المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تأمل أولاد(3)ذوات الأربع - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ تأمل أولاد(3)ذوات الأربع

وأوقَفَها عند ظاهرٍ من العلم بالحياة الدُّنيا وهم عن الآخرة هم غافلون؛ لدناءتها وخِسَّتها وحقارتها وعدم أهليَّتها لمعرفته ومعرفة أسمائه وصفاته وأسرار دينه وشرعه، والفضلُ بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

وهذا بابٌ لا يطَّلعُ الخلقُ منه على ما له نسبةٌ إلى الخافي عنهم منه أبدًا، بل علمُ الأوَّلين والآخرين منه كنقرة العصفور من البحر، ومع هذا فليس ذلك بمُوجِبٍ للإعراض عنه واليأس منه، بل يستدلُّ العاقلُ بما ظهر له منه على

(1)

ما وراءه.

فصل

(2)

ثمَّ‌

‌ تأمَّل أولاد

(3)

ذواتِ الأربع

من الحيوان، كيف تراها تتبعُ أمَّهاتها مستقلَّةً بأنفُسها، فلا تحتاجُ إلى الحمل والتَّربية كما يحتاجُ إليه أولادُ الإنس، فمن أجلِ

(4)

أنه ليس عند أمَّهاتها ما عند أمَّهاتِ البَشَر من التَّربية والمُلاطفة والرِّفق والآلات المتَّصلة والمنفصلة

(5)

= أعطاها اللطيفُ الخبيرُ النُّهوض والاستقلالَ بأنفسها، على قُرب العهد بالولادة.

(1)

(ن): «علم» .

(2)

«الدلائل والاعتبار» (27)، «توحيد المفضل» (54 - 55).

(3)

(ح): «أولي» . وفي باقي الأصول: «أولا» ، وضبطت بالتنوين في (د). والمثبت أقوم. وانظر:«الحيوان» (2/ 333). وتأمل اللحاق. والعبارة في (ض): «انظر الآن إلى ذوات الأربع» . وفي (ر): «انظر إلى أولاد ذوات الأربع» .

(4)

(ق): «فمن أجل ذلك» .

(5)

(ر): «الترفق والعلم والتربية والقوة عليها بالأكف والأصابع المهيأة لذلك» .

ص: 671

ولذلك

(1)

ترى فِراخَ كثيرٍ من الطَّير ــ كالدَّجاج، والدُّرَّاج، والقَبَج

(2)

ــ يَدْرُجُ ويَلْقُطُ حين يخرجُ من البيضة

(3)

.

وما كان منها ضعيفَ النُّهوض ــ كفِراخ الحمَام واليَمَام ــ أعطى سبحانه أمَّهاتها من فضل العطف

(4)

والشَّفقة والحنان ما تَمُجُّ به الطُّعْمَ في أفواه الفِراخ من حَواصِلها؛ فتَخْبَؤه في أعزِّ مكانٍ منها، ثمَّ تَسُوقُه من فِيها إلى أفواه الفِراخ، ولا يزالُ بها كذلك

(5)

حتى ينهض الفرخُ ويستقلَّ بنفسه، وذلك كلُّه من حظِّها وقَسْمِها الذي وَصَلَ إليها من الرَّحمة الواحدة من المئة

(6)

.

فإذا استقلَّ بنفسه وأمْكَنه الطَّيرانُ لم يَزَل به الأبوان يعالجانه أتمَّ معالجةٍ وألطفَها حتى يطيرَ من وَكْرِه، ويسترزق لنفسه، ويأكل من حيثُ يأكلان، وكأنهما لم يعرفاهُ ولا عرفهما قطُّ

(7)

، بل يطردانه عن الوَكْر ولا يدعانه وأقواتَهما وبيتَهما، بل يقولان له بلسانٍ يَفْهَمُه: اتَّخِذ لك وَكْرًا وقُوتًا، فلا وَكْر لك عندنا ولا قُوت!

فسَلِ المعطِّل: أهذا كلُّه عن إهمال؟! ومن الذي ألهمها ذلك؟! ومن الذي عَطَّفها على الفِراخ وهي صغارٌ أحوجَ ما كانت إليها، ثمَّ سَلَبَ ذلك

(1)

(ح، ت، ن، ض): «وكذلك» .

