بعد التفكر والاعتبار.

9 -

قصة ثمود مع نبيهم صالح عليه السلام، وإصرارهم على التكذيب والمكر حتى دمرهم الله فما استطاعوا القيام.

10 -

إنذار لوط قومه مغبة فاحشتهم، وإصرارهم على ما هم فيه حتى نزل العذاب بهم.

11 -

دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، توحيد الربوبية يقتضي توحيد الألوهية.

12 -

انفراد الله بعلم الغيب، وجهل الكفار بالحق، وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من الأذى.

13 -

ثناء الله على القرآن، وأمره نبيّه التوكل عليه، وتقريره تعالى له أنَّه لا يسمع الموتى أو الصم ولا يهدي العمي، بل الهداية من الله للمؤمنين.

14 -

خروج الدابة من علامات الساعة، فتنة للناس عند فسادهم.

15 -

ذكر مشهد الحشر، واجتماع الناس خلف راياتهم وآلهتهم في أرض المحشر.

16 -

امتنان الله على الناس بنعمة الليل ليسكنوا فيه، والنهار لينتشروا فيه.

17 -

أحداث القيامة: نفخة الفزع، وحركة الجبال، والميزان يزن أعمال العباد.

18 -

إعلامُ النبي صلى الله عليه وسلم قومه أنَّه أُمِرَ بإفراد الله رب هذه البلدة بالعبادة والتعظيم.

19 -

أمره تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن وإقامة الحجة على الناس أجمعين.

20 -

الحمد لله الذي بيده عجائب الآيات يريها خلقه ليؤمنوا وما هو بغافل عما يعملون.

* * *

ص: 525

بسم الله الرحمن الرحيم

1 -

6. قوله تعالى: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 1: 6].

في هذه الآيات: انتصارٌ للقرآن الكريم، الذي يحمل الهدى والبشرى للمؤمنين، الذين يقيمون الصلاة بأركانها وواجباتها ومواقيتها وخشوعها، ويؤتون الزكاة المفروضة في أموالهم بأوقاتها ومقاديرها، وبالآخرة هم يوقنون. إن الذين يكفرون بالآخرة هم في تزيين الشيطان يتخبطون، وهم في الآخرة هم الأخسرون، وهذا القرآن - يا محمَّد - تُلقاه من الله الحكيم العليم.

فقوله: {طس} - تقدم الكلام في أوائل السور التي ابتدأت بمثل هذه الحروف المقطعة، وأنها تحمل معنى التحدي والإعجاز لهذا القرآن العظيم الذي هو من جنس هذه الأحرف.

وقوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} . انتصار لهذا القرآن وتعظيم له وثناء عليه بعد ذكر تلك الحروف. قال ابن كثير: (أي: هذه آيات {الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ}، أي: بَيِّنٌ واضح). وقال القاسمي: (مبين لما تضمنه من الحكم والأحكام والمواعظ والاعتبار).

وقوله تعالى: {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} . قال القرطبي: ({هُدًى} في موضع نصب على الحال من الكتاب، أي تلك آيات الكتاب هادية ومبشرة. ويجوز فيه الرفع على الابتداء، أي هو هدى. وإن شئت على حذف حرف الصفة، أي فيه هدى. ويجوز أن يكون الخبر {لِلْمُؤْمِنِينَ}).

ص: 526

والمقصود: أي هذا القرآن هدى من الضلالة، وبشرى للمؤمنين برحمة الله ورضوانه.

وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} .

أي: هذه البشرى للمؤمنين الموصوفين بإقامة الصلاة بأركانها وواجباتها وإتمام وضوئها وخشوعها والمحافظة على مواقيتها، وكذلك بإيتاء الزكاة المفروضة حسب أنواعها ومقاديرها، وهم موقنون برجوعهم إلى ربهم عز وجل في الدار الآخرة، راجون عفوه ومغفرته وكرمه.

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} .

قال الزجاج: (جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه).

وعن ابن عباس: ({فَهُمْ يَعْمَهُونَ}: يتمادون). وقال قتادة: (يلعبون). وقال الحسن: (يتحيرون).

والمقصود: إن الذين يستبعدون البعث للحساب يوم القيامة، ويكذبون بوعد الله ووعيده في ذلك، حَسَّنّا لهم ما هم عليه من التيه والغرور، ومددنا لهم في غيِّهم فهم في ظلمات العمل يتيهون.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44].

2 -

وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110].

3 -

وقال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8].

ومن كنوز صحيح السنة في آفاق معنى هذه الآية أحاديث:

الحديث الأوّل: أخرج الترمذي بسند صحيح عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا أراد

ص: 527

الله بعبده الخير عجلَ له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشَّر أمسك عنه بذنبه حتى يُوَافى به يوم القيامة] (1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد بسند قوي عن عقبة بن عامر مرفوعًا: [إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج. ثمَّ تلا: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]] (2).

الحديث الثالث: أخرج الإمام مسلم فيٍ الصحيح عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله لا يظلم مؤمنًا حَسَنةً، يُعطي بها في الدنيا ويَجْزي بها في الآخرة. وأما الكافر فيُطْعَمُ بحسنات ما عَمِلَ بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يُجزى بها](3).

وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} .

أي: هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة لهم عذاب الخزي في الدنيا والآخرة، ثمَّ هم في الآخرة أخسر من كل خاسر. قال القرطبي:(فإن من الناس من خسر الدنيا وربح الآخرة، وهؤلاء خسروا الآخرة بكفرهم فهم أخسر كل خاسر). وقال ابن كثير: (أي: ليس يخسر أنفسَهم وأموالَهم سِواهُم من أهل المحشر).

وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} .

قال قتادة: ({لَتُلَقَّى}، أي: لَتَأخذ). و {لَدُنْ} بمعنى عند، وهي مبنية غير معربة. فالمعنى: وإنك يا محمَّد ليلقى عليك هذا القرآن فتلقاه وتعلمه من عند حكيم بتدبير خلقه، عليم بمصالح عباده وجميع أحوال ما في ملكه.

7 -

14. قوله تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ

(1) حسن صحيح. أخرجه الترمذي (2520). انظر صحيح سنن الترمذي - حديث رقم - (1953).

(2)

حديث حسن. أخرجه أحمد (4/ 145)، وابن جرير في "التفسير"(7/ 115)، وقال الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" (4/ 115):"رواه أحمد والطبراني والبيهقيُّ في "الشعب" بسند حسن". وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (414).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2808) ح (57)، كتاب صفات المنافقين، ورواه أحمد.

ص: 528

اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}.

في هذه الآيات: خبرُ موسى عليه الصلاة والسلام أثناء مسيره من مدين إلى مصر ورؤيته النار وتكليم الله له وتحميله المهمة مع الآيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قومًا فاسقين. وجحودُ فرعون وملئه الحق بعد ظهوره ظلمًا وعلوًا فكيف كان عاقبة المفسدين؟ ! .

فقوله: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} .

قال ابن جرير: (و {إِذْ} من صلة عليم. ومعنى الكلام عليم حين قال موسى {لِأَهْلِهِ} وهو في مسيره من مدين إلى مصر، وقد آذاهم برد ليلهم لما أصلد زنده {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} أي أبصرت نارًا أو أحسستها، فامكثوا مكانكم {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} يعني من النار).

وقوله: {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} . أي: أو آتيكم من النار بشعلة أقتبسها منها.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} . أي تتدفؤون به. قال النسفي: {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ} أي شعلة مضيئة {قَبَسٍ} نار مقبوسة بدل أو صفة. {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} تستدفئون بالنار من البرد الذي أصابكم، والطاء بدل من تاء افتعل لأجل الصاد)،

وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} .

أي: فلما جاء موسى النار التي آنسها رأى منظرًا هائلًا عظيمًا حيث انتهى إليها. قال ابن كثير: (والنار تضطرم في شجرةٍ خضراءَ، لا تزدادُ النارُ إلا توقُّدًا، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونَضْرَةً، ثمَّ رفَّ رأسه فإذا نورُها متصل بِعَنان السماء). فهنالك نودي {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} .

ومن أقوال المفسرين في ذلك:

1 -

قال ابن عباس: (لم تكن نارًا، إنما كانت نورًا يتوهَجّ). أو قال: (نور رب

ص: 529

العالمين). وقال: ({بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} يقول: قدس). قال: (كان نور رب العالمين في الشجرة. {وَمَنْ حَوْلَهَا} قال: يعني الملائكة).

2 -

قال قتادة: ({بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ}: نور الله بورك). وقال مجاهد: (بوركت النار).

3 -

وقال محمَّد بن كعب: ({وَمَنْ حَوْلَهَا} قال موسى النبي والملائكة).

قلت: والراجح عندي أنَّه لما جاء موسى النار التي آنسها نودي أن تقدس نور رب العالمين وبورك من حول النار: موسى والملائكة.

وقوله: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . أي: وتنزيهًا لله رب العالمين، العلي العظيم، نور السماوات والأرض، الأحد الصمد الذي ليس كمثله شيء، عما يصفه الظالمون.

وفي صحيح مسلم عن أبي موسى قال: [قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كَلِماتٍ فقال: إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينامَ، يَخْفِضُ القِسْطَ ويرفَعُه، يُرْفَعُ إليه عَمَلُ الليل قبل عمل النهار، وعَمَلُ النهار قبل عمل الليل، حجابُه النور - وفي رواية: النارُ - لو كشفه لأحْرقت سبحاتُ وجْهه ما انتهى إليه بصره من خلقه](1).

وقوله تعالى: {يَامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .

إعلام منه سبحانه لموسى أن الذي يخاطبه ويناجيه إنما هو ربُّه الله العزيز في انتقامه من فرعون وأمثاله من الطغاة، الحكيم في ترتيب حياة أنبيائه والصالحين وفي تدبير كل أمور خلقه. ثمَّ أمره تعالى بإلقاء عصاه من يده ليريه دليلًا واضحًا على أنَّه القادر على كل شيء، فيهون عليه أمر فرعون وطغيانه.

وهو قوله تعالى: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} .

قال ابن جريج: ({وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} قال: حين تحولت حية تسعى).

وعن مجاهد: ({وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} قال: لم يرجع).

قال القاسمي: ({فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} هو ضرب من الحيات، أسرعه حركة وأكثره اضطرابًا {وَلَّى} أي من الخوف {مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي لم يرجع على عقبه من شدة

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (179)، كتاب الإيمان، ح (293)، (294)، (295).

ص: 530

خوفه {يَامُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} أي لحفظي لهم وعنايتي بهم وعصمتي إياهم مما يؤذيهم. وفيه تبشير له باصطفائه بالرسالة والنبوة. وتشجيع له بنزع الخوف. إذ لا يتمكن من أداء الرسالة، ما لم يزل خوفه من المرسل إليه).

وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} .

استثناء منقطع، وفتح باب عظيم من أبواب الأمل بعد الزلل، فإن من وقع في المعصية ثمَّ تدارك أمره بالتوبة والإنابة يجد الله غفورًا رحيمًا.

قال الزمخشري: (يوشك أن يقصد بهذا، التعريض بما وجد من موسى. وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها، وسماه ظلمًا كما قال موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16]).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].

2 -

وقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].

ومن السنة العطرة في آفاق هذه الآية أحاديث:

الحديث الأوّل: خَرَّجَ مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من تاب قبل أن تطلع الشمسُ من مغربها تاب الله عليه](1).

الحديث الثاني: روى مسلم عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إنَّ الله تعالى يبسط يدَهُ بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيءُ الليل حتى تطلع الشمس من مغربها](2).

الحديث الثالث: أخرج البزار في مسنده بسند حسن لطرقه عن عبد الرحمن بن جُبَيْر، عن أبي طويل شطْب الممدود: [أنَّه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلًا عمل

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2703)، كتاب الذكر والدعاء. باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه. والمقصود المسارعة بالتوبة قبل ذوات الأوان.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2759)، كتاب التوبة. باب قبول التوبة من الذنوب، وإن تكررت الذنوب والتوبة، وانظر (2758).

ص: 531

الذنوب كُلَّها، فلم يترك منها شيئًا، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجَةً إلا أتاها، فهل له من توبة؟ قال: فهل أسلمت؟ قال: أما أنا، فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك رسول الله. قال: نعم، تفعل الخيرات وتترك السيئات. فيجعلهُنَّ الله لك خيرات كُلَّهن. قال: وغَدَراتي وفجراتي؟ قال: نعم. قال: الله أكبر! فما زال يكبر حتى توارى] (1).

وقوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} .

قال ابن كثير: (هذه آية أخرى، ودليلٌ باهرٌ على قدرة الله الفاعل المختار، وصِدْقِ مَنْ جعل له مُعجزةً، وذلك أن الله تعالى أمره أن يُدخِلَ يَده في حبيب دِرْعِه، فإذا أدخلها وأخرجها خرجت بيضاء ساطِعةً، كأنها قطعة قَمَرٍ لها لَمَعانٌ يتلألأ كالبرق الخاطِفِ. وقوله تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ}، أي: هاتان ثنتانِ من تسعِ آياتٍ أُؤيدك بِهنَّ، وأجعلهن بُرهانًا لك إلى فرعون وقومه، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}. وهذه هي الآيات التسع التي قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101]).

وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} .

قال ابن جُريج: ({فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} قال: بينة {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}. يقول: قال فرعون وقومه: هذا الذي جاءنا به موسى سحر مبين، يقول: يبين للناظرين له أنَّه سحر).

وقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} .

قال ابن زيد: (استيقنوا أن الآيات من الله حق، فلِمَ جحدوا بها؟ قال: ظلمًا وعلوًا).

وقال ابن جريج: ({ظُلْمًا وَعُلُوًّا}: تعظمًا واستكبارًا).

والمعنى: لقد جحد فرعون وقومه الآيات التسع وكذبوها بعدما أيقنتها قلوبهم، وعلموا يقينًا أنها من عند الله، وإنما حملهم على معاندتها والتنكر لها الكبر والظلم

(1) أخرجه البزار في "مسنده"(4/ 79 - 80/ 3244 - كشف الأستار)، والطبراني في "المعجم الكبير"(7/ 375 - 376/ 7235)، وانظر السلسلة الصحيحة (3391).

