الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يصنع، فخرج سَهْمي عليهن معه، فخرج بي رسول الله صلى الله عليه وسلم).
27 -
29. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)}.
في هذه الآياتِ: تشريع آداب شرعية عالية في الاستئذان قبل الدخول ثم إلقاء السلام، ويستثنى من ذلك الأماكن العامة التي فيها منافع مشتركة للناس، فيجوز دخولها دون استئذان، والله يعلم السر والعلن وما تبدون وما تكتمون.
فعن ابن عباس: ({يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} قال: الاستئناس: الاستئذان). قال النسفي: (والاستئناس في الأصل الاستعلام والاستكشاف، من أنِسَ الشيء إذا أبصره ظاهرًا مكشوفًا، أي حتى تستعلموا أيطلق لكم الدخول أم لا). فقد أمر الله تعالى المؤمنين بالتحلي بهذه الآداب الرفيعة فيما بينهم، فلا يشُرع لهم أن يدخلوا بيوتًا غير بيوتهم حتى يستأذنوا قبل دخولهم ويسلموا بعده.
آداب الاستئذان:
1 -
يشرع الاستئذان ثلاثًا - كما جاء في السنة العطرة - فإن أُذِن له وإلا انصرف.
ففي الصحيحين والمسند عن أبي بُرْدَةَ عَنْ أبي موسى الأشعري قال: [جاء أبو موسى إلى عمر بن الخطاب فقال: السلام عليكم، هذا عَبْدُ اللهِ بنُ قَيْسٍ، فلم يَأذَنْ لهُ، فقال: السلام عليكم، هذا أبو موسى، السلام عليكم، هذا الأشْعَرِيُّ، ثم انْصَرَفَ، فقال: رُدُّوا عَلَيَّ، رُدُّوا عَليَّ، فجاءَ فقال: يا أبا موسى! ما رَدَّكَ؟ كُنَّا في شُغْلٍ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الاستئذان ثلاث، فإنْ أُذِنَ لكَ وإلا فارجعْ". قال: لتأتِيَنِّي على هذا بِبَيِّنةٍ، وإلا فَعَلْتُ وَفَعَلْتُ، وفي رواية:(وإلا أوجعتك). وفي لفظ: (قال: فوالله لأُوجِعَنَّ ظَهْرَكَ وبَطْنَكَ، أو لتأتِيَنَّ بِمَن يشهَدُ لك على هذا). فذهب أبو موسى. قال عمر: إنْ وَجَدَ بَيِّنَةً تجدوه عِندَ المِنْبَرِ عَشِيَّةً، وإنْ لمْ
يجدْ بَيِّنَةً فلم تجدوه، فلما أن جاء بالعشِيّ وَجَدَهُ، قال: يا أبا موسى! ما تقولُ؟ أقدْ وَجَدْت؟ قال: نعم، أُبَيُّ بن كَعْبٍ، قال: عَدْلٌ، قال: يا أبا الطُفَيْل! ما تقولُ هذا؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك يا ابن الخطاب! فلا تكونَنَّ عذابًا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: سبحان الله! إنما سَمِعْتُ شيئًا، فأحْبَبْتُ أن أتَثَبَّت] (1). وفي رواية:(فقال عمر: خَفِيَ عليَّ هذا مِنْ أمْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألهاني عنه الصَّفْقُ بالأسواق).
وفي المسند وسنن أبي داود بسند جيد عن أنس: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن على سعد بن عبادة فقال: السلام عليك ورحمة الله. فقال سعد: وعليك السلام ورحمةُ الله، ولم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم حتى سَلَّم ثلاثًا، وردَّ عليه سعد ثلاثًا ولم يُسْمِعْه. فرَجَعَ النبي صلى الله عليه وسلم فاتَّبَعَهُ سعد فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي ما سَلَّمْتَ تسليمةً إلا وهِيَ بأذني، ولقد رَدَدْتُ عليك ولم أُسْمِعْكَ، وأردتُ أن أستكثر مِن سلامك ومن البركة. ثم أدخله البيت. فقرَّب إليه زبيبًا، فأكل نبيُّ الله، فلما فرَغ قال: أكل طعامَكُم الأبرار، وَصَلَّت عليكم الملائكة، وأفطر عندكمُ الصائمون" (2).
2 -
يكره قول المستأذن "أنا" إذا قيل له: من هذا؟ .
فقي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: [أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم، فَدَعَوْتُ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مَنْ هذا؟ قلتُ: أنَّا، قال: فخرج وهو يقول: أنَا، أنَا](3).
3 -
يحرم النظر في بيت غيره.
ففي صحيح مسلم عن سهل بن سعد: [أنَّ رجلًا اطلَعَ في جُحْرٍ في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدرىً يَحُكُّ به رأسَهُ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: لو أعْلَمُ أنَّكَ تَنْظُرُني لطَعَنْتُ به في عَيْنِكَ. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّما جُعِلَ الإذْنُ مِنْ أجْلِ البَصَر](4).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2062)، ومسلم (2153)، وأبو داود (5181)، وأحمد (398)، (400) وكذلك أخرجه ابن حبان (5807).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (3/ 138)، والبزار (2007)، وقال الهيثمي في "المجمع" (8/ 34): ورجالهما رجال الصحيح. وأخرج أبو داود (3854) وأبو يعلى (4310) عجزه فقط.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (2155) - كتاب الآداب، باب كراهة قول المستأذن أنا، إذا قيل من هذا، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(4)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (2156) - كتاب الآداب، باب تحريم النظر في بيت غيره.
ثم روى في الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [منْ اطَّلَعَ في بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهم، فَقَدْ حَلَّ لهم أن يفقؤوا عَيْنَه](1).
وفي رواية: [لو أنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ عليك بِغَيْرِ إذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، ما كان عليك مِنْ جُناحٍ].
4 -
ينبغي للمستاذن ألا يقف تلقاء الباب بوجهه، وليكن الباب عن يمينه أو يساره.
أخرج أبو داود بسند صحيح عن هزيل، قال: جاء رجل فوقف على باب النبي صلى الله عليه وسلم يستاذن، فقام على الباب مُسْتَقْبلَ الباب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أهكذا - عنك - أو هكذا، فإنما الاستئذان من النَّظَر] (2).
5 -
ينبغي للمستأذن إلقاء السلام قبل الدخول إذا أُذِنَ له.
ففي سنن أبي داود بسند صحيح عن ربعيّ، قال:[حدثنا رجل من بني عامر: أنَّه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت فقال: ألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: اخْرُجْ إلى هذا! فَعَلِّمْهُ الاستئذان، فقل له: قل: السلام عليكم، أأدخل؟ فسمعه الرجل، فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل](3).
وقوله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . أي: ذلكم الذي يعلمكم الله تعالى من الاستئذان والتسليم خير لكم من تحية الجاهلية وعاداتها في الدخول بغير إذن. قال النسفي: (فكان الرجل من أهل الجاهلية إذا دخل بيت غيره يقول حييتم صباحًا وحييتم مساء ثم يدخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي: قيل لكم هذا لكي تذكروا وتتعظوا وتعملوا ما أمرتم به في باب الاستئذان).
وقوله: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} . أي: فإن كانت تلك البيوت خالية من أهلها فلا يشرع لكم دخولها، إذ لا يجوز للمرء التصرف في ملك غيره إلا بإذنه.
وقوله: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} . أي: إن طلب الانصراف فانصرفوا
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2158) - كتاب الآداب، الباب السابق.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن - حديث رقم - (5174) - كتاب الأدب، باب في الاستئذان، وانظر صحيح سنن أبي داود - حديث رقم - (4310).
(3)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (5177) وإسناده صحيح، وجهالة الصحابي لا تضرّ.
ولا تحرجوا الناس. قال سعيد بن جبير. (لا تقفوا على أبواب الناس).
وقوله: {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} . أي رجوعكم أزكى لكم وأطهر وأقرب للتقوى. قال قتادة: (قال رجل من المهاجرين: لقد طلبتُ عُمُري كُلَّه هذه الآية فما أدركتُها: أن أستأذِنَ على بعضي إخواني، فيقول لي: ارجع، فأرجعُ وأنا مغتبط، لقوله: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}).
وقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} . أي: هو عليمٌ بامتثالكم ما يأمركم به من محاسن الآداب، واجتنابكم ما ينهاكم عنه من قبيحها، وهو بكل شيء عليم.
وقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} . استثناء من عموم ما سبق، فلا حرج بدخول الأماكن غير المسكونة كالمطاعم والمحلات التجارية والأماكن المعدة لنزول المسافرين والتجار وغير ذلك مما فيه قضاء لحاجاتكم وإيواء لأمتعتكم ومنافع لكم.
قال قتادة: ({بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ}: هي الخانات، تكون لأهل الأسفار). وقال مجاهد: (كانوا يضعون في بيوت في طرق المدينة متاعًا وأقتابًا، فَرُخِّصَ لهم أن يدخلوها)، وقال أيضًا في تفسير الآية:(هي البيوت التي ينزلها السفْر، لا يسكنها أحد).
وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} . قال القاسمي: (وعيد لمن يدخل مدخلًا من هذه المداخل، لفسادٍ، أو اطلاع على عورات. أفاده أبو السعود).
30 -
31. قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى
عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)}.
في هذه الآياتِ: أَمْرُ الله المؤمنين والمؤمنات بغض البصر عما لا يحل النظر إليه، وتعليق السلامة في النسب والفروج على ذلك. وأَمْرُ المؤمنات بعدم إبداء زينتهن إلا الوجه والكفين، وارتداء الجلباب الشرعي الذي يغطي كل شيء خاصة العنق والصدر، ويستثنى المحارم في إظهار مواضع الزينة العامة أمامهن، والتحذير من الضرب بالأرجل على الأرض لما يحرك الفتنة على الرجال، والأمر بالتوبة إلى الله ابتغاء الفلاح وسعادة الدارين.
فقوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى} . أمْرٌ من الله تعالى لعباده المؤمنين بغض البصر عما لا يجوز لهم النظر إليه من المحارم، ورَبْطُ ذلك بحفظ الفروج وزكاة النفوس وتقوى الله عز وجل.
قال ابن عباس: ({قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} قال: يغضوا أبصارهم عما يكره الله). وقال ابن زيد: (يغض من بصره: أن ينظر إلى ما لا يحلّ له، إذا رأى ما لا يحل له غضّ من بصره، لا ينظر إليه، ولا يستطيع أحد أن يغض بصره كله، إنما قال الله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}).
وفي كلام العرب: غَضَّ طرفهُ أي خفضه، ويقال غضَّ بصره يغضّه غضًّا.
وهذا الأمر من معالي الأخلاق التي دعا لها الإسلام وأقرها في مكارم الأخلاق.
ومن ذلك قول عنترة:
وأغضُّ طرفي ما بَدَتْ لي جارتي
…
حتى يُواري جارتي مأواها
قال البخاري: (وقال سعيد بن أبي الحسن للحسن (إن نساء المعجم يكشفن صدورهن ورؤوسهن! قال: اصرف بصرك، يقول الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ})(1). وقال بعض السلف: (النظر سِهام سمٍّ إلى القلب). قال القرطبي: (ولقد كره الشَّعبي أن يُديم الرجل النظر إلى ابنته أو أمه أو أخته، وزمانه خير من زماننا هذا! وحرام على الرجل أن ينظر إلى ذاتٍ محرّمة نظر شهوة يردّدها).
(1) أورده بإثر حديث (6227)، وسعيد هذا هو أخو الحسن البصري.
وقد جاءت السنة الصحيحة بآفاق هذه الآداب الرائعة في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إياكم والجلوسَ على الطرقات. فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بُدّ نتحدث فيها. فقال: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقَّهُ. قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غضُّ البصر، وكفّ الأذى، وردُّ السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر](1).
الحديث الثاني: روى مسلم في صحيحه، وأبو داود في سننه، وأحمد في مسنده، عن جرير بن عبد الله البَجَلي رضي الله عنه قال:[سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نَظْرَةِ الفَجْأَةِ، فأمرني أن أصرف بصري](2). قال مجاهد: (إذا أقبلت المرأة جلس الشيطان على رأسها فزيَّنها لمن ينظر، فإذا أدبرت جلس على عَجُزها فزيّنها لمن ينظر).
الحديث الثالث: أخرج أبو داود والترمذي بسند جيد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلى: [يا عليُّ، لا تُتبع النظرةَ النظرةَ، فإن لك الأولى، وليس لك الآخرة](3).
قال خالد بن أبي عمران: (لا تُتْبِعَنَّ النظرة النظرة، فربما نظر العبد نظرةً نَغِلَ (4) منها قلبه كما يَنْغَلُ الأديم فلا ينتفع به).
الحديث الرابع: أخرج الطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، والبغوي بسند حسن عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [اكفُلُوا لي بست أكفلْ لكم بالجنة: إذا حَدَّثَ أحدُكم فلا يكذب، وإذا اؤْتُمِنَ فلا يَخُنْ، وإذا وعد فلا يُخْلِف، وغُضُّوا أبصاركم، وكفُّوا أيديكم، واحفظوا فُروجكم](5).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6229)، وأحمد (3/ 36)، وابن حبان (595).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (2159)، وأبو داود (2148)، والترمذي (2776)، وأحمد (4/ 358)، (4/ 361)، وابن حبان (5571).
(3)
حديث حسن. أخرجه أبو داود بسند حسن (2149)، والترمذي (2777)، وأخرجه أحمد (5/ 351)، وانظر صحيح سنن أبي داود (1881).
(4)
النّغل: الفساد.
(5)
أخرجه الطبراني في "الكبير"(8018)، و"الأوسط"(2560)، وله شاهد من حديث عبادة بن الصامت يتقوى به. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1525).
الحديث الخامس: أخرج أبو داود بسند صحيح عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تباشر المرأةُ المرأةَ لتنعتها لزوجها، كأنما ينظر إليها](1).
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} .
قال ابن جرير: (يقول: إن الله ذو خبرة بما تصنعون أيها الناس، فيما أمركم به من غضّ أبضاركم عما أمركم بالغضّ عنه، وحفظ فروجكم عن إظهارها لمن نهاكم عن إظهارها له).
وقوله: ({وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} . تخصيص للإناث هنا بالخطاب على طريق التأكيد، وإلا فإن قوله:{لِلْمُؤْمِنِينَ} عام، ويتناول المذكور والإناث، فلا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة، ولا المرأة أن تنظر إلى الرجل، إن رافق ذلك شهوة.
قلت: وأما بغير شهوة فيجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة وهو يكلمها لحاجة ضوورية، كما يجوز للمرأة أن تنظر للرجل - بدون شهوة - بشكل عام. فإلى تفصيل ذلك:
1 -
يباح للمرأة النظر إلى الرجل، لأن الأصل أن الرجل لم يُسْتر ولم يُحْجَب عن المرأة.
ففي صحيح مسلم من حديث فاطمة بنت قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تَعْتَدَّ في بيتِ أم شريك، ثم قال:[تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدّي عندَ ابن أم مكتوم، فإنه رجلٌ أعمى، تضعين ثيابك، فإذا حَلَلْتِ فآذِنيني] الحديث (2).