(2)

الدُّرَّاج: ضربٌ من الطير على خِلْقة القَطا إلا أنه ألطف. والقبج: الحَجَل. «اللسان» . وسقط من (ح، ن): «والقبج» .

(3)

(ر): «حين ينقات عنها البيض» . (ض): «حين تنقاب عنها البيضة» .

(4)

(ن، ح): «من فضله العطف» .

(5)

(ت): «ولا يزال بها ذلك» .

(6)

كما في حديث أبي هريرة عند البخاري (6000)، ومسلم (2752).

(7)

(ت): «لم يعرفانها ولا عرفاه قط» .

ص: 672

عنها إذا استغنت الفراخ؛ رحمةً بالأمَّهات؛ لتسعى

(1)

في مصالحها، إذ لو دام لها ذلك لأضرَّ بها وشَغَلها عن معاشها، لا سيَّما مع كثرة ما يحتاجُ إليه أولادُها من الغذاء؛ فوضع فيها الرَّحمة والإيثار والحنان رحمةً بالفراخ، وسَلَبَها إياها عند استغنائها رحمةً بالأمَّهات؟!

أفيجوزُ أن يكون هذا كلُّه بلا تدبيرِ مدبِّرٍ حكيم، ولا عنايةٍ ولا لُطفٍ منه سبحانه وتعالى؟!

لقد قامت أدلَّةُ ربوبيَّته، وبراهينُ ألوهيَّته، وشواهدُ حكمته، وآياتُ قدرته، فلا يستطيعُ العقلُ لها جحودًا

(2)

، إنْ هي إلا مكابرةُ اللسان من كلِّ جَحُودٍ كفور؛ {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10]، وإنما يكونُ الشكُّ فيما تخفى أدلَّتُه وتُشْكِلُ براهينُه، فأما من له في كلِّ شيءٍ محسوسٍ أو معقولٍ آيةٌ بل آياتٌ مؤدِّيةٌ عنه

(3)

، شاهدةٌ له بأنه الله الذي لا إله إلا هو ربُّ العالمين؛ فكيف يكونُ فيه شكٌّ؟!

فصل

(4)

ثمَّ تأمَّل الحكمةَ البالغة في قوائم الحيوان؛ كيف اقتضت أن تكون زوجًا لا فردًا، إمَّا اثنتين وإمَّا أربعًا؛ ليتهيَّأ له المشيُ والسَّعيُ، وتتمَّ بذلك مصلحتُه؛ إذ لو كانت فردًا

(5)

لم يصلُح لذلك؛ لأنَّ الماشي ينقلُ بعض

(1)

(ق، ح، ت، د): «تسعى» .

(2)

(ت): «بها جحودا» .

(3)

(ح، ن): «عنها» .

(4)

«الدلائل والاعتبار» (27 - 28)، «توحيد المفضل» (55).

(5)

(ح، ن): «لو كان ذلك فردا» .

ص: 673

قوائمه

(1)

ويعتمدُ على بعض، فذو القائمتين ينقلُ واحدةً ويعتمدُ على الأخرى، وذو الأربع ينقلُ اثنتين ويعتمدُ على اثنتين، وذلك مِنْ خلافٍ؛ لأنه لو كان ينقلُ قائمتين من جانبٍ ويعتمدُ على قائمتين من الجانب الآخر لم يثبُت على الأرض حال نقله قوائمَه، ولكان مشيُه نَقْزًا كنَقْز الطَّائر

(2)

، وذلك مما يؤذيه ويتعبُه؛ لثِقَل بدنه، بخلاف الطَّائر، ولهذا إذا مشى الإنسانُ كذلك قليلًا أجهَده وشَقَّ عليه، بخلاف مشيه الطبيعيِّ الذي هُيِّئ له

(3)

.

فاقتضت الحكمةُ تقديمَ نقل اليمنى من يديه مع اليسرى من رجليه، وإقرارَ يسرى اليدين ويمنى الرِّجلين، ثمَّ نَقْلَ الأخريَيْن

(4)

كذلك، وهذا أسهلُ ما يكونُ من المشي وأخفُّه على الحيوان.

فصل

(5)

ثمَّ تأمَّل الحكمةَ البالغة في أن جَعَل ظهورَ الدَّوابِّ مسطَّحةً

(6)

كأنها سقفٌ على عَمَد القوائم؛ ليتهيَّأ ركوبها وتستقرَّ الحمولةُ عليها، ثمَّ خُولِفَ هذا في الإبل فجَعَل ظهورَها مسنَّمةً معقودةً كالقَبْو

(7)

؛ لِمَا خُصَّت به من فضل القوَّة وعِظَم ما تحملُه، والأقْباءُ تحملُ أكثر مما تحملُ السُّقوف، حتى

(1)

(ح، ن): «ينتقل ببعض قوائمه» . تحريف.