ص: 532

الذي ألفوه وأحبوه وظنوا أنَّه يجرّ لهم المنافع والمناصب والمصالح، حتى انتقم الله منهم وانقلب السحر على الساحر.

وقوله: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} .

أي: فانظر - يا محمَّد - بعين قلبك كيف كان مصيرهم بعد طغيانهم، وكيف أغرقهم الله عن آخِرهم في صبيحة واحدة. والخطاب بطريق الأولى لمشركي قريش الذين يواجهون الوحي بعنادهم وكبرهم، فإن التاريخ المؤلم قد يعيده الله على مستحقيه متى شاء وأين شاء، فليعتبر هؤلاء الطغاة أن ينالهم ما نال فرعون وقومه من الدمار والهلاك والأيام النَّحِسات.

15 -

19. قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}.

في هذه الآيات: خبرُ داود وسليمان عليهما السلام وحمدهما الله تعالى الذي فضلهما على كثير من عباده المؤمنين، وتسخيره تعالى لسليمان الجن والإنس والطير فهم يوزعون. وسماعُه حديث النملة في وادي النمل وتبسمه من قولها وشكره الله الذي أنعم عليه وعلى والديه وسؤاله الدخول في عباده الصالحين.

فقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} . قال قتادة: (أي فهمًا).

وقيل: علمًا بالدين والحكم وغيرهما، كما قال جلّ ذكره:{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء: 80].

قال ابن جرير: ({وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} وذلك علم كلام الطير والدّواب، وغير ذلك مما خصّهم الله بعلمه).

ص: 533

قلت: ولا شك أن الله تعالى اختص داود وسليمان عليهما السلام إضافة إلى علوم الوحي والنبوة والحكمة، بعلوم كثيرة تفيد التمكين في الأرض، وقوة الملك والنفوذ لإقامة دولة الحق.

وقوله: {وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} .

فيه مسألتان:

المسألة الأولى: حَمْدُ الله تعالى على النعمة، وهو أفضل من النعمة نفسها.

قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].

وفي سننٍ ابن ماجة بإسناد حسن عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما أنعم الله على عَبْدٍ نِعْمَة فقال: الحَمْدُ لله، إلا كان الذي أعطاه أَفْضَلَ مما أخذَ](1).

المسألة الثانية: شرف العلم ورفعة منزلته على بقية النعم.

قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].

وقال هنا: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} .

قال القرطبي: (وفي الآية دليل على شرف العلم وإنافة محلّه وتقدّم حملته وأهله، وأن نعمة العلم من أجَلّ النِّعَم وأجزل القِسَم، وأن مَنْ أوتيه فقد أوتي فضلًا على كثير من عباد الله المؤمنين).

وقوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} . قال ابن كثير: (أي: في الملك والنبوة، وليس المرادُ وِراثة المال، إذ لو كان كذلك لم يَخُصَّ سليمان وحدَه من بين سائر أولاد داودَ، فإنَّه قد كان لدوادَ مئةُ امرأة، ولكن المراد بذلك وراثةُ المُلك والنبوة، فإن الأنبياء لا تورثُ أموالهم. كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن معشر الأنبياء لا نُورث، ما تركنا فهو صدقة").

وقوله: {وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} .

قال النسفي: (تشهيرًا لنعمة الله تعالى واعترافًا بمكانها، ودعاء للناس إلى التصديق

(1) حديث حسن. أخرجه ابن ماجة (3805)، كتاب الأدب، باب فضل الحامدين. وانظر صحيح سنن ابن ماجة - حديث رقم - (3067).

ص: 534

بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير. والمنطق كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد، وكان سليمان عليه السلام يفهم منها كما يفهم بعضها من بعض). قال ابن جرير:({وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} يقول: وأعطينا ووهب لنا من كل شيء من الخيرات).

وقوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} .

اعتراف من سليمان عليه الصلاة والسلام لله تعالى بهذه النعم الجليلة، وشكر منه له جل ثناؤه على تلك العطايا والمواهب الجميلة.

قال القاسمي: ({إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} أي البين الظاهر. وهو قول وارد على سبيل الشكر والمحمدة. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" (1) أي أقول هذا القول شكرًا، ولا أقوله فخرًا).

وقوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} .

قال ابن زيد: (يوزعون: يُساقون). وقال الحسن: (يتقدمون). وقال قتادة: (يردّ أولهم على آخرهم). وفضل ذلك ابن عباس بقوله: (جعل على كل صنف من يرد أولاها على أُخراها لئلا يتقدموا في المسير كما تصنع الملوك).

قال ابن كثير: (أي: وجُمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير. يعني رَكِبَ فيهم في أبهة وعظمة كبيرة، في الإنس وكانوا هم الذين يَلُونَه، والجنُّ بعدَهم في المنزلة، والطير ومنزلتها فوق رأسه، فإن كان حَرٌّ أظلته منه بأجنحتها.

وقوله: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} ، أي: يكُفّ أولهم على آخرهم، لئلا يتقدَّم أحدٌ عن مَنْزِلَتِهِ التي هي مَرْتَبَةٌ له).

وقوله: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ} . أي: حتى إذا أتى سليمان وجنوده أثناء المسير على وادي النمل {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} .

قال ابن جرير: (يقول: لا يكسرنكم ويقتلنكم سليمان وجنوده).

وقوله: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} . أي: وهم لا يعلمون أنهم يحطمونكم. قال النسفي: (أي لو شعروا لم يفعلوا، قالت ذلك على وجه العذر واصفة سليمان وجنوده بالعدل).

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في: (39) - كتاب السنة، (13) - باب في التخيير بين الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، حديث رقم (4673).

ص: 535

وقوله: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} . أي فهم ذلك سليمان فتبسم ضاحكًا متعجبًا من حذرها واهتدائها لمصالحها ونصيحتها للنمل، أو فَرَحًا لظهور عدله.

وقوله: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} . قال ابن عباس: (يقول: اجعلني). وقال ابن زيد: ({أَوْزِعْنِي} ألهمني وحرضني على أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والديّ).

وفي لغة العرب: أوزعه بالشيء أغراه به. واسْتَوْزَعْتُ الله شكره فَأَوْزَعَني أي اسْتَلْهَمْتُه فألهمني. والمقصود: توجه سليمان عليه الصلاة والسلام إلى الله عز وجل أن يلهمه شكر نعمته عليه من تعليمه منطق الطير والحيوان، وعلى والديه بنعمة الإِسلام والإيمان.

وقوله: {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} .

أي: وألهمني العمل الصالح الذي تحبه وترضاه ووفقني إليه.

وقوله: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} .

قال ابن زيد: (مع عبادك الصالحين الأنبياء والمؤمنين).

قال ابن جرير: (يقول: وأدخلني برحمتك مع عبادك الصالحين، الذين اخترتهم لرسالتك، وانتخبتهم لوحيك، يقول: أدخلني من الجنة مداخلهم).

20 -

26. قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}.

في هذه الآيات: تفقُّد سليمان عليه السلام للهدهد، وترّيثُه لمعرفة عذر غيابه أو

ص: 536

لينزلن به العقاب الأليم. ومجيء الهدهد بالخبر المُسَوِّغ لتأخّره بوجود ملكة وقومها يسجدون للشمس من دون الله العلي العظيم.

فعن وهب بن منبه: ({وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} أخطأه بصري في الطير، أو غاب فلم يحضر؟ ).

والتفقد طلب ما غاب عنك. قال النسفي: ({أم غاب} أم بمعنى بل، والمعنى أنَّه تعرف الطير فلم يجد فيها الهدهد، فقال ما لي لا أراه على معنى أنَّه لا يراه وهو حاضر لساتر ستره أو غير ذلك، ثمَّ لاح له أنَّه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول بل هو غائب).

قلت: وهذا يدل على قيام سليمان على أمر جنوده ومتابعته لشؤونهم وأحوالهم وما وكل إليهم من أعمال، وهو درس للقادة المسلمين بعده في الحرص على إقامة العدل والانضباط، والتأكد من جاهزية الجنود والعمال، وحسن أدائهم لوظائفهم.

وقوله: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} . قال ابن عباس: (يعني نَتْفَ ريشه).

وقال عبد الله بن شداد: (نتف ريشه وتشميسُه). وقيل: نتف ريشه وتَركه ملقى يأكله الذّرُ - صغار النمل.

قلت: ولا دليل على كل ما ذُكر، والله أعلم كيف مقصود سليمان بهذا العذاب الشديد.

وقوله: {أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} . قال الضحاك: (يقول: أو لأقتلنه).

وقوله: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} . أي بعذر واضح جلي.

قال ابن عباس: (يقول: ببينة أعذره بها، وهو مثل قوله: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} [غافر: 35] يقول: بغير بَيِّنَة).

وقال عكرمة: (كل شيء في القرآن سلطان، فهو حجة).

وقوله: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} أي الهدهد، غاب زمانًا يسيرًا ثمَّ أقبل فقال لسليمان:{أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} أي: اطلعت على أمر غاب عنك وعن جنودك.

قال وهب بن منبه: (أي أدركت ملكًا لم يبلغه ملكك).

وقوله: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} . أي: أتيتك من سبأ بِخبرِ صِدْقٍ حق يقين.

وسبأ: هم حِمير، وهم ملوك اليمن.

ص: 537

وقوله: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} . قال الحسن: (وهي بلقيسُ بنتُ شُراحِيلَ ملكة سبأ). قال القرطبي: (ويقال: كيف خفي على سليمان مكانها وكانت المسافة بين محطِّهِ وبين بلدها قريبة، وهي من مسيرة ثلاث بين صنعاء ومأرب؟ والجواب أن الله تعالى أخفى ذلك عنه لمصلحة، كما أخفى على يعقوب مكان يوسف).

وقوله: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} مبالغة، والمقصود: أعطيت من كل شيء تحتاج إليه أمور مملكتها وقوام حكمها، شأن كل ملك متمكِّن. قال الحسن:(يعني: من كل أمر الدنيا).

وقوله: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} . قال ابن عباس: (سرير كريم، قال: حَسن الصَّنعة، وعرشها: سرير من ذهب قوائمه من جوهر ولؤلؤ).

وقال الحسن: ({وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}: يعني سرير عظيم).

وقوله: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} .

قال ابن جرير: (يقول: وجدت هذه المرأة ملكة سبأ، وقومها من سبأ، يسجدون للشمس فيعبدونها من دون الله. وقوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} يقول: وحَسَّن لهم إبليس عبادتهم الشمس، وسجودهم لها من دون الله، وحبب ذلك إليهم).

وقوله: {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} .

أي: فمنعهم بتحسينه وتزيينه لهم من اتباع الصراط المستقيم، وهو دين الله القويم، فهم لا يهتدون إلى طريق الحق، بل هم في غَيِّهم يترددون.

وقوله: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .

قال ابن عباس: (يعلم كل خبيئة في السماء والأرض).

وقد قرأ بعض قراء مكة والمدينة والكوفة {أَلَّا} بالتخفيف. والتقدير: ألا يا هؤلاء اسجدوا لله وحده الذي يعلم كل خفية في السماوات والأرض فيخرجها إن شاء.

وقرأ أبو عمرو ونافع وعاصم وحمزة {أَلَّا} بالتشديد. والتقدير: وزيَّنَ لهم الشيطان أعمالهم لئلا يسجدوا لله.

وهما قراءتان مستفيضتان مشهورتان في قراء الأمصار، كما ذكر شيخ المفسرين.

وعن مجاهد: ({يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ} قال: الغيث).

ص: 538

وقال ابن زيد: ({الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال: خبء السماء والأرض: ما جعل الله فيها من الأرزاق، والمطر من السماء، والنبات من الأرض، كانتا رتقًا لا تمطر هذه ولا تنبت هذه، ففتق السماء، وأنزل منها المطر، وأخرج النبات).

قلت: والآية أعم من ذلك، فهي تشمل كل خفية في السماوات والأرض، وكل غائبة صغيرة أو كبيرة، فهو يعلمها ويخرجها متى شاء، كما قال سبحانه في آخر هذه السورة:{وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل: 75]. فيشمل الخبء كل ما هو مخبوء فيهما من نبات ومعادن وأرزاق ومخلوقات مختلفة لا يعلمها إلا الله.

وقوله: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} .

أي: ويعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه من الأقوال والأفعال، لا يخفى عليه سبحانه من أمر خلقه شيء.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود: 5].

2 -

وقال تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10].

3 -

وقال تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7].

وفي المسند وسنن النسائي عن عروة عن عائشة قالت: [الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إلى آخر الآية](1).

وفي صحيح مسلم من حديث عمر - قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم أخبرني عن الإحسان؟ قال -: [الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك].

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (6/ 46)، والنسائيُّ (3460)، والبخاري تعليقًا (7385)، وأخرجه ابن ماجة (188) و (2063)، وأخرجه عبد بن حميد (1514)، وأخرجه ابن جرير في "التفسير"(33726)، وإسناده على شرط مسلم.

ص: 539

وفي لفظ من حديث أبي هريرة: [قال: يا رسول الله! ما الإحسان؟ قال: أنْ تخشى الله كأنك تراه، فإنَّك إنْ لا تكنْ تراه فإنَّه يراك](1).

وقوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} .

قال ابن زيد: (هذا كله كلام الهدهد).

والمعنى: هلا يسجدون لله العظيم الذي لا تصلح العبادة إلا له، لا إله إلا هو، رب العرش العظيم الذي ليس في المخلوقات أعظمُ منه.

أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة](2).

وأخرج ابن خزيمة في "التوحيد"، وعبد الله بن أحمد في "السنة"، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:[الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر أحد قدره](3).

فائدة: لقد نطق النمل في أول السورة بكلام حق، وفهمه سليمان عليه السلام وتبسم لذلك تعجبًا، ثمَّ تبعه الهدهد في هذا الموقف النبيل الذي يدلّ فيه قائده على ما فيه تمام قوته وشوكته وحماية دولة الحق. وقد نهى الله سبحانه - على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم عن قتل النمل والهدهد.

