المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حاجة الناس إلى الشريعة ضرورية - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌حاجة الناس إلى الشريعة ضرورية

وقِس على هذا جميعَ المخلوقات، من الرِّمال

(1)

والجبال والأشجار ومقادير الكواكب وهيآتها.

وإذا كان لا سبيل إلى معرفة هذا في الخلق، بل يكفي فيه العلَّةُ العامَّةُ والحكمةُ الشاملة، فهكذا في الأمر يُعْلَمُ أنَّ جميعَ ما أمر به متضمِّنٌ لحكمةٍ بالغة، وأمَّا تفاصيلُ أسرار المأمورات والمنهيَّات فلا سبيل إلى علم البشر به، ولكن يُطْلِعُ الله من شاء من خلقه على ما شاء منه، فاعتصِم بهذا الأصل

(2)

.

فصل

(3)

‌حاجةُ النَّاس إلى الشريعة ضروريةٌ

فوق حاجتهم إلى كلِّ شيء، ولا نسبة لحاجتهم إلى علم الطبِّ إليها، ألا ترى أنَّ أكثر العالم يعيشون بغير طبيب، ولا يكونُ الطَّبيبُ إلا في بعض المدن الجامعة، وأمَّا أهلُ البَدْو كلُّهم، وأهلُ الكُفُور

(4)

كلُّهم، وعامَّةُ بني آدم؛ فلا يحتاجون إلى طبيب، وهم أصحُّ أبدانًا

(5)

وأقوى طبيعةً ممَّن هو متقيِّدٌ بالطَّبيب

(6)

، ولعلَّ أعمارهم متقاربة.

(1)

(ح، ن): «بين الرمال» .

(2)

انتهت هنا النسختان (ح، ن). وفي (ح): «تم، ويتلوه في الجزء الثاني: فصل حاجة الناس إلى الشريعة

». وفي (ن): «والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، يتلوه إن شاء الله في الجزء الثاني: فصل حاجة الناس إلى الشريعة

».

(3)

علق أحد القراء في طرة (ق): «هذا ابتداء النصف الثاني من الكتاب» . وليس كما قال. وقد بينا ذلك في المقدمة.

(4)

القُرى الصغيرة. جمع «كَفْر» . «المعجم الوسيط» (كفر).

(5)

(ت): «أصلح أبدانا» .

(6)

(ت): «مقتد بالطبيب» .

ص: 863

وقد فطر اللهُ بني آدم على تناول ما ينفعُهم واجتناب ما يضرُّهم، وجعل لكلِّ قومٍ عادةً وعُرفًا في استخراج [أدوية] ما يَهْجُم عليهم من الأدواء، حتى إنَّ كثيرًا من أصول الطبِّ إنما أُخِذت من عوائد النَّاسِ وعُرفهم وتجاربهم.

وأمَّا الشريعةُ فمبناها على تعريف مواقع رضا الله وسَخَطه في حركات العباد الاختياريَّة؛ فمبناها على الوحي المحض، والحاجةُ [إليها أشدُّ من الحاجة]

(1)

إلى التنفُّس، فضلًا عن الطَّعام والشراب؛ لأنَّ غاية ما يقدَّر في عدم التنفُّس والطَّعام والشراب موتُ البدن وتعطُّل الرُّوح عنه، وأمَّا ما يقدَّر عند عدم الشريعة ففسادُ الرُّوح والقلب جملةً، وهلاكُ الأبد؛ وشتَّان بين هذا وهلاك البدن بالموت.

فليس النَّاسُ قطُّ إلى شيءٍ أحوجَ منهم إلى معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والقيام به، والدَّعوة إليه، والصَّبر عليه، وجهاد من خرجَ عنه حتى يرجع إليه، وليس للعالَم صلاحٌ بدون ذلك البتَّة، ولا سبيل إلى الوصول إلى السَّعادة والفوز الأكبر إلا بالعُبور على هذا الجِسْر.

فصل

الشرائعُ كلُّها في أصولها ــ وإن تباينت ــ متَّفقة، مركوزٌ حُسْنُها في العقول، ولو وقعَت على غير ما هي عليه لخرجَت عن الحكمة والمصلحة

(2)

والرحمة، بل من المحال أن تأتي بخلاف ما أتت به؛ {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71].

(1)

ما بين المعكوفين من (ط)، وسقط من (د، ت، ق) لانتقال النظر.

(2)

«محاسن الشريعة» (21).

ص: 864

وكيف يجوِّزُ ذو العقل أن تَرِد شريعةُ أحكم الحاكمين بضدِّ ما وردت به؟!

* فالصَّلاة قد وُضِعَت على أكمل الوجوه وأحسنها التي تعبَّد

(1)

بها الخالقُ تبارك وتعالى عبادَه؛ مِنْ تضمُّنها

(2)

للتَّعظيم له بأنواع الجوارح، مِنْ نُطْق اللسان، وعمل اليدين والرِّجلين، والرأس وحواسِّه، وسائرُ أجزاء البدن يأخذُ بحظِّه

(3)

من الحكمة في هذه العبادة العظيمة المقدار، مع أخذ الحواسِّ الباطنة بحظِّها منها، وقيام القلب بواجب عبوديَّته فيها.

فهي مشتملةٌ على الثَّناء والحمد، والتَّمجيد والتَّسبيح والتكبير، وشهادة الحقِّ، والقيام بين يدي الربِّ مقام العبد الذَّليل الخاضع

(4)

المدبَّر المَرْبُوب.

ثمَّ التذلُّل له في هذا المقام، والتضرُّع والتقرُّب إليه بكلامه، ثمَّ انحناء الظَّهر ذلًّا له وخشوعًا واستكانة، ثمَّ استوائه قائمًا ليستعدَّ لخضوعٍ أكملَ له من الخضوع الأوَّل، وهو السُّجودُ مِنْ قيامٍ؛ فيضعُ أشرفَ شيءٍ فيه ــ وهو وجهُه ــ على التُّراب خشوعًا لربِّه، واستكانةً وخضوعًا لعظمته، وذلًّا لعزَّته، قد انكسر له قلبُه، وذلَّ له جسمُه، وخشعت له جوارحُه، ثمَّ يستوي قاعدًا يتضرَّعُ له، ويتذلَّلُ بين يديه، ويسأله من فضله، ثمَّ يعودُ إلى حاله من الذُّل والخشوع والاستكانة، فلا يزالُ هذا دأبه حتى يقضي صلاته، فيجلس عند

(1)

(ت): «يعبد» .

(2)

(ق): «ومن تضمنت» . (ت): «ومن تضمنها» . والأقرب ما أثبت.

(3)

(ت): «حظه» .

(4)

(ت): «الخاضع الخاشع» .

ص: 865

إرادة الانصراف

(1)

منها مثنيًا على ربِّه، مسلِّمًا على نبيِّه وعلى عباده، ثمَّ يصلي على رسوله، ثمَّ يسأل ربَّه من خيره وبرِّه وفضله

(2)

.

فأيُّ شيءٍ بعد هذه العبادة من الحُسْن؟! وأيُّ كمالٍ وراء هذا الكمال؟! وأيُّ عبوديةٍ أشرفُ من هذه العبودية؟!

فمن جوَّز عقلُه أن تَرِد الشريعةُ بضدِّها من كلِّ وجهٍ في القول والعمل، وأنه لا فرق في نفس الأمر

(3)

بين هذه العبادة وبين ضدِّها من السُّخرية، والسَّبِّ، والبَطَر

(4)

، وكشف العورة، والبول على السَّاقين، والضحك، والصَّفير، وأنواع المُجون وأمثال ذلك= فليُعَزِّ عقلَه

(5)

، وليسأل الله أن يهبه عقلًا سواه!

* وأمَّا حُسْنُ الزَّكاة وما تضمَّنته من مواساة ذوي الحاجات والمَسْكنة والخَلَّة من عباد الله الذين يعجزون عن إقامة نفوسهم، ويُخافُ عليهم التَّلفُ إذا خلَّاهم الأغنياءُ وأنفسَهم

(6)

، وما فيها من الرحمة والإحسان والبرِّ والطُّهْرة، وإيثار أهل الإيثار، والاتصاف بصفة الكرم والجُود والفضل، والخروج من سِمَات أهل الشُّحِّ والبخل والدَّناءة= فأمرٌ لا يستريبُ عاقلٌ في

(1)

(ق): «عند الانصراف» .

(2)

انظر: «محاسن الشريعة» (21، 81 - 85).

(3)

«في نفس الأمر» ليست في (ت).

(4)

وهو الطغيان عند النعمة. ويطلق على شدة المرح. وبطرَ الحقَّ: تكبَّر عنه ولم يقبله. «اللسان» (بطر).

(5)

(ت): «فليعر عقله» .

(6)

«محاسن الشريعة» (21).

ص: 866

حُسْنه ومصلحته، وأنَّ الآمرَ به أحكمُ الحاكمين.

وليس يجوزُ في العقل ولا في الفطرة البتَّة أن تَرِد شريعةٌ من الحكيم العليم

(1)

بضدِّ ذلك أبدًا.

* وأمَّا الصَّوم، فناهيك به مِنْ عبادةٍ تَكُفُّ النَّفس عن شهواتها، وتخرجُها عن شَبَه البهائم إلى شَبَه الملائكة المقرَّبين، فإنَّ النَّفس إذا خُلِّيَت ودواعي شهواتها التحقَت بعالم البهائم، فإذا كفَّت شهواتها لله ضيَّقَت مجاري الشيطان، وصارت قريبةً من الله بترك عاداتها

(2)

وشهواتها؛ محبةً له، وإيثارًا لمرضاته، وتقرُّبًا إليه، فيدعُ الصَّائمُ أحبَّ الأشياء إليه وأعظمها لصوقًا بنفسه من الطَّعام والشراب والجِماع من أجل ربِّه، فهو عبادةٌ لا تُتصَوَّرُ

(3)

حقيقتُها إلا بترك الشَّهوة لله، فالصَّائمُ يدعُ طعامَه وشرابه وشهواته من أجل ربِّه.

وهذا معنى كون الصَّوم له تبارك وتعالى، وبهذا فسَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذه الإضافة في الحديث، فقال:«يقولُ الله تعالى: كلُّ عمل ابن آدم يضاعف الحسنةُ بعشرة أمثالها، قال الله: إلا الصَّوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به، يدعُ طعامَه وشرابه من أجلي»

(4)

، حتى إنَّ الصَّائم ليتصوَّرُ بصورة من لا حاجة له في الدُّنيا إلا في تحصيل رضا الله

(5)

.

(1)

(ت): «الحكيم العظيم» .

(2)

(ق): «تترك عادتها» . والحرف الأول مهمل في (د).

(3)

(ق، د): «ولا تتصور حقيقتها» .

(4)

أخرجه البخاري (1894)، ومسلم (1151) من حديث أبي هريرة.

(5)

«محاسن الشريعة» (22).

ص: 867

وأيُّ حُسْنٍ يزيدُ على حُسْن هذه العبادة التي تَكْسِرُ الشهوة، وتَقْمَعُ النَّفس، وتحيي القلبَ وتفرحُه، وتزهِّدُ في الدُّنيا وشهواتها، وترغِّبُ فيما عند الله، وتذكِّرُ الأغنياءَ بشأن المساكين وأحوالهم، وأنهم قد أخذوا بنصيبٍ

(1)

من عَيْشِهم، فتعطِّف قلوبهم عليهم، ويعلمون ما هم فيه من نِعَم الله فيزدادوا له شكرًا؟!

وبالجملة، فعونُ الصَّوم على تقوى الله أمرٌ مشهور، فما استعان أحدٌ على تقوى الله وحِفظ حدوده واجتناب محارمه بمثل الصَّوم، فهو شاهدٌ لمن شرعه وأمر به بأنه أحكمُ الحاكمين وأرحمُ الراحمين، وأنه إنما شرعه إحسانًا إلى عباده، ورحمةً بهم

(2)

، ولطفًا بهم، لا بخلًا عليهم برزقه، ولا مجرَّد تكليفٍ وتعذيبٍ خالٍ من الحكمة والمصلحة، بل هو غايةُ الحكمة والرحمة والمصلحة، وأنَّ شَرْع هذه العبادات لهم من تمام نعمته عليهم، ورحمته بهم.

* وأمَّا الحجُّ، فشأنٌ آخرُ لا يُدْرِكه إلا الحنفاءُ الذين ضربوا في المحبة بسَهْم، وشأنه أجلُّ من أن تحيط به العبارة، وهو خاصَّةُ هذا الدِّين الحنيف، حتى قيل في قوله تعالى:{حُنَفَاءَ لِلَّهِ} [الحج: 31]: «أي: حُجَّاجًا»

(3)

.

وجَعَل الله بيتَه الحرام قِيامًا للنَّاس، فهو عمودُ العالَم الذي عليه بناؤه، فلو ترك النَّاسُ كلُّهم الحجَّ سنةً لخرَّت السَّماءُ على الأرض، هكذا قال

(1)

(ت): «نصيب» .

(2)

(ت): «ورحمة لهم» .

(3)

ورد هذا عن ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما. انظر:«تفسير الطبري» (3/ 106، 24/ 541).

ص: 868

ترجمانُ القرآن ابنُ عبَّاس

(1)

؛ فالبيتُ الحرامُ قِيامُ العالَم، فلا يزالُ قِيامًا ما دام هذا البيتُ محجوجًا.

فالحجُّ خاصَّةُ الحنيفية وتقويته

(2)

والصَّلاة سرُّ قول العبد: لا إله إلا الله؛ فإنه مؤسَّسٌ على التَّوحيد المحض والمحبة الخالصة، وهو استزارةُ المحبوب لأحبابه، ودعوتُهم إلى بيته ومحلِّ كرامته، ولهذا إذا دخلوا في هذه العبادة فشعارُهم: لبَّيك اللهمَّ لبَّيك، إجابةَ محبٍّ لدعوة حبيبه، ولهذا كان للتَّلبية موقعٌ عند الله، وكلَّما أكثر العبدُ منها كان أحبَّ إلى ربِّه وأحظى، فهو لا يملكُ نفسَه أن يقول: لبَّيك اللهمَّ لبَّيك

(3)

، حتى ينقطع نفَسُه.

وأمَّا أسرارُ ما في هذه العبادة من الإحرام، واجتناب العوائد، وكشف الرأس، ونزع الثِّياب المعتادة، والطَّواف، والوقوف بعرفة، ورمي الجمار، وسائر شعائر الحجِّ= فمما شَهِدت بحُسْنه العقولُ السَّليمة والفطرُ المستقيمة، وعَلِمَت بأنَّ الذي شرع هذا لا حكمة فوق حكمته. وسنعودُ إن شاء الله إلى الكلام في ذلك في موضعه

(4)

.

(1)

ذكره الإمام أحمد في «المناسك» ، كما في «منهاج السنة» (4/ 584).

وأخرج عبد الرزاق (5/ 13)، والفاكهي في «أخبار مكة» (811) عن ابن عباس قال:«لو ترك الناسُ زيارة هذا البيت عامًا واحدًا ما مُطِروا» . هذا لفظ عبد الرزاق. ولفظ الفاكهي: «ما نوظروا» . وفي إسناده رجلٌ لم يُسَمَّ.

(2)

كذا في (د). (ت): «وتقوية» . وهي مهملة في (ق). ولم يتبين لي وجه صواب العبارة. وأصلحت في (ط) إلى: «ومعونة الصلاة، وسر قول العبد

».

(3)

(ق): «لبيك لبيك» .

(4)

لم أقف على هذا الموضع. وانظر بعض القول في هذه المعاني في: «تهذيب السنن» (5/ 178)، و «بدائع الفوائد» (694)، و «مدارج السالكين» (2/ 426، 427)، و «محاسن الشريعة» للقفال (127 - 151)، و «إثبات العلل» للحكيم الترمذي (200 - 205).

ص: 869

* وأمَّا الجهاد، فناهيك به مِنْ عبادةٍ هي سَنَامُ العبادات وذِرْوتُها، وهو المِحَكُّ والدَّليلُ المفرِّقُ بين المحِبِّ والمدَّعي؛ فالمحِبُّ قد بذل مهجتَه وماله لربِّه وإلهه، متقرِّبًا إليه ببَذْل أعزِّ ما بحضرته، يودُّ لو أنَّ له بكلِّ شَعرةٍ نَفْسًا يبذُلها في حبِّه ومرضاته، ويودُّ أن لو قُتِل فيه ثمَّ أُحيِي ثمَّ قُتِل ثمَّ أُحيِي ثمَّ قُتِل، فهو يفدي بنفسه حبيبَه وعبدَه ورسوله، ولسانُ حاله يقول:

يَفْدِيكَ بالنَّفس صَبٌّ لو يكونُ له

أعزَّ مِنْ نفسِه شيءٌ فَداكَ به

(1)

فهو قد سلَّم نفسَه وماله لمشتريها، وعَلِم أنه لا سبيل إلى أخذ السِّلعة إلا ببذلِ ثمنها؛ {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: 111].

وإذا كان من المعلوم المستقرِّ عند الخلق أنَّ علامة المحبة الصَّحيحة بذلُ الرُّوح والمال في مرضاة المحبوب، فالمحبوبُ الحقُّ الذي لا تنبغي المحبةُ إلا له، وكلُّ محبةٍ سوى محبَّته فالمحبة له باطلة= أولى بأن يَشْرَع لعباده الجهادَ الذي هو غايةُ ما يتقرَّبون به إلى إلههم وربهم، وكانت قرابينُ مَنْ قبلهم من الأمم في ذبائحهم، وقرابينُهم تقديمُ أنفسهم للذَّبح في الله مولاهم الحقِّ.

(1)

البيت للبحتري في ديوانه (1/ 303)، و «عبث الوليد» (63)، وفي بعض نسخ الديوان أنه يروى لابن كيغلغ. وللوأواء في ديوانه (45). ولأبي العتاهية في «محاضرات الأدباء» (3/ 98)، وعنه في تكملة ديوانه (499). ودون نسبة في «الزهرة» (70)، و «المحب والمحبوب» (2/ 80).

ص: 870

فأيُّ حُسْنٍ يزيدُ على حُسْن هذه العبادة؟! ولهذا ادَّخرها اللهُ لأكمل الأنبياء، وأكمل الأمم عقلًا وتوحيدًا ومحبةً لله.

* وأمَّا الضحايا والهدايا، فقُربانٌ إلى الخالق سبحانه، يقومُ مقامَ الفِدية عن النَّفس المستحقَّة للتَّلف

(1)

، فِديةً وعِوَضًا وقُربانًا إلى الله، وتشبُّهًا بإمام الحنفاء، وإحياءً لسنَّته إذ فَدَى اللهُ ولدَه بالقُربان؛ فجَعَل ذلك في ذُرِّيته باقيًا أبدًا.

* وأمَّا الأيمانُ والنُّذور، فعقودٌ يَعْقِدُها العبدُ على نفسه، يؤكِّدُ بها ما ألزمه نفسَه من الأمور بالله ولله، فهي تعظيمٌ للخالق ولأسمائه ولحقِّه، وأن تكون العقودُ به وله، وهذا غايةُ التَّعظيم، فلا يُعْقَدُ بغير اسمه، ولا لغير القُرْب

(2)

إليه، بل إن حَلَف فبِاسْمِه تعظيمًا

(3)

وتوحيدًا وإجلالًا، وإن نَذَر فله توحيدًا وطاعةً ومحبةً وعبودية، فيكونُ هو المعبودُ وحده والمستعانُ به وحده.

* وأمَّا المطاعمُ والمشاربُ والملابسُ والمناكح، فهي داخلةٌ فيما يُقِيمُ الأبدانَ ويحفظُها من الفساد والهلاك، وفيما يعودُ ببقاء النَّوع الإنساني؛ ليتمَّ بذلك قِوامُ الأجساد وحِفظ النَّوع، فيتحمَّل الأمانةَ التي عُرِضت على السَّموات والأرض، ويقْوى على حملها وأدائها، ويتمكَّن من شُكر مَولى الإنعام ومُسْدِيه.

(1)

«محاسن الشريعة» (22).

(2)

(ت): «الندب» . ومهملة في (ق). ورسمها في (د) يشبه: «الفرب» .

(3)

(ت): «تعظيما وتحميدا» .

ص: 871

وفرق في هذه الأنواع بين المباح والمحظور، والحسن والقبيح، والضارِّ والنَّافع، والطَّيِّب والخبيث، فحرَّم منها القبيحَ والخبيثَ والضارَّ وأباح منها الحسنَ والطيِّبَ والنَّافع، كما سيأتي إن شاء الله.

وتأمَّل ذلك في المَناكح، فإنَّ من المستقرِّ في العقول والفطر أنَّ قضاء هذا الوَطَر في الأمَّهات والبنات والأخوات والعمَّات والخالات والجدَّات مُستقبَحٌ في كلِّ عقل، مُستهجَنٌ في كلِّ فطرة

(1)

، ومن المحال أن يكون المباحُ من ذلك مساويًا للمحظور في نفس الأمر، ولا فرق بينهما إلا مجرَّدُ التحكُّم بالمشيئة. سبحانك هذا بهتانٌ عظيم. وكيف يكونُ في نفس الأمر نكاحُ الأمِّ واستفراشُها مساويًا لنكاح الأجنبية واستفراشها، وإنما فرَّق بينهما محضُ الأمر؟!

وكذلك من المحال أن يكون الدَّمُ والبولُ والرجيعُ مساويًا للخبز والماء والفاكهة ونحوها، وإنما الشارعُ فرَّق بينهما فأباح هذا وحرَّم هذا مع استواء الكلِّ في نفس الأمر!

وكذلك أخذُ المال بالبيع والهبة والوصية والميراث لا يكونُ مساويًا لأخذه بالقهر والغلبة والغصب والسَّرقة والخيانة

(2)

، حتى يكون إباحةُ هذا وتحريمُ هذا راجعًا إلى محض الأمر والنهي المفرِّق بين المتماثلين!

وكذلك الظُّلمُ والكذبُ والزُّورُ والفواحشُ كالزِّنا واللواط وكشف العورة بين الملأ ونحو ذلك، كيف يسوِّغُ عقلُ عاقلٍ أنه لا فرق قطُّ في نفس

(1)

انظر: «محاسن الشريعة» (22).

(2)

(ق): «والجناية» .

ص: 872

الأمر بين ذلك وبين العدل والإحسان والعِفَّة والصِّيانة وسَتْر العورة، وإنما الشارعُ يحكم بإيجاب هذا وتحريم هذا؟!

هذا مما لو عُرِض على العقول السَّليمة التي لم تَنْغَل

(1)

، ولم يمسَّها دَغَلُ

(2)

المقالات

(3)

الفاسدة، وتعظيم أهلها، وحُسْن الظَّنِّ بهم= لكانت أشدَّ إنكارًا له، وشهادةً ببطلانه من كثيرٍ من الضروريات.

وهل ركَّبَ الله في فطرة عاقلٍ قطُّ أنَّ الإحسانَ والإساءة، والصِّدقَ والكذب، والفجورَ والعفَّة، والعدل والظُّلم، وقتلَ النُّفوس وإنجاءها، بل السُّجودَ لله وللصَّنم= سواءٌ في نفس الأمر، لا فرق بينهما وإنما الفرقُ بينهما الأمرُ المجرَّد؟! وأيُّ جحدٍ للضروريات أعظمُ من هذا؟!

وهل هذا إلا بمنزلة من يقول: إنه لا فرق بين الرجيع والبول، والدَّم والقيء، وبين الخبز واللَّحم، والماء والفاكهة، والكلُّ سواءٌ في نفس الأمر، وإنما الفرقُ بالعوائد؟! فأيُّ فرقٍ بين مدَّعي هذا الباطل وبين مدَّعي ذاك الباطل؟! وهل هذا إلا بَهْتٌ للعقل والحسِّ والضرورة والشَّرع والحكمة؟!

وإذا كان لا معنى عندهم للمعروف إلا ما أُمِرَ به فصار معروفًا بالأمر، ولا للمنكر إلا ما نُهِيَ عنه فصار منكرًا بنهيه، فأيُّ معنًى لقوله:{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157]؟! وهل حاصلُ ذلك زائدٌ

(1)

أي: تفسُد. نغَل الجرحُ: فسد. «اللسان» (نغل). وفي (ت): «تنعل» . وهي مهملة في (د، ق). وانظر: «زاد المعاد» (4/ 65)، و «إعلام الموقعين» (3/ 392).

(2)

الدَّغَل: الفساد. «اللسان» (دغل).

(3)

في الأصول: «للمثالات» . تحريف. وانظر: «الصواعق المرسلة» (1114).

ص: 873

على أن يقال: يأمرُهم بما يأمرُهم به، وينهاهم عمَّا ينهاهم عنه؟! وهذا كلامٌ يُنَزَّهُ عنه

(1)

آحادُ العقلاء فضلًا عن كلام ربِّ العالمين.

وهل دلَّت الآيةُ إلا على أنه أمرهم بالمعروف الذي تَعْرِفُه العقول، وتُقِرُّ بحُسْنه الفطر، فأمَرَهم بما هو معروفٌ في نفسه عند كلِّ عقلٍ

(2)

سليم، ونهاهم عمَّا هو منكرٌ في الطِّباع والعقول، بحيث إذا عُرِض على العقول السَّليمة أنكرته أشدَّ الإنكار، كما أنَّ ما أمَرَ به إذا عُرِض على العقل السَّليم قَبِله أعظمَ قبولٍ وشَهِد بحُسْنه. كما قال بعض الأعراب، وقد سئل: بم عرفتَ أنه رسولُ الله؟، فقال: ما أمَرَ بشيءٍ فقال العقلُ: ليته ينهى عنه، ولا نهى عن شيءٍ فقال العقلُ: ليته أمَرَ به

(3)

.

فهذا الأعرابيُّ أعرفُ بالله ودينه ورسوله من هؤلاء، وقد أقرَّ عقلُه

(4)

وفطرتُه بحُسْن ما أمَرَ به، وقُبْح ما نهى عنه، حتى كان في حقِّه من أعلام نبوَّته وشواهد رسالته، ولو كان جهةُ كونه معروفًا ومنكرًا هو الأمرَ المجرَّد لم يكن فيه دليل، بل كان يُطلَبُ له الدَّليلُ من غيره.

(1)

(ت): «تنزه عن» .

(2)

(ت): «كل ذي عقل» .

(3)

قال العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه للمنذر بن ساوى ملك البحرين: «هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم الأميُّ الذي والله لا يستطيع ذو عقلٍ أن يقول: ليت ما أمر به نهى عنه، أو ما نهى عنه أمر به، أو ليته زاد في عفوه أو نقص من عقابه» . انظر: «الروض الأنف» (4/ 391)، و «الاكتفاء» للكلاعي (2/ 316)، و «الجواب الصحيح» (1/ 330). وأصلُ خبر بعث العلاء إلى البحرين مشهورٌ في دواوين السنَّة.

(4)

(ت): «دينه وعقله» .

ص: 874

ومن سلك ذلك المسلكَ الباطل لم يُمْكِنْه أن يستدلَّ على صحَّة نبوَّته بنفس دعوته ودينه، ومعلومٌ أنَّ نفسَ الدِّين الذي جاء به والملَّة التي دعا إليها مِنْ أعظم براهين صدقه وشواهد نبوَّته، ومن لم يُثْبِت لذلك صفاتٍ وجوديةً أوجَبَت حُسْنَه وقبول العقول له، ولضدِّه صفاتٍ أوجَبَت قُبْحَه ونفور العقول عنه= فقد سَدَّ على نفسه بابَ الاستدلال بنفس الدَّعوة، وجعلها مُسْتَدَلًّا عليه فقط.

* ومما يدلُّ على صحَّة ذلك قولُه تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} ، فهذا صريحٌ في أنَّ الحلال كان طيِّبًا قبل حِلِّه، وأنَّ الخبيثَ كان خبيثًا قبل تحريمه، ولم يُسْتَفد طِيبُ هذا وخُبثُ هذا من نفس الحِلِّ والتَّحريم؛ لوجهين اثنين:

أحدهما: أنَّ هذا عَلَمٌ من أعلام نبوَّته التي احتجَّ الله بها على أهل الكتاب، فقال:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].

فلو كان الطِّيبُ والخُبْثُ

(1)

إنما استُفِيد من التَّحريم والتَّحليل لم يكن في ذلك دليل، فإنه بمنزلة أن يقال: يُحِلُّ لهم ما يُحِلُّ، ويُحَرِّمُ عليهم ما يُحَرِّم. وهذا أيضًا باطل؛ فإنه لا فائدة فيه، وهو الوجه الثَّاني.

فثبت أنه أحلَّ ما هو طيِّبٌ في نفسه قبل الحِلِّ، فكساهُ بإحلاله طِيبًا آخر، فصار منشأُ طِيبه من الوجهين معًا.

(1)

(ت): «الخبيث والطيب» . (د، ق): «الطيب والخبيث» .

ص: 875

فتأمَّل هذا الموضعَ حقَّ التأمُّل يُطْلِعْك على أسرار الشريعة، ويُشْرِفْك على محاسنها وكمالها وبهجتها وجلالها، وأنه من الممتنع في حكمة أحكم الحاكمين أن تَرِدَ بخلاف ما وردت به، وأنَّ الله تعالى يتنزَّهُ عن ذلك كما يتنزَّهُ عن سائر ما لا يليقُ به.

* ومما يدلُّ على ذلك قولُه تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، وهذا دليلٌ على أنها فواحشُ في نفسها، لا تستحسنُها العقول، فعَلَّق

(1)

التَّحريمَ بها لفُحْشِها؛ فإنَّ ترتيبَ الحكم على الوصف المناسب المشتقِّ يدلُّ على أنه هو العلَّةُ المقتضيةُ له، وهذا دليلٌ في جميع هذه الآيات التي ذكرناها؛ فدلَّ على أنه حرَّمها لكونها فواحش، وحرَّم الخبيثَ لكونه خبيثًا، وأمَرَ بالمعروف لكونه معروفًا، والعلَّةُ يجبُ أن تُغايِرَ المعلول، فلو كان كونُه فاحشةً هو معنى كونه منهيًّا عنه، وكونُه خبيثًا هو معنى كونه محرَّمًا= كانت العلَّةُ عينَ المعلول، وهذا محال، فتأمَّله، وكذا تحريمُ الإثم والبغي دليلٌ على أنَّ هذا وصفٌ ثابتٌ له قبل التَّحريم.

* ومن هذا قولُه تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 23]؛ فعلَّل النهيَ في الموضعين بكون المنهيِّ عنه فاحشةً، ولو كان جهةُ كونه فاحشةً هو النهي لكان تعليلًا للشيء بنفسه، ولكان بمنزلة أن يقال: لا تقربوا الزِّنا فإنه يقول لكم: لا تقربوه، أو: فإنه منهيٌّ عنه! وهذا محالٌ من وجهين:

(1)

مهملة في (د). وفي (ق): «فتعلق» .

ص: 876

أحدهما: أنه يتضمَّنُ إخلاءَ الكلام من الفائدة.

والثَّاني: أنه تعليلٌ للنهي بالنهي.

* ومن ذلك قولُه تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 47]، فأخبَر تعالى أنَّ ما قدَّمت أيديهم قبل البعثة سببٌ لإصابتهم بالمصيبة، وأنه سبحانه لو أصابهم بما يستحقُّون من ذلك لاحتجُّوا عليه بأنه لم يُرسِل إليهم رسولًا، ولم ينزِّل عليهم كتابًا، فقَطَعَ هذه الحجَّة بإرسال الرسول، وإنزال الكتاب، لئلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّةٌ بعد الرُّسل.

وهذا صريحٌ في أنَّ أعمالهم قبل البعثة كانت قبيحةً بحيث استحقُّوا أن يصابوا

(1)

بها المصيبةَ، ولكنه سبحانه لا يعذِّبُ إلا بعد إرسال الرُّسل

(2)

.

وهذا هو فصلُ الخطاب وتحقيقُ القول في هذا الأصل العظيم: أنَّ القُبْحَ ثابتٌ للفعل في نفسه، وأنه لا يعذِّبُ اللهُ عليه إلا بعد إقامة الحجَّة بالرِّسالة.

وهذه النُّكتة هي التي فاتت

(3)

المعتزلةَ والكُلَّابية كليهما، فاستطالت كلُّ طائفةٍ منهما على الأخرى؛ لعدم جمعها بين هذين الأمرين، فاستطالت الكُلَّابيةُ على المعتزلة بإثباتهم العذابَ قبل إرسال الرُّسل، وترتيبهم العقابَ على مجرَّد القُبْح العقلي، وأحسنوا في ردِّ ذلك عليهم، واستطالت المعتزلةُ

(1)

في الأصول: «يصيبوا» . والمثبت أشبه. وانظر: «شفاء العليل» (462).

(2)

انظر: «مدارج السالكين» (1/ 232، 3/ 489).

(3)

(ق): «قامت بين» . (ت): «قامت» .

ص: 877

عليهم في إنكارهم الحُسْنَ والقُبْحَ العقليَّين جملةً، وجَعْلِهم انتفاءَ العذاب قبل البعثة دليلًا على انتفاء القُبْح واستواء الأفعال في أنفسها، وأحسنوا في ردِّ هذا عليهم.

فكلُّ طائفةٍ استطالت على الأخرى بسبب إنكارها الصَّواب.

وأمَّا من سَلَك هذا المسلكَ الذي سلكناه، فلا سبيل لواحدةٍ من الطَّائفتين إلى ردِّ قوله، ولا الظَّفر عليه أصلًا؛ فإنه موافقٌ لكلِّ طائفةٍ على ما معها من الحقِّ، مقرِّرٌ له، مخالفٌ لها في باطلها، منكرٌ له.

وليس مع النُّفاة قطُّ دليلٌ واحدٌ صحيحٌ على نفي الحُسْن والقُبح العقليَّين، وأنَّ الأفعال المتضادَّة كلَّها في نفس الأمر سواءٌ لا فرق بينها إلا بالأمر والنهي، وكلُّ أدلَّتهم على هذا باطلةٌ كما سنذكرها ونذكرُ بطلانها إن شاء الله تعالى.

وليس مع المعتزلة دليلٌ واحدٌ صحيحٌ قطُّ يدلُّ على إثبات العذاب على مجرَّد القُبح العقليِّ قبل بعثة الرُّسل، وأدلَّتُهم على ذلك كلُّها باطلةٌ كما سنذكرُها ونذكرُ بطلانها إن شاء الله تعالى.

