الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
23 - سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
وهي سورة مكية، وعدد آياتها (118).
موضوع السورة
وصف المؤمنين والثناء عليهم والانتصار لهم في الدارين
-
منهاج السورة
-
1 -
الثناء على المؤمنين في خشوعهم في صلاتهم وإعراضهم عن اللغو في كلامهم وعلاقاتهم، وأدائهم لزكاة أموالهم، وحفظهم لفروجهم وأماناتهم وعهودهم، وضمان جنات الفردوس لمستقرهم.
2 -
خلقُ الإنسان من نطفة فعلقة فمضغة، ثم تشكيل العظام واللحم، فالحياة فالموت فالبعث فالحساب فالمستقر.
3 -
خلقُ السماوات وإنزال المطر وإخراج الزرع والثمر وخلق الأنعام وذكر منافعها.
4 -
إرسال الله تعالى الرسل: خبر نوح وقومه واستهزائهم، وأمر الله تعالى له بصناعة السفينة وقصة النجاة للمؤمنين، والغرق للكافرين.
5 -
تتابع الرسل في الأمم، واستمرار التكذيب والعناد حتى نزول النِّقَم.
6 -
قصة موسى وهارون مع فرعون وقومه، وانتهاء التكذيب بإهلاكه وجنده.
7 -
أمْرُ الله تعالى الرسل وعباده المؤمنين بأكل الحلال، وامتثال الصالح من الأعمال.
8 -
سنة الله في استدراج القوم الظالمين، ثم استئصالهم من حيث لا يشعرون.
9 -
ثناء الله على الخاشعين المحسنين، المسارعين في الخيرات لعلهم يفلحون.
10 -
التكاليف الشرعية متحملة، وكتاب الأعمال دقيق ينطق بالصغائر والكبائر، والقوم في غفلة عن مصيرهم، وإنما يستجيرون عند نزول الهلاك بهم.
11 -
ذم أهل الهوى في منهاج عبادتهم، فهم في ضلالة وطغيان يعمهون.
12 -
إنزالُ المصائب على المشركين لعلهم يذكرون، وتنبيههم إلى نعم الله عليهم لعلهم يشكرون، وصرفهم لرؤية عجائب قدرته تعالى لعلهم يعقلون.
13 -
اقتضاء الإيمان بالربوبية الإيمان بتوحيد الألوهية، والمشركون هم الكاذبون.
14 -
نفي الولد والشريك عن الله، وتعذد الآلهة يقتضي خراب العالم.
15 -
الأمر بالدفع بالتي هي أحسن والاستعاذة بالله من همزات الشياطين أو أن يحضرون.
16 -
طلب المحتضر من الكفار الرجعة إلى الدنيا ليعمل صالحًا، وعذاب القبر حق.
17 -
انعدام الانتفاع بالأنساب والقربى عند النفخ في الصور، والأعمال على الميزان: فمن ثقلت موازينه كان من المفلحين، ومن خفت موازينه كان من الخاسرين.
18 -
اعتراف أهل الشقاء يوم القيامة بشقوتهم، وتمنيهم الخروج من النار، فيخرسهم الجبار، وينتصر لأوليائه، ويخزي أعداءه.
19 -
اعتراف المشركين يوم الحشر بمكثهم في الحياة الدنيا يومًا أو بعض يوم.
20 -
أهل الشرك يومئذ في الأشقياء، وأهل الإيمان هم أهل الدعاء والابتهال إلى الله والرجاء، وسيكونون من المرحومين وفي منازل السعداء.
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
11. قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)}.
في هذه الآيات: ثناءُ الله تعالى على المؤمنين، الخاشعين في صلاتهم والمعرضين عن لغو القول وللزكاة هم فاعلون، ولفروجهم هم حافظون، ولأماناتهم وعهدهم هم راعون، وعلى صلواتهم يحافظون، لقد حُقّ لهم ميراث جنات الفردوس هم فيها خالدون.
فقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} .
قال ابن جرير: (قد أدرك الذين صدقوا الله ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأقرّوا بما جاءهم به من عند الله، وعملوا بما دعاهم إليه مما سمى في هذه الآيات الخلود في جنّات ربهم، وفازوا بِطَلِبتهم لديه).
قال البزار: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا المغيرة بن سلمة، حدثنا وهيب عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد مرفوعًا: [خلق الله تبارك وتعالى الجنة، لبنةٌ من ذهبٍ، ولبنةٌ من فضة، وملاطُها المسكُ، فقال لها: تكلّمي، فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ}، فقالت الملائكة: طوبى لك، منزل الملوك] (1).
وخرّجه البيهقي موقوفًا بلفظ: [إنّ الله عز وجل أحاط حائط الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة، ثم شقق فيها الأنهار، وغرس فيها الأشجار، فلما نظرت الملائكة إلى حسنها قالت: طوبى لك منازل الملوك، .
وقوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} . أي: الذين هم في صلاتهم متذللون خائفون وجلون. قال ابن عباس: (يقول: خائفون ساكنون). وقال مجاهد: (السكون فيها). وقال الزهري: (سكون المرء في صلاته). وقال الحسن: (كان خشوعهم في قلوبهم، فغضوا بذلك البصر، وخفضوا به الجناح). وقال أيضًا: ({خَاشِعُونَ}: خائفون). وقال قتادة: (الخشوع في القلب). قال ابن كثير: (والخشوع في الصلاة إنما يحصُل لمن فَرَّغ قلبه لها، واشتغل بها عَفَا عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحة له وقرَّة عين).
أخرج أحمد وأبو داود بسند جيد عن سالم بنِ أبي الجعد، أنَّ مُحَمد بنَ الحنفيَّة قال: دخلت مع أبي على صِهْرٍ لنا من الأنصار، فحَضَرت الصلاةُ، فقال: يا جاريةُ، ائتني بِوَضوءٍ لعلي أُصَلِّي فأسترِيحَ. فرانا أنْكرنا عليه ذلك، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [قُمْ يا بلالُ، فأرِحْنا بالصلاة](2).
وفي رواية عن سالم بن أبي الجعد أيضًا قال: قال رجل: [ليتني صليت فاسترحت، فكأنهم عابوا عليه ذلك، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا بلالُ أقِم الصلاةَ، أرِحْنا بها].
وفي المسند وسنن النسائي بسند صحيحِ عن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:[حُبِّبَ إليَّ من دُنْياكم: النِّساءُ والطِّيب، وَجُعِلتْ قُرَّةُ عيني في الصلاة](3).
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} . يشمل الشرك، واللغو من القول،
(1) صحيح موقوف ومرفوع. أخرجه البزار (3508)، وأبو نعيم (6/ 204)، وفي "صفة الجنة"(1/ 137/ 140)، والبيهقي في "البعث"(236) من حديث أبي سعيد. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث (2662) - ولا شك أن الموقوف هنا له حكم المرفوع.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4985) - (4986). وأحمد (5/ 371)، والطحاوي في "المشكل"(5549)، وانظر صحيح سنن أبي داود (4171) - (4172).
(3)
حديث صحيح. أخرجه النسائي (7/ 61)، وأحمد (3/ 128)، (3/ 285)، وأخرجه أبو يعلى (3482) من حديث أنس. وانظر صحيح الجامع (3119).
والباطل، والمعاصي. قال ابن عباس:(يقول: الباطل). وقال الحسن: ({عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} قال: عن المعاصي). وقال قتادة: (أتاهم -والله- من أمر الله ما وقذهم عن ذلك). يعني عن كل ما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} .
يشمل زكاة النفس من الشرك والدنس، وزكاة الأموال والصدقات الواجبة، فقد فرضت الزكاة بمكة مجملة عامة ثم حُدِّدَت أنصبتها في المدينة، فالآية وإن كانت مكية فهي تدل على ما وجب عليهم بادئ الأمر من مطلق الزكاة.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} . قال ابن عباس: (يقول: رضي الله لهم إتيانهم أزواجهم وما ملكت أيمانهم).
والمقصود: أنَّ حفظ الفروج عن مواقعة الزنا واللواط وما حرّم الله تعالى هو من صفات المؤمنين، وبورك لهم في مواقعة الحلال من الزوجات وما ملكت الأيمان.
أخرج أحمد بسند حسن عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك، قيل: إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت أن لا يرينّها أحد فلا يرينّها. قيل: إذا كان أحدنا خاليًا؟ قال: الله أحقُّ أن يُستحيا منه من الناس](1).
قال ابن عروة الحنبلي في "الكواكب"(575/ 29/ 1): (ومباح لكل واحد من الزوجين النظر إلى جميع بدن صاحبه ولمسه حتى الفرج لهذا الحديث، ولأن الفرج يحل له الاستمتاع به فجاز النظر إليه ولمسه كبقية البدن).
قلت: وهذا الذي ذكره ابن عروة الحنبلي رحمه الله داخل في آفاق مفهوم قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} .
وقوله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} .
قال ابن عباس: (نهاهم الله نهيًا شديدًا، فقال: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} فسمى الزاني من العادين). وقال ابن زيد: ({فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} : الذين
(1) رواه أصحاب السنن إلا النسائي ففي "العشرة"(1/ 76)، ورواه أحمد (5/ 3 - 4)، والبيهقي (1/ 199)، واللفظ لأبي داود (2/ 171) وسنده حسن.
يتعدون الحلال إلى الحرام). وقال عطاء، عن أبي عبد الرحمن:(من زنى فهو عاد).
قال ابن جرير: (وقوله: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} يقول: فمن التمس لفرجه مَنْكَحًا سوى زوجته وملك يمينه، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} يقول: فهم العادون حدود الله، المجاوزون ما أحلَّ الله لهم، إلى ما حرَّمَ عليهم).
وقد استدل الإمام الشافعي رحمه الله على تحريم الاستمناء باليد بهذه الآية الكريمة وقال: (فهذا الصنيع خارجٌ عن هذين القسمين -يعني الأزواج وما ملكت الأيمان-).
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} .
أي: ومن صفات هؤلاء المؤمنين الوفاء بالعهود وحفظ الأمانات، وأداؤها إلى أصحابها.
قال القرطبي: (والأمانة والعهد يجمع كلَّ ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولًا وفعلًا، وهذا يعم معاشرة الناس والمواعيد وغيو ذلك، وغاية ذلك حفظه والقيام به. والأمانة أعمّ من العهد، وكل عهد فهو أمانة فيما تقدم فيه قول أو فعل أو معتقد).
قلت: وقد جاءت نصوص الوحيين بالوفاء بالعهود وتحريم الخيانة والغدر.
ففي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].
2 -
وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34].
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58].
وفي صحيح السنة المطهرة في ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج أبو داود بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [المسلمون على شروطهم](1).
ورواه الطبراني من حديث رافع بن خديج بلفظ: [المسلمون عند شروطهم فيما أحِلّ].
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن -حديث رقم- (3594) من حديث أبي هريرة. وانظر للروايات بعده صحيح الجامع (6590) - (6592).
وله شاهد عند الحاكم من حديث أنس بلفظ: [المسلمون عند شروطهم، ما وافق الحق من ذلك].
الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [لكل غادر لواء يوم القيامة، يقال: هذه غَدْرةُ فلان](1).
وفي لفظ لمسلم من حديث أبي سعيد: [لكل غادر لواء عند اسْتِه يوم القيامة يُرْفَعُ له بقدرِ غَدْرِه، ألا ولا غادِرَ أعظمُ غدرًا من أمير عامة](2).
الحديث الثالث: أخرج الترمذي بسند صحيح من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[المسلم أخو المسلم، لا يخونُه، ولا يكذِبُهُ، ولا يخذُلُه، كل المسلم على المسلم حرام، عِرضُهُ، ومالهُ ودمهُ](3).
الحديث الرايع: خَرّج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[آيةُ المنافقِ ثلاثٌ: إذا حَدَّث كَذبَ، وإذا وَعَدَ أخْلَفَ، وإذا اؤْتُمِنَ خانَ](4).
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} .
أي: يحافظون على أدائها في أوقاتها، تامة بأركانها وواجباتها وشروطها.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه: [قلت: يا رسول الله، أيُّ العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها. قلت: ثم أيُّ؟ قال: برُّ الوالدين. قلت: ثم أيُّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله](5).
وفي جامع الترمذي بإسناد صحيح عن القاسم بن غنام، عن عمته أم فروة، وكانت ممن بايعت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: [الصلاة لأول وقتها](6).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (10/ 464)، (12/ 299)، وأخرجه مسلم (1735).
(2)
حديث صحيح. أخرجه الإمام مسلم في الصحيح (1738)(16) - من حديث أبي سعيد.
(3)
حديث صحيح. انظر صحيح الترمذي (1572)، وصحيح الجامع الصغير (6582).
(4)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (59) - كتاب الإيمان، باب خصال المنافق.
(5)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (527)، (5970)، ومسلم (85)، وأحمد (1/ 451).
(6)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي (170) - في الصلاة. باب ما جاء في الوقت الأول من الفضل. وانظر صحيح سنن الترمذي (144)، وصحيح أبي داود (452).
وفي الباب عن عائشة قالت: [ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة لوقتها الآخر مرتين حتى قبضه الله](1).
قال الشافعي: (والوقت الأول من الصلاة أفضل. ومما يدل على فضل أول الوقت على آخره: اختيار النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعمر، فلم يكونوا يختارون إلا ما هو أفضل، ولم يكونوا يدَعون الفضلَ، وكانوا يصلون في أول الوقت).
وفي المسند وسنن ابن ماجة عن ثوبان مرفوعًا: [استقيموا ولن تُحصوا، واعلموا أن خير أعمَالكم الصلاة، ولا يُحافظ على الوضوء إلا مؤمن](2).
وقوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
هو غاية البشرى في نهاية المطاف، فإن تعظيم حرمات الله وشعائره يورث أجمل الجنان - جنة الفردوس تحت عرش الرحمان.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 63].
2 -
وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72].
أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
[ما مِنكم مِنْ أحَدٍ إلا له مَنْزِلان، مَنْزِلٌ في الجنة، ومَنْزِلٌ في النار. فإذا مات، فدخلَ النار، ورِثَ أهلُ الجنة مَنْزِلَه. فذلك قولهُ تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ}](3).
وله شاهد في صحيح مسلم عن أبي بُردة بن أبي موسى، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يجيءُ يومَ القيامة ناسٌ من المسلمين بذنوبٍ أمثالِ الجبال، فيغفرها الله لهم، ويَضَعُها على اليهود والنصارى](4).