فقد أخرج أبو داود وابن ماجة بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [نهى النبي صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ أرْبَعٍ من الدَّواب: النَّملةِ والنَّحْلَةِ والهُدْهُدِ والصُّرَد](4).

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [قرصَتْ نَمْلَةٌ نبيًّا من الأنبياء،

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (10)، كتاب الإيمان، في أثناء حديث طويل. باب: الإِسلام ما هو وبيان خصاله.

(2)

حديث صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة في "كتاب العرش"(1/ 114)، والبيهقيُّ في "الأسماء والصفات" ص (290). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (109).

(3)

صحيح موقوف. رواه ابن خزيمة والدارميُّ وعبد الله بن أحمد. انظر مختصر العلو (45) ص (102)، ورجاله كلهم ثقات. وانظر كتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 1161) لتفصيل البحث.

(4)

إسناده صحيح. أخرجه أبو داود (5267)، وابن ماجة (3224)، وأحمد (1/ 332)، وأخرجه البيهقي (9/ 317)، وكذلك ابن حبَّان (5646).

ص: 540

فأمر بقريةِ النمل فَأُحرِقَت، فأوحى الله إليه، أن قرصَتْكَ نَمْلَةٌ أحرقْتَ أُمَّةً من الأمم تُسَبِّحُ الله؟ ] (1).

وفي رواية: [نزل نبيٌّ من الأنبياء عليه السلام تحت شجرة، فلدغَتْهُ نَمْلَةٌ، فأمَرَ بِجَهازِه فَأُخْرِجَ من تحتِها، وأمرَ بها فأُحرقت في النار، قال: فأوحى الله إليه: فهلّا نَمْلَةً واحدة].

وفي لفظ: [أفي أن قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أهلكت أُمّةً من الأمم تُسَبِّح].

27 -

35. قوله تعالى: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}.

في هذه الآيات: استقبالُ سليمان عليه السلام الخبر من الهدهد على وجه التثبت والتحقق قبل اتخاذ القرار، وإعطاؤه رسالة عاجلة منه إلى بلقيس يأمرهم بالخضوع لسلطانه القائم بأمر الله قبل أن لا ينفعهم الفرار. واستشارة بلقيس قومها محذرة لهم بأس الملوك وأبعاد هذا الإنذار، واستقرار الرأي منها على إرسال هدية لسليمان لاستخلاص ما يكون وراء ذلك من الأخبار.

فقوله تعالى: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} . أي: سنتحقق مما قلت أصِدْقٌ هو أم أردت أن تتخلّص بذلك الإخبار من الوعيد والعقاب.

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: {قَالَ} سليمان للهدهد {سَنَنْظُرُ} فيما

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3019)، كتاب الجهاد والسير، وأخرجه مسلم (2241)، ح (150)، كتاب السلام، باب النهي عن قتل النمل، ورواه أبو داود (266)، والنسائيُّ:(7/ 210 - 211)، وابن ماجة (3225)، وأحمد (2/ 313)، وابن حبَّان (5614).

ص: 541

اعتذرت به من العذر، واحتججت به من الحجة لغيبتك عنا، وفيما جئتنا به من الخبر {أَصَدَقْتَ} في ذلك كله {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} فيه).

وقوله تعالى: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} .

قال الضحاك: (فمضى الهدهد بالكتاب، حتى إذا حاذى الملكة وهي على عرشها ألقى إليها الكتاب).

قال ابن كثير: (وذلك أن سليمان عليه السلام كتب كتابًا إلى بلقيس وقومِها.

وأعطاه لذلك الهدهد فحمله، قيل: في جناحه كما هو عادةُ الطير، وقيل: بمنقاره، وذهب إلى بلادهم فجاء إلى قصر بِلْقيس، إلى الخَلْوَةِ التي كانت تختلي فيها بنفسِها، فألقاه إليها من كُوَّةٍ هنالِكَ بينَ يديها، ثمَّ تولى ناحيةً أدبًا ورياسة فتحيَّرت مما رأت، وهالها ذلك، ثمَّ عَمَدت إلى الكتاب فأخذَته، ففتحت خَتْمَهُ وقرأته، فإذا فيه:{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} ).

وقوله: {قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} .

الملأ: أشراف قومها. والمقصود: أنها جمعت أمراءها ووزراءها وكبراء دولتها ومملكتها وأخبرتهم قائلة لهم: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} . وفي تأويله وجوه:

1 -

الوجه الأوّل: قال النسفي: ({أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} حسن مضمونه وما فيه).

2 -

الوجه الثاني: قال ابن جرير: (قال بعضهم: وصفته بذلك لأنه كان مختومًا).

3 -

الوجه الثالث: قال ابن زيد: (هو كتاب سليمان حيث كتب إليها). فوصفت الكتاب بالكريم لأنه من عند عظيم في نفسها ونفوسهم فعظَّمته إجلالًا لسليمان عليه السلام.

4 -

الوجه الرابع: قيل: لأنه بدأ فيه بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} - ذكره القرطبي.

5 -

الوجه الخامس: قيل: تعني بكرمه ما رأته من عجيب أمره، كون طائر أتى به فألقاه إليها، ثمَّ تولّى عنها أَدَبًا. وهذا أمْرٌ لا يقِدرُ عليه أحدٌ من الملوك، ولا سبيل لهم إلى ذلك - ذكره ابن كثير.

6 -

الوجه السادس: قيل: وصفته بذلك، لما تضمن من لين القول والموعظة في الدعاء إلى عبادة الله عز وجل، وحسن الاستعطاف والاستلطاف من غير أن يتضمن سَبًّا ولا لعنًا، ولا ما يغيّر النفس، ومن غير كلام نازل ولا مستغلق، على عادة الرسل في

ص: 542

الدعاء إلى الله عز وجل، ألا ترى إلى قول الله عز وجل لنبيّه صلى الله عليه وسلم:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]، وقوله لموسى وهارون:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]. ذكره القرطبي بعد أوجه أخرى ثمَّ قال: (وكلها وجوه حسان وهذا أحسنها).

قلت: ولا شك أن مجموع ما سبق من الخصال يمكن أن يوصف به كتاب سليمان عليه الصلاة والسلام إلى بلقيس ملكة سبأ.

وقوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} .

أي قالت: يا أيها الملأ إني ألقي إليّ كتاب كريم، وإنه من سليمان ابتدأه بـ:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . فعرفوا أنَّه من نبي الله سليمان عليه السلام. وأنه لا قِبَل لهم به. قال ابن كثير: (وهذا الكتاب في غاية البلاغة والوَجازَةِ والفصاحة، فإنَّه حَصَّل المعنى بأيسر عبارة وأحسنها، قال العلماء: ولم يكتب أحد {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قبل سليمان عليه السلام.

قال ابن زيد: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ} : أن لا تمتنعوا من الذي دعوتكم إليه، إن امتنعتم جاهدتكم. {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} يقول: وأقبلوا إليّ مذعنين لله بالوحدانية والطاعة).

وقال ابن جرير: (وعنى بقوله: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ}: أن لا تتكبروا ولا تتعاظموا عما دعوتكم إليه).

وقوله تعالى: {قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} .

قال ابن زيد: (دعت قومها تشاورهم. قالت: {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا} بمعنى: قاضية).

قال القاسمي: (أي: لا أبتُّ أمرًا إلا بمحضركم ومشورتكم. ولا أستبدّ بقضاء إلا باستطلاع آرائكم والرجوع إلى استشارتكم).

وقوله تعالى: {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} .

قال ابن زيد: (عرضوا لها القتال، يقاتلون لها، والأمر إليك بعد هذا {فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}).

ص: 543

قال النسفي: (أرادوا بالقوة قوة الأجساد والآلات، وبالبأس النجدة والبلاء في الحرب).

أي: قالوا لها: نحن أولو قوة في العدَدِ والعُدَدِ، وأولو بأس ونجدة وبلاء في الحرب كما تعلمين، وإنما أمر القتال أو الصلح مفوض إليك، فرأينا من رأيك، فانظري ما هو أبقى لشرفك وملكك.

وقوله: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} .

قال ابن عباس: (إذا دخلوها عنوة خرّبوها).

وقوله: {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} . قال ابن كثير: (أي: وقصدوا من فيها من الوُلاةِ والجنود فأهانوهم غاية الهوان، إما بالقتل أو بالأسر).

وقوله: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} . قال ابن عباس: (قالت بِلْقيسُ: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً}، قال الرب عز وجل: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}).

وقوله تعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} .

قال قتادة: (رَحِمَها الله ورَضِيَ عنها. ما كان أعقَلَها في إسلامها وفي شِرْكِها! عَلِمَت أن الهدية تقع مَوقعًا من الناس).

قال القرطبي: ({وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} هذا من حسن نظرها وتدبيرها، أي إني أجرب هذا الرجل بهدية، وأعطيه فيها نفائس من الأموال، وَأُغْرِبُ عليه بأمور المملكة: فإن كان ملكًا دنياويًا أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك، وإن كان نبيًّا لم يرضه المال ولازَمَنا في أمر الدِّين، فينبغي لنا أن نؤمن به ونتبعه على دينه).

36 -

40. قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ

ص: 544

مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)}.

في هذه الآيات: استثارةُ سليمان عليه السلام من فعل بلقيس وهديتها، وتقريره الزحف بجيش كبير نحوها، ورؤيته إبراز شيء من قوته وسلطانه ليباغتها به عند وصولها، واستعانتُه بالجن وعالِمِهم في ذلك وشكره ربه تعالى على ما آتاه من القوة والتمكين، وأغدق عليه من ألوان النعيم.

فقوله: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} . قال ابن كثير: (أي: أتصانعونني بمال لأترككم على شرِكِكم ومُلْكِكم؟ ! {فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} أي: الذي أعطاني الله من الملك والمال والجنود خيرٌ مما أنتم فيه، {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ}، أي: أنتم الذين تنقادونَ للهدايا والتحَف، وأما أنا فلا أقبل إلا الإِسلامَ أو السَّيف).

قلت: وقد أكثر المفسرون من ذكر تفاصيل الهدية دون دليل يليق على منهاج النبوة، وإنما أَكْثَرُ ذلك مأخوذٌ مِنَ الإسرائليات. ومِن ثمَّ فلا ينبغي تسويد صفحات كتب التفسير به، والظاهر أن سليمانَ عليه الصلاة والسلام لم يأبه إلى ماهية هديتهم وما فيها من زينة وعجائب، بل نظر أبعدَ من ذلك بكثير، وهو مستقبل الناس بين يدي الله عز وجل ونجاتهم من عذاب الله يوم القيامة، هذا من جهة، ومستقبل دولة الإِسلام أن لا يجاورها دولة شرك في الأرض من جهة أخرى.

وقوله: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} . أي: رُدَّ عليهم هديتهم. قال ابن جرير: (وهذا قول سُليمان لرسول المرأة).

وقوله: {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} . قال أبو صالح: (لا طاقة لهم بها). قال النسفي: (وحقيقة القبل المقاومة والمقابلة، أي لا يقدرون أن يقابلوهم).

وقوله: {وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} . قال وهب بن منبه: (أو لتأتيني مسلمة هي وقومها).

والمقصود: ولنخرجهم من سبأ مهانين أذلاء إن لم يأتوا مسلمين ويدينوا بالولاء للإسلام ودولة الحق.

وقوله تعالى: {قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} .

إخبار عن إرادة سليمان إظهار عظمة ما وهبه الله من الملك واستقرار دولة الحق،

ص: 545

وتسخيره - تعالى - له أسباب التمكين من الجنود الكثيرة، والخبرات الكبيرة، وبعض نواميس الطبيعة.

وقد ذكر المفسرون تفاصيل سرير بلقيس الذي كانت تجلس عليه وأنه من ذهب مُفَصَّص بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ وغير ذلك، والمهم بالنسبة لنا ما ذكر القرآن الكريم أنَّه عرش عظيم. فأراد سليمان عليه الصلاة والسلام أن يُريها صغار قوتها أمام عظمة ما آتاه الله من الملك والتسخير والتمكين. فخاطب جنوده قائلًا:{أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} . قال ابن عباس: (مستسلمين).

قال ابن زيد: (استدعاه ليريها القدرة التي هي من عند الله، ويجعله دليلًا على نبوته، لأخذه من بيوتها دون جيش ولا حرب).

وقوله: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} .

قال مجاهد: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ} مارِدٌ من الجن). وقال ابن عباس: ({أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ}: يعني قبل أن تقومَ من مجلسك). وقال مجاهد: (مقعدك).

وقوله: {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} . قال ابن عباس: (أي قويٌّ على حَمْلِهِ، أمينٌ على ما فيه من الجوْهر).

وقوله: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} .

الظاهر أن سليمان أراد أعجل من ذلك في إحضار السرير ليظهر لبلقيس عظمة ما هو عليه مِمّا وهبه الله من الملك والتمكين والتسخير الذي لم يكن لأحد قبله، ولا يكون لأحد بعده. فقام جنّي آخر من المؤمنين ممن عنده علم على منهاج النبوة فقال لسليمان:{أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} .

قال وهب بن منبه: (امدُد بَصَرك، فلا يبلغ مداه حتى آتيك به).

قلت: وقد ذكر المفسرون هنا أقوالًا كثيرة في تعريف الذي عنده علم من الكتاب، وبعضهم أتى من ذلك بالعجائب، ولا دليل عندهم تقوم به الحجة، وإنما سياق الآيات يقتضي ما ذكرنا والله تعالى أعلم.

وفي ذلك تنبيه لفضل العلم وشرفه ومكانته، فإنَّه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وقد رأينا في زماننا هذا سَبْقَ الأمم العاملةِ المتقنةِ الأممَ النائمةَ الضعيفةَ إنما كان بالعلم والدأب والإتقان. فإذا جمع العَالِمُ بين علم الدنيا والآخرة، وبين

ص: 546

التقوى والصلاح، فلا أعجب حينئذ من ذلك ولا أقوى ولا أفضل. وهذا ما جمعه الله تعالى لسليمان عليه الصلاة والسلام وأعطاه بعض جنوده.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].