* ومما يدلُّ على ذلك أيضًا: أنه سبحانه يحتجُّ على فساد مذهب من عبد غيرَه بالأدلَّة العقلية التي تقبلُها الفطرُ والعقول، ويجعلُ ما ركَّبه في العقول من حُسْن عبادة الخالق وحده وقُبْح عبادة غيره مِنْ أعظم الأدلَّة على ذلك، وهذا في القرآن أكثر من أن يُذْكَرَ ههنا، ولولا أنه مستقرٌّ في العقول والفطر حُسْنُ عبادته وشكره، وقُبح عبادة غيره وتركُ شكره= لما احتَجَّ عليهم بذلك أصلًا، وإنما كانت الحجَّةُ في مجرَّد الأمر.

ص: 878

وطريقةُ القرآن صريحةٌ في هذا، كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21 - 22]، فذكر سبحانه أمرَهم بعبادته، وذكر اسمَ الربِّ مضافًا إليهم لمقتضى عبوديَّتهم لربهم ومالكهم، ثمَّ ذكر ضروبَ إنعامه عليهم: بإيجادهم وإيجاد من قبلهم، وجَعْل الأرض فراشًا لهم يمكنُهم الاستقرارُ عليها والبناءُ والسُّكنى، وجَعْل السَّماء بناءً وسقفًا؛ فذكر أرض العالم وسقفَه، ثمَّ ذكر إنزال مادَّة أقواتهم ولباسهم وثمارهم، منبِّهًا بهذا على استقرار حُسْن عبادة من هذا شأنُه وتشكره الفطرُ والعقول

(1)

، وقُبح الإشراك به وعبادة غيره.

* ومن هذا قولُه تعالى حاكيًا عن صاحب ياسينَ أنه قال لقومه محتجًّا عليهم بما تُقِرُّ به فطرُهم وعقولهم: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 22]، فتأمَّل هذا الخطابَ كيف تجدُ تحته أشرفَ معنًى وأجلَّه، وهو أنَّ كونه سبحانه فاطرًا لعباده يقتضي عبادتهم له، وأنَّ من كان

(2)

مفطورًا مخلوقًا فحقيقٌ به أن يعبُد فاطرَه وخالقه، ولا سيَّما إذا كان مردُّه إليه؛ فمبدؤه منه ومصيرُه إليه، وهذا يوجبُ عليه التفرُّغ لعبادته.

ثمَّ احتجَّ عليهم بما تُقِرُّ به عقولهم وفطرُهم من قُبح عبادة غيره، وأنها أقبحُ شيءٍ في العقل وأنكَرُه، فقال: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ

(1)

أي: ومن تشكره الفطر والعقول.

(2)

(ت، ق، د): «وان كان» . والمثبت من (ط)، وهو أشبه.

ص: 879

بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يس: 23 - 24]، أفلا تراه كيف لم يحتجَّ عليهم بمجرَّد الأمر، بل احتجَّ عليهم بالعقل الصَّحيح ومقتضى الفطرة؟!

* ومن هذا قولُه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 73 - 74]؛ فضربَ لهم سبحانه مثلًا من عقولهم يدلُّهم على قُبح عبادتهم لغيره، وأنَّ هذا أمرٌ مستقرٌّ قبحُه وهُجْنتُه في كلِّ عقلٍ وإن لم يَرِد به الشرع.

وهل في العقل أنكرُ وأقبحُ مِن عبادة مَن لو اجتمعوا كلُّهم لم يخلقوا ذبابًا واحدًا وإن يَسْلُبهم الذُّبابُ شيئًا لم يَقْدِروا على الانتصار منه واستنقاذ ما سَلَبَهم إياه، وتَرْك عبادة الخلَّاق العليم، القادر على كلِّ شيء، الذي ليس كمثله شيء؟!

أفلا تراه كيف احتجَّ عليهم بما ركَّبه في العقول من حُسْن عبادته وحده وقُبح عبادة غيره؟!

* وقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [الزمر: 29]، هذا مثلٌ ضربه الله لمن عَبَده وحده فسَلِمَ له، ولمن عبد من دونه آلهةً فهم شركاءُ فيه متشاكِسُون عَسِرُون، فهل يستوي في العقول هذا وهذا؟!

وقد أكثَر تعالى من هذه الأمثال ونوَّعها مستدلًّا بها على حُسْن شكره

ص: 880

وعبادته، وقُبح عبادة غيره، ولم يحتجَّ عليهم بنفس الأمر، بل بما ركَّبه في عقولهم من الإقرار بذلك، وهذا كثيرٌ في القرآن، فمن تتبَّعه وجده.

* وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]، فذكر توحيدَه، وذكر المناهي التي نهاهم عنها، والأوامرَ التي أمرهم بها، ثمَّ خَتَم الآيات بقوله:{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38] أي: مخالفةُ هذه الأوامر وارتكاب هذه المناهي سيِّئةٌ مكروهةٌ لله.

فتأمَّل قوله: {كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} أي: أنه سيِّئٌ

(1)

في نفس الأمر عند الله، حتى لو لم يَرِد به تكليفٌ لكان سيِّئةً في نفسه عند الله مكروهًا له، وكراهتُه سبحانه له لما هو عليه من الصِّفة التي اقتضت أن كَرِهَه، ولو كان قُبحُه إنما هو مجرَّدُ النهي لم يكن مكروهًا لله؛ إذ لا معنى للكراهة عندهم إلا كونُه منهيًّا عنه، فيعودُ قولُه:{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} إلى معنى: كلُّ ذلك منهيٌّ عنه عند ربك! ومعلومٌ أنَّ هذا غيرُ مرادٍ من الآية.

وأيضًا؛ فإذا وقع ذلك منهم فهو عند النُّفاة للحُسْن والقُبح محبوبٌ لله، مرضيٌّ له؛ لأنه إنما وقع بإرادته، والإرادةُ عندهم هي المحبة لا فرق بينهما. والقرآنُ صريحٌ في أنَّ هذا كلَّه قبيحٌ عند الله، مكروهٌ، مبغوضٌ له، وقع أو لم يقع، وجعل سبحانه هذا البغض والقبحَ سببًا للنهي عنه، ولهذا جعله علَّةً وحكمةً للأمر، فتأمَّله، والعلَّةُ غيرُ المعلول.

* وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، دلَّ ذلك على أنَّ في نفس

(1)

(د، ق): «سيئة» . وهي قراءة محتملة.

ص: 881

الأمر قِسطًا، وأنَّ الله سبحانه أنزل كتابه وأنزل الميزانَ ــ وهو العدل ــ ليقوم النَّاسُ بالقِسط الذي

(1)

أُنزِل الكتابُ لأجله والميزان.

فعُلِم أنَّ في نفس الأمر ما هو قِسطٌ وعدلٌ حسن، ومخالفتُه قبيحة، وأنَّ الكتابَ والميزان نزلا لأجله، ومن ينفي الحُسنَ والقُبحَ يقول: ليس في نفس الأمر ما هو عدلٌ حَسَن، وإنما صار قِسطًا وعدلًا بالأمر فقط. ونحن لا ننكرُ أنَّ الأمر كساه حُسْنًا وعدلًا إلى حُسْنه وعدله في نفسه، فهو في نفسه قِسطٌ حَسَن، وكساه الأمرُ حُسْنًا آخر يُضاعَفُ به كونُه عدلًا حسنًا؛ فصار ذلك ثابتًا له من الوجهين جميعًا.

* ومن هذا قولُه تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]؛ فقوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} دليلٌ على أنها في نفسها فحشاء، وأنَّ الله لا يأمرُ بما يكونُ كذلك، وأنه يتعالى ويتقدَّسُ عنه، ولو كان كونُه فاحشةً إنما عُلِم بالنهي خاصَّةً كان بمنزلة أن يقال: إنَّ الله لا يأمرُ بما ينهى عنه. وهذا كلامٌ يُصَانُ عنه آحادُ العقلاء، فكيف بكلام ربِّ العالمين؟!

ثمَّ أكَّد سبحانه هذا الإنكار بقوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29]، فأخبَر أنه يتعالى عن الأمر بالفحشاء، بل أوامرُه كلُّها حسنةٌ في العقول، مقبولةٌ في الفِطر؛ فإنه أمَر بالقِسط لا بالجَوْر، وبإقامة الوجوه له عند مساجده لا لغيره، وبدعوته وحده مخلصينَ له الدِّين لا بالشِّرك؛ فهذا هو الذي يأمرُ به تعالى، لا بالفحشاء.

(1)

«الذي» ليست في (ق)، وضرب عليها ابن بردس في (د).

ص: 882

أفلا تراه كيف يُخْبِرُ بجنس

(1)

ما يأمرُ به وبحُسْنه

(2)

، وينزِّه نفسَه عن الأمر بضدِّه، وأنه لا يليقُ به تعالى؟!

* [وقال تعالى]: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]، فاحتجَّ سبحانه على حُسْن دين الإسلام وأنه لا شيء أحسنُ منه بأنه

(3)

يتضمَّنُ إسلامَ الوجه لله، وهو إخلاصُ القصد والتوجُّه والعمل له سبحانه، والعبدُ مع ذلك محسنٌ آتٍ بكلِّ حَسَن، لا مرتكبٌ للقُبح الذي يكرهُه الله، بل هو مخلصٌ لربِّه، محسنٌ في عبادته بما يحبُّه ويرضاه، وهو مع ذلك متَّبعٌ لملَّة إبراهيم في محبَّته لله وحده، وإخلاص الدِّين له، وبَذْل النَّفس والمال في مرضاته ومحبته.

وهذا احتجاجٌ منه على أنَّ دين الإسلام أحسنُ الأديان بما تضمَّنه مما تستحسنُه العقول، وتشهدُ به الفِطر، وأنه قد بلغ الغاية القصوى في درجات الحُسْن والكمال.

وهذا استدلالٌ بغير الأمر المجرَّد، بل هو دليلٌ على أنَّ ما كان كذلك فحقيقٌ بأن يأمر به عبادَه، ولا يرضى منهم سواه.

* ومثلُ هذا قولُه تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، فهذا احتجاجٌ بما ركَّب في العقول والفِطر، لأنه لا قول للعبد أحسنُ من هذا القول.

(1)

(ت): «بحسن» . تحريف.

(2)

الضبط من (ق). ومهملة في (د). (ط): «ويحسنه» .

(3)

في الأصول: «فإنه» . والمثبت من (ط) أشبه.

ص: 883

* وقال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160]، فأيُّ شيءٍ أصرحُ من هذا

(1)

؟! حيثُ أخبَر سبحانه أنه حرَّمه عليهم مع كونه طيِّبًا في نفسه، فلولا أنَّ طِيبَه أمرٌ ثابتٌ له بدون الأمر لم يكن ليجمع الطِّيبَ والتَّحريم.

وقد أخبَر تعالى أنه حرَّم عليهم طيِّباتٍ كانت حلالًا عقوبةً لهم، فهذا تحريمُ عقوبة، بخلاف التَّحريم على هذه الأمَّة فإنه تحريمُ صيانةٍ وحماية، ولا فرق عند النُّفاة بين الأمرين، بل الكلُّ سواء.

فالله سبحانه

(2)

أمر عبادَه بما أمرهم به رحمةً منه وإحسانًا وإنعامًا عليهم، لأنَّ صلاحهم في معاشهم وأبدانهم وأحوالهم وفي معادهم ومآلهم إنما هو بفعلِ ما أُمِروا به، وهو في ذلك بمنزلة الغذاء الذي لا قِوام للبدن إلا به، بل أعظم، ليس مجرَّد تكليفٍ وابتلاءٍ كما يظنُّه كثيرٌ من النَّاس، ونهاهم عما نهاهم عنه صيانةً وحِمْيةً

(3)

لهم، إذ لا بقاء لصحَّتهم ولا حِفظ لها إلا بهذه الحِمْية.

فلم يأمرهم حاجةً منه إليهم وهو الغنيُّ الحميد، ولا حرَّم عليهم ما حرَّم بخلًا منه عليهم وهو الجوادُ الكريم، بل أمرُه ونهيه عينُ حظِّهم وسعادتهم العاجلة والآجلة، ومَصْدَرُ أمره ونهيه رحمتُه الواسعة وبرُّه وجودُه وإحسانُه وإنعامُه، فلا يُسألُ عمَّا يفعل؛ لكمال حكمته وعلمه ووقوع أفعاله على وَفْق المصلحة والرحمة والحكمة.

(1)

(ت): «أصرح من هذا القول» .

(2)

(ق، د): «فإنه سبحانه» .

(3)

(ت): «وحماية» . وضبطها ابن بردس في (د) بتشديد الياء!

ص: 884

* وقال تعالى: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 69 - 71]، فأخبَر سبحانه أنَّ الحقَّ لو اتَّبع أهواء العباد فجاء شرعُ الله ودينُه بأهوائهم لفسدت السَّمواتُ والأرض ومن فيهنَّ.

ومعلومٌ أنَّ عند النُّفاة يجوزُ أن يَرِد شرعُ الله ودينُه بأهواء العباد، وأنه لا فرق في نفس الأمر بين ما وَرَد به وبين ما تقتضيه أهواؤهم إلا مجرَّدُ الأمر، وأنه لو وَرَد بأهوائهم جاز وكان تعبُّدًا ودينًا. وهذه مخالفةٌ صريحةٌ للقرآن، وأنه من المحال أن يتَّبع الحقُّ أهواءهم، وأنَّ أهواءهم مشتملةٌ على قُبحٍ عظيمٍ لو وَرَد الشرعُ به لفَسَد العالَمُ أعلاه وأسفلُه وما بين ذلك.

ومعلومٌ أنَّ هذا الفساد إنما يكونُ لقُبح خلاف ما شرعه الله وأمر به، ومنافاته لصلاح العالم عُلوِيِّه وسُفلِيِّه، وأنَّ خرابَ العالم وفساده لازمٌ لحصوله ولشرعه، وأنَّ كمال حكمة الله وكمال علمه ورحمته وربوبيَّته يأبى ذلك ويمنعُ منه

(1)

، ومن يقول: الجميعُ في نفس الأمر سواء، يجوِّزُ ورودَ التعبُّد بكلِّ شيء، سواء كان مقتضى

(2)

أهوائهم أو خلافها.

* ومثلُ هذا قولُه تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22]، أي: لو كان في السَّموات والأرض آلهةٌ تُعْبَدُ غيرُ الله لفسَدتا وبَطَلتا، ولم يقل: أربابٌ، بل قال: آلهة؛ والإلهُ هو المعبودُ

(1)

(ت، ق): «تأبى ذلك وتمنع منه» .

(2)

(ق، ت): «يقتضي» . والحرف الأول مهمل في (د). والمثبت أقوم.

ص: 885

المَألوه، وهذا يدلُّ على أنه من الممتنع المستحيل عقلًا أن يَشْرَع اللهُ عبادةَ غيره أبدًا، وأنه لو كان معه معبودٌ سواه لفسَدت السَّمواتُ والأرض.

فقُبْحُ عبادة غيره قد استقرَّ في الفِطر والعقول وإن لم يَرِد بالنهي

(1)

عنه شرع، بل العقلُ يدلُّ على أنه أقبحُ القبيح على الإطلاق، وأنه من المحال أن يشرعه الله قطُّ؛ فصلاحُ العالم في أن يكون الله وحده هو المعبود، وفسادُه وهلاكُه في أن يُعْبَد معه غيرُه، ومحالٌ أن يشرع لعباده ما فيه فسادُ العالم وهلاكُه، بل هو المنزَّهُ عن ذلك.

فصل

* وقد أنكر تعالى على من نسب إلى حكمته التسويةَ بين المختلفَيْن، كالتسوية بين الأبرار والفجَّار؛ فقال تعالى:{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]، وقال تعالى:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21]؛ فدلَّ على أنَّ هذا حكمٌ سيِّاءٌ قبيح، ينزَّه اللهُ عنه.

ولم ينكره

(2)

سبحانه من جهة أنه أخبر بأنه لا يكون، وإنما أنكره من جهة قُبحِه في نفسه، وأنه حكمٌ سيِّاءٌ يتعالى ويتنزَّهُ عنه لمنافاته لحكمته وغِنَاه وكماله ووقوع أفعاله كلِّها على السَّداد والصَّواب والحكمة، فلا يليقُ به أن يجعل البرَّ كالفاجر، ولا المحسنَ كالمسيء، ولا المؤمنَ كالمفسد في

(1)

(ت): «في النهي» .

(2)

في الأصول: «ولم ينكر» . والمثبت من (ط).

ص: 886

الأرض؛ فدلَّ على أنَّ هذا قبيحٌ في نفسه، تعالى الله عن فعله.

* ومن هذا أيضًا: إنكارُه سبحانه على من جوَّز أن يَتْرُك عبادَه سُدًى، فلا يأمرُهم ولا ينهاهم، ولا يثيبُهم ولا يعاقبُهم، وأنَّ هذا الحُسبان باطل، والله متعالٍ عنه لمنافاته لحكمته وكماله.

كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36].

قال الشافعي رضي الله عنه: «أي: مهملًا لا يُؤمر ولا يُنهى»

(1)

. وقال غيره: «لا يثابُ ولا يعاقَب»

(2)

.

والقولان واحد؛ لأنَّ الثَّوابَ والعقاب غايةُ الأمر والنهي، فهو سبحانه خلقهم للأمر والنهي في الدُّنيا والثَّواب والعقاب في الأخرى، فأنكر سبحانه على من زعم أنه يُتْرَكُ سدًى إنكارَ من جَعَل في العقل استقباحَ ذلك واستهجانه، وأنه لا يليقُ أن يُنسَب ذلك إلى أحكم الحاكمين.

ومثلُه قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115 - 116]، فنزَّه نفسَه سبحانه وباعَدَها عن هذا الحُسْبان، وأنه يتعالى عنه ولا يليقُ به؛ لقُبحِه ولمنافاته لحكمته ومُلْكه وإلهيَّته.

أفلا ترى كيف ظهرَ في العقل الشَّهادةُ بدينه وشرعه وثوابه وعقابه؟!

وهذا يدلُّ على إثبات المعاد بالعقل، كما يدلُّ على إثباته بالسَّمع، وكذلك دينُه وأمرُه وما بعث به رسلَه هو ثابتٌ في العقول جملةً، ثمَّ عُلِمَ

(1)

انظر: «الرسالة» (25)، و «إبطال الاستحسان» (9/ 68 - الأم).

(2)

انظر: «زاد المسير» (8/ 425)، و «تفسير ابن كثير» (8/ 3672).

ص: 887

بالوحي؛ فقد تطابقت شهادةُ العقل والوحي على توحيده وشرعه، والتَّصديق بوعده ووعيده، وأنه سبحانه دعا عبادَه على ألسنة رسله إلى ما وضع في العقول حُسْنَه والتَّصديقَ به جملةً، فجاء الوحيُ مفصِّلًا ومبيِّنًا ومقرِّرًا ومذكِّرًا لما هو مركوزٌ في الفِطر والعقول.

ولهذا سأل هِرَقْلُ أبا سفيانَ في جملة ما سأله عنه من أدلَّة النُّبوَّة وشواهدها عمَّا يأمرُ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال: بم يأمرُكم؟ قال: يأمرُنا بالصَّلاة والصِّدق والعفاف

(1)

، فجَعَل ما يأمرُ به من أدلَّة نبوَّته؛ فإنَّ أكذبَ الخلق وأفجَرهم من ادَّعى النَّبوَّة وهو كاذبٌ فيها على الله، وهذا محالٌ أن يأمر إلا بما يليقُ بكذبه وفجوره وافترائه، فدعوتُه تليقُ به، وأمَّا الصَّادقُ البارُّ الذي هو أصدقُ الخلق وأبرُّهم، فدعوتُه لا تكونُ إلا أكملَ دعوةٍ وأشرفَها وأجلَّها وأعظمَها؛ فإنَّ العقول والفِطر تشهدُ بحُسْنها وصِدق القائم بها.

فلو كانت الأفعالُ كلُّها سواءً في نفس الأمر لم يكن هناك فرقانٌ بين ما يجوزُ أن يدعو إليه الرسول وما لا يجوزُ أن يدعو إليه، إذ العُرْفُ [وضدُّه]

(2)

إنما يُعْلَمُ بنفس الدَّعوة والأمر والنهي.

وكذلك مسألةُ النَّجاشيِّ لجعفر وأصحابه عمَّا يدعو إليه الرسول

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري (7)، ومسلم (1773) من حديث أبي سفيان.

(2)

زيادة من (ط) يقتضيها السياق. والعُرْف: المعروف. وضدُّه: المنكر.

(3)

أخرج الخبر ابن إسحاق في «السيرة» (282)، ومن طريقه البيهقي في «دلائل النبوة» (2/ 301) من حديث أم سلمة بإسنادٍ حسن.

وروي من حديث جعفر بن أبي طالب، وابن مسعود، وأبي موسى الأشعري. انظر:«مسند أحمد» (1/ 461)، و «دلائل النبوة» لأبي نعيم (196)، وللبيهقي (2/ 297)، و «البداية والنهاية» (4/ 178).

ص: 888

فدلَّ على أنه من المستقرِّ في العقول والفِطر انقسامُ الأفعال إلى قبيحٍ وحَسَنٍ في نفسه، وأنَّ الرُّسل تدعو إلى حَسَنها وتنهى عن قبيحها، وأنَّ ذلك من آيات صِدقهم وبراهين رسالتهم، وهو أولى وأعظمُ عند أولي الألباب والحِجى من مجرَّد خوارق العادات، وإن كان انتفاعُ ضعفاء العقول بالخوارق في الإيمان أعظمَ من انتفاعهم بنفس الدَّعوة وما جاء به في الإيمان

(1)

.

فطرقُ الهداية متنوِّعة؛ رحمةً من الله بعباده ولطفًا بهم؛ لتفاوُت عقولهم وأذهانهم وبصائرهم:

* فمنهم من يهتدي بنفس ما جاء به وما دعا إليه مِنْ غير أن يطلُبَ منه برهانًا خارجًا

(2)

عن ذلك، كحال الكُمَّل

(3)

من الصَّحابة، كالصِّدِّيق رضي الله عنه.

* ومنهم من يهتدي بمعرفته بحاله صلى الله عليه وسلم، وما فُطِر عليه من كمال الأخلاق والأوصاف والأفعال، وأنَّ عادة الله أن لا يخزي من قامت به تلك الأوصافُ والأفعال؛ لعلمه بالله ومعرفته به وأنه لا يخزي من كان بهذه المثابة.

كما قالت أمُّ المؤمنين خديجة رضي الله عنها له صلى الله عليه وسلم: «أبشِر، فوالله لن يخزيكَ الله أبدًا؛ إنك لتَصِلُ الرحِم، وتصدُق الحديث، وتَحْمِلُ الكَلَّ،

(1)

(ط): «من الإيمان» . وانظر لهذا المعنى: «أيمان القرآن» (343).

(2)

(ت): «خارقا» .

(3)

(ت): «كحال الكامل» .

ص: 889

وتَقْري الضيف، وتُعِينُ على نوائب الحقِّ»

(1)

.

فاستدلَّت بمعرفتها بالله وحكمته ورحمته على أنَّ من كان كذلك فإنَّ الله لا يخزيه ولا يفضحه، بل هو جديرٌ بكرامة الله واصطفائه ومحبته ونبوَّته.

وهذه المقاماتُ في الإيمان عَجَز عنها أكثر الخلق.

* فاحتاجوا إلى الخوارق والآيات المشهودة بالحِسِّ، فآمن كثيرٌ منهم عليها.

* وأضعفُ النَّاس إيمانًا من كان إيمانُه صادرًا من المَظْهَر

(2)

ورؤية غَلَبته صلى الله عليه وسلم للنَّاس، فاستدلُّوا بذلك المَظْهَر والغَلَبة والنُّصرة على صحَّة الرسالة، فأين بصائرُ هؤلاء مِن بصائر من آمن به وأهلُ الأرض قد نَصَبوا له العداوة، وقد نال منه قومُه ضروبَ الأذى، وأصحابُه في غاية قلَّة العَدَد والمخافة من النَّاس، ومع هذا فقلبُه ممتلاءٌ بالإيمان، واثقٌ بأنه سيظهرُ على الأمم

(3)

، وأنَّ دينَه سيعلو كلَّ دين؟!

* وأضعفُ مِنْ هؤلاء إيمانًا مَن إيمانُه إيمانُ العادة والمَرْبا والمنشأ؛ فإنه نشأ بين أبوين مسلمين وأقاربَ وجيرانٍ وأصحابٍ كذلك، فنشأ واحدًا منهم، ليس عنده من الرسول والكتاب إلا اسمُهما، ولا مِن الدِّين إلا ما رأى عليه أقاربَه وأصحابه. فهذا دينُ العوائد، وهو أضعفُ شيء، وصاحبُه بحسب من

(1)

تقدم تخريجه (ص: 385).

(2)

أي: الظهور والانتصار.

(3)

(ت): «سيظهر على كل دين في سائر الأمم» .

ص: 890

يقترنُ به

(1)

، فلو قُيِّض له من يخرجه عنه لم يكن عليه كُلْفةٌ في الانتقال عنه.

والمقصودُ أنَّ خواصَّ الأمَّة ولُبابها لمَّا شَهِدَت عقولهم حُسْنَ هذا الدَّين وجلالتَه وكماله، وشَهِدَت قُبْحَ ما خالفه ونقصَه ورداءته، خالط الإيمانُ به ومحبتُه بشاشةَ قلوبهم، فلو خُيِّر بين أن يُلْقى في النَّار وبين أن يختار دينًا غيره لاختار أن يُقْذَف في النَّار، ويقطَّع أعضاءً، ولا يختار دينًا غيره.

وهذا الضربُ من النَّاس هم الذين استقرَّت أقدامُهم في الإيمان، وهم أبعدُ النَّاس عن الارتداد عنه، وأحقُّهم بالثَّبات عليه إلى يوم لقاء الله، ولهذا قال هرقلُ لأبي سفيان: أيرتدُّ أحدٌ منهم عن دينه سَخْطةً له؟ قال: لا. قال: فكذلك الإيمانُ إذا خالط بشاشةَ القلوب لا يَسْخَطُه أحد

(2)

.

والمقصودُ أنَّ الدَّاخلين في الإسلام، المستدلِّين على أنه من عند الله لحُسْنه وكماله، وأنه دينُ الله الذي لا يجوز أن يكون من عند غيره، هم خواصُّ الخلق، والنُّفاة سَدُّوا على أنفسهم هذا الطَّريق فلا يمكنُهم سلوكُه.

فصل

وتحقيقُ هذا المقام بالكلام في مقامين:

أحدهما: الأعمال خصوصًا ومراتبها

(3)

في الحُسْن والقُبح.

الثَّاني: في الموجودات عمومًا ومراتبها في الخير والشرِّ.

(1)

(ت): «يقترب منه» .

(2)

تقدم تخريجه قريبًا.

(3)

في الأصول: «مراتبها» . والمثبت من (ط).

ص: 891

أما المقام الأول، فالأعمال إما أن تشتمل على مصلحةٍ خالصةٍ، أو راجحة، وإما أن تشتمل على مفسدةٍ خالصةٍ، أو راجحة، وإما أن تستوي مصلحتُها ومفسدتها.

فهذه أقسامٌ خمسة، منها أربعةٌ تأتي بها الشرائع، فتأتي بما مصلحتُه خالصةٌ أو راجحةٌ آمرةً به مقتضيةً له، وما مفسدتُه خالصةٌ أو راجحةٌ فحكمُها فيه النهيُ عنه وطلبُ إعدامه. فتأتي بتحصيل المصلحة الخالصة والراجحة وتكميلهما بحسب الإمكان، وتعطيل المفسدة الخالصة أو الراجحة أو تقليلهما بحسب الإمكان. فمدارُ الشرائع والدِّيانات على هذه الأقسام الأربعة.

وتنازع النَّاسُ هنا في مسألتين:

المسألة الأولى: في وجود المصلحة الخالصة والمفسدة الخالصة.

* فمنهم من مَنَعَه، وقال: لا وجود له؛ قال: لأنَّ المصلحة هي النَّعيمُ واللذَّةُ وما يفضي إليه، والمفسدةُ هي العذابُ والألم وما يفضي إليه.

قالوا: والمأمورُ به لا بدَّ أن يقترن به ما يحتاج معه إلى الصَّبر على نوعٍ من الألم، وإن كان فيه لذَّةٌ وسرورٌ وفرحٌ فلا بدَّ من وقوع أذى، لكن لما كان هذا مغمورًا بالمصلحة لم يُلتفَت إليه ولم تعطَّل المصلحةُ لأجله، فتركُ الخير الكثير الغالب لأجل الشرِّ القليل المغلوب شرٌّ كثير.

قالوا: وكذلك الشرُّ المنهيُّ عنه إنما يفعلُه الإنسانُ لأنَّ له فيه غرضًا ووطرًا ما، وهذه مصلحةٌ عاجلةٌ له، فإذا نُهِي عنه وتركَه فاتت عليه مصلحتُه ولذَّتُه العاجلة وإن كانت مفسدتُه أعظمَ من مصلحته، بل مصلحتُه مغمورةٌ جدًّا في جنب مفسدته، كما قال تعالى في الخمر والميسر:{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219].

ص: 892

فالرِّبا

(1)

والظُّلمُ والفواحشُ والسِّحرُ وشربُ الخمر وإن كانت شرورًا ومفاسدَ ففيها منفعةٌ ولذَّةٌ لفاعلها، ولذلك يؤثِرها ويختارُها، وإلا فلو تجرَّدت مفسدتُها من كلِّ وجهٍ لما آثرها العاقل، ولا فعَلها أصلًا.

ولما كانت خاصَّةُ العقل النَّظر إلى العواقب والغايات، كان أعقلُ النَّاس أتركَهم لما ترجَّحت مفسدتُه في العاقبة، وإن كانت فيه لذَّةٌ ما ومنفعةٌ يسيرةٌ بالنسبة إلى مضرَّته.

* ونازعهم آخرون، وقالوا: القسمةُ تقتضي إمكانَ هذين القسمين، والوجودُ يدلُّ على وقوعهما، فإنَّ معرفة الله ومحبتَه والإيمان به خيرٌ محضٌ من كلِّ وجهٍ لا مفسدة فيه بوجهٍ ما.

قالوا: ومعلومٌ أنَّ الجنَّة خيرٌ محضٌ لا شرَّ فيها أصلًا، وأنَّ النَّار شرٌّ محضٌ لا خير فيها أصلًا، وإذا كان هذان القسمان موجودان في الآخرة فما المُحِيلُ

(2)

لوجودهما في الدُّنيا؟!

قالوا: وأيضًا فالمخلوقاتُ كلُّها منها ما هو خيرٌ محضٌ لا شرَّ فيه أصلًا كالأنبياء والملائكة، ومنها ما هو شرٌّ محضٌ لا خير فيه أصلًا كإبليسَ والشياطين، ومنها ما هو خيرٌ وشرٌّ وأحدُهما غالبٌ على الآخر، فمن النَّاس من يَغْلِبُ خيرُه على شرِّه، ومنهم من يَغْلِبُ شرُّه على خيره؛ فهكذا الأعمالُ منها ما هو خالصُ المصلحة وراجحُها، وخالصُ المفسدة وراجحُها، هذا في الأعمال كما أنَّ ذلك في العُمَّال.

(1)

(ت): «فالزنا» .

(2)

(ق): «المحل» . تحريف.

ص: 893

قالوا: وقد قال الله تعالى في السَّحرة: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102]، فهذا دليلٌ على أنه مضرَّةٌ خالصةٌ لا منفعة فيه:

إمَّا لأنَّ بعض أنواعه مضرَّةٌ خالصةٌ لا منفعة فيها بوجه، فما كلُّ السِّحر يحصِّلُ غرضَ السَّاحر، بل يتعلَّمُ مئة بابٍ منه حتى يحصِّل غرضَه بباب، والباقي مضرَّةٌ خالصة. وقِس على هذا

(1)

. فهذا من القسم الخالص المفسدة.

وإمَّا لأنَّ المنفعة الحاصلة للسَّاحر لما كانت مغمورةً مُسْتَهلَكةً في جنب المفسدة العظيمة فيه جُعِلت كَلا منفعة؛ فيكونُ من القسم الراجح المفسدة.

وعلى القولين

(2)

فكلُّ مأمورٍ به فهو راجحُ المصلحة على تركه، وإن كان مكروهًا للنُّفوس؛ قال تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، فبيَّن أنَّ الجهاد الذي أُمِروا به وإن كان مكروهًا للنُّفوس شاقًّا عليها فمصلحتُه راجحة، وهو خيرٌ لهم، وأحمَدُ عاقبة، وأعظمُ فائدةً من التقاعُد عنه وإيثار البقاء والراحة، فالشرُّ الذي فيه مغمورٌ بالنسبة إلى ما تضمَّنه من الخير.

وهكذا كلُّ منهيٍّ عنه فهو راجحُ المفسدة وإن كان محبوبًا للنُّفوس موافقًا للهوى، فمضرَّتُه ومفسدتُه أعظمُ مما فيه من المنفعة، وتلك المنفعةُ

(1)

(ت): «وعلى هذا» .

(2)

في وجود المصلحة والمفسدة الخالصتين، وعدمه.

ص: 894

واللذَّةُ مغمورةٌ مُسْتَهلَكةٌ في جنب مضرَّته، كما قال تعالى:{وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} ، وقال:{وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} .

* وفصلُ الخطاب في المسألة: إن أُرِيد بالمصلحة الخالصة أنها في نفسها خالصةٌ من المفسدة لا يشُوبها مفسدة؛ فلا ريب في وجودها، وإن أُرِيد بها المصلحةُ التي لا يشُوبها مشقَّةٌ ولا أذًى في طريقها والوسيلة إليها ولا في ذاتها؛ فليست بموجودةٍ بهذا الاعتبار، إذ المصالحُ والخيراتُ واللذَّاتُ والكمالاتُ كلُّها لا تُنالُ إلا بحظٍّ من المشقَّة، ولا يُعْبَرُ إليها إلا على جسرٍ من التَّعب.