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعًا: [فإذا سألتم الله فاسألوه
(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي (174) - الباب السابق. وانظر صحيح الترمذي (146).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 276)، (5/ 282)، وابن ماجة (277)، والحاكم (1/ 130).
(3)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (4341)، آخر كتابه السنن. باب صفة الجنة، وانظر صحيح سنن ابن ماجة (3503)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (2279).
(4)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2767) ح (51).
الفردوس فإنه أوسطُ الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تَفَجَّرُ أنهارُ الجنة] (1).
قال مجاهد: (الفردوس: بستان بالرومية). وقال ابن جرير: ({الَّذِينَ يَرِثُونَ} البستان ذا الكَرْم، وهو {الْفِرْدَوْسَ} عند العرب)، والله تعالى أعلم.
قلت: وجنان الله تعالى في الدار الآخرة ثمان، أعلاها جنة الفردوس وأجملها.
ققد أخرج البخاري عن أنس: [أن حارثة بن سراقة قتل يوم بدر، وكان في النظّارة، أصابه سهم طائش فقتله، فجاءت أمه فقالت: يا رسول الله، أخبرني عن حارثة؟ فإن كان في الجنة صبرت، وإلا فليَرَيَنَّ الله ما أصنع. فقال: ويحك أهبلت؟ ! أو جنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس](2).
وفي رواية: [إنها جنان ثمان، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى].
12 -
16. قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)}.
في هذه الآيات: تقريرُ الله تعالى خلق الإنسان الأول من قبضة جمعها من تراب الأرض، ثم تتابع النسل من نطفة فعلقة فمضغة، ثم كان تشكيل العظام وكسوته باللحم، فتبارك الله أحسن الخالقين. ثم يكون الموت بعد اكتمال السعي في هذه الحياة الدنيا، ثم القيام للحساب بين يدي رب العالمين.
فقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} .
قال قتادة: (استُلّ آدم من الطين). وقال أيضًا: (استلّ آدم من طين، وخُلقت ذرّيته من ماء مهين).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (2790) -كتاب الجهاد والسير، وأحمد في المسند (2/ 335)، وابن حبان (4611) - في أثناء حديث طويل.
(2)
حديث صحيح. انظر فتح الباري (7/ 304)، شرح صحيح البخاري -حديث رقم- (3982).
والمقصود: أنّ خلق آدم كان من سلالة -وهي المستلة- من كل تربة من ترب الأرض المختلفة، قبضها الله تعالى وأوجد منها آدم عليه السلام.
أخرج أبو داود والترمذي بسند صحيح عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله خَلق آدم من قَبْضَةٍ قبضَها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض: جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسَّهلُ والحَزْنُ والخبيثُ والطيب](1).
وقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} .
أي: ثم جعلنا النسل المتتابع بعد الخلق الأول نطفة تتوضع في الرحم في مكان مُعَدّ لذلك، قد هُيِّئَ ليستقر فيه الجنين إلى بلوغ أمره. فالضمير في قوله {جَعَلْنَاهُ} عائد على جنس الإنسان.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة: 7 - 8].
2 -
وقال تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات: 20 - 23].
والعرب تسمي ولد الرجل ونطفته: سليله وسلالته، لأنهما مسلولان منه.
قال مجاهد: ({مِنْ سُلَالَةٍ} من مَنِيّ آدم). والماء المهين: هو الماء الضعيف، والمراد المنيّ.
إخبار عن انتقال من حال إلى حال، حتى يتشكل الإنسان في أحسن تقويم، فالنطفة -وهي الماء الدافق الذي يخرج من صُلب الرجل، وهو ظهره، وترائب المرأة، وهي عظام صدرها ما بين الترقُوة إلى السرة- تصير علقة حمراء. قال عكرمة:(وهي دم). أي: قطعة من دم، ثم تصير مضغة، أي: قطعة من لحم، لا شكل فيها
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4693)، والترمذي (2955)، وأحمد (4/ 400)، (4/ 406)، والحاكم (2/ 261 - 262)، وابن حبان (6160). وانظر صحيح أبي داود (3926).
ولا تخطيط، ثم تصير بإذن الله عظامًا، ثم يلبس الله تعالى العظام لحمًا.
وأول عظم يتشكل من الإنسان هو عجب الذنب، قال ابن عباس:(وهو عَظْمُ الصلب).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لَيْسَ من الإنسان شيءٌ إلا يَبْلى، إلا عظمًا واحدًا وهو عَجْبُ الذّنَب، ومنه يركّب الخلق يوم القيامة](1).
وفي لفظ لمسلم وأبي داود وابن ماجة: [كل ابن آدم يأكله التراب إلا عَجْبَ الذَّنَبِ، مِنْهُ خُلِقَ، ومنه يُرَكَّبُ](2).
وقوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} . يشَمل نفخ الروح فيه، ثم إخراجه إلى الحياة لينتقل فيها من الطفولة إلى الشباب فالكهولة فالشيخوخة.
قال ابن عباس: (نفخ الروح فيه). وقال الضحاك: (يعني الروح تنفخ فيه بعد الخلق). وقال ابن عباس أيضًا: (خرج من بطن أمه بعدما خلق، فكان من بدء خلقه الآخر أن استهلّ، ثم كان من خلقه أن دُل على ثدي أمه، ثم كان من خلقه أن علم كيف يبسط رجليه، إلى أن قعد، إلى أن حبا، إلى أن قام على رجليه، إلى أن مشى إلى أن فُطِمَ، فعلم كيف يشرب ويأكل من الطعام، إلى أن بلغ الحلم، إلى أن بلغ أن يتقلب في البلاد).
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إنَّ أحدكم يُجمع خلقُهُ في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكًا، ويؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله، ورزقه، وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخُ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4935) - كتاب التفسير، وكذلك (4814)، وأخرجه مسلم (2955)، والنسائي (4/ 111 - 112).
(2)
انظر صحيح مسلم (2933)، وسنن أبي داود (4743)، وابن ماجة (4266)، ومسند أحمد (2/ 322)، (2/ 428)، وصحيح ابن حبان (3139).
ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخل الجنة] (1).
وله شاهد فيهما وفي المسند بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنّ الله تعالى وَكَّلَ بالرحم ملكًا يقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال: أي رب شقي أم سعيد؟ ذكر أو أنثى؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه](2).
وقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} .
أي: فتعالى أمره سبحانه في قدرته وعلمه، وهو خير المقدرين وخير الصانعين.
قال مجاهد: (يصنعون ويصنع الله، والله خير الصانعين).
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} .
أي: ثم إنكم بعد ما ذُكر من مراحل إنشائكم لمفارقون لهذه الحياة الدنيا، وذلك عند انقضاء آجالكم.
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} . أي: من قبوركم للحساب والمجازاة. قال النسفي: (تحيون للجزاء). ثم يُوَفّى كل عامل عمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.
قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8].
وفي مستدرك الحاكم بسند صحيح من حديث معاذ بن جبل مرفوعًا: [تعلمون المعادَ إلى الله، ثم إلى الجنة أو إلى النار، وإقامةٌ لا ظعن فيه، وخلودٌ لا موت في أجسادٍ لا تموت](3).
17 -
22. قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3208)، ومسلم (2643)، وأبو داود (4708)، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (6595)، ومسلم (2646)، وأحمد (3/ 148)، وغيرهم.
(3)
صحيح الإسناد. أخرجه الحاكم (1/ 83)، وله شواهد كثيرة. انظر "المجمع"(10/ 396)، وكذلك سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (1668).
فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)}.
في هذه الآيات: عَطْفٌ على خلق الإنسان، بِذِكْرِ خَلْقِ السماوات السبع العظام، وإنزال المطر من السماء وإسكانه في جوف الأرض وإخراج الزرع والفواكه والنخيل والثمار. وفي خلق الأنعام عبرة ومنافع لكم أيها الناس ومنها تأكلون، وتركبون عليها وكذلك على الفلك تُحملون.
فقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} . قال ابن عباس: (الطرائق: السماوات).
وقال مجاهد: (يعني: السماوات السبع).
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} [نوح: 15].
2 -
وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].
وقوله: {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} .
قال ابن جرير: (يقول: وما كنا في خلقنا السماوات السبع فوقكم عن خلقنا الذي تحتها غافلين، بل كنا لهم حافظين من أن تسقط عليهم فتهلكهم).
فالمعنى كلما في التنزيل: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4].
قال ابن كثير: (أي: وهو سبحانه لا يحجُب عنه سماءٌ سماءً، ولا أرضٌ أرضًا، ولا جبلٌ إلا يعلم ما في وَعْره، ولا بَحْرٌ إلا يعلم ما في قَعْرِه، يعلم عدَدَ ما في الجبال والتلال والرمَال، والبحار، والقِفار والأشجار، {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]).
وقوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} . قال ابن جريج: (ماء هو من السماء).
والمقصود: ذِكْرُ حِكْمَتِه سبحانه بإنزال ماء المطر بحسب الحاجة، لينتفع به العباد
وتحيا به البلاد، وقد سلكه ينابيع في الأرض لتحصل الفائدة منه عند طلبه.
وقوله: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} .
قال النسفي: (أي كما قدرنا على إنزاله نقدر على إذهابه، فقيِّدوا هذه النعمة بالشكر).
وقولهُ تعالى: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} .
قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: فأحدثنا لكم بالماء الذي أنزلناه من السماء، بساتين من نخيل وأعناب، {لَكُمْ فِيهَا} يقول: لكم في الجنات فواكه كثيرة {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} يقول: ومن الفواكه تأكلون).
وخصّ سبحانه بالذكر النخيل والأعناب لأنها أشرف الثمار وأهمها عند العرب، وخاصة أهل الحجاز. فالنخيل لأهل المدينة، والأعناب لأهل الطائف، فذكرهم سبحانه بأجَلِّ ما يعرفون من نعم الله عليهم في طعامهم ليفردوه سبحانه بالشكر والتعظيم.
قال القرطبي: {لَكُمْ فِيهَا} أي في الجنات. {فَوَاكِهُ} من غير الرطب والعنب. ويحتمل أن يعود على النخيل والأعناب خاصة إذ فيها مراتب وأنواع، والأول أعم لسائر الثمرات).
وقوله: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} .
المقصود بالشجرة هنا: شجرة الزيتون. والطور: الجبل. و {سَيْنَاءَ} و"سِيْناء" قراءتان مشهورتان. فأهل الكوفة قرؤوها بفتح السين، وأهل المدينة والبصرة بكسرها. وطور سيناء هو طور سينين، وهو الجبل الذي كَلَّمَ الله عليه موسى عليه السلام، وما حوله من جبال الزيتون.
قال ابن عباس: ({وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ}: هو جبل بالشام مبارك. قال: الجبل الذي نودي منه موسى صلى الله عليه وسلم). وقال قتادة: (هو جبل حسن). قال الضحاك: (الطور: الجبل بالنبطية، وسيناء: حسنة بالنبطية).
وقوله: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} أي تنبت ومعها الدهن. قال مجاهد: (بثمره). وعن ابن عباس: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} يقول: هو الزيت يؤكل ويُدَّهن به). وقيل: الباء زائدة
والتقدير: تُنبت الدهن. وقيل: التقدير: تنبت جناها ومعه الدهن، فالمفعول محذوف.
وقوله: {وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} . قال ابن زيد: (هذا الزيتون صبغ للآكلين، يأتدمون به ويصطبغون به).
قال القاسمي: ({تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} أي ملتبسة بالدهن المستصبح به {وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} أي وبإدام يغمس فيه الخبز فـ (الصبغ) كالصباغ ما يصطبغ به من الإدام. ويختص بكل إدام مائع، يقال:"صبغ اللقمة: دهنها وغمسها" وكل ما غمس فقد صبغ. كذا في "المصباح" و"التاج").
قلت: وفضل الزيت وارد في القرآن الكريم كذلك في سورة النور.
وأما السنة العطرة فقد جاء في فضائل الزيت والادهان به أحاديث صحيحة، منها:
الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد والترمذي بسند حسن عن أبي أسيد رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كلوا الزيت وادّهنوا به، فإنه يخرج من شجرة مباركة](1).
الحديث الثاني: أخرج ابن ماجة والترمذي بسند حسن في الشواهد عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ائتدموا بالزيت وادّهنوا به، فإنه يخرجُ من شجرة مباركة](2).
الحديث الثالث: أخرج الطبراني بسند حسن عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ائتدموا من هذه الشجرة، يعني الزيت، ومَنْ عُرِضَ عليه طيبٌ فَلْيُصِبْ منه](3).
قال ابن القيم في "زاد المعاد": (الزيت حار رطب في الأولى، وغلط من قال: يابس، والزيت بحسب زيتونه، فالمعتصر من النضيج أعدلُه وأجوده، ومن الفج فيه برودة ويُبوسة، ومن الزيتون الأحمر متوسط بين الزيتين، ومن الأسود يُسخن ويرطب
(1) حديث صحيح لشواهده. أخرجه أحمد (3/ 497)، والحاكم (2/ 397) وصححه ووافقه الذهبي.
(2)
حديث حسن. أخرجه الترمذي (1851)، وابن ماجة (3319)، ورجاله ثقات. وانظر صحيح الجامع (18)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (379).
(3)
حديث حسن. أخرجه الطبراني بسند حسن. وأورده الهيثمي في "المجمع"(5/ 43)، وانظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (19)، والمرجع السابق.
باعتدال، وينفع من السموم، ويطلق البطن، ويخرج الدود، والعتيق منه أشد تسخينًا وتحليلًا، وما استُخْرِجَ منه بالماء فهو أقل حرارة، وألطف وأبلغ في النفع، وجميع أصنافه ملينة للبشرة، وتبطئ الشيب. قال: وماء الزيتون المالح يمنع من تَنَفُّطِ حرق النار، ويشد اللّثَةَ، وورقُه ينفع من الحمرة والنّملة، والقروح الوسخة، والشَّرى، ويمنع العرق، ومنافعه أضعاف ما ذكرنا) (1).
ذكرُ بعض نعم الله تعالى في تسخير الأنعام للناس، فطريقة خلقها تشدّ إلى التأمل في عظيم قدرته سبحانه، واللبن الخارج من بين الفرث والدم آية كبرى، وبعض الأنعام كالإبل يُحمل عليها ويُركب ظهرها ويشرب درّها، آية أخرى. ثم يضاف إلى كل ذلك تذليل لحومها للأكل، وما يكون من غذائها من عظيم الفائدة للأبدان، آيات لقوم يتفكرون.