وفي الصحيحين - واللفظ للبخاري - عن عروة بن الزبير، أن عائشة رضي الله عنها قالت:[لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا على باب حُجْرَتي والحَبَشَةُ يلعبونَ في المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يَسْتُرني بردائه أنْظُرُ إلى لعبهم](3).
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن - حديث رقم - (2150) - كتاب النكاح. انظر صحيح سنن أبي داود (1882). ورواه البخاري.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (1480) - كتاب الطلاق، ورواه مالك (2/ 580)، والشافعي (2/ 18)، وأحمد (6/ 412) في أثناء حديث مطول.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (454) - كتاب الصلاة، ورواه مسلم نحوه، ورواه أحمد في المسند (6/ 247).
أما حديث: "أفعمياوان أنتما" فضعيف عند المحدثين، وهو يعارض حديث فاطمة بنت قيس السابق، الذي رواه مسلم ومالك وأحمد وغيرهم.
2 -
يجوز للرجل النظر للمرأة دون شهوة في حاجة لا بد منها. فما دام قد أذن الله للمرأة بكشف وجهها جاز أن ينظر لها لسبب ما إلا إذا شعر بنظره الشهوة.
ففي سنن أبي داود بسند صحيح عن أم حبيبة: [أنَّها كانت تحت عبيد الله بن جحش، فمات بأرض الحبشة، فزوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم، وأمهرها عنه أربعة آلاف، وبعث بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع شرحبيل بن حسنة](1).
وفي صحيح مسلم عن أنس قال: [لما انقضت عدة زينبَ بنتِ جحش قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: ما أَجِدُ أحدًا آمنَ عندي وأوثق في نفسي منك، أنت زينب فاخطبها علي. قال: فانطلق زيد فأتاها وهي تخمر عجينها، فلما رأيتها عظمت في صدري فلم أستطع أن أنظر إليها حين عرفت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ذكرها] الحديث (2).
3 -
ويحرم النظر عند وجود داعي الشهوة ويجب الرجوع إلى الأصل وهو غض البصر.
ففي صحيح مسلم وسنن أبي داود عن جابر: [أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة، فأتى امْرأته زينب، وهي تَمْعَسُ مَنِيئةً (3) لها، فقضى حاجته، ثم خَرَج إلى أصحابه فقال: إنَّ المرأة تُقْبِلُ في صورةِ شيطان، وتُدْبِرُ في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأتِ أهلَهُ، فإن ذلك يرُدُّ ما في نفسه](4).
وفي لفظ: [إذا أحدُكُم أعجبَتْه المرأة، فوقعت في قلبه فَلْيَعْمِد إلى امرأتِه فَليُواقِعْها، فإن ذلك يرُدُّ ما في نفسه]. وفي رواية أبي داود: (فإنه يضمر ما في نفسه).
وفي الصحيحين وسنن أبي داود عن ابن عباس قال: [ما رأيت شيئًا أشبه باللمم، مما قال أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنّ الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك ويكذبه].
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2107) - كتاب النكاح. انظر صحيح أبي داود (1833).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (1428)، وأحمد في المسند (3/ 195 - 196).
(3)
معست الجلد أي دلكته، فالمنيئة فعيلة بمعنى الجلد، والمراد الدباغ والإصلاح.
(4)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (1403) - كتاب النكاح، وأبو داود (2151) - في النكاح أيضًا.
وفي لفظ: [واليدان تزنيان، فزناهما البطش، والرجلان تزنيان، فزناهما المشي، والفم يزني، فزناه القبلُ]. وفي لفظ: [والأذن زناها الاستماع](1)،
وقوله: {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} . قال سعيد بن جبير: (عن الفواحش). وقال قتادة: (عمّا لا يَحِل لهنّ). وقال مقاتل: (عن الزنا). وقال أبو العالية: (كل آية أنزلت في القرآن يُذكَرُ فيها حِفْظُ الفروج فهو من الزنا، إلا هذه الآية: {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}، ألا يراها أحدٌ. وفي لفظ: فإنه يعني الستر) - ذكره ابن جرير.
وقوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} . تصريح بوجوب ستر الزينة كلها وعدم إظهار شيء منها أمام الأجانب إلا ما ظهر بغير قصد منهن، فلا يؤاخذن عليه إذا بادرن إلى ستره.
ومن أقوال أئمة التفسير في مفهوم هذه الآية:
1 -
عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود، قال:(الزينة زينتان: فالظاهرة منها: الثياب، وما خفي: الخلخالان والقُرطان والسِّواران).
2 -
عن ابن عباس قال: (الظاهر منها: الكحل والخدّان). وقال: (الزينة الظاهرة: الوجه، وكحل العين، وخضاب الكف، والخاتم).
3 -
عن سعيد بن جبير: ({وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: الوجه والكفّ). وقال الأوزاعي: (الكفين والوجه).
وروى البيهقي عن ابن عباس وغيره: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} : الوجه والكفان). قلت: والذي يرجح من النصوص المختلفة ومن سياق الآية أنّ الذي استثني ما كان ظهر من المرأة من غير قصد فبادرت إلى ستره، وأما الوجه والكفان فلا يجب على المرأة سترهما. وفي ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: [لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوَّب عليه بحجفة (2) له
…
ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سُليم وإنهما لمشمرتان أرى خَدم سوقهما
(1) حديث صحيح. رواه الشيخان، وأبو داود - واللفظ كله له - انظر صحيح سنن أبي داود (1884)، (1885) - (1886).
(2)
أي مترس عليه "بحجفة" أي بترس.
- يعني الخلاخيل - تنقزان (1) القرب على متونهما تفرغانه في أفواه القوم] (2).
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: (وهذه كانت قبل الحجاب، ويحتمل أنَّها كانت عن غير قصد للنظر).
الحديث الثاني: أخرج أبو داود بسند صحيح في الشواهد عن عائشة: [أن أسماء بنت أبي بكر، دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا أسماءُ إنَّ المرأة إذا بلغت المَحيضَ، لم يَصْلُحْ أن يُرَى منها إلا هذا وهذا. وأشار إلى وجهه وكفيه](3).
الحديث الثالث: خرّج مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في حجة الوداع - أنه قال: [كان الفضل بن عباس رديفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءته امرأةٌ من خَثْعَمَ تستفتيه، فجعل الفضل ينظرُ إليها، وتنظرُ إليه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر
…
] (4).
وفي رواية: [فقال له العباس: يا رسول الله لم لويت عنق ابن عمك؟ قال: رأيت شابًا وشابة فلم آمن الشيطان عليهما].
وقوله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} . أَمْرٌ من الله تعالى النساء المؤمنات بلى الخمار على العنق والصدر. و"الخمر" جمع خمار، وهو ما يغطى به الرأس. و"الجيوب" جمع "الجيب" وهو موضع القطع من الدرع والقميص، وهو من الجوب وهو القطع. وهذه الآية تدل على ما دلت عليه بعض الأحاديث السابقة من عدم وجوب ستر المرأة لوجهها لأن الخمار غطاء الرأس، فأمَرَ تعالى بليِّ الخمار على العنق والصدر دلالة على وجوب سترهما، ولم يأمر بلبسه على الوجه فدل على أنه ليس بعورة. قال ابن حزم في "المحلى" (3/ 216 - 217): (فأمرهن الله تعالى بالضرب
(1) أي: تثبان و"القرب على متونهما"، أي: تحملانها وتقفزان بها وثبًا.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (7/ 290) من حديث أنس رضي الله عنه.
(3)
صحيح في الشواهد. أخرجه أبو داود (4104) - كتاب اللباس. باب فيما تبدي المرأة من زينتها.
وانظر صحيح سنن أبي داود (3458).
(4)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (1334) - كتاب الحج. وانظر (1218) من حديث جابر في حجة الوداع، وانظر مسند أحمد (1/ 211).
بالخمار على الجيوب، وهذا نصٌّ على ستر العورة والعنق والصدر، وفيه نص على إباحة كشف الوجه لا يمكن غير ذلك).
وقد ذكر القرطبي (12/ 230) وغيره في سبب نزول هذه الآية: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} : (أن النساء كن في ذلك الزمان إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة، وهي المقانع، سدلنها من وراء الظهر كما يصنع النبط، فيبقى النحر والعنق والأذُنان لا ستر على ذلك. فأمر الله تعالى بلي الخمار على الجيوب).
وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها، أنَّها قالت:[يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شققن أكنف (1) مروطهن فاختمرن بها](2).
وأخرج الطبراني في "المعجم الكبير" بسند صحيح عن الحارث بن الحارث الغامدي قال: [قلت لأبي ونحن بمنى: ما هذه الجماعة؟ قال: هؤلاء القوم قد اجتمعوا على صابئ لهم، قال: فنزلنا، "وفي رواية: فتشرفنا"، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى توحيد الله والإيمان به، وهم يردون عليه قوله ويؤذونه، حتى انتصف النهار وتصدع عنه الناس، وأقبلت امرأة قد بدا نحرها تبكي، تحمل قدحًا فيه ماء ومنديلًا، فتناوله منها، وشرب وتوضأ، ثم رفع رأسه إليها فقال: يا بنية! خمري عليك نحرك، ولا تخافي على أبيك غلبة ولا ذُلًّا. قلت: من هذه؟ قالوا: هذه زينب بنته](3).
وقوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} . توضيحٌ لمحارم المرأة الذين يجوز لها أن تظهر عليهم بزينتها، وهم: زوجها، والدها، والد زوجها، ابنها، ابن زوجها، أخوها، ابن أخيها، ابن أختها، النساء المسلمات، أَمَتُها ورقيقها من الرجال والنساء، والأجراء والأتباع ممن لا أرب له في النساء كالأبله والأحمق ونحو ذلك. قال ابن كثير: (كل هؤلاء محارم
(1) وفي رواية عند أبي صالح: أكثف.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4402) - كتاب اللباس. انظر صحيح أبي داود (3457).
(3)
حديث صحيح. أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(ج 1/ 245/ 2)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(4/ 46 - 1/ 243 - 1)، وانظر:"حجاب المرأة المسلمة" ص (36) وقال الألباني: هذا الحديث صحيح.
المرأة يجوز لها أن تظهر عليهم بِزينتها، ولكن من غير اقتصادٍ وتَبَهْرُج).
قلت: وقوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} يعني مواضع الزينة، وهي في العادة:
1 -
الخاتم والسوار في الكفين.
2 -
القُرْط على شحمة الأذنين.
3 -
الدُّمْلوج في المعضد.
4 -
القلادة: في العنق.
5 -
الخَلْخَال: في الساقين.
فهذه المواضع هي مواضع زينة النساء، وهي في التحقيق مواضع الوضوء، فجاز للمرأة إظهار هذه المواضع أمام مَنْ سبق من المحارم.
وأما قول بعض الفقهاء: "عورة المرأة من السرة إلى الركبة" فهذا مما لا دليل عليه، فإن كان قياسًا على الرجل فهو قياس مع الفارق للنصوص الصريحة الآتية:
الحديث الأول: أخرج الترمذي بسند صحيح عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[المرأة عوْرة، فإذا خَرَجَتْ استَشْرَفها الشَّيْطان](1).
الحديث الثاني: أخرج الطبراني بسند حسن منِ حديث ابن مسعود قال: [النساء عورة، وإن المرأة لتخرج من بيتها وما بِها بأسٌ، فيَسْتَشْرِفها الشيطان، فيقول: إنك لا تمرين بأحدٍ إلا أعجبتِه، وإن المرأة لتلبس ثيابها، فيُقال: أين تريدين؟ فتقول: أعودُ مريضًا، أو أشهد جنازةً، أو أصلي في مسجد! وما عَبَدَت امرأة ربَّها مثلَ أن تعبده في بيتها](2).
فهذه النصوص تدل أن المرأة كلها عورة وليس فقط: "ما بين السرة والركبة" فإن ذلك مما لا دليل عليه، أضف إلى ذلك قوله تعالى:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} الدال على مواضع الزينة، فهل الثدي وتحت الإبط موضع زينة عند العرب تضع المرأة فيه شيئًا من زينتها؟ ! الجواب: لا، بل هو موضع فتنة وزينة للزوج لا لغيره، فتنبَّه.
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن (1189). انظر صحيح سنن الترمذي (936)، وتخريج:"مشكاة المصابيح" - حديث رقم - (3109).
(2)
إسناده حسن. انظر تخريج الترغيب (1/ 345)، وقوله:"فيستشرفها الشيطان" أي ينتصب ويرفع بصره إليها ويَهُمُّ بها؛ لأنَّها قد تعاطت سببًا من أسباب تسلطه عليها.
وأما تفصيل بعض مفردات الآية السابقة:
فالبعل هو الزوج. قال القرطبي: (يرى الزينة من المرأة وأكثر من الزينة، إذ كل محلٍّ من بدنها حلال له لذةً ونظرًا. ولهذا المعنى بدأ بالبعولة).
وأبناء بعولتهن: المراد ذكور أولاد الأزواج، ويدخل فيه أولاد الأولاد وإن سَفَلوا، من ذُكران كانوا أو إناث، كبني البنين وبني البنات، وكذلك آباء البعولة والأجداد وإن عَلوْا من جهة الذكران لآباء الآباء وآباء الأمهات وكذلك أبناؤهن وإن سَفَلوا. ذكره القرطبي ثم قال:(وكذلك أبناء البنات وإن سفلن، فيستوي فيه أولاد البنين وأولاد البنات. وكذلك أخواتهن، وهم مَنْ ولده الآباء والأمهات أو أحد الصِّنفين. وكذلك بنو الإخوة وبنو الأخوات وإن سَفَلُوا من ذُكران كانو! أو إناث كبني بني الأخوات وبني بنات الأخوات. وهذا كله في معنى ما حرم من المناكح، فإن ذلك على المعاني في الولادات وهؤلاء محارم).
وأما قوله: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} . فالمقصود النساء المسلمات، ويدخل في هذا الإماء المؤمنات. ولا حرج لغير المسلمات أن تظهر المرأة أمامهن كما تظهر أمام نساء المؤمنات إلا إن كنّ ممن يَصِفْنَ لأزواجهن أو للرجال ما تزيْن، فعندئد يحرم على المرأة إظهار زينتها أمامهن، وهذا الحكم لا يخصّ النساء غير المسلمات فقط، بل ينسحب على النساء المسلمات إن الثشركن بعلة وصف المحاسن لأزواجهن أو للرجال.
وأما ما ذهب إليه بعض الفقهاء من تحريم إظهار المرأة المسلمة شيئًا من بدنها أمام المرأة المشركة فهذا مما لا دليل عليه، والعلة السابقة وهي: وصف المحاسن قد تشترك بها المسلمة والكافرة كما أشرت، والله تعالى أعلم.
وقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} يشمل العبيد والإماء المسلمات والكتابيات. قال ابن عباس: (لا بأس أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته).