وقد أجمع عقلاءُ كلِّ أمَّةٍ على أنَّ النَّعيمَ لا يُدْرَكُ بالنَّعيم

(1)

، وأنَّ من آثَر الراحةَ فاتتهُ الراحة، وأنَّ بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاقِّ تكونُ الفرحةُ والملذَّة؛ فلا فرحة لمن لا همَّ له، ولا لذَّة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبدُ قليلًا استراح طويلًا، وإذا تحمَّل مشقَّة الصَّبر ساعةً قاده لحياة الأبد، وكلُّ ما فيه أهلُ النَّعيم المقيم فهو ثمرةُ صبر ساعة، والله المستعان، ولا قوَّة إلا بالله.

وكلَّما كانت النفوسُ أشرف، والهمَّةُ أعلى، كان تعبُ البدن أوفر، وحظُّه من الراحة أقلَّ، كما قال المتنبِّي

(2)

:

وإذا كانت النفوسُ كبارًا

تعبَت في مرادها الأجسامُ

(1)

انظر ما تقدم (ص: 399).

(2)

في ديوانه (249).

ص: 895

وقال ابنُ الرُّومي

(1)

:

قلبٌ يُطِلُّ على أفكاره

(2)

، ويَدٌ

تمضي الأمورَ، ونفسٌ لهوُها التَّعبُ

وقال مسلمٌ في «صحيحه»

(3)

: «قال يحيى بن أبي كثير: لا يُنَالُ العلمُ براحة الجسم» .

ولا ريب عند كلِّ عاقلٍ أنَّ كمال الراحة بحسب التَّعب، وكمال النَّعيم بحسب تحمُّل المشاقِّ في طريقه، وإنما تخلُص الراحةُ واللذَّةُ والنَّعيمُ في دار السَّلام، فأمَّا في هذه الدَّار فكلَّا ولَمَّا.

وبهذا التفصيل يزولُ النزاعُ في المسألة، وتعودُ مسألةَ وِفَاق.

فصل

وأمَّا المسألةُ الثَّانية، وهي ما تساوت مصلحتُه ومفسدتُه؛ فقد اختُلِفَ في وجوده وحكمه؛ فأثبتَ وجودَه قومٌ، ونفاهُ آخرون.

والجواب: هذا القسمُ لا وجود له وإن حَصَرَه التقسيم، بل التفصيل: إمَّا أن يكون حصولُه أولى بالفاعل، وهو راجحُ المصلحة. وإمَّا أن يكون عدمُه أولى به، وهو راجحُ المفسدة.

وأمَّا فعلٌ يكون حصولُه أولى به لمصلحته، وعدمُه أولى به لمفسدته،

(1)

كذا في الأصول، وزاد ناسخ (ت):«رحمه الله تعالى» !. وهو وهم. والبيت للبحتري، في ديوانه (1/ 172). وهو من محاسنه.

(2)

فهي لا تحيطُ به، وإنما هو عالٍ عليها. يصفُ قلة مبالاته بالخطوب التي تُحْدِثُ أفكارًا تستغرق القلوب. انظر:«المثل السائر» (1/ 79).

(3)

(612).

ص: 896

وكلاهما متساويان؛ فهذا مما لم يقُم دليلٌ على ثبوته، بل الدَّليلُ يقتضي نفيَه، فإنَّ المصلحة والمفسدة، والمنفعة والمضرَّة، واللذَّة والألم، إذا تقابلا فلا بدَّ أن يغلبَ أحدُهما الآخر فيصير الحكمُ للغالب، وأمَّا أن يتدافعا ويتصادما بحيث لا يغلبُ أحدُهما الآخرَ فغيرُ واقعٍ أصلًا.

فإنه إمَّا أن يقال: يوجدُ الأثران

(1)

معًا، وهو محال؛ لتصادمهما

(2)

في المحلِّ الواحد. وإمَّا أن يقال: يمتنعُ وجودُ كلٍّ من الأثرين

(3)

، وهو ممتنعٌ أيضًا؛ لوجود مقتضيه. وإمَّا أن يقال بوِجدان أحدهما دون الآخر ــ مع تساويهما ــ، وهو ممتنع؛ لأنه ترجيحٌ لأحد الجائزَين

(4)

من غير مرجِّح.

وهذا المحالُ إنما نشأ من فَرْض تدافُع المؤثِّرَين وتصادمهما، فهو محال، فلا بدَّ أن يقهر أحدُهما صاحبَه فيكون الحكمُ له.

فإن قيل: ما المانعُ من أن يمتنع وجودُ الأثرين؟ قولكم: «إنه محالٌ لوجود مقتضيه» إن أردتم به المقتضي السَّالم عن المعارض فغيرُ موجود، وإن أردتم المقتضي المقارِن لوجود المعارض فتخلُّف أثره عنه غيرُ ممتنع والمعارض قائمٌ هاهنا في كلٍّ منهما، فلا يمتنعُ تخلُّفُ الأثرين.

فالجواب: أنَّ المعارض إذا كان قد سَلَبَ تأثيرَ المقتضي في مُوجَبه مع قوَّته وشدَّة اقتضائه لأثره، ومع هذا فقد قَوِي على سَلْبه قوَّة التأثير والاقتضاء، فلأنْ يقوى على سَلْبه قوَّة مَنْعِه لتأثيره هو في مقتضاه ومُوجَبه

(1)

(د، ق): «الأمران» . وسيأتي على الصواب.

(2)

(ق): «وهو مجاز، لتضادهما» . خطأ.

(3)

(ت، ق، د): «الأمرين» . وسيأتي على الصواب.

(4)

(ت): «الجانبين» .

ص: 897

بطريق الأولى، ووجهُ الأولويَّة أنَّ اقتضاءه لأثره أشدُّ من منعه تأثيرَ غيره، فإذا قَوِي على سَلْبه للأقوى فسلبُه للأضعف

(1)

أولى وأحرى.

فإن قيل: هذا ينتقضُ بكلِّ مانعٍ يمنعُ تأثير العلَّة في معلولها، وهو باطلٌ قطعًا.

قيل: لا ينتقضُ بما ذكرتم، والنقضُ مندفع؛ فإنَّ العلَّة والمانع ههنا لم يتدافعا ويتصادما، ولكنَّ المانع أضعفَ العلَّة، فبطل تأثيرُها، فهو عائقٌ لها عن الاقتضاء. وأمَّا في مسألتنا فالعلَّتان متصادمتان متعارضتان، كلٌّ منهما تقتضي أثرَها، فلو بطل أثرُهما لكانت كلُّ واحدةٍ مؤثِّرةً غير مؤثِّرة، غالبةً مغلوبة، مانعةً ممنوعة، وهذا يمتنع، وهو دليلٌ

(2)

يشبه دليل التمانع

(3)

.

وسرُّ الفرق أنَّ العلَّة الواحدة إذا قارنها مانعٌ منع تأثيرَها لم تَبْقَ مقتضيةً له، بل المانعُ عاقَها عن اقتضائها، وهذا غيرُ ممتنع، وأمَّا العلَّتان المتمانعتان اللتان كلٌّ منهما مانعةٌ للأخرى من تأثيرها فإنَّ تمانعهما وتقابلهما يقتضي إبطال كلِّ واحدةٍ منهما للأخرى، وتأثيرَها فيها، وعدمَ تأثيرها معًا، وهو جمعٌ بين النقيضين؛ لأنها إذا بطلت لم تكن مؤثِّرة، وإذا لم تكن مؤثِّرةً لم تُبطِل غيرَها، فتكونُ كلٌّ منهما مؤثِّرةً غيرَ مؤثِّرة، باطلةً غيرَ باطلة، وهذا محال؛ فثبتَ أنهما لا بدَّ أن تؤثِّر إحداهما في الأخرى بقوَّتها فيكون الحكمُ لها.

فإن قيل: فما تقولون فيمن توسَّط أرضًا مغصوبةً، ثمَّ بدا له في التَّوبة،

(1)

(ت): «سلبه الأقوى فسلبه الأضعف» .

(2)

(ت): «وهذا دليل» .

(3)

تقدمت الإشارة إليه (ص: 588).

ص: 898

فإن أمرتموه باللُّبث فهو محال، وإن أمرتموه بقطعها والخروج من الجانب الآخر فقد أمرتموه بالحركة والتصرُّف في ملك الغير. وكذلك إن أمرتموه بالرجوع فهو حركةٌ منه وتصرُّفٌ في أرض الغَصْب. فهذا قد تعارضت فيه المصلحةُ والمفسدة، فما الحكمُ في هذه الصُّورة؟

وكذلك من توسَّط بين فئةٍ مُثْبَتةٍ بالجِراح منتظرين للموت، وليس له انتقالٌ إلا على أحدهم، فإن أقام على من هو فوقه قَتَله، وإن انتقل إلى غيره قَتَله. فقد تعارضت هنا مصلحةُ النُّقلة ومفسدتُها على السَّواء.

وكذلك من طلع عليه الفجرُ وهو مجامِعٌ، فإن أقام أفسد صومَه، وإن نَزع فالنَّزعُ من الجماع، والجماعُ مركَّبٌ من الحركتين. فهاهنا أيضًا قد تضادَّت العلَّتان.

وكذلك ــ أيضًا ــ إذا تترَّس الكفَّارُ بأسرى من المسلمين هم بعَدَد المُقاتِلة، ودار الأمرُ بين قتل التُّرس وبين الكفِّ عنه وقتل الكفَّار لمُقاتِلة

(1)

المسلمين. فهاهنا أيضًا قد تقابلت المصلحةُ والمفسدةُ على السَّواء.

وكذلك ــ أيضًا ــ إذا أُلقِي في مركبهم نارٌ وعاينُوا الهلاك بها، فإن أقاموا احترقوا، وإن لجؤوا إلى الماء هلكوا بالغَرق. وكذلك الرجلُ إذا ضاق عليه الوقتُ ليلة عَرفة، ولم يبق منه إلا ما يسعُ قَدْر صلاة العشاء، فإن اشتغل بها فاته الوقوف، وإن اشتغل بالذَّهاب إلى عرفة فاتته الصَّلاة. فهاهنا قد تعارضت المصلحتان والمفسدتان على السَّواء.

(1)

(ت): «المقاتلة» . وهي محتملة.

ص: 899

وكذلك الرجلُ إذا استيقظ قبل طلوع الشمس وهو جُنُبٌ ولم يبق من الوقت إلا ما يسعُ لقَدْر الغُسل أو الصَّلاة بالتيمُّم؛ فإن اغتسل فاتته مصلحةُ الصَّلاة في الوقت، وإن صلى بالتيمُّم فاتته مصلحةُ الطَّهارة. فقد تقابلت المصلحةُ والمفسدة.

وكذلك إذا اغتَلَمَ البحرُ

(1)

بحيث يعلمُ رُكبان السَّفينة

(2)

أنهم لا يخلُصون إلا بتغريق شطر الرُّكبان لتَخِفَّ بهم السَّفينة؛ فإن ألقَوا شطرَهم كان فيه مفسدة، وإن تركوهم كان فيه مفسدة. فقد تقابلت المفسدتان والمصلحتان على السَّواء.

وكذلك لو أُكرِه رجلٌ على إفساد درهمٍ من درهمين متساويين، أو إتلاف حيوانٍ من حيوانين متساويين، أو شُرب قدَحٍ من قَدَحين متساويين، أو وَجَد كافرين قويَّين في حال المبارزة لا يمكنُه إلا قتلُ أحدهما، أو قَصَد المسلمين عدوَّان متكافئان من كلِّ وجهٍ في القُرب والبُعد والعَدَد والعداوة

(3)

.

فإنه في هذه الصُّور كلِّها تساوت المصالحُ والمفاسد، ولا يمكنكم ترجيحُ أحدٍ من المصلحتين ولا أحدٍ من المفسدتين، ومعلومٌ أنَّ هذه حوادثُ لا تخلو من حكمٍ لله فيها.

وأمَّا ما ذكرتم من امتناع تقابل المصلحة والمفسدة على السَّواء، فكيف

(1)

أي: هاج واضطربت أمواجُه. «المعجم الوسيط» (غلم).

(2)

(ت): «ركاب السفينة» ، في الموضعين. والمثبت من (د، ق) و «قواعد الأحكام» .

(3)

«قواعد الأحكام» للعز بن عبد السلام (1/ 98، 133 - 135، 138).

ص: 900

يمكنكم

(1)

إنكارُه وأنتم تقولون بالموازنة

(2)

، وأنَّ من النَّاس من تستوي حسناتُه وسيئاتُه فيبقى في الأعراف بين الجنَّة والنَّار، لتقابُل مقتضى الثَّواب والعقاب

(3)

في حقِّه؛ فإنَّ حسناته قَصُرَت به عن دخول النَّار، وسيئاته قَصُرَت به عن دخول الجنَّة، وهذا ثابتٌ عن الصَّحابة حذيفة بن اليمان وابن مسعودٍ وغيرهما

(4)

.

فالجوابُ من وجهين: مجملٍ ومفصَّل:

أما المجمل: فليس في شيءٍ مما ذكرتم دليلٌ على محلِّ النِّزاع، فإنَّ مَوْرِد النِّزاع أن تتقابل المصلحةُ والمفسدةُ وتتساويا

(5)

، فيتدافعا ويبطُل أثرُهما، وليس في هذه الصُّور شيءٌ كذلك.

وهذا يتبيَّنُ بالجواب التفصيليِّ عنها صورةً صورة:

* فأمَّا من توسَّط أرضًا مغصوبة

(6)

؛ فإنه مأمورٌ من حين دخل فيها بالخروج منها، فحكمُ الشارع في حقِّه المبادرةُ إلى الخروج، وإن استلزم ذلك حركةً في الأرض المغصوبة فإنها حركةٌ تتضمَّنُ ترك الغصب، فهي من

(1)

في الأصول: «عليكم» . وهو تحريف.

(2)

انظر: «طريق الهجرتين» (829)، و «مدارج السالكين» (1/ 278).

(3)

في الأصول: «مقتضى العقاب» . والمثبت من (ط).

(4)

انظر: «تفسير الطبري» (8/ 360، 363).

(5)

في الأصول: «تساوتا» . والأشبه ما أثبت من (ط).

(6)

انظر: «مدارج السالكين» (1/ 287)، و «مجموع الفتاوى» (16/ 21)، و «الموافقات» (1/ 364)، و «البرهان» (1/ 298)، و «الواضح» لابن عقيل (5/ 426)، و «المسودة» (230)، وغيرها.

ص: 901

باب ما لا خلاص عن الحرام إلا به، وإن قيل: إنها واجبة، فوجوبٌ عقليٌّ لزوميٌّ لا شرعيٌّ مقصود.

فمفسدةُ هذه الحركة مغمورةٌ في مصلحة تفريغ الأرض والخروج عن الغصب. وإذا قُدِّر تساوي الجوانب بالنسبة إليه؛ فالواجبُ القدرُ المشتركُ وهو الخروجُ من أحدها.

وعلى كلِّ تقدير، فمفسدةُ هذه الحركة مغمورةٌ جدًّا في مصلحة ترك الغصب، فليس مما نحنُ فيه بسبيل.

* وأمَّا مسألةُ من توسَّط بين قتلى لا سبيل له إلى المقام أو النُّقلة إلا بقتل أحدهم

(1)

، فهذا ليس مكلَّفًا في هذه الحال، بل هو في حكم المُلْجَأ، والمُلْجَأ ليس مكلَّفًا اتفاقًا، فإنه لا قصدَ له ولا فِعل، وهذا مُلْجَأٌ من حيث إنه لا سبيل له إلى ترك النُّقلة عن واحدٍ

(2)

إلا إلى آخر؛ فهو مُلْجَأٌ إلى لُبْثِه فوق واحدٍ ولا بدَّ، ومثلُ هذا لا يوصفُ فعلُه بإباحةٍ ولا تحريمٍ ولا حكمٍ من أحكام التكليف؛ لأنَّ أحكام التكليف منُوطةٌ بالاختيار، فلا تتعلَّقُ بمن لا اختيار له.

فلو كان بعضهم مسلمًا وبعضهم كافرًا مع اشتراكهم في العصمة فقد قيل: يلزمه الانتقالُ إلى الكافر، أو المقامُ عليه؛ لأنَّ قتله أخفُّ مفسدةً من قتل المسلم، ولهذا يجوزُ قتلُ من لا نقتله في المعركة إذا تترَّس بهم الكفَّار، فيرميهم ويقصدُ الكفَّار.

(1)

انظر: «البرهان» (1/ 302)، و «الواضح» (5/ 427، 433)، و «إيضاح المحصول» للمازري (230)، و «المسودة» (231)، وغيرها.

(2)

(ت، ق): «غير واجد» . (د): «غير واحد» . والمثبت من (ط).

ص: 902

* وأمَّا من طلع عليه الفجرُ وهو مجامع، فالواجبُ عليه النَّزعُ عينًا، ويحرُم عليه استدامةُ الجماع واللُّبث، وإنما اختُلِف في وجوب القضاء والكفَّارة عليه على ثلاثة أقوالٍ في مذهب أحمد وغيره

(1)

:

أحدها: عليه القضاءُ والكفَّارة، وهذا اختيارُ القاضي أبي يعلى.

والثَّاني: لا شيء عليه، وهذا اختيارُ شيخنا

(2)

، وهو الصَّحيح.

والثَّالث: عليه القضاءُ دون الكفَّارة.

وعلى الأقوال كلِّها فالحكمُ في حقِّه وجوبُ النَّزع، والمفسدةُ التي في حركة النَّازع مفسدةٌ مغمورةٌ في مصلحة إقلاعه ونزعه؛ فليست المسألةُ من موارد النِّزاع.

* وأمَّا إذا تترَّس الكفَّارُ بأسرى من المسلمين بعدد المُقاتِلة

(3)

، فإنه لا يجوزُ رميُهم إلا أن يخشى على جيش المسلمين

(4)

، وتكون مصلحةُ حفظ الجيش أعظمَ من مصلحة حفظ الأُسارى، فحينئذٍ يجوزُ رميُ الأُسارى، ويكونُ من باب دفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما، فلو انعكس الأمرُ وكانت مصلحةُ بقاء الأسرى أعظمَ من رميهم لم يجُز رميُهم.

(1)

انظر: «الأم» (3/ 245)، و «المغني» (3/ 379)، و «المجموع» (6/ 329، 332)، و «البرهان» (1/ 303)، و «شرح العمدة» لابن تيمية (1/ 469 ــ الطهارة) و (1/ 336 ــ الصيام).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (16/ 22، 25/ 264).

(3)

أي: المقاتلين من جيش المسلمين.

(4)

انظر: «المغني» (13/ 141)، و «فتح القدير» (5/ 448)، و «مجموع الفتاوى» (20/ 52، 28/ 546).

ص: 903

فهذا البابُ مبنيٌّ على دفع أعظم المفسدتين بأدناهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، فإن فُرِض الشكُّ وتساوي الأمرين لم يجُز رميُ الأسرى؛ لأنه على يقينٍ مِنْ قتلهم، وعلى ظنٍّ وتخمينٍ مِنْ قتل أصحابه وهلاكهم، ولو قُدِّر أنهم تيقَّنوا ذلك ولم يكن في قتلهم استباحةُ بيضة الإسلام وغلبةُ العدوِّ على الدِّيار لم يجُز أن يَقُوا نفوسَهم بنفوس الأسرى، كما لا يجوزُ للمُكرَه على قتل المعصوم أن يقتله ويَقِيَ نفسَه بنفسه، بل الواجبُ عليه أن يستسلم للقتل ولا يجعل النفوسَ

(1)

المعصومة وقايةً لنفسه.

* وأمَّا إذا أُلقِيَ في مركبهم نار؛ فإنهم يفعلون ما يَرَوْن السَّلامة فيه، وإن شكُّوا: هل السَّلامةُ في مقامهم أو في وقوعهم في الماء؟ أو تيقَّنوا الهلاكَ في الصُّورتين، أو غلبَ على ظنِّهم غلبةً متساويةً لا يترجَّحُ أحدُ طرفيها، ففي الصُّور الثَّلاث قولان لأهل العلم

(2)

، وهما روايتان منصوصتان عن أحمد:

إحداهما: أنهم يخيَّرون بين الأمرين، لأنهما موتتان قد عَرَضتا لهم، فلهم أن يختاروا أيسرهما عليهم، إذ لا بدَّ من أحدهما، وكلاهما بالنسبة إليهم سواءٌ، فيخيَّرون بينهما.

والقولُ الثَّاني: أن يلزمهم المقام، ولا يُعِينون على أنفسهم، لئلَّا يكون موتُهم بسببٍ من جهتهم، وليتمحَّصَ موتُهم شهادةً بأيدي عدوِّهم.

* وأمَّا الذي ضاق عليه وقتُ الوقوف بعرفة والصَّلاة؛ فإنَّ الواجبَ في

(1)

(د): «النفس» .

(2)

انظر: «المغني» (13/ 190)، و «الواضح» (5/ 433).

ص: 904

حقِّه تقوى الله بحسب الإمكان، وقد اختُلِف في تعيين ذلك الواجب على ثلاثة أقوالٍ في مذهب أحمد وغيره

(1)

:

أحدها: أنَّ الواجبَ في حقِّه معيَّنًا إيقاعُ الصَّلاة في وقتها؛ فإنها قد تضيَّقت، والحجُّ لم يتضيَّق وقتُه، فإنه إذا فعله في العام القابل لم يكن قد أخرجه عن وقته، بخلاف الصَّلاة.

والقول الثَّاني: أنه يقدِّمُ الحجَّ ويقضي الصَّلاة بعد الوقت؛ لأنَّ مشقَّة فواته وتكليفه

(2)

إنشاء سفرٍ آخر أو إقامةً في مكَّة إلى قابلٍ ضررٌ عظيمٌ تأباه الحنيفيةُ السَّمحة، فيشتغلُ بإدراكه ويقضي الصَّلاة بعد الوقت.

والثَّالث: يقضي الصَّلاة وهو سائرٌ إلى عَرَفة، فيكونُ في طريقه مصلِّيًا كما يصلي الهاربُ من سيلٍ أو سَبُعٍ أو عدوٍّ اتفاقًا، أو الطَّالبُ لعدوٍّ يخشى فواته على أصحِّ القولين.

وهذا أقيسُ الأقوال وأقربها إلى قواعد الشرع ومقاصده

(3)

؛ فإنَّ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح بحسب الإمكان، وأن لا يفُوتَ منها شيء، فإن أمكن تحصيلُها كلِّها حصِّلت، وإن تزاحمت ولم يمكن تحصيلُ بعضها إلا بتفويت البعض قُدِّم أكملُها وأهمُّها وأشدُّها طلبًا للشارع.

وقد قال عبد الله بن أُنيس: بعثني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان

(1)

انظر: «المجموع» (2/ 12)، و «مغني المحتاج» (1/ 305)، و «الإنصاف» (2/ 245).

(2)

(ت): «وتكلفه» .

(3)

انظر: «قواعد الأحكام» (1/ 98).

ص: 905

العُرنيِّ، وكان نحو عُرَنة وعرفات، فقال:«اذهب فاقتله» ، فرأيتُه، وحضرت صلاةُ العصر، فقلت: إني أخافُ أن يكون بيني وبينه ما إنْ أُؤَخِّر الصَّلاة

(1)

، فانطلقتُ أمشي وأنا أصلي، أوماءُ إيماءً نحوه، فلمَّا دنوتُ منه قال لي: من أنت؟ قلت: رجلٌ من العرب، بلغني أنك تجمعُ لهذا الرجل، فجئتك في ذلك. قال: إني لفي ذلك. قال: فمشيتُ معه ساعةً حتى إذا أمكنني عَلَوْتُه بسيفي حتى بَرَد. رواه أبو داود

(2)

.

وأمَّا مسألةُ المستيقظ قبل طلوع الشَّمس جُنُبًا وضاق الوقتُ

(3)

عليه بحيثُ لا يتَّسعُ للغُسل والصَّلاة، فهذا الواجبُ في حقِّه عند جمهور العلماء أن يغتسل وإن طلعت الشمس، ولا تجزئه الصَّلاةُ بالتيمُّم؛ لأنه واجدٌ للماء

(4)

.

وإن كان غير مفرِّطٍ في نومه فلا إثم عليه، كما لو نام حتى طلعت

(1)

لفظ رواية أحمد: «خشيت أن يكون بيني وبينه محاولة تشغلني عن الصلاة» .

(2)

(1249)، وأحمد (3/ 496)، وغيرهما. وصححه ابن خزيمة (982)، وابن حبان (7160)، وحسَّن إسناده ابن حجر في «الفتح» (2/ 437).

ورُوي من وجهٍ آخر:

أخرجه الطبراني في «الكبير» (101 - قطعة من مسانيد من اسمه عبد الله) - ومن طريقه الضياء في «المختارة» (9/ 27) -، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2031)، والفاكهي في «أخبار مكة» (2727)، وغيرهم. ولا بأس به، محمد بن كعب القرظي يحتمل سماعه من عبد الله بن أنيس، إلا أنه ليس فيه ذكر الإيماء، إنما قال:«وصليت العصر ركعتين خفيفتين» .

(3)

(ق): «وضيق الوقت» .

(4)

انظر: «المغني» (1/ 345)، و «مجموع الفتاوى» (22/ 35).

ص: 906

الشمس، والواجبُ في حقِّه المبادرةُ إلى الغُسل والصَّلاة، وهذا وقتُها في حقِّ أمثاله.

وعلى هذا القول الصَّحيح فلم يتعارض هاهنا مصلحةٌ ومفسدةٌ متساويتان، بل مصلحةُ الصَّلاة بالطَّهارة أرجحُ من إيقاعها في الوقت بالتيمُّم.

وفي المسألة قولٌ ثانٍ، وهو روايةٌ عن مالك: أنه يتيمَّمُ ويصلي في الوقت

(1)

، لأنَّ الشارع له التفاتٌ إلى إيقاع الصَّلاة في الوقت بالتيمُّم أعظمُ من التفاته إلى إيقاعها بطهارة الماء خارجَ الوقت، والعَدَمُ المبيحُ للتيمُّم هو العدمُ بالنسبة إلى وقت الصَّلاة لا مطلقًا، فإنه لا بدَّ أن يجد الماء ولو بعد حين، ومع هذا فأوجبَ عليه الشارعُ التيمُّم؛ لأنه عادمٌ للماء بالنسبة إلى وقت الصَّلاة، وهكذا هذا النَّائمُ، وإن كان واجدًا للماء لكنه عادمٌ بالنسبة إلى الوقت.

وصاحبُ هذا القول يقول: مصلحةُ إيقاع الصَّلاة في الوقت بالتيمُّم أرجحُ في نظر الشارع من إيقاعها خارجَ الوقت بطهارة الماء؛ فعلى كلا القولين لم تتساوَ المصلحةُ والمفسدة؛ فثبت أنه لا وجود لهذا القسم في الشَّرع.

وأمَّا مسألةُ اغتِلام البحر؛ فلا يجوزُ إلقاءُ أحدٍ منهم في البحر بالقُرعة ولا غيرها؛ لاستوائهم في العصمة وقَتْل من لا ذنبَ له وقايةً لنفس القاتل به

(1)

انظر: «المدونة» (1/ 44)، و «النوادر والزيادات» (1/ 110)، و «الأوسط» لابن المنذر (2/ 30).

ص: 907

وليس أولى بذلك منه

(1)

.

نعم؛ لو كان في السَّفينة مالٌ أو حيوانٌ وجبَ إلقاءُ المال ثمَّ الحيوان؛ لأنَّ المفسدة في فوات الأموال والحيوانات أولى من المفسدة في فوات أنفُس النَّاس المعصومة.

وأمَّا سائرُ الصُّور التي تساوت مفاسدُها، كإتلاف الدِّرهمين والحيوانين وقتل أحد العدوَّين، فهذا الحكمُ فيه التَّخييرُ بينهما؛ لأنه لا بدَّ من إتلاف أحدهما وقايةً لنفسه، وكلاهما سواء، فيخيَّر بينهما، وكذلك العدوَّان المتكافئان يخيَّر بين قتالهما، كالواجب المخيَّر، وأولى

(2)

.

وأمَّا من تساوت حسناتُه وسيئاتُه وتدافَع أثرهما، فهو حجَّةٌ عليكم؛ فإنَّ الحكمَ للحسنات، وهي تَغْلِبُ السَّيئات؛ فإنه لا يدخلُ النَّار ولكنه يبقى على الأعراف مدَّةً ثمَّ يصيرُ إلى الجنَّة؛ فقد تبيَّن غلبةُ الحسنات لجانب السَّيئات، ومنعُها من ترتُّب أثرها عليها، وأنَّ الأثر هو أثرُ الحسنات فقط.

فبانَ أنه لا دليل لكم على وجود هذا القسم أصلًا، وأنَّ الدَّليل يدلُّ على امتناعه.

فإن قيل

(3)

: فما قولكم فيما إذا عارض المفسدةَ مصلحةٌ أرجحُ منها، وترتَّب الحكمُ على الراجح، هل يترتَّبُ عليه مع بقاء المرجوح من المصلحة والمفسدة، لكنه لما كان مغمورًا لم يُلْتَفت إليه؟ أو تقولون: إنَّ المرجوحَ زال أثرُه بالراجح، فلم يبق له أثر؟

(1)

انظر: «أحكام القرآن» لابن العربي (1623).

(2)

أي: أولى بالتخيير. وتحرفت في الأصول إلى: «والولي» .

(3)

(ت، د): «قيل لكم» .

ص: 908

ومثالُ ذلك: أنَّ الله تعالى حرَّم الميتة والدَّم ولحمَ الخنزير؛ لما في تناولها من المفسدة الراجحة؛ وهو خبثُ التَّغذية، والغاذي شبيهٌ بالمُغْتَذِي

(1)

، فيصيرُ المُغْتَذي بهذه الخبائث خبيثَ النَّفس؛ فمن محاسن الشريعة تحريمُ هذه الخبائث.

فإن اضطرَّ إليها وخاف على نفسه الهلاكَ إن لم يتناولها أُبيحَت له، فهل إباحتُها والحالةُ هذه مع بقاء وصف الخبث فيها، لكن عارضه مصلحةٌ أرجحُ منه وهي حفظُ النَّفس، أو إباحتُها أزالت وصفَ الخبث منها، فما أُبيحَ له إلا طيِّبٌ وإن كان خبيثًا في حال الاختيار؟

قيل: هذا موضعٌ دقيق، وتحقيقُه يستدعي اطلاعًا على أسرار الشريعة والطَّبيعة، فلا تَسْتَهوِنْه وأعطِه حقَّه من النَّظر والتأمُّل. وقد اختلف النَّاسُ فيه على قولين:

فكثيرٌ منهم ــ أو أكثرهم ــ سلك مسالكَ التَّرجيح مع بقاء وصف الخبث فيه، وقال: مصلحةُ حفظ النَّفس أرجحُ من مفسدة خبث التَّغذية.

وهذا قولُ من لم يحقِّق النَّظر، ويُمْعِن التأمُّل، بل استرسل مع ظاهر الأمر، والصَّوابُ أنَّ وصفَ الخبث منتفٍ حال الاضطرار.

وكشفُ الغطاء عن المسألة: أنَّ وصفَ الخبث غيرُ مستقلٍّ بنفسه في المحلِّ المُغْتَذى به، بل هو متولِّدٌ من القابل والفاعل، فهو حاصلٌ من المُغْتَذِي والمُغْتَذى به، ونظيرُه تأثيرُ السُّمِّ في البدن، هو موقوفٌ على الفاعل والمحلِّ القابل.

(1)

انظر: «القانون» (1/ 150)، و «الحاوي» (2/ 558)، وما مضى (ص: 669).

ص: 909

إذا عُلِمَ ذلك، فتناولُ هذه الخبائث في حال الاختيار يوجبُ حصول الأثر المطلوب عَدَمُه، فإذا كان المتناولُ لها مضطرًّا فإنَّ ضرورته تمنعُ قبول الخبث الذي في المُغْتَذى به، فلم تحصُل تلك المفسدة؛ لأنها مشروطةٌ بالاختيار الذي به يقبلُ المحلُّ خبثَ التَّغذية، فإذا زال الاختيارُ زال شرطُ القبول، فلم تحصُل المفسدةُ أصلًا.

وإن اعتاصَ هذا على فهمك فانظُر في الأغذية والأشربة الضارَّة التي لا يتخلَّفُ عنها الضررُ إذا تناولها المختارُ الواجدُ لغيرها، فإذا اشتدَّت ضرورتُه إليها ولم يجد منها بُدًّا فإنها تنفعُه ولا يتولَّدُ له منها ضررٌ أصلًا؛ لأنَّ قبول طبيعته وفاقتها إليها وميلها إليها منعَها من التضرُّر بها، بخلاف

(1)

حال الاختيار.

وأمثلةُ ذلك معلومةٌ مشهودةٌ بالحِسِّ، فإذا كان هذا في الأوصاف الحسِّية المؤثِّرة في محالِّها بالحِسِّ، فما الظَّنُّ بالأوصاف المعنوية التي تأثيرُها إنما يُعْلَمُ بالعقل أو بالشرع؟!

فلا تظنَّ

(2)

أنَّ الضرورة أزالت وصفَ المحلِّ وبدَّلتْه، فإنَّا لم نقُل هذا، ولا يقوله عاقل، وإنما الضرورةُ منعت تأثيرَ الوصف وأبطلته، فهي من باب المانع الذي يمنعُ تأثيرَ المقتضي، لا أنه يُزِيلُ قوَّته، ألا ترى أنَّ السَّيفَ الحادَّ إذا صادفَ حجرًا فإنه يمنعُ قطعَه وتأثيرَه، لا أنه يُزِيلُ حِدَّته وتهيُّؤه لقَطْع القابل؟!

(1)

(ت): «من الضرر بلا خلاف» .

(2)

(ت): «ولا يظن» .

ص: 910

ونظيرُ هذا الملابسُ المحرَّمةُ إذا اضطرَّ إليها؛ فإنَّ ضرورته تمنعُ ترتُّبَ المفسدة التي حرِّمت لأجلها.