قال ابن جرير: (وقوله: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} يقول: وعلى الأنعام وعلى السفن تحملون، على هذه في البرّ، وعلى هذه في البحر).
23 -
25. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)}.
في هذه الآيات: إرسالُ الله تعالى نبيَّه نوحًا صلى الله عليه وسلم يدعو قومه لإفراد الله سبحانه بالعبادة والتعظيم، ومقابلةُ الملأ الكافر له بالاستهزاء وأنه بشر ليس بملك كريم، وأنهم ما سمعوا بمثل ذلك في آبائهم الأولين، ثم اتهامهم له بالجنون وتواصيهم بانتظار اقتراب استراحتهم منه وريب المنون.
(1) انظر تفصيل البحث في كتابي: منهج الوحيين في معالجة زلل النفس وتسلط الجن (303).
إخبار من الله تعالى عن إرساله لنبيه نوح عليه الصلاة والسلام لينذر قومه عذاب الله وانتقامه ممن أشرك به ولم يفرده بالعبادة والتعظيم.
وقوله: {أَفَلَا تتَقُونَ} . قال ابن كثير: (أي: ألا تخافون من الله في إشراككم به؟ ! ).
وقوله: {فَقَالَ الْمَلَأُ} . يعني السادة والأشراف والأكابر منهم. {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} . قال النسفي: (أي يطلب الفضل عليكم ويترأس).
وقال القرطبي: (أي يسودكم ويشرُف عليكم بأن يكون متبوعًا ونحن له تبع).
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} .
أي: لو شاء الله إرسال رسول لأرسل ملكًا من عنده ولم يكن بَشَرًا.
وقوله: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} . أي: ما سمعنا ببعثه البشر في أجدادنا والأمم قبلنا. قال النسفي: (أي: بإرسال بشر رسولًا، أو بما يأمرنا به من التوحيد وسب آلهتنا، والعجب منهم أنهم رضوا بالألوهية للحجر ولم يرضوا بالنبوة للبشر).
وقوله {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} . أي: ما بنوح إلا الجنون، إذ يزعم أن الله اختاره من بينكم لرسالته، واختصه بالوحي من دونكم.
وقوله: {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} . قال ابن جرير: (يقول: فتلبثوا به، وتنظروا به حتى حين). وقال ابن كثير: (أي: انتظروا به ريبَ المنون، واصبروا عليه مُدَّةَ حتى تستريحوا منه).
26 -
30. قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)}.
في هذه الآياتِ: استنصارُ نوح صلى الله عليه وسلم بالله من تكذيب قومه المجرمين، وَوَحْيُ الله تعالى إليه بصناعة السفينة وإدخال فيها من كل زوجين وأهله المؤمنين، وحمدُ الله عند ركوبها على النجاة من القوم الظالمين، ودعائه تعالى عند النزول منها اختيار خير المنازل لعباده الصالحين.
فقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} .
فيه إعلام بانسداد الطريق بين نوح عليه الصلاة والسلام وقومه الذين أصروا على التكذيب والعناد، وعدم الانتفاع بأي بلاغ. فهنالك استنصر نوح ربَّه عليهم كما قال تعالى في سورة القمر:{فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} .
وقوله: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} . هو جواب الله تعالى دعاء نوح صلى الله عليه وسلم، فأمره بصنع السفينة وإحكامها وإتقانها.
وفي سورة هود: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} . قال ابن عباس: (بعين الله). وقال قتادة: (بعين الله ووحيه). وقال ابن جرير - في آية القمر المشابهة -: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} : (تجري السفينة التي حملنا نوحُا فيها بمرأى منا ومنظر).
قلت: فلفظ "العين" في التنزيل يفيد الصفة التي لابد من إثباتها لله عز وجل، وقد يفيد العناية والرعاية - كما هو هنا - وقد يفيد الأمرين معًا، والله تعالى أعلم.
قال القاسمي: {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} أي عذابنا {وَفَارَ التَّنُّورُ} كناية عن الشدة. كقولهم "حمي الوطيس". و {التَّنُوْرُ} كانون الخبز حقيقة. وأطلقه بعضهم على وجه الأرض ومنبع الماء، للآية مجازًا {فَاسْلُكْ فِيهَا} أي فأدخل في الفلك {مِنْ كُلٍّ} أي من كل أمة {زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} ).
قال ابن كثير: (أمره تعالى بصَنْعة السفينة وإحكامها وإتقانها، وأن يحمل فيها من كل زوجين اثنين، أي: ذكرًا وأَنثى من كُلِّ صِنْفٍ من الحيوانات والنباتات والثمار وغير ذلك، وأن يحمل فيها أهله {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ} ، أي: من سبقَ فيه القولُ
من الله بالهلاك، وهم الذين لم جمومنوا به من أهله، كابنه وزوجته، والله أعلم).
وقوله: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} .
قال ابن عباس: (يقول: ولا تسألني في الذين كفروا بالله أن أنجيهم {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} يقول: فإني قد حتمت عليهم أن أغرق جميعهم).
والمقصود: لا يكن بك شفقة عليهم إذا رأيتهم حوصروا بالماء وحلّ بهم الغرق والهلاك، فإن الله تعالى قد قضى إغراق قومكَ الذين كفروا وكانوا مجرمين.
وقوله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .
يعني: إذا اعتدلت يا نوح أنت ومن معك من المؤمنين في السفينة فاحمدوا الله العظيم أن نجاكم من القوم المشركين. وهذا ما فعله نوح صلى الله عليه وسلم حِين أمر قومه بذلك.
ففي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41]. فذكر نوح ربه آمرًا قومه بذلك عند ابتداء سيره وعندَ انتهائه.
2 -
وقال تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 12 - 14].
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: [أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجًا إلى سفر كبَّرَ ثلاثًا، ثم قال: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}. اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البِرَّ والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هَوِّن علينا سفرنا هذا، واطْوِ عَنَّا بُعْدَه، اللهم أنت الصاحِبُ في السفر والخليفة في الأهل. اللهم إني أعوذ بك من وَعْثاء السفر، وكآبة المَنْظَرِ وسوءَ المُنْقَلَب في المال والأهل. وإذا رجع قالهنّ وزاد فيهن: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون" (1).
وفي جامع الترمذي بسند صحيح عن علي بن ربيعة قال: [شهدت عليًا أُتِيَ بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال بسم الله، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله. ثم قال: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2/ 998)، وانظر صحيح سنن الترمذي (2743).
لَمُنْقَلِبُونَ}. ثم قال: الحمد لله ثلاثًا، الله أكبر ثلاثًا، سبحانك إني قد ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك. فقلت: من أي شيء ضحكت يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت، ثم ضحك فقلت: من أي شيء ضحكت يا رسول الله؟ قال: إنّ ربَّك لَيَعْجَبُ مَنْ عبدِه إذا قال: ربِّ اغفر لي ذُنوبي، إنه لا يَغْفِرُ الذنوبَ غَيْرُك] (1). وقوله تعالى:{وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} .
قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره لنبيه نوح عليه السلام: وقل إذا سلمك الله وأخرجك من الفلك، فنزلت عنها {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا} من الأرض {مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} من أنزل عباده المنازل).
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} .
أي: إن في إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين لدلالات بينات على صدق الأنبياء في دعوتهم، وصدق الله لهم في نصرهم على عدوهم، وإنما قضى الله تعالى ابتلاء القوم بعضهم ببعض ليميز الخبيث من الطيب، ثم يحق الحق ويزهق الباطل.
وفي التنزيل:
1 -
2 -
وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)} [التوبة: 16].
وقال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)} [الأنبياء: 18].
ومن كنوز صحيح السنة في ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن أبي عبيدة بن حذيفة عن عمته فاطمة أنَّها قالت: [أَتَيْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم، نعوده في نسائه، فإذا سقاء معلق نحوه يقطر
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (3691) - أبواب الدعوات - باب ما يقول: إذا ركب دابة، انظر صحيح سنن الترمذي (2742)، وصحيح أبي داود (2267).
ماؤه عليه من شدة ما يجد من حرّ الحمى، قلنا: يا رسول الله لو دعوت الله فشفاك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ من أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" (1).
الحديث الثاني: أخرج الترمذي وابن ماجة بسند حسن عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط](2).
الحديث الثالث: يروي الدارمي وأحمد بسند صحيح عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال: [بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد مع أصحابه إذ ضحك، فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ قالوا: يا رسول الله! ومم تضحك؟ قال: عجبت لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، إن أصابه ما يحب حمد الله وكان له خير، وإن أصابه ما يكره فصبر كان له خير، وليس كل أحد أمره كله خير إلا المؤمن](3).
31 -
41. قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)}.
في هذه الآياتِ: تتابعُ الرسل في الأمم وتكذيب الملأ الكافر بالنبوة في كل زمان
(1) حديث حسن. أخرجه أحمد (6/ 369)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (145).
(2)
إسناده حسن. أخرجه الترمذي (2/ 64)، وابن ماجة (4031)، وانظر المرجع السابق (146).
(3)
صحيح على شرط مسلم. أخرجه الدارمي (2/ 318)، وأحمد (6/ 16) من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب. وانظر صحيح مسلم (8/ 227).
وحين، والتشكيك في أمر المعاد والبعث من القبور والقيام لرب العالمين، واستنصار كل رسول بالله العظيم، لينزل العذاب فيحيط بالقوم الظالمين.
فقوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} .
أي: ثم أوجدنا من بعد مهلك قوم نوح قومًا آخرين. قيل المراد عاد، وقيل ثمود وهو الراجح لذكر مهلكهم في آخر الآياتِ بالصيحة، والله أعلم.
وقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} .
أي: فبعث الله فيهم رسولًا من بينهم يحذرهم مغبة الشرك وعبادة الأوثان، ويحثهم على إفراد الله تعالى بالعبادة والتعظيم، وينذرهم بأسه تعالى وبطشه إن أصروا على الكفر وما هم عليه من الانحراف والجحود.
قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وقالت الأشراف من قوم الرسول الذي أرسلنا بعد نوح، وعنى بالرسول في هذا الموضع: صالحًا، وبقومه: ثمود {الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ} يقول: الذين جحدوا توحيد الله، وكذّبوا بلقاء الآخرة: يعني كذبوا بلقاء الله في الآخرة. وقوله: {وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يقول: ونعَّمناهم في حياتهم الدنيا، بما وسَّعنا عليهم من المعاش، وبسطنا لهم من الرزق، حتى بطروا وعَتَوا على ربهم، وكفروا. قال: وقوله: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} يقول: قالوا: بعث الله صالحًا إلينا رسولًا من بيننا وخصه بالرسالة دوننا وهو إنسان مثلنا يأكل مما نأكل منه من الطعام ويشرب مما نشرب، وكيف لم يرسل ملكًا من عنده يبلغنا رسالته).
قال ابن كثير: (فكذبوه وخالفوه، وأبوا من اتباعه لكونِه بشرًا مثلهم، واستنكفوا عن اتباع رسول بشري، فكذّبوا بلقاء الله في القيامة، وأنكروا المعاد الجُثماني، وقالوا: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} أي بعيد بعيد ذلك).
وقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} .
كقول كفار مكة: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24].
وكقيلهم وهم يقسمون كذبًا - كما حكى الله عنهم في سورة النحل -: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: 38]. مما يدل أن منهج الكفر واحد منذ القرون الأولى إلى قيام الساعة.
وقوله تعالى: ({إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ}
قال النسفي: (أي ما هو إلا مفتر على الله فيما يدعيه من استنبائه وفيما يعدنا من البعث، {وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} بمصدقين).
وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} . أي: استفتح الرسول وطلب النصر من الله على قوم أصروا على كفرهم وتكذيبهم.
وقوله تعالى: {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} .
إجابةُ الله دعوة رسوله بأن الندم سيحيط بهم مصبحين نتيجة استهزائهم بالوحي والنبوة.
وقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ} .
أي: وقع بهم انتقام الله تعالى باستحقاقهم العقاب منه بكفرهم وتماديهم.
وقوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً} . اي صيرناهم كالغثاء لا قيمة له. والغثاء ما ارتفع على السيل ونحوه. قال ابن عباس: (جعلوا كالشيء الميت البالي من الشجر).
وقال مجاهد: (كالرميم الهامد، الذي يحتمل السيل).
قال النسفي: (شبههم في دمارهم بالغثاء، وهو حميل السيل ما بلي واسودّ من الورق والعيدان).
وقوله: {فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . أي: هلاكًا لهم. أو بُعْدًا لهم من رحمة الله. والفاء عاطفة، و {بُعْدًا} مفعول مطلق لفعل محذوف والتقدير: ابعدوا بعدًا.
أي: أبعد الله القوم الظالمين بإهلاكهم إذ أصروا على الكفر بربهم وتكذيب رسله ووحيه.
42 -
44. قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا
وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)}.
في هذه الآياتِ: استمرارُ إرسال الله تعالى الرسل في القرون المتتابعة، واستمرار تكذيب الملأ الكافر وأتباعهم في الأمم المتلاحقة، وختام ذلك نزول نقمة الله على المكذبين وتصييرهم أحاديث للأجيال القادمة.
فقوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ} .
أي: ثم أوجدنا من بعد هلاك هؤلاء أممًا وأقوامًا آخرين.
قال ابن عباس: (يريد بني إسرائيل). قال القرطبي: (وفي الكلام حذف: فكذبوا أنبياءهم فأهلكناهم).
وقوله تعالى: {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} .
قال ابن كثير: (يعني: بل يؤخذون حسبَ ما قدَّر لهم تعالى في كتابه المحفوظ وعِلْمِهِ قبل كَوْنِهِم، أمة بعد أمة وقرنًا بعد قرنٍ، وجيلًا بعد جيل، وخلفًا بعد سلف).
وقوله: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} . معنى {تَتْرَا} تتواتر. قال ابن عباس: (يعني يتبع بعضهم بعضًا).
والمقصود: ثم واترنا رسلنا على أجيال الخلق يتبع بعضهم بعضًا ترغيبًا وترهيبًا.
وقوله: {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا} . أي: بالهلاك.
وقوله {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} . أي أخبارًا وأحاديث للناس لِضَرْبِ المثل والتعجب. قال الأخفش: (إنما يقال هذا في الشر {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} ولا يقال في الخير، كما يقال: صار فلان حديثًا أي عبرة ومثلًا، كما قال في آية أخرى: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19]).
وقوله: {فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} .