2 -

وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].

3 -

وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].

وفي كنوز السُّنة العطرة من آفاق ذلك أحاديث، منها:

الحديث الأوّل: روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [لا حَسَدَ إلا في اثْنَتَيْن: رَجُلٍ آتاه اللهُ مالًا فَسُلِّطَ على هلكتِه في الحق، ورجُلٍ آتاه الله الحِكْمةَ فهو يقضي بها ويُعَلِّمُها](1).

الحديث الثاني: أخرج الترمذي في السنن بإسناد صحيح عن أبي أمامة الباهلي قال: ذُكِرَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما: عابد، والآخر: عالم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فَضْلُ العالِمِ على العابدِ كَفَضْلي على أدناكم. ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله وملائكتَه وأهْلَ السماوات والأرض حتى النَّملة في جُحْرِهَا، وحتى الحوت لَيُصَلُّونَ على مُعَلِّمِ الناسِ الخير](2).

قال أبو عيسى: سمعت أبا عمار الحسين بن حريث الخزاعي يقول: سمعت الفضيل بن عياض يقول: (عالم عامل معلم يدعى كبيرًا في ملكوت السماوات).

الحديث الثالث: أخرج البزار والطبراني بإسناد حسن عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فَضْلُ العِلْمِ خيرٌ من فضلِ العبادة، وخيرُ دينكم الورَعُ](3). وفي لفظ: (أحبُّ إلي) بدل "خير".

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (73)، كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي (2161) - أبواب العلم - باب في فضل الفقه على العبادة. وانظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (4089).

(3)

إسناده حسن. أخرجه الطبراني في "الأوسط"، والبزار في المسند. انظر صحيح الترغيب (1/ 66)، كتاب العلم. الترغيب في العلم وطلبه. وانظر صحيح الجامع (4090).

ص: 547

وقوله: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} .

أي: فلما رأى سليمان عليه السلام عرش بلقيس ماثلًا أمام عينيه مستقرًا بين يديه أدرك عِظم فضل الله عليه وقال: هذا من نِعَم الله عليّ ليختبرني ويمتحنني، أأشكر ذلك من منّه وكرمه عليّ، أم أكفر نعمته علي فأهمل شكرها.

وقوله: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} .

أي: ومن شكر الله تعالى على نعمه فهو إنما يرجع بفائدة ذلك الشكر على نفسه: من رضا الله تعالى عليه، والزيادة له في نعمه، وذكره في عباده الشاكرين. فإن الله تعالى لا يحتاج إلى شكر عبده، ومن كفَرَ نعم الله تعالى فجحدها أو أهمل شكرها فإنما يرجع وبال ذلك عليه، فالله تعالى غني لا يفتقر إلى أحد، كريم يغدق على جميع عباده كافرهم ومؤمنهم.

قال ابن جرير: ({وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} يقول: ومن كفر نعمه وإحسانه إليه وفضله عليه، لنفسه ظَلَمَ وحظَّها بَخَسَ، والله غني عن شكره، لا حاجة به إليه، لا يضره كفر من كفر به من خلقه، كريم: ومن كرمه إفضاله على من يكفر نعمه، ويجعلها وصلة يتوصل بها إلى معاصيه).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].

2 -

وقال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].

وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: [قال الله تعالى: يا عبادي، لو أن أولكم وآخرَكم، وإنسكم وجنَّكم، كانوا على أتقى قلبِ رجُلٍ واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أنَّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلبِ رجلٍ منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا. يا عبادي، إنما هي أعمالكم أُحْصيها لكَم، ثمَّ أوفيكم إياها، فمن وجَدَ خيرًا فليحمد الله، ومن وَجَدَ غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَه](1).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2577)، والبخاري في "الأدب المفرد"(490)، والترمذي (2495)، وابن ماجة (4257)، وأخرجه أحمد (5/ 160)، وابن حبَّان (619) من حديث أبي ذر مطوّلًا.

ص: 548

وفي سنن ابن ماجة بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما أنعم الله تعالى على عبدٍ نعمة فقال: الحمد لله، إلا كان الذي أعطى أفضلَ مما أخذ](1).

وله شاهد عن الطبراني بإسناد حسن من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ما أنعم الله على عبدٍ نعمة فحِمَدَ الله عليها إلا كان ذلك الحمد أَفضَلَ من تلكَ النعمة].

41 -

44. قوله تعالى: {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.

في هذه الآيات: أمرُ سليمان جنده بتنكير عرش بلقيس ليختبر فطنتها، وإجابتها بقولها:{كَأَنَّهُ هُوَ} عند سؤاله لها عن عرشها، وقد فَضَّل الله سليمان بالعلم والقوة وأضعفها ودولتها بكفرها وقومها، فلما اختبرها بالصرح الممرد من قوارير ما ملكت إلا أن اعترفت بظلمها نفسها وأعلنت إسلامها.

فقوله تعالى: {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ} .

قال قتادة: ({نَكِّرُوا}: غيِّروا). وقال مجاهد: ({نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا}: غَيِّروه {أَتَهْتَدِي} أتعرفه).

قال ابن عباس: (وتنكير العرش، أنَّه زيد فيه ونقص). قال: (زيد في عرشها ونقص منه، لينظر إلى عقلها، فوُجدت ثابتة العقل).

وعن وهب بن منبه: ({أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ}: أي أتعقل، أم تكون من الذين لا يعقلون. ففعل ذلك لينظر أتعرفه، أو لا تعرفه).

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (3805)، كتاب الأدب، باب فضل الحامدين. انظر صحيح سنن ابن ماجة (3067)، وكذلك للشاهد: صحيح الجامع (5438).

ص: 549

والمقصود: لما أُتي سليمان عليه الصلاة والسلام بِعَرْش بَلْقِيس قبل وصولها إليه، أمر بالعرش أن تُغَيَّر بعض صفاته ليختبِر معرفتها وثباتها عند رؤيته، هل تهتدي لمعرفة عرشها أو لا.

وقوله: {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} .

قال وهب بن منبه: (لما انتهت إلى سليمان وكلمته أخرج لها عرشها ثمَّ قال: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ}؟ {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ}). قال قتادة: (شبَّهته). وقال ابن زيد: (شكّت). قال ابن كثير: (أي عُرِض عليها عرشُها، وقد غُيِّرَ وَنُكِّرَ، وزيدَ فيه ونُقِصَ، وكان فيها ثَباتٌ وعقلٌ، ولها لُبّ ودَهاءٌ وحَزْمٌ، فلم تُقدِم على أنَّه هو لِبُعْدِ مسافتِه عنها، ولا أنَّه غيرُه، لِمَا رأت من آثاره وصِفاتِه، وإنْ غُيِّرَ وَبُدِّلَ ونُكِّرَ، فقالت: {كَأَنَّهُ هُوَ}، أي: يُشْبِهُه ويُقارِبُه. وهذا غاية في الذَّكاء والحَزْم).

وقوله: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} . قال مجاهد: (سليمان يقوله).

قال ابن جرير: (وقال سليمان: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا} أي هذه المرأة، بالله وبقدرته على ما يشاء، {وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} لله من قبلها).

وقوله تعالى: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} .

أي: وكان صدّها عن الهداية ما كانت تعبد مع قومها الشمس من دون الله، فمنعها نشؤها بين أظهر الكفار من عبادة الله وحده.

قال مجاهد: (كفرها بقضاء الله، صدّها أن تهتدي للحق).

قال النسفي: ({وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} متصل بكلام سليمان، أي وصدّها عن العلم بما علمناه، أو عن التقدم إلى الإِسلام عبادة الشمس ونشؤها بين أظهر الكفرة، ثمَّ بين نشأها بين الكفرة بقوله: {إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ}. أو كلام مبتدأ، أي: قال الله تعالى: {وَصَدَّهَا} قبل ذلك عما دخلت فيه ضلالها عن سواء السبيل، أو صدّها الله، أو سليمان عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار وإيصال الفعل).

وقوله: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} . أي القصر أو صحن الدار.

قال وهب بن منبه: (أمر سليمان بالصرح، وقد عملته له الشياطين من زجاج كأنه الماء بياضًا، ثمَّ أرسل الماء تحته، ثمَّ وضع له فيه سريره، فجلس عليه، وعكفت عليه الطير والجن والإنس، ثمَّ قال:{ادْخُلِي الصَّرْحَ} ليريها مُلْكًا هو أعزّ من مُلكها،

ص: 550

وسلطانًا هو أعظم من سلطانها. {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} لا تشك أنَّه ماء تخوضه، قيل لها: ادخلي إنه صرح ممرّد من قوارير).

قال القاسمي: (وكان سليمان عليه السلام اتخذ قصرًا بديعًا من زجاج، فأراد أن يريها منه عظمة ملكه وسلطانه، ومقدار ما آثره الله به {فَلَمَّا رَأَتْهُ} أي صحنه {حَسِبَتْهُ لُجَّةً} أي ماء عظيمًا {وَكَشَفَتْ} أي: للخوض فيه {عَنْ سَاقَيْهَا} ، قال:{إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ} أي مملّس {مِنْ قَوَارِيرَ} أي من الزجاج.

{قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} أي بكفرها السالف وعبادتها وقومها الشمس {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي متابعة له في دينه وعبادته لله وحده لا شريك له).

تنبيه: أَكْثَرَ المفسرون في هذا المقام من روايات واهية لا تقوم بها الحجة، في شأن سليمان عليه السلام مع بلقيس، وأكثرها لا يليق بمقام النبوة وعصمتها، وكان أولى أن لا تذكر، فإن أغلبها من الإسرائيليات والأحاديث الموضوعة المكذوبة.

45 -

53. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَاقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}.

في هذه الآيات: إخبارُ الله تعالى عن إرساله نبيّه صالحًا عليه السلام إلى ثمود بعبادة الله وحده ونبذ ما يُعبد من دونه فإذا هم ينقسمون إلى فريقين: فريق مصدق، وفريق مكذب. فدعاهم إلى توحيد الله واستغفاره، فقابلوه بالتطير منه، والمكر

ص: 551

بالاشتراك مع الرهط المفسدين، فمكر الله بهم وهو أشد مكرًا بالقوم الظالمين، فدمرهم وكتب النجاة للقوم المؤمنين.

فقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} .

قال مجاهد: (مؤمن وكافر، قولهم صالح مرسل، وقولهم صالح ليس بمرسل. ويعني بقوله: {يَخْتَصِمُونَ} يختلفون).

وقوله: {قَالَ يَاقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} . قال مجاهد: (السيئة: العذاب، قبل الحسنة: قبل الرحمة. أو قال: قبل العافية).

أي قال لهم صالح عليه الصلاة والسلام: يا قوم لم تدعون بحضور العذاب ونزول النقمة، ولا تسألون الله الرحمة والعافية؟ !

وقوله: {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . قال ابن جرير: (يقول: هلا تتوبون إلى الله من كفركم، فيغفرلكم ربكم عظيم جرمكم، يصفح لكم عن عقوبته إياكم على ما قد أتيتم من عظيم الخطيئة). قال النسفي: ({لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بالإجابة).

وقوله: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} . أي: تَشَاءَمْنا بك وبمن تبعك.

قال مجاهد: (تشاءموا بهم). قال ابن كثير: (أي: - قالت ثمود لرسولها صالح - ما رأينا على وَجْهِك وَوُجُوهِ من اتَّبَعك خير. وذلك أنهم - لشقائهم - كان لا يُصيبُ أحدًا منهم سوءٌ إلا قال: هذا مِن قِبَل صالح وأصحابه).

ويبدو أن هذه الصفة متوارثة في الأمم المكذبة للرسل.

ففي التنزيل:

1 -

قال تعالى - مخبرًا عن قوم فرعون -: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف: 131].

2 -

وقال تعالى - مخبرًا عن أهل القرية إذ جاءها المرسلون -: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس: 18 - 19].

3 -

وقال تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78].

ص: 552

قلت: وإنما منهاج المرسلين في بعث الأمل في نفوس العباد بإشراقة الثقة بالله، وباختيار الكلمة الطيبة التي ترضي الله سبحانه فيغير أحوال عباده ويسعدهم.

ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[لا عدوى، ولا طيرة، ولا هَامةَ، ولا صَفَرَ، ولا نَوْءَ، ولا غُول](1).

والعدوى من الإعداء، أي يُصاب الرجل بمثل ما بصاحب الداء، فأخبر أن ذلك إن حصل فبقدر الله. والطِّيَرَةُ من أمر الجاهلية وهي تعليق الخير والشر على حركة طائر. قال عكرمة:(كنا جلوسًا عند ابن عباس، فمرّ طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير خير. فقال ابن عباس: لا خير ولا شر، فبادره بالإنكار عليه، لئلا يعتقد تأثيره في الخير والشر).

والهامة: طير من طير الليل كأنه البومة، كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم.

والصفر: حية تصيبُ بطن الماشية والناس، وهي أعدى من الجرب عند العرب.

والنَوْء: جمعها أنواء وهي منازل القمر، فكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنزلة يكون مطر.

والغول: جنس من الجن والشياطين، تزعم العرب أنَّه يخرج في الطريق فيضلهم ويهلكهم.

وفي سنن أبي داود بسند صحيح عن ابن مسعود مرفوعًا: [الطِّيرة شرك، الطِّيرةُ شِرك، وما منا إلا، ولكن الله يُذهِبُهُ بالتوكل](2).

والخلاصة: إن التطير عادة جاهلية قبيحة، حاربها الإِسلام، وردّها المرسلون على أقوامهم.

وقوله: {قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} . قال ابن عباس: (مصائبكم). وقال قتادة: (علمكم

(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم - حديث رقم - (2220)، وكذلك (2222) - من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وفيه لفظة "ولا غول". وانظر كتابي: منهج الوحيين في معالجة زلل النفس وتسلط الجن - ص (143) - لتفصيل أكبر.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2/ 158)، والبخاري في "الأدب المفرد"(131)، والترمذي (1/ 304)، وابن ماجة (2/ 362 - 363)، والحاكم (1/ 17 - 18)، وابن حبَّان (1427)، وأحمد (1/ 389)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (430).