أخرج أبو داود بسند صحيح عن أنس: [أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها، قال: وعلى فاطمة ثوب، إذا قَنَّعت به رأسها، لم يبلغ رجليها، وإذا غَطَّت به رجليها لم يبلغ رأسها. فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال: إنه ليس عليك بأسٌ، إنما هو أبوك وغلامُك](1).
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (4106) - كتاب اللباس، باب لبس النساء، (34) باب في العبد ينظر إلى شعر مولاته. وانظر صحيح أبي داود (3460).
وأخرج ابن ماجة بسند صحيح عن جابر: [أن أم سلمة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: في الحجامة. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا طيبة أن يحجمها. وقال: حسبت أنه كان أخاها من الرضاعة، أو غلامًا لم يحتلم](1).
وقوله: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} الإرْبَةُ الحاجة. وقوله: {التَّابِعِينَ} قال قتادة: (هو التابع يتبعك يصيب من طعامك). قال ابن عباس: (فهذا الرجل يتبع القوم، وهو مُغَفَّلٌ في عقله، لا يكترث للنساء ولا يشتهيهنَّ).
وقال مجاهد: (الذين لا يهمهم إلا بطونهم، ولا يُخافون على النساء). وقال أيضًا: ({غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ} قال: هو الأبله، الذي لا يعرف شيئًا من النساء). وقال الشعبي: (تبع الرجل وحشمه: الذي لم يبلغ أرَبَه أن يطَّلع على عورة النساء). وقال سعيد بن جبير: (المعتوه). وقال الزهري: (هو الأحمق، الذي لا همة له بالنساء ولا أرب).
قلت: وكلها أقوال متقاربة تتوجَّهُ إلى مَنْ لا فَهْمَ له ولا همة ينتبه بها إلى أمر النساء، وإنما يكون في القوم أو نشأ بينهم ويتبعهم لإرفاقهم إياه ولا حاجة له في النساء.
وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود - واللفظ له - عن عائشة قالت: [كان يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مُخَنَّث، فكانوا يعدونه، من غير أولي الإربة، فدخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم يومًا، وهو عند بعض نسائه، وهو ينعت امرأة، فقال: إنها إذا أقبلت، أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا، لا يدخُلَنَّ عليكن هذا". فحجبوه](2).
وفي زيادة عند أبي داود: (وأخرجه، فكان بالبيداء يدخل كل جمعة يستطعم).
وفي رواية: [فقيل: يا رسول، إنه إذن يموت من الجوع، فأذن له أن يدخل في كلّ جمعة مرتين فيسأل ثم يرجع].
وقوله: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} . قال مجاهد: (لم يَدْروا
(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (3480) في الحجامة - كتاب الطب. انظر صحيح ابن ماجة (2803)، وصحيح سنن أبي داود (3459).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (2181)، وأبو داود (4107)، وانظر للزيادة (4109)، (4110).
ما ثَمَّ، من الصِّغَرِ قبل الحُلُم). قال ابن كثير:(يعني لِصغرهم لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهنّ، من كلامِهنَّ الرَّخيمِ، وتَعَطُّفِهن في المِشْيَةِ وحَرَكاتِهنَّ وسكناتِهنَّ، فإذا كان الطفلُ صغيرًا لا يفهَمُ ذلك فلا بأس بدُخوله على النساء، فأما إن كان مُرَاهِقًا أو قريبًا منه بحيث يعرف ذلك ويَدْريه، ويُفَرِّقُ بين الشوهاء والحسناء، فلا يُمَكَّن من الدخول على النساء).
قلت: وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى في أحاديث:
الحديث الأول: في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والدخولَ على النِّساء. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحَمْوَ؟ قال: الحَمْوُ: المَوْتُ" (1).
الحديث الثاني: خرّج مسلم في صحيحه عن ابن عباس يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: [لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو مَحْرم] الحديث (2).
الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح من حديث جابر بن سمرة قال: [خطب عمر الناس بالجابية فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في مثل مقامي هذا فقال: أحسنوا إلى أصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم يحلف أحدهم على اليمين قبل أن يستحلف عليها، ويشهد على الشهادة قبل أن يُستشهد، فمن أحبَّ منكم أن ينال بحبوحة الجَنَّة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، ولا يخلونَّ رجل بامرأة، فإن ثالثهما الشيطان، ومن كان منكم تسرّه حسنته وتسوؤه سيئته فهو مؤمن](3).
وقوله: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} . قال ابن عباس: (فهو أن تقرعَ الخَلْخال بالآخر عند الرجال، ويكون في رجليها خلاخل، فتحركهنّ عند الرجال، فنهة الله سبحانه وتعالى عن ذلك؛ لأنه من عمل الشيطان).
ويبدو أنَّها كانت عادة في الجاهلية، تضرب المرأة برجلها الأرض إذا مشت فيسمع طنين خلاخيلها، فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5232) - كتاب النكاح، وأخرجه مسلم (2172)، وأحمد (4/ 149)، والترمذي (2171)، وابن حبان (5588)، والبيهقي (7/ 90).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (1341) - كتاب الحج، في أثناء حديث أطول، ورواه البخاري.
(3)
حديث صحيح. انظر مسند أحمد (1/ 177)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (431).
قلت: وكل ما كان من التكلف من المرأة في إظهار الزينة في الطريق داخل في مفهوم وآفاق هذه الآية كفتحات بعض الثياب، وإظهار بعض الألوان على الرأس أو الأغطية، والروائح العطرة التي تفوحُ في أثناء المسير فتحرك شهوة الرجال، وغير ذلك من أعمال الفتنة، وفي ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن زينب امرأة عبد الله قالت: [قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا شَهِدَتْ إحداكُنَّ المَسْجِدَ فلا تَمَسَّ طِيبًا](1).
الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أيما امرأة أصابت بَخُورًا، فلا تشهد معنا العشاء الآخرة](2).
الحديث الثالث: روى أبو داود والترمذي بسند حسن عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا استعطرت المرأةُ فمَرَّت على القوم ليجدوا ريحها، فهي كذا وكذا. قال قولًا شديدًا](3).
ولفظ الترمذي: [كُلُّ عَيْن زانية، والمرأةُ إذا استعْطَرت فَمَرَّت بالمجلس فهي كذا وكذا. يعني: زانية].
الحديث الرابع: أخرج أبو داود وابن ماجة بسند صحيح عن أبي هريرة، قال - أي: الراوي عنه -: [لَقِيَتْهُ امرأة وجد منها ريح الطيب ينفح ولذيلها إعْصَار (4)، فقال: يا أمَةَ الجبَّار، جئتِ من المسجد؟ قالت: نعم! قال: وله تطيبت؟ قالت: نعم! قال: إني سمعتُ حِبِّي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: لا تُقْبَلُ صلاة لامرأةٍ تطيَّبَتْ لهذا المسجد، حتى ترجِعَ فتغتَسلَ غُسْلَها من الجنابة](5).
وقوله: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . أمر من الله عباده المؤمنين بالتوبة إليه مما كان منهم من الصفات الجاهلية المذمومة، والتقرب إليه
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (443) ح (142) - كتاب الصلاة باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، وأنها لا تخرج مطيبة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (444)، الباب السابق، ورواه أبو داود (4175).
(3)
حديث حسن. أخرجه أبو داود (4173). وانظر صحيح سنن الترمذي (2237).
(4)
أي غبار ترفعه الريح.
(5)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4174)، وابن ماجة (4002)، وانظر صحيح سنن أبي داود - حديث رقم - (3517).
بامتثال ما يحب من العادات والآداب والأخلاق الرفيعة المعلومة، ليدركوا بذلك السعادة في الدنيا والآخرة.
32 -
34. قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}.
في هذه الآياتِ: الترغيبُ في التزويج، للأحرار والعبيد، والوعد بالغنى والرزق على ذلك. والأمْرُ بالاستعفاف حتى يكون النكاح، ومساعدة المكاتبين، والتحذير من إكراه الإماء على الزنى، وهذه الآياتِ فيها موعظة للمتقين.
فقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} أمر بالتزويج، على كل من قدر عليه، فإن الزواج من سنة الأنبياء والمرسلين، ونَبيُّنا صلى الله عليه وسلم سيكاثر بذريات أمته الأمم يوم القيامة.
فقد أخرج ابن ماجة بسند حسن عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [النِّكاحُ مِنْ سُنَّتي، فَمَنْ لم يَعْمَلْ بسنَّتي فليس مني، وتزوجوا فإني مكاثرٌ بكم الأمم. ومن كان ذا طَوْلٍ فَلْيَنكحْ وَمَنْ لم يَجِدْ فعليه بالصيام، فإن الصومَ له وجاء](1).
وفي الصحيحين وسنن ابن ماجة وأبي داود عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يا معشرَ الشباب! من استطاع مِنكم الباءة فليتزوَّج. فإنه أغضُّ للبصرِ وأحْصَنُ للفرجِ. ومَنْ لمْ يَسْتطِعْ فعليه بالصوم، فإنه له وجاء](2).
(1) حديث حسن. أخرجه ابن ماجة (1846) - كتاب النكاح. باب ما جاء في فضل النكاح، انظر صحيح سنن ابن ماجة (1496).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (1905)، ومسلم (1400)، وأبو داود (2046)، وابن ماجة (1845)، والترمذي (1081) والنسائي (6/ 57)، وأحمد (1/ 378)، وابن حبان (4026).
والأيامى: جمع أيِّم. قال الرازي: ({الْأَيَمَى}: الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء، الواحد منهم "أيِّم" سواء كان تزوّج من قبل أو لم يتزوّج. وامرأة أيّم بِكْرًا كانت أو ثَيّبًا). قال القرطبي: (المقصود من قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} الحرائر والأحرار، ثم بين حكم المماليك فقال: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} يعني المذكور والإناث، والصلاح الإيمان).
قال أبو السعود: (واعتبار الصلاح في الأرقاء، لأَنَّ مَنْ لا صلاحَ لهُ منهم، بمعزل من أن يكون خليقًا بأن يعتني مولاه بشأنه، ويشفق عليه، ويتكلف بما لا بد منه شرعًا وعادة، من بذل المال والمنافع. بل حقّه ألا يستبقيه عنده).
وقوله: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} . حثٌّ على الإقدام على الزواج فإن الله وعد الرزق على التقوى. قال ابن عباس: (رغَّبهم الله في التزويج، وأمر به الأحرار والعبيد، ووعَدَهم عليه الغِنى).
يروي ابن جرير بسنده عن ابن مسعود قوله: (التمسوا الغِنى في النكاح، يقول الله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}).
وفي التنزيل: قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3].
ومن كنوز صحيح السنة العطرة في آفاق هذه الآية أحاديث، منها:
الحديث الأول: أخرج ابن عدي في "الكامل" بسند حسن عن أبي هريرة مرفوعًا: [حقٌّ على الله عونُ مَنْ نَكَحَ التِماسَ العفافِ عما حَرَّمَ الله](1).
الحديث الثاني: أخرج أحمد والترمذي وابن ماجة بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ثلاثةٌ حقٌّ على الله تعالى عونهم: المجاهِدُ في سبيل الله، والمكاتَبُ الذي يريدُ الأداءَ، والناكحُ الذي يريدُ العفاف](2).
وقوله: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} . أي: واسع الفضل والمنّ والكرم، عليمٌ بأحوال عباده من الفقر والغنى وغير ذلك وما يصلح لهم.
(1) حديث حسن. أخرجه ابن عدي بسند حسن. انظر صحيح الجامع (3147)، ويشهد له ما بعده.
(2)
حديث حسن. أخرجه أحمد (2/ 251)، والترمذي (1655)، والنسائي (6/ 61)، وابن ماجة (2518)، وابن حبان (4030)، والحاكم (2/ 160).
وقوله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} . أمْرٌ من الله تعالى لمن لا يستطيع نكاحًا بلزوم التعفُّفِ والابتعاد عن الحرام حتى يأتي الله بالفرج والسعة.
قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4].
وفي الصحيحين والمسند والسنن عن علقمة بن قيس قال: [كنت مع عبد الله بن مسعود بمنى. فخلا به عثمان. فجلست قريبًا منه. فقال له عثمان: هل لك أن أزوجك جارية بكرًا تذكرك من نفسك بعض ما قد مضى؟ فلما رأى عبد الله أنه ليس له حاجة سوى هذا، أشار إلي بيده. فجئت وهو يقول: لئن قلت ذلك، لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يا معشر الشباب! مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج. فإنه أَغَضُّ للبصَرِ وأحْصَنُ للفرْجِ. ومن لم يَسْتَطِعْ، فعليه بالصَّوم، فإنه له وجاء](1).
وقوله: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} . أمْرٌ من الله تعالى للسادة بمعاونة عبيدهم إن أرادوا المكاتبة للخروج من حال الرِّق. واشترط أهل العلم أن يكون للعبد كسب يكفيه للوفاء.
ومفهوم المكاتبة: أن يكاتِبَ الرجل عبده على مال يؤديه مُنجَّمًا عليه، فإذا أدّاه فهو حُرّ. ويجوز حالًا كما يجوز منجمًا ومؤجلًا لإطلاق الأمر. واختلف العلماء هل الأمر هنا للوجوب أم للاستحباب على قولين:
القول الأول: الوجوب. وهو قول الشافعي في القديم، ومذهب ابن جرير شيخ المفسرين.
قال البخاري: (وقال رَوْحٌ، عن ابن جريجٍ، قلتُ لعطاء: أواجبٌ عليَّ إذا علمتُ له مالًا أن أكاتِبَهُ؟ قال: ما أراه إلا واجبا. وقال عمرو بن دينار: قلت لعطاء: أَتأثُرُه عن أحد؟ قال: لا. ثم أخبرني أن موسى بن أنس أخبرَه أن سِيرينَ سألَ أنسًا المُكاتَبَةَ، وكان كثير المال فأبى، فانطلق إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: كاتِبْه. فأبى، فضربَهُ بالدُّرة، ويتلو عمر رضي الله عنه: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}. فكاتبه) - ذكره البخاري تعليقًا.
وله شاهد عند ابن جرير بسند صحيح عن قتادة، عن أنس بن مالك: (أن سيرين
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1905)، ومسلم (1400)، وابن ماجة (1845)، واللفظ له، وأبو داود (2046)، والترمذي (1081)، والنسائي (6/ 57)، وأحمد (1/ 378).
أراد أن يُكَاتبه، فتلكّأ عليه، فقال له عمر: لتُكاتِبَنَّه).
القول الثاني: الندب وعدم الوجوب. وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، والشافعي في الجديد. قال ابن وهب: قال مالك: (الأمر عندنا أن ليس على سَيِّد العبد أن يكاتِبَهُ إذا سأله ذلك، ولم أسمع أحدًا من الأمة أكره أحدًا على أن يكاتِبَ عبده).
قال مالك: (وإنما ذلك أمرٌ من الله تعالى وإذنٌ منه للناس، وليس بواجب). واحتج الشافعي في مذهبه الجديد على عدم الوجوب بحديث حنيفة الرقاشي- الذي أخرجه أبو يعلى وأحمد بسند حسن- مرفوعًا: [لا يحل مالُ امرئٍ مسلم إلا بطيب نفس منه](1).
