المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تأمل(3)حال من عدم البصر - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌تأمل(3)حال من عدم البصر

وأُعِينَت حاسَّةُ اللَّمس بقوَّةٍ جعلها الله فيها تُدْرِكُ بها الملموسات، ولم تحتَجْ إلى شيءٍ من خارج، بخلاف غيرها من الحواسِّ، بل تُدْرِكُ الملموسات بلا واسطةٍ بينها وبينها؛ لأنها إنما تدركُها بالاجتماع

(1)

والملامسة، فلم تحتج إلى واسطة.

فصل

(2)

ف‌

‌تأمَّل

(3)

حال من عَدِمَ البصر

، وما ينالُه من الخلل في أموره، فإنه لا يعرفُ موضعَ قدمه، ولا يبصرُ ما بين يديه، ولا يفرِّقُ بين الألوان والمناظر الحسنة من القبيحة، ولا يتمكَّنُ من استفادة علمٍ من كتابٍ يقرؤه، ولا يتهيَّأ له الاعتبارُ والنَّظرُ في عجائب مُلك الله.

هذا مع أنه لا يشعرُ بكثيرٍ من مصالحه ومضارِّه؛ فلا يشعرُ بحفرةٍ يهوي فيها، ولا بحيوانٍ يقصدُه، كالسَّبُع، فيحترزُ منه

(4)

، ولا بعدوٍّ يهوي نحوه ليقتلَه، ولا يتمكَّنُ من هربٍ إن طُلِبَ

(5)

، بل هو مُلْقٍ السَّلَم لمن رامه بأذى، ولولا حفظٌ خاصٌّ من الله له قريبٌ من حفظ الوليد وكلاءته لكان عطبُه إليه أقربَ من سلامته؛ فإنه بمنزلة لحمٍ على وَضَم

(6)

، ولذلك جعل الله ثوابَه إذا

(1)

(ق، ت): «يدركها الاجتماع» . وأهمل حرف المضارعة في (د).

(2)

«الدلائل والاعتبار» (48)، «توحيد المفضل» (23).

(3)

(ت): «وأما» .

(4)

(ن، ح): «فيتحرز منه» .

(5)

(ت): «من هرب إذا هرب أو طلب» .

(6)

هذا مثلٌ يضربُ في الانقياد والذُّل، يقال: أضيَعُ من لحمٍ على وَضَم. انظر: «شرح الحماسة» للمرزوقي (207)، و «جمهرة الأمثال» (2/ 3)، و «اللسان» (وضم). والوَضَم: كلُّ شيء يوضع عليه اللحمُ يوقى به من الأرض.

ص: 753

صبر واحتسبَ الجنَّة.

ومن كمال لطفه أنْ عَكَس

(1)

نورَ بصره إلى بصيرته، فهو أقوى النَّاس بصيرةً وحَدْسًا، وجمع عليه همَّه، فقلبُه مجموعٌ عليه غيرُ مشتَّت؛ ليَهْنَأ له العيش، وتتمَّ مصلحتُه، فلا يُظنَّ

(2)

أنه مغمومٌ حزينٌ متأسِّف.

هذا حكمُ من وُلِد أعمى.

فأما من أصيبَ بعينيه بعد البصر، فهو بمنزلة سائر أهل البلاء المنتقلين من العافية إلى البليَّة، فالمحنةُ عليه شديدة؛ لأنه قد حِيل بينه وبين ما ألِفَه من المرائي والصُّور ووجوه الانتفاع ببصره؛ فهذا له حكمٌ آخر.

وكذلك من عَدِم السَّمع؛ فإنه يفقدُ روحَ المخاطبة والمحاورة، ويَعْدَمُ لذَّة المذاكرة ونَغَمةَ الأصوات الشَّجيَّة، وتعظُم المؤنة على النَّاس في خطابه

(3)

، ويتبرَّمون به، ولا يسمعُ شيئًا من أخبار النَّاس وأحاديثهم، فهو بينهم شاهدٌ كغائب، وحيٌّ كميِّت، وقريبٌ كبعيد.

وقد اختلف النُّظَّارُ في أيهما أقربُ

(4)

إلى الكمال وأقلُّ اختلالًا لأموره: الضريرُ أو الأطرش؟

(5)

وذكروا في ذلك وجوهًا

(6)

.

(1)

(ح): «عطف» .

(2)

(ح): «ولا يظن» .

(3)

(ض): «محاورته» .

(4)

(ت): «أفضل وأقرب» .

(5)

الطَّرَشُ هو الصَّمم. وقيل: أهونُ الصَّمم. والكلمة مولَّدة، على المشهور. وقيل بعربيَّتها. انظر:«المعرب» للجواليقي (272)، و «تاج العروس» (طرش).

(6)

انظر: «البصائر والذخائر» (7/ 227).

ص: 754

وهذا مبنيٌّ على أصلٍ آخر؛ وهو: أيُّ الصِّفتين أكمل: صفةُ السَّمع أو صفةُ البصر؟ وقد ذكرنا الخلافَ فيهما فيما تقدَّم من هذا الكتاب

(1)

، وذكرنا أقوال النَّاس وأدلَّتهم والتَّحقيقَ في ذلك

(2)

، فأيُّ الصِّفتين كانت أكمل فالضررُ بعدمها أقوى.

والذي يليقُ بهذا الموضع أن يقال: عادمُ البصر أشدُّهما ضررًا، وأسلمُهما دِينًا، وأحمدُهما عاقبة، وعادمُ السَّمع أقلُّهما ضررًا في دنياه، وأجهلُهما بدينه، وأسوؤهما عاقبة؛ فإنه إذا عَدِم السَّمعَ عَدِم المواعظ والنَّصائح، وانسدَّت عليه أبوابُ العلوم النَّافعة، وانفتحت له

(3)

طرقُ الشَّهوات التي يدركُها البصر، ولا ينالُه من العلم ما يكفُّه عنها، فضررُه في دينه أكثر، وضررُ الأعمى في دنياه أكثر.

ولهذا لم يكن في الصَّحابة أطرش، وكان فيهم جماعةٌ أضرَّاء، وقلَّ أن يبتلي الله أولياءه بالطَّرَش، ويبتلي كثيرًا منهم بالعمى.

هذا فصلُ الخطاب في هذه المسألة؛ فمضرَّةُ الطَّرَش في الدِّين، ومضرَّةُ العمى في الدنيا، والمعافى من عافاه الله منهما ومتَّعه بسمعه وبصره وجَعَله الوارثَ منه

(4)

.

(1)

(ص: 288 - 292).

(2)

(ح، ن): «وأدلة التحقيق في ذلك» .

(3)

(ح، ن): «واتضح له» . (ق، ت): «وانفتح له» .

(4)

أي: جعل البصر (أو المذكور، من السمع والبصر) آخرَ ما يخرجُ منه، فيبقى ممتَّعًا به إلى أن تفارقه روحُه؛ فيكون هو الوارث لجوارحه، الباقي بعدها. انظر:«غريب الحديث» للخطابي (1/ 343)، و «نوادر الأصول» (3/ 105).

ص: 755

فصل

وأما من عَدِم البيانَيْن: بيانَ القلب وبيانَ اللسان

(1)

، فذلك بمنزلة الحيوانات البهيميَّة، بل هي أحسنُ حالًا منه؛ فإنَّ فيها ما خُلِقَت له من المنافع والمصالح التي تُستعملُ فيها، وهذا يجهلُ كثيرًا مما تهتدي إليه البهائم، ويُلْقِي نفسَه فيما تكفُّ البهائمُ أنفسَها عنه.

وإن عَدِم بيانَ اللسان دون بيان القلب عَدِم خاصَّةَ الإنسان، وهي النُّطق، واشتدَّت المؤنةُ به وعليه، وعَظُمَت حسرتُه، وطال تأسُّفه على ردِّ الجواب ورَجْع الخطاب، فهو كالمُقْعَد الذي يرى ما هو محتاجٌ إليه ولا تمتدُّ إليه يدُه ولا رجلُه.

فكم لله على عبده من نعمةٍ سابغةٍ في هذه الأعضاء والجوارح والقُوى والمنافع التي فيه

(2)

، فهو لا يلتفتُ إليها ولا يشكرُ الله عليها، ولو فقد شيئًا منها لتمنَّى أنه له بالدُّنيا وما عليها؛ فهو يتقلَّبُ في نعم الله بسلامة أعضائه وجوارحه وقُواه وهو عارٍ مِنْ شُكرها، ولو عُرِضت عليه الدُّنيا بما فيها بزوال واحدةٍ منها لأبى المعاوضةَ وعَلِم أنها معاوضةُ غَبْنٍ؛ {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].

فصل

(3)

ثمَّ تأمَّل حكمتَه في الأعضاء التي خُلِقَت فيك آحادًا ومثنى وثُلاث

(1)

(ر، ض): «فأما من عدم العقل» .

(2)

(ح): «فيها» .

(3)

«الدلائل والاعتبار» (50)، «توحيد المفضل» (24 - 25).

ص: 756

ورُباع، وما في ذلك من الحِكَم البالغة.

فالرَّأسُ واللسانُ والأنفُ والذَّكَرُ خُلِق كلٌّ منها واحدًا فقط، ولا مصلحة في كونه أكثر من ذلك، ألا ترى أنه لو أضيف إلى الرَّأس رأسٌ آخرُ لأثقلا بدنَه من غير حاجةٍ إليه؛ لأنَّ جميع الحواسِّ التي يحتاجُ إليها مجتمعةٌ في رأسٍ واحد، ثمَّ إنَّ الإنسان كان ينقسمُ برأسيه قسمين، فإن تكلَّم من أحدهما وسَمِع به وأبصر وشَمَّ وذاق بقي الآخرُ معطَّلاً لا أَرَبَ فيه، وإن تكلَّم وأبصر وسمع بهما معًا كلامًا واحدًا وسمعًا واحدًا وبصرًا واحدًا كان الآخرُ فضلةً لا فائدة فيه، وإن اختلف إدراكُهما اختلفت عليه أحوالُه وإدراكاتُه.

وكذلك لو كان له لسانان في فمٍ واحد، فإن تكلَّم بهما كلامًا واحدًا كان أحدهما ضائعًا، وإن تكلَّم بأحدهما دون الآخر فكذلك، وإن تكلَّم بهما معًا كلامَيْن مختلفَيْن خَلَط على السَّامع ولم يَدْرِ بأيِّ الكلامين يأخذ.