(2)

(ح، ق، ن، ت): «نقرا كنقر الطائر» ، بالمهملة. وهو خطأ.

(3)

(ح): «عني له» . (ن): «يعنى له» .

(4)

(ت): «الأخيرتين» .

(5)

«الدلائل والاعتبار» (29)، «توحيد المفضل» (58).

(6)

(ح): «متسطحة» .

(7)

وهو الطاقُ المعقود بعضُه إلى بعض في شكل قوس. «المعجم الوسيط» .

ص: 674

قيل: إنَّ عَقْدَ الأقباء إنما أُخِذ من ظهور الإبل.

وتأمَّل كيف لمَّا طوَّل قوائمَ البعير طوَّل عنقَه؛ ليتناول المرعى من قيام، فلو قَصُرَت عنقُه لم يمكنه ذلك مع طول قوائمه، وليكون أيضًا طولُ عنقه موازِنًا

(1)

للحِمْل على ظهره إذا استقلَّ به، كما ترى طولَ قَصَبة القَبَّان

(2)

، حتى قيل: إنَّ القَبَّان إنما عُمِل على

(3)

خِلْقة الجَمَل من طول عنقه وثِقَل ما يحملُه، ولهذا تراه يَمُدُّ عنقَه إذا استقلَّ بالحِمْل كأنه يوازنُه موازنة.

فصل

(4)

ثمَّ تأمَّل الحكمةَ في كون فَرْج الدَّابَّة جُعِل بارزًا من ورائها؛ ليتمكَّن الفحلُ من ضِرابها، ولو جُعِل في أسفل بطنها كما جُعِل للمرأة لم يتمكَّن الفحلُ من ضِرابها إلا على الوجه الذي تُجامَعُ به المرأة

(5)

.

وقد ذُكِر في كتب الحيوان أنَّ فرجَ الفِيلَة في أسفل بطنِها، فإذا كان وقتُ الضِّراب

(6)

ارتفعَ ونَشَزَ وبَرَز للفحل، فيتمكَّن من ضِرابها

(7)

، فلمَّا جُعِل في الفِيلَة على خلاف ما هو في سائر البهائم خُصَّت بهذه الخاصَّة

(8)

عنها

(1)

(ن، ح): «موازيا» .

(2)

وهو الميزان ذو الذراع الطويلة. كلمةٌ معرَّبة. «اللسان» ، و «المعجم الوسيط» .

(3)

(ق، ن، د): «من» .

(4)

«الدلائل والاعتبار» (29)، «توحيد المفضل» (58، 59).

(5)

(ح، ن): «تجامع المرأة» .

(6)

(ت): «فإذا كان في وقت الجماع في الضراب» .

(7)

انظر: «حياة الحيوان» (3/ 430).

(8)

(ح، ت): «الخاصية» .

ص: 675

ليتهيَّأ الأمرُ الذي به دوامُ النَّسل.

فصل

(1)

ثمَّ تأمَّل كيف كُسِيَت أجسامُ الحيوان البهيميِّ هذه الكسوةَ من الشَّعر والوَبَر والصُّوف، وكُسِيَت الطُّيورُ الرِّيش، وكُسِيَ بعضُ الدَّاوبِّ من الجلد ما هو في غاية الصَّلابة والقوَّة، كالسُّلَحْفاة، وبعضُها من الرِّيش ما هو كالأسنَّة، كلُّ ذلك بحسب حاجتها إلى الوقاية من الحرِّ والبرد والعدوِّ الذي يريدُ أذاها.

فإنها لما لم يكن لها سبيلٌ إلى اتِّخاذ الملابس واصطناع الكسوة وآلات الحرب، أُعِينَت بملابسَ وكسوةٍ لا تفارقُها، وآلاتٍ وأسلحةٍ تَدْفَعُ بها عن نفسها

(2)

.