قلت: والراجح الندب لا الوجوب، فإن الرجل حرٌّ في ماله، فلو طلب منه عبدُهُ المكاتبة فإن شاء كاتبه وإن شاء لم يفعل. قال الشعبي:(إن شاء كاتَبَهُ، وإن شاء لم يكاتبه). ومن ثمَّ فإنَّ الأمرَ في الآية أمر إرشاد واستحباب، لا أمر تحتّم وإيجاب، وهو قول الجمهور.
قال القرطبي: (وتمسك الجمهور بأن الإجماع منعقد على أنه لو سأله أن يبيعه من غيره لم يلزمه ذلك، ولم يجبر عليه وإن ضوعف له في الثمن. وكذلك لو قال له أعتقني أو دَبِّرني أو زوّجني لم يلزمه ذلك بإجماع، فكذلك الكتابة، لأنها معاوضة فلا تصح إلا عن تراضٍ. وقولهم: مطلق الأمر يقتضي الوجوب صحيح، لكن إذا عَرِيَ عن قرينة تقتضي صرفه عن الوجوب، وتعليقه هنا بشرط علم الخير فيه، فعلّق الوجوب على أمر باطن وهو علم السيد بالخيرية. وإذا قال العبد: كاتبني، وقال السيد: لم أعلم فيك خيرًا، وهو أمر باطن، فيرجع فيه إليه ويعوّل عليه. وهذا قويّ في بابه).
وأما قوله: {خَيْرًا} ففيه أقوال متكاملة:
1 -
قال مالك بن أنس: (الخير: القوة على الأداء). أو قال: (الاكتساب والأداء). وهو قول الشافعي.
2 -
وقال الحسن: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} قال: صدقًا، ووفاء، وأداء، وأمانة). وقال مجاهد:(مالًا وأمانة). وقال ابن عباس: (إن علمتم لهم مالًا).
3 -
وقال عمرو بن دينار: (أحسبه كل ذلك المال والصلاح).
(1) حديث حسن. أخرجه أبو يعلى (1570)، وأحمد (5/ 72)، وانظر صحيح الجامع (7539).
4 -
وقال ابن زيد: (إن علمت فيه خيرًا لنفسك، يؤدي إليك ويصدّقك ما حدثك، فكاتبه).
5 -
وقال عبيدة السَّلْماني: (إقامة الصلاة والخير).
وقوله: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} . قال النسفي: (أمر للمسلمين على وجه الوجوب بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم من الزكاة لقوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ}).
قلت: وقد صنّف البخاري في صحيحه كتابًا سماه: كتاب المكاتب، وذكر فيه بابًا: باب استعانة المكاتَبِ وسؤاله الناس. روى فيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: [جاءت بَريرةُ فقالت: إنِّي كاتَبْتُ أهلي على تِسْع أواقٍ في كُلِّ عام أُوقيَّةٌ فأعينيني، فقالت عائشة رضي الله عنها: إنْ أحَبَّ أهلُك أنْ أعُدَّها لهم عَدَّةً واحِدةً وَأُعْتِقَكِ فَعَلْتُ فيكون ولاؤُكِ لي، فَذَهَبتْ إلى أهلها فأبَوْا ذلك عليها، فقالت: إنّي قدْ عرَضْتُ ذلك عليهم، فأبَوْا إلا أنْ يكونَ الولاءُ لهُمْ، فسمعَ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألني فأخْبَرْتُه فقال: خُذيها فَأعْتِقيها واشترطي لهم الولاء، فإنَّ الولاءَ لِمَنْ أعْتَقَ. قالتْ عائِشة: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحَمِدَ الله وأثنى عليه، ثم قال: أمّا بَعْدُ، ما بالُ رجالٍ يشتَرِطون شُروطًا ليست في كتاب الله؟ فأيّما شَرْطٍ كان ليس في كتاب الله فهو باطل وإنْ كانَ مئةَ شَرْطٍ، فقضاءُ الله أحَقُّ، وشرْطُ الله أوثَقُ، ما بالُ رجالٍ يقولُ أحدُهم: أَعْتِقْ يا فُلانُ وَليَ الولاءُ، إنما الولاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ](1). وفي لفظ: [اشتريها فأعْتقيها ودَعيهم يشترطوا ما شاؤوا. فاشترتها عائشة فأعتقتها واشترط أهلها الولاء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الولاء لمن أعْتَقَ وإنِ اشترطوا مئةَ شرط].
وفي رواية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الولاءُ لِمَنْ أعْطى الوَرِقَ وَوَليَ النِّعمة].
وقوله: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . قال ابن عباس: (كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا، يأخذون أجورهُنّ، فقال الله: لا تكرهوهنّ على الزنا من أجل المنالة في الدنيا، ومن يكرههنّ فإنّ الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهنّ: يعني إذا أكرهن).
وقال ابن زيد: ({وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال: غفور رحيم لهن حين أكرهن، وَقُسِرْن على ذلك).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2563) - (2565) كتابِ المكاتب، وانظر الحديث (456) منه.
وللرواية الأخرى (6760) - كتاب الفرائض، وهي رواية مُفَسِّرة للحديث.
وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بذكلر أسباب نزول هذه الآية:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن جابر قال: [كان عبد الله بنُ أبي بن سلول يقول لجارية له: اذهبي فابْغِينا شيئًا، فأنزل الله عز وجل: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}](1).
الحديث الثاني: روى مسلم- أيضًا- عن جابر رضي الله عنه: [أنَّ جاريةً لعبد الله بن أُبيّ بن سلول يقال لها: مُسَيْكَةُ، وأُخرى يقال لها: أُمَيْمَةُ، فكان يريدهما "وفي رواية: فكان يكرههما" على الزِّنى، فَشَكَتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزلَ اللهُ عز وجل: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ}](2).
الحديث الثالث: أخرج الطبراني ورجاله رجال الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [كانت لعبد الله بن أبي جارية تزني في الجاهلية، فلما حُرِّمَ الزنا قالت: لا والله لا أزني أبدًا، فنزلت الآية](3).
وقوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} . تأكيد لآيات القرآن أنزلها الله واضحات مفسِّرات لأحكام هذا الشرع العظيم، ويأتي الوحي الثاني وهو: السنة المطهرة، لتزيد في ذكر آفاق هذه الأحكام وتبيان مدلولاتها ومعانيها.
وقوله: {وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} . أي: وأنزلنا في هذا القرآن أخبارَ الأمم الماضية والقرون الغابرة وما حَلَّ بها حين خالفت منهاج رسلها وتطاولت على الوحي النازل إليها.
وقوله: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} . قال ابن كثير: (أي: زاجرًا عن ارتكاب المآثم والمحارم، {لِلْمُتَّقِينَ}، أي: لمن اتّقى الله وخافه).
35.
قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (3029) كتاب التفسير، سورة النور، آية (33).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (3029) ح (27) - كتاب التفسير، الباب السابق.
(3)
حديث صحيح. أخرجه الطبراني- ورجاله رجال الصحيح- ورواه البزار بنحوه، انظر الصحيح المسند من أسباب النزول- الوادعي- سورة النور، آية (33)، وروى ابن جرير نحوه في التفسير- حديث رقم- (26084).
مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)}.
في هذه الآية: نَعْتُ الله سبحانه -هادي أهل السماوات والأرض، ومنورهما- لقلب المؤمن المشعّ بنور الوحي العظيم، في نموذج رائع من التمثيل، وضرب رفيع من التشبيه، يعجز أهل الأرض ولو اجتمعوا على الإتيان بمثله، والله بكل شيء عليم.
فعن ابن عباس: ({اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يقول: الله سبحانه هادي أهل السماوات والأرض). وقال مجاهد فيها: (يدبِّر الأمر فيهما، نجومِهما وشمسِهما وقَمَرِهما). وعن أبي العالية عن أبي بن كعب في قول الله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال: (فبدأ بنور نفسه، فذكره، ثم ذكر نور المؤمن فقال: {مَثَلُ نُورِهِ}، يقول: مثل نور المؤمن).
وفي لفظ: (يقول: مَثَلُ نور مَنْ آمن به. قال. هو عبد جعل الله القرآن والإيمان في صدره).
وكذلك قال سعيد بن جبير -والضحاك-: ({مَثَلُ نُورِهِ}: قال: مثل نور المؤمن).
وهذا هو التأويل الأول للآية.
التأويل الثاني: قيل بل عني بالنور محمد صلى الله عليه وسلم، والهاء في قوله:{مَثَلُ نُورِهِ} عائدة على اسم الله.
روي ذلك عن كعب قال: {مَثَلُ نُورِهِ} : مثل محمد صلى الله عليه وسلم، كمشكاة).
التأويل الثالث: قيل بل المراد بالنور هدى الله وبيانه، وهو القرآن، والهاء من ذكر الله.
قال ابن عباس: {مَثَلُ نُورِهِ} : مثلُ هداهُ في قلب المؤمن). وقال الحسن: (مثل هذا القرآن في القلب، كمشكاة). وقال ابن زيد: (نور القرآن الذي أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم وعباده، هذا مثل القرآن {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ}).
قلت: ولا شك أن نوره تعالى هذا الوحي العظيم وهدي نبيّه الكريم يشع في قلب
عبده المؤمن، فحجابه سبحانه النور، وكتابه نور، وسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم نور على نور، وقلب عبده المؤمن منوّر بهذا الخير كله.
وأما المشكاة ففي معناها أكثر من قول:
القول الأول: قيل هي كل كوّة لا منفذ لها، وهو مثل ضربه الله لقلب محمد صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس: (المشكاة: كوّة البيت). وفي لفظ: (موضع الفتيلة). وقال كعب: (المشكاة وهي الكوة، ضربها الله مثلًا لمحمد صلى الله عليه وسلم).
القول الثاني: قيل بل عني بالمشكاة صدر المؤمن، وبالمصباح: القرآن والإيمان، وبالزجاجة: قلبه.
فعن أبي العالية عن أبي بن كعب: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ} قال: (مثل المؤمن قد جعل الإيمان والقرآن في صدره كمشكاة، قال: المشكاة: صدره. {فِيهَا مِصْبَاحٌ} قال: والمصباح القرآن والإيمان الذي جعل في صدره. {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} قال: والزجاجة قلبه. {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ}، قال: فمثله مما استنار فيه القرآن والإيمان كأنه كوكب دري، يقول: مضيء، {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} قال: والشجرة المباركة: أصله المباركة الإخلاص لله وحده وعبادته، لا شريك له. {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} قال: فمثله مَثل شجرة التفّ بها الشجر، فهي خضراء ناعمة، لا تصيبها الشمس على أي حال كانت، لا إذا طلعت، ولا إذا غربت، وكذلك هذا المؤمن قد أُجيرَ من أن يُصيبه شيء من الغيرِ، وقد ابتُلي بها، فثبته الله فيها، فهو بين أربع خلال: إنْ أُعطي شكَر، وإن ابتُلي صَبَر، وإن حكم عدل، وإن قال صدق، فهو في سائر الناس كالرجل الحيّ يمشي في قبور الأموات، قال: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} فهو يتقلَّب في خمسةٍ من النور: فكلامه نور، وعمله نور، ومدْخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة في الجنة).
وقال ابن عباس: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} قال: مثل هداه في قلب المؤمن، كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسّه النار، فإذا مسته النار ازداد ضوءًا على ضوء، كذلك يكون قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى، ونورًا على نور، كما قال إبراهيم صلوات الله عليه قبل أن تجيئه المعرفة {قَالَ هَذَا رَبِّي} حين رأى الكوكب من غير أن يخبره أحد أن له ربًا، فلما أخبره الله أنه ربه، ازداد هدى على هدى).
وفي قوله: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} قال: يعني إيمان المؤمن وعمله.
القول الثالث: قيل هو مثل للمؤمن، والمصباح مثل لفؤاده، والمشكاة مثل لجوفه.
قال مجاهد: (المصباح وما فيه مثل فؤاد المؤمن وجوفه، المصباح مثل الفؤاد، والكوّة مثل الجوف).
وقيل غير ذلك، واختار ابن جرير قول من قال: ذلك مثل ضربه الله للقرآن في قلب أهل الإيمان به، فقال:(مثل نور الله الذي أنار به لعباده سبيل الرشاد، الذي أنزله إليهم، فآمنوا به، وصدقوا بما فيه، في قلوب المؤمنين، مثل مشكاة، وهي عمود القنديل الذي فيه الفتيلة .. {فِيهَا مِصْبَاحٌ} وهو السراج، وجعل السراج وهو المصباح مثلًا لما في قلب المؤمن من القرآن والآيات المبينات ثم قال: {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} .. فقال: الزجاجة، وذلك صدر المؤمن الذي فيه قلبه كأنها كوكب دري. قال: مثل الصدر في خلوصه من الكفر بالله والشك فيه، واستناره بنور القرآن، واستضاءته بآيات ربه المبينات، ومواعظه فيها، بالكوكب الدري).
قلت: وجميع الأقوال متقاربة، وهي اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وإن كنت أميل إلى القول الثاني وتفصيلاته الدقيقة، وأن معنى قوله:{نُورٌ عَلَى نُورٍ} هو نور الوحي على نور الإيمان، نور السنة على نور الفطرة، نور التشريع والدين الحق على نور الميثاق، نور الهداية طَمَسَ ظلمة الشهوات وازدحامها على النفس والعقل والقلب، نورٌ على نور، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.
إن أساس التوازن الصحيح بين إرشاد العقل ومحاكماته الدقيقة من جهة، وبين ضغط قوى الغرائز وميلها إلى التفلت من جهة أخرى، هو الاستعانة بالله العظيم، والاستمداد من وحيه الكريم، وهو معنى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . فلا نجاة للعبد من خطر نفسه واندفاع غرائزه إلا بموازنة ذلك بعلم الكتاب والسنة، وملء العقل والقلب بنورهما المشع، الذي ينعكس صحةً في العقل وقراراته ومحاكماته، ونورًا في القلب وهدى وأمنًا واستقرارًا في حركاته وتقلباته، وحركة صحيحة وعملًا صالحًا يظهر على الجوارح.
وقوله: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . أي: يعاقب الله ذكر الأمثال في القرآن لتنبيه عباده إلى منافعهم ومصالح دنياهم وأخراهم، وهذا المثل
العظيم الذي ضربه سبحانه لنور الوحي الذي يسطع على القلوب فتفرز الحياةَ والإشعاعَ المضيء هو من أنفع الأمثال لهم، والله أعلم بمن يستحق الهداية وهذا النور ممن يستحق الضلال والخلود في الظلام.
36 -
38. قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)}.
في هذه الآيات: ذِكْرُ أطهر البيوت في الأرض عقب ذكر أطهر القلوب وأزكاها، فَلَقُلوبٌ عمرت بالإيمان يناسب أصحابها بيوتٌ عمرت بذكر الرحمان، ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من الفضل والإحسان، والله يرزق من يشاء بغير حساب.
فقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} . قال ابن عباس: (وهي المساجدُ تُكْرَم، ونهي عن اللغو فيها). وقال مجاهد: (مساجد تُبنى). وقال قتادة: (هي هذه المساجد، أمر الله سبحانه ببنائها ورَفعها، وأمر بِعِمَارَتها وتطهيرها). وقال الحسن: {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} يقول: أن تُعَظَّم لذكره).
يروي ابن جرير بسنده عن عمرو بن ميمون قال: (أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: المساجد: بيوت الله، وإنه لحقٌّ على الله أن يُكْرِمَ من زاره فيها).
وقد حفلت السنة العطرة بآفاق هذه الآية في أحاديث كثيرة، منها:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن عُبيد الله الخَوْلاني أنه سمع عثمانَ بن عفان، عِنْد قول الناس فيه حين بنى مسجدَ الرسول صلى الله عليه وسلم: إنكم قد أكْثَرتُم، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:[مَنْ بنى مَسْجدًا لله يبتغي به وَجْه الله تعالى بنى الله له بيتًا في الجنة](1). وفي رواية: (مِثْلَهُ في الجنة).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (450) - كتاب الصلاة، وأخرجه مسلم (533) - كتاب المساجد. وانظر للرواية الثانية (533) ح (25) - باب فضل بناء المساجد والحث عليها. وأخرجه أحمد (1/ 61) والترمذي (318)، والبيهقي (2/ 437)، وابن حبان (1609).
وفي رواية لمسلم عن مَحْمودِ بنِ لَبيدٍ، أنَّ عثمانَ بن عفان أراد بناء المسجد، فكِرهَ الناس ذلك، فأحَبُّوا أنْ يَدَعَهُ على هيئتهِ. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [مَنْ بنى مَسْجِدًا لله بنى الله له في الجنة مِثْله].
الحديث الثاني: أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[مَنْ بنى مَسْجِدًا لله كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ، أَوْ أصْغَرَ، بنى الله له بيتًا في الجنة](1).
الحديث الثالث: أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [مَنْ بَنى مَسْجِدًا يُذْكَرُ فيه اسمُ الله، بَنَى الله له بيتًا في الجنة](2).
الحديث الرابع: أخرج أبو داود وابن ماجة عن عائشة: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالمساجد أن تبنى في الدور، وأن تطهر وتطيب](3).
قلت: وبناؤها لا بد أن يكون على منهاج النبوة، وإلا فإن زخرفتها وإضاعة الأموال في تزيينها من علامات انهيار الأمة وضعفها ومن علامات الساعة. والأحاديث في ذلك كثيرة، منها:
الحديث الأول: أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تقوم الساعةُ حتى يتباهى الناسُ في المساجد](4).
الحديث الثاني: أخرج أبو داود بسند صحيح عن ابن عباس قال: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أُمِرْتُ بتشييدِ المساجد". قال ابن عباس: لتزخرفنَّها كما زخرفت اليهود والنصارى](5).
الحديث الثالث: أخرج ابن أبي شيبة بسند حسن عن سعيد بن أبي سعيد مرفوعًا:
(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن -حديث رقم- (738) - كتاب المساجد والجماعات. انظر صحيح سنن ابن ماجة (603).
(2)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن -حديث رقم- (735) - الكتاب السابق- باب من بنى لله مسجدًا. وانظر صحيح سنن ابن ماجة (601).
(3)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (433)، والترمذي (594)، وابن ماجة (758)، وغيرهم.
(4)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (739) - كتاب المساجد والجماعات. انظر صحيح سنن ابن ماجة (604) - باب تشييد المساجد، وصحيح أبي داود (432).
(5)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن -حديث رقم- (448) - كتاب الصلاة. باب في بناء المساجد. وانظر صحيح سنن أبي داود -حديث رقم- (431).
[إذا زوقتم مساجدكم، وحليتم مصاحفكم، فالدمار عليكم](1).
وفي رواية: [إذا زخرفتم مساجدَكم، وحليتم مصاحفكم، فالدمار عليكم].
وقوله: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} . قيل: آيات كتابه، وقيل: هو كل ذكر ورجاء ودعاء. قال ابن عباس: (يقول: يُتلى فيها كتابه).
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18].
2 -
وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29].
ومن كنوز صحيح السنة العطرة في آفاق ذلك أحاديث:
الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال. [بينما نحنُ في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذْ جاء أعرابيٌّ، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهْ مَهْ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُزْرِمُوه، دَعُوه"، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: إنَّ هذه المساجِدَ لا تَصْلُحُ لشيءٍ مِنْ هذا البَوْلِ والقَذَرِ، إنما هي لِذِكْرِ الله عز وجل، والصَلاةِ، وقراءةِ القرآن، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأمر رجلًا من القوم، فجاءَ بِدَلْوٍ مِنْ ماءً، فَشَنَّهُ (2) عليه](3).
الحديث الثاني: أخرج مسلم والنسائي عن بُريدة: [أنَّ رجلًا أنشدَ في المسجد، فقال: مَن دعا إلي الجمَل الأحمر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا وَجَدتَ، إنما بُنِيت المساجدُ لما بُنيت له](4).
الحديث الثالث: أخرج أبو داود بسند حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه قال: [نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيع والابتياع، وعن تناشُد الأشعارِ في المساجد](5).
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(1/ 100/ 2)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1351).
(2)
أي فصبه عليه.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (285) - كتاب الطهارة، وانظر صحيح البخاري (219)، (221)، (6025)، وكذلك مسند أحمد (3/ 226)، وسنن النسائي (1/ 47).
(4)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه -حديث رقم- (569)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(174)، وابن ماجة (765)، وابن حبان (1652).
(5)
حديث حسن. أخرجه أبو داود (1079)، والترمذي (322)، وأحمد (2/ 178)، وغيرهم.
الحديث الرابع: أخرج الترمذي وابن حبان بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إذا رأيتم من يبيعُ أو يبتاعُ في المسجد فقولوا: لا أربحَ الله تجارتك. وإذا رأيتُم من يمشُدُ ضالة في المسجد فقولوا: لا رَدَّها الله عليك](1).
وقوله: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} . أي: يصلي لله ويذكره فيها غدوة وعشيًّا رجال لا تشغلهم أعمال البيع والصفق في الأسواق للتكسب عنْ ذِكر الله وإقامة صلاة الجماعة وأداء الزكاة المفروضة. قال ابن عباس: ({يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} يقول: يصلي له فيها بالغداة والعشي، يعني بالغدو: صلاة الغداة، ويعني بالآصال: صلاة العصر، وهما أوّل ما افترض الله من الصلاة، فأحبّ أن يذكرهما، ويذكر بهما عبادته). وقال الحسن: (أذن الله أن تبنى، فيصَلّى فيها بالغدو والآصال). والوقف التام على قوله: "والآصال" عند من قرأ من القرّاء: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} - بفتح الباء مِن "يُسَبَّح" على البناء لما لم يُسَمَّ فاعله. والقراءة بالكسر {يُسَبِّحُ} أشهر في الأمصار.
قلت: وقوله: {رِجَالٌ} فاعل "يُسَبِّح" مرفوع. والوقف على نهايات الآيات مستحب دومًا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع قراءته فيقرأ آية آية، وكثير من الاجتهادات في غير ذلك مما لا دليل عليه.
ففي جامع الترمذي ومستدرك الحاكم بسند صحيح عن أم سلمة قالت: [كانَ يُقَطِّعُ قِراءتَهُ آيةً آيةً: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ثم يقف: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، ثم يقف](2).
قال ابن كثير: (فقوله: {رِجَالٌ} فيه إشعار بهممهم السامية، ونِياتهم وعزائمهم العالية، التي بها صاروا عُمَّارًا للمساجد، التي هي بيوتُ الله في أرضِه، ومواطِنُ عبادتِه وشكره، وتوحيده وتنزيهه، كما قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]). وعن ابن عباس: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} يقول: عن الصلاة المكتوبة). وقال السدي: (عن الصلاة في جماعة).
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (131)، وابن حبان (1650)، وانظر صحيح مسلم (568) نحوه.
(2)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن -حديث رقم- (3107) - أبواب القراءات. انظر صحيح سنن الترمذي (2336)، ورواه الحاكم.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9].
2 -
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9].
3 -
وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43].
ومن كنوز السنة المطهرة في آفاق هذه الآية أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى، فقال: يا رسول الله! ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخِّصَ له فيصليَ في بيته فرخصَ له، فلما ولّى دعاه فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ فقال: نعم. قال: فأجِبْ](1).
الحديث الثاني: أخرج ابن ماجة وأبو داود بسند صحيح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [مَنْ سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا مِنْ عُذْر](2).
قال الشافعي: (لا أرخص لمن قدر على صلاة الجماعة في ترك إتيانها إلا من عذر).
الحديث الثالث: روى مسلم عن عبد الله قال: [لقد رأيتنا وما يتخَلَّفُ عن الصلاة إلا مُنافِقٌ قَدْ عُلِمَ نِفَاقُه، أو مريضٌ، إنْ كان المريضُ ليمشي بين رجلين حتى يأتيَ الصلاة. وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَّمَنا سُنَنَ الهدى، وإنَّ مِن سُنَنِ الهدى، الصلاة في المسجد الذي يؤذَّنُ فيه](3).
الحديث الرابع: أخرج الحاكم بسند صحيح عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (653) - كتاب المساجد. باب يجب إتيان المسجد على من سمع النداء.
(2)
حديث صحيح. رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم من حديث عبد الله بن عباس. انظر صحيح سنن أبي داود (560)، وصحيح الجامع (6176)،
(3)
حديث صحيح. خرَّجه مسلم (654) - كتاب المساجد، باب صلاة الجماعة من سنن الهدى.
قال: [إسباغ الوضوء في المكاره، وإعمال الأقدام إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، يغسلُ الخطايا غسلًا](1).
الحديث الخامس: أخرج ابن أبي شيبة وابن خزيمة بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما تَوطَّنَ رجلٌ المساجِدَ للصلاةِ والذكر إلا تَبَشْبَشَ الله تعالى إليه كما يَتَبشْبَشُ أهل الغائب بغائبهم إذا قدِمَ عليهم](2).
وقوله: "تَبَشْبَشَ" أصله من فرح الصديق بمجيء الصديق واللطف في المسألة والإقبال، والمراد هنا تلقيه ببره وتقريبه وإكرامه.
الحديث السادس: أخرج الحاكم بسند صحيح عن عبد الله بن سلام مرفوعًا: [إنَّ للمساجد أوتادًا، هم أوتادُها، لهم جلساءُ من الملائكة، فإن غابوا سألوا عنهم، وإنْ كانوا مَرْضَى عادوهم، وإن كانوا في حاجةٍ أعانوهم](3).
وأما النساء فلا تجب عليهن صلاة الجماعة، ولا يمنعن منها إلا من فتنة، وبيوتهن خير لهن.
ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تمنعوا إماءَ الله مساجدَ الله]. وفي لفظ لأحمد وأبي داود: [وبيوتُهُنَّ خيرٌ لهنَّ](4). وفي رواية: [وليخرجْنَ وهُنَّ تفِلات]. أي: لا ريحَ لهنَّ.
وفي صحيح مسلم عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا شِهَدتْ إحداكنَّ المسجدَ فلا تمسَّ طيبًا](5).
وقوله: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} . قال القرطبي: ({يَخَافُونَ يَوْمًا} يعني يوم القيامة. {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} يعني من هوله وحذر الهلاك).
(1) رواه أبو يعلى والبزار والحاكم بسند صحيح. انظر صحيح الترغيب (1/ 311).
(2)
إسناده صحيح ورجاله ثقات. انظر المرجع السابق (1/ 323)، وكذلك (1/ 301).
(3)
حديث صحيح. رواه الحاكم مرفوعًا. انظر صحيح الترغيب (1/ 327)، في الترغيب في لزوم المساجد والجلوس فيها.
(4)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (900)، ومسلم (442)، وأحمد (2/ 76)، (2/ 77). وأخرجه أبو داود (567). وانظر للرواية بعدها سنن أبي داود (565).
(5)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (443)، وأحمد (6/ 363)، والنسائي (8/ 155).
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} [غافر: 18].
2 -
وقال تعالى: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42].
3 -
وقال تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان: 9 - 10].
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [يحشر النالس يوم القيامة حُفاة عُراة غُرْلًا. قلت: يا رسول الله! الرجال والنساء جميعًا ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال: يا عائشة: الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض](1).
وقوله: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} . قال النسفي: (أي يسبحون ويخافون ليجزيهم الله أحسن جزاء أعمالهم، أي ليجزيهم ثوابهم مضاعفًا ويزيدهم على الثواب الموعود على العمل تفضلًا).
وقوله: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . تقرير للزيادة، وتنبيه على كمال القدرة، ونفاذ المشيئة، وسعة كرم الرحمان عز وجل، ومقابلة الإحسان بالإحسان. قال القاسمي:({بِغَيْرِ حِسَابٍ} كناية عن السعة. والمراد أنه لا يدخل تحت حساب الخلق وعدّهم).
أخرج ابن أبي الدنيا والبزار بسند حسن عن ابن عمر مرفوعًا: [لو تَعْلَمون قَدْر رحْمةِ الله عز وجل، لاتَّكلْتُم عليها](2).
وفي المسند للإمام أحمد بسند صحيح عن العرباضِ بن سارية قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج علينا في الصفة وعلينا الحوتكية فيقول: [لو تَعْلمون ما ذُخِرَ لكم، ما حَزِنْتم على ما زُوِيَ عنكم، ولَيُفْتَحَنَّ لكم فارِدسُ والروم](3).
(1) حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم، حديث رقم، (1950)، ورواه البخاري.
(2)
أخرجه ابن أبي الدنيا في "حسن الظن"(2/ 193/ 1)، وانظر:"زوائد البزار" للهيثمي (4/ 85/ 3256)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (2167).
(3)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 128)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 14)، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (2168): إسناده شامي صحيح.
40 -
39. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)}.
في هذه الآيات: مَثَلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار: الرؤساء والأتباع. لا تنفعهم أعمالهم يوم الحساب أحوج ما يحتاجون إلى نفعها، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.
فقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} . القيعة: جمع قاع، والقاع واحد القِيعَان، والمقصود الأرض المستوية المتسعة المنبسطة. والسراب: ما يُرى نصف النهار في اشتداد الحرّ، كالماء في المفاوز يلتصق بالأرض. قال القرطبي:(وسفي السَّرابُ سرابًا لأنه يَسْرُبُ أي يجري كالماء).
وعن ابن عباس: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} يقول: الأرض المستوية). وقال: (هذا مثل ضربه الله لرجل عطش، فاشتدّ عطشه، فرأى سرابًا، فحسبه ماء، فطلبه وظن أنه قد قدر عليه، حتى أتاه، فلما أتاه لم يجده شيئًا، وقُبض عند ذلك. يقول: الكافر كذلك، يحسب أن عمله مُغْنٍ عنه، أو نافعه شيئًا، ولا يكون آتيًا على شيء حتى يأتيه الموت، فإذا أتاه الموت، لم يجد عمله أغنى عنه شيئًا، ولم ينفعه إلا كما نفع العطشان المشتدّ إلى السراب).