ص: 553

عند الله). والمقصود: الله يقسم أيامكم وأعمالكم وأرزاقكم وأقداركم وليست معلقة على حركة طائر.

قال ابن جرير: (أي ما زجرتم من الطير لما يصيبكم من المكاره عند الله علمه، لا يُدرى أيُّ ذلك كائن، أم ما تظنون من المصائب أو المكاره، أم ما لا ترجونه من العافية والرجاء والمحاب).

وقوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} . أي تختبرون وتمتحنون، وربما تُستدرجون فيما أنتم فيه من الضلال. قال قتادة:(تُبْتَلون بالطاعةِ والمعصية).

وقوله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} .

قال ابن عباس: (هم الذين عقروا الناقة (1) وقالوا حين عقروها: نبيت صالحًا وأهله فنقتلهم، ثم نقول لأولياء صالح: ما شهدنا من هذا شيئًا، وما لنا به علم. فدمرهم الله أجمعين).

والمقصود: أنه كان في مدينة ثمود تسعة نفر من طغاة ثمود ورؤوسهم، وأصحاب المكر والتكذيب فيهم، وقد انبعث أشقاهم لعقر الناقة، وهَمُّوا بقتل صالح كذلك، وكانوا أهل فساد وإفساد في البلاد.

وقوله تعالى: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} .

قال القاسمي: (أي ليحلف كل واحد منكم على موافقة الآخرين، بالله الذي هو أعظم المعبودين {لَنُبَيِّتَنَّهُ} أي لنقتلنّهُ ليلًا. وقرئ بالتاء على خطاب بعضهم لبعض {وَأَهْلَهُ} أي من آمن معه. {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} أي الطالب ثأره علينا {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} أي ما حضرنا مكان هلاك الأهل، مع تفرقهم في الأماكن الكثيرة، فضلًا عن مكانه، فضلًا عن مباشرته {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} أي ونحلف إنا لصادقون. أو: والحال إنا لصادقون فيما ذكرنا).

وقوله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} .

قال ابن زيد: (احتالوا لأمرهم، واحتال الله لهم، مكروا بصالح مكرًا، ومكرنا بهم مكرًا {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} بمكرنا وشَعَرْنا بمكرهم).

(1) أي: الذين صدر ذلك عن رأيهم ومشورتهم، فانبعث لعقرها أشقاهم.

ص: 554

قلت: وقد ثبت - لله تعالى - صفة المكر والكيد بالكافرين.

ففي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 13].

2 -

وقال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15، 16].

3 -

وقال تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54].

ومن صحيح السنة المطهرة في ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا أراد الله بعبده الخير عجلَ له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشّرَ أمسك عنه ذنبه حتى يُوافى به يوم القيامة] وسنده صحيح (1).

الحديث الثاني: أخرج أبو داود بإسناد صحيح عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزير صدق، إنْ نَسِيَ ذَكَّرَه، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد به غير ذلك جعلَ له وزيرَ سوء، إن نسيَ لم يذكِّرْهُ، وإن ذكر لم يُعِنْهُ](2).

الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إنّ الله تعالى ليُملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يُفْلته](3).

وقوله تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} .

قال القرطبي: (أي بالصيحة التي أهلكتهم. وقد قيل: إن هلاك الكل كان بصيحة جبريل. والأظهر أن التسعة هلكوا بعذاب مفرد، ثم هلك الباقون بالصيحة والدمدمة).

وقوله: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} . أي فارغة ليس فيها منهم أحد، قد أبادهم الله فلا أثر لهم، وكان ذلك بظلمهم أنفسهم: بشركهم الله وتكذيب الرسل.

و{خَاوِيَةً} بالنصب على الحال. أي خالية عن أهلها خرابًا ليس بها ساكن.

(1) حديث صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي (1953)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (1220).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن - حديث (2932) - كتاب الخراج والإمارة والفيء. باب في اتخاذ الوزير. وانظر صحيح سنن أبي داود - حديث رقم - (2544).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4686)، كتاب التفسير، وأخرجه مسلم (2583)، كتاب البر والصلة. باب تحريم الظلم.

ص: 555

قال النسفي: ({فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} ساقطة منهدمة من خوى النجم إذا سقط أو خالية من الخواء، وهي حال عمل فيها ما دل عليه تلك).

وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .

يقول: أي: إن بفعلنا ذلك بثمود لآية لقوم يعلمون قدرتنا فيتَّعِظون وينزجرون.

وقوله تعالى: {وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} .

سُنّةُ الله بين أوليائه المؤمنين وأعدائه الكافرين، فإن العاقبة والنجاة للمتقين، والدمار والهلاك على القوم الظالمين.

والمقصود هنا: وأنجينا صالحًا والذين آمنوا معه وكانوا من المتقين.

54 -

58. قوله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)}.

في هذه الآيات: إنذارُ لوط صلى الله عليه وسلم قومه مغبة استمرارهم على فواحشهم، ومقابلتهم له بالتهديد بالإخراج ومن آمن معه من قريتهم، فأنجاه الله - إلا امرأته - وأخزاهم وأمطرهم العذاب الذي زلزلهم.

فقوله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وأرسلنا لوطًا إلى قومه، إذ قال لهم: يا قوم {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} أنها فاحشة، لِعِلْمِكُم بأنه لم يسبقكم إلى ما تفعلون من ذلك أحد). وقال ابن كثير: (أنذر قومه نِقْمةَ الله بهم، في فعلهم الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحدٌ من بني آدم، وهي إتيان الذكور دونَ الإناث، وذلك فاحشة عظيمة، استغنى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، فقال: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}، أي: يرى بعضكم بعضًا، وتأتون في ناديكم المنكر! ؟ ). قال القرطبي:

ص: 556

({وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} أنها فاحشة، وذلك أعظم ذنوبكم. وقيل: يأتي بعضكم بعضًا وأنتم تنظرون إليه. وكانوا لا يستترون عتوًّا منهم وتمرّدًا).

وقوله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} .

قال ابن كثير: (أي: لا تعرفون شيئًا لا طبْعًا ولا شَرْعًا، كما قال في الآية الأخرى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 165، 166]).

قال القرطبي: ({أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} أعاد ذكرها لفرط قبحها وشنعتها).

وقوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} .

أي: فلم يكن من قوم لوط حين دُعوا إلى التطهر من تلك القذارة إلا أن حَمَلوا على لوط والمؤمنين معه وطلبوا إخراجهم من القرية لمخالفتهم لهم فعلتهم الدنيئة وترفعهم عن رجس ما هم عليه.

قال ابن عباس: (قوله: {أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} قال: من إتيان الرجال والنساء في أدبارهن).

وعن مجاهد، في قوله:{إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} قال: (من أدبار الرجال وأدبار النساء استهزاءً بهم).

قال قتادة: (عابوهم بغير عيب: أي إنهم يتطهرون من أعمال السوء).

وقوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} . أي الباقين مع الهالكين.

قال ابن كثير: (أي: من الهالكين مع قومها، لأنها كانت رِدْءًا لهم على دينهم، وعلى طريقتهم في رضاها بأفعالهم القبيحة، فكانت تَدُلُّ قومها على ضِيفان لوطٍ، ليأتوا إليهم، لا أنها كانت تفعلُ الفاحشة، تكرمةً لنبيِّ الله صلى الله عليه وسلم لا كَرَامة لها).

وقوله: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} . أي: حجارة من سجيل. كما قال جل ثناؤه: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 82، 83].

ص: 557

وقوله: {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} .

أي: فساء مطر من أُنذر فلم يقبل الإنذار، وأصرّ على ركوب الفواحش والآثام.

59 -

64. قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)}.

في هذه الآيات: خلاصة دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم إلى أقوامهم:

- ليس هناك شركاء ولا شفعاء ولا وسطاء، ومن حق كل امرئٍ أن يُهرعَ إلى ربه عز وجل، وأن ينكر من أقاموا أنفسهم أو أقيموا من غيرهم زلفى إلى الله من البشر والحجارة.

- وإذا كنتم تُقِرُّون بأنه الخالق فلم تخضعون لغيره، وإذا كنتم تقرون بأنه المحيي والمميت فلم تسألون حجرًا أو قبرًا أو صالحًا مضى لا يملك لنفسه موتًا ولا حياة ولا نشورًا.

- وإذا كنتم تُقِرُّون بأنه الرازق فلم تلتمسون الرضى من غيره، وإذا كنتم تقرون بأنه الممطر أرضكم والمخصب زرعكم فلم تشكرون غيره.

- وإذا كنتم تُقِرُّون بأنه وحده يلجأ إليه في الشدائد والنائبات والكرب، فلم تسجدون

ص: 558

لغيره، ولم تستغيثون بغيره، ولم تنافقون لبشر من خلقه، ولم تحتكمون لغير شرعه ولغير منهاجه.

فاحتجَّ الأنبياء والرسل على أقوامهم بإقرارهم لله بالربوبية، لماذا لم يفردوه سبحانه بالألوهية، ولماذا لم يوحدوه في أسمائه وصفاته ومحامده، ولماذا لم يفردوه بالتشريع والحاكمية.

فقوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} .

قال ابن عباس: (أصحاب محمد اصطفاهم الله لنبيه). وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (إن المراد بعباده الذين اصطفى هم الأنبياء).

قلت: ولا تعارض بين القولين، فإن الأنبياء هم عباد الله الذين اصطفى وكذلك من تبعهم من حوارييهم ومن سار على منهاجهم إلى يوم الدين.

والمقصود: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بحمده على نعمه وآلائه التي لا تحصى، وعلى اتصافه - جل ثناؤه - بالصفات العُلا والأسماء الحسنى، والخطاب من باب أولى لجميع الأمة.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182].

فنزه الله تعالى نفسه عما يقوله المشركون وينسبونه له من النقص والعيوب، ثم أثنى على عباده المرسلين لسلامة ما وصفوه به سبحانه، ثم حمد نفسه جل ثناؤه على تفرده بأوصاف الكمال والجمال.

2 -

وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1].

3 -

وقال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111].

ومن صحيح السنة العطرة في آفاق ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:

ص: 559

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحبُّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس](1).

الحديث الثاني: خرّج مسلم كذلك في الصحيح عن أبي ذرّ الغفاري رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ألا أخبرك بأحبِّ الكلام إلى الله؟ إنَّ أحبَّ الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده](2).

الحديث الثالث: أخرج مسلم أيضًا في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: [جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: عَلِّمني كلامًا أقوله. قال: قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا، سبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم .. ] الحديث (3).

وقوله: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} - استفهام إنكار على اختيار المشركين آلهة يعبدونها مع الله تعالى.

وقوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} .

أي: كيف تختارون معشر المشركين عبادة أوثان لا تضر ولا تنفع على عبادة خالق السماوات بارتفاعها وصفائها، وكواكبها ونجومها، وأفلاكها وملائكتها، وخالق الأرض بجبالها وسهولها، وأشجارها وثمارها، وبحارها وبراريها، وإنسها وجنها، وطيرها وحيوانها. ثم أنزل لكم من السماء مطرًا جعله رزقًا للعباد أنبت به البساتين والحدائق ذات المنظر الحسن والشكل البهيّ.

قال مجاهد: (البهجة: الفقاح مما يأكل الناس والأنعام).

وقوله. {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} . قال النسفي: (أراد أن تَأَتِّي ذلك محال من غيره).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 70)، كتاب الذكر. باب في فضائل التسبيح.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2731) ح (85)، كتاب الذكر والدعاء. باب فضل سبحان الله وبحمده. وانظر مختصر صحيح مسلم (1907).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 70)، كتاب الذكر. باب: في التهليل والتحميد والتكبير. وانظر مختصر صحيح مسلم، حديث رقم (1906).

ص: 560

والمقصود: أنه لا يقدر على ذلك الإنبات إلا الله الخالق الرازق، ومع ذلك يعبد المشركون أوثانًا لا تضر ولا تنفع، ولا تنبت ولا تطعم.

وقوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} . قال ابن كثير: (أي: أإلهٌ مع الله يُعُبَدُ وقد تبيّنَ لكم ولكلِّ ذي لُبٍّ مما يَعرفون به أيضًا أنه الخالق الرزاق؟ ! ومن المفسرين من يقول معنى قوله {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} فَعَلَ هذا؟ . ثم قال في آخر الآية: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}، أي: يجعلون لله عدْلًا ونظيرًا).

وقوله: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا} . قال ابن جرير: (تستقرون عليها لا تميد بكم).

أي: من الذي جعل هذه الأرض التي تسكنون عليها قارّة ساكنة ثابتة لا تميد ولا تتأرجح، ولو جُعلت تهتز وترجف بأهلها كلما تحركوا على أرجائها لاستحالت الحياة وتعقّدت.

وقوله: {وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا} أي: وشَقّ في أرجائها أنهارًا طويلة وقصيرة، تعبر البلاد والأمصار، تسقي الأرض والبهائم والعباد.

وقوله: {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} - وهي ثوابت الجبال، تثبت الأرض من أن تميد بأهلها.

وقوله: {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} . قال ابن عباس: (سلطانًا من قدرته فلا هذا يغيّر ذاك، ولا ذاك يغيّر هذا، والحجز المنع).

والمقصود: جعل سبحانه حاجزًا بين المياه الحلوة العذبة والمياه المالحة ليتوازن العيش على هذه الأرض، فلا يزال يُستفاد من الماء العذب الزلال في الأنهار والبحيرات لسقي الحيوان والنبات والثمار. ولا يزالى الهواء عليلًا بانتشار تلك البحار والمحيطات المالحة فلا يفسد العيش.

وقوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} . قال القرطبي: (أي إذا ثبت أنه لا يقدر على هذا غيره فلم يعبدون ما لا يضر ولا ينفع).

وقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . أي: دل أكثرهم جط هلون حق ربهم عز وجل وما يجب له من توحيد الإلهية.

ص: 561

وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} .