وكذلك لو كان له هَنَوانِ

(1)

أو فَمَانِ لكان ــ مع قُبح الخِلْقة ــ أحدُهما فضلةً لا منفعة فيه.

وهذا بخلاف الأعضاء التي خُلِقت مثنى، كالعينين والأذنين والشَّفتين واليدَيْن والرِّجلين والسَّاقين والفَخِذين والوَرِكين والثَّديين؛ فإنَّ الحكمة فيها ظاهرة، والمصلحة فيها بيِّنة

(2)

، والجمال والزِّينة عليها بادية، فلو كان الإنسانُ بعينٍ واحدةٍ لكان مشوَّه الخِلقة ناقِصَها، وكذلك الحاجبان.

وأما اليدان والرِّجلان والسَّاقان والفَخِذان فتعدُّدهما ضروريٌّ للإنسان

(1)

مثنى «هَن» ، بتخفيف النون، كنايةٌ عن الفَرْج.

(2)

(ح، ن): «والمصلحة بادية بينة» .

ص: 757

لا تتمُّ مصلحتُه إلا بذلك، ألا ترى من قُطِعَت إحدى يديه أو رجليه كيف يبقى حالُه وعجزُه؛ فلو أنَّ النَّجَّار والخيَّاط والحدَّاد والخبَّاز والبنَّاء وأصحابَ الصَّنائع التي لا تتأتَّى إلا باليدين شُلَّت يدُ أحدِهم

(1)

لتعطَّلت عليه صنعتُه؛ فاقتضت الحكمةُ أن أُعطِيَ مِنْ هذا الضَّرب من الجوارح والأعضاء اثنين اثنين.

وكذلك أُعطِيَ شفتَيْن لأنه لا تكمُل مصلحتُه إلا بهما، وفيهما ضروبٌ عديدةٌ من المنافع ومن الكلام والذَّوق وغطاء الفَم والجمال والزِّينة والقُبلة وغير ذلك.

وأمَّا الأعضاءُ الثلاثية

(2)

، فهي جوانبُ أنفه وحيطانُه الثلاثة

(3)

، وقد ذكرنا حكمةَ ذلك فيما تقدَّم

(4)

.

وأما الأعضاءُ الرُّباعيةُ، فالكِعابُ الأربعةُ التي هي مَجْمَعُ القدمين، والممسِكةُ لهما، وبهما قوَّةُ القدمين وحركتُهما، وفيهما منافعُ السَّاقين.

وكذلك أجفانُ العينين الأربعة، فيها من الحِكَم والمنافع أنها غطاءٌ للعينين، ووقايةٌ لهما، وجمالٌ وزينة، وغيرُ ذلك من الحِكَم.

فاقتضت الحكمةُ البالغةُ أن جُعِلت الأعضاءُ على ما هي عليه من العَدَد والشَّكل والهيئة، فلو زادت أو نقصت لكان نقصًا في الخِلقة.

(1)

(ح، ن): «أحدهما» . وهو خطأ.

(2)

في الأصول: «الثلاثة» . والأولى ما أثبت.

(3)

«الثلاثة» ليست في (ح، ن).

(4)

(ص: 545).

ص: 758

ولهذا يوجدُ في النَّوع الإنسانيِّ مِنْ زائدٍ في خَلْقِه

(1)

وناقصٍ منه ما يدلُّ على حكمة الربِّ تعالى، وأنه لو شاء لجعل خلقَه كلَّهم هكذا، وليَعْلَم الكاملُ الخِلقة تمامَ النِّعمة عليه، وأنه خُلِق خلقًا سويًّا معتدلًا، لم يُزَد في خَلْقه ما لا يحتاجُ إليه، ولم يُنْقَص منه ما يحتاجُ إليه كما يراه في غيره، فهو أجدرُ أن يزداد شكرًا وحمدًا لربِّه، ويعلم أنَّ ذلك ليس مِنْ صُنع الطَّبيعة، وإنما ذلك صنعُ الله الذي أتقنَ كلَّ شيء، وأنه يخلقُ ما يشاء.

فصل

(2)

مِنْ أين للطَّبيعة هذا الاختلافُ والفَرقُ الحاصلُ في النَّوع الإنسانيِّ بين صُوَرهم؟! فقلَّ أن ترى اثنين متشابهين

(3)

من كلِّ وجه، وذلك من أندر ما في العالم، بخلاف أصناف الحيوان، كالنَّعم والوحوش والطَّير وسائر الدَّوابِّ؛ فإنك ترى السِّربَ من الظِّباء، والثُّلَّة من الغنم، والذَّوْد من الإبل، والصُّوار من البقر

(4)

، تتشابهُ حتى لا يفرَّق بين أحدٍ منها وبين الآخر إلا بعد طول تأمُّلٍ أو بعلامةٍ ظاهرة، والنَّاسُ مختلفةٌ صُوَرهم وخلقُهم

(5)

، فلا يكادُ اثنان منهم يجتمعان في صفةٍ واحدةٍ وخِلقةٍ واحدة بل ولا صوتٍ واحدٍ

(6)

(1)

(ت): «خلقته» .

(2)

«الدلائل والاعتبار» (65)، «توحيد المفضل» (46).

(3)

(ح، ن): «يرى اثنان متشابهان» .

(4)

انظر: «فقه اللغة» للثعالبي (2/ 372، 375، 376، 377).

(5)

كذا في الأصول و (ض)، سوى (ح):«وخلقتهم» .

(6)

(ن): «ولا صورة واحدة» .

ص: 759

وحنجرةٍ واحدة

(1)

.

والحكمةُ البالغةُ في ذلك أنَّ النَّاس يحتاجون إلى أن يتعارفوا بأعيانهم وحِلاهم

(2)

؛ لما يجري بينهم من المعاملات، فلولا الفرقُ والاختلافُ في الصُّوَر لفسدت أحوالهم، وتشتَّت نظامُهم، ولم يُعرَف الشاهدُ من المشهود عليه، ولا المَدِينُ من ربِّ الدَّين، ولا البائعُ من المشتري، ولا كان الرَّجلُ يعرفُ عِرْسَه

(3)

من غيرها عند الاختلاط

(4)

، ولا هي تعرفُ بعلَها من غيره. وفي ذلك أعظمُ الفساد والخلل.

فمن الذي ميَّز بين حِلاهم وصُوَرهم وخلقهم

(5)

وأصواتهم، وفرَّق بينها بفروقٍ لا تنالها العبارةُ ولا يدركُها الوصف؟!

فسَل المعطِّل: أهذا فعلُ الطَّبيعة؟! وهل في الطَّبيعة اقتضاءُ هذا الاختلاف والافتراق

(6)

في النَّوع؟!

وأين قولُ الطَّبائعيِّين: إنَّ فعلها متشابهٌ لأنها واحدةٌ في نفسها، لا تفعلُ بإرادةٍ ولا مشيئة، فلا يمكنُ اختلافُ أفعالها؟! فكيف يجمعُ المعطِّل بين هذا وهذا؟! {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].

(1)

انظر: «الطرق الحكمية» (603).

(2)

خِلقتهم وصُوَرُهم. جمع «حِلية» . «اللسان» (حلا).

(3)

العِرْس: الزوج، يقال: هو عِرْسُها، وهي عِرْسُه. «اللسان» (عرس).

(4)

(ح، ن): «للاختلاط» .

(5)

ليست في (ح، ن).

(6)

(ت): «والاقتران» .

ص: 760

وربَّما وقع في النَّوع الإنسانيِّ تشابهٌ بين اثنين لا يكادُ يميَّز بينهما، فتعظُم عليهم المؤنةُ في معاملتهما، وتشتدُّ الحاجةُ إلى تمييز المستحقِّ منهما والمؤاخَذ بذنبه ومن عليه الحقُّ

(1)

، وإذا كان يَعْرِضُ هذا في التَّشابه في الأسماء كثيرًا، ويلقى الشاهدُ والحاكمُ من ذلك ما يلقى، فما الظنُّ لو وُضِعَ التشابُه

(2)

في الخِلقة والصُّورة؟!

ولمَّا كان الحيوانُ البهيمُ والطَّيرُ والوحوشُ لا يضرُّها هذا التَّشابهُ شيئًا لم تَدْعُ الحكمةُ إلى الفرق بين كلِّ زوجين منها.

فتبارك الله أحسنُ الخالقين، الذي وسعت حكمتُه كلَّ شيء.

فصل

(3)

ثمَّ تأمَّل لم صارت المرأةُ والرجلُ إذا أدركا اشتركا في نبات العانة، ثمَّ ينفردُ الرجلُ عن المرأة باللِّحية؟

فإنَّ الله عز وجل لمَّا جعل الرجل قيِّمًا على المرأة، وجعلها كالخَوَل له والعاني في يديه

(4)

، ميَّزه عليها بما فيه له المهابةُ والعزُّ والوقارُ والجلالة؛ لكماله وحاجته إلى ذلك، ومُنِعَتها المرأةُ لكمال الاستمتاع بها والتلذُّذ؛

(1)

(ق، ت، د): «وأن عليه الحق» .

(2)

(ن): «لو وقع التشابه» .

(3)

«الدلائل والاعتبار» (65)، «توحيد المفضل» (49).

(4)

الخَوَل: العبيد والإماء وغيرُهم من الحاشية. والعاني: الأسير. وفي وصية النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء في خطبة حجة الوداع: «واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنما هنَّ عوانٍ عندكم» . أخرجه الترمذي (1163) وقال: «هذا حديثٌ حسنٌ صحيح. ومعنى قوله عوانٍ عندكم يعني: أسرى في أيديكم» .

ص: 761

لتبقى

(1)

نضارةُ وجهها وحُسْنُه لا يَشِينُه الشَّعر.

واشتركا في سائر الشُّعور للحكمة والمنفعة التي فيها.

فصل

(2)

ثمَّ تأمَّل

(3)

هذا الصَّوتَ الخارجَ من الحلق وتهيئةَ آلاته، والكلامَ وانتظامَه، والحروفَ ومخارجَها وأدواتها ومقاطعَها وأجراسَها= تجد الحكمةَ الباهرة في هواءٍ ساذَجٍ يخرجُ من الجوف، فيسلكُ في أنبوبة الحنجرة، حتى ينتهي إلى الحلق واللسان والشفتين والأسنان، فيحدثُ له هناك مقاطعُ ونهاياتٌ وأجراس، يُسْمَعُ له عند كلِّ مقطعٍ ونهايةٍ جَرْسٌ متميزٌ منفصلٌ عن الآخر، يحدثُ بسببه الحرف

(4)

.