قال ابن جرير: (يقول: فأبعد الله قومًا لا يؤمنون بالله، ولا يصدقون برسوله).
45 -
49. قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا
لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)}.
في هذه الآياتِ: إخباره تعالى أنه تابع الرسالة فبعث موسى وأخاه هارون عليهما السلام إلى فرعون وقومه بحجة الحق البالغة وسلطان الوحي العظيم. فقابلوا ذلك بالكبر والبغي والعلو في الأرض واتباع سبيل الشياطين، وعاملوهما كما عاملت الأمم السابقة الهالكة رسلها مستنكرين بشريتهما محتجين بانقياد الناس - بالإكراه والظلم - لهم، فجاء العذاب وقصم الله فرعون والقبط، وأكرم الله موسى والمؤمنين معه بهدي التوراة ليكون لهم نورًا في الدنيا ونجاة في الآخرة.
قال النسفي: ({لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} يعملون بشرائعها ومواعظها).
وقال ابن كثير: (وأنزل على موسى الكتاب - وهو التوراةُ - فيها أحكامهُ وأوامِرُه ونواهيه، وذلك بعدما قَصَمَ الله فِرعونَ والقبط، وأخذهم أخذَ عزيز مقتدر. وبعد أن أنزل الله التوراة لم يُهلك أمة بعامَّة، بل أمر المؤمنين بقتال الكافرين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)} [القصص: 43]).
50.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)} .
في هذه الآية: يخبر تعالى أنه جعل عيسى وأمه مريم عليهما السلام حجة على أهل ذلك الزمان، في إظهار قدرته جل ذكره بإنشاء الأجسام من غير أصل، فهو كآدم خلقه من تراب وقال له كن فكان، وهذه الآية باقية إلى قيام الساعة، وأنه تعالى برحمته آوى عيسى وأمه إلى أرض منبسطة مرتفعة ذات خصب وماء.
فعن قتادة: ({وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ} قال: ولدته من غير أب هو له، ولذلك وُحِّدت الآية، وقد ذكر مريم وابنها).
وقال ابن عباس: (الربوة: المكان المرتفع من الأرض، وهو أحسن ما يكون فيه النبات).
قال: (وقوله: {ذَاتِ قَرَار} يقول: ذات خصب {وَمَعِينٍ} يعني ماء ظاهرًا). وقال (المعين الماء الجاري، وهو النهر الذي قال الله تعالى: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم: 24]).
وقال مجاهد: (ربْوة مستوية). وقال سعيد بن جبير: ({ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} استوى الماء فيها). وقال قتادة: ({وَمَعِينٍ} الماء الجاري). وقال: (هو بيت المقدس).
وخلاصة القول: لقد آوى الله تعالى عبده عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم وأمه إلى أرض مرتفعة خصبة تحفل بالنبات والثمر والماء رحمة منه تعالى بهما. وظاهر آيات القرآن أن ذلك كان في بيت المقدس، والله تعالى أعلم.
51 -
56. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)}.
في هذه الآياتِ: أمْرُ الله تعالى الرسل وعباده المؤمنين بأكل الحلال، وامتثال الصالح من الأعمال، والدعوة إلى الدين الحق، واجتناب الفرقة أو الانزلاق إلى الشبهات والشهوات، والتنبيه إلى سنة الله في استدراج القوم الظالمين، ثم استئصالهم من حيث لا يشعرون.
فقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} .
أمرٌ من الله سبحانه لعباده المرسلين بأكل الحلال وترك الحرام وامتثال صالح الأعمال، وهو - تعالى - عليم باعمالهم ومجازيهم بجميعها أحسن الثواب. قال الحسن:{كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} يعني: الحلال). والخطاب وإن كان موجهًا للرسل فهو لأتباعهم من باب أولى، وإنما خصّ الموسلين بالكلام لأنهم قدوة العباد وأسوة البشرية جميعًا.
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال:
{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} . وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]. ثم ذكر الرجل يُطيل السفَرَ أشعثَ أغبرَ، يَمُدُّ يديه إلى السماء، يا ربِّ! يا ربِّ! وَمَطْعَمُهُ حرامٌ، ومَشْرَبُهُ حرامٌ، ومَلْبَسُهُ حرامٌ، وغُذِيَ بالحرام، فأنّى يُستجابُ لذلك] (1).
وقوله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} .
يعني: وإن ملتكم معشر الأنبياء ملة واحدة، ودينكم دين واحد، وهو دين التوحيد: إفراد الله تعالى بالعبادة والتعظيم، فاتقوا الله ربكم وادعوا الخلق إلى هذا الدين القويم.
قال ابن جريجٍ: ({وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} قال: الملة والدين).
وقد نصب قوله: {أُمَّةً وَاحِدَةً} على الحال.
وقوله تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا} .
أي: تمزقت أمم الرسل فيما بينهم، وجعلوا دينهم أديانًا، واتبعوا الشبهات والشهوات. و {زُبُرًا}: جمع زبور. أي كتبًا مختلفة. قيل: تفرقوا في دينهم فرقًا كل فرقة تنتحل كتابًا. وعن الحسن قال: (قطعوا كتاب الله قطعًا وحرفوه).
وقوله: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} . أي كل فريق بما هم عليه من الهوى والضلال معجبون.
قال النسفي: (كل فرقة من فرق هؤلاء المختلفين المتقطعين دينهم {بِمَا لَدَيْهِمْ} من الكتاب والدين أو من الهوى والرأي {فَرِحُونَ} مسرورون معتقدون أنهم على الحق).
وقوله تعالى: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} . تهديد ووعيد. أي: فدع يا محمد هؤلاء القوم الذين انغمسوا في غَيهم وضلالهم إلى حين حلول عذابهم أو انقضاء آجالهم. قال مجاهد: {فِي غَمْرَتِهِمْ} : في ضلالهم).
وقوله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} .
قال مجاهد: ({أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ}: نعطيهم، نسارع لهم، قال: نزيدهم في الخير، نُمْلي لهم، قال: هذا لقريش).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (1015) - كتاب الزكاة، ورواه الترمذي في الجامع (2989)، وأحمد في المسند (2/ 328).
قال ابن كثير: (يعني: أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد لِكَرامَتِهمِ علينا ومَعَزَّتهم عندنا؟ ! كلَّا، ليس الأمر كما يزعمون في قولهم: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ: 35]، لقد أخطؤوا في ذلك وخاب رجاؤهم، بل إنما نفعل بهم ذلك استدراجًا وإنظارًا وإملاءً، ولهذا قال: {بَلْ لَا يَشْعُرُونَ}).
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55].
2 -
وقال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)} [القلم: 44، 45].
3 -
وقال تعالى: وَ {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)} [آل عمران: 178].
ومن صحيح السنة المطهرة في ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد بسند قوي عن عقبة بن عامر مرفوعًا: [إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)}](1).
الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الله لَيُمْلي للظالم حتى إذا أخذه لمْ يُفْلِتْهُ، قال: ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102](2).
الحديث الثالث: خرّج مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الله لا يَظْلِمُ مؤمنًا حسنة، يُعطي بها في الدنيا ويَجْزي بها في الآخرة، وأما
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 145)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (414).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4686)، ومسلم (2583)، والترمذي (3110)، وابن ماجة (4018)، وأخرجه ابن حبان (5175)، والبيهقي (6/ 94).
الكافِرُ فَيُطْعَمُ بحسنات ما عَمِلَ بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم تكُنْ له حسَنةٌ يُجْزى بها" (1).
57 -
61. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)}.
في هذه الآياتِ: ثناءُ الله تعالى على عباده المؤمنين، الذين جمعوا إلى إيمانهم إحسانًا وشفقة من يوم الدين، والذين يسارعون في الخيرات وقلوبهم وجلة أن لا يقبل منهم يوم يعرضون على رب العالمين.
فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} .
قال الحسن البصري: (إن المؤمن جمع إحسانًا وشفقة، وإن الكافر جمع إساءة وأمنًا).
فالمؤمنون بالله وجلون خائفون مع إحسانهم وإيمانهم ومبادرتهم إلى الطاعات والقربات.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} . يشمل الآياتِ الكونية والشرعية.
قال النسفي: ({وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} أي بكتب الله كلها، لا يفرقون بين كتبه كالذين تقطعوا أمرهم بينهم وهم أهل الكتاب).
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} .
أي: يفردون ربهم سبحانه بالعبادة والتعظيم، ويوحدونه في أسمائه وصفاته ومحامده لا شريك له.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} .
أي: يعطون الصدقات ويتقربون بالطاعات وهم خائفون أن لا يقبل منهم. قال ابن عباس: (المؤمن ينفق ماله ويتصدق وقلبه وجل أنه إلى ربه راجع). وقال سعيد بن
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2808) - كتاب صفات المنافقين، باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة، وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا، ورواه أحمد.
جبير: (يفعلون ما يفعلون وهم يعلمون أنهم صائرون إلى الموت، وهي من المبشرات).
أخرج الترمذي وابن ماجة بسند صحيح عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: [سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قالت عائشة: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا، يا بِنْتَ الصديق ولكنهم الذين يَصومون ويُصلون وَيتَصَدَّقون وهم يخافون أن لا تُقْبَلَ منهم، أولئك الذين يُسارعون في الخيرات وهم لها سابقون](1).
وفي لفظ ابن ماجة: [قالت: أهو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر؟ قال: لا. يا بنت أبي بكر. "أو يا بنت الصديق! "، ولكنه الرجل يصومُ وَيتَصَدَّق ويُصَلِّي، وهو يخاف أن لا تُقْبَّلَ منه].
وقوله تعالى: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} .
قال ابن عباس: (يقول: سبقت لهم السعادة).
وقال ابن زيد: (والخيرات: المخافة والوجل والإيمان، والكف عن الشرك بالله، فذلك المسابقة إلى هذه الخيرات، وقوله: {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} كان بعضهم يقول: معناه: سبقت لهم من الله السعادة، فذلك سبوقهم الخيرات التي يعملونها).
قلت: والحديث السابق يدل على أن حالة القلب الذي يخشى صاحبه عدم القبول وهو مجتهد في الإيمان والعمل الصالح هي حالة صِحِّية يُرجى لصاحبها السبق والفوز في الآخرة. وقد جاءت نصوص الوحيين بذلك:
ففي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16].
2 -
وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (3401)، وابن ماجة (4198). انظر صحيح سنن الترمذي (2537)، وصحيح سنن ابن ماجة (3384)، ورواه أحمد.
ومن كنوز السنة العطرة:
أخرج الترمذي وابن ماجة بسند حسن عن أنس: [أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو بالموت، فقال: كيف تجدك؟ قال: والله يا رسول الله إني أرجو الله، وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه الله ما يرجو، وأمنه مما يخاف](1).
62 -
67. قوله تعالى: {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)}.
في هذه الآياتِ: التكاليف الشرعية متحملة، وكتاب الأعمال دقيق ينطق بصغائر الأعمال وكبارها، والقوم في غفلة عن مصيرهم، وإنما يستجيرون ويستغيثون عند نزول الهلاك بهم.
فقوله: {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}
فيه دليل أن التكاليف الشرعية هي في حدود سعة الإنسان، وأن الشرائع التي أمر الله بها يطيق العبد حملها والقيام بها.
ذكر الشاطبي في "الموافقات": (أن المشقة الشرعية لا يجوز دفعها لأنَّها دفع للتكليف). واستدل بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10].
وذلك بعد قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)} [العنكبوت: 2].
(1) إسناده حسن. أخرجه الترمذي (994)، وابن ماجة (4261). وعبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد"(ص 24)، وانظر صحيح سنن الترمذي (783)، وصحيح ابن ماجة (3436).
وبيّن أن المشقة قد تبلغ من الأعمال العادية ما يظن أنه غير معتاد، ولكنه في الحقيقة معتاد.
وقوله: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} .
قال ابن كثير: (يعني: كتاب الأعمال، {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}، أي: لا يبخسون من الخير شيئًا، وأما السيئات فيعفو ويصفح عن كثير منها لعباده المؤمنين).
وقوله: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} . قال مجاهد: في عمى من هذا القرآن).
قال ابن جرير: (وعنى بالغمرة: ما غمر قلوبهم، فغطاها عن فهم ما أودع الله كتابه من المواعظ والعبر والحجج).
وقوله: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} .
قال ابن عباس: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ} ، أي: سيئة {مِنْ دُونِ ذَلِكَ} يعني الشرك {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} ، قال: لابُدَّ أن يعملوها) (1). وقال مجاهد: (الخطايا).
وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} . قال ابن عباس: (يستغيثون). قال ابن زيد: (المترفون: العظماء. {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} يقول: فإذا أخذناهم به جأروا، يقول: ضجّوا واستغاثوا مما حلّ بهم من عذابنا).
والجؤارُ: رفع الصوت، كما يجأر الثور، والخطاب لأهل مكة وما حلّ بطغاتهم يوم بدر، وهو حال الأمم التي ينزل بها سخط الله وعذابه على مدار الزمان.
وقوله تعالى: {لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ} .
أي: سواء جأرتم أم لم تجأروا، فقد حَل بكم سخط الله ونزل العذاب ولا طريقة لرفعه. قال الربيع بن أنس:({لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ} لا تجزعوا الآن حين نزل بكم العذاب، إنه لا ينفعكم، فلو كان هذا الجزع قبلُ نفعكم).
(1) وقيل: لابد أن يعملوها قبل موتهم لا محالة، فقد حقت عليهم كلمة العذاب، وسبق في علم الله أنهم أشقياء أهل سوء خاتمة. وفي الصحيحين والمسند عن ابن مسعود، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[فوالذي لا إله غيره، إن الرجلَ ليعمل بعمل أهل الجَنَّة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذِراع، فَيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخُلها]. رواه البخاري في صحيحه (6594)، ومسلم (2643)، وأحمد في مسنده (1/ 382).
وقوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} .
قال ابن عباس: (يقول: تدبرون). وقال مجاهد: (تستأخرون).
قلت: والخطاب لأهل مكة لما عُرض عليهم الحق وهذا الوحي العظيم، فاستكبروا وطغوا وعاندوا. فوصفهم الله سبحانه بقوله:{مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} . قال ابن عباس: (يقول: مستكبرين بحرم البيت أنه لا يظهر علينا فيه أحد). وقال مجاهد: ({مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} قال: بمكة بالبلد). وقال الحسن: (مستكبرين بحرمي). وقال قتادة: (مستكبرين بالحرم).