أي: أمْ مَن يلجأ إليه العباد عند النوازل والمحن والمصائب، يرجون رحمته ويطمعون بكشف الضر عنهم مما نزل بهم.

قال ابن عباس: ({أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} قال: هو ذو الضرورة المجهود).

وقال السديّ: (الذي لا حول له ولا قوة). وقال ذو النون: (هو الذي قطع العلائق عما دون الله). وقال سهل بن عبد الله: (هو الذي إذا رفع يديه إلى الله داعيًا لم يكن له وسيلة من طاعة قذمها).

وجاء رجل إلى مالك بن دينار فقال: أنا أسألك بالله أن تدعو لي فأنا مضطر، قال:(إذن فاسأله فإنه يجيب المضطر إذا دعاه).

وعن ابن جريج: ({وَيَكْشِفُ السُّوءَ}: الضّر).

قال القرطبي: (ضمن الله تعالى إجابة المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه، والسبب في ذلك أن الضرورة إليه باللجاء ينشأ عن الإخلاص، وقطع القلب عما سواه، وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمّة، وجد من مؤمن أو كافر، طائع أو فاجر، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس: 22]. وقوله: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] فأجابهم عند ضرورتهم ووقوع إخلاصهم، مع علمه أنهم يعودون إلى شركهم وكفرهم. وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65] فيجيب المضطر لموضع اضطراره وإخلاصه).

قلت: وهذا تفسير رائع من الإمام القرطبي رحمه الله لآفاق هذه الآية الكريمة، وقد حفلت السنة العطرة ببدائع جوامع الكلم في ذلك.

الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي تميمة الهُجيمي، عن رجل من بَلْهُجَيْم قال: [قلت: يا رسول الله، إلامَ تدعُو؟ قال: أدعو إلى الله وحدَه، الذي إنْ مَسَّكَ ضُرٌّ فدعوته كشفَ عنكَ، والذي إنْ أَضْلَلْتَ بأرضٍ قَفرٍ فدعوتَه ردَّ عليك، والذي إن أصابتك سنةٌ فدعوتَه أنبتَ لك. قال: قلت: أَوْصِني. قال: لا تَسُبَّنَ

ص: 562

أحدًا، ولا تَزْهَدَنّ في المعروف، ولو أن تلقى أخاك وأنت مُنْبَسِطٌ إليه وجهكَ، ولو إن تُفْرغَ من دلوكَ في إناء المُسْتَقي، واتّزِر إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين. وإياك وإسبالَ الإزار فإن إسبالَ الإزار من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة] (1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عباس: أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: [لا إله إلا اللهُ العظيمُ الحليمُ، لا إله إلا الله ربُّ العرشِ العظيم، لا إله إلا الله ربُّ السماوات ورَبُّ الأرض ربُّ العرش الكريم](2).

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد في المسند، بسند صحيح، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما أصابَ أحدًا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيَّ حكمك، عدل فيِّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجًا. قيل يا رسول الله ألا نتعلمها؟ قال: بلى، ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها](3).

الحديث الرابع: يروي الترمذي بسند صحيح عن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[دعوةُ ذي النون إذ دعا ربَّه وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدعُ بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب له](4).

وله شاهد رواه الحاكم بلفظ: [ألا أخبركم بشيء إذا نزل برجل منكم كَرْبٌ، أو بلاء، من أمر الدنيا دعا به فَفُرِّج عنه؟ دعاء ذي النون: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين].

وقوله: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} . أي: قومًا يخلف بعضهم بعضًا، جيلًا بعد جيل وقرنًا بعد قرن. وقال الكلبي:(خلفًا من الكفار ينزلون أرضهم، وطاعة الله بعد كفرهم).

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (5/ 64) من حديث أبي تميمة، وإسناده صحيح على شرطهما، وجهالة الصحابي لا تضر.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2730)، كتاب الذكر والدعاء. باب دعاء الكرب.

(3)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (1/ 391)، (1/ 452)، وأبو يعلى (5297)، والحاكم (1/ 509).

(4)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن - حديث رقم - (3505). انظر صحيح سنن الترمذي (2785)، وللشاهد بعده - صحيح الجامع - حديث رقم - (2602).

ص: 563

وقوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} - توبيخ وتقريع. أي: أبعد كل ما ذكر تعبدون مع الله غيره. وهو الإله الحق الأحد الصمد المتفرد بالخلق والتدبير والإماتة والإحياء وكشف الضر وجلب الخير وبعث الأمل.

وقوله: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} . قال ابن جرير: (يقول: تذكرًا قليلًا من عظمة الله وأياديه عندكم تذكرون، وتعتبرون حجج الله عليكم يسيرًا، فلذلك أشركتم بالله غيره في عبادته).

وقوله: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} .

قال ابن جريج: (والظلمات في البر، ضلاله الطريق، والبحر، ضلاله طريقه وموجه وما يكون فيه).

والمقصود: مَنْ يهديكم إلى سبيل النجاة إذا تهتم في البر، أو ضللتم في ظلمات البحر وبين تلاطم أمواجه. أليس الله تعالى الذي جعل لكم من الدلائل السماوية والأرضية ما يرشدكم بها إذا أشرفتم على الضياع والهلاك.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16].

2 -

وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97].

قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وقد أخبر سبحانه في كتابه من منافع النجوم، فإنه يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وأخبر أنها زينة للسماء الدنيا، وأخبر أن الشياطين تُرجم بالنجوم).

وقوله: {وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} .

قال ابن جريج: (يقول: والذي يرسل الرياح نُشُرًا (1) لموتان الأرض بين يدي رحمته، يعني: قدام الغيث الذي يحيى موات الأرض). قال ابن كثير: (أي: بين يدي السحاب الذي فيه مطرٌ، يغيثُ به عباده المجُدبينَ الآزِلين (2) القنطين).

(1) قراءة نافع "نُشُرًا". وأما قراءة حفص "بُشْرًا".

(2)

الأزْلُ: الضيق والشدة، وتأزّلَ: ضاق صدره.

ص: 564

وقوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .

توبيخ آخر، وتقريع بعد تقريع. أي أإله مع الله يفعل ذلك ويعينه عليه {تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} من دونه.

وقوله: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} .

قال القرطبي: (كانوا يقرّون أنه الخالق الرازق، فألزمهم الإعادة، أي إذا قدر على الابتداء فمن ضرورته القدرة على الإعادة، وهو أهون عليه).

وقوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} . أي: يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويبعث للحساب والنشور؟

وقوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . أي: قل لهم - يا محمد - قدّموا حجتكم إن كان لديكم ما يدل أن أحدًا سوى الله يفعل شيئًا من ذلك إِن {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في دعواكم وزعمكم! ! .

وهو تحدّ للمشركين، وقد عُلِمَ أنهم فارغون من الدليل والحجة، وما لهم إلا اتباع سبيل الآباء وتعظيم أعراف الجاهلية.

وفي التنزيل نحو ذلك:

قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117].

وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

[مفاتيحُ الغيب خمسٌ لا يعلمُها إلا الله تعالى: لا يعلم أحدٌ ما يكون في غدٍ إلا الله تعالى، ولا يعلم أحدٌ ما يكون في الأرحام إلا الله تعالى، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله تعالى، ولا تدري نفس بأي أرض تموتُ إلا الله تعالى، ولا يدري أحدٌ متى يجيءُ المطر إلا الله تعالى](1).

65 -

75. قوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4697)، كتاب التفسير، وانظر (1039)، (7379) كذلك.

ص: 565

عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)}.

في هذه الآيات: انفرادُ الله تعالى بعلم الغيب، وجهل الكفار بالحق وشكهم في الآخرة، وتحذيرهم نزول نقمة الله بهم كما نزل بالأمم قبلهم، وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من استهزاء قومه ومكرهم.

فقوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُل} يا محمد لسائليك من المشركين عن الساعة متى هي قائمة {لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ} الذي قد استأثر الله بعلمه، وحجب عنه خلقه غيره، والساعة من ذلك {وَمَا يَشْعُرُونَ} يقول: وما يدري من في السماوات والأرض من خلقه متى هم مبعوثون من قبورهم لقيام الساعة).

وقوله: {إِلَّا اللَّهُ} استثناء منقطع، أي: إن الله وحده هو المتفرد بعلم الغيب لا شريك له.

والخطاب وإن كان لمشركي مكة فهو عام لجميع الخلق أن يعلموا أن ربهم عز وجل قد أحاط بالغيب وحده، ولم يطلع أحدًا من خلقه على شيء منه إلا بما شاء.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59].

2 -

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34].

ص: 566

ومن صحيح السنة المطهرة في آفاق هذه الآية أحاديث:

الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه عن الشَّعبي، عَنْ مَسْروق قال: [كنت مُتَّكِئًا عند عائشة فقالت: يا أبا عائشة! ثلاثٌ من تَكَلَّمَ بواحِدةٍ منهن فقد أَعْظَمَ على الله الفِرية، قلتُ ما هُنَّ؟ قالت: مَنْ زَعَمَ أن مُحَمدًا صلى الله عليه وسلم رأى رَبَّهُ فقد أعظَمَ على الله الفرية

قالت: ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتمَ شيئًا مِن كتاب الله فقد أعظم على الله الفِرْية، والله يقول:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]. قالت: ومن زعمَ أنه يُخْبِرُ بما يكون في غَدٍ فقد أعظَمَ على الله الفِرية. والله يقول: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} ] (1).

الحديث الثاني: أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن أبي هريرة قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بارزًا للناس. فأتاه رجل فقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ فقال: ما المسؤول عنها بأعْلَمَ من السائل. ولكن سأخبرك عن أشراطها. إذا ولدت الأمة رَبَّتَها، فذاكَ مِنْ أشراطها، وإذا كانت الحُفاةُ العراةُ رؤوس الناس، فذاك من أشراطها. وإذا تطاولَ رِعاءُ الغنم في البُنيان، فذاك من أشراطِها. في خمس لا يَعْلَمُهنَّ إلا الله. فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} الآية](2).

قال قتادة: (إنما جعل الله هذه النجوم لثلاث خصال: جعلها زينة للسماء، وجعلها يُهتدى بها، وجعلها رجومًا فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه، وأخطأ حَظَّهُ، وأضاع نصيبَهُ، وتكلَّف ما لا عِلمَ له به. وإنّ ناسًا جَهَلَةٌ بأمر بالله، قد أحدثوا من هذه النجوم كَهَانة: من أعْرَسَ بِنَجْم كذا وكذا، كان كذا وكذا. ومن سافَرَ بنجم كذا وكَذا، كان كذا وكذا. ومن وُلدَ بِنَجْم كذا وكذا، كان كذا وكذا، ولعمري (3) ما من نجم إلا يُولَد به الأحمرُ والأسودُ، والقصير والطويلُ، والحسَنُ والدَّميمُ، وما عِلْمُ هذا النجم

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (177)، كتاب الإيمان، في حديث طويل هذا معظمه وأهمه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (64)، (4044). وانظر صحيح سنن ابن ماجة (3268).

(3)

قلت: هذا الحلف لا ينبغي، والصواب لعمر الله، وإنما كان منه نحوه في الجاهلية. والأثر رواه ابن أبي حاتم. وذكره ابن كثير في التفسير وقال: وهو كلام جليل متين صحيح.

ص: 567

وهذه الدّابةِ وهذا الطير بشيءٍ من الغيب! وقضى الله تعالى أنه: {لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} ).

وقوله: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} .

قرأه قراء مكة: {بل أَدْرَكَ علمهم في الآخرة} . والتقدير: هل أدرك علمهم علم الآخرة.

وقرأه قراء الكوفة: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} . والتقدير: أي لم يدرك.

ومن أقوال المفسرين في ذلك:

أ - على القراءة الأولى:

1 -

عن ابن عباس: ({بل أدْرَكَ علمهم في الآخرة} يقول: غاب علمهم).

2 -

وقال مجاهد: ({بل أَدْرَكَ علمهم} قال: أم أدرك علمهم من أين يدرك علمهم).

3 -

وقال قتادة: ({بل أَدْرَكَ علمهم في الآخرة}، يعني بِجَهْلِهِم رَبَّهم، يقول: لم يَنْفُذْ لهم إلى الآخرة علمٌ).

4 -

وقال عطاء عن ابن عباس: ({بل أدرك علمهم في الآخرة} حين لم ينفع العلم).

والمقصود: أن علمهم إنما يُدرِكُ ويَكمُل يومَ القيامة حيثُ لا ينفعهم ذلك كما قال تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [مريم: 38]. وقد جاء في قراءة الحسن: {بل ادّرك علمهم} قال: (اضمحلّ علمهم في الدنيا حين عاينوا الآخرة).

ب - على القراءة الثانية:

1 -

عن أبي حمزة، عن ابن عباس:{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} : أي لم يدرك).

2 -

قال ابن زيد: (يقول: ضل علمهم في الآخرة فليس لهم فيها علم، {هُمْ مِنْهَا عَمُونَ}).

وفي الحديث السابق: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل" - أي تساوى في العجز عن درك ذلك علم السائل والمسؤول.

والخلاصة: أن المعنى حسب القراءتين المشهورتين يقتضي انتهاء علمهم وعجزهم عن معرفة وقت قيام الساعة، وكثير منهم يوقنون بها يوم حدوثها فيعلمون أنها حق.

ص: 568

وقوله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} .

أي: بل الكافرون شاكون بوقوعها غير مصدقين بحدوثها بعد فنائهم. {بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} . قال ابن كثير: (أي: في عَمَايةٍ وجهل كبير في أمرها وشأنها).

قال الزمخشري: (وهو العمى، وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه وفرجه، لا يُخْطِرُ بباله حقًّا ولا باطلًا، ولا يفكر في عاقبة. وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأَه. فلذلك عداه بـ "من" دون "عن" لأن الكفر بالعاقبة والجزاء، هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يتبصرون).

وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} .

إخبار من الله تعالى عن استبعاد منكري البعث إعادة الله أجسامهم بعد صيرورتها ترابًا وإخراجهم من قبورهم بعد فنائهم للبعث والحساب والقصاص.