فهو صوتٌ واحدٌ ساذَجٌ يجري في قَصَبةٍ واحدةٍ حتى ينتهي إلى مقاطع وحدودٍ تُسمَعُ له منها تسعةٌ وعشرون جَرْسًا، يدورُ عليها الكلامُ كلُّه: أمرُه ونهيُه، وخبرُه واستخبارُه، ونظمُه ونثرُه، وخطبُه ومواعظُه وفصولُه.

فمنه المضحِك، ومنه المبكِي، ومنه المُؤْيِس، ومنه المُطْمِع، ومنه المخوِّف، ومنه المرجِّي، والمسلِّي، والمُحْزِن، والقابضُ للنَّفس والجوارح، والمنشِّطُ لهما، والذي يُسْقِمُ الصَّحيحَ ويُبرِاءُ السَّقيم، ومنه ما يزيلُ النِّعمَ ويُحِلُّ النِّقم، ومنه ما يُستَدفعُ به البلاء، ويُستَجلبُ به النَّعماء،

(1)

(ح، ن): «ليبقى» .

(2)

«الدلائل والاعتبار» (50)، «توحيد المفضل» (25).

(3)

«ثم» ليست في (د، ق، ح، ن).

(4)

(ح): «تحدث بسبب الحروف» . (ت): «يحدث شبيه الحرف» .

ص: 762

ويستمالُ به القلوبُ، ويؤلَّفُ

(1)

بين المتباغضين، ويُوالى بين المتعاديين، ومنه ما هو بضدِّ ذلك، ومنه الكلمةُ التي لا يلقي لها صاحبُها بالًا يهوي بها في النَّار أبعدَ ما بين المشرق والمغرب، والكلمةُ التي لا يلقي لها بالًا صاحبُها يَرْكُض بها في أعلى عِلِّيِّين في جوار ربِّ العالمين.

فسبحان من أنشأ ذلك كلَّه من هواءٍ ساذَجٍ يخرجُ من الصَّدر، لا يدري ما يرادُ به، ولا أين ينتهي، ولا إلى أين مستقرُّه!

هذا إلى ما في ذلك من اختلاف الألسنة واللُّغات التي لا يحصيها إلا الله عز وجل، فيجتمعُ الجمعُ من النَّاس من بلادٍ شتَّى فيتكلَّمُ كلٌّ منهم بلُغَته، فتسمعُ لغاتٍ مختلفةً

(2)

وكلامًا منتظمًا مؤلَّفًا، ولا يدرِكُ كلٌّ منهم ما يقولُ الآخر.

واللسانُ الذي هو جارحةٌ واحدٌ في الشَّكل والمنظر، وكذلك الحلقُ والأضراسُ والشَّفتان، والكلامُ مختلفٌ متفاوتٌ أعظمَ اختلاف

(3)

، فالآيةُ في ذلك كالآية في الأرض التي تسقى بماءٍ واحد، ويخرجُ من ذلك من أنواع النَّبات والأزهار والحبوب والثمار تلك الأنواعُ المختلفةُ المتباينة.

ولهذا أخبر الله سبحانه في كتابه أنَّ في كلٍّ منهما آياتٍ

(4)

؛ فقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ

(1)

(ت): «ويتألف» .

(2)

(ت): «فيتكلم كل منهم بكلام بلغته فيسمع كلامًا بلغات شتى مختلفة» .

(3)

(ح، ن): «أعظم تفاوت» .

(4)

(ن، ح): «آيات للعالمين» .

ص: 763

لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22]، وقال تعالى:{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4].

فانظر الآن إلى الحَنجَرة، كيف هي كالأنبوب لخروج الصَّوت، واللسانُ والشَّفتان والأسنانُ لصياغة

(1)

الحروف والنَّغَمات.

ألا ترى أنَّ من سقطت أسنانُه لم يُقِم الحروفَ التي تخرجُ منها ومن اللسان، ومن نقصت شفتُه كيف لم يُقِم الحروفَ الشفهيَّة

(2)

، ومن ثقُل لسانُه

(3)

كيف لم يُقِم الرَّاء واللام والذال، ومن عرضت له آفةٌ في حلقه كيف لم يتمكَّن من الحروف الحلقيَّة؟!

وقد شبَّه أصحابُ التَّشريح مخرجَ الصَّوت بالمزمار، والرِّئةَ بالزِّقِّ الذي يُنفَخُ به

(4)

مِنْ تحته ليدخل الرِّيح فيه، والعضلات

(5)

التي تَقْبِض

(6)

على الرِّئة ليخرجَ الصَّوتُ من الحَنجَرة بالأكُفِّ

(7)

التي تقبض على الزِّقِّ حتى يخرجَ الهواءُ في القَصَبة، والشفتين والأسنانَ واللسانَ التي تَصُوغُ الصَّوتَ

(1)

(ت): «لصناعة» . (ح، ن): «بصياغة» .

(2)

(ض): «لم يصحح الفاء» . (ر): «من تقضب شفته لم يصح الفاء» .

(3)

(ت): «نقص لسانه» .

(4)

(ت، ق): «فيه» . والزِّقُّ: وعاءٌ من جِلد.

(5)

في الأصول: «والفضلات» . تحريف. والتصويب من (ر، ض). وانظر: «شرح تشريح القانون» لابن النفيس (54، 63، 122، 130، 284).

(6)

(ق، ت): «تفيض» .

(7)

(ض): «بالأصابع» .

ص: 764

حروفًا ونَغَمًا بالأصابع التي تختلفُ على المزمار فتصوغُه ألحانًا، والمقاطعَ التي ينتهي إليها الصَّوتُ

(1)

بالأبخاش

(2)

التي في القَصَبة، حتى قيل: إنَّ المزمار إنما اتُّخِذ على مثال ذلك من الإنسان

(3)

.

فإذا تعجَّبتَ من الصِّناعة التي تعملُها أكُفُّ النَّاس حتى تخرجَ منها تلك الأصوات، فما أحراكَ بطول التَّعجُّب من الصِّناعة الإلهيَّة التي أخرجت تلك الحروفَ والأصوات منك، من اللحم والدَّم والعُروق والعظام، ويا بُعْد ما بينهما! ولكنَّ المألوفَ المعتاد لا يقعُ عند النُّفوس موقعَ التَّعجُّب، فإذا رأت ما لا نسبة له إليه أصلًا إلا أنه غريبٌ عندها تلقَّته بالتَّعجُّب وتسبيح الرَّبِّ تعالى

(4)

، وعندها من آياته العجيبة الباهرة ما هو أعظمُ من ذلك مما لا يدركُه القياس.

ثمَّ تأمَّل اختلاف هذه النَّغَمات، وتبايُن هذه الأصوات، مع تشابه الحناجر والحُلُق

(5)

والألسنة والشِّفاه والأسنان، فمن الذي ميَّز بينها أتمَّ تمييزٍ مع تشابهِ محالِّها سوى الخلَّاق العليم؟!

فصل

(6)

وفي هذه الآلات مآربُ أخرى ومنافعُ سوى منفعة الكلام:

(1)

«تنتهي إليها الأصوات» .

(2)

الثقوب والمنافذ. وفي (ح): «بالأنجاش» . وانظر ما تقدم (ص: 742).

(3)

انظر: «الموسيقى الكبير» للفارابي (79، 80).

(4)

انظر: «الإحياء» (4/ 437)، و «مجموع الفتاوى» (11/ 379).

(5)

جمع حَلْق. وهي لغةٌ عزيزة، كما في «اللسان» (حلق).

(6)

«الدلائل والاعتبار» (51)، «توحيد المفضل» (26 - 27).

ص: 765

ففي الحَنجَرة مسلكُ النَّسيم البارد الذي يروِّحُ عن الفؤاد

(1)

بهذا النَّفَس الدَّائم المتتابع.

وفي اللسان منفعةُ الذَّوق، فيُذاقُ به الطُّعوم، ويُدْرِكُ لذَّتها، ويميِّز به بينها، فيعرفُ حقيقة كلِّ واحدٍ منها، وفيه مع ذلك معونةٌ

(2)

على إساغَة الطَّعام وأنه يَلُوكه ويقلِّبه حتى يسهُل مسلكُه في الحَلْق.

وفي الأسنان من المنافع ما هو معلومٌ مِنْ تقطيع الطَّعام كما تقدَّم، وفيها إسنادُ الشَّفتين وإمساكهما عن الاسترخاء وتشويه الصُّورة، ولهذا ترى من سقطت أسنانُه كيف تسترخي شفتاه.

وفي الشَّفتين منافعُ عديدة، يُرْشَفُ بهما الشرابُ حتى يكون الدَّاخلُ منه إلى حَلْقِه بقَدَرٍ، فلا يَشْرَقُ به الشَّارب وينكأ جوفَه

(3)

.

ثمَّ هما بابٌ مغلقٌ على الفم الذي إليه ينتهي ما يخرجُ من الجوف، ومنه يبتدي ما يَلِجُ فيه، فهما غطاءٌ وطابَقٌ عليه، يفتحُهما البوَّابُ متى شاء، ويغلقُهما إذا شاء، وهما أيضًا جمالٌ وزينةٌ للوجه، وفيهما منافعُ أخرُ سوى ذلك. وانظُر إلى من سقطت شَفَتاه ما أشوهَ منظرَه!

فقد بان أنَّ كلَّ واحدٍ من هذه الأعضاء يتصرَّفُ إلى وجوهٍ شتَّى من المنافع والمآرب والمصالح كما تتصرَّفُ الأداةُ الواحدةُ في أعمالٍ شتَّى.

(1)

(ن، ح): «على الفؤاد» .

(2)

(ح، ن): «وفي ذلك مع معونته» .

(3)

(ق): «يتكامل قوته» . (د): «ويتكا قوته» . (ت): «ويتكافونه» . وسقطت من (ح، ن). والعبارة في (ر): «حتى يكون الذي يدخل منه بقصد وقدر لا يثج ثجًّا فيغص به الشارب وينكأ في الجوف» . وفي (ض) نحوها.

ص: 766

هذا؛ ولو رأيتَ الدِّماغَ وكُشِفَ لك عن تركيبه وخَلْقِه لرأيتَ العجبَ العُجاب، ولكُشِفَ لك عن تركيبٍ يَحارُ فيه العقل، قد لُفَّ

(1)

بحُجُبٍ وأغشيةٍ بعضها فوق بعض؛ لتصُونه عن الأعراض، وتحفظه عن الاضطراب.