ثم وصفهم سبحانه بقوله: {سَامِرًا تَهْجُرُونَ} . وأصل المر والمسامرة في لغة العرب: الحديث بالليل.
ومنه قولهم: سَمَرَ يَسْمُرُ فهو سامِرٌ. قال الرازي: (السُّمار: وهم القوم يَسْمُرون).
قال ابن عباس: (قوله: {سَامِرًا} يقول: يَسْمرون حول البيت).
وقال مجاهد: (سامرًا: مجلسًا بالليل). وقال ابن زيد: (كانوا يَسْمرون ليلتهم ويلعبون: يتكلمون بالشعر والكهانة وبما لا يدرون).
قال ابن جرير: (يقول: تَسْمرون بالليل، ووحّد قوله:{سَامِرًا} وهو بمعنى السُّمَّار، لأنه وضع موضع الوقت. ومعنى الكلام: وتهجرون ليلًا، فوضع السامر موضع الليل، فوحد لذلك. وقد كان بعض البصريين يقول: وُحِّد ومعناه الجمع، كما قيل: طفل في موضع أطفال، ومما يبين عن صحة ما قلنا في أنه وضع موضع الوقت، فوحد لذلك، قول الشاعر:
مِن دونهم إن جِئْتهُمْ سَمَرًا
…
عَزف القِيَانِ ومَجْلِسٌ غَمْر
فقال: سمرًا لأن معناه: إن جئتهم ليلًا وهم يسمُرون، وكذلك قوله: سامرًا).
قلت: وعندئذ يكون قوله: {تَهْجُرُونَ} على وجهين:
الوجه الأول: أنَّ يكون المقصود إعراضهم عن القرآن أو البيت أو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس: (يهجرون ذكر الله والحق)، وقال السدي:(السبّ).
الوجه الثاني: أنَّ يكون المقصود تياديهم بالقول كما يهجُر الرجل في منامه وذلك إذا هذى، فوصفهم بأنهم يقولون في القرآن باطلًا من القول وما لا معنى له، وقد وردَ في اللغة الهَجْرُ بمعنى الهذيان.
فعن سعيد بن جبير: (تَهْجُرون: قال: يَهْجرون في الباطل). وفي رواية: (قال: يسمرون بالليل يخوضون في الباطل). وقال مجاهد: (بالقول السيِّئ في القرآن). وقال ابن زيد: (الهذيان الذي يتكلم بما لا يريد ولا يعقل، كالمريض الذي يتكلم بما لا يدري).
وكلا الوجهين يحتمله البيان الإلهي الكريم، وهو موافق لقراءة عامة قراء الأمصار، كما ذكر شيخ المفسرين رحمه الله، إذ اختار القراءة بفتح التاء وضم الجيم، قال: الإجماع الحجة من القراء).
وأما القراءة الثانية بضم التاء وكسر الجيم: {تَهْجُرُونَ} فقرأ بها نافع بن أبي نعيم، وهي بمعنى: يُفحِشون في المنطق ويقولون الخنا. قال الرازي: (والهَجْر: ضدُّ الوصل)، وأهْجَرَ الرجل إذا أفحش في القول. ومنه تفسير ابن عباس:(تُهْجِرون: قال: تقولون هُجْرا). وقال الحسن: (تُهجرون رسولي). وقال قتادة: (يقول: يقولون سوءًا). وقال الضحاك: (يقولون المنكر والخنا من القول، كذلك هَجْر القول).
وخلاصة القول: إن كفار مكة لما طغوا أخذوا يَسْمرون بالليل يتغنون بكلام فاحش يؤذي الله ورسوله، ويتمادون بلغو القول وهم يَهْذون ويلعبون ويطربون. والآية السابقة تشبه قوله تعالى في سورة "النجم":{وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} . قال ابن عباس: (هو الغناء بالحميرية، سمد لنا: غنى لنا). وقال مجاهد: (هو الغناء يقول أهل اليمن: سَمَدَ فلان إذا غنى).
68 -
75. قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)}.
في هذه الآياتِ: ذمُّ الله تعالى منهج الكفار في التعامل مع الحق فهم معرضون، ولو
اتبع الحق أهواءهم لفسد الكون فإنهم قوم جاهلون مفسدون. فهل تسألهم - يا محمد - أجرًا على دعوتك لهم أم أنت محتسب في دعوتك إياهم إلى الصراط المستقيم. إن الذين لا يؤمنون بالآخرة تائهون في ضلالتهم ولو كشفنا عنهم ضرَّهم لعادوا في طغيانهم يترددون.
فقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} .
إنكار على المشركين سوء تعاملهم مع الوحي الكريم، وعدم تفهمهم آيات هذا الذكر الحكيم. قال قتادة:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} : إذن والله يجدون في القرآن زاجرًا عن معصية الله لو تَدَبَّرَهُ القوم وعقلوه، ولكنهم أخذوه بما تشابَه، فهلكوا عند ذلك).
وفي قوله: {أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} أكثر من تأويل:
التأويل الأول: أم جاءهم أمر ما لم يأت آباءهم الأولين فأنكروه وأعرضوا عنه. ذكره ابن جرير.
التأويل الثاني: قيل: {أَمْ} بمعنى بل. قال القرطبي: (أي بل جاءهم ما لا عهد لآبائهم به، فلذلك أنكروه وتركوا التدبر به).
التأويل الثالث: قال ابن عباس: (وقيل: المعنى أم جاءهم أمان من العذاب، وهو شيء لم يأت آباءهم الأولين فتركوا الأعز).
قلت: والإعجاز القرآني يحتمل كل ذلك، ومفاد الآية الإنكار على طغاة مكة وأمثالهم عبر الزمان إعراضهم عن الهدى والحق وهذا القرآن العظيم، خوفًا على التقاليد والأعراف وموروث الأجداد. قال القاسمي:{أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} أي من الهدى والحق، فاستبدعوه واستبعدوه، فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال. مع أن المجيء بما لم يعهد، لا يوجب النفرة. لأن المألوف قد يكون باطلًا، فتقتضي به الحكمة التحذير منه).
وقوله تعالى: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} .
توقيف للقوم وتقريع وتقبيح. قال سفيان: (بلى! قد عرفوه ولكنهم حسدوه).
قال النسفي: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} محمدًا بالصدق والأمانة ووفور العقل وصحة النسب وحسن الأخلاق! ! أي عرفوه بهذه الصفات {فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} بغيًا وحسدًا).
وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} .
أي: أم يتهمون رسولهم بالجنون؟ ! فهو يأتي من الكلام بما لا معنى له! !
كلا، فالأمر ليس كذلك، فهم يعلمون حقًّا أنه أرجحهم عقلًا وأفضلهم رأيًا وأثقبهم ذهنًا، وأنه جاءهم بالحق الأبلج والصراط القويم الذي فيه تهديد أهوائهم الفاسدة، وشهواتهم الحاكمة، وأعرافهم الجاهلية البالية. فلما لم يجدوا طريقًا لردِّ هذا الوحي العظيم الذي يهدِّد منازلهم الجاهلية، نسبوه إلى الجنون في محاولة لكسر شوكته صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} .
قال مجاهد وابن جريجٍ: (الحق: الله). والمعنى: ولو أجابهم الله عز وجل وأجرى التدبير على أهواء هؤلاء المشركين لحصل الفساد في السماوات والأرض لفساد أهوائهم وإراداتهم.
وقوله: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} .
في تأويل الآية هنا قولان متكاملان:
القول الأول: الذكر هنا هو القرآن، أتيناهم به. قال ابن عباس:(أي ببيان الحق وذكر ما لهم به حاجة من أمر الدين)، فهم عنه معرضون.
القول الثاني: أي: بل أتيناهم بشرفهم، لأن هذا القرآن كان شرفًا لهم إذ نزل على رجل منهم وخوطبوا به بلغتهم فأعرضوا عنه وكفروا به. قال السدي وسفيان:({بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} أي بما فيه شرفهم وعزّهم). وقال قتادة: (أي بما لهم فيه ذكر ثوابهم وعقابهم).
وقوله: {فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} . أي غافلون مستكبرون.
وقوله: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا} . قال الحسن: (أجرًا). وقال قتادة: (جُعْلًا). وقوله: {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} . أي فرزق ربك خير فلا يستطيع أحد أن يرزق مثل رزقه، أو أن ينعم مثل إنعامه.
قال ابن كثير: (أي: أنت لا تسألهم أجرةً ولا جُعلًا ولا شيئًا على دعوتك إياهم إلى الهدى، بل أنت في ذلك تحتسب عند الله جزيل ثوابه، كما قال:{قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [سبأ: 47]، وقال: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ
الْمُتَكَلِّفِينَ (86)} [ص: 86]، وقال:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]، وقال تعالى:{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 20، 21]).
وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} .
أي: وإنما تدعوهم أنت - يا محمد - إلى صراط الله القويم، الذي فيه النجاة وسعادة الدارين، وإن الذين يكذبون بالآخرة ويوم الحساب لعادلون عن سواء السبيل وجائرون منجرفون. قال الرازي:("نكبَ" - فلان - عن الطريق: عَدَل. وتنكَّب عنه تَنكُّبًا أي مال وعدل). قال ابن عباس: ({عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} يقول: عن الحق لعادلون).
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].
2 -
ومن كنوز صحيح السنة في آفاق هذه الآية أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد في المسند، وأبو داود في السنن، بسند صحيح عن أبي تميمةَ عن رجل من قومه، أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل فقال: أنت رسول الله أو قال: أنت محمد؟ فقال: نعم. قال: فإلامَ تَدْعو؟ قال: [أدعو إلى ربك الذي إن مَسَّكَ ضر فدعوته كشفَ عنكَ، والذي إن أضللت بأرض قفرٍ فدعوته ردَّ عليك، والذي إن أصابتك سنة فدعوته أنبت لك](1).
الحديث الثاني: أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: [قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قال: يا معشر قريش اشتروا أنفسكم
(1) حديث صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود (3442)، وكتابي: السيرة النبوية (1/ 148) لتمام الحديث، ورواه أحمد بلفظ مقارب.
لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبدِ مَنافٍ لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباسُ بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا صفية عمةَ رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنتَ محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئًا] (1).
الحديث الثالث: أخرج الحاكم والترمذي بسند صحيح عن جابر مرفوعًا: [إني رأيت في المنام كأن جبريلَ عند رأسي، وميكائيل عند رجلى، يقول أحدهما لصاحبه: اضربْ له مثلًا، فقال: اسمع سمعت أذُنكَ، واعقِل عقلَ قلبُك، إنما مثلك ومثلُ أمّتك كمثل ملكٍ اتخذ دارًا، ثم بنى فيها بَيْتًا، ثم جعل فيها مائدةً، ثم بعثَ رسولًا يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه، فاللهُ هو الملكُ، والدارُ الإسلامُ، والبيتُ الجنةُ، وأنت يا محمد رسول، مَنْ أجابكَ دخلَ الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجَنَّة، ومن دخل الجَنَّة أكَلَ ما فيها](2).
وقوله تعالى: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
قال ابن جرير: (يقول تعالى: ولو رحمنا هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة، ورفعنا عنهم ما بهم من القحط والجدب، وضرّ الجوع والهزال. {لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ} يعني: في عتوّهم، وجرأتهم على ربهم. {يَعْمَهُونَ} يعني يترددون).
وقال ابن كثير: (يُخبر تعالى عن غلظهم في كُفرهم، بأنه لو أزاح عِلَلَهُم وَأَفْهَمَهُم القرآن لما انقادِوا له، ولَاسْتَمَرُّوا على كُفرهم وطغيانهم، كما قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال: 23، وقال: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام: 27 - 29]، فهذا من باب عِلمه تعالى بما لا يكون، ولو كان كيف كان يكون. قال الضحاك، عن ابن عباس: كل ما فيه "لَوْ" فهو مما لا يكون أبدًا) انتهى.
76 -
83. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4771) - كتاب التفسير، وانظر كذلك (4770) منه.
(2)
حديث صحيح. أخرجه الحاكم (4/ 393)، وأصله عند البخاري. وانظر صحيح الجامع (2461).
تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}.
في هذه الآياتِ: إنزالُ الله المصائب والشدائد في المشركين ليردَّهم ذلك عن الكفر والباطل الذي هم غارقون فيه، وتذكيرهم بنعم الله عليهم في السمع والأبصار والأفئدة لعلهم يشكرون. وتنبيههم إلى عجائب قدرته تعالى في بث الخلق في الأرض والإحياء والإماتة واختلاف الليل والنهار لعلهم يعقلون. ومقابلة المشركين ذلك بالكبر والغرور واتهام قوارع الحق بأنها من أساطير الأولين.
أخرج ابن جرير والنسائي وابن حبان والحاكم بسند صحيح عن ابن عباس قال: [جاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! أنشدك الله والرحم، فقد أكلنا العِلْهزَ - يعني الوبر والدم - فأنزل الله:{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} (1). {فَمَا اسْتَكَانُوا} : أي فما خشعوا. {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} أي: ما لجؤوا إلى ربهم بالاستغفار والدعاء.
والمقصود: ابتلاهم الله بالمصائب والشدائد عسى أن يردهم ذلك عَمَّا هُمْ غارقون فيه من الكفر والضلالة، فما نفعهم ذلك، بل تابعوا في غَيِّهم وضلالهم ومخالفتهم.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)} [الأنعام: 43].
2 -
(1) حديث صحيح. أخرجه النسائي في "التفسير"(372)، وابن حبان (967)، والطبراني (12038) من طرق، وصححه الحاكم (2/ 394)، وأخرجه ابن جرير (65633)، والبيهقي في "الدلائل" (4/ 81) من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس. وانظر:"الصحيح المسند من أسباب النزول" - الوادعي - سورة المؤمنون - آية (76).
وفي الأثر عن عمر: (لا أبالي على أي حال أصبحت أو أمسيت. إن كان الغنى، إنّ فيه للشكو، وإن كان الفقر إن فيه للصّبر).
وقال بعض السلف: (نعمته فيما زوى عني من الدنيا أعظم من نعمته فيما بسط لي منها. إني رأيته أعطاها قومًا فاغتروا).
وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} .
قال القاسمي: (يعني ما نزل بهم من القتال والقتل يوم بدر، أو باب المجاعة والضر. {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} أي حزنى نادمون على ما سلف منهم، في تكذيبهم بآيات الله، في حين لا ينفعهم الندم والحزن).
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} .
قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: والله الذي أحدث لكم أيها المكذبون بالبعث بعد الممات، السمع الذي تسمعون به، والأبصار التي تبصرون بها، والأفئدة التي تفقهون بها، فكيف يتعذر على من أنشأ ذلك ابتداء إعادته بعد عدمه وفقده).
وقوله: {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} . أي: ما أقلّ شكركم لله على ما تفضل به عليكم من نعمة السمع والبصر والفؤاد والعقل وغيرها من النعم التي لا تعد ولا تحصى.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} .
قال النسفي: (خلقكم وبثكم بالتناسل {فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم).
وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} .
أي: وأمر الحياة والموت بيده سبحانه، فيحيي النسم بالإنشاء، ويميتها بالإفناء، وتعاقب الليل والنهار بأمره، في الظلمة والنور، والزيادة والنقصان، كل ذلك إليه وحده لا مصرف له سواه، أفبعد ذلك تنكرون قدرته تعالى على البعث للحساب ومقايضة الأعمال وتصريف الثواب والعقاب؟ !
وقوله تعالى: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} .
إخبار عن تعاقب السنن في الأمم المتتابعة، فقول الآخرين يشبه قول الأولين، فكما لم يعتبر المشركون الأولون بآيات الله ولم يتدبروا حججه البالغة، كذلك مضى
من بعدهم على العناد والتكذيب. يقولون: أئذا متنا وعدنا ترابًا، قد فنيت أجسامنا، وبرأت عظامنا من لحومنا، أئنا لمبعوثون من قبورنا أحياء كما كنا؟ إن هذا لشيء عجيب وما هو بكائن!
وقوله تعالى: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} .
أي: لقد وُعدنا هذا نحن منك، وأَباؤنا من قبل مجيئك - يا محمد - من قوم مثلك زعموا أنهم رسل الله، فلم نر له حقيقة، وما هو إلا من أباطيل الأولين وترّهاتهم.
84 -
90. قوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)}.
في هذه الآياتِ: قوارعُ من الوحي الكريم، في إثبات اقتضاء الإيمان بالربوبية الإيمان بتوحيد الألوهية، فالرب الذي يملك ويجير وبيده ملكوت كل شيء هو الإله الحق المستحق للعبادة والتعظيم، والمشركون هم الكاذبون.
فقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} .
توجيه الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم للأسلوب الأمثل في مواجهة شرك قومه عن طريق إقرارهم لله تعالى بالربوبية، لماذا لم يفردوه سبحانه بالألوهية؟ ! ولماذا لم يوحدوه وينزهوه تعالى في أسمائه وصفاته ومحامده! ؟
فهم مُقِرُّون أَنَّ الأرض ومن فيها لله فقل لهم - يا محمد - {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} . قال النسفي: (فتعلموا أن من فطر الأرض ومن فيها كان قادرًا على إعادة الخلق، وكان حقيقًا بأن لا يشرك به بعض خلقه في الربوبية).
وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} .
قال ابن كثير: (أي: من هو خالقُ العالم العُلْوي بما فيه من الكواكب النيِّرات، والملائكة الخاضعين له في سائر الأقطار منها والجهات، ومَنْ هو ربُّ العرش العظيم؟ يعني الذي هو سَقْفُ المخلوقات. {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ}، أي: إذا كنتم تعترفون بأنه رب السماوات ورب العرش العظيم، أفلا تخافون عِقابَه وتحذرون عذابه في عبادتكم معه غيره وإشراكِكُم به؟ ! ).
قلت: وقد وصف الله تعالى في هذه الآية عرشه بالعرش العظيم لأنه أعظم المخلوقات، ونهاية الخلق، فليس فوقه إلا الله.
قال ابن عباس: (إنما سمّي عرشًا لارتفاعه).
ووصفه في آية أخرى بالعرش الكريم فقال جل ثناؤه في آخر السورة: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} [المؤمنون: 116].
والكريم: أي الحسن البهي، فجمع عرش الرحمن بين العظمة في الاتساع والعلو، والحسن الباهر. والله تعالى قد تعالى فوق العرش وكلِّ ما دونه، كما قال سبحانه في الآية السابقة:{فَتَعَالَى اللَّهُ} . فليس ثمَّ مكانٌ ولا حدودٌ فوق العرش، فإن ذلك كله ينقطع عنده، وما فوقه إلا الله جلت عظمته.
وقد جاءت السنة الصحيحة بآفاق ذلك في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة](1).
الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في الصحيح من حديث أبي ذر - أيضًا - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومًا: أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:
(1) حديث صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة في "كتاب العرش"(1/ 114)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص (290)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (109).
[إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة، فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي
…
] الحديث (1).
الحديث الثالث: أخرج ابن خزيمة بسند صحيح عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: [الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر أحد قدره](2).
قلت: فالكرسي تحت عرش الرحمن وهو موضع قدمي الباري عز وجل، فتبارك الله أحسن الخالقين.
وقوله: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} . قال مجاهد: (خزائن كلّ شيء). فهو سبحانه الملك المتصرف بشؤون خلقه جميعًا لا رادّ لأمره.
قال تعالى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56].
ومن صحيح السنة العطرة في آفاق ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر قال: [كانَتْ يمينُ النبي صلى الله عليه وسلم: لا، ومُقَلِّب القلوب](3).
وفي لفظ: [كثيرًا ما كان النبي يَحْلِفُ: لا، ومُقَلِّبِ القلوب].
الحديث الثاني: خرّج مسلم في الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يقول: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إنَّ قلوبَ بني آدم كلّها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يُصرِّفه حيث يشاء. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم مصرف القلوب! صَرِّف قلوبنا على طاعتك](4).
الحديث الثالث: أخرج أحمد في المسند، ومسلم في الصحيح عن أبي هريرة مرفوعًا:[والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يُذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم](5).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1/ 96). وانظر مختصر صحيح مسلم (2138).
(2)
صحيح موقوف رجاله كلهم ثقات. أخرجه ابن خزيمة في "التوحيد"، وعبد الله بن أحمد في "السنة". انظر مختصر العلو (45/ ص 402) - تحقيق الألباني.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (6628) - كتاب الإيمان والنذور، وكذلك (6617) - في القدر.
(4)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 51)، كتاب القدر، باب تصريف الله القلوب كيف شاء.
(5)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 94)، وأحمد (2/ 308)، وله روايات كثيرة. وانظر للشاهد مسند أحمد (3/ 238)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (1901).
وله شاهد في المسند من حديث أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [والذي نفسي بيده - أو قال: والذي نفس محمد بيدِه - لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض، ثم استغفرتم الله عز وجل، لغَفَرَ لكم، والذي نفس محمد بيده - أو قال: والذي نفسي بيده - لو لم تخطئوا لجاء الله عز وجل بقوم يخطئون ثم يستغفرون الله فيغفر لهم].
وقوله: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
أي: وهو السيد العظيم الذي يحتاج إليه جميع خلقه، فَيَمْنَعُ من يشاء ولا يُمنع منه، وَيُؤمِّنُ مَنْ يشاء، ولا يُؤمَّنُ مَنْ أخافه، إن كنتم - أيها الجاحدون - تعلمون.
أخرج أبو داود وأحمد بسند صحيح عن أبي جري جابر بن سليم قال: [رأيت رجلًا يصدر الناس عن رأيه، لا يقول شيئًا إلا صدروا عنه، قلت: من هذا؟ قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: عليك السلام يا رسول الله، مرتين، قال: لا تقل عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الميت، قل: السلام عليك. قال: قلت: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أنَّا رسول الله الذي إذا أصابك ضرٌّ فدعوته كشفه عنك، وإن أصابك عامُ سنة فدعَوْتَه أنْبَتَها لك، وإن كنت بأرصْ قَفْراء أو فلاة فَضَلَّتْ راحلتك فدعوتَهُ رَدَّها عليك](1).
وقوله تعالى: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} . قال ابن عباس: (يقول: تكذبون). أي: سيعترفون أن السيد العظيم الذي تتجه الخلائق إليه بحاجاتها فيجير من يشاء، ولا يجار عليه، هو الله الواحد الأحد لا شريك له.
فقل لهم يا محمد: فكيف تُصرف عقولكم وتشركون في عبادته. قال القرطبي: (أي فكيف تخدعون وتصرفون عن طاعته وتوحيده. أو كيف يُخَيَّلُ إليكم أن تشركوا به ما لا يضر ولا ينفع! والسحر هو التخييل. وكل هذا احتجاج على العرب المقرّين بالصانع).
وقوله تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} .
قال ابن كثير: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ} ، وهو الإعلام بأنه لا إله إلا الله، وأقمنا الأدلة الصحيحة الواضحة القاطعة على ذلك {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي: في عبادتهم مع الله
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4084) - كتاب اللباس. وانظر صحيح سنن أبي داود (3442).
غيره، ولا دليلَ لهم على ذلك، كما قال في آخر السورة:{وَمَنْ {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)} لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}، فالمشركون لا يفعلون ذلك عن دليل قادهم إلى ما هُم فيه من الإفك والضلال، وإنما يفعلون ذلك اتباعًا لآبائهم وأسلافِهم الحيارَى الجُهَّال، كما قال الله عنهم:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23].
91 -
92. قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)}.
في هذه الآياتِ: نفي الولد والشريك عن الله تعالى، وأنه لو قُدِّر تعدد الآلهة لم ينتظم الوجود، إذ يحاول كل واحد نَظْمَ خلقه وضَبْطَ ملكه، ولا بد من أن يقهر أحدهما الآخر، وسيظهر أثر ذلك في الكون. ولما كان هذا الوجود متسقًا منتظمًا في عالَمَيْه العلوي والسفلي دَلّ ذلك على وحدانية الصانع وأنه الإله الحق الأحد الصمد عالم الغيب والشهادة لا شريك له.
ففي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)} [الأنبياء: 22].
2 -
وقال تعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)} [الملك: 3].
3 -
وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)} [الرعد: 9].
أي: يعلم سبحانه ما يغيب عن مخلوقاته وما يشاهدونه {فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} :
أي تقدس وتنزه سبحانه عما يشرك به الكافرون.
93 -
98. قوله تعالى: {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)}.
في هذه الآياتِ: تعليمُ الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يدعو بنجاته مما هو نازل بالقوم المشركين. وإخباره أن الله تعالى لو شاء لأراه الخزي والنقمة بالمعاندين. وأَمْرُهُ تعالى له بالدفع بالتي هي أحسن والاستعاذة به - جلت عظمته - من همزات الشياطين أو أن يحضرون.
فقوله تعالى: {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .
قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: ربِّ إنْ تُرِيَنِّي في هؤلاء المشركين ما تعدهم من عذابك فلا تهلكني بما تهلكهم به، ونجني من عذابك وسخطك، فلا تجعلني في القوم المشركين ولكن اجعلني ممن رضيت عنه من أوليائك).
وقوله: {فَلَا تَجْعَلْنِي} جواب لقو له: {إِمَّا تُرِيَنِّي} - اعترض بينهما بالنداء.
والخلاصة: هذا دعاء عظيم يحتاج المسلم أن يدعو به ربه تعالى عند حلول النقم، كي يجنّبه سبحانه الفتن، ومصارع السوء والمحن.
وفي السنة العطرة من آفاق ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري في "الأدب المفرد" والترمذي وأحمد، بسند صحيح لشواهده، عن العباس بن عبد المطلب قال: [قلت يا رسول الله علمني شيئًا أسأاله الله عز وجل. قال: سل الله العافية. فمكثت أيامًا، ثم جئت فقلت: يا رسول الله علمني شيئًا أسأله الله. فقال لي: يا عباس يا عم رسول الله! اسألوا الله العافية في الدنيا والآخرة" (1).
الحديث الثاني: أخرج الطبراني والحاكم بسند حسن عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمه العباس:[يا عَمِّ! أكثِر الدعاء بالعافية](2).
الحديث الثالث: أخرج أحمد والترمذي بسند صحيح عن معاذ بن رفاعة قال: قام
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(726)، والترمذي (2/ 266)، وأحمد (1/ 209). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1523).
(2)
حديث حسن. أخرجه الطبراني (11908)، والحاكم (1/ 529)، وانظر المرجع السابق.
أبو بكر الصديق على المنبر، ثم بكى، فقال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الأول على المنبر، ثم بكى فقال:[سلوا اللهَ العَفْوَ والعافيةَ، فإن أحدًا لمْ يُعْطَ بَعْدَ اليقين خيرًا من العافية](1).
الحديث الرابع: أخرج الترمذي بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة - قال: أحْسِبُهُ قال: في المنام - فقال: يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: لا، قال: فوضع يَدَهُ بين كَتِفَيَّ حتى وَجَدْتُ بردها بين ثديي - أو قال: في نَحري - فعلمت ما في السماوات وما في الأرض. قال: يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم في الكفارات، والكفارات: المكث في المسجد بعد الصلاة، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في المكاره، ومن فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه، وقال: يا محمد إذا صليت فقل: اللهم إني أسالك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون" (2).
وقوله تعالى: {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} .
أي: لو شئنا - يا محمد - لأريناك ما سينزل بهم من العذاب والفتن نتيجة عنادهم وإصرارهم على شركهم. قال القرطبي: (نبّه على أن خلاف المعلوم مقدور، وقد أراه الله تعالى ذلك فيهم بالجوع والسيف، ونجّاه الله ومن آمن بهِ من ذلك).
وقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} .
أمر من الله تعالى بالعفو والصفح ومكارم الأخلاق، فهو الترياق النافع في معاملة الناس، وينعكس خيره على العبد بالشيء الكثير.
قال الحسن: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} قال: والله لا يصيبها صاحبها حتى يكظم غيظًا، ويصفح عما يكره).
قلت: وهذا الدافع بالإحسان نافع مع المسلمين عامة، ومع الكفار زمن الدعوة
(1) حديث حسن صحيح. أخرجه الترمذي في السنن (3811) من حديث معاذ بن رفاعة. وكذلك ابن ماجة (3849). انظر صحيح الترمذي (2821)، ورواه أحمد.
(2)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن - حديث رقم - (3463) - أبواب تفسير القرآن، سورة (ص). وانظر صحيح سنن الترمذي - حديث رقم - (2580).
والغربة، فإذا وجب الجهاد وقتال المشركين وجب التنكيل بهم والغلظة عليهم.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)} [فصلت: 34].
2 -
وقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199].