وقوله: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} . قال ابن جرير: (يقول: لقد وعدنا هذا من قبل محمد، واعدون وعدوا ذلك آباءنا، فلم نر لذلك حقيقة، ولم نتبيّن له صحة).

وقوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} . قال القاسمي: (أي أحاديثهم وأكاذيبهم التي سطروها بعبارة مموّهة).

وقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} .

أي: قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بالمعاد: الدليل عليه هلاك الأمم المكذبة به وبالوحي قبلكم، ونجاة رسلهم والمؤمنين معهم.

وقوله تعالى: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} .

أي: ولا تحزن - يا محمد - على إدبار هؤلاء المشركين عنك وتكذيبهم لما جئت به، ولا يضيق صدرك من مكرهم، فإن الله سينصرك عليهم وسيخذلهم.

وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} .

أي: ويقول المشركون المكذبون بالبعث والمعاد - لك يا محمد -: فمتى حصول هذا الوعد الذي تعدنا إياه {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فيما تعدوننا به. قل لهم - يا محمد -: عسى أن يكون قد اقترب لكم بعض الذي تستعجلون. قال مجاهد: (ردف: أزف).

ص: 569

وقال أيضًا: (ردف: أعجل لكم). وقال الضحاك: ({رَدِفَ لَكُمْ} اقترب لكم).

وعن ابن جريج: ({رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} قال: من العذاب).

وقوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} .

أي: وإن نعم الله على الناس لا يحصيها أحد منهم، ومع ذلك أكثرهم يجحدون فضله ويهملون شكره. قال القرطبي:({وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} في تأخير العقوبة وإدرار الرزق، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} فضله ونعمه).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].

2 -

وقال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].

وفي صحيح البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ليس أحَدٌ - أو ليس شيءٌ - أصْبَرَ على أذىّ سمِعَه من الله، إنهم ليدعونَ له ولدًا، وإنه ليعافيهم ويرزقُهم](1).

وقوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} . أي: يعلم السرائر والضمائر، كما يعلم العلانية من ذلك والظواهر. قال ابن جريج:{مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} قال: السر).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19].

2 -

وقال تعالى: {أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [هود: 5]

3 -

وقال تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الزمر: 7].

وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كتب الله مقادير

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (6099)، كتاب الأدب، باب الصبر في الأذى.

ص: 570

الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. وكان عرشه على الماء] (1).

وفي معجم الطبراني بسند صحيح عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [فَرَغَ الله عز وجل إلى كل عبد من خمس: من أجله ورزقه وأثره ومضجعه وشقي أو سعيد](2).

وله شاهد عن ابن عساكر بسند جيد من حديث أنس بلفظ: [فرغَ الله من أربع: من الخَلق والخُلُق والرزق والأجل].

وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .

قال ابن عباس: (يقول: ما من شيء في السماء والأرض سرّ ولا علانية إلا يعلمه).

76 -

81. قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)}.

في هذه الآيات: ثناءُ الله تعالى على هذا القرآن، وعلى حكمه - جلت عظمته - بين الأنام، وأمرُه نبيّه صلى الله عليه وسلم بالتوكل عليه للثبات على الحق المبين، وتقريره له أنه لا يسمع الموتى أو الصم ولا يهدي العمي وإنما الهداية من الله للمؤمنين.

فقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .

قال النسفي: (أي يبين لهم. قال: فإنهم اختلفوا في المسيح فتحزَّبوا فيه أحزابًا ووقع بينهم التناكر في أشياء كثيرة حتى لعن بعضهم بعضًا، وقد نزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه لو أنصفوا وأخذوا به وأسلموا، يريد اليهود والنصارى).

(1) حديث صحيح. رواه مسلم (8/ 51) في القدر. باب: كتب المقادير قبل الخلق. وانظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (1841).

(2)

حديث صحيح. أخرجه الطبراني وغيره. انظر صحيح الجامع (4077) - (4078)، وكذلك (4079) للشاهد بعده. وانظر تفصيل البحث في كتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 806 - 814).

ص: 571

والمقصود: أن هذا القرآن وسط عدل بين افتراء اليهود وغلو النصارى، فعيسى عليه الصلاة والسلام عبدٌ من عباد الله وأنبيائه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59].

2 -

وقال تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} [مريم: 34].

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس: سَمعَ عمرَ رضي الله عنه يقولُ على المِنبر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [لا تُطْرُوني كَما أطرت النصارى ابنَ مريم، فإنما أنا عبدُهُ فقولوا: عَبْدُ الله ورسولُه](1).

وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} .

أي: وإن هذا القرآن هدى لقلوب المؤمنين ورحمة لمن صدق به وعمل بأمره.

قال القرطبي: (خصَّ المؤمنين لأنهم المنتفعون به).

وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} .

أي: إن ربك - يا محمد - يقضي بين المختلفين من بني إسرائيل بحكمه فيهم، فيجازي المحسن بإحسانه، والمبطل بجزائه. قال القاسمي:{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ} أي بين مَنْ آمن بالقرآن ومن كفر به، بعدله وحكمته {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أي فلا يردّ قضاؤه، الغالب في انتقامه من المبطلين {الْعَلِيمُ} أي بالفصل بينهم وبين المحقين).

وقوله تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} .

أي: ففوض أمرك - يا محمد - إلى الله العظيم، فإنك أنت على سبيل الحق المبين.

وقوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} .

أي: إنك يا محمد لا تسمع الكفار فهم كالموتى لا حسّ لهم ولا عقل، بسبب إعراضهم عن التدبر، كذلك هم بمنزلة الصم عن فهم المواعظ وسماع ما ينفعهم. قال

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3445)، كتاب أحاديث الأنبياء. وانظر (6830) كذلك.

ص: 572

القرطبي: (فإذا دعوا إلى الخير أعرضوا وولّوا كأنهم لا يسمعون، نظيره: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18]).

قلت: والآية نص في عدم سماع الأموات، وما حصل من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لقتلى المشركين يوم بدر خاص به صلى الله عليه وسلم. واستنكار عمر يدل على هذا الأصل.

ففي صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك عن أبي طلحة: [أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلًا مِنْ صَناديد قُريشٍ فَقُذِفوا في طَوِيٍّ مِنْ أطواءِ بَدْرٍ خبيثٍ مُخْبِثٍ، وكان إذا ظَهَرَ على قومٍ أقامَ بالعرْصَةِ ثلاثَ ليالٍ، فلما كان بِبَدْرٍ اليومَ الثالثَ أمَرَ براحلته فَشُدَّ عليها رَحْلُها إلا لِبَعْضِ حاجَتِهِ، حتى قامَ على شَفةِ الرَّكِيِّ فجعل يُناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: يا فلانُ بنَ فلانٍ، ويا فلانُ بنَ فلانٍ، أيَسُرُّكُمْ أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وَجَدْنا ما وعدنا ربنا حقًّا، فهل وجدتم ما وعَدَ ربكم حقًّا؟ قال: فقال عمر: يا رسول الله، ما تُكَلِّمُ منْ أجْسَادٍ لا أرواحَ لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نَفْسُ محمد بيده، ما أنتم بأسمعَ لِما أقولُ منهم. قال قتادة: أحْياهُم الله، حتى أسْمَعَهُم قَوْلَهُ تَوْبيخًا وتصغيرًا ونِقْمَةً وحَسْرةً ونَدَمًا](1).

وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} .

أي: وما أنت - يا محمد - بهادي من عمي عن الحق وغرق في الكفر، فليس بوسعك خلق الإيمان في قلوبهم.

وقوله: {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} .

قال ابن كثير: (أي: إنما يستجيب لكَ من هو سميعٌ بصيرٌ، السمعُ والبصرُ النافعُ في القلْبِ والبَصيرة الخاضعُ لله، ولما جاء عنه على ألسنة الرسل عليهم السلام.

قلت: فمن عمي عن الحق وصمّ عن سماع حججه وبيانه فقد اختار البقاء في ظلمة الخلق الأولى التي خلق الله عباده فيها.

فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:[إنّ الله تعالى خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضلَّ](2).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3976)، كتاب المغازي، وانظر صحيح مسلم (2875).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 176)، (2/ 197)، وأخرجه ابن حبان (1812)، والحاكم (1/ 30)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1076).

ص: 573

والظلمة: هي ظلمة الطباع والجهل والأهواء والخضوع للغرائز والشهوات.

والنور: هو نور الوحي ونور السنة، نور النبوة والرسالات. نور الفطرة والميثاق مع الله، الذي أخذه سبحانه على عباده بِنَعْمان وهو واد إلى جنب عرفات.

82.

قوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)} .

في هذه الآية: ذكر الدابة التي تخرج في آخر الزمان تخاطب الناس عند فسادهم وتبديلهم الدين الحق، وانتشار المنكر بينهم، فتنة لهم، وعلامة من علامات اقتراب الساعة

ومن أقوال المفسرين في ذلك:

1 -

عن مجاهد: ({وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} قال: حقّ عليهم. أو قال: حقَّ العَذاب).

2 -

وعن قتادة: (القول: الغضب). وقال عطية العوفي، عن ابن عمر:(هو حين لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر). وروي عن علي رضي الله عنه قال: (تكلمهم كلامًا، أي: تخاطبهم مخاطبة).

3 -

وعن ابن عباس: ({تُكَلِّمُهُمْ} تحدثهم). قال: (كلامها تنبئهم {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ})، واختاره ابن جرير.

وفي صحيح السنة العطرة من ذكر الدابة أحاديث:

الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه عن حذيفة بن أَسيد الغفاري قال: [أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر أمرَ الساعة فقال: لا تقوم الساعة حتى تَرَوا عشر آيات: طلوعُ الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوجَ، وخروج عيسى بن مريم، والدجال، وثلاثةُ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بالمغرب، وخَسْفٌ بالمشرق، وخَسْفٌ بجزيرة العرب، ونار تخرج من قَعْر عدن تسوق - أو تحشر - الناس، تبيتُ معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا](1).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2901)، وأخرجه أحمد في المسند (3/ 6)، (3/ 7).

ص: 574

الحديث الثاني: روى مسلم في الصحيح عن عبد الله بن عَمْرو قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا لم أَنْسَهُ بعد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إنَّ أَوَّلَ الآيات خروجًا طلوع الشمس من مَغْرِبها، وخروج الدابة على الناس ضحا، وأيتهما ما كانت قبل صاحبتها، فالأخرى على إثرها قريبًا](1).

الحديث الثالث: أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[بادروا بالأعمال سِتًّا: طلوعَ الشمس مِنْ مَغْربِها، والدُّخانَ، ودابَّةَ الأرض، والدَّجالَ، وخوَيْصَّةَ أحَدِكُمْ، وأمْرَ العامة](2).

والمقصود: المبادرة بصالح الأعمال لمواجهة هذه الفتن. "وخويصة أحدكم": يريد حادثة الموت التي تخص كل إنسان. وهي تصغير خاصة. وصغرت لاحتقارها في جانب ما بعدها من البعث والعرض والحساب وغير ذلك.

"وأمر العامة": أي بادروا بالاشتغال بالأعمال الصالحات، قبل أن يتوجه إليكم أمر العامة والرياسة، فيشغلكم عن العلم وصالح الأعمال.

83 -

86. قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)}.

في هذه الآيات: ذِكْرُ مشهد حشر الأمم يوم القيامة زمرة زمرة من المكذبين، حتى إذا اجتمعت أفواج الناس حسب راياتهم وما كانوا يعبدون، قال الله لهم: أكذبتم بآياتي أمّاذا كنتم تعملون، فوجب السخط والغضب من الله عليهم بما كانوا يكذبون، ألم يروا كيف أنعم الله عليهم بالليل ليسكنوا فيه والنهار لينتشروا فيه ولكن أكثرهم لا يؤمنون.

فعن مجاهد: ({وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} قال: زمرة زمرة). وعن ابن عباس:

(1) حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم (2053)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 1063) لمزيد من التفصيل في أمر الدابة وعلامات الساعة وأشراطها.

(2)

حسن صحيح. أخرجه ابن ماجة (4056)، كتاب الفتن. انظر صحيح ابن ماجة (3279)، باب الآيات، والحديث أخرجه مسلم (8/ 208)، وأحمد (2/ 324)، والحاكم (2/ 511).

ص: 575

({مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} قال: يقول: فهم يدفعون). وقال ابن زيد: (يُساقون). وقال قتادة: (وَزَعَةٌ تردُّ أولهم على آخرهم).

والمقصود: إخبار عن يوم القيامة وحَشْر الظالمين المكذبين بآيات الله للسؤال والتوبيخ والتقريع والتصغير والتحقير ثم صِليّ النار جزاء بما كانوا يكسبون.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7].

2 -

وقال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 22 - 24].

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: [يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقول: مَنْ كان يَعْبُدُ شيئًا فَلْيَتَّبِعْهُ، فيتَّبعُ مَنْ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشمسَ، ويتَّبعُ مَنْ يَعْبُدُ القمرَ القمرَ، ويتَّبعُ من يَعْبُدُ الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها .. ] الحديث (1).

وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .

أي: حتى إذا اجتمعت أفواج الناس وجماعاتهم حسب راياتهم وما كانوا يعبدون من دون الله قال الله لهم: {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي} التي أنزلتها على رسلي، وأقمتها دلالة على توحيدي وإفرادي بالعبادة والتعظيم. {وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا}. قال القرطبي:(أي ببطلانهما حتى تعرضوا عنها، بل كذبتم جاهلين غير مستدلين. {أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} تقريع وتوبيخ، أي ماذا كنتم تعملون حين لم تبحثوا عنها ولم تتفكروا بما فيها).

وقوله تعالى: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: ووجب السخط والغضب من الله على المكذبين بآياته {بِمَا ظَلَمُوا} يعني بتكذيبهم بآيات الله، يوم يحشرون {فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} يقول: فهم لا ينطقون بحجة يدفعون بها عن أنفسهم عظيم ما حلّ بهم ووقع عليهم من القول).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (182)، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية.