ثمَّ أطبِقَت عليه الجمجُمة بمنزلة الخُوذَة وبَيْضة الحديد

(2)

؛ لتقيه حدَّ الصَّدمة والسَّقطة والضَّربة التي تصلُ إليه، فتتلقَّاها تلك البيضةُ عنه، بمنزلة التي على رأس المحارب.

ثمَّ جُلِّلت تلك الجمجمةُ بالجِلد الذي هو فروةُ الرَّأس تستُر العظمَ من البُروز للمؤذيات.

ثمَّ كُسِيَت تلك الفروةُ حُلَّةً من الشَّعر الوافر وقايةً لها وسترًا من الحرِّ والبرد والأذى وجمالًا وزينةً له.

فسَل المعطِّل: من الذي حصَّن الدِّماغ هذا التَّحصين

(3)

، وقدَّره هذا التقدير، وجعله خِزانةً أودع فيها من المنافع والقوى والعجائب ما أودعَه، ثمَّ أحكَم سدَّ تلك الخزانة، وحصَّنها أتمَّ تحصين، وصانها أعظم صيانة، وجعلها مَعْدِن الحواسِّ والإدراكات؟!

ومن الذي جعل الأجفانَ على العينين كالغِشاء، والأشفارَ كالأشراج

(4)

،

(1)

(ح، ن): «كف» .

(2)

الخُوذة وبيضة الحديد: المِغْفَر الذي يجعلُ على رأس المحارب.

(3)

(ت): «من الذي خص الدماغ هذا التخصيص» .

(4)

الأشفار: جمع شَفْر، وشَفْر الجفن: حرفُه الذي ينبت عليه الهُدْب. والأشراج: جمع شَرَج، وهي عُرا الخِباء ونحوه، وعروة الثوب: مدخلُ زِرِّه. «اللسان» (شفر، شرج، عري). ولم تحرر في الأصول. (د): «كالأشراح» . (ن، ح): «كالأسراج» . (ق): «كالأسراح» . (ت): «كالسراج» . والمثبت من (ر، ض)، ووجهُ التشبيه عليه ظاهر.

ص: 767

والأهدابَ

(1)

كالرُّفوف عليها إذا انفتحت؟!

ومن الذي ركَّب طبقاتها المختلفة طبقةً فوق طبقةٍ حتى بلغت عدد السَّموات سبعًا، وجعل لكلِّ طبقةٍ منفعةً وفائدة، فلو اختلَّت طبقةٌ منها لاختلَّ البصر؟!

ومن شقَّهما في الوجه أحسنَ شقٍّ

(2)

، وأعطاهما أحسنَ شكل، وأودع الملاحةَ فيهما، وجعلهما مِرآةً للقلب، وطليعةً وحارسًا للبدن، ورائدًا يرسلُه كالجُنْد في مهمَّاته، فلا يتعبُ ولا يَعْيَا

(3)

على كثرة ظعنه وطول سفره؟!

ومن أودع النُّور الباصر فيه في قَدْر جِرْم العَدَسَة، فيرى به السَّموات والأرض والجبال والشمس والقمر والبحار والعجائب مِنْ داخل سبع طبقات، وجعلهما في أعلى الوجه بمنزلة الحارس على الرَّابية العالية ربيئةً

(4)

للبدن؟!

ومن حجب المَلِك في الصَّدر، وأجلسه هناك على كرسيِّ المملكة، وأقام جُنْدَ الجوارح والأعضاء والقُوى الباطنة والظَّاهرة في خدمته، وذلَّلها له، فهي مؤتمِرةٌ إذا أمرها، منتهيةٌ إذا نهاها، سامعةٌ له مطيعة، تكدَحُ وتسعى في مرضاته، فلا تستطيعُ له خلافًا

(5)

، ولا خروجًا عن أمره.

(1)

جمع هُدْب، وهو شعر أشفار العين. «اللسان» (هدب).

(2)

(ت، ق، د): «أحسن شيء» .

(3)

(ق): «ولا يعنى» .

(4)

(ن): «زينة» . وانظر ما مضى (ص: 750).

(5)

(ن، ت، ح): «خلاصًا» . وهو تحريف.

ص: 768

فمنها رسولُه، ومنها بَرِيدُه، ومنها تُرجُمانه، ومنها أعوانُه وخَدَمُه

(1)

وكلٌّ منها على عملٍ لا يتعدَّاه ولا يتصرَّفُ

(2)

في غير عمله، حتى إذا أراد الرَّاحة أوعَز إليها بالهدوء والسُّكون ليأخذ المَلِكُ راحتَه، فإذا استيقظ من منامه قامت جنودُه بين يديه على أعمالها، وذهبت حيثُ وجَّهها دائمًا لا تفتُر.

فلو شاهدتَه في محلِّ مُلكه، والأشغالُ والمراسيمُ صادرةٌ عنه وواردة، والعساكرُ في خدمته، والبُرُدُ

(3)

تتردَّدُ بينه وبين جُنده ورعيَّته؛ لرأيتَ له شأنًا عجيبًا!

فماذا فات الجاهلَ الغافل من العجائب والمعارف والعِبَر التي لا يحتاجُ فيها إلى طول الأسفار وركوب القِفار!

قال الله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20 - 21]؛ فدعا عبادَه إلى التفكُّر في أنفسهم، والاستدلال بها على فاطرها وباريها، ولولا هذا لم نوسِّع الكلام في هذا الباب، ولا أطلنا النَّفَس إلى هذه الغاية

(4)

، ولكنَّ العبرة بذلك حاصلة، والمنفعة به عظيمة، والفكرة فيه مما يزيدُ المؤمنَ إيمانًا.

فكم دون القلب مِنْ حَرَس! وكم له مِنْ خادم! وكم له مِنْ عبد ولا يشعُر به! ولله ما خُلِقَ له، وهُيِّاء له، وأُريد منه، وأُعِدَّ له من الكرامة والنَّعيم أو الهوان والعذاب! فإمَّا على سرير المُلك في مقعد صِدْقٍ عند مليكٍ

(1)

«وخدمه» ليست في (ح، ن).

(2)

(د، ق، ن): «ينصرف» .

(3)

جمع بريد، وهو الرسول. «اللسان» .

(4)

(ت): «الغايات» .

ص: 769

مقتدر، ينظرُ إلى وجه ربِّه ويسمعُ خطابَه، وإمَّا أسيرٌ في السِّجن الأعظم بين أطباق النِّيران في العذاب الأليم.

فلو عَقَل هذا السُّلطانُ ما هُيِّاء له لضَنَّ بمُلكه، ولسعى في المُلك الذي لا ينقطعُ ولا يبيد، ولكنَّه ضُرِبَت عليه حُجُبُ الغفلة، ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا.

فصل

(1)

* من جعل

(2)

في الحلق منفذين:

أحدهما: للصَّوت وللنَّفَس الواصل إلى الرِّئة

(3)

.

والآخر: للطَّعام والشراب، وهو المريءُ الواصلُ إلى المعدة.

وجَعَل بينهما حاجزًا يمنعُ عُبورَ أحدهما في طريق الآخر، فلو وَصَل الطَّعامُ من منفذ النَّفَس إلى الرِّئة لأهلك الحيوان؟!

* من جعل الرِّئة مِرْوحةً للقلب تروِّحُ عليه لا تَنِي ولا تفتُر، لكيلا تنحصر

(4)

الحرارةُ فيه فيهلك؟!

* من جعل المنافذ لفضلات الغذاء، وجعل لها أشراجًا

(5)

تضبطها

(6)

(1)

«الدلائل والاعتبار» (52)، «توحيد المفضل» (28 - 34).

(2)

(ن): «تأمل من جعل» .

(3)

(ر): «وهو الحلقوم الواصل إلى الرئة» .

(4)

(ر): «تخل» . (ض): «تتحير» . وفي نسخة: «تتحيز» .

(5)

في الأصول: «أسراجا» ، بالمهملة. والمثبت من (ر، ض). جمع شَرْج، وهو مجرى الماء، ومجمع حلقة الدبر. والشَّرَج: عرى الخباء. «المصباح المنير» .

(6)

(د، ق): «يضبطها» . (ر): «يضمها ويضبطها» . (ح، ن): «تقبضها» .

ص: 770

لكيلا تجري جريًا دائمًا، فيفسُد على الإنسان عيشُه، ويمنع النَّاس من مجالسة بعضهم بعضًا؟!

* من جعل المعدة كأشدِّ ما يكونُ من العَصَب، لأنها هيِّئت لطبخ الأطعمة وإنضاجها، فلو كانت لحمًا غضًّا لانطبخت هي ونَضِجَت، فجُعِلت كالعَصَب الشَّديد لتقوى على الطَّبخ والإنضاج، ولا تُنْهِكها النَّارُ التي تحتها؟!

* من جعل الكبدَ رقيقةً ناعمة؛ لأنها هيِّئت لقبول الصَّفو اللطيف من الغذاء والهضم، وعملٍ هو ألطفُ

(1)

من عمل المعدة؟!

* من حصَّن المخَّ اللطيف الرَّقيق في أنابيب صلبةٍ من العظام، لتحفظه وتصونه

(2)

، فلا يفسُد

(3)

ولا تذوب؟!

* من جعل الدَّم السَّيَّال محبوسًا محصورًا في العُروق بمنزلة الماء في الوعاء، لينضبط فلا يجري؟!

* من جعل الأظفار على أطراف الأصابع، وقايةً لها ومعونةً على الأعمال والصِّناعات؟!

* من جعل داخلَ الأذن ملتويًا كهيئة اللَّولب

(4)

؛ ليطرد فيه الصَّوتُ

(1)

(ض): «ولتهضم وتعمل ما هو ألطف» .

(2)

(ت، د، ق): «لتحفظها وتصونها» . (ح، ن): «ليحفظها ويصونها» . والوجه ما أثبت. (ر): «لتحيطه وتصونه» . وفي (ض): «ليحفظه ويصونه» .

(3)

(د، ق، ت، ن): «تفسد» .

(4)

(ت): «مكتوبًا كهيئة الكواكب» . (ن): «ملتويا كهيئة الكواكب» . (ح): «ملتويا كهيئة الكوب» . (ط): «مستويا كهيئة الكوكب» . وكلُّ ذلك تحريف. والمثبت من (د، ق، ر، ض). واللولب: أداةٌ تنتهي بشكلٍ حلزوني. «المعجم الوسيط» (847) وفيه رسم توضيحيٌّ لها.