فإن قال: فهذا ينتقض عليكم بتحريم نكاح الأمَة؛ فإنه حرِّم للمفسدة التي تتضمَّنُه مِنْ إرقاق ولده، ثمَّ أبيحَ عند الضرورة إليه وهي خوفُ العَنَت الذي هو أعظمُ فسادًا من إرقاق الولد، ومع هذا فالمفسدةُ قائمةٌ بعينها، ولكنْ عارضها مصلحةُ حفظ الفرج عن الحرام، وهي أرجحُ عند الشَّارع من رقِّ الولد.

قيل: هذا لا ينقُض ما قرَّرناه

(1)

؛ فإنَّ الله سبحانه لمَّا حرَّم نكاحَ الأمَة لما فيه من مفسدة رقِّ الولد، واشتغال الأمَة بخدمة سيِّدها، فلا يحصُل لزوجها من السَّكن إليها والإيواء ودوام المعاشرة

(2)

ما تَقَرُّ به عينُه، وتسكُن به نفسُه= أباحه عند الحاجة إليه، بأن لا يقْدِر على نكاح حُرَّة، ويخشى على نفسه مواقعة المحظور؛ فكانت المصلحةُ له في نكاحها في هذه الحال أرجحَ من تلك المفاسد.

وليس هذا حال ضرورةٍ يباحُ لها المحظور؛ فإنَّ الله سبحانه لا يضطرُّ عبدَه إلى الجِماع بحيثُ إن لم يجامِع مات، بخلاف الطَّعام والشَّراب، ولهذا لا يباحُ الزِّنا بضرورةٍ كما يباحُ الخنزيرُ والميتةُ والدَّم، وإنما الشَّهوةُ وقضاءُ الوَطَر يَشُقُّ على الرجل تحمُّله وكفُّ النَّفس عنه؛ لضعفه وقلَّة صبره، فرَحِمه أرحمُ الراحمين، وأباح له مِن أطايب النِّساء وأحسنهنَّ أربعًا من

(1)

(د، ق): «لا ينقض بما قررناه» . وفي (ت) و (ط): «لا ينتقض بما قررناه» . والأشبه ما أثبت.

(2)

(د، ت): «المعاش» . وصحِّحت في طرة (د).

ص: 911

الحرائر، وما شاء من ملك يمينه من الإماء، فإن عجز عن ذلك أباح له نكاحَ الأمَة رحمةً به، وتخفيفًا عنه؛ لضَعْفِه.

ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} إلى قوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 25 - 28]؛ فأخبر سبحانه أنه شرع لهم هذه الأحكام تخفيفًا عنهم؛ لضَعْفِهم وقلَّة صبرهم؛ ورحمةً بهم وإحسانًا إليهم.

فليس هاهنا ضرورةٌ تبيحُ المحظور، وإنما هي مصلحةٌ أرجحُ من مصلحة، ومفسدةٌ أقلُّ من مفسدة، فاختار لهم أعظمَ المصلحتين وإن فاتت أدناهما، ودَفَع عنهم أعظمَ المفسدتين وإن فاتت أدناهما.

وهذا شأنُ الحكيم اللطيف الخبير البَرِّ المُحْسِن.

فإذا تأمَّلتَ شرائعَ دينه التي وضعها بين عباده وجدتها لا تخرجُ عن تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت قُدِّم أهمُّها وأجلُّها وإن فاتت أدناها

(1)

، وتعطيل المفاسد الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت عُطِّل أعظمُها فسادًا باحتمال أدناها.

وعلى هذا وَضَع أحكمُ الحاكمينَ شرائعَ دينه دالَّةً عليه، شاهدةً له بكمال علمه وحكمته ولُطْفِه بعباده وإحسانه إليهم.

(1)

(ق، د): «أدناهما» . خطأ. وسقط من (ت) من قوله: «وهذا شأن الحكيم» إلى هنا لانتقال النظر.

ص: 912

وهذه الجملةُ لا يستريبُ فيها من له ذوقٌ من الشريعة وارتضاعٌ من ثَديها، وورودٌ من عَفْو حَوضِها

(1)

، وكلَّما كان تضلُّعه منها أعظمَ كان شهودُه لمحاسنها ومصالحها أكمل.

ولا يمكنُ أحدًا من الفقهاء أن يتكلَّم في مآخذ الأحكام وعِلَلِها والأوصاف المؤثِّرة فيها جمعًا وفَرْقًا

(2)

إلا على هذه الطَّريقة، وأمَّا طريقةُ إنكار الحِكَم والتَّعليل، ونفي الأوصاف المقتضية لحُسْن ما أُمِرَ به وقُبْح ما نُهِيَ عنه، وتأثيرها واقتضائها للحبِّ والبغض الذي هو مصدرُ الأمر والنهي، بطريقةٍ جدليَّةٍ كلاميَّة= لا يُتصوَّرُ بناءُ الأحكام عليها، ولا يمكنُ فقيهًا أن يستعملها في بابٍ واحدٍ من أبواب الفقه.

كيف والقرآنُ وسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم مملوآن من تعليل الأحكام بالحِكَم والمصالح، وتعليل الخلق بهما، والتَّنبيه على وجوه الحِكَم التي لأجلها شرع تلك الأحكام، ولأجلها خلق تلك الأعيان.

ولو كان هذا في القرآن والسُّنَّة في نحو مئة موضعٍ أو مئتين لسُقناها، ولكنه يزيدُ على ألف موضعٍ بطرقٍ متنوِّعة

(3)

:

* فتارةً يذكرُ لام التَّعليل الصريحة.

* وتارةً يذكرُ المفعول لأجله الذي هو المقصودُ بالفعل.

(1)

عَفْوُ كلِّ شيء: خِيارُه وأجودُه وما لا تعب فيه. «اللسان» (عفا). وفي (ط): «صفو حوضها» .

(2)

في الأصول: «حقا وفرقا» . وأصلحت في (ط) إلى «حقا وصدقا» . والصواب ما أثبت. وانظر: «إعلام الموقعين» (4/ 104، 1/ 190)، و «بدائع الفوائد» (1533).

(3)

انظر: «شفاء العليل» (537 - 571)، و «الداء والدواء» (31 - 34).

ص: 913

* وتارةً يذكرُ «مِنْ أجل» الصريحة في التَّعليل.

* وتارةً يذكرُ أداة «كي» .

* وتارةً يذكرُ الفاء و «إنَّ»

(1)

.

* وتارةً يذكرُ أداة «لعلَّ» المتضمِّنة للتَّعليل، المجرَّدة عن معنى الرجاء المضاف إلى المخلوق.

* وتارةً ينبِّه على السَّبب بذكره صريحًا.

* وتارةً يذكرُ الأوصافَ المشتقَّة المناسبة لتلك الأحكام، ثمَّ يرتِّبها عليها ترتيبَ المسبَّبات على أسبابها.

* وتارةً ينكرُ على من زعم أنه خلق خلقَه وشرع دينه عبثًا وسُدى.

* وتارةً ينكرُ على من ظنَّ أنه يسوِّي بين المختلفَين اللذَين يقتضيان أثرين مختلفَين.

* وتارةً يخبرُ بكمال حكمته وعلمه المقتضي أنه لا يفرِّقُ بين متماثلَين ولا يسوِّي بين مختلفَين، وأنه ينزِّل الأشياء منازلها ويرتِّبها مراتبها.

* وتارةً يستدعِي من عباده التفكُّرَ والتأمُّل والتدبُّر والتعقُّل لحُسْن

(2)

ما بعث به رسوله وشرعه لعباده، كما يستدعِي منهم التفكُّر والنَّظر في مخلوقاته وحِكَمها وما فيها من المنافع والمصالح.

* وتارةً يذكرُ منافع مخلوقاته منبِّهًا بها على كمال حكمته وعلمه، كما

(1)

انظر: «زاد المعاد» (5/ 762).

(2)

(ت): «بحسن» .

ص: 914

يذكرُ مصالح أمره منبِّهًا بها على ذلك وأنه الله الذي لا إله إلا هو.

* وتارةً يختمُ آياتِ خلقه وأمره بأسماءٍ وصفاتٍ تناسبُها وتقتضيها.

والقرآنُ مملوءٌ من أوَّله إلى آخره بذكر حِكَم الخلق والأمر ومصالحهما ومنافعهما، وما تضمَّناه من الآيات الشَّاهدة له الدَّالَّة عليه، ولا يمكن من له أدنى اطِّلاعٍ على معاني القرآن إنكارُ ذلك.

وهل جعل الله سبحانه في فِطَر العباد استواءَ العدل والظُّلم، والصِّدق والكذب، والفُجور والعِفَّة، والإحسان والإساءة، والصَّبر والعفو، والاحتمال والطَّيش، والانتقام والحدَّة، والكرم والسَّماحة، والبَذْل والبُخل، والشُّحِّ والإمساك؟! بل الفطرةُ على الفُرقان بين ذلك كالفطرة على قبول الأغذية النَّافعة، وتركِ ما لا ينفعُ ولا يغذِّي، ولا فرق في الفطرة بينهما أصلًا.

وإذا تأمَّلتَ الشريعةَ التي بعث الله بها رسوله حقَّ التأمُّل وجدتها من أوَّلها إلى آخرها شاهدةً بذلك، ناطقةً به، ووجدتَ الحكمةَ والمصلحة والعدل والرحمة باديًا على صفحاتها، مناديًا عليها، يدعو العقول والألبابَ إليها، وأنه لا يجوزُ على أحكم الحاكمين ولا يليقُ به أن يشرع لعباده ما يضادُّها؛ وذلك لأنَّ الذي شرعها عَلِم ما في خلافها من المفاسد والقبائح والظُّلم والسَّفَه الذي يتعالى عن إرادته وشرعه، وأنه لا يصلُح العبادُ إلا عليها، ولا سعادة لهم بدونها البتَّة.

فتأمَّل محاسنَ الوضوء بين يَدَي الصَّلاة، وما تضمَّنه من النَّظافة والنَّزاهة ومجانبة الأوساخ والمستقذرات.

وتأمَّل كيف وُضِع على الأعضاء الأربعة التي هي آلةُ البطش والمشي،

ص: 915

ومَجْمَعُ الحواسِّ التي أكثرُ تعلُّق الذُّنوب والخطايا بها، ولهذا

(1)

خصَّها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالذِّكر في قوله: «إنَّ اللهَ كتب على ابن آدم حظَّه من الزِّنا أدركَ ذلك لا محالة؛ فالعينُ تزني وزناها النَّظر، والأذنُ تزني وزناها الاستماع، واليدُ تزني وزناها البطش، والرِّجلُ تزني وزناها المشي، والقلبُ يتمنَّى ويشتهي، والفرجُ يصدِّقُ ذلك أو يكذِّبه»

(2)

.

فلمَّا كانت هذه الأعضاءُ هي أكثر الأعضاء مباشرةً للمعاصي، كان وَسَخُ الذُّنوب ألصَق بها، وأعلَق من غيرها؛ فشرع أحكمُ الحاكمين الوضوء عليها ليتضمَّن نظافتَها وطهارتها من الأوساخ الحِسِّية وأوساخ الذُّنوب والمعاصي

(3)

.

وقد أشار النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله: «إذا توضَّأ العبدُ المسلم خرجت خطاياه مع الماء ــ أو: مع آخر قَطْر الماء ــ، حتى تخرجَ من تحت أظفاره»

(4)

.

وقال أبو أمامة: يا رسول الله، كيف الوضوء؟ فقال: «أمَا فإنَّك إذا توضَّأتَ فغسلتَ كفَّيك فأنقيتَهما خرجَت خطاياكَ من بين أظفارك وأناملك، فإذا مَضْمَضْتَ واسْتَنْشَقْتَ بمَنْخِريك، وغسلتَ وجهَك ويديكَ إلى المرفقَين، ومسحتَ برأسك، وغسلتَ رجليكَ إلى الكعبين= اغتسلتَ من

(1)

(ق، ت): «قال ولهذا» .

(2)

أخرجه البخاري (6243)، ومسلم (2657) من حديث أبي هريرة.

(3)

انظر: «محاسن الشريعة» (50)، و «إثبات العلل» للحكيم الترمذي (90).

(4)

أخرج مسلم (244) شطره الأول من حديث أبي هريرة، وشطره الثاني (245) من حديث عثمان.

ص: 916

عامَّة خطاياك؛ فإن أنت وضعتَ وجهَك لله خرجتَ من خطاياكَ كيوم ولدتكَ أمُّك» رواه النَّسائي

(1)

.

والأحاديثُ في هذا الباب كثيرة.

فاقتضت حكمةُ أحكم الحاكمين ورحمتُه أن شرع الوضوءَ على هذه الأعضاء التي هي أكثرُ الأعضاء مباشرةً للمعاصي، وهي الأعضاءُ الظَّاهرةُ البارزةُ للغُبار والوَسَخ أيضًا، وهي أسهلُ الأعضاء غسلًا، فلا يشقُّ تكرارُ غَسلها في اليوم والليلة؛ فكانت الحكمةُ الباهرةُ في شرع الوضوء عليها دون سائر الأعضاء.

وهذا يدلُّ على أنَّ المضمضة من آكد أعضاء الوضوء، ولهذا كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يداومُ عليها، ولم يُنْقَل عنه بإسنادٍ قطُّ أنه أخلَّ بها يومًا واحدًا، وهذا يدلُّ على أنها فرضٌ لا يصحُّ الوضوءُ بدونها، كما هو الصَّحيحُ من مذهب أحمدَ وغيره من السَّلف

(2)

.

فمن سوَّى بين هذه الأعضاء وغيرها، وجعل تعيينَها بمجرَّد الأمر الخالي عن الحكمة والمصلحة، فقد ذهب مذهبًا فاسدًا

(3)

، فكيف إذا زعم مع ذلك أنه لا فرق في نفس الأمر بين التَّعبُّد بذلك وبين أن يُتَعَبَّد بالنَّجاسة

(1)

(146). وأصله في «صحيح مسلم» (832) في سياقٍ طويل. وهو في جميع المصادر من حديث أبي أمامة عن عمرو بن عبسة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره.

(2)

انظر: «مسائل إسحاق بن منصور الكوسج» (11)، و «الروايتين والوجهين» (1/ 70)، و «اختلاف العلماء» لمحمد بن نصر (97)، و «الأوسط» (1/ 377)، و «الطهور» لأبي عبيد (377)، و «الاستذكار» (2/ 11).

(3)

انظر: «إعلام الموقعين» (2/ 94 - 97).

ص: 917

وأنواع الأقذار والأوساخ والأنتان والرائحة الكريهة، ويجعل ذلك مكانَ الطَّهارة والوضوء، وأنَّ الأمرين سواء، وإنما يحكمُ بمجرَّد المشيئة بهذا الأمر دون ضدِّه، ولا فرق بينهما في نفسِ الأمر؟! وهذا قولٌ تصوُّره كافٍ في الجزم ببطلانه.

وجميعُ مسائل الشريعة كذلك آياتٌ بيِّنات، ودلالاتٌ واضحات، وشواهدُ ناطقاتٌ بأنَّ الذي شرعها له الحكمةُ البالغة، والعلمُ المحيط، والرحمة والعنايةُ بعباده، وإرادةُ الصَّلاح لهم، وسَوْقِهم بها إلى كمالهم وعواقبهم الحميدة.

وقد نبَّه سبحانه عباده على هذا، فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ، إلى قوله:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6]؛ فأخبَر سبحانه أنه لم يأمرهم بذلك حَرَجًا عليهم، وتضييقًا ومشقَّة، ولكنْ إرادةَ تطهيرهم

(1)

وإتمام نعمته عليهم، ليشكروه على ذلك، فله الحمدُ كما هو أهلُه، وكما ينبغي لكرم وجهه وعِزِّ جلاله.

فإن قيل: فما جوابكم عن الأدلَّة التي ذكرها نفاةُ التَّحسين والتَّقبيح على كثرتها؟

قيل: قد كَفَوْنا بحمد الله مُؤنةَ إبطالها بقَدْحِهم فيها، وقد أبطلها كلَّها

(1)

(د، ق): «تطهرهم» .

ص: 918

واعترض عليها فضلاءُ أتباعها وأصحابها: أبو عبد الله ابن الخطيب

(1)

، وأبو الحسن الآمِدي

(2)

، واعتمد كلٌّ منهم على مسلكٍ من أفسد المسالك، واعتمد القاضي

(3)

على مسلكٍ من جنسهما في المفاسد، فاعتمد هؤلاء الفضلاءُ على ثلاث مسالك فاسدة، وتعرَّضوا لإبطال ما سواها والقَدْح فيه.

ونحن نذكرُ مسالكَهم التي اعتمدوا عليها، ونبيِّن فسادَها وبطلانها:

* فأمَّا ابنُ الخطيب، فاعتمد على المسلك المشهور، وهو أنَّ فعلَ العبد غيرُ اختياريٍّ، وما ليس بفعلٍ اختياريٍّ لا يكونُ حسنًا ولا قبيحًا عقلًا، بالاتفاق؛ لأنَّ القائلين بالحُسْن والقُبْح العقليَّين يعترفون

(4)

بأنه إنما يكونُ كذلك إذا كان اختياريًّا، وقد ثبت أنه اضطراريٌّ، فلا يوصفُ بحُسنٍ ولا قُبحٍ على المذهبين.

أمَّا بيانُ كونه غير اختياريٍّ، فلأنه إن لم يتمكَّن العبدُ من فعله وتركه فواضح؛ وإن كان متمكِّنًا من فعله وتركه كان جائزًا، فإمَّا أن يفتقر ترجيحُ الفاعليَّة على التَّاركيَّة إلى مرجِّحٍ أو لا؟ فإن لم يفتقر كان اتفاقيًّا، والاتفاقُ لا يوصفُ بالحُسن والقُبح، وإن افتَقر إلى مرجِّحٍ فهو مع مرجِّحه إمَّا [أن يكون] لازمًا وإمَّا جائزًا، فإن كان لازمًا فهو اضطراريٌّ، وإن كان جائزًا عاد

(1)

محمد بن عمر، فخر الدين الرازي (ت: 606). انظر: «السير» (21/ 500)، و «لسان الميزان» (4/ 426).

(2)

علي بن أبي علي، سيف الدين، الأصولي المتكلِّم (ت: 631). انظر: «السير» (22/ 364)، و «لسان الميزان» (3/ 134).

(3)

أبو بكر الباقلاني. تقدمت ترجمته.

(4)

في الأصول: «يعرفون» . والمثبت من (ط)، وهو أجود.

ص: 919

التَّقسيم، فإمَّا أن ينتهي إلى ما يكونُ لازمًا فيكون ضروريًّا، أو لا ينتهي إليه فيتسلسلُ، وهو محالٌ، أو يكون اتفاقيًّا فلا يوصفُ بحُسنٍ ولا قُبح

(1)

.

فهذا الدَّليلُ هو الذي يصولُ به ويجول، ويُثْبِتُ به الجَبْر، ويردُّ به على القَدَريَّة، وينفي به التحسينَ والتقبيح.

وهو فاسدٌ من وجوهٍ متعدِّدة:

أحدها: أنه يتضمَّنُ التَّسوية بين الحركة الضرورية والاختيارية، وعدم التفريق بينهما. وهو باطلٌ بالضرورة والحِسِّ والشَّرع، فالاستدلالُ على أنَّ فعلَ العبد غيرُ اختياريٍّ استدلالٌ على ما هو معلومُ البطلان ضرورةً وحِسًّا وشرعًا، فهو بمنزلة الاستدلال على الجمع بين النقيضين، وعلى وجود المحال، وبابِه

(2)

.

الوجه الثَّاني: لو صحَّ الدَّليلُ المذكورُ لَزِم منه أن يكون الربُّ تعالى غيرَ مختارٍ في فعله؛ لأنَّ التقسيم المذكورَ والتَّرديدَ جارٍ فيه بعَيْنه بأن يقال: فعلُه تعالى إمَّا أن يكون لازمًا أو جائزًا؛ فإن كان لازمًا كان ضروريًّا، وإن كان جائزًا فإن احتاج إلى مرجِّحٍ عاد التقسيم، وإلا فهو اتفاقيٌّ.

ويكفي في بطلان الدَّليل المذكور أن يستلزم كونَ الربِّ غيرَ مختار.

(1)

انظر مسلك الرازي هذا في كتبه: «المحصل» (202)، و «الأربعين» (346)، و «المطالب العالية» (3/ 332)، و «المحصول» (1/ 124)، و «التفسير» (1/ 185).

(2)

(ت): «الايه» . وكذلك في (د، ق) إلا أنها مهملة. والصواب ما أثبت. أي: باب الجمع بين النقيضين ووجود المحال وسائر ما هو معلوم البطلان ضرورةً وحسًّا وشرعًا. وانظر ما سيأتي (ص: 1123).

ص: 920

الوجه الثَّالث: أنَّ الدَّليل المذكور لو صحَّ لزم بطلانُ الحُسْن والقُبْح الشرعيَّين؛ لأنَّ فعلَ العبد ضروريٌّ أو اتفاقيٌّ، وما كان كذلك فإنَّ الشرع لا يحسِّنُه ولا يقبِّحُه؛ لأنه لا يَرِدُ بالتكليف به فضلًا عن أن يجعله متعلَّق الحُسْن والقُبْح.

الوجه الرابع: أنَّ قولك: «إمَّا أن يكون الفعلُ لازمًا أو جائزًا» .

قلنا: هو لازمٌ عند مرجِّحه التَّامِّ. وكان ماذا قولك: «يكونُ ضروريًّا» أتعني به أنه لا بدَّ منه؟ أو تعني به أنه لا يكونُ اختياريًّا؟

فإن عنيتَ الأوَّل منَعْنا انتفاءَ اللَّازم، فإنه لا يلزمُ منه أن يكون غيرَ مختار، ويكون حاصلُ الدَّليل: إن كان لا بدَّ منه فلا بدَّ منه، ولا يلزمُ من ذلك أن يكون غيرَ اختياريٍّ.

وإن عنيتَ الثَّاني ــ وهو أنه لا يكونُ اختياريًّا ــ منَعْنا الملازمة؛ إذ لا يلزمُ من كونه لا بدَّ منه أن يكون غيرَ اختياريٍّ، وأنت لم تذكُر على ذلك دليلًا، بل هي دعوى معلومةُ البطلان بالضرورة.

الوجه الخامس: أن يقال: هو جائز

(1)

.

قولك: «إمَّا أن يتوقَّف تَرجُّحُ الفاعلية على التَّاركية على مرجِّحٍ أو لا» .

قلنا: يتوقَّفُ على مرجِّح.

قولك عند المرجِّح: «إمَّا أن يجب أو يبقى جائزًا» .

قلنا: هو واجبٌ بالمرجِّح، جائزٌ بالنَّظر إلى ذاته، والمرجِّحُ هو الاختيار، وما وجب بالاختيار لا ينافي أن يكون اختياريًّا، فلزومُ الفعل

ص: 921

بالاختيار لا ينافي كونه اختياريًّا.

الوجه السَّادس: أنَّ هذا الدَّليل الذي ذكرتَه بعينه حجَّةٌ على أنه اختياريٌّ؛ لأنه وجب بالاختيار، وما وجب بالاختيار لا يكونُ إلا اختياريًّا، وإلا كان اختياريًّا غيرَ اختياريٍّ، وهو جمعٌ بين النقيضين، والدَّليلُ المذكورُ حجَّةٌ على فساد قولك، وأنَّ الفعل والواجب بالاختيار اختياريٌّ.

الوجه السَّابع: أنَّ صدور الفعل عن المختار بشرط

(1)

تعلُّق اختياره به لا ينافي كونه مقدورًا له، وإلا كانت إرادتُه وقدرتُه غير مشروطةٍ في الفعل، وهو محال، وإذا لم يناف ذلك كونَه مقدورًا فهو اختياريٌّ قطعًا.

الوجه الثَّامن: قولك: «إن لم يتوقَّف على مرجِّحٍ فهو اتفاقيٌّ» .

إن عنيتَ بالمرجِّح ما يُخْرِجُ الفعلَ عن أن يكون اختياريًّا ويجعله اضطراريًّا، فلا يلزمُ من نفي هذا المرجِّح كونه اتفاقيًّا؛ إذ هذا مرجِّحٌ خاصٌّ، ولا يلزم من نفي المرجِّح المعيَّن نفيُ مطلق المرجِّح

(2)

، فما المانعُ من أن يتوقَّف على مرجِّحٍ ولا يجعله اضطراريًّا غيرَ اختياريٍّ؟

وإن عنيتَ بالمرجِّح ما هو أعمُّ من ذلك لم يلزم مِنْ توقُّفه على المرجِّح الأعمِّ أن يكون غير اختياريٍّ؛ لأنَّ المرجِّح هو الاختيار، وما ترجَّح بالاختيار لم يمتنع كونُه اختياريًّا.

ص: 922

الوجه التَّاسع: قولك: «وإن لم يتوقَّف على مرجِّحٍ فهو اتفاقيٌّ» .

ما تعني بالاتفاقيِّ؟ أتعني به ما لا فاعل له؟ أو ما فاعلُه مرجِّحٌ باختياره؟ أو معنًى ثالثًا؟

فإن عنيتَ الأوَّل لم يلزم مِنْ عدم المرجِّح المُوجِب كونَه اضطراريًّا أن يكون الفعلُ صادرًا من غير فاعل، وإن عنيتَ الثَّاني لم يلزم منه كونُه اضطراريًّا، وإن عنيتَ معنًى ثالثًا فأبدِه.

الوجه العاشر: أنَّ غاية هذا الدَّليل أن يكون الفعلُ لازمًا عند وجود سببه، وأنت لم تُقِم دليلًا على أنَّ ما كان كذلك يمتنع تحسينُه وتقبيحُه سوى الدَّعوى المجرَّدة، فأين الدَّليلُ على أنَّ ما كان لازمًا بهذا الاعتبار يمتنع تحسينُه وتقبيحُه؟ ودليلُك إنما يدلُّ على أنَّ ما كان غير اختياريٍّ من الأفعال امتنع تحسينُه وتقبيحُه، فمحلُّ النِّزاع لم يتناوله الدَّليلُ المذكور، وما تناوله وصحَّت مقدماتُه فهو غيرُ متنازعٍ فيه؛ فدليلُك لم يُفِد شيئًا.

الوجه الحادي عشر: أنَّ قولك: «يلزمُ أن لا يوصفَ بحُسْنٍ ولا قُبْحٍ على المذهبين» باطلٌ؛ فإنَّ منازعيك إنما يمنعون مِنْ وصفِ الفعل بالحُسْن والقُبْح إذا لم يكن متعلَّق القدرة والاختيار، أمَّا ما وجب بالقدرة والاختيار فإنهم لا يساعدونك على امتناع وصفه بالحُسْن والقُبْح أبدًا.

الوجه الثَّاني عشر: أنَّ هذا الدَّليل لو صحَّ لَزِم بطلانُ الشرائع والتكليف جملةً؛ لأنَّ التكليف إنما يكونُ بالأفعال الاختيارية، إذ يستحيلُ أن يكلَّف المرتعِشُ بحركة يده، وأن يكلَّف المَحْمُومُ بتسخين جِلْده، والمَقْرورُ بقرِّه

(1)

،

(1)

المحموم: من أصابته الحمَّى. والمقرور: من أصابه القرُّ (بفتح القاف وضمها)، وهو البرد.

ص: 923

وإذا كانت الأفعالُ اضطراريةً غير اختياريةٍ لم يُتَصَوَّر تعلُّق التكليف والأمر والنهي بها؛ فلو صحَّ الدَّليلُ المذكورُ لبطلت الشرائعُ جملةً.

فهذا هو الدَّليلُ الذي اعتمده ابنُ الخطيب وأبطلَ أدلَّة غيره

(1)

.

* وأمَّا الدَّليلُ الذي اعتمد عليه الآمديُّ

(2)

، فهو أنَّ حُسْنَ الفعل لو كان أمرًا زائدًا على ذاته لَزِم قيامُ المعنى بالمعنى، وهو محال؛ لأنَّ العَرَض لا يقومُ بالعَرَض

(3)

.

وهذا في البطلان من جنس ما قبله؛ فإنه منقوضٌ بما لا يحصى من المعاني التي توصفُ بالمعاني

(4)

، كما يقال: علمٌ ضروريٌّ، وعلمٌ كَسْبيٌّ، وإرادةٌ جازمة، وحركةٌ سريعة، وحركةٌ بطيئة، وحركةٌ مستديرة، وحركةٌ مستقيمة، ومِزاجٌ معتدل، ومِزاجٌ منحرف، وسوادٌ برَّاق، وحمرةٌ قانية، وخضرةٌ ناصعة، ولونٌ مشرِق، وصوتٌ شَجٍ، وحِسٌّ

(5)

رَخِيمٌ ورفيعٌ ودقيقٌ وغليظ، وأضعافُ أضعاف ذلك مما لا يحصى مما توصفُ المعاني

(1)

انظر: «التسعينية» (909)، و «الإحكام» للآمدي (1/ 84)، و «بيان المختصر» للأصفهاني (1/ 300)، و «رفع الحاجب» (1/ 460)، و «درء القول القبيح» للطوفي (87).

(2)

(ت، ق): «ابن الآمدي» .

(3)

انظر: «أبكار الأفكار» ، و «الإحكام» (1/ 84 - 87)، و «غاية المرام» (234)، و «رفع الحاجب» (1/ 458).

(4)

وهذا الوجه الأول في ردِّ دليل الآمدي. وانظر له: «الرد على المنطقيين» (421، 422).

(5)

مضبوطة في (د). والحِسُّ: الصوت الخفي. ويشبه أن تكون محرفة عن: «وحَسَن» صفة للصوت، وستأتي بعد قليل. أو عن:«وأجشُّ» .

ص: 924

والأعراض فيه بمعانٍ وأعراضٍ وجودية، ومن ادعى أنها عَدَمِيةٌ فهو مكابر.

وهل شكَّ أحدٌ في وصف المعاني بالشِّدَّة والضعف؟! فيقال: همٌّ شديد، وحُبٌّ شديد، وحزنٌ شديد، وألمٌ شديد، ومُقابِلُها.

فوصفُ المعاني بصفاتها أمرٌ معلومٌ عند كلِّ العقلاء.

الوجه الثَّاني: أنَّ قوله: «يلزمُ منه قيامُ المعنى بالمعنى» غيرُ صحيح، بل المعنى يوصفُ بالمعنى ويقومُ به، تبعًا لقيامه بالجوهر الذي هو المحلُّ، فيكونُ المعنيان جميعًا قائمَيْن بالمحلِّ، وأحدُهما تابعٌ للآخر، وكلاهما تبعٌ للمحلِّ، فما قام العَرَض بالعَرَض، وإنما قام العَرضان جميعًا بالجوهر، فالحركةُ والسُّرعةُ قائمتان بالمتحرِّك، والصَّوتُ وشَجَاهُ وغِلَظه ودقَّته وحسنُه وقبحُه قائمةٌ بالحامل له، والمحالُ إنما هو قيامُ المعنى بالمعنى من غير أن يكون لهما حامل، فأمَّا إذا كان لهما حاملٌ وأحدُهما صفةٌ للآخر وكلاهما قام بالمحلِّ الحامل فليس بمحال، وهذا في غاية الوضوح

(1)

.

الوجه الثَّالث: أنَّ حُسْنَ الفعل وقبحَه شرعًا أمرٌ زائدٌ عليه؛ لأنَّ المفهوم منه زائدٌ على المفهوم من نفس الفعل، وهما وجوديَّان لا عَدَمِيَّان؛ لأنَّ نقيضهما يحملُ على العَدَم، فهو عَدَمِيٌّ، فهما إذن وجوديَّان؛ لأنَّ كون أحد النقيضين عَدَمِيًّا يستلزمُ كونَ نقيضه وجوديًّا.

فلو صحَّ دليلكم المذكورُ لزم أن لا يوصف بالحُسْن والقُبح شرعًا، ولا خلاص عن هذا إلا بإلزام كون الحُسْن والقُبح الشرعيَّين عدميَّين، ولا سبيل إليه؛ لأنَّ الثَّواب والعقاب والمدح والذَّمَّ مرتَّبٌ عليهما ترتُّبَ الأثر على

(1)

انظر: «التسعينية» (909).

ص: 925

مؤثِّره، والمقتضى على مقتضيه، وما كان كذلك لم يكن عَدَمًا محضًا؛ إذ العدمُ المحض لا يترتَّبُ عليه ثوابٌ ولا عقاب، ولا مدحٌ ولا ذمٌّ.

وأيضًا؛ فإنه لا معنى لكون الفعل حسنًا وقبيحًا شرعًا إلا أنه يشتملُ على صفةٍ لأجلها كان حسنًا محبوبًا للربِّ مرضيًّا له متعلَّقًا للمدح والثواب، وكون القبيح مشتملًا على صفةٍ لأجلها كان قبيحًا مبغوضًا للربِّ متعلَّقًا للذَّمِّ والعقاب.

وهذه أمورٌ وجودية ثابتةٌ له في نفسه، ومحبةُ الربِّ له وأمره به كساه أمرًا وجوديًّا زاده حُسْنًا إلى حُسْنه، وبغضُه له ونهيُه عنه كساه أمرًا وجوديًّا زاده قُبحًا إلى قُبحه، فجعلُ ذلك كلِّه عدمًا محضًا ونفيًا صِرْفًا لا يرجعُ إلى أمرٍ ثبوتيٍّ في غاية البطلان والإحالة.

وظهر أنَّ هذا الدَّليل في غاية البطلان، ولم نتعرَّض للوجوه التي قدحوا بها فيه، فإنها ــ مع طُولها ــ غيرُ شافيةٍ ولا مُقنِعة، فمن اكتفى بها فهي موجودةٌ في كتبهم

(1)

.

* وأمَّا المسلكُ الذي اعتمده كثيرٌ منهم، كالقاضي وأبي المعالي وأبي عمرو ابن الحاجب

(2)

من المتأخِّرين، فهو: أنَّ الحُسْن والقُبْحَ لو كانا ذاتيَّين لما اختلفا باختلاف الأحوال والمتعلِّقات والأزمان، ولاستحال ورودُ

(1)

انظر: «بيان المختصر» للأصفهاني (1/ 294 - 298)، و «رفع الحاجب» (1/ 458).

(2)

أبو المعالي: الجوينى. والقاضي: أبو بكر الباقلاني. وابن الحاجب: جمال الدين عثمان بن عمر، فقيهٌ أصوليٌّ نحويٌّ متكلِّم (ت: 646). انظر: «السير» (23/ 264)، و «الديباج المذهب» (2/ 86).