وأُعِينَت بأظلافٍ وأخفافٍ وحوافرَ لمَّا عَدِمَت الأحذيةَ والنِّعال، فمعها حذاؤها وسِقاؤها، وخُصَّ الفرسُ والبغلُ والحمارُ بالحوافر لمَّا خُلِقَ للرَّكض والشَّدِّ والجري، وجُعِل لها ذلك أيضًا سلاحًا عند انتصافها من خصمها عِوَضًا من الصَّياصي

(3)

والمخالب والأنياب والبَراثِن.

فتأمَّل هذا الُّلطفَ والحكمة، فإنها لما كانت بهائمَ خُرْسًا لا عقول لها، ولا أكفَّ ولا أصابعَ مهيَّأةً للانتفاع والدِّفاع، ولا حظَّ لها فيما يتصرَّفُ فيه الآدميُّون من النَّسج والغَزْل ولُطف الحيلة= جُعِلَت كسوتُها من خِلْقَتِها باقيةً

(1)

«الدلائل والاعتبار» (29 - 30)، «توحيد المفضل» (61 - 62).

(2)

(ح، ن): «تدفع عن نفسها» .

(3)

وهي القُرون. كما تقدَّم.

ص: 676

عليها ما بَقِيَت لا تحتاجُ إلى الاستبدال بها، وأُعطِيَت آلةً وأسلحةً تحفظُ بها أنفسَها، كلُّ ذلك لتتمَّ الحكمةُ التي أُريدت بها

(1)

ومنها.

وأمَّا الإنسانُ فإنه ذو حيلةٍ وكفٍّ مهيَّأةٍ للعمل؛ فهي تغزلُ وتنسجُ

(2)

، ويتَّخذُ لنفسه الكسوةَ ويستبدلُ بها حالًا بعد حال، وله في ذلك صلاحٌ من جهاتٍ عديدة

(3)

:

منها: أن يستريحَ إذا خَلَع كسوتَه إذا شاء ويلبسها إذا شاء، ليس كالمضطرِّ إلى حمل كسوة.

ومنها: أنه يتَّخذُ لنفسه ضروبًا من الكسوة للصَّيف وضروبًا للشتاء؛ فإنَّ كسوة الصَّيف لا تليقُ بالشتاء وكسوةَ الشتاء لا تليقُ بالصَّيف، فيتَّخذُ لنفسه في كلِّ فصلٍ كسوةً تناسبُه

(4)

.

ومنها: أنه يجعلُها تابعةً لشهوته وإرادته.

ومنها: أنه يتلذَّذُ بأنواع الملابس كما يتلذَّذُ بأنواع المَطاعِم، فجُعِلَت كسوتُه متنوِّعةً تابعةً لاختياره كما جُعِلَت مطاعمُه كذلك، فهو يكتسي ما شاء من أنواع الملابس المتَّخَذة من النبات

(5)

تارةً كالقُطن والكَتَّان، ومن

(1)

(ق، ت، د): «لها» .

(2)

(ض): «فهو يغزل وينسج» .

(3)

أول تلك الجهات في (ر، ض): «من ذلك: أنه يشتغل بصنعة اللباس عن العبث وما تخرجه إليه الكفاية» . وقد وردت هذه الحكمة في مواضع وسياقات أخرى من كتاب «الدلائل» ، ولا أدري لِمَ أسقطها ابن القيم من جميعها.

(4)

(ن، ح): «كسوة موافقة» .

(5)

في الأصول: «الثياب» . تحريف.

ص: 677

الحيوان تارةً كالوَبَر والصُّوف والشَّعَر، ومن الدُّود تارةً كالحرير والإبرِيسَم

(1)

، ومن المعادن تارةً كالذَّهب والفضَّة، فجُعِلَت كسوتُه متنوِّعةً لتتمَّ لذَّتُه وسرورُه وابتهاجُه وزينتُه بها

(2)

.

وكذلك

(3)

كانت كسوةُ أهل الجنَّة منفصلةً عنهم، كما هي في الدُّنيا، ليست مخلوقةً من أجسامهم كالحيوان، فدلَّ على أنَّ ذلك أكملُ وأجلُّ وأبلغُ في النِّعمة.

ومنها: إرادةُ تمييزه عن الحيوان في ملبسه كما مُيِّز عنه في مطعمه ومسكنه وبيانه وعقله وفهمه.