ص: 771

حتى ينتهي إلى السَّمع الدَّاخل وقد انكسرت حِدَّةُ الهواء فلا ينكؤه، وليتعذَّر على الهوامِّ النُّفوذُ إليه قبل أن يمسك، وليمسك ما عساه أن يغشاها من القذى والوسخ، ولغير ذلك من الحِكَم؟!

* من جعل على الفَخِذين والوَرِكين من اللحم أكثر مما على سائر الأعضاء، ليَقِيَها من الأرض، فلا تألمُ عظامُها من كثرة الجلوس كما يألمُ مَنْ قد نَحَل جسمُه وقلَّ لحمُه من طول الجلوس، حيثُ لم يَحُل بينه وبين الأرض حائل؟!

* من جعل ماء العينين مِلْحًا

(1)

يحفظُها من الذَّوبان

(2)

، وماءَ الأذن مرًّا يحفظُها من الذُّباب والهوامِّ والبعوض، وماءَ الفم عذبًا يُدْرَكُ به طُعومُ الأشياء فلا يخالطُها طعمُ غيرها؟!

* من جعل بابَ الخلاء في الإنسان في أستر موضعٍ منه، كما أنَّ البنَّاء الحكيم يجعلُ موضع التخلِّي في أستر موضعٍ في الدَّار، وهكذا منفذُ الخلاء في الإنسان في أستر موضع، ليس بارزًا مِنْ خلفه ولا ناشزًا

(3)

بين يديه، بل مغيَّبٌ

(4)

في موضعٍ غامضٍ من البدن، يلتقي عليه الفَخِذان بما عليهما من اللحم فتوارِيانه

(5)

، فإذا جاء وقتُ الحاجة وجلس لها الإنسانُ بَرَز ذلك

(1)

(ق): «مالحا» . وانظر ما قدمناه (ص: 544) تعليقًا.

(2)

(ت): «يمنعها ويحفظها من الذوبان» .

(3)

(ت، ح): «ناشرا» . وراجع (ص: 738) والتعليق عليه.

(4)

(ت، ق): «يغيب» . ومهملة في (د). (ض): «منيب» ، تحريف.

(5)

(د، ت، ق): «متواريًا به» . (ح، ن): «متواريا» . وهو تحريف. (ض): «يلتقي عليه الفخذان وتحجبه الأليتان بما عليهما من اللحم فتواريانه» .

ص: 772

المخرجُ للأرض؟!

* من جعل الأسنانَ حِدَادًا لقَطْع الطَّعام وتفصيله، والأضراسَ عِراضًا لرضِّه وطحنه؟!

* من سَلَبَ الإحساسَ الحيوانيَّ الشُّعورَ والأظفار التي في الآدميِّ؛ لأنها قد تطولُ وتمتدُّ وتدعو الحاجةُ إلى أخذها وتخفيفها، فلو أعطاها الحسَّ لآلمتْه وشقَّ عليه أخذُ ما شاء منها، فلو كانت تحسُّ لوقع الإنسانُ منها في إحدى البليَّتين: إمَّا تركها حتى تطول وتفحُش وتثقل عليه، وإمَّا مقاساةُ الألم والوجع عند أخذها؟!

* من جعل باطنَ الكفِّ غير قابلٍ لإنبات الشَّعر؛ لأنه لو أشعَر لتعذَّر على الإنسان صحَّةُ اللَّمس، ولشقَّ عليه كثيرٌ من الأعمال التي تُباشَرُ بالكفِّ، ولهذه الحكمة لم يكن هَنُ الرَّجل قابلًا لإنباته؛ لأنه يمنعُه من الجماع، ولمَّا كانت المادَّةُ تقتضي إنباته هناك نبت حول هَنِ الرَّجل والمرأة.

ولهذه الحكمة سُلِب عن الشَّفتين، وكذا باطن الفم، وكذا أيضًا عن القدم أخمصِها وظاهرِها؛ لأنها تلاقي التُّرابَ والوسخَ والطِّينَ والشَّوك، فلو كان هناك شعرٌ لآذى الإنسان جدًّا، وحمل من الأرض كلَّ وقتٍ ما يُثقِلُ الإنسان.

وليس هذا للإنسان وحده، بل ترى البهائم قد جلَّلها الشَّعرُ

(1)

كلَّها، وأُخْلِيَت هذه المواضعُ منه لهذه الحكمة.

(1)

(ن): «جللها بالشعر» . (ض): «ترى أجسامها مجللة بالشعر» .

ص: 773

أفلا ترى الصَّنعةَ الإلهيَّة كيف سَلَبت وجوهَ الخطأ

(1)

والمضرَّة، وجاءت بكلِّ صوابٍ وكلِّ منفعةٍ وكلِّ مصلحة؟!

ولمَّا اجتهدَ الطَّاعنون في الحكمة

(2)

، العائبون للخِلقة، فيما يطعنون به، عابوا الشَّعرَ تحتَ الآباط، وشعرَ العانة، وشعرَ باطن الأنف، وشعرَ الرُّكبتين، وقالوا: أيُّ حكمةٍ فيها؟! وأيُّ فائدة؟!

وهذا مِنْ فَرط جهلهم وسخافة عقولِهم؛ فإنَّ الحكمة لا يجبُ أن تكون بأسرها معلومةً للبشر، ولا أكثرِها، بل لا نسبة لما عَلِمُوه إلى ما جهلوه منها، فلو قِيسَت علومُ الخلائق كلِّهم بوجوه حكمة الله تعالى في خلقه وأمره إلى ما خفي عنهم منها كانت كنقرة عصفورٍ في البحر. وحسبُ الفَطِن اللبيب أن يستدلَّ بما عَرَف منها على ما لم يعرف، ويعلم [أنَّ]

(3)

الحكمة فيما جهله مثلُها

(4)

فيما عَلِمَه، بل أعظمُ وأدقُّ وألطف

(5)

.

وما مثلُ هؤلاء الحمقى النَّوكى إلا كمثل رجلٍ لا علمَ له بدقائق الصَّنائع والعلوم، من البناء والهندسة والطبِّ، بل والحياكة والخياطة والنجارة؛ إذا رام الاعتراض بعقله الفاسد على أربابها في شيءٍ من آلاتهم وصنائعهم وترتيب صناعاتهم، فخَفِيَت عليه

(6)

، فجعل كلَّما خَفِيَ عليه منها

(1)

(ض): «تتحرز وجوه الخطأ» .

(2)

وهم المنانية (المانوية) وأشباههم، كما في (ر، ض).

(3)

زيادة يقتضيها السياق.

(4)

(ح، ن): «منها» . وهو تحريف.

(5)

ليست في (ح، ن).

(6)

كذا في الأصول.

ص: 774

شيءٌ قال: هذا لا فائدة فيه، وأيُّ حكمةٍ تقتضيه؟!

هذا مع أنَّ أربابَ الصَّنائع بشرٌ مثله يمكنه أن يشاركهم في صنائعهم ويفُوقهم فيها. فما الظَّنُّ بمن بهرت حكمتُه العقول، الذي لا يشاركه مشاركٌ في حكمته، كما لا يشاركه في خلقه، فلا شريك له بوجهٍ ما؟!

فمن ظنَّ أن يكتال حكمتَه

(1)

بمكيال عقله، ويجعل عقله عِيارًا عليها فما أدركه أقرَّ به وما لم يدركه نفاه؛ فهو من أجهل الجاهلين.

ولله في كلِّ ما خَفِي على النَّاس وجهُ الحكمة فيه حِكَمٌ عديدةٌ لا تُدْفَعُ ولا تُحْجَب.

فاعلم الآن أنَّ تحت منابت هذه الشُّعور من الحرارة والرُّطوبة ما اقتضت الطَّبيعةُ إخراجَ هذه الشُّعور عليها، ألا ترى أنَّ العُشبَ ينبتُ في مستنقع المياه بعد نُضوب الماء عنها، لِمَا خُصَّت به من الرُّطوبة؟! ولهذا كانت هذه المواضعُ مِنْ أرطب مواضع البدن، وهي أقبلُ لنبات الشعر وأهيَأ

(2)

، فدَفعَت الطَّبيعةُ تلك الفضلات والرُّطوبات إلى خارجٍ فصارت شَعرًا، ولو حبسَتها في داخل البدن لأضرَّته وآذت باطنَه، فخروجُها عينُ مصلحة الحيوان، واحتباسُها إنما يكونُ لنقصٍ وآفةٍ فيه.

وهذا كخروج دم الحيض من المرأة، فإنه عينُ مصلحتها وكمالها، ولهذا يكونُ احتباسُه لفسادٍ في الطَّبيعة ونقصٍ فيها.

(1)

(ت): «مكيال حكمته» . (ن): «يكال حكمته» .

(2)

«وهي أقبل لنبات الشعر وأهيأ» ليس في (ت).

ص: 775

ألا ترى أنَّ من احتَبس عنه شعرُ الرَّأس واللحية بعد إبَّانه

(1)

كيف تراه ناقصَ الطَّبيعة، ناقصَ الخِلقة، ضعيفَ التَّركيب؟!

فإذا شاهدتَ ذلك في الشَّعر الذي عرفتَ بعض حكمته، فما لك لا تعتبرُه في الشَّعر الذي خَفِيَت عليك حكمتُه؟!

* من جعل الرِّيقَ يجري جريًا دائمًا إلى الفم لا ينقطعُ عنه، ليَبُلَّ الحلقَ واللَّهوات، ويسهِّل الكلام، ويُسِيغ الطَّعام؟!

قال أبُقْراط

(2)

: «الرُّطوبةُ في الفم مطيَّةُ الغذاء» .

فتأمَّل حالك عند ما يجفُّ ريقُك بعض الجفاف، ويقلُّ ينبوعُ هذه العَيْن التي لا يستغنى عنها!

فصل

(3)

تأمَّل حكمة الله تعالى في كثرة بكاء الأطفال وما لهم فيه من المنفعة؛ فإن الأطبَّاء والطَّبائعيِّين شهدوا منفعةَ ذلك وحكمته، وقالوا: في أدمغة الأطفال رطوبةٌ لو بقيَت في أدمغتهم لأحدثت أحداثًا عظيمة، فالبكاءُ يسيلُ ذلك ويُحْدِرُه من أدمغتهم، فتقوى أدمغتُهم وتصحُّ.