وقال ابن زيد: (هذا مثل ضربه الله للذين كفروا {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ}: قد رأى السراب، ووثق بنفسه أنه ماء، فلما جاءه لم يجده شيئًا، قال: وهؤلاء ظنوا أن أعمالهم صالحة، وأنهم سَيَوْجعون منها إلى خير، فلم يرجعوا منها إلا كما رجع صاحب السراب، فهذا مثلٌ ضربه الله جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه).
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: [إذا كان يوم القيامة أذَّنَ مؤذَنٌ: تَتْبَعُ كُلُّ أُمّةٍ ما كانت تَعْبُدُ، فلا يبقى مَنْ كان يَعْبُدُ غَيْر الله من الأصْنام
والأنصاب إلا يتساقطون في النّار، حتى إذا لم يُبْقَ إلا مَنْ كان يَعْبُدُ الله بَرٌّ أو فاجِرٌ وغُبَّراتُ أهلِ الكتاب، فَيُدعى اليهودُ، فيُقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نَعْبُدُ عُزَيْرًا ابنَ الله، فيقال لهم: كَذَبْتُم ما اتَّخَذَ اللهُ من صاحِبَةِ ولا وَلَدٍ، فماذا تَبْغُون؟ فقالوا: عَطِشْنا رَبَّنا فاسْقِنَا، فيشَارُ ألا تَرِدون! فَيُحْشَرونَ إلى النارِ كأنَّها سَرابٌ يَحْطِمُ بَعْضُها بَعْضًا فيتساقطون في النار، ثم يدعى النصارى فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كُنّا نعبدُ المسيح ابنَ الله، فيُقالُ لهم: كذبتم ما اتَّخَذَ الله من صاحبة، فيقال لهم: ماذا تَبْغُونَ؟ فكذلك مِثْلَ الأول] الحديث (1).
وقوله: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} . أي: وإنما وجد في نهاية المسير زبانية العذاب تعتله إلى النار، فيما قضاه الله تعالى عليه من الذل والعذاب والهوان. وقوله:{وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} . قال النسفي: الأنه لا يحتاج إلى عد وعقد، ولا يشغله حساب عن حساب، أو قريب حسابه لأن ما هو آت قريب).
وقوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} . قال قتادة: (وهو العميق). والمقصود: كثير الماء، فنسب إلى اللج وهو معظم ماء البحر.
فبعد أن ذكر الله أحوال أئمة الكفر أصحاب الجهل المركب، عطف بذكر أصحاب الجهل البسيط. قال ابن كثير:(وهم الطَّماطم الأغْشامُ المقلِّدون لأئمة الكفر، الصمُّ البكم الذين لا يعقلون).
وقوله: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} . قال ابن عباس: (يعني بذلك الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر، وهو كقوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 7]، وكقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]).
وعن أبي بن كعب قال: (ضرب مثلًا آخر للكافر، فقال. {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ
…
} الآية، قال: فهو يتقلب في خمس من الظلم: فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومَدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة، إلى النار).
قال ابن جرير: (فجعل الظلمات مثلًا لأعمالهم، والبحر اللجي مثلًا لقلب الكافر،
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4581) - كتاب التفسير، ومسلم (183) في أثناء حديث طويل.
يقول: عَمِلَ بنية قلب قد غَمَرَه الجهل، وتغشَّته الضلالة والحيرة، كما يغشى هذا البحر اللُّجي موج من فوقه موج، من فوقه سحاب، فكذلك قلب هذا الكافر الذي مثل عمله مثل هذه الظلمات، يغشاه الجهل بالله، بأن الله ختم عليه، فلا يعقل عن الله، وعلى سمعه، فلا يسمع مواعظ الله، وجعل على بصره غشاوة، فلا يبصر به حجج الله، فتلك ظلمات بعضها فوق بعض).
وقال النسفي: (شبهها (1) ثانيًا في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة وفي خلوها عن نور الحق بظلمات متراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب).
وقوله: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} . أي: لا يقارب رؤيتها من شدة الظلمة، والتمثيل كناية عن انعدام صفع أعمال الكفار لهم في آخرتهم.
وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} . أي: من لم يهده الله لنور الوحي العظيم يهتدي به في ظلمات الجهل والشبهات والهوى، فماله من نور يهتدي به غيره، بل يبقى في الضلال وظلمات الغي والأهواء.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف: 186].
2 -
وقال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17].
3 -
وقال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35].
4 -
وقال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} الكهف: 17].
وفي صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب اشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا لا تضرّه فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مُرْبدًا كالكوز مُجَخِّيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه](2).
(1) أي أعمال الكفار.
(2)
حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم -حديث رقم- (1990) - كتاب الفتن.
41 -
46. توله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)}.
في هذه الآيات: إثباتُ تسبيح جميع ما في السماوات والأرض والطير لله الملك العزيز الحكيم. هو الذي يسوق السحاب بقدرته ويجمعه ويُراكم بعضه على بعض ليخرج من خلاله المطر وينزل البَرَدَ وإن لمعان البرق الذي يرسله يكاد يذهب بالأبصار. فسبحان مقلب شؤون خلقه ومعاقب الليل والنهار. لقد خلق سبحانه كل دابة من ماء فهي تمشي على البطن أو على رجلين أو أربع يخلق ما يشاء وينزل الآيات ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
فقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تنظر يا محمد بعين قلبك، فتعلم أن الله يصلي له من في السماوات والأرض، من ملك وإنس وجن، {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} في الهواء أيضًا تسبح له). وقال القرطبي: (ومعنى {صَافَّاتٍ} مصطفات الأجنحة في الهواء).
وفي التنزيل:
قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44].
وقوله: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} . قال مجاهد: (صلاته: للناسِ، وتسبيحه عامة لكل شيء). قال ابن كثير: (أي: كلٌّ قد أرشَدَه إلى طريقته ومَسْلكِهِ في عبادة الله عز وجل.
وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} . أي: عليم: بتسبيح عباده وصلاتهم وأعمالهم كلها، فلا يعزب عن علمه شيء.
وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} . أي: ولله سلطان السماوات والأرض وملكها، وكل ملك دون ملكه إلى الزوال، فخزائن السماوات والأرض بيده فأفردوه بالطاعة والخوف والرجاء، فإن مرجعكم إليه لا محالة.
وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} . قال ابن كثير: (يذكر تعالى أنه بقدرته يسوق السحابَ أول ما ينشئها وهي ضعيفة، وهو الإزجاء، {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ}، أي: يجمعه بعد تفرّقه، {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا}، أي: متراكما، أي: يَرْكب بعضُه بعضًا).
قلت: وفي لغة العرب: زجّى الشيءَ تزجية إذا دفعه برفق، والمزجَى: الشيء القليل، وبضاعة مزجاة أي قليلة. والمقصود: يسوقُ الله السحاب بأمره حتى يجمعه ثم يجعله متراكمًا بعضه على بعض ليخرج المطر من خلاله، وهو الوَدْق. وقوله:{فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} . قال ابن زيد: (الودْق: القطر، والخِلال: السحاب). وقوله: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} . فيه تأويلان محتملان:
التأويل الأول: خلق الله في السماء جبالًا من بَرَد، فهو ينزل منها بَرَدًا. أو خلق في السماء جبالًا فيها برد فهو ينزّل منها ما شاء.
التأويل الثاني: قيل بل المعنى: ينزل من السماء قدر جبال، أو مثل جبال من بَرَب إلى الأرض. أو ينزل من السماء بردًا يكون كالجبال.
وقوله: {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} . قال القرطبي: (فيكون إصابته نقمة، وصرفه نعمة). قلت: وقد تكون إصابته برفق رحمة لهم ولزروعهم وماشيتهم، وتأخيره عنهم الغيث امتحانًا لهم. وقوله:{يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} . السنا: ضوء البرق ولمعانه. قال ابن عباس: ({يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} قال: ضوء برقه). وقال قتادة: (يقول: لمعان البرق يذهب بالأبصار).
وقوله تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} . أي: يُعاقبُ الله الليل والنهار، فيأتي بأحدهما بعد الآخر، ويزيد في أحدهما وينقص من الآخر، ويغيّر النهار بظلمة السحاب مرةً وبضوء الشمس أخرى، كما يغيّر الليل أحيانًا بظلمة السحاب أو ضوء القمر، وفي كل ذلك موضع اعتبار لأولي البصائر والعقول والنهى،
ليلجؤوا إليه دومًا بالرجاء والدعاء ويفردوه بالتسبيح والتعظيم.
وقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} . إشارة جديدة إلى عظمته تعالى وقدرته العجيبة، فهو خلق كل أنواع مخلوقاته على اختلاف ألوانها وحجومها وأشكالها وطريقة تحركها من ماء واحد. قال النسفي:(أي من نوع من الماء مختص بتلك الدابة، أو من ماء مخصوص وهو النطفة).
وقوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} . أي: ثم فاضل بينها في طريقة حركتها، فالحية تمشي على بطنها، والإنسان والطير على رجلين، والأنعام وسائر الحيوانات كل يمشي على أربع، إن في ذلك لآية كبيرة على بديع قدرته سبحانه واستحقاقه العبادة وحده لا شريك له.
وقوله: {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . أي: ويُحدث الله ما يشاء من الخلق مما هو أعجب وأدق فلا حدود لقدرته وهو على كل شيء قدير.
وقوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . إرشادٌ منه تعالى إلى تدبر آيات قرآنه وفهم بدائع هذه الحكم والأمثال والعبر التي أودعها كتابه، ثم من استحق الهداية فإنه تعالى يوفقه لها ويجعله على صراط مستقيم.
47 -
52. قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)}.
في هذه الآيات: ذكْر بعض صفات المنافقين، يُعلنون الإيمان وما هم بمؤمنين، ويعرضون عن التحاكم لله ورسوله وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين. وأما المؤمنون فيخبتون لله ويرضون بحكمه وحكم رسوله وأولئك هم الفائزون.
فقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا
أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}. نَعْتُ لبعض صفات المنافقين، يظهرون الطاعة والإيمان، ويُبْطِنُون المكر والعصيان. قال ابن جرير:({وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}: لتركهم الاحتكام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإعراضهم عنه إذا دُعُوا إليه).
وقوله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} . أي: وإذا دعي هؤلاء المنافقون إلى التحاكم إلى كتاب الله وهدي رسوله ترى فريقًا منهم كارهين منكرين مستكبرين.
وقوله تعالى: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} أي: وإن كان لهم -أي لهؤلاء المنافقين- حقٌّ عند من يدعونهم إلى كتاب الله ورسوله، لرأيتهم يأتون إلى رسول الله للمطالبة بحقهم مسرعين منقادين لحكمه وقضائه لاستخلاص حقهم. وقال مجاهد:({يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} قال: سِراعًا).
وقوله تعالى: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . قال النسفي: (قسم الأمر في صدودهم عن حكومته إذا كان الحق عليهم بأن يكونوا مرضى القلوب منافقين، أو مرتابين في أمر نبوته، أو خائفين الحيف في قضائه، ثم أبطل خوفهم حيفه بقوله: {بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أي لا يخافون أن يحيف عليهم لمعرفتهم بحاله، وإنما هم ظالمون يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم وذلك شيء لا يستطيعونه في مجلس رسول الله عليه الصلاة والسلام، فمن ثمّ يأبون المحاكمة إليه).
وقوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . أي: إنما صفة المؤمنين إذا دعوا للتحاكم لله ورسوله عند الخصومة الانقياد الكامل وإعلان السمع والطاعة، فهؤلاء أهل النجاة والفلاح في الدنيا والآخرة.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف: 40].
2 -
وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
3 -
وقال تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 48].
4 -
وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].
قال ابن عباس: (من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقرَّ به ولم يحكم، فهو ظالم فاسق).
ومن كنوز صحيح السنة في آفاق هذه الآية أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الدارمي بسند صحيح عن زياد بن حُدَير قال: [قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلت: لا. قال: يهدمه زَلَّةُ العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين](1).
الحديث الثاني: أخرج الترمذي بسند حسن عن عدي بن حاتم قال: [أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: "يا عَدِيُّ اطْرَحْ عنك هذا الوثَن"، وسمعته يقرأ في سورة براءة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، قال:"أما إنّهم لم يكونوا يَعْبُدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحَلَّوا لهم شيئًا استَحَلُّوه، وإذا حَزَموا عليهم شيئًا حرَّموه"] (2).
الحديث الثالث: أخرج أبو داود والنسائي بسند صحيح عن هانئ بن يزيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ الله هو الحَكَمُ، وإليه الحُكم](3). والحَكَمُ: هو الحاكم، وحقيقته: الذي سُلِّمَ له الحُكم ورُدَّ إليه.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} . قال قتادة: ({يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فيما أمرأه، ويترك ما نَهَيا عنه، {وَيَخْشَ اللَّهَ} فيما مضى من ذنوبه، {وَيَتَّقْهِ} فيما يُسْتَقبل). قال ابن كثير: (وقوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}، يعني: الذين فازوا بكل خير، وأمنوا من كلِّ شَرٍّ في الدنيا والآخرة).
(1) حديث صحيح. أخرجه الدارمي (1/ 71) من حديث زياد بن حُدَير، وانظر تخريج المشكاة (1/ 269). قال الألباني: وسنده صحيح. وانظر كتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 434) -توحيد التشريع- لمزيد من تفصيل هذا البحث.
(2)
حديث حسن. انظر صحيح سنن الترمذي (2471) - أبواب تفسير القرآن، سورة التوبة، آية (31). وله شاهد عند الطبري (16634) من حديث حذيفة موقوفًا.
(3)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4955). وانظر صحيح سنن أبي داود (4145)، وصحيح الجامع (1841)، والإرواء (2682)، ورواه النسائي.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185].
2 -
قال ابن عباس: ({الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} قال: حزن النار). وقال قتادة: (كانوا في الدنيا يعملون وينصبون، وهم في خوف أو يحزنون). قلت: فأول لحظات السعادة الأبدية، والشعور بلذة الفوز والظفر، عند وضع أول قدم على باب الجنة.
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إنّ أهل الجنة يتراءَون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق، من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرُهم. قال: بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين](1).
53 -
54. قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)}.
في هذه الآيات: فَضْحُ الله تعالى المنافقين في تأكيدهم الخروج للجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحلف وهم كاذبون. إنه من يطع الله ورسوله ينعم بنور الهداية ومن يعرض فما على الرسول إلا البلاغ المبين.
فقوله: ({وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} . إخبار عن حال أهل النفاق في استخدامهم أغلظ أيمانهم وأشدّها في الحلف لرسول الله صلى الله عليه وسلم لئن أمرهم بالخروج إلى جهاد عدوه وعدو المؤمنين ليخرجن. قال القرطبي: ({جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} : أي طاقة
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3256)، وانظر مختصر صحيح مسلم (1961).