ومنها: اختلافُ الكسوة واللباس وتبايُنه بحسب تبايُن أحواله وصنائعه، وحربه وسِلْمه، وظَعْنه وإقامته، وصحَّته ومرضه، ونومه ويقظته، ورفاهيَّته

(4)

، فلكلِّ حالٍ من هذه الأحوالِ لباسٌ وكسوةٌ تخصُّها لا تليقُ إلا بها، فلم يجعل كسوتَه في هذه الأحوال كلِّها واحدةً لا سبيل إلى الاستبدال بها؛ فهذا من تكريمه وتفضيله على سائر الحيوان.

فصل

(5)

ثمَّ تأمَّل خَلَّةً

(6)

عجيبةً جُعِلَت للبهائم والوحوش والسباع والدَّوابِّ،

(1)

وهو أحسن الحرير. معرَّبة.

(2)

(ن): «بهذا» . وسقطت من (ت).

(3)

(د، ق، ن): «ولذلك» .

(4)

(ت): «ورفاهته» .

(5)

«الدلائل والاعتبار» (30)، «توحيد المفضل» (62 - 63).

(6)

(ح، ن): «حكمة» . (ر، ض): «خلقة» ، خطأ.

ص: 678

على كثرتها، لا يُرى منها شيءٌ

(1)

، وليست شيئًا قليلًا فتخفى لقلَّتها، بل قد قيل: إنها أكثرُ من النَّاس.

واعتَبِر ذلك بما تراه في هذه الصَّحاري من أسراب الظِّباء والبقر والوُعول، والذِّئاب والنُّمور، وضُروب الهوامِّ على اختلافها، وسائر دوابِّ الأرض، وأنواع الطُّيور، التي هي أضعافُ أضعاف بني آدم؛ لا تكادُ ترى منها شيئًا ميتًا، لا في كِناسِه

(2)

، ولا في أوكاره، ولا في مَسَاقِطه ومَراعِيه وطُرقه ومَوارده ومَناهِله ومَعاقِله ومَعاصِمه؛ إلا ما عدا عليه عادٍ؛ إمَّا افتَرسه سَبُعٌ أو رماه صائدٌ أو عدا عليه عادٍ أشغلَه وأشغلَ بني جنسه عن إحراز جسمه وإخفاء جيفته.

فدلَّ ذلك على أنها إذا أحسَّت بالموت، ولم تُغْلَب على أنفُسها، كَمَنَت

(3)

حيثُ لا يوصَلُ إلى أجسامها، وقَبَرت جِيفَها قبل نزول البَيْن بها، ولولا ذلك لامتلأت الصَّحاري بجِيَفها وأفسدت الهواءَ بروائحها، فعاد ضررُ ذلك بالنَّاس، وكان سبيلًا إلى وقوع الوباء.

وقد دلَّ على هذا قولُه تعالى في قصَّة ابنَي آدم: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31].

وأما ما جُعِل عَيشُه بين النَّاس، كالأنعام والدَّوابِّ؛ فلقُدرة الإنسان على

(1)

أي: ميتًا، إلا في أحوالٍ قليلة، كما سيأتي. وفي السياق هاهنا اختصارٌ مخل، والنص في (ر، ض): «

فإنها تواري أنفسها كما يواري الناسُ موتاهم، وإلا فأين جيف هذه الوحوش والسباع وغيرها لا يرى منها شيء؟!

».

(2)

وهو الموضعُ الذي يأوي إليه الظبيُ؛ ليستكنَّ به ويستتر. «اللسان» (كنس).

(3)

(ن، ح): «مكثت» . (ض): «كمنوا» .

ص: 679

نقله، واحتياله في دفع أذيَّته، مُنِع مما جُعِل في الوحوش كالسِّباع.

فتأمَّل هذا الذي حارَ بنو آدم فيه وفيما يفعلون به؛ كيف جُعِل طبعًا في البهائم، وكيف تعلَّموه من الطَّير!

وتأمَّل الحكمة في إرسال الله تعالى لابن آدم الغرابَ المُؤْذِن اسمُه بغُربة القاتل من أخيه، وغربته هو من رحمة الله تعالى، وغربته بين أبيه وأهل بيته

(1)

، واستيحاشه منهم واستيحاشهم منه. وهو من الطُّيور التي تنفرُ منها الإنسُ ومن نعيقها وتستوحشُ بها، فأرسل اللهُ إليه مثل هذا الطَّائر حتى صار كالمعلِّم له والأستاذ، وصار بمنزلة المتعلِّم والمستدِلِّ.