(1)

(ح، ن): «إنباته» . تحريف. وإبَّان الشيء: أوانه ووقته.

(2)

(ح، ن): «بقراط» . والوجهان صحيحان. وهو طبيبٌ فيلسوفٌ مشهور له تآليف. وكان قبل الإسكندر بنحو مئة سنة. ترجمته في «طبقات الأطباء» لابن جلجل (16)، و «أخبار الحكماء» للقفطي (121)، وغيرهما.

(3)

«الدلائل والاعتبار» (55)، «توحيد المفضل» (16).

ص: 776

وأيضا؛ فإنَّ البكاء والعِياط

(1)

يوسِّعُ عليه مجاري النَّفَس، ويفتحُ العُروق ويصلِّبها، ويقوِّي الأعصاب

(2)

.

وكم للطِّفل من منفعةٍ ومصلحةٍ فيما تسمعُه من بكائه وصُراخه!

فإذا كانت هذه الحكمةُ في البكاء الذي سببُه ورودُ الألم والمؤذي وأنت لا تعرفُها ولا تكادُ تخطُر ببالك، فهكذا إيلامُ الأطفال فيه وفي أسبابه وعواقبه الحميدة من الحِكَم ما قد خَفِي على أكثر النَّاس، واضطربَ عليهم الكلامُ في حكمته اضطرابَ الأَرْشِيَة

(3)

، وسلكوا في هذا الباب مسالك:

* فقالت طائفة: ليس إلا محض المشيئة العارية عن الحكمة والغاية المطلوبة. وسدُّوا على أنفسهم هذا البابَ جملة، وكلَّما سئلوا عن شيءٍ أجابوا بـ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} .

وهذا

(4)

مِنْ أصدق الكلام، وليس المرادُ به نفيَ حكمته تعالى وعواقبِ أفعاله الحميدة وغاياتها المطلوبة منها، وإنما المرادُ بالآية إفرادُه بالإلهيَّة والرُّبوبيَّة، وأنه لكمال حكمته لا معقِّب لحكمه، ولا يُعْتَرض عليه بالسُّؤال؛ لأنه لا يفعلُ شيئًا سُدى، ولا خَلَق شيئًا عبثًا، وإنما يُسألُ عن فعله مَنْ خرجَ

(1)

عيَّط: إذا مدَّ صوته بالصُّراخ. وهو العِياط. «أساس البلاغة» (عيط). ويأتي بمعنى البكاء في كلام بعض العامة. انظر: «معجم تيمور» (4/ 457).

(2)

انظر: «تحفة المودود» (188).

(3)

أي: في البئر. والأرشية جمعُ رِشاء، وهو حبل الدَّلو. وهذا تشبيهٌ مشهور، ورد في كلامٍ ينسبُ لعلي رضي الله عنه، واستعمله الشعراء والكتَّاب. انظر:«شرح نهج البلاغة» (1/ 213)، و «شرح ديوان الحماسة» للمرزوقي (656).

(4)

أي: قوله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} .

ص: 777

عن الصَّواب، ولم يكن فيه منفعةٌ ولا فائدة.

ألا ترى إلى قوله: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 21 - 23]، كيف ساق الآية في الإنكار على من اتخذ من دونه آلهةً لا تساويه، فسوَّاها به مع أعظم الفَرق؟!

فقوله: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} إثباتٌ لحقيقة الإلهيَّة، وإفرادٌ له بالرُّبوبيَّة والإلهيَّة، وقولُه:{وَهُمْ يُسْأَلُونَ} نفيٌ لصلاح تلك الآلهة المتَّخَذة للإلهيَّة؛ فإنها مسؤولةٌ مربوبةٌ مدبَّرة، فكيف يسوَّى بينها وبينه مع أعظم الفرقان؟!

فهذا الذي سِيقَ له الكلام، فجعلها الجبريَّةُ مَعْقِلًا وملجأً في إنكار حكمته وتعليل أفعاله بغاياتها المحمودة وعواقبها السَّديدة

(1)

. والله الموفِّق للصَّواب.

* وقالت طائفة: الحكمةُ في ابتلائهم تعويضُهم في الآخرة بالثَّواب التَّامِّ.

فقيل لهم: قد كان يمكنُ إيصالُ الثَّواب إليهم بدون هذا الإيلام.

فأجابوا بأنَّ توسُّط الإيلام في حقِّهم كتوسُّط التكاليف في حقِّ المكلَّفين.

فقيل لهم: فهذا ينتقض عليكم بإيلام أطفال الكفَّار.

(1)

انظر: «شفاء العليل» (731).

ص: 778

فأجابوا بأنا لا نقول: إنهم في النَّار كما قاله من قاله من النَّاس، والنَّارُ لا يُدخِلُها ربُّها أحدًا إلا بذنب

(1)

، وهؤلاء لا ذنبَ لهم.

وكذا الكلامُ معهم في مسألة الأطفال

(2)

، والحِجَاجُ فيها من الجانبين بما ليس هذا موضعه

(3)

.

فأُورِد عليهم ما لا جواب لهم عنه، وهو إيلامُ أطفالهم الذين قُدِّر بلوغُهم وموتُهم على الكفر، فإنَّ هذا لا تعويض فيه قطعًا ولا هو عقوبةٌ على الكفر، فإنَّ العقوبة لا تكونُ سلفًا وتعجيلًا.

فحاروا في هذا الموضع، واضطربت أصولهم، ولم يأتوا بما يقبلُه العقل.

* وقالت طائفةٌ ثالثة: هذا السُّؤال لو تأمَّله مُورِدُه لعَلِمَ أنه ساقط، وأنَّ تكلُّف الجواب عنه إلزامُ ما لا يَلْزَم، فإنَّ هذه الآلام وتوابعَها وأسبابها

(4)

من لوازم النَّشأة الإنسانيَّة التي لم يخلق منفكًّا عنها، فهي كالحرِّ والبرد، والجوع والعطش، والتَّعب والنَّصَب، والهمِّ والغمِّ، والضعف والعجز، فالسُّؤال عن حكمتها كالسُّؤال عن حكمة الحاجة إلى الأكل عند الجوع، والحاجة إلى الشراب عند الظَّمأ، وإلى النَّوم والرَّاحةِ عند التَّعب؛ فإنَّ هذه الآلام هي من لوازم النَّشأة الإنسانيَّة التي لا ينفكُّ عنها الإنسانُ ولا

(1)

(ح، ن): «لا يدخلها أحد إلا بذنب» .

(2)

أطفال المشركين، ومآلهم في الآخرة.

(3)

بسط المصنفُ الكلام في هذه المسألة في: «طريق الهجرتين» (842 - 877)، و «أحكام أهل الذمة» (1071 - 1158)، و «تهذيب السنن» (12/ 316 - 323).

(4)

«وأسبابها» ليست في (ق).

ص: 779

الحيوان، فلو تجرَّد عنها لم يكن إنسانًا، بل كان مَلَكًا أو خلقًا آخر.

وليست آلامُ الأطفال بأصعبَ من آلام البالغين، لكن لمَّا صارت لهم عادةً سهُل موقعُها عندهم، وكم بين ما يقاسيه الطفلُ ويعانيه البالغُ العاقل!

وكلُّ ذلك مِنْ مقتضى الإنسانيَّة ومُوجَب الخِلقة، فلو لم يُخْلَق كذلك لكان خَلْقًا آخر، أفترى أنَّ الطفل إذا جاع أو عطش أو بَرَد أو تَعِب قد خُصَّ من ذلك بما لم يُمتَحن به الكبير؟!

فإيلامُه بغير ذلك من الأوجاع والأسقام كإيلامه بالجوع والعطش والبرد والحرِّ أو دون ذلك

(1)

أو فوقه، وما خُلِق الإنسانُ بل الحيوانُ إلا على هذه النشأة.

قالوا: فإن سأل سائلٌ وقال: فلِمَ خُلِق كذلك؟ وهلَّا خُلِق خِلقةً غير قابلةٍ للألم؟

فهذا سؤالٌ فاسد؛ فإنَّ الله تعالى خلقه في عالم الابتلاء والامتحان من مادَّةٍ ضعيفة، فهي عُرضةٌ للآفات، وركَّبه تركيبًا معرَّضًا لأنواعٍ من الآلام

(2)

، وجعل فيه الأخلاط الأربعة التي لا قِوام له إلا بها

(3)

، ولا يكونُ إلا عليها، وهي لا محالة توجبُ امتزاجًا واختلاطًا وتفاعُلًا يبغي بعضها على بعضٍ بكيفيَّته تارة، وبكميَّته تارة، وبهما تارة، وذلك مُوجِبٌ للآلام قطعًا

(4)

، ووجودُ الملزوم بدون لازمه محال.

(1)

(ح، ن): «والبرد والحر دون ذلك» .

(2)

(ت): «لأنواع الابتلاء والإيلام» . (ح، ن): «للأنواع من الآلام» .

(3)

انظر ما تقدم (ص: 559)، والتعليق عليه.

(4)

(د، ت، ق): «موجب الألم قطعا» .

ص: 780

ثمَّ إنه سبحانه ركَّب فيه من القُوى والشَّهوة

(1)

والإرادة ما يوجبُ حركتَه الدَّائمة، وسعيَه في طلب ما يُصْلِحُه ودفع ما يضرُّه؛ بنفسه تارةً وبمن يعينُه تارة، فأحوجَ النَّوعَ بعضه إلى بعض، فحدث من ذلك الاختلاطُ بينهم، وبغيُ بعضهم على بعض، فيحدُث من ذلك من الآلام والشُّرور بنحو ما يحدُث من امتزاج أخلاطه واختلاطها، وبغي بعضها على بعض، والآلامُ لا تتخلَّفُ عن هذا الاختلاط والامتزاج أبدًا إلا في دار البقاء والنَّعيم المقيم، لا في دار الابتلاء

(2)

والامتحان.

فمن ظنَّ أنَّ الحكمة في أن يجعل خصائصَ تلك الدَّار في هذه فقد ظنَّ باطلًا، بل الحكمةُ التَّامَّةُ البالغةُ اقتضت أن تكون هذه الدَّارُ ممزوجةً عافيتُها ببلائها، وراحتُها بعنائها، ولذَّتها بآلامها، وصحَّتُها بسقَمها، وفرحُها بغمِّها، فهي دارُ ابتلاءٍ تُدْفَعُ بعضُ آفاتها ببعض، كما قال القائل:

أصبحتُ في دار بَليَّاتِ

أدْفَعُ آفاتٍ بآفاتِ

(3)

ولقد صدق؛ فإنك إذا فكَّرتَ في الأكل والشُّرب واللباس والجماع والراحة وسائر ما يُستلذُّ به؛ رأيته يدفعُ بها ما قابله

(4)

من الآلام والبليَّات، أفلا تراك تدفعُ بالأكل ألم الجوع، وبالشُّرب ألم العطش، وباللباس ألم الحرِّ والبرد، وكذا سائرها.