3 -
وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
ومن كنوز السنة العطرة في آفاق هذه الآية أحاديث:
الحديث الأول: أخرج أبو يعلى بسند حسن في الشواهد عن أنس قال: [لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذر فقال: يا أبا ذر! ألا أدلك على خصلتين هما أخف على الظهر، وأثقل في الميزان من غيرهما؟ قال: بلى يا رسول الله قال: عليك بحُسْن الخُلقِ، وطول الصَّمْتِ، فو الذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما](1).
وفي رواية: (ما تَجَمَّلَ الخلائق بِمثلهما).
الحديث الثاني: أخرج البخاري في "خلق أفعال العباد" والحاكم في المستدرك بسند صحيح عن يزيد بن المقدام بن شريح بن هاني عن المقدام عن أبيه عن هاني: [أنه لما وفدَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله أي شيء يوجب الجَنَّة؟ قال: عليك بِحُسْنِ الكلام، وبَذْلِ الطعام](2).
الحديث الثالث: أخرج أبو داود وأحمد بسند صحيح عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أثقل شيء في الميزان الخلق الحسن](3).
وله شاهد عند الترمذي وزاد فيه: [وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة].
(1) حسن لشواهده. إْخرجه أبو يعلى في مسنده (2/ 834) من حديث أنس بن مالك، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1938).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في "خلق أفعال العباد"(ص 79)، والحاكم (1/ 23)، وابن حبان في صحيحه (1937 - 1938).
(3)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2/ 289)، وأحمد (6/ 446)، والترمذي (3/ 146).
وقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)} .
أمر من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة من شياطين الجن؟ لأنهم لا يقبلون رشوة ولا ينفع معهم جميل، بعكس شياطين الإنس فإنه يمكن شراؤهم بحسن الخلق وطيب المعاملة، وهذا منهج قويم يحتاجه المسلمون في حياتهم.
قال ابن زيد: (همزات الشياطين: خَنْقُهم الناس، فذلك همزاتهم. {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)} في شيء من أمري).
والهمزات: جمع هَمْزة، والهَمْزُ هو الغَمْز. قال الرازي:(وهمزات الشياطين خَطَراته التي يُخْطِرُها بقلب الإنسان). وكذلك الهمز: هو النَّخْسُ والدفع. والمقصود: الاستعاذة بالله من نزعات الشياطين الشاغلة عن ذكر الله تعالى، ومن محاولات اقترابه من العبد بمسّ وإيذاء أو سحر.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} [فصلت: 36].
2 -
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)} [الأعراف: 201].
3 -
وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} [النحل: 98].
ومن كنوز السنة في آفاق ذلك أحاديث:
الحديث الأول: يروي الديلمي بسند صحيح عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا تسبوا الشيطان، وتعوذوا بالله من شره](1).
الحديث الثاني: خرّج مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تأكلوا بالشمال، فإن الشيطان يأكل بالشمال](2).
وله شاهد عنده من حديث ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[لا يأكُلَنَّ أحدُكم بشماله ولا يشَربَنَّ بها، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها].
(1) حديث صحيح. رواه الديلمي (4/ 148)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (2422).
(2)
حديث صحيح. رواه مسلم (2019). وانظر للشاهد (2020)(106)، وأخرجه مالك (2/ 922).
الحديث الثالث: خرّج مسلم في الصحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لو أنَّ أحَدَهُمْ، إذا أراد أن يأتي أهله، قال: باسم الله، اللهمَّ جَنِّبْنَا الشيطان، وجَنِّب الشيطان ما رَزَقْتَنا، فإنه، إنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُما ولدٌ في ذلك، لم يَضُرَّه شيطانٌ أبدًا](1).
الحديث الرابع: أخرج أبو داود بسند صحيح عن أبي اليَسَر: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو: [اللهم إني أعوذ بك من الهدم، وأعوذ بك من التردِّي، وأعوذ بك من الغرق، والحوق، والهرم، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك: أنَّ أموت في سبيلك مدبرًا، وأعوذ بك أن أموت لديغًا](2).
99 -
100. قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)}.
في هذه الآياتِ: إخبارٌ من الله جَلَّت عظمته عن حال المحتضر من الكفار وقد أوشك على الرحيل من هذه الدنيا وبلغت الروح الحلقوم، وعاين نزول أمر الله به، فقال - لعظيم ما يعاين مما هو مُقْدم عليه من العذاب - تندمًا على ما فات {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} كي أعمل صالحًا فيما تركت قبل اليوم من العمل وضيعت من العمر، ولكنه لا يجاب إلى ذلك ويمكث في عذاب القبر في البرزخ إلى يوم البعث والحساب.
فقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} .
قال ابن زيد: ({رَبِّ ارْجِعُونِ}: هذه في الحياة الدنيا، ألا تراه يقول: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} قال: حين تنقطع الدنيا، ويعاين الآخرة، قبل أن يذوق الموت).
وقوله: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} .
قال ابن عباس: ({لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا}: يريد شهادة أن لا إله إلا الله).
قال القرطبي: ({فِيمَا تَرَكْتُ} أي فيما ضيَّعت وتركت العمل به من الطاعات. وقيل: {فِيمَا تَرَكْتُ} من المال فأتصدق. و {لعل} تتضمَّنُ ترددًا، وهذا الذي يسأل الرجعة قد
(1) حديث صحيح. رواه مسلم (1434) - كتاب النكاح. باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (1552) - كتاب الصلاة. وانظر صحيح أبي داود (1373).
استيقن العذاب، وهو يوطِّن نفسه على العمل الصالح قطعًا من غير تردد. فالتردد إما يرجع إلى رده إلى الدنيا، وإما إلى التوفيق، أي أعمل صالحًا إن وفقتني، إذ ليس على قطع من وجود القدرة والتوفيق لو رُدَّ إلى الدنيا).
وقوله: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} .
كلا: حرفُ رَدْعٍ وزَجْر، فهي كلمة ردّ، والمقصود بالآية أحد تأويلين:
التأويل الأول: أي ليس الأمر على ما يظنه من أنه يجاب إلى الرجوع إلى الدنيا.
التأويل الثاني: قيل: بل لو أجيب إلى ما يطلب لما وفّى بما يقول، بل غلبه كفره مرّة أخرى.
قلت: وكلا التأويلين محتمل يدل عليه السياق.
فدليل التأويل الأول: قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)} [المنافقون: 10، 11].
ودليل التأويل الثاني: قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)} [الأنعام: 27، 28].
وقوله: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} .
كل حاجز بين شيئين فهو برزخ، قال الجوهري:(البرزخ الحاجز بين الشيئين).
والمقصود هنا بالبرزخ الحياة ما بين الدنيا والآخرة، من وقت خروج الروح إلى وقت البعث للحساب.
قال مجاهد وابن زيد: (البَرْزَخُ ما بين الموت إلى البعث). وقال الضحاك: (ما بين الدنيا والآخرة).
ومن كنوز صرح السنة المطهرة في آفاق ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الترمذي بسند جيد من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا قُبِرَ الميتُ، أو قال أحدُكم، أتاه ملكان، أسودان أزرقان، يُقال لأحدهما: المُنْكرُ، والآخرُ: النكيرُ، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: ما كان يقول: هو عبدُ الله ورسولهُ، أشهدُ أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا عبدهُ ورسولهُ،
فيقولان: قد كنا نعلمُ أنك تقولُ هذا، ثم يُفسَحُ له في قبره سبعون ذراعًا في سبعين، ثم يُنَوَّر له فيه، ثُم يقال له نَمْ، فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهُم؟ فيقولان: نَمْ كنَوْمَةِ العروس الذي لا يوقِظُهُ إلا أحبُّ أهله إليه، حتى يبعثه الله من مَضْجَعِه ذلك. وإن كان منافقًا قال: سمعت الناس يقولون، فقلت: مثله، لا أدري، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول ذلك، فيقال للأرض التئمي عليه، فتلتئِمُ عليه، فتختلف أضلاعُه، فلا يزال فيها معذبًا حتى يبعَثَهُ الله من مضجعِه ذلك] (1).
الحديث الثاني: أخرج الطبراني بسند حسن عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ الموتى ليعذَّبون في قبورهم، حتى إنَّ البهائم لتسمعُ أصواتهم](2).
وله شاهد عند الإمام أحمد من حديث عائشة مرفوعًا: [عذاب القبر حق].
الحديث الثالث: أخرج ابن حبان من حديث أم بشر رضي الله عنها قالت: [دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في حائط من حوائط بني النجار، فيه قبور منهم قد ماتوا في الجاهلية، فسمعهم وهم يعذبون، فخرج وهو يقول: استعيذوا بالله من عذاب القبر، قالت: قلتُ: يا رسول الله! وإنهم ليُعَذَّبونَ في قبورهم؟ قال: نعم عذابًا تسمعُهُ البهائِم](3).
101 -
104. قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)}.
في هذه الآياتِ: انعدامُ الانتفاع بالأنساب والقربى عند النفخ في الصور للقيام لرب العالمين. فمن ثقلت أعماله في الميزان كان من المفلحين، ومن خفت حسناته وثقلت سيئاته كان من الخاسرين، ومأواه إلى نار الجحيم.
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2/ 163)، وابن أبي عاصم في "السنة"(864).
(2)
حديث حسن. أخرجه الطبراني (3/ 78/ 2) بإسناد حسن. وانظر للشاهد مسند أحمد (6/ 174)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (1377).
(3)
حديث صحيح. أخرجه ابن حبان (787)، وأحمد (6/ 362). وانظر المرجع السابق (1444).
فقوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} .
قال ابن عباس: (فذلك حين ينفخ في الصور فلا حي يبقى إلا الله).
والمعنى: إذا نفخ في الصور يوم النشور، وقام الناس من القبور، فيومئذ لا تنفع الأنساب والقربى، ولا يجدي إلا الصدق مع الله في العبادة والامتثال.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)} [عبس: 34 - 37].
2 -
وقال تعالى: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)} [المعارج: 10].
قال النسفي: ({وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا، لأن كلًّا مشغول عن سؤال صاحبه بحاله. ولا تناقض بين هذا وبين قوله: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} فالقيامة مواطن، ففي موطن يشتد عليهم الخوف فلا يتساءلون، وفي موطن يفيقون فيتساءلون).
قلت: وأما نسبه صلى الله عليه وسلم فمتصل يوم القيامة فلا ينقطع كما تنقطع بقية الأنساب، وإنما ينتفع به أهله ما أقاموا منهاج النبوة ولم يحدثوا في الدين. وفي ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الطبراني في "المعجم الكبير" بسند حسن عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا: [كُلُّ سَبَبٍ ونسَبٍ مُنْقَطِع يومَ القيامة، إلا سببي ونَسَبي](1).
الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد بسند جيد عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر: [ما بالُ رجال يقولون: إن رَحِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنفعُ قومه؟ بلى، والله، إنَّ رحمي موصولة في الدنيا والآخرة، وإني - أيها الناس - فَرَطٌ لكم. فإذا جئتم قال رجل: يا رسول الله، أنا فلانُ بن فلان. وقال آخر: أنَّا فلانُ بن فلان. فأقول: أما النسبُ فقد عرفتُ، ولكنكم أحدثتم بعدِي، وارتددتُم القهقرى](2).
(1) حسن لشواهده. أخرجه الطبراني في "الكبير"(3/ 129/ 1)، وانظر السلسلة الصحيحة (2036).
(2)
أخرجه أحمد (3/ 18)، (3/ 39)، (3/ 62)، وأخرجه أبو يعلى (1238)، وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 364): رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح، غير عبد الله بن محمد بن عقيل، وقد وثق. والحديث حسن في الشواهد.
الحديث الثالث: أخرج أبو بكر الشافعي في "الفوائد" والخطيب في "التاريخ" بِسند حسن لغيره عن عقبة بن عامر قال: [خَطَب عمر بن الخطاب إلى علي بن أبي طالب ابنته من فاطمة، وأكثر تردده إليه، فقال: يا أبا الحسن! ما يحملني على كثرة ترددي إليك إلا حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كُلُّ سَبَبٍ ونَسَبٍ مُنْقَطِعٌ يومَ القيامة، إلا سَبَبي ونَسبي". فأحبَبْتُ أن يكون لي منكم أهل البيت سبب وصهر. فقام عليّ فأمر بابنته من فاطمة فَزُيِّتَتْ، ثم بعث بها إلى أمير المؤمنين عمر، فلما رآها قام إليها فأخذ بساقها، وقال: قولي لأبيك: قد رضيت، قد رضيت، فلما جاءت الجارية إلى أبيها قال لها: ما قال لك أمير المؤمنين؟ قالت: دعاني وقبلني، فلما قمت أخذ بساقي، وقال قولي لأبيك قد رضيت، فأنكحها إياه، فولدت له زيد بن عمر بن الخطاب، فعاش حتى كان رجلًا، ثم مات](1).
وقوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
قال ابن عباس: (أي: من رَجَحت حسناته على سيئاته ولو بواحدة {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}: أولئك الذين فازوا بما طلبوا، ونجُوا من شرِّ ما منه هربوا).
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8].
2 -
وقال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)} [الأنبياء: 47].
3 -
وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7، 8].
ومن كنوز السنة العطرة في آفاق هذه الآية أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الحاكم بسند صحيح عن سلمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسعت، فتقول الملائكة:
(1) أخرجه أبو بكر الشافعي في "الفوائد"(73/ 257/ 1)، وابن عدي (6/ 2)، والخطيب في "التاريخ"(6/ 182)، وللحديث شواهد كثيرة ترتقي به للحسن. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (2036) عقب الحديث المذكور.
يا رب لمن يزن هذا؟ فيقول الله تعالى: لمن شئت من خلقي، فتقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك، ويوضع الصراط مثل حد الموسى، فتقول الملائكة: من تجيز على هذا؟ فيقول: من شئت من خلقي، فيقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك] (1).
الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم](2).
الحديث الثالث: خرّج مسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الطهورُ شطرُ الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماوات والأرض](3).
الحديث الرابع: أخرج الإمام أحمد في المسند بإسناد حسن عن ابن مسعود رضي الله عنه: [أنه كان يجني سِواكًا من الأراك وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله: مِمَّ تضحكون؟ قالوا: يا نبي الله من دقة ساقيه، فقال: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد](4).
وقوله تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} .
قال ابن جرير: (يقول: ومن خَفَّت موازين حسناته، فرجَحت بها موازين سيئاته، {فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} يقول: غَبَنوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله {فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} يقول: هم في نار جهنم).