ص: 926

النَّسخ على الفعل، لأنَّ ما ثبت للذَّات فهو باقٍ ببقائها لا يزولُ وهي باقية.

ومعلومٌ أنَّ الكذبَ يكونُ حسنًا إذا تضمَّن عصمةَ نبيٍّ

(1)

أو مسلمٍ، ولو كان قبحُه ذاتيًّا له لكان قبيحًا أين وُجِد.

وكذلك ما نُسِخ من الشريعة لو كان حُسْنُه لذاته لم يَسْتَحِلْ قبيحًا، ولو كان قبحُه لذاته لم يَسْتَحِلْ حسنًا بالنَّسخ.

قالوا: وأيضًا، لو كان ذاتيًّا لاجتمع النقيضان في صِدْق من قال:«لأكذِبنَّ غدًا» وكَذِبِه؛ فإنه لا يخلو إمَّا أن يكذِبَ في الغد، أو يصدُق:

فإن كَذَبَ لزم قبحُه لكونه كذبًا، وحُسْنُه لاستلزامه صِدْقَ الخبر

(2)

الأوَّل، والمستلزمُ للحُسْن حَسَن؛ فيجتمعُ في الخبر الثَّاني الحُسْن والقُبح، وهما نقيضان.

وإن صَدَق لزم حُسْنُ الخبر الثَّاني من حيث إنه صدقٌ في نفسه، وقبحُه من حيث إنه مستلزمٌ لكذب الخبر الأوَّل؛ فلَزِم النقيضان.

قالوا: وأيضًا فلو كان القتلُ والجلدُ وقطعُ الأطراف قبيحًا لذاته أو لصفةٍ لازمةٍ للذات لم يكن حسنًا في الحدود والقصاص؛ لأنَّ مقتضى الذات لا يتخلَّفُ عنها، فإذا تخلَّف فيما ذكرنا من الصُّور وغيرها دلَّ على أنه ليس ذاتيًّا

(3)

.

(1)

أي: سلامته ونجاته. وكذا وردت العبارة في «مختصر ابن الحاجب» وشروحه، وفيما سيأتي (ص: 948). وفي (ط) وبعض المصادر: «عصمة دم نبي» .

(2)

(ق، د): «الجزء» . في سائر المواضع الآتية. والمثبت من (ت) و «شرح المختصر» .

(3)

انظر: «التمهيد» للباقلاني (128، 383 - 386)، و «التقريب والإرشاد» (1/ 284)، و «البرهان» (1/ 90)، و «التلخيص» (1/ 160)، و «الإرشاد» (233)، و «نهاية الأقدام» (39)، و «بيان المختصر» (1/ 291)، و «رفع الحاجب» (1/ 457).

ص: 927

فهذا تقريرُ هذا المسلك، وهو مِنْ أفسد المسالك؛ لوجوه:

أحدها: أنَّ كون الفعل حسنًا أو قبيحًا لذاته أو لصفةٍ لم نَعْنِ به أنَّ ذلك يقومُ بحقيقةٍ لا ينفكُّ عنها بحال، مثل كونه عَرَضًا، وكونه مفتقِرًا إلى محلٍّ يقوم به، وكون الحركة حركةً والسَّواد لونًا.

ومِنْ هاهنا غَلِط علينا المنازعون لنا في المسألة وألزمونا ما لا يلزمنا، وإنما نعني بكونه حسنًا أو قبيحًا لذاته أو لصفته: أنه في نفسه مَنْشَأٌ للمصلحة والمفسدة، وترتُّبهما عليه كترتُّب المسبَّبات على أسبابها المقتضية لها، وهذا كترتُّب الرِّيِّ على الشُّرب، والشِّبَع على الأكل، وترتُّب منافع الأغذية والأدوية ومضارِّها عليها.

فحسنُ الفعل أو قبحُه هو من جنس كون الدَّواء الفلانيِّ حسنًا نافعًا أو قبيحًا ضارًّا، وكذلك الغذاءُ واللباسُ والمسكنُ والجماعُ والاستفراغُ والنَّومُ والرياضةُ وغيرها، فإنَّ ترتُّبَ آثارها عليها ترتُّبَ المعلولات والمسبَّبات على عِلَلِها وأسبابها، ومع ذلك فإنها تختلفُ باختلاف الأزمان، والأحوال، والأماكن، والمحلِّ القابل، ووجود المعارِض.

فتخلُّف الشِّبَع والرِّيِّ عن الخبز واللحم والماء في حقِّ المريض ومن به علَّةٌ تمنعُه من قبول الغذاء لا تخرجُه عن كونه مقتضيًا لذلك لذاته حتى يقال: «لو كان كذلك لذاته لم يتخلَّف، لأنَّ ما بالذات لا يتخلَّف» .

وكذلك تخلُّف الانتفاع بالدَّواء في شدَّة الحرِّ والبرد وفي وقت تزايد

ص: 928

العلَّة لا يخرجه عن كونه نافعًا في ذاته، وكذلك تخلُّف الانتفاع باللباس في زمن الحرِّ ــ مثلًا ــ لا يدلُّ على أنه ليس في ذاته نافعًا ولا حسنًا.

فهذه قُوى الأغذية والأدوية واللباس ومنافعُ الجماع والنَّوم تتخلَّفُ عنها آثارُها زمانًا ومكانًا وحالًا، وبحسَب القبول والاستعداد، فتكونُ نافعةً حسنةً في زمانٍ دون زمان، ومكانٍ دون مكان، وحالٍ دون حال، وفي حقِّ طائفةٍ أو شخصٍ دون غيرهم، ولم يخرجها ذلك عن كونها مقتضيةً لآثارها بقُواها وصفاتها.

فهكذا أوامرُ الربِّ تبارك وتعالى وشرائعُه سواء؛ يكونُ الأمرُ مَنْشأ المصلحة ونافعًا للمأمور في وقتٍ دون وقت، فيأمرُ به تبارك وتعالى في الوقت الذي عَلِمَ أنه مصلحةٌ فيه، ثمَّ ينهى عنه في الوقت الذي يكون فعلُه فيه مفسدة، على نحو ما يأمرُ الطَّبيبُ بالدَّواء والحِمْية في وقتٍ هو مصلحةٌ للمريض، وينهاه عنه في الوقت الذي يكون تناولُه مفسدةً له.

بل أحكمُ الحاكمين الذي بهرت حكمتُه العقولَ أولى بمراعاة مصالح عباده ومفاسدهم في الأوقات والأحوال والأماكن والأشخاص، وهل وُضِعَت الشرائعُ إلا على هذا؟!

فكان نكاحُ الأخت حسنًا في وقته حيث

(1)

لم يكن بدٌّ منه في التَّناسل وحفظ النَّوع الإنسانيِّ، ثمَّ صار قبيحًا لما استُغْنِي عنه فحرَّمه على عباده، فأباحه في وقتٍ كان فيه حسنًا، وحرَّمه في وقتٍ صار فيه قبيحًا.

(1)

في الأصول: «حتى» . والأشبه للسياق ولأسلوب المصنف ما أثبت.

وقال شيخنا الإصلاحي: كثيرًا ما يقع تحريفٌ بين «حتى» و «حين» ، أي بين الياء والنون. فالأقرب:«حين» .

ص: 929

وكذلك كلُّ ما نسخَه تعالى من الشَّرع، بل الشريعةُ الواحدةُ كلُّها لا تخرجُ عن هذا، وإن خفي وجهُ المصلحة والمفسدة فيه على أكثر الناس.

وكذلك إباحةُ الغنائم، كان قبيحًا في حقِّ من قبلنا؛ لئلَّا تحملهم إباحتُها على القتال لأجلها والعمل لغير الله، فتفوتَ عليهم مصلحةُ الإخلاص التي هي أعظمُ المصالح، فحمى أحكمُ الحاكمين جانبَ هذه المصلحة العظيمة بتحريمها عليهم؛ ليتمحَّض

(1)

قتالهم لله لا للدُّنيا؛ فكانت المصلحةُ في حقِّهم تحريمَها عليهم، ثمَّ لما أوجَد هذه الأمَّة

(2)

التي هي أكملُ الأمم عقولًا، وأرسخُهم إيمانًا، وأعظمُهم توحيدًا

(3)

وإخلاصًا، وأرغبُهم في الآخرة، وأزهدُهم في الدُّنيا= أباح لهم الغنائم، وكانت إباحتُها حسنةً بالنسبة إليهم وإن كانت قبيحةً بالنسبة إلى من قبلهم؛ فكانت كإباحة الطَّبيب اللَّحمَ للصَّحيح الذي لا يخشى عليه من مضرَّته، وحِمْيَته منه للمريض المَحْموم.

وهذا الحكمُ فيما شُرِع في الشريعة الواحدة في وقتٍ ثمَّ نُسِخ في وقتٍ آخر، كالتَّخيير في الصَّوم في أوَّل الإسلام بين الإطعام وبينه، لمَّا كان غير مألوفٍ لهم ولا معتاد، والطِّباعُ تأباه، إذ هو هجرُ مألوفها ومحبوبها، ولم تَذُق بعدُ حلاوتَه وعواقبه المحمودة وما في طيِّه من المصالح والمنافع، وخيِّرت بينه وبين الإطعام، ونُدِبَت إليه، فلمَّا عَرَفَت علَّته

(4)

وألِفَتْهُ، وعرفت

(1)

(ق): «ليتمحص» . بالمهملة.

(2)

(ت): «الأمة العظيمة» .

(3)

(ت): «وأعظمهم تعظيمًا» .

(4)

في طرة (ق) تعليقًا: «يعني حكمته» . وأُقحِمَ في متن (ط).

ص: 930

ما ضمنه من المصالح والفوائد= حُتِّمَ عليها عينًا، ولم يُقْبَل منها سواه؛ فكان التَّخييرُ في وقته مصلحةً، وتعيينُ الصَّوم في وقته مصلحةً، فاقتضت الحكمةُ البالغةُ شرعَ كلِّ حكمٍ في وقته؛ لأنَّ المصلحة فيه في ذلك الوقت.

وكذلك فرض الصَّلاة أوَّلًا ركعتين ركعتين، لما كانوا حَدِيثي عهدٍ بالإسلام، ولم يكونوا معتادين لها ولا ألِفَتْها طباعُهم وعقولهم، فُرِضت عليهم بوصف التخفيف، فلمَّا ذُلِّلت بها جوارحُهم، وطوَّعت

(1)

بها أنفسُهم، واطمأنت إليها قلوبهم، وباشرَت نعيمَها ولذَّتها وطِيبَها، وذاقت حلاوة عبودية الله فيها ولذَّة مناجاته= زِيدَت ضِعْفَها، وأُقِرَّت في السَّفر على الفرض الأوَّل؛ لحاجة المسافر إلى التخفيف، ولمشقَّة السَّفر عليه.

فتأمَّل كيف جاء كلُّ حكمٍ في وقته مطابقًا للمصلحة والحكمة، شاهدًا لله بأنه أحكمُ الحاكمين وأرحمُ الراحمين، الذي بهرت حكمتُه العقولَ والألباب، وبدا على صفحاتها بأنَّ ما خالفها هو الباطل، وأنها هي عينُ المصلحة والصَّواب.

ومِنْ هذا أمرُه سبحانه لهم بالإعراض عن الكافرين، وتركِ أذاهم، والصَّبر عليهم، والعفو عنهم، لمَّا كان ذلك عينَ المصلحة؛ لقلَّة عَدَد المسلمين، وضعف شوكتهم، وغلبة عدوِّهم، فكان هذا في حقِّهم إذ ذاك عينَ المصلحة، فلمَّا تحيَّزوا إلى دارٍ، وكثُر عددهم، وقَوِيَت شوكتُهم، وتجرَّأت أنفسُهم لمناجَزة عدوِّهم= أَذِنَ لهم في ذلك إذنًا من غير إيجابٍ عليهم؛ ليذيقهم حلاوة النَّصر والظَّفر، وعِزَّ الغلبة، وكان الجهادُ أشقَّ شيءٍ على النُّفوس، فجعله أوَّلًا إلى اختيارهم إذنًا لا حتمًا، فلمَّا ذاقوا عِزَّ النَّصر

(1)

(ت): «تطوعت» .

ص: 931

والظَّفر، وعرفوا عواقبه الحميدة، أوجبه عليهم حتمًا، فانقادوا له طوعًا ورغبةً ومحبة؛ فلو أتاهم الأمرُ به مفاجأةً على ضعفٍ وقلَّةٍ لنَفَروا عنه أشدَّ النِّفار.

وتأمَّل الحكمة الباهرة في شرع الصَّلاة أوَّلًا إلى بيت المقدس، إذ كانت قبلةَ الأنبياء، فبُعِثَ بما بُعِثَ به الرسلُ وبما يعرفُه أهلُ الكتاب، وكان استقبالُ بيت المقدس مقرِّرًا لنبوَّته، وأنه بُعِثَ بما بُعِثَ به الأنبياءُ قبله، وأنَّ دعوتَه هي دعوةُ الرسل بعينها، وليس بِدْعًا من الرسل، ولا مخالفًا لهم، بل مصدِّقًا لهم، مؤمنًا بهم.

فلمَّا استقرَّت أعلامُ نبوَّته في القلوب، وقامت شواهدُ صدقه من كلِّ جهة، وشَهِدَت القلوبُ له بأنه رسولُ الله حقًّا وإن أنكروا رسالته عنادًا وحسدًا وبغيًا، وعَلِمَ سبحانه أنَّ المصلحة له ولأمَّته أن يستقبلوا الكعبة البيتَ الحرام أفضل بقاع الأرض، وأحبَّها إلى الله، وأعظمَ البيوت وأشرفَها وأقدمَها= قرَّر قبله أمورًا كالمقدِّمات بين يديه

(1)

؛ لعِظَم شأنه:

فذكر النَّسخَ أوَّلًا، وأنه إذا نَسَخَ آيةً أو حكمًا أتى بخيرٍ منه أو مثله، وأنه على كلِّ شيءٍ قدير، وأنَّ له ملك السَّموات والأرض.

ثمَّ حذَّرهم التعنُّتَ على رسوله والإعراض، كما فعل

(2)

أهلُ الكتاب قبلهم.

(1)

انظر: «إعلام الموقعين» (4/ 163)، و «زاد المعاد» (3/ 67).

(2)

(ت): «عما فعل» . والمثبت أشبه. فهو يريد الآية: 108 من سورة البقرة، وفيها ذكر تعنت بني إسرائيل في سؤال موسى، واستبدال الكفر بالإيمان.

ص: 932

ثمَّ حذَّرهم من أهل الكتاب وعداوتهم وأنهم يودُّون لو ردُّوهم كفَّارًا، فلا يسمعوا منهم ولا يقبلوا قولهم.

ثمَّ ذكر تعظيمَ دين الإسلام وتفضيلَه على اليهودية والنصرانية، وأنَّ أهله هم السُّعداءُ الفائزون لا أهل الأماني الباطلة.

ثمَّ ذكر اختلاف اليهود والنصارى، وشهادة بعضهم على بعضٍ بأنهم ليسوا على شيء، فحقيقٌ بأهل الإسلام أن لا يقتدوا بهم، وأن يخالفوهم في هديهم الباطل.

ثمَّ ذكر جُرْم من منع عبادَه من ذِكر اسمه في بيوته ومساجده، وأن يُعْبَد فيها، وظُلْمَه، وأنه بذلك ساعٍ في خرابها، لأنَّ عمارتها إنما هي بذكر اسمه وعبادته فيها.

ثمَّ بيَّن أنَّ له المشرق والمغرب، وأنه سبحانه لعظمته وإحاطته حيث استقبل المصلي فثَمَّ وجهُه تعالى، فلا يظنَّ الظَّانُّ أنه إذا استقبل البيتَ الحرام خرج عن كونه مستقبلًا ربَّه وقبلته، فإنَّ الله واسعٌ عليم.

ثمَّ ذكر عبودية أهل السَّموات والأرض له، وأنهم كلٌّ له قانتون.

ثمَّ نبَّه على عدم المصلحة في موافقة أهل الكتاب، وأنَّ ذلك لا يعودُ باستصلاحهم، ولا يرجى معه إيمانهم، وأنهم لن يرضوا عنه حتى يتَّبِع ملَّتهم، وضِمنَ هذا تنبيهٌ لطيفٌ على أنَّ موافقتهم في القبلة لا مصلحة فيها، فسواءٌ وافقتهم فيها أو خالفتهم فإنهم لن يرضوا عنك حتى تتَّبِع ملَّتهم.

ثمَّ أخبر أنَّ هداهُ هو الهدى الحقُّ، وحذَّره من اتباع أهوائهم.

ص: 933

ثمَّ انتقل إلى تعظيم إبراهيم

(1)

صاحب البيت وبانيه، والثَّناء عليه، وذِكْر إمامته للنَّاس، وأنه أحقُّ من اتُّبِع.

ثمَّ ذكر جلالةَ البيت وفضلَه وشرفَه، وأنه أمنٌ للنَّاس ومَثابةٌ لهم يثوبون إليه ولا يقضون منه وَطَرًا. وفي هذا تنبيهٌ على أنه أحقُّ بالاستقبال من غيره.

ثمَّ أمرهم أن يتَّخذوا من مقام إبراهيم مُصَلى.

ثمَّ ذكر بناء إبراهيم وإسماعيل البيتَ، وتطهيرَه

(2)

بعَهْدِه وإذنه، ورفعَهما قواعدَه، وسؤالهما ربهما القبول منهما، وأن يجعلهما مسلمَيْن له، ويريهما مناسكهما، ويبعث في ذرِّيتهما رسولًا منهم يتلو عليهم آياته ويزكِّيهم ويعلِّمهم الكتابَ والحكمة.

ثمَّ أخبر عن جهل من رَغِبَ عن ملَّة إبراهيم وسَفَهه ونقصان عقله.

ثمَّ أكَّد عليهم أن يكونوا على ملَّة إبراهيم، وأنهم إن خرجوا عنها إلى يهوديةٍ أو نصرانيةٍ أو غيرها كانوا ضُلَّالًا غير مهتدين.

وهذه كلُّها مقدِّماتٌ بين يدي الأمر باستقبال الكعبة لمن تأمَّلها وتدبَّرها وعلم ارتباطها بشأن القبلة؛ فإنه يعلمُ بذلك عظمةَ القرآن وجلالتَه

(3)

، وتنبيهَه

(4)

على كمال دينه وحُسْنه وجلالته، وأنه هو عينُ المصلحة لعباده، لا

(1)

(ق): «إلى إبراهيم» .

(2)

(ق): «وتطهره» .

(3)

(ت): «وجلالته» ليست في (ت).

(4)

سبحانه وتعالى.

ص: 934

مصلحة لهم سواه، وشَوَّق

(1)

بذلك النُّفوسَ إلى الشهادة له بالحُسْن والكمال والحكمة التَّامَّة.

فلما قرَّر ذلك كلَّه أعلمهم بما سيقول السُّفهاءُ من النَّاس إذا تركوا قبلَتهم لئلَّا يَفْجَأهم مِنْ غير علمٍ به فيعظُم موقعُه عندهم، فلمَّا وقع لم يَهُلْهُم، ولم يصعُب عليهم، بل أخبر أنَّ له المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم.

ثمَّ أخبر أنه كما جعلهم أمَّةً وسطًا خيارًا اختار لهم أوسط جهات الاستقبال وخيرَها، كما اختار لهم خيرَ الأنبياء، وشرع لهم خيرَ الأديان، وأنزل عليهم خيرَ الكتب، وجعلهم شهداء على النَّاس كلِّهم لكمال فضلهم وعلمهم وعدالتهم. وظهرت حكمتُه في أن اختار لهم أفضلَ قبلةٍ وأشرفَها؛ لتتكامل جهاتُ الفضل في حقِّهم بالقِبلة

(2)

والرسول والكتاب والشريعة.

ثمَّ نبَّه سبحانه على حكمته البالغة في أن جعل القِبلة أوَّلًا هي بيتَ المقدس؛ ليعلمَ سبحانه واقعًا في الخارج ما كان معلومًا له قبل وقوعه ممَّن يتَّبعُ الرسول في جميع أحوالِه، وينقادُ له ولأوامر الربِّ تعالى ويَدِينُ بها كيف كانت وحيث كانت؛ فهذا هو المؤمنُ حقًّا الذي أعطى العبوديةَ حقَّها، ومن ينقلبُ

(3)

على عَقِبَيه ممَّن لم يَرْسَخ في الإيمان قلبُه، ولم يستقرَّ عليه

(1)

(د): «وشوف» . وفي طرتها: «لعله: وشوق» . وهو تعبيرٌ معهودٌ من المصنف. انظر: «الفوائد» (282)، و «أيمان القرآن» (491)، و «طريق الهجرتين» (476).

(2)

(ت): «جهات الفضل في القبلة» .

(3)

معطوفٌ على قوله: «ممن يتبع الرسول

».

ص: 935

قدمُه، فعارَض وأعرض ورجع على حافِرَته

(1)

، وشَكَّ في النُّبوَّة، وخالَط قلبَه شبهةُ الكفَّار الذين قالوا: إن كانت القبلةُ الأولى حقًّا فقد خرجتم عن الحقِّ، وإن كانت باطلًا فقد كنتم على باطل، وضاق عقلُه المنكوسُ عن القسم الثَّالث الحقِّ وهو أنها كانت حقًّا ومصلحةً في الوقت الأوَّل، ثمَّ صارت مفسدةً باطلةَ الاستقبالِ في الوقت الثَّاني.

ولهذا أخبر سبحانه عن عِظَم شأن هذا التَّحويل والنَّسخ في القبلة، فقال:{وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143].

ثمَّ أخبر أنه سبحانه لم يكن يُضِيعُ ما تقدَّم لهم من الصَّلوات إلى القبلة الأولى، وأنَّ رأفتَه ورحمته بهم تأبى إضاعةَ ذلك عليهم وقد كان طاعةً لهم.

فلما قرَّر سبحانه ذلك كلَّه وبيَّن حُسْنَ هذه الجهة بعظمة البيت وعُلوِّ شأنه وجلالته، قال:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، وأكَّد ذلك عليهم مرَّةً بعد مرَّة، اعتناءً بهذا الشأن، وتفخيمًا له، وأنه شأنٌ ينبغي الاعتناءُ به، والاحتفالُ بأمره.

فتدبَّر هذا الاعتناءَ وهذا التقريرَ وبيانَ المصالح النَّاشئة من هذا الفرع من فروع الشريعة، وبيانَ المفاسد النَّاشئة من خلافه، وأنَّ كلَّ جهةٍ فهي في وقتها كان استقبالها هو المصلحة، وأنَّ للربِّ تعالى الحكمة البالغة في شَرْع القبلة الأولى وتحويل عبادِه عنها إلى المسجد الحرام.

(1)

أي الطريق الذي جاء منه. «اللسان» (حفر). وهو من أمثال العرب، يضربُ للراجع إلى عادته السوء. انظر:«مجمع الأمثال» (1/ 308).

ص: 936

فهذا معنى كون الحُسْن والقُبح ذاتيًّا للفعل ناشئًا من ذاته، ولا ريبَ عند ذوي العقول أنَّ مثل هذا يختلفُ باختلاف الأزمان والأمكنة والأحوال والأشخاص.

وتأمَّل حكمة الربِّ تعالى في أمره إبراهيمَ خليلَه صلى الله عليه وسلم بذبح ولده؛ لأنَّ الله ا تخذه خليلًا، والخُلَّة منزلةٌ تقتضي إفراد الخليل بالمحبة، وأن لا يكون له فيها منازعٌ أصلًا، بل تخلَّلت محبتُه جميعَ أجزاء القلب والرُّوح فلم يَبْقَ فيها موضعٌ خالٍ من حبِّه، فضلًا عن أن يكون محلًّا لمحبة

(1)

غيره.

فلمَّا سأل إبراهيمُ الولدَ وأُعْطِيَه أخذ شعبةً من قلبه كما يأخذُ الولدُ شعبةً من قلب والده، فغار المحبوبُ على خليله أن يكون في قلبه موضعٌ لغيره، فأمره بذبح الولد ليُخْرِجَ حبَّه من قلبه ويكون الله أحبَّ إليه وآثر عنده، ولا يبقى في القلب سوى محبته، فوطَّن نفسَه على ذلك وعزم عليه، فخَلَصت

(2)

المحبة لوليِّها ومستحقِّها، فحصلت مصلحةُ المأمور به من العزم عليه وتوطين النَّفس على الامتثال، فبقي الذَّبحُ مفسدةً؛ لحصول المصلحة بدونه، فنسَخَه في حقِّه لمَّا صار مفسدة، وأمَره به لمَّا كان عزمُه عليه وتوطينُ نفسه مصلحةً لهما.

فأيُّ حكمةٍ فوق هذا؟! وأيُّ لطفٍ وبرٍّ وإحسانٍ يزيدُ على هذا؟! وأيُّ مصلحةٍ فوق هذه المصلحة بالنسبة إلى هذا الأمر

(3)

ونَسْخِه؟!

(1)

(ت): «محل المحبة» .

(2)

(ت): «فحصلت» .

(3)

«الأمر» ليست في (ق).

ص: 937

وإذا تأمَّلتَ أمرَ الشرائع النَّاسخة والمنسوخة وجدتها كلَّها بهذه المنزلة؛ فمنها ما يكون وجهُ المصلحة فيه ظاهرًا مكشوفًا، ومنها ما يكون ذلك فيه خفيًّا لا يُدْرَكُ إلا بفضل فطنةٍ وجودة إدراك.

فصل

وهاهنا سرٌّ بديعٌ من أسرار الخلق والأمر، به يتبيَّنُ لك حقيقةُ الأمر؛ وهو أن الله لم يخلق شيئًا ولم يأمر بشيءٍ ثمَّ أبطله وأعدمه بالكلِّية، بل لا بدَّ أن يثبته بوجهٍ ما؛ لأنه إنما خلقه لحكمةٍ له في خلقِه، وكذلك أمرُه به وشرعُه إياه هو لِمَا فيه من المصلحة.

ومعلومٌ أنَّ تلك المصلحة والحكمة تقتضي إبقاءه، فإذا عارض تلك المصلحة مصلحةٌ أخرى أعظمُ منها كان ما اشتملت عليه أولى بالخلق والأمر، ويُبْقِي في الأولى

(1)

ما شاء من الوجه الذي يتضمَّنُ المصلحة، ويكونُ هذا من باب تزاحم المصالح، والقاعدةُ فيها شرعًا وخلقًا تحصيلُها واجتماعُها بحسب الإمكان، فإن تعذَّر قدِّمت المصلحةُ العظمى وإن فاتت الصُّغرى.

وإذا تأمَّلتَ الشريعةَ والخلق رأيتَ ذلك ظاهرًا، وهذا سرٌّ قلَّ من تفطَّن له من النَّاس

(2)

.

فتأمَّل الأحكام المنسوخة حكمًا حكمًا، كيف تجدُ المنسوخَ لم يبطُل بالكلِّية، بل له بقاءٌ بوجه:

(1)

(ت، ق): «ويبقى الأولى» . والمثبت من (ط).

(2)

(ت): «قل من تفطن إليه» .

ص: 938

* فمن ذلك: نسخُ القبلة وبقاءُ بيت المقدس معظَّمًا محترمًا، تُشَدُّ إليه الرِّحال، ويُقْصَدُ بالسَّفر إليه وحطِّ الأوزار عنده، واستقباله مع غيره من الجهات في السَّفر، فلم يبطُل تعظيمُه واحترامُه بالكلِّية، وإن بطل خصوصُ استقباله بالصَّلوات، فالقصدُ إليه ليصلَّى فيه باقٍ، وهو نوعٌ من تعظيمه وتشريفه بالصَّلاة فيه، والتوجُّهُ إليه قصدًا لفضيلته وشرفه

(1)

له نسبةٌ من التوجُّه إليه بالاستقبال في الصَّلوات.

فقُدِّم البيتُ الحرام عليه في الاستقبال؛ لأنَّ مصلحتَه أعظمُ وأكمل، وبقي قصدُه وشدُّ الرحال إليه والصَّلاةُ فيه مَنْشَأً للمصلحة؛ فتمَّت للأمَّة المحمَّدية المصلحتان المتعلِّقتان بهذين البيتين

(2)

، وهذا نهايةُ ما يكونُ من اللُّطف وتحصيل المصالح وتكميلها لهم؛ فتأمَّل هذا الموضع.

* ومن ذلك: نسخُ التَّخيير في الصَّوم بتعيينه؛ فإنَّ له بقاءً وبيانًا ظاهرًا، وهو أنَّ الرجل كان إذا أراد أفطر وتصدَّق، فحصلت له مصلحةُ الصَّدقة دون مصلحة الصَّوم، وإن شاء صام ولم يَفْدِ، فحصلت له مصلحةُ الصَّوم دون الصَّدقة، فحُتِّمَ الصَّومُ على المكلَّف لأنَّ مصلحته أتمُّ وأكملُ من مصلحة الفدية، ونُدِبَ إلى الصَّدقة في شهر رمضان؛ فإذا صام وتصدَّق حصلت له المصلحتان معًا، وهذا أكملُ ما يكونُ من الصَّوم، وهو الذي كان يفعلُه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فإنه كان أجودَ ما يكونُ في رمضان

(3)

، فلم تبطُل المصلحةُ الأولى جملةً، بل قُدِّم عليها ما هو أكملُ منها وجوبًا، وشُرِع الجمعُ بينها وبين الأخرى ندبًا واستحبابًا.

(1)

في الأصول: «وشرعه» . ولعل المثبت أشبه.

(2)

(ت): «البيتين المعمورين» .

(3)

أخرجه البخاري (6)، ومسلم (2308) من حديث ابن عباس.

ص: 939

* ومن ذلك: نسخُ ثبات الواحد من المسلمين للعشرة من العدوِّ بثباته للاثنين، ولم تبطُل الحكمةُ الأولى من كلِّ وجه، بل بقي استحبابُه وإن زال وجوبُه، بل إذا غلبَ على ظنِّ المسلمين ظفرُهم بعدوِّهم وهم عشرةُ أمثالهم وجبَ عليهم الثَّباتُ وحرُم عليهم الفرار

(1)

، فلم تبطُل الحكمةُ الأولى من كلِّ وجه.

* ومن ذلك: نسخُ وجوب الصَّدقة بين يدي مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يبطُل حكمُه بالكلِّية، بل نُسِخ وجوبُه، وبقي استحبابُه والنَّدبُ إليه وما عُلِم من تنبيهه وإشارته وهو أنه إذا استُحِبَّت الصَّدقةُ بين يدي مناجاة المخلوق فاستحبابها بين يدي مناجاةِ الله عند الصَّلوات والدُّعاء أولى، فكان بعضُ السَّلف الصَّالح يتصدَّقُ بين يدي الصَّلاة والدَّعاء إذا أمكنه، ويتأوَّلُ هذه الأولوية

(2)

، ورأيتُ شيخَ الإسلام ابن تيمية يفعلُه ويتحرَّاه ما أمكنه

(3)

، وفاوضتُه فيه، فذكر لي هذا التَّنبيه والإشارة.

* ومن ذلك: نسخُ الصَّلوات الخمسين التي فرضها الله على رسوله ليلة الإسراء بخمس، فإنها لم تبطُل بالكلية، بل أُثبِتَت خمسين في الثَّواب والأجر، وجُعِلت خمسًا في العمل والوجوب، وقد أشار تعالى إلى هذا بعينه حيثُ يقول على لسان نبيِّه:«لا يُبَدَّلُ القولُ لديَّ، هي خمسٌ وهي خمسون في الأجر»

(4)

.

(1)

انظر: «المغني» (13/ 189)، و «بدائع الصنائع» (7/ 99).

(2)

انظر: «البداية والنهاية» (12/ 475).

(3)

انظر: «زاد المعاد» (1/ 407).

(4)

أخرجه البخاري (349)، ومسلم (163) في حديث الإسراء الطويل.

ص: 940

فتأمَّل هذه الحكمة البالغة والنعمة السَّابغة؛ فإنه لما اقتضت المصلحةُ أن تكون خمسين، تكميلًا للثَّواب وسَوْقًا لهم بها إلى أعلى المنازل، واقتضت أيضًا أن تكون خمسًا؛ لعجز الأمَّة وضعفهم وعدم احتمالهم الخمسين= جعلها خمسًا من وجهٍ وخمسين من وجه؛ جمعًا بين المصالح وتكميلًا لها.

ولو لم تطَّلع

(1)

من حكمته في شرعه وأمره ولطفه بعباده ومراعاة مصالحهم وتحصيلها لهم على أتمِّ الوجوه إلا على هذه الثَّلاثة وحدها لكفى بها دليلًا على ما وراءها.

فسُبحان من له في كلِّ ما خلق وأمر حكمةٌ بالغةٌ شاهدةٌ

(2)

له بأنه أحكمُ الحاكمين وأرحمُ الراحمين، وأنه الله الذي لا إله إلا هو ربُّ العالمين.

* ومن ذلك: الوصيةُ للوالدين والأقربين؛ فإنها كانت واجبةً على من حضره الموتُ، ثمَّ نسخ الله ذلك بآية المواريث، وبقيت مشروعةً في حقِّ الأقارب الذين لا يَرِثون. وهل ذلك على سبيل الوجوب أو الاستحباب؟ فيه قولان للسَّلف والخلف، وهما في مذهب أحمد

(3)

.

فعلى القول الأوَّل بالاستحباب، إذا أوصى للأجانب دونهم صحَّت الوصية، ولا شيء للأقارب.

وعلى القول بالوجوب فهل لهم أن يُبطِلوا وصية الأجانب ويختصُّوا

(4)

(1)

(ط): «نطلع» .

(2)

(ت): «حكمة شاهدة» .

(3)

انظر: «المغني» (8/ 390)، و «الإنصاف» (7/ 143).

(4)

(ق): «ويختصون» . في الموضعين.

ص: 941

هم بالوصية، كما للورثة أن يُبطِلوا وصية الوارث، أو يُبطِلوا ما زاد على ثلث الثُّلث ويختصُّوا هم بثلثيه، كما للورثة أن يُبطِلوا ما زاد على ثلث المال من الوصية، ويكون الثُّلثُ في حقِّهم بمنزلة المال كلِّه في حقِّ الورثة؟ على وجهين

(1)

.