(1)

«والشهوة» ليست في (ح، ن).

(2)

(ن): «البلاء» .

(3)

تقدم تخريج البيت (ص: 376).

(4)

(ن): «يقابله» . (ت): «قبله» .

ص: 781

ومن هنا قال بعض العقلاء: إنَّ لذَّاتها إنما هي دفعُ آلامٍ لا غير

(1)

، فأمَّا اللذاتُ الحقيقيَّة فلها دارٌ أخرى، ومحلٌّ آخرُ غيرُ هذه

(2)

.

فوجودُ هذه الآلام واللذَّات الممتزجة المختلطة من الأدلَّة على المعاد، وأنَّ الحكمة التي اقتضت ذلك هي أولى باقتضاء دارَيْن: دارٍ خالصةٍ للَّذَّاتِ

(3)

لا يشُوبها ألمٌ ما، ودارٍ خالصةٍ للألم لا يشُوبها لذَّةٌ ما؛ والدَّار الأولى هي الجنَّة، والدَّارُ الثانيةُ النَّار.

أفلا ترى كيف دلَّك

(4)

ما أنت مجبولٌ عليه في هذه النَّشأة من اللذَّة والألم على الجنَّة والنَّار، ورأيتَ شواهدهما وأدلَّة وجودهما مِنْ نفسك

(1)

(ح، ن): «إن لذاذتها إنما هي دفع الألم لا غير» .

(2)

انظر: «رسائل إخوان الصفا» (3/ 52)، و «رسائل فلسفية» لمحمد بن زكريا الرازي (36 ــ 39، 139 ــ 155)، و «مقالة عن ثمرة الحكمة» لابن الهيثم (20)، و «الهوامل والشوامل» (296)، و «تهذيب الأخلاق» لمسكويه (60)، و «مفاتيح الغيب» (12/ 166، 17/ 95، 18/ 175، 19/ 62)، و «المواقف» للإيجي (2/ 164)، و «طبقات الشافعية» للسبكي (10/ 295)، و «عيون الأنباء» (597).

وأصل هذا المعنى يذكره المتفلسفة في تقسيمهم للَّذَّات، وبنوا عليه أمورًا فاسدة، والتحقيق أن اللذة أمرٌ وجوديٌّ يستلزم دفع الألم بما بينهما من التضاد.

انظر: «النبوات» (381)، و «جامع المسائل» (6/ 118، 185)، و «قاعدة في المحبة» (64)، و «الأصفهانية» (281)، و «الصفدية» (2/ 235، 261)، و «مجموع الفتاوى» (7/ 536، 10/ 205، 325)، و «الرد على المنطقيين» (424)، و «الصواعق المرسلة» (1457)، و «اجتماع الجيوش الإسلامية» (305)، و «روضة المحبين» (207)، وما مضى (ص: 376، 381).

(3)

(ت، ق، د): «خالصة اللذات» .

(4)

(ق، ح، ت، ن): «ذلك» . وهو تحريف.

ص: 782

حتى كأنك تعاينُهما عِيانًا؟!

وانظُر كيف دلَّ العِيانُ والحِسُّ والوجودُ على حكمة الربِّ تعالى وعلى صدق رسله فيما أخبَروا به من الجنَّة والنَّار!

فتأمَّل كيف قاد النَّظرُ في حكمة الله تعالى إلى شهادة العقول والفطر بصدق رسله، وأنَّ ما أخبَروا به تفصيلًا يدلُّ عليه العقلُ مجملًا؛ فأين هذا مِنْ مقام من أدَّاه علمُه إلى المعارضة بين ما جاءت به الرُّسلُ وبين شواهد العقل وأدلَّته؟!

ولكنَّ تلك عقولٌ كادَها باريها، ووَكَلها إلى أنفسها؛ فحلَّت بها عساكرُ الخِذلان من كلِّ جانب.

وحسبُك بهذا الفصل وعظيم منفعته مِنْ هذا الكتاب، والله المحمودُ المسؤولُ تمام نعمته.

فهذه كلماتٌ مختصرةٌ نافعةٌ في مسألة إيلام الأطفال لعلَّك لا تظفرُ بها في أكثر الكتب

(1)

.

*

*

*

فارجع الآن إلى نفسك

(2)

:

وفكِّر في هذه الأفعال الطَّبيعية التي جُعِلت في الإنسان، وما فيها من الحكمة والمنفعة، وما جُعِل لكلِّ واحدٍ منها في الطَّبع من المحرِّك

(3)

(1)

وانظر: «شفاء العليل» (524، 600، 666، 679، 688)، و «طريق الهجرتين» (329 - 333).

(2)

«الدلائل والاعتبار» (56 - 61)، «توحيد المفضل» (35 - 41).

(3)

(ح، ن): «في الطبع المحرك» .

ص: 783

والدَّاعي الذي يقتضيه ويستحثُّه:

فالجوعُ يستحِثُّ الأكلَ ويطلُبه؛ لِمَا فيه من قِوام البدن وحياته ومماته

(1)

.

والكرى يقتضي النَّوم ويستحِثُّه؛ لما فيه من راحة البدن والأعضاء وجَمام القُوى وعَوْدِها إلى قوَّتها حديدةً

(2)

غير كالَّة.

والشَّبَقُ يقتضي الجماع الذي به دوامُ النَّسل، وقضاءُ الوطر، وتمامُ اللذَّة.

فتجدُ هذه الدَّواعي تستحثُّ الإنسانَ لهذه الأمور وتتقاضاها منه بغير اختياره، وذلك عينُ الحكمة؛ فإنه لو كان الإنسانُ إنما يستدعي هذه المُسْتَحثَّات إذا أرادها لأوشك أن يَشْتغل عنها بما يَعْروه

(3)

من العوارض مدَّةً فينحلَّ بدنُه ويهلك ويترامى إلى الفساد وهو لا يشعر، كما إذا احتاج بدنُه إلى شيءٍ من الدَّواء والعلاج

(4)

فدافَعه وأعرض عنه حتى استَحكم به الدَّاءُ فأهلَكه.

فاقتضت حكمةُ اللطيف الخبير أن جُعِلت فيه بواعثُ ومُسْتَحثَّاتٌ تؤزُّه

(1)

(ر): «فالجوع يقتضي الطُّعم الذي فيه حياة البدن وقوامه» .

(2)

(ح، ت، ن): «جديدة» . والمثبت من (د، ق) أولى بالصواب؛ يقال: «فلانٌ حديد الفهم» أي: ذكيُّ القلب صافي الذهن. وقال تعالى: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} أي: ثابتٌ نافذ. وانظر: «عمدة الحفاظ» للسمين (حدد).

(3)

(ح، ن): «يعوزه» .

(4)

(د، ق، ح، ن): «والصلاح» . والمثبت من (ت، ر) أشبه. والعبارة في (ض): «كما يحتاج الواحد الدواء لشيء مما يصلح به بدنه» .

ص: 784

أزًّا إلى ما فيه قِوَامه وبقاؤه ومصلحتُه، وتَرِدُ عليه بغير اختياره ولا استدعائه، فجُعِل لكلِّ واحدٍ من هذه الأفعال محرِّكٌ من نفس الطَّبيعة يحرِّكُه ويَحْدُوه عليه.

ثمَّ انظُر إلى ما أُعطِيَه من القُوى المختلفة التي بها قِوَامُه:

* فأُعطِي القوَّة الجاذبة

(1)

الطَّالبة المُسْتَحِثَّة التي تقتضي معلُومَها من الغذاء، فتأخذه وتُورِدُه على الأعضاء بحسب قبولها.

* ثمَّ أُعطِي القوَّة المُمْسِكة التي تمسكُ الطَّعام وتحبسُه ريثما تُنْضِجُه الطَّبيعةُ وتُحْكِمُ طبخَه وتهيِّئه لمصارفه وتبعثُه لمستحقِّيه.

* ثمَّ أُعطِي القوَّة الهاضمة التي تَصْرِفُه في البدن وتَهْضِمُه عن المعدة.

* ثمَّ أُعطِي القوَّة الدَّافعة، وهي التي تدفعُ ثُفْلَه وما لا منفعة فيه، فتدفعُه وتخرجُه عن البدن لئلَّا يؤذيه

(2)

ويُنْهِكه.

فمن أعطاك هذه القُوى عند شدَّة حاجتك إليها؟! ومن جعلها خدَمًا لك؟! ومن أعطاها أفعالها

(3)

واستعمل كلَّ واحدٍ منها على عملٍ غير عمل الآخر؟! ومن ألَّف بينها على تباينها حتى اجتمعت في شخصٍ واحدٍ ومحلٍّ واحد، ولو عادى بينها كان بعضها يُذْهِبُ بعضًا؟! فمن كان يَحُولُ بينه وبين ذلك؟!

فلولا القوَّةُ الجاذبةُ بِمَ كنت تتحرَّك لطلب الغذاء الذي به قِوامُ البدن؟!

(1)

(ح، ن): «الحادية» .

(2)

(ت): «يرديه» .

(3)

(ن): «أعطاك أفعالها» .

ص: 785

ولولا المُمْسِكةُ كيف كان الطَّعام يذهبُ

(1)

في الجوف حتى تَهْضِمَه المعدة؟!

ولولا الهاضمةُ كيف كان ينطبِخُ

(2)

حتى يَخْلُصَ منه الصَّفوُ إلى سائر أجزاء البدن وأعماقه؟!

ولولا الدَّافعةُ كيف كان الثُّفْلُ المؤذي القاتلُ لو انحبَس يخرجُ أوَّلًا فأوَّلًا، فيستريحُ البدن، فيخفُّ ويَنْشَط؟!

فتأمَّل كيف وُكِّلت هذه القُوى بك والقيام بمصالحك.