ص: 576

وقوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .

تنبيه على قدرته التامة، وهيمنته العامة، وعظيم سلطانه وجبروته.

قال ابن كثير: ({أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ} أي: فيه ظلام تسكُنُ بسببه حركاتُهم وتهدأُ أنفاسهم، ويستريحون من نَصَبِ التَّعب في نهارهم. {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا}، أي: منيرًا مشرقًا، فبسبب ذلك يتصرَّفون في المعايش والمكاسب، والأسفار والتِّجارات، وغير ذلك من شؤونهم التي يحتاجون إليها، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}).

87 -

90. قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)}.

في هذه الآيات: تصويرُ الله الأحداث التي تسبق القيام بين يديه للحساب، من نفخة الفزع وحركة الجبال وهي تمر مرّ السحاب، ثم توضع الحسنات والسيئات على الميزان ليكون بعد ذلك الثواب والعقاب.

والنفخ في الصور على ثلاثة أنواع:

الأولى: نفخة الفزع. كما قال جل ثناؤه: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87]، . أي: واذكر يا محمد أو ذكرهم يوم ينفخ في الصور فيفزعون من الخوف والحزن.

الثانية: نفخة الصعق. كما قال جل ذكره في سورة الزمر: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68].

ص: 577

يروي البخاري عن ابن عباس: [قال في قوله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} الصور. و {الرَّاجِفَةُ}: النفخة الأولى. و {الرَّادِفَةُ}: الثانية](1).

والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين. كما قال سبحانه في تتمة آية الزمر: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68].

فبنفخة الصعق يموت الأحياء من أهل السماوات والأرض إلا من استثنى الله، ثم يقبض سبحانه أرواح الباقين حتى يكون آخر من يموت ملك الموت، وينفرد الحي القيوم الذي كان أولًا وهو الباقي آخرًا بالديمومة والبقاء، ويقول:"لمن الملك اليوم، لمن الملك اليوم، لمن الملك اليوم" ثم يجيب نفسه بنفسه سبحانه فيقول: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} أنا الذي كنت وحدي، وقد قهرت كل شيء، وحكصت بالفناء على كل شيء. ثم يحيي أول من يحيى إسرافيل ويأمره أن ينفخ في الصور نفخة أخرى وهي النفخة الثالثة نفخة البعث والقيام لرب العالمين {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} .

والصور قرن ينفخ فيه إسرافيل. قال مجاهد: (كهيئة البوق). وقيل هو البوق بلغة أهل اليمن. وقد جاءت السنة الصحيحة بتفصيل تلك الأحداث في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنِّي مِنْ أَوَّلِ مَنْ يَرْفَعُ رأسَهُ بَعْدَ النفخة الآخِرة، فإذا أنا بموسى مُتَعَلِّقٌ بالعَرْشِ، فلا أدري أكذلك كان، أمْ بعد النفخة](2).

وفي رواية لمسلم: [فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أو بعث قبلي]. وفي لفظ: [فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور].

قال أهل العلم: (والصعق لتجلي الله لعباده إذا جاء لفصل القضاء، فموسى إن كان لم يصعق معهم يكون قد جوزي بصعقة يوم تجلى ربه للجبل فجعله دكًّا).

الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1) حديث صحيح. رواه البخاري في ترجمة باب. انظر تخريج المشكاة (5529)، وانظر كتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 725 - 728) - النفخ في الصور والقيام.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4813)، كتاب التفسير، ورواه مسلم (7/ 100 - 101)، وانظر مختصر صحيح مسلم (1612)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 728).

ص: 578

[ما بين النفختين أربعون. قالوا: يا أبا هريرة أربعون يومًا؟ قال: أبيت (1). قالوا: أربعون شهرًا؟ قال: أبيت. قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت. ثم يُنْزِلُ اللهُ من السماء ماء فينبتون كما ينبتُ البقلُ. قال: وليس من الإنسان شيء لا يبلى إلا عَظمًا واحدًا وهو عَجْبُ الذنب (2) ومنه يركب الخلق يوم القيامة](3).

الحديث الثالث: أخرج الإمام مسلم في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يخرج الدجال في أمتي فيمكث فيهم أربعين لا أدري أربعين يومًا أو أربعين شهرًا أو أربعين عامًا أو أربعين ليلة، فيبعث الله تعالى عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام كأنه عروة بن مسعود الثقفي فيظهر فيهلكه الله تعالى. (وفي رواية: فيطلبه فيهلكه). ثم يلبث الناس بعده سنين سبعًا ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله تعالى ريحًا باردة من قبل الشام فلا يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلت عليه. ويبقى شرار الناس في خفة الطير (4) وأحلام السباع (5)، لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا. قال: فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان فيعبدونها، وهم في ذلك دارَّة أرزاقهم حسن عيشهم، ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتًا ورفع ليتًا - أي: أمال صفحة عنقه - وأول من يسمعه رجل يلوط حوضه - أي: يصلحه ويطينه - فيصعق، ثم لا يبقى أحد إلا صعق، ثم يرسل الله تعالى مطرًا كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. ثم يقال: أيها الناس، هلموا إلى ربكم {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} ثم يقال: أخرجوا بعث النار، فيقال كم؟ فيقال: من كل ألف تسع مئة وتسعة وتسعين، فيومئذ تبعث الولدان شيبًا، ويومئذ يكشف عن ساق](6).

وقوله: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} . قال أبو هريرة: "هم الشهداء" - رواه ابن جرير.

(1) أي: امتنعت عن الجواب لأني ما أدري ما الصواب.

(2)

عجب الذنب: هو العظم بين الأليتين أسفل الصلب.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4814)، كتاب التفسير، وأخرجه مسلم (2955/ 141).

(4)

المراد سرعتهم للشرور والشهوات والفساد والإفساد كسرعة الطير.

(5)

المراد بذلك العدوان والظلم كالسباع الضارية العادية.

(6)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2940)، وأحمد (2/ 166)، وأخرجه النسائي في "الكبرى"(11629)، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (7353).

ص: 579

فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون. قال النسفي: ({إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}: إلا من ثبت الله قلبه من الملائكة، قالوا: هم جبريل وميكائيل وإسرافيل، وملك الموت عليهم السلام. وقيل: الشهداء. وقيل: الحور، وخزنة النار، وحملة العرش، وعن جابر رضي الله عنه: منهم موسى عليه السلام لأنه صعق مرة).

قلت: وكل ما سبق محتمل في التأويل، والله تعالى أعلم بمن يستثني.

وقوله: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} . قال ابن عباس: (يقول: صاغرين).

قال ابن زيد: (الداخر: الصاغر الراغم. قال: لأن المرء الذي يفزع إذا فزع إنما همته الهرب من الأمر الذي فزع منه، قال: فلما نُفخ في الصور فزعوا، فلم يكن لهم من الله منجى).

وقد قرأته بعض قراء الأمصار بالمدّ {وكل آتوه} ، وقرئ {أَتَوْهُ} والمعنى واحد، أي جاؤوه طائعين صاغرين لم يتخلف منهم أحد.

وقوله: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} .

قال ابن عباس: ({تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} يقول: قائمة، وهي تسير سيرًا حثيثًا).

وقال القتبي: (وذلك أن الجبال تُجمع وتُسيَّر، فهي في رؤية العين كالقائمة وهي تسير).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [الطور: 9 - 10].

2 -

وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [طه: 105 - 107].

3 -

وقال تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف: 47].

4 -

وقال تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ: 20].

وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود قال: [جاء حَبْرٌ من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إنَّ الله يُمْسِكُ السماوات يوم القيامة على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزّهن، فيقول: أنا الملك، أنا الله، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبًا مما قال الحَبْرُ تصديقًا له، ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ

ص: 580

الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]] (1).

وقوله: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} . قال ابن عباس: (يقول: أحسن كل شيء خلقه وأوثقه). وقال أيضًا: (أحكم كل شيء).

وقوله: {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} . قال قتادة: (إن الله ذو علم وخبرة بما يفعل عباده من خير وشرّ وطاعة له ومعصية، وهو مجازي جميعهم على جميع ذلك على الخير الخيرَ، وعلى الشرِّ الشرّ نظيره).

وقوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} .

قال ابن عباس: (من جاء بلا إله إلا الله). وقال مجاهد: (كلمة الإخلاص).

والخلاصة: من جاء بالعمل الصالح على منهاج التوحيد فله بالحسنة خير منها إلى عشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة. كما قال تعالى في سورة الأنعام: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160].

وفي صحيح مسلم عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل قال: [إن الله كتبَ الحسنات والسيئات، ثم بَيَّنَ ذلك، فَمَنْ هَمَّ بحسنة فلم يَعْمَلْها كتبَها الله عنده حسنةً كامِلةً، فإنْ هَمَّ بها فَعَمِلها كَتبها الله عز وجل عنده عَشْرَ حَسَناتٍ إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة، الحديث (2).

وقوله: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} .

قال القاسمي: (أي لا يعتريهم ذلك الفزع الهائل. وقرئ {فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} بالإضافة وكسر الميم وفتحها. وفزع منونًا وفتح الميم، على أنه ظرفَ لـ {آمِنُونَ} أو المحذوف هو صفة للفزع. والتنوين في {يَوْمَئِذٍ} عوض عن جملة محذوفة، أي يوم إذ جاؤوا بالحسنة).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 103].

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4811)، ومسلم (2786)، وانظر تفصيل بحث: النفخ في الصور والقيام - في كتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 723 - 730).

(2)

حديث صحيح. خرّجه مسلم في صحيحه (131)، كتاب الإيمان، وانظر الحديث (129) كذلك.

ص: 581

2 -

وقال تعالى: {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37].

3 -

وقال تعالى: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [فصلت: 40].

أخرج أبو نعيم في "الحلية"، وعبد الله بن المبارك في "الزهد" بسند حسن في الشواهد، عن شداد بن أوس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[قال الله عز وجل: وعزتي لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين، إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع فيه عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع فيه عبادي](1).

وقوله: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} . قال ابن عباس: (الشرك).

وعن قتادة: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} قال: الإخلاص، {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} قال: الشرك).

قال ابن كثير: (أي: مَنْ لقي الله مُسيئًا لا حَسَنَةَ له، أو: قد رَجَحت سيئاتُه على حسناته، كُلٌّ بِحَسَبِه. ولهذا قال تعالى: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}).

وفي الصحيحين عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ليس أحد يحاسَبُ يومَ القيامة إلا هلك. قلت: أوليس يقول الله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} فقال: إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش في الحساب يهلك](2).

91 -

93. قوله تعالى {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)}.

في هذه الآيات: إعلامُ النبي صلى الله عليه وسلم قومه أنه أُمِرَ بإفراد الله ربّ هذه البلدة التي حرّمها بالعبادة والتعظيم، وتلاوة القرآن وإقامة الحجة على الناس أجمعين، وحَمْد الله الذي

(1) حسن لغيره. أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(6/ 98)، وأخرجه عبد الله بن المبارك في "الزهد" برقم (157)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (742).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4939)، وأخرجه مسلم (2876)، وغيرهما.

ص: 582

بيده عجائب الآيات يريها خلقه ليؤمنوا به وما هو بغافل عما يعملون.

فقوله: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} . قال قتادة: (يعني مكة).

وإضافة الربوبية إلى البلدة على سبيل التشريف لها كقوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 - 4].

قال ابن جرير: ({الَّذِي حَرَّمَهَا} على خلقه أن يسفكوا فيها دمًا حرامًا، أو يظلموا فيها أحدًا، أو يصاد صيدها، أو يختلى خلاها دون الأوثان التي تعبدونها أيها المشركون).

وفي الصحيحين عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته عام الفتح: [لا هجرة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا، فإن هذا بلا حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، وهو حرام بِحُرْمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يَحِلَّ القتالُ فيه لأحدٍ قبلي، ولا يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعْضَدُ شوكُهُ ولا يُنَفَّرُ صَيْدُه، ولا يُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ، إلا من عرَّفها، ولا يُخْتَلى خَلاها، إلا الإذخِرَ](1).

وقوله: {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} . قال ابن كثير: (من باب عطف العام على الخاص، أي: هو ربُّ هذه البلدة، وربُّ كلِّ شيء ومليكُهُ لا إله إلا هو).

وقوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . قال القرطبي: (أي من المنقادين لأمره، الموحِّدين له).

وقوله: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} . أي: وأمرت أن أقرأ القرآن وأرتله وأتدبره، وأن أتلوه على الناس لأبلغهم.

وقوله: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} .

قال النسفي: ({فَمَنِ اهْتَدَى} باتباعه إياي فيما أنا بصدده من توحيد الله ونفي الشركاء عنه والدخول في الملة الحنيفية واتباع ما أنزل عليّ من الوحي {فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} فمنفعة اهتدائه راجعة إليه لا إليّ {وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} أي: ومن ضل ولم يتبعني فلا عليّ وما أنا إلا رسول منذر وما على الرسول إلا البلاغ المبين).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1834)، كتاب جزاء الصيد، وأخرجه مسلم (1864) نحوه، كتاب الإمارة، والإذخر: نبات طيب الرائحة.

ص: 583

وقوله: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} .

قال مجاهد: (في أنفسكم، وفي السماء والأرض والرزق).

والمعنى: قل - يا محمد - لمكذبي البعث والمعاد والوحي من قومك: الحمد لله على نعمته الكبرى - نعمة الهداية للحق الذي أنتم عنها عمون -، وسيريكم ربكم آيات انتقامه وسخطه فتعرفونها، كما يريكم آيات وحدانيته ودلائل قدرته فتنكرونها.

وقوله: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .

أي: وما ربك - يا محمد - بغافل عن شيء من أعمال عباده، بل هو شهيد على كل ما يصدر منهم، جل جلاله، ولا إله إلا هو.

وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: [قال الله تعالى: يا عبادي: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه](1).

تمّ تفسير سورة النمل بعون الله وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه

* * *

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 17)، وأخرجه أحمد في المسند (5/ 160).

ص: 584