الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا بعض فوائد هذا اللون، والحكمةُ فيه أضعافُ ذلك.
فصل
(1)
ثمَّ
تأمَّل حالَ الشمس والقمر في طلوعهما وغروبهما
لإقامة دولتَيْ الليل والنَّهار، ولولا طلوعُهما لبطَل أمرُ العالم، وكيف كان النَّاسُ يسعَون في معايشهم
(2)
، ويتصرَّفون في أمورهم، والدُّنيا مظلمةٌ عليهم؟! وكيف كانوا يتهنَّون
(3)
بالعَيش مع فقد النُّور؟!
ثمَّ تأمَّل الحكمة في غروبها؛ فإنه لولا غروبها لم يكن للنَّاس هدوءٌ ولا قرار، مع فرطِ الحاجة إلى السُّبات، وجموم الحواسِّ
(4)
، وانبعاث القُوى الباطنة وظهور سلطانها في النَّوم المُعِين
(5)
على هضم الطَّعام
(6)
وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء.
ثمَّ لولا الغروبُ لكانت الأرض تَحْمى بدوام شروق الشمس واتصال طلوعها، حتى يحترق كلُّ ما عليها من حيوانٍ ونبات.
فصارت تطلعُ وقتًا، بمنزلة السِّراج يُرْفَعُ لأهل البيت ليقضوا حوائجَهم،
(1)
«الدلائل والاعتبار» (4)، «توحيد المفضل» (79).
(2)
(د، ق، ن): «معاشهم» . (ت): «أمر معاشهم» .
(3)
(د): «يتهنؤون» . (ح): «يهتنون» .
(4)
كذا في الأصول و (ر، ض). والجَمام: الراحة. واستعمال «الجموم» لهذا المعنى وقع كذلك في «الصواعق» (1570)، و «أيمان القرآن» (256)، و «منهاج البلغاء» لحازم (293، 321).
(5)
(د، ق، ن): «المعينة» .
(6)
(ر، ض): «وانبعاث القوة الهاضمة لهضم الطعام» .
ثمَّ تغيبُ
(1)
عنهم مثلَ ذلك ليَقِرُّوا ويهدؤوا، وصار ضياءُ النَّهار مع ظلام الليل، وحرُّ هذا مع بَرد هذا، مع تضادِّهما، متعاونَين
(2)
متظاهِرَين، بهما تمامُ مصالح العالَم.
وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى ونبَّه عبادَه عليه بقوله عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [القصص: 71 - 72].
وخصَّ سبحانه النَّهارَ بذكر البصر؛ لأنه محلُّه، وفيه سلطانُ البصر وتصرُّفُه.
وخصَّ الليلَ بذكر السَّمع لأنَّ سلطانَ السَّمع يكونُ بالليل، وتُسْمَعُ
(3)
فيه الحيواناتُ ما لا تُسْمَعُ
(4)
في النَّهار؛ لأنه وقتُ هدوء الأصوات، وخمود الحركات، وقوَّة سلطان السمع، وضعف سلطان البصر.
والنَّهارُ بالعكس؛ فيه قوَّة سلطان البصر، وضعفُ سلطان السمع.
فقولُه: {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} راجعٌ إلى قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ} به، وقوله: {أَفَلَا
(1)
(ر، ض): «يغيب» .
(2)
(ض): «منقادين» .
(3)
(ح، ن): «ويسمع» .
(4)
(ق، ح، ن): «يسمع» .
تُبْصِرُونَ} راجعٌ إلى قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} .
وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 61 - 62]، فذكر تعالى خلقَ الليل والنَّهار، وأنهما خِلْفَة، أي: يَخْلُفُ أحدُهما الآخرَ لا يجتمعُ معه، ولو اجتمع معه لفاتت المصلحةُ بتعاقُبهما واختلافهما.
وهذا هو المرادُ باختلاف الليل والنَّهار؛ كونُ كلِّ واحدٍ منهما يخلُف الآخرَ لا يجامعُه ولا يحايِثُه
(1)
، بل يغشى أحدُهما صاحبَه فيطلُبه حثيثًا حتى يزيلَه عن سلطانه، ثمَّ يجيء الآخرُ عَقِيبَه فيطلُبه حثيثًا حتى يهزمه ويزيله عن سلطانه، فهما يتطالبان ولا يُدرِكُ أحدُهما صاحبَه.
فصل
(2)
ثمَّ تأمَّل بعد ذلك أحوالَ هذه الشمس في انخفاضها وارتفاعها لإقامة هذه الأزمنة والفصول
(3)
، وما فيها من المصالح والحِكَم؛ إذ لو كان الزَّمانُ كلُّه فصلًا واحدًا لفاتت مصالحُ
(4)
الفصول الباقية فيه؛ فلو كان صيفًا كلُّه
(1)
أي: يداخله ويجامعه. انظر: «مجموع الفتاوى» (5/ 269). مشتقةٌ من «حيث» الدالة على المكان. وفي (ت، ن): «يجانبه» .
(2)
«الدلائل والاعتبار» (4)، «توحيد المفضل» (80).
(3)
(ر، ض): «ارتفاع الشمس وانحطاطها لإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة» .
(4)
(ن): «لفاتت منافع مصالح» .
لفاتت مصالحُ الشتاء، ولو كان شتاءً لفاتت منافعُ الصَّيف، وكذلك لو كان ربيعًا كلُّه، أو خريفًا كلُّه.
ففي الشتاء تغُورُ الحرارةُ في الأجواف وبُطون الأرض والجبال
(1)
؛ فتتولَّدُ موادُّ الثِّمار وغيرُها، وتَبْرُد الظَّواهرُ ويَسْتكثِفُ الهواءُ فيه؛ فيحصلُ السَّحابُ والمطرُ والثَّلجُ والبَرَدُ الذي به حياةُ الأرض وأهلها، واشتدادُ أبدان الحيوان وقوَّتها، وتَزايُد القُوى الطَّبيعيَّة، واستخلافُ ما حلَّله حرارةُ الصَّيف من الأبدان.
وفي الرَّبيع تتحرَّكُ الطَّبائع، وتَظهرُ الموادُّ المتولِّدةُ في الشتاء؛ فيظهرُ النَّبات، ويَتنوَّرُ
(2)
الشَّجرُ بالزَّهر، ويتحرَّكُ الحيوانُ للتَّناسُل.
وفي الصَّيف يحتدمُ
(3)
الهواءُ ويسخُن جدًّا؛ فتنضجُ الثِّمار، وتَنْحَلُّ
(4)
فضلاتُ الأبدان والأخلاطُ التي انعقَدت في الشتاء، وتغُورُ البرودةُ وتهربُ إلى الأجواف؛ ولهذا تبرُد العيونُ والآبار، ولا تهضِمُ المعدةُ الطَّعامَ التي كانت تهضمُه في الشتاء من الأطعمة الغليظة
(5)
؛ لأنها كانت تهضمُها بالحرارة التي سكنَت في البطون، فلمَّا جاء الصَّيفُ خرجت الحرارةُ إلى ظاهر الجسد، وغارَت البرودةُ فيه.
فإذا جاء الخريفُ اعتدل الزَّمان، وصفا الهواءُ وبَرَد؛ فانكسَر ذلك
(1)
(ض): «تعود الحرارة في الشجر والنبات» .
(2)
(د، ق، ت): «ويتزرر» . (ض): «وتنور» .
(3)
في الأصول: «يحتد» . والمثبت من (ر، ض) أشبه. وسيأتي (ص: 639).
(4)
(ر، ض): «وتتحلل» .
(5)
(د، ق، ت): «المغلظة» .