والمقصود: من ثقلت سيئاته في الميزان فرجحت كفتها على كفة حسناته فهؤلاء الذين خابوا وهلكوا وخسروا الصفقة، وهم في جهنم ماكثون مقيمون لا يظعنون.
أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إنه ليأتي الرجل
(1) رواه الحاكم (4/ 586)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (941).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (7563) - كتاب التوحيد، وأخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة - حديث رقم - (2694).
(3)
حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (120).
(4)
حديث حسن. أخرجه أحمد وغيره بسند حسن. انظر تخريج الطحاوية (82) - تحقيق الألباني.
العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرؤوا إن شئتم: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105]] (1).
وقوله تعالى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ.
أي: يسْفعُ وجوههم لهب النار، فتحرقها، فتتقلص الشفاه عن الأسنان في تكشّر وعُبوس.
قال ابن جريجٍ، عن ابن عباس:({تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} قال: تنفح، وَهُمْ فِيهَا {كَالِحُونَ} والكلوحُ: أنَّ تتقلّص الشفتان عن الأسنان، حتى تبدو الأسنان).
وقال علي، عن ابن عباس:({وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} يقول: عابسون).
قلت: وقوله: {كَالِحُونَ} من الكلوح، وهو يجمع في كلام العرب بين التكشر والعبوس.
قال الرازي: (الكلوحُ: تكشُّرٌ في عبوس). والمقصود: حرق الوجوه في نار جهنم يصير أصحابها في حالة مشوهة ومنظر قبيح.
قال القاسمي: (وتخصيص الوجوه لأنَّها أشرف الأعضاء. فبيان حالها أزجر عن المعاصي المؤدية إلى النار).
105 -
111. قوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)}.
في هذه الآياتِ: اعترافُ أهل الشقاء يوم القيامة بشقوتهم وضلالهم وتمنيهم الخروج من النار، فَيُخْرِسُهُم الجبار، وينتصر لأوليائه، ويخزي أعداءه بما كانوا يسخرون. وينجي الذين اتقوا بمفازتهم بما كانوا يعملون ويصبرون.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (و 472) - كتاب التفسير، سورة الكهف، آية (105).
فقوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} . تقريع للطغاة وتوبيخ بعدما وقعوا في شباك جهنم.
قال ابن كثير: (هذا تقريعٌ من الله تعالى لأهل النار وتوبيخ لهم على ما ارتكبوا من الكفر والمآثم والمحارم والعظائم التي أوبقتهم في ذلك، فقال تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} أي: قد أرسلت إليكم الرسل، وأنزلت الكتب، وأزلت شبُهَكم، ولم يبق لكم حجة تُدْلونَ بها كما قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقال تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} [الملك: 8 - 11]).
وقوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} .
فيه أكثر من تأويل:
1 -
قال مجاهد: ({غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا}: التي كتبت علينا).
2 -
قال القرطبي: (غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا، فسمى اللذات والأهواء شقوة، لأنهما يؤدّيان إليها).
3 -
قيل: المقصود حسن الظن بالنفس وسوءُ الظن بالخلق.
قلت: وكلها أقوال متقاربة متكاملة، مفادها أن الطغاة اعترفوا متأخرين بعدما لفحتهم نار جهنم أنهم اختاروا طريق الشقاوة في الحياة الدنيا، فتحاكموا لأهوائهم وشهواتهم ومناهج الضلال وصدّوا عن سبيل الله، فحق عليهم الشقاء الذي كتبه الله عليهم بعلمه وعدله وحكمته.
وقوله تعالى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} .
هو أمل لا تحقيق لهُ، وأمنية لا إجابة لها، فالكفار في جهنم يتمنون الرجعة ويعاهدون ربهم أن لا يعودوا إلى آثامهم وجرائمهم ولكن دون جدوى، فقد فاتهم قطار النجاة، وقضى الله انتهاء الحياة الدنيا، وسيتابعون حياتهم في نار جهنم في نحيب وبكاء.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
2 -
3 -
ومن كنوز السنة العطرة في آفاق هذه الآية أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يقول الله لأهون أهل النار عذابًا يوم القيامة: لو أنَّ لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم. فيقول: أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئًا، فأبيت إلا أن تشرك بي](1).
الحديث الثاني: أخرج الحاكم بسند حسن عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن أهل النار ليَبْكون حتى لو أُجْرِيت السفن في دموعهم جَرَتْ، وإنهم ليبكون الدم](2).
الحديث الثالث: يروي ابن ماجة بسند صحيح عن عبد الله بن قيس قال: كنت عند أبي بردة ذات ليلة. فدخل علينا الحارث بن أقيْشٍ. فحدثنا الحارث ليلتئذ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[إن مِنْ أمتي مَنْ يَدْخُلُ الجنةَ بشفاعتِهِ أكثَرُ مِنْ مُضَرَ. وإن مِنْ أُمَّتي مَنْ يَعْظُمُ للنارِ حتى يكونَ أَحَدَ زواياها](3).
وقوله تعالى: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} . كلام تسكيت وتوبيخ وتحقير، وما هو بكلام تشريف.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (6557)، وانظر مختصر صحيح مسلم (1955).
(2)
حديث صحيح. أخرجه الحاكم (4/ 605)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1679).
(3)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (4323) - في صفة النار، انظر صحيح ابن ماجة (3490).
قال ابن عباس: (هذا قول الرحمن عز وجل، حين انقطع كلامهم منه).
قال النسفي: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا} اسكتوا سكوت ذلة وهوان {وَلَا تُكَلِّمُونِ} في رفع العذاب عنكم، فإنه لا يرفع ولا يخفف). وقال القرطبي:(أي ابْعُدوا في جهنم، كما يقال للكلب اخْسَأ أي ابْعُد).
قال أبو الدرداء: (فعند ذلك يئسوا من كل خير، فيدْعون بالويل والشَّهيق والثبور) - ذكره بسنده ابن جرير.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} .
قال مجاهد: (هُمْ بلال وخَبّاب وصُهَيْب، وفلان وفلان من ضعفاء المسلمين، كان أبو جهل وأصحابه يهزؤون بهم).
وقال ابن زيد: {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} : يسخرون منهم كما سخر قوم نوحٍ بنوح، اتخذوهم سخريًا: اتخذوهم هُزؤًا، لم يزالوا يستهزئون بهم).
والمقصود: انتصار الرحمن عز وجل لأوليائه من أعدائه، فقد كان المجرمون يضحكون في الحياة الدنيا من المؤمنين وتضرعهم ودعائهم وعبادتهم وإخلاصهم في منهاجهم لله تبارك وتعالى.
وفي شرح السنة عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يا أيها الناس! ابكوا فإن لم تستطيعوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون في النار حتى تسيل دموعهم في وجوههم، كأنها جداول، حتى تنقطع الدموع، فتسيل الدماء، فتقرّح العيون، فلو أن سُفُنًا أُزْجِيَتْ (1) فيها لجرت](2).
(1) أي: أرسلت.
(2)
حسن لشواهده. انظر صحيح سنن ابن ماجة (3491)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 767)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (1679).
وقوله: {حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي} . قال ابن كثير: (أي: حَمَلَكُم بغضُهم على أن نسيتم مُعَاملتي).
وقوله: {وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} . أي استهزاء من عبادتهم وحرصهم على إرضاء ربهم.
وقوله تعالى: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)} . انتصار آخر من الله تعالى وبشارة للمؤمنين.
قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: إني أيها المشركون بالله المخَلَّدون في النار، جزيت الذين اتخذتموهم في الدنيا سخريًا من أهل الإيمان بي، وكنتم منهم تضحكون. {الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} على ما كانوا يلقَون بينكم من أذى سخريتكم وضحككم منهم في الدنيا، أنهم هم الفائزون).
والمقصود: هذا يوم ثواب صبر المؤمنين على الأذى في سبيل علو أمر دينهم، وتحديهم للطغاة في إقامة ما أمرهم به ربهم ونالهم بسببه الأذى، فهم اليوم أصحاب الظفر الفائزون بجنات الخلود والنعيم المقيم.
112 -
118. قوله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)}.
في هذه الآياتِ: اعترافُ المشركين يوم الحشر بمكثهم في الحياة الدنيا يومًا أو بعض يوم، وتقريعُ الباري عز وجل لهم بظنهم أنهم إليه لا يرجعون، فتعالى الله الملك الإله الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم، فإنه من يشرك بالله كان من الأشقياء الخاسرين، وأما المؤمنون فإنهم في ابتهال إلى الله ودعاء ورجاء ليكونوا بإذنه تعالى من عباده المرحومين.
فقوله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} .
أي: كم تُلَخِّصون ما أمضيتم في الحياة الدنيا أمام ما تستقبلون من الزمان في الدار الآخرة.
قال القرطبي: (وهذا السؤال للمشركين في عَرَصات القيامة أو في النار).
وقوله: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} .
قال النسفي: (استقصروا مدة لبثهم في الدنيا بالإضافة إلى خلودهم ولما هم فيه من عذابها لأن الممتحن يستطيل أيام محنته ويستقصر ما مرّ عليه من أيام الدعة).
وقوله: {فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} . قال مجاهد: (الملائكة). وقال قتادة: (فاسأل الحُسّاب). أو قال: (فاسأل أهل الحساب). وكلا التأويلين ممكن.
وقوله تعالى: {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
قال ابن كثير: (أي: مُدَّةً يسيرة على كل تقدير {لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، أي: لما آثرتم الفاني على الباقي، ولما تَصَرَّفتم لأنفسكم هذا التصرف السيِّئ ولا استحققتم من الله سُخطَه في تلك المدة اليسيرة، ولو أنكم صبرتم على طاعة الله وعبادته كما فعل المؤمنون لَفُزْتُم كما فَازوا).
والمقصود: سَتُخْتَزَلُ الحياة الدنيا بجميع أفراحها وآلامها في بعض يوم من أيام الحياة الآخرة، وسيعلم الكافرون ضخامة الجُرم الذي صنعوه إذ خسروا الصفقة وضيعوا العمر بالكفر والشهوات، فأورثهم ذلك شقاء سرمديًا يوم القيامة.
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يُوْتى بِأَنْعَمِ أهل الدنيا، مِنْ أهلِ النار، يومَ القيامة، فَيُصْبَغُ في النار صَبْغَةً، ثم يُقال: يا ابن آدم! هل رأيت خيرًا قط؟ هل مَرَّ بكَ نعيمٌ قطُ؟ فيقول: لا، والله! يا ربِّ! وَيُؤتى بأشَدِّ الناس بُؤْسًا في الدنيا، مِنْ أهل الجَنَّةِ، فَيُصبَغُ صَبْغَة في الجَنَّة، فيقال له: يا ابن آدَمَ! هَلْ رأيْتَ بُؤسًا قَطُّ؟ هل مَرَّ بكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فيقولُ: لا، والله! يا رب! ما مَرَّ بي بُؤْسٌ قَطُّ، ولا رأيتُ شِدَّةً قطُّ](1).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2807) - كتاب صفات المنافقين، باب صبغ أنعم أهل الدنيا في النار، وصبغ أشدهم بؤسًا في الجَنَّة.
وقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} .
قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: أفحسبتم أيها الأشقياء أنا إنما خلقناكم إذ خلقناكم لعبًا وباطلًا، وأنكم إلى ربكم بعد مماتكم لا تصيرون أحياء، فتجزون بما كنتم في الدنيا تعملون؟ ).
وقوله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} .
أي: فتنزَه الله الملك الحق وتقدس عما ينسب إليه المشركون من الأولاد والشركاء والأنداد، وعن أن يخلق عباده عبثًا أو سفهًا، بل هو الحكيم لا معبود بحق سواه رب العرش الكريم.
قال ابن كثير: (فذكر العرش لأنه سقفُ جميع المخلوقات، ووصفه بأنه كريمٌ، أي: حَسَنُ المنظر بَهيُّ الشكل، كما قال تعالى:{فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [لقمان: 10].
قال مجاهد: ({لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} قال: بينة). أو قال: (حجة).
والمقصود: من يدع مع الله الذي لا تصلح العبادة إلا له معبودًا آخر لا حجة له بذلك، فإنما يوفى حساب عمله السَّيِّئ عند ربه الأحد الصمد الذي أشرك به، ومن ثمَّ فلا فلاح للكافرين لا في الدنيا ولا في الآخرة.
قال الرازي: (نبّه تعالى بالآية، على أن كل ما لا برهان فيه، لا يجوز إثباته، وذلك يوجب صحة النظر وفساد التقليد).
وفي سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي تميمة عن رجل من قومه، أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل فقال: أنت رسول الله أو قال: أنت محمد؟ فقال: نعم. قال: فإلامَ تدعو؟ قال: [أدعو إلى ربكَ الذي إن مَسَّكَ ضرّ فدعوته كشَفَ عنك، والذي إن أضللت بأرض قفرٍ فدعوته رَدَّ عليك، والذي إن أصابتك سنة فدعوته أنبت لك](1).
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (4084). انظر صحيح سنن أبي داود (3442)، وصحيح الجامع الصغير (242)، ورواه أحمد.
وقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} .
أمر من الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم بالابتهال إليه ودعائه واستغفاره والثناء عليه، فإنه تعالى خير من رحم ذا ذنب، وخير من عفا، وخير من فرّج الكروب والمحن والمصائب، ومِنْ ثَمَّ فأمته صلى الله عليه وسلم محتاجة إلى هذا الخطاب من باب أولى.
فبالاستغفار يبسط الله تعالى لعباده السرور والنعم.
قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)} [نوح: 10 - 12].
أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرّة](1).
وفي صحيح مسلم عن الأغَرِّ بنِ يَسَار المزَنِيِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يا أيها الناس! توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم مئة مرّة](2).
وفي لفظ: [إنه لَيُغَانُ على قلبي، وإني أستغفر الله في اليوم مئة مرّة].
والغَيْنُ: هو ما يتغشى القلب من الغفلات.
والله نسأل مغفرة الذنوب والزلات، والنجاة يوم الحسرات، إنه تعالى بالمؤمنين رؤوف رحيم.
تم تفسير سورة "المؤمنون" بعون الله وتوفيقه، وواسع منِّه وكرمه
* * *
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (11/ 85)، وأخرجه الترمذي (3255).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (2702)(42) - كتاب الذكر والدعاء، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه. وانظر للفظ بعده (2702)(41) من الباب نفسه.