ولا تُنكِر حكمةَ هذا الباب وارتباط المسمَّيات فيه بأسمائها، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا بعثتم إليَّ بَرِيدًا فابعثوه حَسَن الاسم حَسَن الوجه»

(2)

، وكان يَسألُ عن اسم الأرض إذا نزلها

(3)

،

واسم الرسول إذا جاء إليه

(4)

، ولما

(1)

(ح، ن): «من أبيه وأهله» .

(2)

روي من طرقٍ واهية. وأقوى ما في الباب حديث بريدة عند البزار (4383) من طريق معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه. وظاهرُ إسناده الحُسْن لو صحَّ سماع قتادة من ابن بريدة، وفيه نظر، ولعلَّ البلاء فيه من معاذ بن هشام؛ فإن له أوهامًا، والحديث محفوظٌ عن هشامٍ بلفظٍ آخر أشبه من رواية معاذ، وهو الآتي تخريجه بعد هذا.

وانظر: «علل ابن أبي حاتم» (2/ 329)، و «الموضوعات» (332)، و «اللآلي المصنوعة» (1/ 112)، و «السلسلة الصحيحة» (1186).

(3)

جزءٌ من حديثٍ أخرجه أحمد (5/ 347)، وأبو داود (3920)، والنسائي في «الكبرى» (8771)، وغيرهم عن بريدة.

وصححه ابن حبان (5827). وحسنه ابن حجر في «الفتح» (10/ 215).

(4)

كما سأل بريدةَ عن اسمه حين جاءه في سبعين من أهل بيته في طريق هجرته. وفي إسناده ضعفٌ شديد. وسيأتي تخريجه (ص: 1526).

ص: 680

جاءهم سُهيلُ بن عمرو يوم الحديبية قال: «قد سَهُل لكم من أمركم»

(1)

، ولما أراد تغييرَ اسم حَزْنٍ بسَهْل

(2)

، قال

(3)

: «لم يَزَل معنى اسمه فيه وفي ذريَّته» ، ولما سأل عمرُ بن الخطَّاب الرجلَ عن اسمه واسم أبيه وداره ومنزله فأخبَره أنه جمرةُ بن شهاب، وأنَّ داره بالحَرَّة

(4)

، وأنَّ مسكنَه منها ذاتُ لظى، قال له:«أدرِكْ بيتَك فقد احتَرق» ؛ فكان كما قال

(5)

.

وشواهدُ هذا الباب أكثرُ من أن تُذْكَر هاهنا، وهو بابٌ لطيفُ المنزع، شديدُ المناسبة بين الأسماء والمسمَّيات

(6)

.

وكثيرًا ما أُولِعَ النَّاسُ قديمًا وحديثًا بنَعِيق الغراب، واستدلالهم به على البَيْن والاغتراب

(7)

، وينسبونها إلى الشُّؤم، ويَنْفِرون منها وتَنْفِر منهم؛ فكان

(1)

أخرجه البخاري (2731) مرسلًا ضمن حديث صلح الحديبية الطويل. وقال ابن حجر في «الفتح» (5/ 342): «وهو مرسل، ولم أقف على من وصله بذكر ابن عباسٍ فيه، لكن له شاهد موصول

».

(2)

فأبى حَزْنٌ، وقال:«لا أغيِّر اسمًا سمَّانيه أبي» . كما في الحديث.

(3)

أي: سعيد بن المسيب بن حَزْن. والحديث في البخاري (6910) بلفظ: «فما زالت الحُزونةُ فينا بعد» .

(4)

في الأصول: «بالحرقة» . تحريف. وسيأتي الخبر (ص 1492).

(5)

أخرجه مالك في «الموطأ» (2790) بإسنادٍ منقطع.

وأخرجه معمر في «الجامع» (11/ 43) من وجهٍ آخر، وفيه راوٍ لم يسمَّ.

وروي من وجوه أخرى. انظر: «الإصابة» (1/ 539).

وانظر تعليق ابن عبد البر على الأثر في «الاستذكار» (27/ 236).

(6)

انظر: «زاد المعاد» (2/ 236 - 240)، و «تحفة المودود» (55، 122).

(7)

انظر: «الحيوان» (2/ 315، 3/ 431 - 443)، و «ثمار القلوب» (2/ 671)، و «الجليس والأنيس» (2/ 139)، وغيرها.