ما قدروا أن يحلفوا). وقال مقاتل: (من حلف بالله فقد أجهد في اليمين). وقوله: {قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} . قال مجاهد: (قد عُرفت طاعتكم إليَّ أنكم تكذبون {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}: يقول: إن الله ذو خبرة بما تعملون من طاعتكم الله ورسوله، أو خلافكم أمرهما، أو غير ذلك من أموركم، لا يخفى عليه من ذلك شيء، وهو مجازيكم بكل ذلك).
وقوله: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} . أي: أخلصوا في اتباع كتابه وسنة نبيّه وذروا النفاق والرياء والكذب. قال النسفي: (صرف الكلام عن الغيبة إلى الخطاب على طريق الالتفات، وهو أبلغ في تبكيتهم). وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} . أي: فإن تتولوا فإنه وبال ذلك عليكم، وضرره راجع إليكم، فإن الرسول عليه البلاغ -وهو ما حَفَلهُ الله تعالى- وأما أنتم فعليكم ما حُمِّلْتُم من التكليف ووجوب الإذعان لأمر الله والقيام بطاعته، فإن أبيتم وقعتم تحت سخط الله وتعرضتم لعقابه.
وقوله: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} . أي: إن تطيعوا رسولكم ترشدوا وتصيبوا الحق وطريق الهداية إلى سعادتكم في الدارين.
وقوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} . أي البلاغ بالوحي الذي فيه إقامة الحجة عليكم. قال ابن جرير: (يقول: فليس على محمد أيها الناس إلا أداء رسالة الله إليكم، وعليكم الطاعة، وإن أطعتموه لحظوظ أنفسكم تصيبون، وإن عصيتموه بأنفسكم فتوبقون).
55 -
57. قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)}.
في هذه الآيات: وَعْدُ الله تعالى المؤمنين الاستخلاف في الأرض والتمكين، فمن
كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون. وأمْرٌ بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول الكريم. وتقرير عجز الكافرين عن الهروب من عذاب الله وماواهم النار ولبئس المصير.
أخرج الحاكم والطبراني بسند رجاله ثقات عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: [لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة، كانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا ترون أنا نعيش حتى نكون آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله، فنزلت: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} إلى وَمَن {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ} يعني بالنعمة {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}](1).
وقد حصل وعد الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه من بعده، فقد أظهر الله نبيّه على مكة وخيبر والبحرين وسائر الجزيرة العربية وكامل أرض اليمن، وأخذ جزية مجوس هجر وبعض أطراف الشام، وهاداه هرقل والمقوقس والنجاشي ملك الحبشة بعد أصحمة. وتابع الصديق الفتوح بعده، فدانت له جزيرة العرب وبعث الجيوش إلى الشام وبلاد فارس ومصر، ففتحت دمشق وبصرى وبعض مناطق حوران في زمانه، وأكمل الفتوح من بعده عمر رضي الله عنه ففتحت الشام في عهده بأكملها، وكذلك بلاد مصر وأغلب فارس، ثم تابع عثمان رضي الله عنه حتى حكم أقصى المشارق والمغارب بالإسلام، وأذلّ جيوش الكفر والطغيان. وهذه الآية عامة في كل زمان ومكان، فهي موعود الله تعالى للمؤمنين الصادقين عبر الأيام.
والبشائر في ذلك كثيرة كما جاء في السنة العطرة:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإنّ أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها](2).
الحديث الثاني: أخرج أحمد وابن حِبّان بسند صحيح عن المقداد بن الأسود
(1) حديث صحيح. أخرجه الطبراني في "الأوسط" ورجاله ثقات. والحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. انظر: "الصحيح المسند من أسباب النزول"- الوادعي- سورة النور، آية (55).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 171)، وأبو داود (4252)، وأحمد (5/ 278)، والترمذي (2/ 27)، وابن ماجة (2952).
مرفوعًا: [ليبلغَنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام، وذلًا يذلّ به الكفر](1).
الحديث الثالث: روى أحمد والدارمي بسند حسن عن أبي قبيل قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاصي، وسئل أي المدينتين تفتح أولًا القسطنطينية أو رومية؟ فدعا عبد الله بصندوق له حلق، قال: فأخرج منه كتابًا قال: فقال عبد الله: [بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب، إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ المدينتين تفتح أولًا أقسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مدينة هرقل تفتح أولًا. يعني قسطنطينية](2).
الحديث الرابع: روى أحمد في المسند، بسند صحيح عن حذيفة مرفوعًا:[تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبريًا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت](3).
وخلاصة الآية: وعدٌ من الله تعالى للمؤمنين القائمين بدينهم على منهاج النبوة بالاستخلاف والتمكين والأمن بعد الخوف لِيُعْبَدَ الله وحده في الأرض لا شريك له ومن خرج بعد ذلك عن الطاعة فله عذاب عظيم.
وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . أي أقيموا أيها الناس الصلوات التي فرضها الله عليكم بحدودها وأركانها وواجباتها وشروطها، وأدوا زكاة أموالكم على اختلاف أنواعها المفصلة في السنة المطهرة، واتبعوا هدي نبيكم عليه الصلاة والسلام ولا تنحرفوا عنه ولا تبتدعوا فيه لتنالكم شفاعة ربكم ولتأمنوا عنده يوم القيامة.
(1) حديث صحيح. رواه ابن حبان في صحيحه (1631)، (1632)، ورواه أحمد والطبراني وجماعة من المحدثين. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (3).
(2)
حديث حسن الإسناد. أخرجه أحمد (2/ 176)، والدارمي (1/ 126)، والحاكم (3/ 422).
و"رومية"- هي رومة عاصمة إيطالية اليوم، وانظر السلسلة الصحيحة (4).
(3)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 273)، وانظر المرجع السابق، حديث رقم (5).
وقوله تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . أي: لا تحسبن -يا محمد- جولة الكفار مستمرة باقية، بل إنهم واقعون تحت مكر الله تعالى فلا يعجزونه، فإن الهلاك يهددهم في الدنيا، وعذاب جهنم نازل بهم لا محالة في الآخرة، ولبئس القرار لهم يومئذ والمأوى نار الجحيم.
58 -
60. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)}.
في هذه الآيات: آداب رفيعة في استئذان الأقارب والأطفال والخدم، وبيان أوقات الأمر بذلك في ثلاثة أحوال: قبل صلاة الفجر حيث الناس نيامٌ على فرشهم، ووقت القيلولة مظنة الإنسان أن يضع ثيابه، ومن بعد صلاة العشاء فهو وقت النوم، وفي غير هذه الأوقات لا جناح عليهم في الدخول والحركة والتطواف في الخدمة ولو رأوا شيئًا من أوضاعكم للإذن لهم في ذلك. وإذا بلغ الأطفال الحلم فعليهم الاستئذان، ولا جناح على القواعد من النساء أن يضعن ثيابهن غير متبرجات، وأن يلتمسن العفاف والله سميع عليم.
فقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . قال مجاهد: (عبيدكم المملوكون). وهي عامة في جميع أملاك الأيمان، من الذكور والإناث. فعن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن قال:(هي في الرجال والنساء، يستأذنون على كل حال، بالليل والنهار).
وقوله: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} . قال مجاهد: (لم يحتلموا من أحراركم). وقال
عطاء: (فذلك على كل صغير وصغيرة أن يستأذن). وقوله: {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} . أي: لبستأذنوا في ثلاثة أوقات من ساعات ليلكم ونهاركم. قال ابن عباس: (يقول: إذا خلا الرجل بأهله بعد صلاة العشاء، فلا يدخل عليه خادم ولا صبيّ إلا بإذن، حتى يصلِّي الغداة، فإذا خلا بأهله عند صلاة الظهر فمثل ذلك).
وقوله: {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} . العورات هنا الساعات التي تكون فيها العَورة، والمعنى: هذه الخصال أو الأحوال ثلاث عورات في هذه الأوقات. قال ابن كثير: (فيؤمر الخدم والأطفال ألا يَهْجُموا على أهل البيت في هذه الأحوالى، لما يُخشى مني أن يكون الرجلُ على أهله، أو نجو ذلك من الأعمال، ولهذا قال: {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ}، أي: إذا دخلوا في غير هذه الأحوال فلا جُناح عليكم في تمكينكم إياهم من ذلك، ولا عليهم إذا رأوا شيئًا في غير تلك الأحوال، لأنه قد أذِنَ لهم في الهجوم، ولأنهم {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ}، أي: في الخدمة وغير ذلك).
وقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} . قال ابن عباس: (ثم رخص لهم في الدخول فيما بين ذلك بغير إذن، يعني فيما بين صلاة الغداة إلى الظهر، وبعد الظهر إلى صلاة العشاء، أنه رخص لخادم الرجل والصبي أن يدخل عليه منزله بغير إذن، قال: وهو قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} فأما من بلغ الحلُم، فإنه لا يدخل على الرجل وأهله إلا بإذن على كل حال).
وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . قال ابن جرير: (يقول جل ثناؤه: كما بينت لكم أيها الناس أحكام الاستئذان في هذه الآية، كذلك يبين الله لكم جميع أعلامه (1)، وأدلته وشرائع دينه. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} يقول: والله ذو علم بما يصلح عباده، حكيم في تدبيره إياهم، وغير ذلك من أموره).
وقوله: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} . قال ابن عباس: (أما من بلغ الحُلُم، فإنه لا يدخل على الرجل وأهله، يعني من الصبيان الأحرار، إلا بإذن على كل حال). وقال عطاء: (واجب على الناس أجمعين أن يستأذنوا إذا احتلموا، على من كان من الناس). وقال ابن شهاب عن ابن المسيب: (يستأذن الرجل على أمه). وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} . قال ابن
(1) هكذا وقع في تفسير الطبري، ولعل الأصح "أحكامه" بدل "أعلامه".
المسيب: (يقول: هكذا يبين الله لكم آياته، أحكامه وشرائع دينه، كما بين لكم أمر هؤلاء الأطفال في الاستئذان بعد البلوغ).
وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . أي: عليم بما يصلح لعباده من الآداب والتشريع وكل شيء من أحوالهم، حكيم في تدبيره وخلقه وتشريعه وتقديره.
وقوله: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} . القواعد من النساء: أي اللواتي قعدن عن الولد من الكبر، فلا يحضن ولا يلدن، والواحدة قاعد. قال الرازي في "مختار الصحاح":(القاعد من النساء التي قعَدَت عن الولد والحيض). وعن سعيد بن جبير وقتادة: ({وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ}: هُنَّ اللواتي انقطع عنهن الحيضُ ويَئِسْنَ من الولد). وعن مجاهد: ({اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا} قال: لا يردنه {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} قال: جلابيبهن). وعن ابن مسعود قال: (الجلبابُ، أو الرِّداء).
والمقصود: مَنْ لم يبق لهن تشوّفٌ إلى التزويج من النساء القواعد فليس على إحداهن من الحَجْر في التَسَتُّر كما على غيرها، فلها أن تضع الجلباب والرداء يكون فوق الثياب عند المحارم من الرجال وغير المحارم من الغرباء، غير متبرِّجات بزينة. وفي قراءة أبي بن كعب:"أن يضعن من ثيابهن".
أخرج أبو داود بسند حسن عن ابن عباس قال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} الآية، فنسخ واستُثْنِيَ من ذلك {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا} الآية] (1).
وعن سعيد بن جبير: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} ، يقول لا يتبرّجن بِوَضْع الجلباب أن يُرى ما عليها من الزينة). والتبرج: هو إظهار المرأة من محاسنها ما ينبغي لها أن تستره.
فمقصود الآية: أنْ لا يُقابل الإذنُ لقواعد النساء بِوَضْع بعض ثيابهن تخفيفًا عليهن بإبراز الزينة أو تكلف ذلك أمام الرجال، فإن ذلك ينافي الحياء والعفاف.
وقوله: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . إرشاد للأفضل والأَوْلى، وهو تَرْكُ وضع الثياب مع وجود الجواز. قال القاسمي:{وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ} أي من
(1) حسن الإسناد. أخرجه أبو داود (4111) - كتاب اللباس، وانظر صحيح أبي داود (3464).
وضع تلك الثياب {خَيْرٌ لَهُنَّ} لأنه أبلغ في الحياء وأبعد من التهمة والمظنة. ولذا يلزمهن، عند المظنة، ألا يضعن ذلك. كما يلزم مثله في الشابة {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي فيسمع مقالهن مع الأجانب، ويعلم مقاصدهن من الاختلاط ووضع الثياب. وفيه من الترهيب ما لا يخفى).
61.
في هذه الآية: رفْعُ الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض وأمثالهم ممن لا يجب عليهم النفير للجهاد -وكذلك أنتم- في الأكل من بيوت القرابة كالآباء والأمهات والإخوان والأخوات والأعمام والأخوال والخالات والأصدقاء. والأمْرُ بإلقاء السلام عند الدخول والله يبين الآيات لقوم يعقلون.
أخرج البزار ورجاله رجال الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: [كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدفعون مفاتيحهم إلى ضُمَنائِهم (1) ويقولون لهم قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما أحببتم، فكانوا يقولون: إنه لا يحل لنا، إنهم أذنوا عن غير طيب نفس، فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
(1) الضمانة الزمانة، ضمن الرجل فهو ضَمنٌ أي زمن مبتلى.
عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ} إلى قوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} ] (1).
وفي رواية الزهري: [فكانوا يقولون: إنه لا يحل لنا أن نأكل، إنهم أذنوا لنا عن غير طِيب أنفسهم، وإنما نحن أمناء. فأنزل الله: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ}].
والمقصود: لا حرج على هؤلاء الذين سُمُّوا في هذه الآية، أن يأكلوا من بيوت من ذكره الله فيها. وفائدة إقحام النفس بقوله:{وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} أن المراد به ليس على الضعفاء المطعمين، ولا على الذاهبين إلى بيوت القرابات، أو مَنْ هو في مثل حالهم وهم الأصدقاء- حرج في الأكل من بيوت من ذُكِر.
وعن الفرّاء: (قوله تعالى: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} أي بيوت أزواجكم وعيالكم). أضافه إليهم، لأن بيت المرأة كبيت الزوج. وقال ابن قتيبة:(أراد بيوت أولادهم). فنسب بيوت الأولاد إلى الآباء، لأن الولد من كسب الوالد، وماله بمنزلة مال أبيه.
وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن أطْيَبَ ما أكَلَ الرجلُ من كسْبِهِ، وإن ولَدَهُ من كسْبِهِ](2) وفي رواية: [إن أَطْيبَ ما أكَلْتُم من كَسْبِكُم، وإن أولادَكم مِنْ كَسْبِكُم]. وفي رواية عند أبي داود: [ولد الرجل من كسْبِهِ، من أطيب كسبِهِ، فكلُوا من أموالهم](3).
الحديث الثاني: أخرج أبو داود بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو: [أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنّ لي مالًا وولدًا، وإنَّ والدي يحتاج مالي؟ قال: أنت ومالكَ لوالدك، إنَّ أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم](4).
(1) حديث صحيح. أخرجه البزار ورجاله رجال الصحيح. انظر الصحيح المسند من أسباب النزول - الوادعي- سورة النور، آية (61)، وقال السيوطى في "لباب النقول": سنده صحيح.