وهذا الثَّاني

(2)

أقْيسُ وأفقَه، وسرُّه أنَّ الثُّلثَ لما صار مستحقًّا لهم كان بمنزلة جميع المال في حقِّ الورثة، وهم لا يكونون أقوى من الورثة، فكما لا سبيل للورثة إلى إبطال الوصية بالثُّلث للأجانب، فلا سبيل لهؤلاء إلى إبطال الوصية بثلث الثُّلث للأجانب.

وتحقيقُ هذه المسائل والكلام على مآخذها له موضعٌ آخر.

والمقصودُ هنا أنَّ إيجابَ الوصية للأقارب وإن نُسِخ لم يبطُل بالكلِّية، بل بقي منه ما هو مَنْشَأ المصلحة ــ كما ذكرناه ــ، ونُسِخ منه ما لا مصلحة فيه، بل المصلحةُ في خلافه.

* ومن ذلك: نسخُ الاعتداد في الوفاة بحولٍ بالاعتداد بأربعة أشهرٍ وعشر، على المشهور من القولين في ذلك، فلم تبطُل العِدَّة الأولى جملةً.

* ومن ذلك: حبسُ الزَّانية في البيت حتى تموت؛ فإنه على أحد القولين لا نسخَ فيه؛ لأنه مُغَيًّا بالموت أو يجعل الله لهنَّ سبيلًا

(3)

، وقد جعل الله لهنَّ سبيلًا بالحدِّ، وعلى القول الآخر هو منسوخٌ بالحدِّ، وهو عقوبةٌ من

(1)

انظر: «التمهيد» (14/ 300)، و «المغني» (8/ 395).

(2)

أي القول بإبطال ما زاد على ثلث الثلث، واختصاص الأقارب بالثلثين.

(3)

انظر: «معالم السنن» (3/ 316)، و «أحكام القرآن» (354)، و «الناسخ والمنسوخ» (2/ 151) لابن العربي.

ص: 942

جنس عقوبة الحبس.

فلم تبطُل العقوبةُ عنها بالكلِّية، بل نُقِلت من عقوبةٍ إلى عقوبة، وكانت العقوبةُ الأولى أصلحَ في وقتها؛ لأنهم كانوا حَدِيثي عهدٍ بجاهلية وزنًا، فأُمِروا بحبس الزَّانية أوَّلًا، ثمَّ لما استوطنت أنفسُهم على عقوبتها، وخرجوا عن عوائدهم الجاهلية، ورَكنوا إلى التَّحريم والعقوبة= نُقِلوا إلى أغلظُ من العقوبة الأولى، وهو الرجمُ والجلد؛ فكانت كلُّ عقوبةٍ في وقتها هي المصلحة التي لا يُصْلِحُهم سواها.

وهذا الذي ذكرناه إنما هو في نسخ الحكم الذي ثبتَ شرعُه وأمرُه

(1)

، وأمَّا ما كان مُسْتَصْحَبًا بالبراءة الأصلية فهذا لا يلزمُ مِنْ رفعه بقاءُ شيءٍ منه؛ لأنه لم يكن مصلحةً لهم، وإنما أُخِّر عنهم تحريمُه إلى وقتٍ لضربٍ من المصلحة في تأخير التَّحريم، ولم يلزم من ذلك أن يكون مصلحةً حين فِعْلِهم إياه.

وهذا كتحريم الرِّبا

(2)

والمُسْكِر وغير ذلك من المحرَّمات التي كانوا يفعلونها استصحابًا لعدم التَّحريم؛ فإنها لم تكن مصلحةً في وقت، ولهذا لم يشرعها الله تعالى، ولهذا كان رفعُها بالخطاب لا يسمَّى نسخًا، إذ لو كان ذلك نسخًا لكانت الشريعةُ كلُّها نسخًا

(3)

، وإنما النَّسخُ رفعُ الحكم الثَّابت بالخطاب، لا رفعُ مُوجَب الاستصحاب، وهذا متَّفقٌ عليه

(4)

.

(1)

(ق): «بشرعه وأمره» .

(2)

(ت): «الزنا» .

(3)

انظر: «إعلام الموقعين» (2/ 311، 320).

(4)

انظر: «قواطع الأدلة» (3/ 69)، و «روضة الناظر» (1/ 284).

ص: 943

فصل

وأمَّا ما خلقه سبحانه؛ فإنه أوجده لحكمةٍ في إيجاده، فإذا اقتضت حكمتُه إعدامَه جملةً أعدَمه، وأحدث بدله، وإذا اقتضت حكمتُه تبديلَه وتغييره وتحويله من صورةٍ إلى صورةٍ بدَّله وغيَّره وحوَّله، ولم يُعْدِمه جملة.

ومن فَهِم هذا فَهِم مسألة المعاد وما جاءت به الرسلُ فيه؛ فإنَّ القرآن والسنَّة إنما دلَّا على تغيير العالم وتحويله وتبديله، لا جَعْلِه عدمًا محضًا وإعدامه بالكلِّية؛ فدلَّ على تبديل الأرض غيرَ الأرض والسَّموات، وعلى تشقُّق السَّماء وانفطارها، وتكوير الشمس، وانتثار الكواكب، وسَجْر البحار، وإنزال المطر على أجزاء بني آدم المختلطة بالتُّراب، فينبتون كما ينبتُ النَّبات، وتُردُّ تلك الأرواحُ بعينها إلى تلك الأجساد التي أُحِيلت

(1)

ثمَّ أُنشِئت نشأةً أخرى، وكذلك القبورُ تُبعثَر، وكذلك الجبالُ تُسَيَّر ثمَّ تُنسَفُ وتصيرُ كالعِهْن المنفوش، وتَقِيءُ الأرضُ

(2)

يوم القيامة أفلاذَ أكبادها أمثال الأُسطوان من الذَّهب والفضة

(3)

، وتُمَدُّ الأرض، وتدنو الشمسُ من رؤوس النَّاس.

فهذا هو الذي أخبر به القرآنُ والسنَّة، ولا سبيل لأحدٍ من الملاحدة

(1)

(ت): «أحييت» .

(2)

(ت): «وتلقي الأرض» .

(3)

كما ورد في «صحيح مسلم» (1013).

والأسطوان: جمع أسطُوانة، وهي السارية والعمود. والمعنى: أن الأرض تلقي ما فيها من الكنوز. وقيل: ما رسخ فيها من العُروق المعدنية. انظر: «إكمال المعلم» (3/ 533)، و «شرح النووي» (7/ 98).

ص: 944

الفلاسفة وغيرهم إلى الاعتراض على هذا المعاد الذي جاءت به الرسلُ بحرفٍ واحد، وإنما اعتراضاتهم على المعاد الذي عليه طائفةٌ من المتكلِّمين أنَّ الرسلَ جاؤوا به، وهو أنَّ الله يُعْدِمُ أجزاءَ العالم العُلويِّ والسُّفليِّ كلَّها، فيجعلُها عدمًا محضًا، ثمَّ يعيدُ ذلك العدم وجودًا

(1)

.

ويا ليت شِعْري أين في القرآن والسنَّة أنَّ الله يُعْدِمُ ذرَّات العالم وأجزاءه جملةً، ثمَّ يقلِبُ ذلك العدم وجودًا؟!

وهذا هو المعادُ الذي أنكرته الفلاسفةُ ورمتهُ بأنواع الاعتراضات وضروب الإلزامات، واحتاج المتكلِّمون إلى تعسُّف الجواب وتقريره

(2)

بأنواعٍ من المكابرات.

وأمَّا المعادُ الذي أخبرت به الرسلُ فبريءٌ من ذلك كلِّه، مصُونٌ عنه، لا مطمع للعقل في الاعتراض عليه، ولا يقدحُ فيه شبهةً واحدة.

وقد أخبر سبحانه أنه يحيي العظامَ بعد ما صارت رميمًا، وأنه قد عَلِمَ ما تنقُص الأرض من لحوم بني آدم وعظامهم، فيردُّ ذلك إليهم عند النَّشأة الثَّانية، وأنه ينشِاء تلك الأجساد بعينها بعد ما بَلِيَت نشأةً أخرى، ويَردُّ إليها تلك الأرواح؛ فلم يدلَّ القرآنُ على أنه يُعْدِم تلك الأرواح ويُفْنِيها حتى تصير عدمًا محضًا ثمَّ يخلقها خلقًا جديدًا

(3)

، ولا دلَّ على أنه يُفْنِي الأرضَ

(1)

انظر: «الفوائد» (5)، و «مجموع الفتاوى» (5/ 425، 16/ 277، 17/ 246 - 261)، و «الصفدية» (2/ 328)، و «النبوات» (1/ 316).

(2)

من قوله: «بأنواع الاعتراضات

» إلى هنا ساقطٌ من (ت).

(3)

(ق): «

ويرد إليها تلك الأرواح ويفنيها حتى تصير عدما محضا، فلم يدل القرآن على أنه يعدم تلك الأرواح ثم يخلقها خلقا جديدا». وفي (ط): «

ويرد إليها تلك الأرواح، فلم يدل على أنه يعدم تلك الأرواح ويفنيها حتى تصير عدما محضا، فلم يدل القرآن على أنه يعدم تلك الأرواح ثم يخلقها خلقا جديدا». والمثبت من (ت، د).

ص: 945

والسَّموات ويُعْدِمها عدمًا صِرْفًا ثمَّ يجدِّد وجودَهما، وإنما دلَّت النُّصوصُ على تبديلهما وتغييرهما من حالٍ إلى حال.

فلو أُعطِيَت النُّصوص حقَّها لارتفع أكثر النِّزاع من العالم، ولكن خَفِيَت النُّصوص، وفُهِمَ منها خلافُ مرادها، وانضافَ إلى ذلك تسليطُ الآراء عليها، واتِّباعُ ما تقضي به؛ فتضاعفَ البلاء، وعظُم الجهل، واشتدَّت المحنة، وتفاقَم الخَطب.

وسببُ ذلك كلِّه الجهلُ بما جاء به الرسول، وبالمراد منه؛ فليس للعبد أنفعُ من سَمْع ما جاء به الرسولُ وعَقْل معناه، وأمَّا من لم يسمعه ولم يَعقِله فهو من الذين قال الله فيهم:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10].

فلنرجِع إلى الكلام على الدَّليل المذكور

(1)

؛ وهو: «أنَّ الحُسْن أو القُبح لو كان ذاتيًّا لما اختلف

» إلى آخره.

فنقول: قد بيَّنَّا أنَّ اختلافه بحسب الأزمنة والأمكنة والأحوال والشُّروط لا يخرجه عن كونه ذاتيًّا

(2)

.

الثَّاني: أنه ليس المعنى مِنْ كونه ذاتيًّا إلا أنه ناشاءٌ من الفعل، فالفعلُ

(1)

(ت): «فلنرجع إلى الدليل المذكور» .

(2)

وهذا حاصل الوجه الأول، وهو ما مضى من (ص: 928) إلى هنا.

ص: 946

مَنْشؤه، وهذا لا يوجبُ اختلافه

(1)

، بدليل ما ذكرنا من الصُّور.

الثَّالث: أنه يجوزُ اقتضاءُ الذَّات الواحدة لأمرين متنافيَيْن بحسب شرطين متنافيَيْن

(2)

، فتقتضي التَّبريدَ مثلًا في محلٍّ معيَّن بشرطٍ معيَّن، والتَّسخينَ في محلٍّ آخر بشرطٍ آخر، والجسمُ في حيِّزه يقتضي السُّكون، فإذا خرج عن حيِّزه اقتضى الحركة، واللحمُ يقتضي الصحَّة بشرط سلامة البدن من الحمَّى والمرض الممتنع منه الاغتذاء

(3)

، ويقتضي المرض بشرط كون الجسم محمومًا ونحوه. ونظائر ذلك أكثرُ من أن تحصى.

فإن قيل: محلُّ النِّزاع أنَّ الفعلَ لذاته أو لوصفٍ لازمٍ له يقتضي الحُسْن والقُبح، والشرطان متنافيان يمتنعُ أن يكونَ كلُّ واحدٍ منهما وصفًا لازمًا؛ لأنَّ اللازمَ يمتنعُ انفكاكُ الشيء عنه.

قيل: معنى كونه يقتضي الحُسْن والقُبْحَ لذاته أو لوصفه اللازم: أنَّ الحُسْن ينشأ من ذاته أو من وصفه

(4)

بشرطٍ معيَّن، والقُبحَ ينشأ من ذاته أو من وصفه بشرطٍ آخر، فإذا عُدِم شرطُ الاقتضاء، أو وُجِد مانعٌ يمنعُ اقتضاءه، زال الأمرُ المترتِّبُ بحسب الذَّات أو الوصف لزوال شرطه أو لوجود مانعه، وهذا واضحٌ جدًّا.

(1)

كذا في الأصول. وصواب الكلام: لا يوجب عدم اختلافه باختلاف الأزمان والأماكن والأحوال. كما مر في الوجه الأول.

(2)

(ت): «بحسب اقتضاء شرطين متنافيين» .

(3)

غير واضحة في (ق). وفي (ط): «الغذاء» . أي: الذي يمنع الاغتذاء.

(4)

(ت، ق): «صفة» . والمثبت من (ط).

ص: 947

الثَّالث

(1)

: أنَّ قولكم: «يحسُن الكذبُ إذا تضمَّن عِصْمةَ نبيٍّ أو مسلم»

(2)

، فهذا فيه طريقان:

أحدهما: لا نسلِّمُ أنه يحسُن الكذب، فضلًا عن أن يجب، بل لا يكون الكذبُ إلا قبيحًا، وأمَّا الذي يحسُن فالتَّعريض والتَّورية، كما وردت به السنَّة النَّبوية، كما عرَّض إبراهيمُ للملك الظالم بقوله:«هذه أختي» لزوجته، وكما قال:«إني سقيم» فعرَّض بأنه سقيمٌ قلبُه من شِرْكهم، أو سيسقَمُ يومًا ما، وكما فعل في قوله:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63]، فإنَّ الخبرَ والطَّلبَ كلاهما معلَّق بالشَّرط، والشرطُ متصلٌ بهما، ومع هذا فسمَّاها صلى الله عليه وسلم ثلاثَ كذبات

(3)

، وامتنع بها من مقام الشَّفاعة، فكيف تصحُّ دعواكم أنَّ الكذبَ يجبُ إذا تضمَّن عصمة مسلمٍ

(4)

مع ذلك؟!

فإن قيل: كيف سمَّاها إبراهيمُ كذباتٍ وهي توريةٌ وتعريضٌ صحيح؟!

قيل: لا يلزمنا جوابُ هذا السُّؤال، إذ الغرض إبطالُ استدلالكم، وقد حَصَل، فالجوابُ عنه تبرُّعٌ منَّا وتكميلٌ للفائدة، ولم أجد في هذا المقام للنَّاس جوابًا شافيًا يسكن القلبُ إليه، وهذا السُّؤال لا يختصُّ به طائفةٌ معيَّنة، بل هو واردٌ عليكم بعينه.

(1)

كذا في الأصول. تكرر عدُّ الثالث، سهوًا.

(2)

انظر ما تقدم (ص: 927).

(3)

كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (3358) ومسلم (2371).

(4)

(ت): «نبي مسلم» .

ص: 948

وقد فتحَ الله

(1)

الكريمُ بالجواب عنه، فنقول:[الكلام] له نسبتان؛ نسبةٌ إلى المتكلِّم وقصدِه وإرادته، ونسبةٌ إلى السَّامع وإفهام المتكلِّم

(2)

إياه مضمونه.

فإذا أخبَر المتكلِّمُ بخبرٍ مطابقٍ للواقع، وقَصَد إفهامَ المخاطَب إياه= صَدَق بالنِّسبتين؛ فإنَّ المتكلِّم إن قَصَد الواقع وقَصَد إفهامَ المخاطَب فهو صدقٌ من الجهتين.

وإن قَصَد خلافَ الواقع، وقَصَد مع ذلك إفهامَ المخاطَب خلافَ ما قَصَد

(3)

، بل معنًى ثالثًا لا هو الواقعُ ولا هو المراد= فهو كذبٌ من الجهتين بالنِّسبتين معًا.

وإن قَصَد معنًى مطابِقًا صحيحًا، وقَصَد مع ذلك التَّعمية على المخاطَب وإفهامَه خلافَ ما قَصَده= فهو صدقٌ بالنِّسبة إلى قصدِه، كذبٌ بالنِّسبة إلى إفهامه. ومن هذا الباب التَّوريةُ والمعاريض، وبهذا

(4)

أطلق عليها إبراهيمُ الخليل صلى الله عليه وسلم اسمَ الكذب، مع أنه الصَّادقُ في خبره، ولم يخبِر إلا صدقًا

(5)

.

فتأمَّل هذا الموضعَ الذي أشكل على النَّاس.

وقد ظهر بهذا أنَّ الكذبَ لا يكونُ قطُّ إلا قبيحًا، وأنَّ الذي يحسُن ويجبُ إنما هو التَّورية، وهي صدق، وقد يطلَق عليها الكذبُ بالنِّسبة إلى

(1)

(ت، ق): «خلف الله» . والمثبت من (ط).

(2)

(ت): «وإيهام المتكلم» .

(3)

(ت): «ما وقع» .

(4)

(ت): «ولهذا» .

(5)

انظر بحث المعلمي في «التنكيل» (2/ 248 - 253)، و «أحكام الكذب» .

ص: 949

الإفهام لا إلى الغاية

(1)

.

الطريق الثَّاني: أنَّ تخلُّف القُبح عن الكذب لفوات شرطٍ أو قيام مانعٍ يقتضي مصلحةً راجحةً على الصِّدق لا تخرجُه عن كونه قبيحًا لذاته، وتقريرُه

(2)

ما تقدَّم.

وقد تقدَّم أنَّ الله سبحانه حرَّم الميتةَ والدَّمَ ولحمَ الخنزير للمفسدة التي في تناولها، وهي ناشئةٌ من ذوات هذه المحرَّمات، وتخلُّفُ التَّحريم عنها عند الضرورة لا يوجبُ أن تكون ذاتُها [غيرَ]

(3)

مقتضيةٍ للمفسدة التي حرِّمت لأجلها؛ فهكذا الكذبُ المتضمِّنُ نجاةَ نبيٍّ أو مسلم.

الوجه الرابع: قوله: «لو كان ذاتيًّا لاجتمع النقيضان في صِدْق من قال: «لأكذبنَّ غدًا» وكذبِه

» إلى آخره.

جوابه: أنه متى يجتمعُ النقيضان: إذا كان الحُسْن والقُبح باعتبارٍ واحدٍ من جهةٍ واحدة، أو إذا كانا باعتبارين من جهتين، أو أعمَّ من ذلك؟

فإن عنيتُم الأوَّل فمسلَّم، ولكن لا نسلِّمُ الملازمة؛ فإنه لا يلزمُ من اجتماع الحُسْن والقُبح في الصُّورة المذكورة أن يكون لجهةٍ واحدةٍ واعتبارٍ واحد؛ فإنَّ اجتماع الحُسْن والقُبح فيهما باعتبارين مختلفين من جهتين متباينتَيْن، وهذا ليس بممتنع؛ فإنه إذا كان كذبًا كان قبيحًا بالنَّظر إلى ذاته، وحسنًا بالنَّظر إلى تضمُّنه صِدْق الخبر الأوَّل. ونظيره أن يقول: والله لأشربنَّ

(1)

أي: القصد. وفي الأصول: «العناية» . وهو تحريف.

(2)

(ق): «وتقديره» . (ت): «وتقدير» .

(3)

زيادة لازمة من (ط).

ص: 950

الخمر غدًا، أو: والله لأسرقنَّ هذا الثَّوبَ غدًا، ونحوه.

وإن عنيتُم الثَّاني فهو حقٌّ، ولكن لا نسلِّم انتفاءَ اللازم.

وإن عنيتُم الثَّالثَ منعنا الملازمةَ أيضًا على التقدير الأوَّل، وانتفاءَ اللازم على التقدير الثَّاني.

وهذا واضحٌ جدًّا.

الوجه الخامس: قوله: «القتلُ والضربُ حسنٌ إذا كان حدًّا أو قِصاصًا، وقبيحٌ في غيره، فلو كان ذاتيًّا لاجتمع النقيضان» = كلامٌ في غاية الفساد؛ فإنَّ القتل والضربَ واحدٌ بالنَّوع، فالقبيحُ منه ما كان ظلمًا وعدوانًا، والحسنُ منه ما كان جزاءً على إساءةٍ إمَّا حدًّا وإمَّا قِصاصًا، فلم يرجع الحُسْن والقُبح إلى واحدٍ بالعَيْن.

ونظيرُ هذا: السُّجود؛ فإنه في غاية الحُسْن لذاته إذا كان عبوديةً وخضوعًا للواحد المعبود، وفي غاية القُبح إذا كان لغيره.

ولو سلَّمنا أنَّ القتل والضربَ الواحدَ بالعَيْن إذا كان حدًّا أو قِصاصًا فإنه يكونُ حسنًا قبيحًا، لم يكن ذلك محالًا؛ لأنه باعتبارين؛ فهو حسنٌ لِمَا تضمَّنه من الزَّجر والنَّكال وعقوبة المستحقِّ، وقبيحٌ بالنَّظر إلى المقتول المضروب، فهو قبيحٌ له حسنٌ في نفسه، وهذا كما أنه مكروهٌ مبغوضٌ له، وهو محبوبٌ مرضيٌّ لفاعله والآمر به، فأيُّ محالٍ في هذا؟!

فظهر أنَّ هذا الدَّليل فاسد، والله أعلم.

ص: 951

فصل

فهذه أقوى أدلَّة النُّفاة، باعترافهم بضعف ما سواها، فلا حاجة بنا إلى ذكرها وبيان فسادها.

فقد تبيَّن الصُّبحُ لذي عينَيْن، وجُلِيَت عليك المسألةُ رافلةً في حُلَل أدلَّتها الصَّحيحة، وبراهينها المستقيمة، ولا تَغْضُض طرفَ بصيرتك عن هذه المسألة، فإنَّ شأنها عظيمٌ وخَطْبها جسيم.

* وقد احتجَّ بعضهم بدليلٍ أفسدَ من هذا كلِّه، فقالوا: لو حَسُنَ الفعلُ أو قَبُحَ لذاته أو لصفته لم يكن الباري تعالى مختارًا في الحكم؛ لأنَّ الحكمَ بالمرجوح على خلاف المعقول، فيلزمُ الآخر؛ فلا اختيار

(1)

.

وتقريرُ هذا الاستدلال ببيان الملازمة المذكورة أوَّلًا، وبيان انتفاء اللازم ثانيًا:

أمَّا المقام الأوَّل، وهو بيانُ الملازمة: أنَّ الفعل لو حَسُنَ لذاته أو لصفته لكان راجحًا على القُبح في كونه متعلَّقًا للوجوب أو النَّدب، ولو قَبُحَ لذاته أو لصفته لكان راجحًا على الحُسْن في كونه

(2)

متعلَّقًا للتَّحريم أو الكراهة.

فحينئذٍ؛ إمَّا أن يتعلَّق الحكمُ بالراجح المقتضي له، أو المرجوح المقتضي لضدِّه

(3)

، والثَّاني باطلٌ قطعًا؛ لاستلزامه ترجيحَ المرجوح، وهو

(1)

انظر: «بيان المختصر» (1/ 303)، و «رفع الحاجب» (1/ 464).

(2)

(ت): «لكونه» .

(3)

(ت): «إما أن يتعلق الحكم بالراجح المقتضي له أو بالمرجوح المقتضي له أو بالراجح المقتضي لضده» .

ص: 952

باطلٌ بصريح العقل، فتعيَّن الأوَّلُ ضرورةً؛ فإذا كان تعلُّق الحكم بالراجحِ لازمًا ضرورةً لم يكن الباري مختارًا في حكمه

(1)

.

فتأمَّل هذه الشبهة ما أفسدَها وأبينَ بطلانها!، والعجبُ ممَّن يرضى لنفسه أن يحتجَّ بمثلها!

وحَسْبك فسادًا لحجَّةٍ مضمونها أنَّ الله تعالى لم يَشْرَع السُّجود له وتعظيمَه وشكره، ويحرِّم السُّجودَ للصَّنم وتعظيمَه، لحُسْن هذا وقُبْح هذا، [بل] مع استوائهما، تفريقًا بين المتماثلين!

فأيُّ برهانٍ أوضحُ من هذا على فساد هذه الشُّبهة الباطلة؟!

الثَّاني

(2)

: أن يقال: هذا يوجبُ أن تكون أفعالُه

(3)

كلُّها مستلزمةً للتَّرجيح بغير مرجِّح، إذ لو ترجَّح الفعلُ منها بمرجِّحٍ لَزِم عدمُ الاختيار بغير ما ذكرتم

(4)

، إذ الحكمُ بالمرجِّح لازم.

فإن قيل: لا يلزمُ الاضطرار وتركُ الاختيار؛ لأنَّ المرجِّح هو الإرادة والاختيار.

قيلَ: فهلَّا قَنِعتم بهذا الجواب منَّا وقلتم: إذا كان اختيارُه تعالى متعلِّقًا بالفعل لِمَا فيه من المصلحة الدَّاعية إلى فعله وشرعه، وتحريمُه له لِمَا فيه من المفسدة الدَّاعية إلى تحريمه والمنع منه؛ فكان الحكمُ بالراجح في

(1)

انظر: «بيان المختصر» للأصفهاني (1/ 303).

(2)

أي الوجه الثاني في ردِّ هذه الشبهة. والأول هو تصوُّر مضمونها الفاسد.

(3)

(ت): «أن أفعاله» .

(4)

(ط): «بعين ما ذكرتم» .

ص: 953

الموضعين متعلِّقًا باختياره تعالى وإرادته، فإنه الحكيمُ في خلقه وأمره؛ فإذا عَلِم في الفعل مصلحةً راجحةً شرعه وأحبَّه وفرضه، وإذا عَلِم فيه مفسدةً راجحةً كَرِهه وأبغضه وحرَّمه.

هذا في شرعه.

وكذلك في خلقه؛ لم يفعل شيئًا إلا ومصلحتُه راجحةٌ وحكمتُه ظاهرة، واشتمالُه على المصلحة والحكمة التي فَعَله لأجلها لا ينافي اختيارَه، بل لا يتعلَّق بالفعل إلا لما فيه من المصلحة والحكمة، وكذلك تركُه لما فيه من خلاف حكمته.

فلا يلزمُ من تعلُّق الحكم بالراجح أن لا يكون الحكمُ اختياريًّا؛ فإنَّ المختار الذي هو أحكمُ الحاكمين لا يختار إلا ما يكونُ على وَفْقِ الحكمة والمصلحة.

الثَّالث: أنَّ قوله: «إذا لَزِم تعلُّق الحكم بالراجح لم يكن مختارًا»

(1)

تلبيسٌ؛ فإنه إنما تعلَّق بالراجح باختياره وإرادته، واختيارُه وإرادتُه اقتضت تعلُّقه بالراجح على وجه اللزوم، فكيف لا يكونُ مختارًا واختيارُه استلزم تعلُّق الحكم بالراجح؟!

الرابع: أنَّ تعلُّق حكمه تعالى بالفعل المأمور به أو المنهيِّ عنه: إمَّا أن يكون جائزَ الوجود والعدم، أو راجحَ الوجود، أو راجحَ العدم.

فإن كان جائزَ الطَّرفين لم يترجَّح أحدُهما إلا بمرجِّح، وإن كان راجحًا فالتَّعلُّق لازم؛ لأنَّ الحكمَ يمتنعُ ثبوتُه مع المساواة ومع المرجوحية.

(1)

حكى المصنف القول بالمعنى، وقد تقدَّم بلفظٍ آخر.

ص: 954

أمَّا الأوَّل؛ فلاستلزامه التَّرجيحَ بلا مرجِّح.

وأمَّا الثَّاني؛ فلاستلزامه ترجيحَ المرجوح؛ وهو باطلٌ بصريح العقل، فلا يثبتُ إلا مع المرجِّح التَّامِّ، وحينئذٍ فيلزم عدمُ الاختيار.

وما تجيبون به عن الإلزام المذكور هو جوابكم بعينه عن شبهتكم التي استدللتُم بها

(1)

.

الخامس: أنَّ هذه الشبهة الفاسدة مستلزمةٌ لأحد الأمرين ولا بدَّ: إمَّا التَّرجيح بلا مرجِّح، وإمَّا أن لا يكونَ الباري تعالى مختارًا كما قررتم. وكلاهما باطل.

السَّادس: أنها تقتضي أن لا يكونَ في الوجود قادرٌ مختارٌ إلا من يرجِّحُ أحدَ المتساويين على الآخر بلا مرجِّح، وأمَّا من رجَّح أحدَ الجائزين بمرجِّحٍ فلا يكونُ مختارًا. وهذا مِنْ أبطل الباطل، بل القادرُ المختارُ لا يرجِّحُ أحدَ مقدُورَيْه على الآخر إلا بمرجِّح

(2)

، وهو معلومٌ بالضرورة.

* واحتجَّ النُّفاة أيضًا بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]؛ ووجهُ الاحتجاج بالآية أنه سبحانه نفى التَّعذيبَ قبل بعثة الرُّسل، فلو كان حُسْنُ الفعل وقبحُه ثابتًا له قبل الشَّرع لكان مرتكبُ القبيح وتاركُ الحسن فاعلًا للحرام وتاركًا للواجب؛ لأنَّ قبحَه عقلًا يقتضي تحريمَه عقلًا عندكم، وحُسْنَه عقلًا يقتضي وجوبَه عقلًا، فإذا فَعَل المحرَّم وتَرك الواجبَ استحقَّ العذابَ عندكم، والقرآنُ نصٌّ صريحٌ أنَّ الله لا يعذِّبُ بدون بعثة الرُّسل.

(1)

(ت): «استلزمتم بها» .

(2)

(ق، د، ت): «على الآخر لا المرجح» . والمثبت من (ط).

ص: 955

فهذا تقريرُ الاستدلال احتجاجًا والتزامًا

(1)

.

ولا ريب أنَّ الآية حجَّةٌ على تناقض المثبتين إذا أثبتوا التَّعذيبَ قبل البعثة، فيلزم تناقضهم وإبطالُ جَمْعِهم بين هذين الحكمين: إثبات الحُسْن والقُبْح عقلًا، وإثبات التَّعذيب على ذلك بدون البعثة.

وليس إبطالُ القول بمجموع الأمرين موجبًا لإبطال كلِّ واحدٍ منهما، فلعلَّ الباطل هو قولهم بجواز التَّعذيب قبل البعثة. وهذا هو المتعيِّن؛ لأنه خلافُ نصِّ القرآن، وخلافُ صريح العقل أيضًا، فإنَّ الله سبحانه إنما أقام الحجَّة على العباد برسله؛ قال تعالى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، فهذا صريحٌ بأنَّ الحجَّة إنما قامت بالرُّسل، وأنه بعد مجيئهم لا يكونُ للنَّاس على الله حجَّة، وهذا يدلُّ على أنه لا يعذِّبهم قبل مجيء الرُّسل إليهم؛ لأنَّ الحجَّة حينئذٍ لم تقُم عليهم.

فالصَّوابُ في هذه المسألة إثباتُ الحُسْن والقُبح عقلًا، ونفيُ التَّعذيب على ذلك إلا بعد بعثة الرُّسل، فالحُسْن والقُبح العقليُّ لا يستلزمُ التَّعذيب، وإنما يستلزمه مخالفةُ المرسَلين.

وأمَّا المعتزلةُ فقد أجابوا عن ذلك بأن قالوا: الحُسْن والقُبح العقليُّ يقتضي استحقاقَ العقاب على فعل القبيح وتركِ الحسن، ولا يلزم من استحقاق العقاب وقوعُه؛ لجواز العفو عنه.

(1)

انظر: «بيان المختصر» (1/ 304)، و «رفع الحاجب» (1/ 465).

ص: 956

قالوا: ولا يَرِدُ هذا علينا حيث نَمْنَعُ

(1)

العفوَ بعد البعثة إذا أوعَد الربُّ على الفعل؛ لأنَّ العذابَ قد صار واجبًا بخبره، ومستَحقًّا بارتكاب القبيح، وهو سبحانه لم يحصُل منه إيعادٌ قبل البعثة، فلا يقبُح العفو؛ لأنه لا يستلزم خُلْفًا في الخبر، وإنما غايتُه تركُ حقٍّ له قد وجب قبل البعثة، وهذا حسن.

والتحقيقُ في هذا أنَّ سببَ العقاب قائمٌ قبل البعثة، ولكن لا يلزمُ من وجود سبب العذاب حصولُه؛ لأنَّ هذا السَّببَ قد نَصَبَ اللهُ له شرطًا وهو بعثةُ الرُّسل، وانتفاءُ التَّعذيب قبل البعثة هو لانتفاء شرطه، لا لعدم سببه ومقتضِيه.

وهذا فصلُ الخطاب في هذا المقام، وبه يزولُ كلُّ إشكالٍ في المسألة وينقشعُ غَيْمُها ويُسْفِرُ صُبْحُها، والله الموفق للصَّواب.

* واحتجَّ بعضهم أيضًا بأن قال: لو كان الفعلُ حسنًا لذاته لامتنع من الشارع نسخُه قبل إيقاع المكلَّف له وقبل تمكُّنه منه؛ لأنه إذا كان حسنًا لذاته فهو مَنْشَأٌ للمصلحة الراجحة، فكيف يُنْسَخُ ولم تحصُل منه تلك المصلحة؟!

وأجاب المعتزلةُ عن هذا بالتزامه، ومَنَعوا النَّسخَ قبل وقت الفعل

(2)

، ونازعهم جمهورُ هذه الأمَّة في هذا الأصل، وجوَّزوا وقوع النَّسخ قبل

(1)

(ت، ق): «يمنع» .

(2)

انظر: «المعتمد» لأبي الحسين البصري (1/ 407)، و «منهاج الوصول إلى معيار العقول» لابن المرتضى (440)، و «مجموع الفتاوى» (14/ 146، 17/ 198)، و «الأصفهانية» (705).

ص: 957

حضور وقت الفعل

(1)

، ثمَّ انقسموا قسمين:

فنُفاة التَّحسين والتقبيح بنَوه على أصلهم.