ص: 681

جديرًا أن يُرسَل هذا الطَّائرُ إلى القاتل من ابنَيْ آدم دون غيره من الطُّيور، فكأنه صورةُ طائره الذي أُلزِمَه في عنقه، وطار عنه من عمله.

ولا تظُنَّ أنَّ إرسال الغُراب وقع اتفاقًا خاليًا من الحكمة؛ فإنك إذا خَفِيَ عليك وجهُ الحكمة فلا تُنكِرْها، واعلم أنَّ خفاءها من لُطفها وشرفها، ولله تعالى فيما يُخْفِي وجهَ الحكمة فيه على البشر الحِكَمُ الباهرةُ

(1)

المتضمِّنةُ للغايات المحمودة.

فصل

(2)

ثمَّ تأمَّل الحكمةَ الباهرةَ في وجه الدَّابَّة كيف هو؛ فإنك ترى العينين فيه شاخصتَيْن أمامها لتبصرَ ما بين يديها أتمَّ من بصر غيرها؛ لأنها تحرسُ نفسَها وراكبَها فتتَّقي أن تَصْدِم حائطًا أو تتردَّى في حُفرة، فجُعِلت عيناها كعينَيْ المنتصِب القامة لأنها طليعتُه، وجُعِل فُوها مشقوقًا

(3)

في أسفل الخَطْم

(4)

لتتمكَّن من العضِّ والقبض على العَلَف؛ إذ لو كان فُوها في مقدَّم الخَطْم كمكانه

(5)

من الإنسان في مقدَّم الذَّقن لما استطاعت أن تتناول به شيئًا من الأرض.

ألا ترى الإنسانَ لا يتناولُ الطَّعام بفِيه لكن بيده، فلمَّا لم تكن الدَّابَّةُ

(1)

(ت): «الحكمة البالغة الباهرة» .

(2)

«الدلائل والاعتبار» (31)، «توحيد المفضل» (57 - 58).

(3)

(ح، ن): «مستوفيا» .

(4)

الخَطْم: الأنف، أو مقدَّمه. «المعجم الوسيط» (خطم).

(5)

(ح، ن): «كما انه» .

ص: 682

ممَّن

(1)

تتناولُ طعامها بيدها

(2)

جُعِل خَطْمُها مشقوقًا من أسفله لتضعَه

(3)

على العَلَف ثمَّ تَقْضِمَه، وأُعِينَت بالجَحْفَلة ــ وهي لها كالشَّفَة للإنسان ــ لِتَقُمَّ

(4)

بها ما قَرُبَ منها وما بَعُد.

وقد أشكلَت منفعةُ الذَّنَب على بعض النَّاس ولم يهتدِ إليها. وفيها منافعُ عديدة:

فمنها: أنه بمنزلة الطَّبَق على الدُّبر والغطاء على حَيَاها

(5)

، يواريهما ويسترُهما.

ومنها: أنَّ ما بين الدُّبر ومَرَاقِّ البطن من الدَّابَّة له وَضَرٌ

(6)

يجتمعُ عليه الذُّبابُ والبعوض، فيؤذي الدَّابَّة، فجُعِل أذنابُها كالمَذَابِّ لها والمراوح تطردُ به ذلك.

ومنها: أنَّ الدَّابَّة تستريحُ إلى تحريكه وتصريفه يمنةً ويسرة؛ فإنه لما كان قيامُها على الأربع بكلِّ جسمها

(7)

، وشُغِلَت قدماها بحَمْل البدن عن التصرُّف والتقلُّب، كان لها في تحريك الذَّنَب راحةٌ ونَشْرَة

(8)

.

(1)

(ت، د): «مما» .

(2)

(ح، ن): «فلما لم تكن الدابة لا تتناول بيدها» .

(3)

(ض): «لتقبض» .

(4)

أي: تتناول. وفي (ق، ن): «لتتقم» . (ت): «لتقمم» . (ر): «لتقمقم» .

(5)

الحَيَا والحياء: الفَرْجُ من ذوات الخُفِّ والظِّلف. «اللسان» .

(6)

وهو الوسَخ.

(7)

(ر، ض): «بأسرها» .

(8)

مهملة في (د). (ر): «مسرة» . وليست في (ح، ن، ض). وفي «اللسان» (نشر): «النَّشرةُ والنسيمُ الذي يحيي الحيوانَ إذا طال عليه الخُمُوم والعفنُ والرُّطوبات

».

ص: 683