(2)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (2137) - كتاب التجارات، باب الحث على المكاب. وانظر صحيح سنن ابن ماجة -حديث رقم- (1738). وحديث رقم- (1834).
(3)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (3329) - كتاب الإجا زة. انظر صحيح أبي داود (3014).
(4)
حديث حسن صحيح. أخرجه أبو داود (3530)، وابن ماجة (2292)، وانظر صحيح سنن أبي داود (3013)، وصحيح ابن ماجة (1836).
ورواه ابن ماجة بلفظ. [جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ أبي اجتاع مالي. فقال: أنت ومالُكَ لأبيك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أولادَكم مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكم، فكلوا مِنْ أموالهم].
الحديث الثالث: أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن جابر بن عبد الله: [أن رجلًا قال: يا رسول الله! إنّ لي مالًا وولدًا. وإن أبي يريد أن يجتاح مالي. فقال: أَنْتَ ومَالُكَ لأبيك](1).
قال القاسمي في "التفسير": {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} يعني أموال المرء، إذا كان له عليهم قيّم ووكيل يحفظها له، أن يأكل من ثمر بستانه ويشرب من لبن ماشيته. وملك المفاتح كونها في يده وحفظه).
وقال ابن كثير في "التفسير": (وقوله تعالى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ}، أي: بيوت أصدقائكم وأصحابكم، فلا جُناح عليكم في الأكل منها إذا علمتم أن ذلك لا يشقُّ عليهم ولا يَكْرَهون ذلك).
قلت: وهذا فهم لطيف للآية، فإنه لا بد من الشعور بسماح الصديق بذلك وعدم إحراجه مع أهله. وعليه يفهم قول قتادة:(إذا دخلت بيتَ صديقك فلا بأس أن تأكل بغير إذنه). وفي الأثر عن جعفر الصادق: (من عظم حرمة الصديق، أن جعله الله من الأنس والثقة والانبساط وطرح الحشمة، بمنزلة النفس والأب والأخ والابن).
وقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} . رخصة من الله تعالى أن يأكل الرجل وحده، ومع الجماعة، وإن كان الأولى والأفضل الأكل مع الجماعة رجاء حصول البركة.
وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بروائع هذا المعنى:
الحديث الأول: أخرج ابن ماجة بسند حسن عن وحشي: [أنهم قالوا: يا رسول الله! إنا نأكل ولا نشبع. قال: فَلعَلَّكُم تأكلون متفرِّقين؟ قالوا: نعم. قال: فاجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله عليه يُبَارَكْ لكمْ فيه](2).
الحديث الثاني: أخرج الطبراني في "الأوسط" بسند حسن عن ابن عمر قال: قال
(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (2291). وانظر صحيح ابن ماجة (1855).
(2)
حديث حسن. أخرجه ابن ماجة (3286) - كتاب الأطعمة. باب الاجتماع على الطعام، وانظر صحيح سنن ابن ماجة (2657)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (664).
رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كلوا جميعًا ولا تتفرّقوا، فإنَّ طعامَ الواحد يكفي الاثنين، وطعامَ الاثنين يكفي الأربعة](1).
وله شاهد عنده في "المعجم الكبير" بلفظ: [طعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية، فاجتمعوا عليه، ولا تتفرقوا عنه].
الحديث الثالث: أخرج ابن ماجة -والترمذي نحوه- بسند حسن عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كلوا جميعًا ولا تفرقوا، فإن طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة والأربعة. كلوا جميعًا ولا تفرقوا، فإن البركة في الجماعة](2).
الحديث الرابع: أخرج الطحاوي بسند صحيح عن عبد الله بن عباس مرفوعًا: [إنّ البركة تنزل وسط القصعة، فكلوا من نواحيها، ولا تأكلوا من رأسها](3).
وهو عند ابن ماجة من حديث واثلة بلفظ: [كلوا باسم الله مِنْ حَوالَيْها، وأعْفُوا رأسَها، فإنَّ البركة تأتيها مِنْ فوقها].
وقوله: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} . قال الضحاك: ({فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ}: يقول: سلموا على أهاليكم إذا دخلتم بيوتكم، وعلى غير أهاليكم، فسلموا إذا دخلتم بيوتهم).
وقال سعيد بن جبير وقتادة: (فليسلم بعضكم على بعض).
قلت: والآية عامة في أمر الله تعالى المؤمنين بإلقاء السلام بعضهم على بعض سواء في المساجد أو البيوت أو أماكن التقائهم على اختلاف أنواعها، ولا دليل على تخصيص شيء من ذلك دون شيء كما ذهب بعض المفسِّرين.
ونصب قوله: {تَحِيَّةً} بتقدير: سلموا تحية، أو تحيّون أنفسكم تحية من عند الله، وهي السلام. قال النسفي: ({مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي ثابتة بأمره مشروعة من لدنه، أو لأن التسليم والتحية طلب سلامة وحياة للمسلم عليه، والمحيا من عند الله
(1) حسن بكثرة طرقه. أخرجه الطبراني في "الأوسط"(7597)، وانظر السلسلة الصحيحة -حديث رقم- (2691). وانظر "المعجم الكبير"(3/ 194/ 1). للشاهد بعده.
(2)
حديث حسن. أخرجه ابن ماجة (3255)، وله شاهد عند مالك (2/ 928/ 20)، وعند الترمذي (1/ 335)، وفي مسند أحمد (2/ 244)، وانظر السلسلة الصحيحة (1686).
(3)
إسناده صحيح. أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار"(1/ 55)، وانظر سنن ابن ماجة (2/ 305)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (2030).
{مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} وصفها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله زيادة الخير وطيب الرزق).
فالسلام هو اسم الله تعالى، ففي التحية به ذكر الله ودعاء بالسلامة.
وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى في أحاديث:
الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تَدْخلون الجنة حتى تُؤْمِنوا، ولا تُؤمنوا حتى تحابُّوا، أولا أدلكم على شيء إذا فَعَلْتُموه تحابَبْتُم؟ أفشوا السلام بينكم](1).
الحديث الثاني: أخرج البخاري في "الأدب المفرد" عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ السَّلامَ اسم من أسماء الله تعالى وضعه الله في الأرض، فأفشوا السلام بينكم](2).
الحديث الثالث: أخرج الترمذي وابن ماجة بسند صحيح، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اعبدوا الرحمن، وأطعموا الطعام، وأفشوا السلام، تدخلوا الجنة بسلام](3). وفي رواية في الأدب المفرد: [تدخلوا الجنان].
وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . أي: هكذا يفصل الله لكم أحكام دينكم، لتفقهوا عنه تعالى أمره ونهيه وأدبه وبيان شرعه وهديه.
62 -
64. قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (54) - كتاب الإيمان. وفي رواية: "والذي نفسي بيده! لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا،
…
" الحديث.
(2)
حديث حسن. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(989). انظر صحيح الأدب المفرد (760).
(3)
حديث حسن صحيح. أخرجه الترمذي (2/ 340)، وابن ماجة (3694)، وأحمد (2/ 170). وانظر صحيح الأدب المفرد (752).
تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)}.
في هذه الآيات: إرشادٌ من الله تعالى عباده المؤمنين إلى الأدب مع نبيهم صلى الله عليه وسلم، فإذا دخلوا أو خرجوا فليستأذنوا ولا يتفرقوا إلا عن أمره. والنهي عن مناداة الرسول كمناداة غيره أو ظن دعائه كدعاء غيره. والوعيد الشديد على من تعمد مخالفة أمره، والله بكل شيء عليم.
فقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} . قال ابن كثير: (وهذا أيضًا أدَبٌ أرشد الله عبادَه المؤمنين إليه، فكما أمرهم بالاستئذان عند الدخول، كذلك أمرهم بالاستئذان عند الانصراف، ولا سِيَّما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- من صلاة جُمُعَةٍ أو عيد أو جماعة، أو اجتماع لمشورة ونحو ذلك).
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} . شهادةٌ من الله تعالى لملتزمي هذه الآداب الرفيعة مع نبيّهم بصدق الإيمان وكماله.
وقوله: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: فإذا استأذنك يا محمد الذين لا يذهبون عنك إلا بإذنك في هذه المواطن لبعض شأنهم، يعني لبعض حاجاتهم التي تعرض لهم، فأذن لمن شئت منهم في الانصراف عنك لقضائها {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ} يقول: وادع الله لهم بأن يتفضل عليهم بالعفو عن تبعات ما بينه وبينهم {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لذنوب عباده التائبين {رَحِيمٌ} بهم أن يعاقبهم عليها، بعد توبتهم منها).
قلت: وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذه الآداب العالية في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عمر: [أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في مشْرُبَةٍ له، فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليكم! أيدخل عمر؟ ](1).
الحديث الثاني: أخرج أبو داود والترمذى بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (4/ 192)، والبخاري (4913) نحوه، وأبو داود (5201).
رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا انتهى أحدكُمْ إلى المَجْلِس فَلْيُسَلِّمْ، فإذا أراد أن يقوم فليسلم، فليست الأوك بأحقَّ من الآخرة](1).
الحديث الثالث: أخرج أبو داود بسند صحيح عن ربعيّ، قال:[حدثنا رجل من بني عامر: أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت فقال: ألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: "اخْرُجْ إلى هذا! فَعَلِّمْهُ الاستئذان، فقل له: قل: السلام عليكم، أأدخل "؟ فسمعه الرجل، فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل](2).
الحديث الرابع: أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي موسى مرفوعًا: [إذا استأذن أحدُكم ثلاثًا فلم يُؤْذَنْ له فليرجِعْ](3).
وقوله: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} فيه تأويلان متكاملان:
التأويل الأول: التحذير من مناداته باسمه، أو رفع الصوت بالنداء له.
قال ابن عباس: (كانوا يقولون: يا محمد يا أبا القاسم، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك إعظامًا لنبيِّه صلى الله عليه وسلم. قال: فقولوا: يا نبي الله، يا رسول الله). وقال مقاتل: (لا تُسَمُّوه إذا دعوتموه يا محمد، ولا تقولوا يا ابن عبد الله، ولكن شرفوه فقولوا: يا نبي الله، يا رسول الله).
التأويل الثاني: التنبيه إلى أن دعوته صلى الله عليه وسلم مستجابة، ليست كأي دعاء من غيره.
فعن الحسن البصري وعطية العوفي: (أي لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره، فإن دعاءه مستجاب، فاحذروا أن يدعو عليكم فتهلكوا).
(1) حسن صحيح. أخرجه أبو داود (5208)، والترمذي (2861). انظر صحيح أبي داود (4340).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (5177) - في الأدب- باب كيف الاستئذان. انظر صحيح سنن أبي داود -حديث رقم- (4312).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (6245)، ومسلم (6/ 178)، وأبو داود (5180).
وقوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} . قال مقاتل: (هم المنافقون كان يثقل عليهم الحديث في يوم الجمعة فيلوذون ببعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حتى يخرجوا من المسجد).
وقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . تهديد ووعيد، لكل متجرئ على مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه. والمعنى: فليحذر من خالف شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا أن تصيبهم في قلوبهم فتنة: من كفر أو نفاق أو بدعة، أو يصيبهم عذاب أليم في الدنيا: بقتل أو حَدٍّ أو حبس أو نحوه، ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله.
قلت: بل التهديد للمتجرئ على مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم بالعذاب الأليم يشمل حصوله في الدارين: الدنيا والآخرة، وقد جاء هذا التحذير والوعيد في أكثر من حديث في السنة المطهرة:
الحديث الأول: روى مسلم عن جابر قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احْمَرَّتْ عيناه، وعلا صَوْتُه، واشْتَدَّ غضبُه، حتى كانه مُنْذِرُ جَيْشٍ يقول: صَبَّحَكُمْ مَسّاكُمْ! ويقول: بُعِثْتُ أنا والساعةُ كهاتين. ويقرن بين إصْبَعَيْه السَبَّابَةِ والوُسْطى، ويقول: أما بَعْدُ، فإن خير الحديث كِتابُ الله، وخَيْرُ الهَدْي هَدْيُ محمد، وشَرُّ الأمور مُحْدثاتها، وكُلُّ بِدْعة ضلالة](1).
الحديث الثاني: يروي ابن ماجة بسند صحيح عن ابن عمر: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تمنعوا إماءَ الله أن يصلين في المسجد". فقال ابن له: إنا لنمنعهن، فقال، فغضب غضبًا شديدًا، وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: إنا لنمنعهن؟ ](2).
الحديث الثالث: أخرج الترمذي بسند صحيح عن ابن شهاب، أن سالم بن عبد الله حدّثه: [أنه سمع رجلًا من أهل الشام، وهو يسأل عبد الله بن عمر: عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال عبد الله بن عمر: هي حلال. فقال الشامي: إنّ أباك قد نهى عنها. فقال عبد الله بن عمر: أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَمْرُ أبي
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (867) - كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة.
(2)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن ابن ماجة -حديث رقم- (16). باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتغليظ على من عارضه.
يُتْبَع، أم أمْرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال الرجل: بل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: لقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم] (1).
وقد ذكر الإمام الشاطبي في "الاعتصام": (أن الزبير بن بكار قال: سمعت مالكًا بن أنس -وأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد. فقال: لا تَفْعَل. قال: فإني أريد أنْ أُحْرِمَ من المسجد من عند القبر. قال: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة. فقال: وأيُّ فتنة هذه؟ إنما هي أميال أزيدها، قال الإمام مالك: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصَّر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني سمعت الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}).
وقوله تعالى: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . بيان لكمال علمه تعالى وقدرته، وتأكيد لكمال سلطانه وملكوته وجبروته.
ففي التنزيل:
1 -
2 -
وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59].
3 -
قال ابن زيد: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} صنيعكم هذا أيضًا {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} يقول: ويوم يَرْجِعُ إلى الله الذين يخالفون عن أمره {فَيُنَبِّئُهُمْ} يقول: فيخبرهم حينئذ {بِمَا عَمِلُوا} في الدنيا، ثم يجازيهم على ما أسلفوا فيها، من خلافهم على ربهم
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (830). أبواب الحج. باب ما جاء في التمتع. وانظر صحيح سنن الترمذي (658) وقال الألباني: صحيح الإسناد.
{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يقول: والله ذو علم بكل شيء عملتموه أنتم وهم وغيركم، وغير ذلك من الأمور، لا يخفى عليه شيء، بل هو محيط بذلك كله، وهو مُوفٍّ كل عامل منكم أجر عمله يوم ترجعون إليه). قال القرطبي:(و {يَعْلَمُ} هنا بمعنى علم). وقال النسفي: (أدخل قد ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين، ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد، والمعنى أن جميع ما في السماوات والأرض مختص به خلقًا وملكًا وعلمًا، فكيف تخفى عليه أحوال المنافقين وإن كانوا يجهدون في سترها).
تم تفسير سورة النور
بعون الله وتوفيقه، وواسع منِّه وكرمه
* * *