ومُثْبِتُو التَّحسين والتقبيح أجابوا عن ذلك بأنَّ المصلحة كما تنشأ من الفعل فإنها أيضًا قد تنشأ من العزم عليه وتوطين النَّفس على الامتثال، وتكونُ المصلحةُ المطلوبةُ هي العزمَ وتوطينَ النَّفس، لا إيقاعَ الفعل في الخارج، فإذا أُمِرَ المكلَّفُ بأمرٍ، فعَزم عليه وتهيَّأ له ووطَّن نفسَه على امتثاله، فحصلت المصلحةُ المرادةُ منه= لم يمتنع نسخُ الفعل وإن لم يوقِعْه؛ لأنه لا مصلحة له فيه.

وهذا كأمر إبراهيمَ الخليل بذبح ولده؛ فإنَّ المصلحة لم تكن في ذبحه، وإنما كانت في استسلام الوالد والولد لأمر الله، وعَزْمِهما عليه، وتوطينهما أنفسَهما على امتثاله، فلما حصلت هذه المصلحةُ بقي الذَّبحُ مفسدةً في حقِّهما، فنسخَه الله ورفعه.

وهذا هو الجوابُ الحقُّ الشافي في المسألة، وبه تتبيَّنُ الحكمةُ الباهرةُ في إثبات ما أثبته الله من الأحكام، ونَسْخ ما نسَخه منها بعد وقوعه ونَسْخ ما نسَخ منها قبل إيقاعه، وأنَّ له في ذلك كلِّه من الحِكَم البالغة ما تشهدُ له بأنه أحكمُ الحاكمين، وأنه اللطيفُ الخبير، الذي بهرت حكمتُه العقول، فتبارك الله ربُّ العالمين.

* ومما احتجَّ به النُّفاة أيضًا: أنه لو حَسُنَ الفعلُ أو قَبُحَ لغير الطَّلب لم يكن تعلُّق الطَّلب لنفسه؛ لتوقُّفه على أمرٍ زائد.

(1)

انظر: «البرهان» (2/ 1303)، و «المستصفى» (1/ 215)، و «قواطع الأدلة» (3/ 110)، و «الفنون» (1/ 199)، وغيرها.

ص: 958

وتقريرُ هذه الحجَّة: أنَّ حُسْنَ الفعل وقبحَه لا يجوزُ أن يكون لغير نفس الطَّلب، بل لا معنى لحُسْنه إلا كونُه مطلوبًا للشارع إيجادُه، ولا لقُبحه إلا كونُه مطلوبًا له إعدامُه، لأنه لو حَسُنَ وقَبُحَ لمعنًى غير الطَّلب الشرعيِّ لم يكن الطَّلبُ متعلِّقًا بالمطلوب لنفسه، بل كان التعلُّق لأجل ذلك المعنى، فيتوقَّفُ الطَّلبُ على حصول الاعتبار الزَّائد على الفعل.

وهذا باطل؛ لأنَّ التعلُّق نسبةٌ بين الطَّلب والفعل، والنسبةُ بين الأمرين لا تتوقَّفُ إلا على حصولهما، فإذا حَصَل الفعلُ تعلَّق الطَّلبُ به، سواءٌ حصل فيه اعتبارٌ زائدٌ على ذاته أو لا.

فإن قلتم: الطَّلبُ وإن لم يتوقَّف إلا على الفعل المطلوب والفاعل المطلوب منه

(1)

، لكنَّ تعلُّقه بالفعل متوقِّفٌ على جهة الحُسْن والقُبح المقتضي لتعلُّق الطَّلب به.

قلنا: الطَّلبُ قديم، والجهةُ الموجِبةُ للحُسن والقُبح حادثة، ولا يصحُّ توقُّف القديم على الحادث.

وسرُّ الدَّليل: أنَّ تعلُّق الطَّلب بالفعل ذاتيٌّ، فلا يجوز أن يكون معلَّلًا بأمرٍ زائدٍ على الفعل، إذ لو كان تعلُّقه به معلَّلًا لم يكن ذاتيًّا.

وهذا وجهُ تقرير هذه الشُّبهة وإن كان كثيرٌ من شُرَّاح «المختصر»

(2)

لم

(1)

(ت): «إلا على الفعل والفاعل المطلوب منه» .

(2)

«مختصر ابن الحاجب» . انظر: «بيان المختصر» (1/ 303)، و «رفع الحاجب» (1/ 464)، و «شرح العضد» (1/ 209)، و «الردود والنقود» للبابرتي (ت: 786) (1/ 330) وهو أقربهم تقريرًا لما ذكره ابن القيم.

ص: 959

يفهموا تقريرها على هذا الوجه فقرَّروها على وجهٍ آخر لا يفيدُ شيئًا

(1)

.

وبعدُ؛ فهي شبهةٌ فاسدةٌ من وجوه:

أحدهما: أن يقال: ما تعنُون بأنَّ تعلُّق الطَّلب بالفعل ذاتيٌّ له؟ أتعنُون به أنَّ التَّعلُّق مُقَوِّمٌ لماهية الطَّلب، وأنَّ تقوُّم الماهية به كتقوُّمها بجِنْسها وفَصْلِها؟ أم تعنُون به أنه لا تُعْقَلُ ماهيةُ الطَّلب إلا بالتَّعلُّق المذكور؟ أم أمرًا آخر؟

فإن عنيتم الأوَّل، والتَّعلُّق نسبةٌ إضافية، وهي عَدَمِية عندكم لا وجود لها في الأعيان؛ فكيف تكونُ النِّسبةُ العدمية مُقَوِّمةً للماهية الوجودية، وأنتم تقولون: إنه ليس لمتعلَّق الطَّلب من الطَّلب صفةٌ ثبوتية؛ لأنَّ هذا هو الكلامُ النفسيُّ، وليس لمتعلَّق القول فيه صفةٌ ثبوتية؟!

وإن عنيتم الثَّاني؛ فلا يلزمُ من ذلك توقُّف الطَّلب على اعتبارٍ زائدٍ على الفعل يكون ذلك الاعتبارُ شرطًا في الطَّلب.

وإن عنيتم أمرًا ثالثًا فلا بدَّ من بيانه، وعلى تقدير بيانه فإنه لا ينافي توقُّفَ التَّعلُّق على الشرط المذكور.

الثَّاني: أنَّ غاية ما قرَّرتموه أنَّ التَّعلُّق ذاتيٌّ للطَّلب، والذَّاتيُّ لا يعلَّل، كما ادَّعيتموه في المنطق دعوى مجرَّدة، ولم تقرِّروه، ولم تبيِّنوا ما معنى كونه غيرَ معلَّل، حتى ظنَّ بعض المقلِّدين المنطقيِّين

(2)

أنَّ معناه ثبوتية الذَّات لنفسه بغير واسطة. وهذا في غاية الفساد، لا يقولُه من يدري ما يقول،

(1)

(ت): «على وجه آخر طوله لا يفيد شيئًا» .

(2)

(ط): «من المنطقيين» .

ص: 960

وإنما معناه: أنه لا تحتاجُ الذَّاتُ في اتصافها به

(1)

إلى علَّةٍ مغايرةٍ لعلَّة وجودها، بل علَّة وجودها هو علةُ الذَّاتيِّ

(2)

؛ فهذا معنى كونه غير معلَّلٍ بعلَّةٍ خارجيةٍ عن علَّة الذَّات، بل علَّةُ الذَّات علَّتُه. وليس هذا موضع استقصاء الكلام على ذلك

(3)

.

والمقصودُ أنَّ كون التَّعلُّق ذاتيًّا للطَّلب فلا يعلَّل بغير علَّة الطَّلب لا ينافي توقُّفه على شرط، فهَب أنَّ صفة الفعل لا تكونُ علَّةً للتَّعلُّق، فما المانعُ أن تكون شرطًا له، ويكون تعلُّق الطَّلب بالفعل مشروطًا بكونه على الجهة المذكورة، فإذا انتفت تلك الجهةُ انتفى التَّعلُّق لانتفاء شرطه؟

وهذا مما لم يتعرَّضوا لبطلانه أصلًا، ولا سبيل لكم إلى إبطاله.

الثَّالث: أنَّ قولكم: «الطَّلبُ قديم، والجهةُ المذكورة حادثةٌ للفعل، ولا يصحُّ توقُّف القديم على الحادث» كلامٌ في غاية البطلان؛ فإنَّ الفعل المطلوبَ حادث، والطَّلبُ متوقِّفٌ عليه، إذ لا تتصوَّرُ ماهية الطَّلب بدون المطلوب، فما كان جوابكم عن توقُّف الطَّلب على الفعل الحادث فهو جوابنا عن توقُّفه على جهة الفعل الحادثة؛ فإنَّ جهته لا تزيدُ عليه، بل هي صفةٌ من صفاته.

فإن قلتم: التوقُّف هاهنا إنما هو لتعلُّق الطَّلب بالمطلوب، لا لنفس

(1)

(ت): «في إثباتها به» .

(2)

(ط): «بل علة وجودها هي علة اتصاف الذات» .

(3)

انظر: «الإشارات والتنبيهات» لابن سينا بشرح الطوسي (1/ 152). وهذا أحد فروقٍ ثلاثة يذكرها المناطقة للتفريق بين الذاتيِّ والعرضي، وهو تفريقٌ عسرٌ باعتراف محققيهم.

ص: 961

الطَّلب، ولا محذور

(1)

في توقُّف التَّعلُّق؛ لأنه حادث.

قلنا: فهلَّا قَنِعتُم بهذا الجواب في صفة الفعل، وقلتم: التَّوقُّف على الجهة المذكورة هو محذور توقُّف التَّعلُّق

(2)

، لا توقُّف نفس الطَّلب

(3)

، فنسبةُ التَّعلُّق إلى جهة الفعل كنسبته إلى ذاته، ونسبةُ الطَّلب إلى الجهة كنسبته إلى نفس الفعل سواءً بسواء، فنسبةُ القديم إلى أحد الحادثَيْن كنسبته إلى الآخر، ونسبةُ تعلُّقه بأحد الحادثَيْن كنسبة تعلُّقه بالآخر، فتبيَّن فسادُ الدَّليل المذكور.

وحَسْبك بمذهبٍ فسادًا استلزامُه جوازَ ظهور المعجزة على يد الكاذب، وأنه ليس بقبيح، واستلزامُه جوازَ نسبة الكذب إلى أصدق الصَّادقين، وأنه لا يَقْبُح منه، واستلزامُه التَّسويةَ بين التَّثليث والتَّوحيد في العقل، وأنه قبل ورود النُّبوَّة لا يَقْبُح التَّثليث، ولا عبادةُ الأصنام، ولا مَسَبَّة المعبود، ولا شيءٌ من أنواع الكفر، ولا السَّعيُ في الأرض بالفساد، ولا تقبيحُ شيءٍ من القبائح أصلًا.

وقد التزم النُّفاة ذلك، وقالوا: إنَّ هذه الأشياء لم تَقْبُح عقلًا، وإنما جهة قُبحِها السَّمعُ فقط، وأنه لا فرق قبل السَّمع بين ذكر الله والثناء عليه وحمده وبين ضدِّ ذلك، ولا بين شُكره بما يَقْدِرُ عليه العبدُ وبين ضدِّه، ولا بين الصِّدق والكذب، والعفَّة والفُجور، والإحسان إلى العالَم والإساءة إليهم بوجهٍ ما، وإنما التَّفريقُ بالشرع بين متماثلَيْن من كلِّ وجه.

(1)

(ق، ت): «تجدون» . وهو تحريف. وصوِّبت في طرة (د).

(2)

(د، ت): «هو توقف التعلق» .

(3)

في (ط) زيادة: «معه» . وهي مشتبهة في (ق)، وليست في (د، ت).

ص: 962

وقد كان تصوُّر هذا المذهب على حقيقته كافيًا في العلم ببطلانه وأن لا يُتكلَّف ردُّه، ولهذا رَغِبَ عنه فحولُ الفقهاء والنُّظَّار من الطَّوائف كلِّهم:

* فأطبق أصحابُ أبي حنيفة على خلافه، وحَكَوه عن أبي حنيفة نصًّا

(1)

.

* واختاره من أصحاب أحمد: أبو الخطَّاب

(2)

، وابن عقيل

(3)

، وأبو يعلى الصَّغير

(4)

، ولم يقل أحدٌ من متقدِّميهم بخلافه، ولا يمكنُ أن يُنقَل عنه

(5)

حرفٌ واحدٌ موافقٌ للنُّفاة.

(1)

انظر: «تخريج الفروع على الأصول» للزنجاني (245)، و «تيسير التحرير» (1/ 383، 2/ 150)، و «البحر المحيط» (1/ 141، 146)، و «درء التعارض» (7/ 457، 9/ 49، 62)، و «النبوات» (675)، و «الجواب الصحيح» (2/ 309)، و «الأصفهانية» (704).

(2)

محفوظ بن أحمد الكلوذاني (ت: 510). وهو يوافق المعتزلة في الإيجاب العقلي في العِلميَّات، واستحقاق عذاب الآخرة بمجرد مخالفته. انظر كتابه:«التمهيد» (4/ 287، 295)، و «العدة» لأبي يعلى (1257)، و «الجواب الصحيح» (2/ 296، 311)، و «درء التعارض» (9/ 59)، وما سيأتي (ص: 1121).

(3)

أبو الوفاء (ت: 513). وظاهر كلامه في «الواضح» (5/ 259، 269) نفيُ التحسين والتقبيح. وهو المنقول عنه. انظر: «المسودة» (867)، و «درء التعارض» (7/ 457)، و «نقض التأسيس» (1/ 214)، و «النبوات» (675).

(4)

محمد بن القاضي أبي خازم بن شيخ المذهب القاضي أبي يعلى بن الفراء (ت: 560). انظر: «السير» (20/ 353)، و «المقصد الأرشد» (2/ 500). وله كتابٌ في أصول الدين. انظر:«نقض التأسيس» (1/ 201).

(5)

أي: عن الإمام أحمد. وانظر: «المعتمد» للقاضي أبي يعلى (21)، و «العدة» (1259)، و «التمهيد» لأبي الخطاب (4/ 295)، و «درء التعارض» (9/ 51)، و «الأصفهانية» (704). وفي (ط):«ينقل عنهم» أي متقدمي أصحاب أحمد.

ص: 963

* واختاره من أئمَّة الشافعية: الإمام أبو بكرٍ محمَّد بن علي بن إسماعيل القفَّال الكبير

(1)

، وبالغ في إثباته

(2)

، وبنى كتابه «محاسن الشريعة» عليه، وأحسنَ فيه ما شاء، وكذلك الإمام سعدُ بن علي الزَّنجاني

(3)

بالغ في إنكاره على أبي الحسن الأشعريِّ القولَ بنفي التَّحسين والتقبيح وأنه لم يسبقه إليه أحد

(4)

، وكذلك أبو القاسم الراغب

(5)

، وكذلك أبو عبد الله الحَلِيميُّ

(6)

، وخلائقُ لا يحصون.

(1)

(ت: 365). انظر: «السير» (16/ 283). واتُّهم بأن له ميلًا إلى الاعتزال؛ لقوله في هذه المسألة. وانظر في الاعتذار عنه: «البحر المحيط» (1/ 140)، و «الإبهاج» للسبكي (1/ 138)، و «طبقات الشافعية الكبرى» (3/ 202).

(2)

حتى صار قوله قريبًا من قول المعتزلة. انظر: «البحر المحيط» (1/ 139).

(3)

الإمام العلامة، شيخ الحرم (ت: 471). انظر: «السير» (18/ 385)، و «الأنساب» (6/ 307).

(4)

ذكر ذلك في شرح قصيدته في السنَّة. انظر: «منهاج السنة» (1/ 450)، و «درء التعارض» (9/ 50)، و «الأصفهانية» (704)، و «التسعينية» (909)، و «الرد على المنطقيين» (421).

وانظر قول الأشعري في رسالته لأهل الثغر (74)، و «اللمع» (117).

وممن بالغ في الإنكار على الأشعري: السجزي (ت: 444) في رسالته لأهل زبيد (95، 139).

(5)

تقدمت ترجمته (ص: 54). وانظر: كتابيه: «تفصيل النشأتين» (142)، و «الذريعة إلى مكارم الشريعة» (272).

(6)

الحسين بن الحسن بن محمد، من أئمة الشافعية (ت: 403). انظر: «السير» (17/ 231)، و «طبقات الشافعية الكبرى» (4/ 333). ونقل عنه هذا القول السمعانيُّ في «القواطع» (3/ 400).

ص: 964

وكلُّ من تكلَّم في عِلَل الشرع ومحاسنه وما تضمَّنه من المصالح ودرء المفاسد فلا يمكنُه ذلك إلا بتقرير الحُسْن والقُبح العقليَّين؛ إذ لو كان حُسْنُه وقُبْحُه بمجرَّد الأمر والنهي لم يتعرَّض في إثبات ذلك لغير الأمر والنهي فقط، وعلى تصحيح الكلام في القياس

(1)

وتعليق الأحكام بالأوصاف المناسبة المقتضية لها دون الأوصاف الطَّردية التي لا مناسبة فيها، فيجعل الأوَّلَ ضابطًا للحكم دون الثَّاني= إلا على إثبات هذا الأصل

(2)

؛ فلو تساوت الأوصافُ في أنفسها لانسدَّ بابُ القياس والمناسبات والتَّعليل بالحِكَم والمصالح ومراعاة الأوصاف المؤثِّرة دون الأوصاف التي لا تأثير لها.

فصل

وإذ قد انتهينا في هذه المسألة إلى هذا الموضع ــ وهو بَحْرُها ومُعْظَمُها ــ فلنذكر سِرَّها وغايتَها وأصولها التي أُثبِتَت عليها، فبذلك تتمُّ الفائدة؛ فإنَّ كثيرًا من الأصوليِّين ذكروها مجرَّدةً ولم يتعرَّضوا لسِرِّها وأصلها الذي أُثبِتَت عليه، وللمسألة ثلاثةُ أصولٍ هي أساسُها:

الأصل الأوَّل: هل أفعالُ الربِّ تعالى وأوامرُه معلَّلةٌ بالحِكَم والغايات؟ وهذه مِنْ أجلِّ مسائل التَّوحيد

(3)

المتعلِّقة بالخلق والأمر، بالشَّرع والقدر.

الأصل الثَّاني: أنَّ تلك الحِكَم المقصودة فعلٌ يقومُ به سبحانه قيامَ

(1)

معطوفٌ على قوله: «وكل من تكلم في علل الشرع

».

(2)

أي: لا يمكن المتكلم على تصحيح القياس ذلك إلا بإثبات الحسن والقبح.

(3)

(ت): «وهذه من أصل التوحيد» .

ص: 965

الصِّفة به، فيرجع إليه حكمُها، ويُشتقُّ له اسمُها، أم يرجع إلى المخلوق فقط مِنْ غير أن يعود إلى الربِّ منها حكمٌ أو يُشتقَّ له منها اسم؟

الأصل الثَّالث: هل تعلُّق إرادة الربِّ تعالى بجميع الأفعال تعلُّقٌ واحد، فما وُجِد منها فهو مرادٌ له محبوبٌ مَرْضِيٌّ، طاعةً كان أو معصية، وما لم يوجَد منها فهو مكروهٌ له مبغوضٌ غيرُ مراد؛ طاعةً كان أو معصية، أم هو يحبُّ الأفعال الحسنة التي هي مَنْشَأ المصالح وإن لم يشأ تكوينَها وإيجادها

(1)

؛ لأنَّ في مشيئته لإيجادها فَوَاتَ حكمةٍ أخرى هي أحبُّ إليه منها، ويبغض الأفعال القبيحة التي هي مَنْشَأ المفاسد ويمنعُها ويمقتُ أهلَها وإن شاء تكوينَها وإيجادها؛ لما تستلزمه من حكمةٍ ومصلحةٍ هي أحبُّ إليه منها ولا بدَّ من توسُّط هذه الأفعال في وجودها؟

فهذه الأصولُ الثَّلاثةُ عليها مدار هذه المسألة ومسائلِ القدر والشرع

(2)

.

وقد اختلف النَّاسُ فيها قديمًا وحديثًا إلى اليوم:

* فالجبرية تنفي الأصول الثَّلاثة، وعندهم أنَّ الله لا يفعلُ لحكمة، ولا يأمرُ لها، ولا يدخُل في أمره وخلقه لامُ التَّعليل بوجهٍ، وإنما هي لامُ العاقبة،

ص: 966

كما لا يدخُل في أفعاله باءُ السَّببية، وإنما هي باء المصاحَبة.

ومنهم من يثبتُ الأصل الثَّالث وينفي الأصلين الأوَّلين، كما هو أحدُ القولين للأشعريِّ، وقولُ كثيرٍ من أئمَّة أصحابه، وأحدُ القولين لأبي المعالي

(1)

.

* والمشهورُ من مذهب المعتزلة إثباتُ الأصل الأوَّل، وهو التَّعليلُ بالحِكَم والمصالح، ونفيُ الثَّاني؛ بناءً على قواعدهم الفاسدة في نفي الصِّفات.

فأمَّا الأصلُ الثَّالث فهم فيه ضدُّ الجبرية من كلِّ وجه؛ فهما طرفا نقيض؛ فإنهم لا يثبتون لأفعال العباد سوى المحبة لحَسَنها والبِغْضة لقبيحها، وأمَّا المشيئةُ لها فعندهم أنَّ مشيئة الله لا تتعلَّق بها، بناءً منهم على نفي خلق أفعال العباد، فليست عندهم إرادةُ الله لها إلا بمعنى محبَّته لحَسَنها فقط، وأمَّا قبيحُها فليس مرادًا لله بوجه. وأمَّا الجبرية فعندهم أنه لم يتعلَّق بها سوى المشيئة والإرادة، وأمَّا المحبة عندهم فهي نفسُ الإرادة والمشيئة، فما شاءه فقد أحبَّه ورَضِيَه.

* وأمَّا أصحابُ القول الوسط ــ وهم أهلُ التَّحقيق من الأصوليِّين والفقهاء والمتكلِّمين ــ فيثبتون الأصول الثَّلاثة؛ فيثبتون الحكمة المقصودة بالفعل في أفعاله تعالى وأوامره، ويجعلونها عائدةً إليه حكمًا، ومشتقًّا له اسمُها، فالمعاصي كلُّها ممقوتةٌ مكروهةٌ وإن وقعت بمشيئته وخلقه، والطَّاعاتُ كلُّها محبوبةٌ له مرضيةٌ وإن لم يشأها ممَّن لم يُطِعه ومن وُجِدَت

ص: 967

منه

(1)

، فقد تعلَّق بها المشيئةُ والحبُّ؛ فما لم يوجد من أنواع المعاصي فلم تتعلَّق به مشيئتُه ولا محبتُه، وما وُجِد منها تعلَّقت به مشيئتُه دون محبَّته، وما لم يوجد من الطاعات المقدورة تعلَّق بها محبتُه دون مشيئته، وما وُجِد منها تعلَّق به محبتُه ومشيئتُه.

ومن لم يُحْكِم هذه الأصول الثَّلاثة لم يستقرَّ له في مسائل الحِكَم والتعليل والتحسين والتقبيح قَدَم. بل لا بدَّ من تناقضه، ويتسلَّطُ عليه خصومه من جهة نفيه لواحدٍ منها.

ولهذا لما رأى القَدَرِيةُ الجَبْرية

(2)

أنهم لو سلَّموا للمعتزلة شيئًا من هذا تسلَّطوا عليهم به، سَدُّوا على أنفسهم البابَ بالكلِّية، وأنكروها جملةً، فلا حكمة عندهم ولا تعليل، ولا محبة تزيدُ على المشيئة.

ولما أنكر المعتزلةُ رجوعَ الحكمة إليه تعالى سلَّطوا عليهم خصومَهم فأبدَوا تناقضهم وكشفوا عوراتهم.

ولما سلك أهلُ السُّنَّة القول الوسط، وتوسَّطوا بين الفريقين، لم يطمع أحدٌ في مناقضتهم ولا في إفساد قولهم.

وأنت إذا تأمَّلتَ حججَ الطَّائفتين وما ألزمتْه كلٌّ منهما للأخرى علمتَ أنَّ من سلك القول الوسط لم يلزمه شيءٌ من إلزاماتهم ولا تناقضهم، والحمد لله ربِّ العالمين، هادي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم.

(1)

(ت): «وإن وجدت منه» .

(2)

يعني: الأشاعرة. وفي (ق): «القدرية والجبرية» . وهو خطأ. والمعتزلة هم القدرية النفاة. وسيذكرهما المصنف فيما يأتي (ص: 1096).

ص: 968

فصل

وقد سلَّم كثيرٌ من النُّفاة أنَّ كونَ الفعل حسنًا أو قبيحًا بمعنى الملاءمة والمنافرة والكمال والنقصان= عقليٌّ. وقال: نحن لا ننازعكم في الحُسْن والقُبح بهذين الاعتبارين، وإنما النزاعُ في إثباته عقلًا، بمعنى كونه متعلَّق المدح والذَّمِّ عاجلًا، والثَّواب والعقاب آجلًا، فعندنا لا مَدْخَل للعقل في ذلك، وإنما يُعْلَمُ بالسَّمع المجرَّد.

قال هؤلاء: فيطلَق الحُسْن والقُبح بمعنى الملاءمة والمنافرة وهو عقليٌّ، وبمعنى الكمال والنقصان وهو عقليٌّ

(1)

، وبمعنى استلزامه للثَّواب والعقاب وهو محلُّ النزاع

(2)

.

وهذا التفصيلُ لو أُعطِي حقَّه والتُزِمَت لوازمُه رُفِع النزاع، وأعاد المسألة اتفاقية؛ فإنَّ كونَ الفعل

(3)

صفة كمالٍ أو نقصانٍ يستلزمُ إثباتَ تعلُّق الملاءمة والمنافَرة؛ لأنَّ الكمال محبوبٌ للعالم به، والنقصَ مبغوضٌ له، ولا معنى للملاءمة والمنافرة إلا الحبُّ والبغض؛ فإنَّ الله سبحانه يحبُّ الكاملَ من الأفعال والأقوال والأعمال، ومحبتُه لذلك بحسب كماله، ويبغضُ النَّاقصَ منها ويمقُته، ومَقْتُه له بحسب نقصانه، ولهذا أسلفنا أنَّ من أصول المسألة

(1)

انتقد ابن تيمية إيراد الرازي لهذا المعنى؛ لأنه لا يخالف الذي قبله. «مجموع الفتاوى» (8/ 310).

(2)

هذا تلخيص الرازي المشهور لمحلِّ النزاع. انظر: «المحصول» (1/ 123)، و «المحصل» (479)، و «الأربعين» (246)، و «التحصيل» للأرموي (1/ 180)، و «نفائس الأصول» للقرافي (1/ 351)، و «درء القول القبيح» للطوفي (82).

(3)

في الأصول: «وأن كون الفعل» . ولعل الصواب ما أثبت.

ص: 969

إثباتَ صفة الحبِّ والبغض لله، فتأمَّل كيف قادت

(1)

المسألةُ إليه، وتوقَّفت عليه!

والله سبحانه يحبُّ كلَّ ما أمَر به، ويبغضُ كلَّ ما نهى عنه، ولا يسمَّى ذلك ملاءمةً ومنافَرة، بل يُطلق عليه الأسماءُ التي أطلقها على نفسه، وأطلقها عليه رسولُه، مِنْ محبَّته للفعل الحسن المأمور به، وبُغْضِه للفعل القبيح ومَقْتِه له، وما ذاك إلا لكمال الأوَّل ونقصان الثَّاني.

فإذا كان الفعلُ مستلزمًا للكمال والنقصان، واستلزامُه له عقليٌّ، والكمالُ والنقصانُ يستلزم الحبَّ والبغض الذي سمَّيتموه ملاءمةً ومنافَرة، واستلزامُه عقليٌّ= فبيان

(2)

كون الفعل حسنًا كاملًا محبوبًا مَرْضِيًّا، وكونُه قبيحًا ناقصًا مسخوطًا مبغوضًا، أمرٌ عقليٌّ.

بَقِيَ حديثُ المدح والذَّمِّ والثَّواب والعقاب. ومن أحاط علمًا بما أسلفناه في ذلك انكشفت له المسألة، وأسفرت عن وجهها، وزال عنها كلُّ شبهةٍ وإشكال:

* فأمَّا المدحُ والذَّمُّ فترتُّبه على النقصان والكمال عقليٌّ، كترتُّب المسبَّبات على أسبابها، فمدحُ العقلاء لمُؤْثِر الكمال والمتَّصف به، وذمُّهم لمُؤْثِر النقص والمتَّصف به، أمرٌ عقليٌّ فطريٌّ، وإنكارُه يُزاحِمُ المكابرة!

* وأمَّا العقابُ فقد قرَّرنا أنَّ ترتُّبه على فعل القبيح مشروطٌ بالسَّمع، وأنه إنما انتفى عند انتفاء السَّمع انتفاءَ المشروط لانتفاء شرطه، لا انتفاءَه لانتفاء سببه، فإنَّ

(1)

(ط): «عادت» .

(2)

كذا في الأصول. ولعلها: فإن.

ص: 970

سببَه قائم، ومُقْتَضِيه موجود، إلا أنه لم يتمَّ لتوقُّفه على شرطه.

وعلى هذا فكونُه متعلَّقًا للثَّواب والعقاب والمدح والذَّمِّ عقليٌّ، وإن كان وقوعُ العقاب موقوفًا على شرطٍ وهو ورودُ السَّمع.

وهل يقال: إنَّ الاستحقاقَ ليس بثابت، لأنَّ ورودَ السَّمع شرطٌ فيه؟ هذا فيه طريقان للنَّاس، ولعلَّ النزاع لفظيٌّ:

فإن أُرِيدَ بالاستحقاق الاستحقاقُ التَّامُّ، فالحقُّ نفيُه.

وإن أُرِيدَ به قيامُ السَّبب، والتَّخلُّفُ لفوات شرطٍ أو وجود مانع، فالحقُّ إثباتُه.

فعادت الأقسامُ الثَّلاثة ــ أعني: الكمال والنقصان، والملاءمة والمنافَرة، والمدح والذَّمَّ ــ إلى حرفٍ واحدٍ

(1)

، وهو كونُ الفعل محبوبًا أو مبغوضًا، ويلزم من كونه محبوبًا أن يكون كمالًا، وأن يستحقَّ عليه المدحَ والثَّواب، ومِنْ كونه مبغوضًا أن يكون نقصًا يستحقُّ به الذَّمَّ والعقاب.

فظهَر أنَّ التزام لوازم هذا التفصيل وإعطاءه حقَّه يرفعُ النزاع، ويعيدُ المسألةَ اتفاقية، ولكنَّ أصول الطَّائفتين تأبى التزام ذلك، فلا بدَّ لهما من التَّناقض إذا طَرَدوا أصولهم، وأمَّا من كان أصلُه إثباتَ الحكمة واتِّصاف الربِّ تعالى بها، وإثباتَ الحبِّ والبغض له، وأنهما أمرٌ وراء المشيئة العامَّة؛ فأصولُه مستلزمةٌ لفروعه، وفروعُه دالَّةٌ على أصوله، فأصولُه وفروعُه لا تتناقض، وأدلَّتُه لا تُمانَع ولا تُعارَض.

*

*

*

(1)

(ق): «عرف واحد» .

ص: 971

قال النُّفاة

(1)

: لو قدَّر نفسَه وقد خُلِقَ تامَّ الخِلقة

(2)

، كاملَ العقل، دفعةً واحدة، مِنْ غير أن يتخلَّق بأخلاق قومٍ، ولا تأدَّب بتأديب الأبوين، ولا تربَّى في الشَّرع

(3)

، ولا تعلَّم من معلِّم، ثمَّ عُرِض عليه أمران: أحدُهما: أنَّ الاثنين أكثرُ من الواحد، والثَّاني: أنَّ الكذبَ قبيح؛ بمعنى أنه يستحقُّ من الله تعالى لومًا عليه= لم نشكَّ أنه لا يتوقَّفُ في الأوَّل، ويتوقَّفُ في الثَّاني.

ومن حَكَم بأنَّ الأمرين سِيَّان بالنسبة إلى عقله خَرَجَ عن قضايا العقول وعانَد كعِناد الفُضول

(4)

.

كيف ولو تقرَّر عنده أنَّ الله تعالى لا يتضرَّرُ بكذبٍ ولا ينتفعُ بصدق، فإنَّ القولين في حُكم التكليف

(5)

على وتيرةٍ واحدة= لم يُمْكِنه أن يرُدَّ أحدَهما عن الثَّاني

(6)

بمجرَّد عقله.

والذي يوضِّحُه: أنَّ الصِّدق والكذبَ على حقيقةٍ ذاتية لا تتحقَّقُ ذاتُهما إلا بأركان تلك الحقيقة

(7)

، مثلًا، كما يقال: إنَّ الصِّدق إخبارٌ عن أمرٍ على ما هو عليه، والكذبَ إخبارٌ عن أمرٍ على خلاف ما هو به. ونحن نعلمُ أنَّ من أدرك هذه الحقيقةَ عَرَف المحقَّق، ولم يخطُر بباله كونُه حسنًا أو قبيحًا، فلم

(1)

نقلها المصنف من «نهاية الأقدام» للشهرستاني.

(2)

«نهاية الأقدام» : «تام الفطرة» .

(3)

«نهاية الأقدام» : «ولا تزيَّا بزيِّ الشرع» .

(4)

«نهاية الأقدام» : «وعاند عناد الفضول» .

(5)

في الأصول: «التكاليف» . والمثبت من «نهاية الأقدام» ، وما يأتي (ص: 1020).

(6)

(ط): «دون الثاني» . وفي «نهاية الأقدام» : «لم يمكنه أن يرجح أحدهما على الثاني» .

(7)

«نهاية الأقدام» : «إلا بأن كان تلك الحقيقة» .

ص: 972

يدخُل الحُسْن والقُبح إذنْ في صفاتهما الذَّاتية التي تحقَّقت حقيقتُهما بها، ولا يَلْزمهما

(1)

في الوَهم بالبديهة، كما بيَّنَّا، ولا يَلْزمهما

(2)

في الوجود ضرورةً؛ فإنَّ من الأخبار التي هي صادقةٌ ما يُلام عليه؛ مثلُ الدَّلالة على من هَرَبَ مِنْ ظالم

(3)

، ومن الأخبار التي هي كاذبةٌ ما يُثابُ عليها، مثلُ إنكار الدَّلالة عليه.