فالبدنُ كدارٍ للمَلِك فيها حشَمُه وخدمُه، قد وكَّل بتلك الدَّار قُوَّامًا

(3)

يقومون بمصالحها، فبعضهم لاقتضاء حوائجها وإيرادها عليها

(4)

، وبعضهم لقبض الوارد وحِفظه وخَزْنه إلى أن يُهيَّأ ويُصْلح، وبعضهم يقبضه فيهيِّئه ويصلحُه ويدفعُه إلى أهل الدَّار ويفرِّقُه عليهم بحسب حاجاتهم، وبعضهم لكَسْح الدَّار

(5)

وتنظيفها وكَنْسِها من الزِّبْل والأقذار.

فالمَلِك: هو المَلِكُ الحقُّ المبينُ جل جلاله، والدَّار: أنت

(6)

، والحَشَم والخدم: الأعضاءُ والجوارح، والقُوَّامُ عليها: هذه القُوى التي

(1)

(ر، ض): «يلبث» .

(2)

(ن، ح): «يطبخ» . والمثبت من (د، ق، ت، ر، ض).

(3)

في الأصول: «أقواما» . تحريف. والتصحيح من (ر، ض). وستأتي على الصواب في آخر الفقرة.

(4)

(ر): «لقضاء حوائج الحشم وإيرادها عليهم» .

(5)

الكَسْح: الكَنْس. وفي (ح): «لمسح الدار» .

(6)

(ر، ض): «والدار هي البدن» .

ص: 786

ذكرناها

(1)

.

تنبيه: فرقٌ بين نظر الطَّبيب والطَّبائعيِّ في هذه الأمور، وكونه مقصورًا على النَّظر في حِفظ الصِّحة ودَفْع السَّقم، فهو ينظرُ فيها من هذه الجهة فقط= وبين نظر المؤمن العارف فيها، فهو ينظرُ فيها من جهة دلالتها على خالقها وباريها، وما له فيها من الحِكَم البالغة، والنِّعَم السَّابغة، والآلاء التي دعا العبادَ إلى ذِكْرها وشُكرها.

تنبيه: تأمَّل حكمة الله عز وجل في الحفظ والنِّسيان الذي خَصَّ به نوعَ الإنسان وما له فيهما من الحِكم، وما للعبد فيهما من المصالح؛ فإنه لولا القوَّةُ الحافظةُ التي خُصَّ بها لدَخَل عليه الخللُ في أموره كلِّها ولم يَعْرِف ما له وما عليه، ولا ما أخذ ولا ما أعطى، ولا ما سَمِع ورأى، ولا ما قال ولا ما قيل له، ولا ذَكر من أحسَن إليه ولا من أساء إليه، ولا من عامله، ولا من نفَعه فيقرُب منه، ولا من ضرَّه فينأى عنه، ثمَّ كان لا يهتدي الطَّريق الذي سلكه أوَّل مرَّةٍ ولو سلكه مرارًا، ولا يعرفُ

(2)

علمًا ولو دَرَسَه عمرَه، ولا ينتفعُ بتجربة، ولا يستطيعُ أن يعتبر شيئًا

(3)

على ما مضى، بل كان خليقًا

(4)

أن ينسلخ من الإنسانيَّة أصلًا.

فتأمَّل عظيمَ المنفعة عليك في هذه الخِلال، وموقع الواحدة منهنَّ فضلًا عن جميعهنَّ.

(1)

انظر: «الذريعة إلى مكارم الشريعة» (81)، و «تفصيل النشأتين» (92)، و «الفوز الأصغر» لمسكويه (92).

(2)

(ر): «يعقل» . (ض): «يحفظ» .

(3)

(ح، ن): «يعبر» . (ت): «يغير» .

(4)

(ض): «حقيقا» .

ص: 787

ومِنْ أعجب النِّعم عليه نعمةُ النِّسيان؛ فإنه لولا النِّسيانُ لما سَلَا شيئًا

(1)

، ولا انقضت له حسرة، ولا تعزَّى عن مصيبة، ولا مات له حُزن، ولا بَطَل له حِقْد، ولا استمتع بشيءٍ من متاع الدُّنيا مع تذكُّر الآفات، ولا رجا غفلةً من عدوِّه ولا فترةً

(2)

من حاسده.

فتأمَّل نعمة الله عليه

(3)

في الحفظ والنِّسيان مع اختلافهما وتضادِّهما وجعَل له

(4)

في كلِّ واحدٍ منهما ضربًا

(5)

من المصلحة.

تنبيه: تأمَّل هذا الخُلق الذي خُصَّ به الإنسانُ دون جميع الحيوان، وهو خُلق الحياء الذي هو مِنْ أفضل الأخلاق وأجلِّها، وأعظمها قدرًا، وأكثرها نفعًا، بل هو خاصَّةُ الإنسانيَّة، فمن لا حياء فيه ليس معه من الإنسانيَّة إلا اللحمُ والدَّمُ وصورتهما الظَّاهرة، كما أنه ليس معه من الخير شيء.

ولولا هذا الخُلقُ لم يُقْرَ الضيف، ولم يُوفَ بالوعد، ولم تؤدَّ أمانة، ولم تُقْض لأحدٍ حاجة، ولا تحرَّى الرجلُ الجميلَ فآثره والقبيحَ فتنكَّبه

(6)

،

(1)

أي: نَسِيَه وطابت نفسُه بعد فراقه.

(2)

مهملة في (د). (ق، ح، ن): «نقمة» ، تحريف. وسقطت من (ت). والمثبت من (ر، ض) أشبه. وانظر: «بدائع الفوائد» (768، 772).

(3)

«عليه» ليست في (ح، ن).

(4)

كذا في الأصول و (ر، ض)، لكن السياق فيهما: «أفلا ترى كيف جعل في الإنسان الحفظ والنسيان وهما مختلفان متضادان، وجعل له

»، فغيَّر المصنف صدر الجملة الأولى وسها عن إصلاح الثانية، ولو قال:«وجعله» لاستقام سياق الكلام.

(5)

(ن): «ضرب» .

(6)

مهملة في (د). (ق، ح، ن): «فسلبه» ، وهو تحريفٌ عن المثبت من (ر، ض). والجملة برمتها ساقطة من (ت).

ص: 788

ولا سَتَر له عورةً، ولا امتنع من فاحشة.

وكثيرٌ من النَّاس لولا الحياءُ الذي فيه لم يؤدِّ شيئًا من الأمور المفتَرضة عليه، ولم يَرْع لمخلوقٍ حقًّا، ولم يَصِل له رَحِمًا، ولا برَّ له والدًا

(1)

؛ فإنَّ الباعث على هذه الأفعال إمَّا دينيٌّ ــ وهو رجاءُ عاقبتها الحميدة ــ، وإمَّا دنيويٌّ عاديٌّ

(2)

ــ وهو حياءُ فاعلها من الخلق ــ؛ فقد تبيَّن أنه لولا الحياءُ إمَّا من الخالق أو من الخلائق لم يفعلها صاحبُها.

وفي التِّرمذي

(3)

وغيره مرفوعًا: «استحيُوا من الله حقَّ الحياء» ، قالوا: وما حقُّ الحياء؟ قال: «أن تحفظ الرَّأسَ وما حوى، والبطنَ وما وعى، وتذكُر المقابرَ والبِلى» .

وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا لم تستَح فاصنع ما شئت»

(4)

.

(1)

(ت): «ولا بر له والدا ولا ولدا» .

(2)

في طرة (ح) إشارةٌ إلى أن في نسخة: «دنيوي علوي» ، وهي تحريف.

(3)

(2458)، و «مسند أحمد» (1/ 387)، وأبي يعلى (5047)، والبزار (2025)، وغيرهم من حديث عبد الله بن مسعودٍ بإسنادٍ ضعيف، والأشبه أنه موقوف.

قال الترمذي: «هذا حديثٌ إنما نعرفه من هذا الوجه» . وصححه الحاكم (4/ 323)، ولم يتعقبه الذهبي.

وروي مرفوعًا من وجوه أخرى لا يصحُّ منها شيء.

وانظر: «المجروحين» (1/ 377)، و «الميزان» (1/ 5، 2/ 306)، و «الترغيب والترهيب» للمنذري (3/ 383).

(4)

أخرجه البخاري (3483) من حديث أبي مسعود الأنصاري.

ص: 789

وأصحُّ القولين فيه قولُ أبي عبيدٍ

(1)

والأكثرين أنه تهديد

(2)

؛ كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، وقوله:{كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا} [المرسلات: 46].

وقالت طائفة: هو إذنٌ وإباحة

(3)

، والمعنى: أنك إذا أردتَ أن تفعل فعلًا فانظر قبل فعله، فإن كان مما يُستحيى فيه من الله ومن النَّاس فلا تفعلْه وإن كان مما لا يُستحيى منه فافعلْه فإنه ليس بقبيح.

وعندي أنَّ هذا الكلام صورتُه صورةُ الطَّلب، ومعناه معنى الخبر

(4)

، وهو في قوَّة قولهم:«من لا يستحي صَنَعَ ما يشتهي» ؛ فليس بإذنٍ ولا هو مجرَّد تهديد، وإنما هو في معنى الخبر، والمعنى: أنَّ الرَّادع عن القبيح إنما هو الحياء، فمن لم يَسْتح فإنه يصنعُ ما شاء.

وأخرجَ هذا المعنى

(5)

في صيغة الطَّلب لنكتةٍ بديعةٍ جدًّا

(6)

؛ وهي أنَّ

(1)

الذي في كتابه «غريب الحديث» (2/ 331، 332)، ونقله عنه الخطابي: أن هذا أمرٌ بمعنى الخبر. وهو القول الثالث الذي اختاره المصنف.

(2)

وبه قال ثعلب، كما في «غريب الحديث» للخطابي (1/ 156). وانظر:«شرح مشكل الآثار» (4/ 198)، و «الفتح» (6/ 523، 10/ 523).

(3)

حكاه المصنف في «الداء والدواء» (169) عن الإمام أحمد. وذكره الحليمي في «المنهاج» (3/ 232) مع القول الثالث، وقال:«وكلاهما حسنٌ وحق» .

(4)

وهذا قول أبي عبيد كما تقدم، وابن قتيبة في «غريب الحديث» (1/ 365)، ومحمد بن نصر كما في «جامع العلوم والحكم» (376). وقد ساقه المصنف في «الداء والدواء» بيانًا لمعنى التهديد، وفرَّق بينهما هنا، وهو أجود.

(5)

(ح، ن): «وإخراج هذا المعنى» .

(6)

انظر: «بدائع الفوائد» (182).

ص: 790