فلم يدخُل كونُ الكذب قبيحًا في حدِّ الكذب، ولا لَزِمَه في الوهم، ولا لَزِمَه في الوجود، فلا يجوزُ أن يُعَدَّ من الصِّفات الذَّاتية التي تَلْزَمُ النَّفسَ وجودًا وعدمًا عندهم؛ ولا يجوزُ أن يُعَدَّ من الصِّفات التَّابعة للحدوث، فلا يُعْقَلُ بالبديهة ولا بالنَّظر؛ فإنَّ النَّظريَّ

(4)

لا بدَّ أن يُرَدَّ إلى الضروريِّ البديهيِّ، وإذ لا بديهيَّ فلا مردَّ له أصلًا.

فلم يَبْق لهم إلا الاسترواحُ إلى عادات النَّاس مِنْ تسمية ما يضرُّهم: قبيحًا وما ينفعهم: حسنًا، ونحن لا ننكرُ أمثال تلك الأسامي، على أنها تختلفُ بعادة قومٍ [دون قوم]، وزمانٍ [دون زمان]، ومكانٍ دون مكان، وإضافةٍ دون إضافة، وما يختلفُ بتلك النِّسَب والإضافات لا حقيقة له في الذَّات، فربَّما يستحسنُ قومٌ ذبحَ الحيوان، وربَّما يستقبحُه قوم، وربَّما يكون

(1)

«نهاية الأقدام» : «ولا لزمتهما» ، وفي إحدى نسخه:«ولا لزمها» . (د): «ولو لزمها» . (ق): «ولو ألزمها» . (ت): «ولو لازمها» . والمثبت مما سيأتي (ص: 1021).

(2)

(د) و «نهاية الأقدام» : «ولا لزمها» . (ق): «ولا لزامها» . (ت): «والا لزمها» . والمثبت مما سيأتي (ص: 1021).

(3)

في الأصول: «على هرب من ظالم» . وفي «نهاية الأقدام» : «على نبي هرب من ظالم» . والمثبت مما سيأتي (ص: 1021).

(4)

في الأصول: «النظر» . والمثبت من «نهاية الأقدام» .

ص: 973

بالنسبة إلى قومٍ وزمانٍ حسنًا، وربَّما يكونُ قبيحًا، لكنَّا وضعنا الكلامَ في حُكم التكليف بحيث يجبُ الحسنُ به وجوبًا

(1)

، يثابُ عليه قطعًا، ولا يتطرَّقُ إليه لومٌ أصلًا، ومثل هذا يمتنعُ إدراكُه

(2)

عقلًا

(3)

.

قالوا: فهذه طريقةُ أهل الحقِّ على أحسن ما تقرَّر وأحسن ما تحرَّر

(4)

.

قالوا

(5)

: وأيضًا؛ فنحن لا ننكرُ اشتهارَ حُسْن الفضائل التي ذُكِر ضَرْبُهم بها الأمثال، وقُبحَها بين الخلق، وكونها محمودةً مشكورةً مُثنًى على فاعلها، أو مذمومةً مذمومًا فاعلُها، ولكنَّ مستندها

(6)

إمَّا [التَّديُّن] بالشرائع وإمَّا الأغراض، ونحنُ إنما ننكرها في حقِّ الله عز وجل لانتفاء الأغراض عنه، فأمَّا إطلاقُ النَّاس هذه الألفاظ فيما يدورُ بينهم فيُسْتَمَدُّ من الأغراض، ولكن قد تَدِقُّ الأغراض

(7)

وتخفى فلا ينتبهُ لها إلا المحقِّقون

(8)

.

قالوا: ونحن ننبِّه على مثارات الغلط فيه، وهي ثلاثة مثاراتٍ يغلطُ الوهمُ فيها:

(1)

«نهاية الأقدام» : «فيه وجوبا» .

(2)

«نهاية الأقدام» : «ومثل هذا لا يمتنع إدراكه» .

(3)

«نهاية الأقدام» (371 - 373).

(4)

«نهاية الأقدام» (373).

(5)

من «المستصفى» للغزالي.

(6)

(د، ق): «نستنكرها» . (ت): «نشكرها» . وهو تحريف. وفيما يأتي (ص: 1024): «سبب ذكرها» . والمثبت من «المستصفى» ، وإن كان الأشبه بسياقه: مستمدَّها.

(7)

(ق، د): «قد بدت الأغراض» . (ت): «قسدت الأغراض» . وهو تحريف. والمثبت من «المستصفى» .

(8)

«المستصفى» (1/ 116).

ص: 974

الأولى: أنَّ الإنسان يُطْلِقُ اسمَ القُبح على ما يخالفُ غرضَه، وإن كان يوافقُ غرضَ غيره، من حيث إنه لا يلتفتُ إلى الغير، فإنَّ كلَّ طبعٍ مشغوفٌ بنفسه ومستحقِرٌ لغيره، فيقضي بالقُبح مطلقًا، وربَّما يضيفُ القُبحَ إلى ذات الشيء ويقول: هو في نفسه قبيح.

فقد قضى بثلاثة أمورٍ هو مصيبٌ في واحدٍ منها وهو أصلُ الاستقباح، ومخطاءٌ في أمرين:

أحدهما: إضافةُ القُبح إلى ذاته، وغَفَل عن كونه قبيحًا لمخالفة غرضه.

والثَّاني: حكمُه بالقُبح مطلقًا، ومنشؤه عدمُ الالتفات إلى غيره، بل عدمُ الالتفات

(1)

إلى بعض أحوال نفسه، فإنه قد يستحسِنُ في بعض الأحوال عينَ ما يستقبحُه إذا اختلف الغرض.

الغلطة الثَّانية: سببُها أنَّ ما هو مخالفٌ للغَرض

(2)

في جميع الأحوال إلا في حالةٍ نادرةٍ قد لا يلتفتُ الوهمُ إلى تلك الحالة النَّادرة، [بل لا يخطُر بالبال، فيراه مخالفًا في كل الأحوال، فيقضي بالقبح مطلقًا؛ لاستيلاء أحوال قُبحه على قلبه، وذهاب الحالة النادرة]

(3)

عن ذِكْره، كحُكمِه على الكذب بأنه قبيحٌ مطلقًا، وغفلته عن الكذب الذي يستفادُ منه عصمةُ نبيٍّ أو وليٍّ.

وإذا قضى بالقُبح مطلقًا، واستمرَّ عليه مدَّةً، وتكرَّر ذلك على سمعه ولسانه، انغَرس في قلبه استقباحٌ منفِّر

(4)

، فلو وقعت تلك الحالةُ النَّادرةُ

(1)

في الأصول: «عن الالتفات» . والمثبت من «المستصفى» .

(2)

في الأصول: «غالب للغرض» . والمثبت من «المستصفى» وما سيأتي (ص: 1032).

(3)

مستدرك من «المستصفى» وما سيأتي (ص: 1033). وسقط هنا لانتقال النظر.

(4)

(ط): «استقباحه والنفرة منه» .

ص: 975

وجد في نفسه نفرةً عنها؛ لطول نشوئه على الاستقباح؛ فإنه أُلقِيَ إليه منذ الصِّبا على سبيل التَّأديب

(1)

والإرشاد أنَّ الكذبَ قبيحٌ لا ينبغي أن يُقْدِم عليه أحد، ولا ينبَّه على حُسْنِه في بعض الأحوال، خيفةً من أن لا تَسْتَحْكِمَ نُفْرَتُه عن الكذب، فيُقْدِم عليه، وهو قبيحٌ في أكثر الأحوال، والسَّماعُ في الصِّغَر كالنقش في الحجر، فينغرسُ في النَّفس، ويجدُ التَّصديقَ به مطلقًا

(2)

، وهو صدقٌ لكن لا على الإطلاق، بل في أكثر الأحوال، اعتقَده مطلقًا

(3)

.

الغلطة الثَّالثة: سببها سبقُ الوهم إلى العكس؛ فإنَّ من رأى شيئًا

(4)

مقرونًا بشيءٍ يَظُنُّ أنَّ الشيء لا محالةَ مقرونٌ به مطلقًا، ولا يدري أنَّ الأخصَّ أبدًا مقرونٌ بالأعمِّ، والأعمَّ لا يَلْزَمُ أن يكون مقرونًا بالأخصِّ.

ومثاله: نُفْرةُ نفس الذي نهشَته الحيةُ عن الحَبل المرقَّش اللون، لأنه وَجَدَ الأذى مقرونًا بهذه الصُّورة، فتوهَّمَ أنَّ هذه الصُّورةَ مقرونةٌ بالأذى.

وكذلك يَنْفِرُ عن العَسَل إذا شبَّهه بالعَذِرَة؛ لأنه وَجَد الاستقذارَ مقرونًا بالرَّطب الأصفر، فتوهَّم أنَّ الرَّطبَ الأصفر يقترنُ به الاستقذار، وقد يَغْلِبُ عليه الوهمُ حتى يتعذَّر الأكل، وإن كان حُكم العقل يكذِّبُ الوهمَ، ولكن خُلِقَت قُوى النَّفس مطيعةً للأوهام وإن كانت كاذبةً، حتى إنَّ الطَّبعَ ينفِرُ عن

(1)

في الأصول: «التأدب» . والمثبت من «المستصفى» .

(2)

«المستصفى» : «ويحنُّ إلى التصديق به مطلقا» .

(3)

«المستصفى» : «بل في أكثر الأحوال. وإذا لم يكن على ذكره إلا أكثر الأحوال، فهو بالإضافة إليه كل الأحوال، فلذلك يعتقده مطلقا» .

(4)

في الأصول: «من ترك شيئا» . والمثبت من «المستصفى» .

ص: 976

حسناء سمِّيت باسم اليهود

(1)

؛ إذْ وَجَدَ الاسمَ مقرونًا بالقُبح، فظنَّ أنَّ القُبحَ أيضًا يلازمُ الاسم.

ولهذا يُورَدُ على بعض العوامِّ مسألةٌ عقليةٌ جليَّةٌ فيقبلُها، فإذا قلتَ: هذا مذهبُ الأشعريِّ أو المعتزليِّ أو الظَّاهريِّ

(2)

أو غيره، نَفَر عنه إن كان سيِّاء الاعتقاد فيمن نسبتَها إليه، وليس هذا طبعَ العاميِّ، بل طبعُ أكثر العقلاء المتوسِّمينَ

(3)

بالعلم، إلا العلماء الراسخينَ الذين أراهم الله الحقَّ حقًّا، وقوَّاهم على اتِّباعه.

وأكثرُ الخلق قُوى نفوسِهم

(4)

مطيعةٌ للأوهام الكاذبة، مع علمهم بكذبها، وأكثرُ إقدام الخلق وإحجامهم بسبب هذا الأوهام؛ فإنَّ الوهمَ عظيمُ الاستيلاء على النَّفس، ولذلك يَنفِرُ طبعُ الإنسان عن المبيت في بيتٍ فيه ميِّتٌ مع قطعه بأنه لا يتحرَّك، ولكنه يتوهَّمُ في كلِّ ساعةٍ حَرَكَته ونُطْقَه

(5)

.

قالوا: فإذا انتبهتَ لهذه المثارات عرفتَ بها سِرَّ القضايا التي تستحسنُها العقول، وسِرَّ استحسانها إياها، والقضايا التي تستقبحُها العقول، وسِرَّ استقباحها لها.

ولنضربْ لذلك مثلين، وهما مما يحتجُّ بهما علينا أهلُ الإثبات

(6)

:

(1)

مهملة في (د). وفي بعض نسخ «المستصفى» : «الهنود» .

(2)

«المستصفى» : «مذهب الأشعري أو الحنبلي أو المعتزلي» .

(3)

«المستصفى» : «المتسمين» . وفي بعض نسخه: «المترسمين» .

(4)

في الأصول: «ترى نفوسهم» . والمثبت من «المستصفى» . وتقدم آنفًا.

(5)

«المستصفى» (1/ 116 - 117).

(6)

إثبات الحسن والقبح العقليَّين.

ص: 977

المثل الأوَّل: الملِكُ العظيمُ المستولي على الأقاليم، إذا رأى ضعيفًا مُشْرِفًا على الهلاك فإنه يميلُ إلى إنقاذه ويستحسنُه، وإن كان لا يعتقدُ أصلَ الدِّين لينتظر ثوابًا أو مجازاة

(1)

ــ ولا سيَّما إذا لم يعرفه المسكينُ ولم يَرَه، بأن كان أعمى أصمَّ لا يسمعُ الصَّوت ــ، ولا يوافقُ ذلك غرضه بل ربَّما يتعبُ به.

بل يحكمُ العقلاءُ بحُسْن الصَّبر على السَّيف إذا أُكرِه على كلمة الكفر، أو على إفشاء السِّرِّ ونقض العَهد، وهو على خلاف غرض المكرَه

(2)

.

وعلى الجملة، فاستحسانُ مكارم الأخلاق وإفاضة النِّعَم لا ينكره إلا من عانَد

(3)

.

المثل الثَّاني: العاقلُ إذا سَنَحَت له حاجةٌ وأمكنَ قضاؤها بالصِّدق كما أمكنَ بالكذب، بحيث تساويا في حصول الغَرض منهما كلَّ التَّساوي، فإنه يُؤثِرُ الصِّدقَ ويختاره، ويميلُ إليه طبعُه، وما ذاك إلا لحُسْنه، فلولا أنَّ الكذبَ على صفةٍ يجبُ عنده الاحترازُ عنه وإلا لما ترجَّح الصدقُ عنده

(4)

.

قالوا: وهذا الفرضُ واضحٌ في حقِّ من أنكر الشَّرائع، وفي حقِّ من لم تبلُغه الدَّعوة، حتى لا يُلزِمونا

(5)

كونَ التَّرجيح بالتكليف

(6)

.

(1)

ثوابًا من الله، أو مجازاةً من المسكين. وفي «المستصفى»:«لينتظر ثوابا، ولا ينتظرها منه أيضا مجازاة وشكرا» .

(2)

(د، ق): «الكفرة» . (ت): «الكفر» . وكلاهما تحريف. والمثبت من «المستصفى» .

(3)

«المستصفى» (1/ 115).

(4)

«نهاية الأقدام» : «رجَّح الصدق عليه» .

(5)

«نهاية الأقدام» : «حتى لا يلزم» .

(6)

«نهاية الأقدام» (373).

ص: 978

فهذا مِنْ حُجَجهم، [ونحن نجيبُ عن ذلك، فنبيِّن أنه لا] يثبتُ

(1)

حكمٌ على هذين المثالين، فنقول:

أمَّا قضيةُ إنقاذ الملك وحُسْنِه حتى في حقِّ من لم تبلُغه الدَّعوة وأنكر الشَّرائع، فسببه دفعُ الأذى الذي يلحقُ الإنسانَ مِنْ رقَّة الجِنْسيَّة

(2)

، وهو طبعٌ يستحيلُ الانفكاكُ عنه.

وذلك لأنَّ الإنسانَ يقدِّر نفسَه في تلك البَلِيَّة، ويقدِّر غيرَه معرضًا عن الإنقاذ، فيستقبحُه منه لمخالفة غرضه، فيعودُ ويقدِّر ذلك الاستقباحَ من المُشْرِف على الهلاك في حقِّ نفسه، فيَدْفَعُ عن نفسه ذلك القُبحَ المتوهَّم.

فإن فُرِض في بهيمةٍ أو شخصٍ لا رِقَّة فيه، فهو بعيدٌ تصوُّره. ولو تُصُوِّرَ فيبقى أمرٌ آخرُ وهو طلبُ الثَّناء على إحسانه.

فإن فُرِض بحيث لا يُعْلَمُ أنه المنقِذ، فيتوقَّعُ أن يُعْلَم؛ فيكونُ ذلك التَّوقُّع باعثًا.

فإن فُرِض في موضعٍ يستحيلُ أنْ يُعْلَم، فيبقى مَيلٌ وترجيحٌ يضاهي نُفْرةَ طبع السَّليم عن الحَبْل

(3)

، وذلك أنه رأى هذه الصُّورة مقرونةً بالثَّناء، فيظُنُّ أنَّ الثَّناء مقرونٌ بها بكلِّ حال، كما أنه لما رأى الأذى مقرونًا بصورة الحَبْل، وطبعُه يَنفِرُ عن الأذى، فيَنفِرُ عن المقرون به؛ فالمقرونُ باللذيذ لذيذ،

(1)

في الأصول: «فيثبت» . والمثبت من (ط)، وما بين المعكوفين منها.

(2)

(ق، ت): «الحية» . وأهملت في (د). والمثبت من «المستصفى» وما سيأتي (ص: 1041).

(3)

أي: الحبل المرقَّش. والسليم هو الملدوغ.

ص: 979

والمقرونُ بالمكروه مكروه، بل الإنسانُ إذا جالس من عَشِقَه في مكانٍ فإذا انتهى إليه أحسَّ في نفسه تفرِقةً بين ذلك المكان وغيره

(1)

.

قال الشاعر

(2)

:

أمرُّ على الدِّيارِ ديارِ ليلى

أقبِّلُ ذا الجِدارَ وذا الجِدارا

وما حُبُّ الدِّيارِ شَغَفْنَ قلبي

ولكنْ حُبُّ من سَكَنَ الدِّيارا

وقال ابنُ الرُّومي

(3)

منبِّهًا على سبب حبِّ الأوطان:

وحَبَّبَ أوطانَ الرِّجالِ إليهمُ

مآربُ قَضَّاها الشبابُ هنالكا

إذا ذَكَرُوا أوطانهمْ ذَكَّرَتهمُ

عُهودًا جَرَت فيها فحَنُّوا لذلكا

قالوا: وشواهدُ ذلك مما يكثُر، وكلُّ ذلك مِنْ حُكم الوهم

(4)

.

قالوا: وأمَّا الصَّبرُ على السَّيف في تركه كلمةَ الكفر مع طمأنينة النَّفس فلا يستحسنُه جميعُ العقلاء لولا الشَّرع، بل ربَّما استقبحوه، فإنما يستحسنُه من ينتظر الثَّوابَ على الصَّبر أو من ينتظر الثَّناءَ عليه بالشَّجاعة والصَّلابة في الدِّين، فكم من شجاعٍ رَكِب متنَ الخطر وهَجَم على عددٍ

(5)

وهو يعلمُ أنه لا يطيقهم، ويستحقِرُ ما يناله من الألم؛ لِمَا يعتاضُه مِن توهُّم الثَّناء والحمد ولو بعد موته.

(1)

في الأصول: «في نفسه من ذلك المكان وغيره» . والمثبت من «المستصفى» وما سيأتي (ص: 1042).

(2)

مجنون بني عامر. انظر: ديوانه (131)، و «خزانة الأدب» (4/ 228).

(3)

في ديوانه (5/ 1826).

(4)

«المستصفى» (1/ 118).

(5)

(ت): «على العدد الكثير» . وفي «المستصفى» : «على عددٍ هم أكثر منه» .

ص: 980

وكذلك إخفاءُ السرِّ وحفظُ العَهد، إنما يتواصى النَّاسُ بهما لما فيهما من المصالح، ولذلك أكثروا الثَّناء عليهما؛ فمن يحتملُ الضرر فيه

(1)

فإنما يحتملُه لأجل الثَّناء.

[فإن فُرِض حيث لا ثناء، فقد وُجِد مقرونًا بالثناء، فيبقى مَيلُ الوهم إلى المقرون باللذيذ وإن كان خاليًا عنه]

(2)

.

فإن فُرِض من لا يستولي عليه هذا الوهمُ ولا ينتظر الثَّناء والثَّواب، فهو يَسْتَقْبِحُ السَّعيَ في هلاك نفسه بغير فائدة، ويَسْتَحْمِقُ من يفعل ذلك قطعًا؛ فمن يسلِّم أنَّ مثل ذلك يُؤثِرُ الهلاك على الحياة؟!

(3)

.

قالوا: وهذا هو الجوابُ عمَّن عَرَضت له حاجةٌ وأمكنَ قضاؤها بالصِّدق والكذب، واستويا عنده، وإيثاره الصِّدق.

على أنَّا نقول: تقديرُ استواء الصِّدق والكذب في المقصود مع قطع النَّظر عن الغير تقديرٌ مستحيل؛ لأنَّ الصِّدق والكذبَ متنافيان، ومن المحال تساوي المتنافيَيْن في جميع الصِّفات، فلأجل ذلك التقدير المستحيل يَسْتَبعِدُ العقلُ إيثارَ الكذب ومنعَ إيثار الصِّدق.

قالوا: ولا يلزمُ من استبعاد مَنْع إيثار الصِّدق على التقدير المستحيل استبعادُه في نفس الأمر، وإنما يلزم لو كان التقديرُ المستلزم واقعًا، وهو ممنوع.

(1)

في الأصول: «يحتمل الضرر لله» . والمثبت من «المستصفى» .

(2)

مستدرك من «المستصفى» وما سيأتي (ص: 1044).

(3)

«المستصفى» (1/ 119).

ص: 981

قالوا: ولئن سلَّمنا أنَّ ذلك التقديرَ ممكن، فغايتُه أن يدلَّ على حُسْن الصِّدق شاهدًا، ولكن لا يلزمُ حُسْنُه غائبًا إلا بطريق قياس الغائب على الشاهد، وهو فاسد؛ لوضوح الفرق المانع من القياس.

والذي يقطعُ دابرَ القياس أنَّ السَّيِّد لو رأى عبيدَه وإماءه يَمُوجُ بعضهم في بعض، ويركبون الظُّلمَ والفواحش، وهو مطَّلعٌ عليهم، قادرٌ على منعهم، لقَبُحَ ذلك منه، والله عز وجل قد فعل ذلك بعباده، بل أعانهم وأمدَّهم، ولم يقبُح منه سبحانه.

ولا يصحُّ قولهم: إنه سبحانه تركهم لينزجروا بأنفسهم ليستحقُّوا الثَّواب؛ لأنه سبحانه قد عَلِمَ أنهم لا ينزجرون، فلْيَمْنَعهم قهرًا

(1)

، فكم من ممنوعٍ من الفواحش لعلَّةٍ وعجز

(2)

، وذلك أحسنُ من تمكينه مع العلم بأنه لا ينزجر

(3)

.

وبالجملة، فقياسُ أفعال الله على أفعال العباد باطلٌ قطعًا، وهو محضُ التَّشبيه في الأفعال، ولهذا جمعَت المعتزلةُ القدرية بين التَّعطيل في الصِّفات والتَّشبيه في الأفعال، فهم معطِّلةٌ مشبِّهة، لباسُهم مُعَلَّمٌ من الطَّرفين!

كيف وإنَّ إنقاذ الغَرقى الذي استدللتم به حجَّةٌ عليكم، فإنَّ نفسَ الإغراق والإهلاك يحسُن منه سبحانه ولا يقبُح، وهو أقبحُ شيءٍ منَّا، فالإنقاذُ إن كان حسنًا فالإغراقُ يجبُ أن يكون قبيحًا.

(1)

(ت، د): «ولم يمنعهم قهرا» . (ق): «ولا يمنعهم قهرا» . وهو خطأ. والمثبت من «المستصفى» . وانظر: «المنخول» (70)، و «إحكام الأحكام» للآمدي (1/ 86).

(2)

«المستصفى» : «بعنَّةٍ وعجز» .

(3)

«المستصفى» (1/ 119).

ص: 982

فإن قلتم: لعلَّ في ضمن الإغراق والإهلاك سرًّا لم نطَّلع عليه، وغرضًا لم نَصِل إليه، فقدِّروا مثلَه في ترك إنقاذنا نحن للغَرقى، بل في إهلاكنا لمن نُهْلِكه، والفعلان من حيث الصِّفات النَّفسية واحدٌ

(1)

عقلًا وشرعًا.

فإنه سبحانه لا يتضرَّرُ بمعصية العبد، ولا ينتفعُ بطاعته، ولا تتوقَّفُ قدرتُه في الإحسان إلى العبد على فعلٍ يصدُر من العبد، بل كما أنعَم عليه ابتداءً بأجزل المواهب وأفضل العطايا، مِنْ حُسْن الصُّورة، وكمال الخِلقة، وقوام البِنْية، وإعداد الآلة، وإتمام الأداة، وتعديل القامة

(2)

، وما متَّعه من أرواح الحياة، وفضَّله به من حياة الأرواح، وما أكرمه به من قبول العلم، وهداه إلى معرفته التي هي أسنى جوائزه؛ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] = فهو سبحانه أقدَر على الإنعام عليه دوامًا.

فكيف يوجبُ على العبد عبادةً شاقَّةً في الحال لارتقاب ثوابٍ في ثاني الحال؟! أليس لو ألقى إليه زمام الاختيار حتى يفعل ما يشاء، جريًا على رسُوم طبعه

(3)

المائل إلى لذيذ الشهوات، ثمَّ أجزل له في العطاء من غير حساب؛ كان ذلك أروَحَ للعبد، ولم يكن قبيحًا عند العقل؟!

فقد تعارض الأمران:

أحدهما: أن يكلِّفهم، فيأمر ويَنهى حتى يُطاع ويُعصى، ثمَّ يثيبهم

(1)

في الأصول: «من حيث الصفات التكليف والإيحاب» . وهو تحريف. والمثبت من «نهاية الأقدام» وما سيأتي (ص: 1064).

(2)

«نهاية الأقدام» : «وتعديل القناة» .

(3)

في الأصول: «سوم طبعه» . وفي «نهاية الأقدام» : «نسق طبيعته» . والمثبت مما سيأتي (ص: 1071).

ص: 983

ويعاقبهم على فعلهم.

الثَّاني: أن لا يكلِّفهم بأمرٍ ولا نهي؛ إذ لا يتزيَّن سبحانه منهم بطاعة، ولا يتضرَّر منهم بمعصية

(1)

، فلا تكونُ نِعَمه ثوابًا

(2)

، بل ابتداءً.

وإذا تعارض في العقول هذان الأمران، فكيف يهتدي العقلُ إلى اختيار أحدهما حقًّا وقطعًا؟! فكيف يعرِّفنا العقلُ وجوبًا على نفسه بالمعرفة، وعلى الجوارح بالطَّاعة، وعلى الباري سبحانه بالثَّواب والعقاب؟!

(3)

.

قالوا: ولا سيَّما على أصول المعتزلة القدرية؛ فإنَّ التكليفَ بالأمر والنهي والإيجاب من الله لا حقيقة له على أصلهم، فإنه لا يرجعُ إلى ذات الربِّ تعالى صفةٌ يكونُ بها آمرًا ناهيًا مُوجِبًا مكلِّفًا بالأمر والنهي للخَلق

(4)

، ومعلومٌ أنه لا يرجعُ إلى ذاته من الخلق صفة.

والعقلُ عندهم إنما يعرفه على هذه الصِّفة، ويستحيلُ عندهم أن يعرفه بأنه يقتضي ويطلبُ منه شيئًا، أو يأمره وينهاه بشيء، كما يُعْقَلُ الأمرُ والنهيُ بالطَّلب القائم بالآمر والنَّاهي؛ فإذا لم يقُم به طلبٌ استحال أن يكون آمرًا ناهيًا.

فغايةُ العقل عندهم أن يعرفه على صفةٍ يستحيلُ عليه الاتصافُ بالأمر

(1)

«نهاية الأقدام» : «ولا يتشيَّن منهم بمعصية» . وفيما سيأتي (ص: 1075): «ولا تشينه معصيتهم» .

(2)

في الأصول: «بل لا تكون نعمه ثوابا» . والمثبت مما سيأتي (ص: 1090).

(3)

«نهاية الأقدام» (380، 382 - 385).

(4)

في الأصول: «مكلفا عن فعله للأمر والنهي لفعله للخلق» . وفي «نهاية الأقدام» : «مكلفا بل هو عالم قادر فاعل للأمر كما هو فاعل للخلق» . والمثبت من (ط).

ص: 984

والنهي، فكيف يعرفه على صفةٍ يريدُ منه طاعةً فيستحقُّ عليها ثوابًا، أو يكره منه معصيةً يستحقُّ عليها عقابًا.

وإذ لا أمرَ ولا نهيَ يُعْقَلُ فلا طاعة ولا معصية؛ إذ هما فرعُ الأمر والنهي، فلا ثوابَ ولا عقاب إذَن؛ إذ هما فرعُ الطَّاعة والمعصية.

وغايةُ ما يقولون: إنه يخلُق في الهواء أو في شجرةٍ

(1)

: «افعَل» أو: «لا تفعل» ، بشرط أن لا يدلَّ الأمرُ والنهيُ المخلوقُ على صفةٍ في ذاته غيرَ كونه عالمًا قادرًا.

ومعلومٌ أنَّ هذا لا يدلُّ إلا على كونِ الفاعلِ قادرًا عالمًا حيًّا، مريدًا لفعلِه، وأمَّا دلالتُه على حقيقة الأمر والنهي المستلزمة للطَّاعة والمعصية المستلزمَيْن للثَّواب والعقاب فلا.

فلْيُعْرَف

(2)

من ذلك أنَّ من نفى قيام الكلام والأمر والنهي

(3)

بذات الله لم يمكنه إثباتُ التكليف على العبد أبدًا، ولا إثباتُ حُكمٍ للفعل بحُسْنٍ ولا قُبح، وفي ذلك إبطالُ الشَّرائع جملةً، مع استنادها إلى قول من قامت البراهينُ على صدقه، ودلَّت المعجزةُ على نبوَّته، فضلًا عن الأحكام العقلية المتعارضة المستندة إلى عادات النَّاس المختلفة؛ بالإضافة والنِّسَب والأزمنة والأمكنة والأقوال.

(1)

مهملة في (د). وفي (ق، ت): «بحره» . وهو تحريف. والمثبت من «نهاية الأقدام» . وانظر: «مجموع الفتاوى» (6/ 84، 12/ 503)، و «بغية المرتاد» (1/ 383)، و «الأصفهانية» (247)، وغيرها.

(2)

في الأصول: «فلنعرف» . والمثبت من «نهاية الأقدام» .

(3)

(ت): «قيام الأمر والنهي» . وفي «نهاية الأقدام» : «من نفى الأمر الأزلي» .

ص: 985

وقد عُرِفَ بهذا أنَّ من نفى قول الله وكلامه فقد نفى التكليفَ جملةً، وصار مِنْ أخبث القدريَّة وشرِّهم مقالةً؛ حيث أثبتَ تكليفًا وإيجابًا وتحريمًا بلا أمرٍ ولا نهيٍ ولا اقتضاءٍ ولا طلب، وهذه قَدَرِيةٌ

(1)

في حقِّ الربِّ تعالى، وأثبتَ فعلًا وطاعةً ومعصيةً بلا فاعلٍ ولا مُحْدِث، وهذه قَدَرِيةٌ في حقِّ العبد؛ فليتنبَّه لهذه الدَّقيقة

(2)

.

قالوا: وأيضًا، فما مِنْ معنًى يُستنبطُ من قولٍ أو فعلٍ ليُربَط به حكمٌ مناسبٌ له إلا ومن حيث

(3)

العقل يعارضُه آخرُ يساويه في الدَّرجة، أو يَفْضُل عليه في المرتبة، فيتحيَّر العقلُ في الاختيار، إلى أن يَرِدَ شرعٌ يختارُ أحدَهما، أو يرجِّحه من تلقائه، فيجبُ على العاقل اعتبارُه واختيارُه لترجيح الشَّرع له، لا لرُجْحانه في نفسه.

ونضربُ لذلك مثالًا، فنقول: إذا قتل إنسانٌ إنسانًا مثله، عَرَض للعقل الصَّريح هاهنا آراءُ متعارضةٌ مختلفة، منها: أنه يجبُ أن يُقتَل قصاصًا؛ ردعًا

(1)

(ق) في الموضعين: «مقدرته» . (د، ت) في الموضع الأول: «مقدرته» ، وفي الثاني:«قدرته» . ولعل الصواب ما أثبت. وانظر ما سيأتي (ص: 1096).

(2)

مهملة في (د). (ق، ت): «الثلاثة» . والنصُّ في «نهاية الأقدام» (386): «وكثيرًا ما نقول: من نفى قول الله فقد نفى فعل العبد، فصار من أوحش الجبرية. أعني: أثبتَ جبرًا على الله تعالى وجبرًا على العبد. ومن نفى أكساب العباد فقد نفى قول الله، فصار من أوحش القدرية. أعني: قدرًا على الله وقدرًا على العبد. والقدرية جبريةٌ من حيث نفي الفعل والكسب المأمور به. فليتنبه لهذه الدقيقة» . وقد لخَّصه المصنفُ كما ترى، وسيذكر آخره في موضعٍ لاحق.

(3)

مهملة في (د). وفي (ق، ت): «جنسه» . والمثبت من «نهاية الأقدام» وما سيأتي (ص: 1097).

ص: 986

للجُناة، وزجرًا للطُّغاة، وحفظًا للحياة، وشفاءً للغَيظ، وتبريدًا لحَرِّ المصيبة اللاحقة لأولياء القتيل.

ويعارضه معنًى آخر: أنه إتلافٌ بإزاء إتلاف، وعدوانٌ في مقابلة عدوان، ولا يحيا الأوَّلُ بقتل الثَّاني؛ ففيه تكثيرُ المفسدة بإعدام النَّفسَيْن، وأمَّا مصلحةُ الرَّدع والزَّجر واستبقاء النَّوع فأمرٌ متوهَّم، وفي القصاصِ استهلاكٌ محقَّق.

فقد تعارض الأمران، وربَّما يعارضه أيضًا معنًى ثالثٌ وراءهما، فيفكِّر العقلُ: أيراعي شرائطَ أُخَر وراء مجرَّد الإنسانية، من العقل والبلوغ، والعلم والجهل، والكمال والنقص، والقرابة والأجنبية؟ فيتحيَّر العقلُ كلَّ التَّحيُّر، فلا بدَّ إذَن من شارعٍ يفصِّلُ هذه الخطَّة، ويعيِّنُ قانونًا

(1)

يطَّردُ عليه أمرُ الأمَّة، وتستقيمُ عليه مصالحهم.

وظهَر بهذا أنَّ المعاني المستنبطة راجعةٌ إلى مجرَّد استنباط العقل، [ووضع الذِّهن، من غير أن يكون الفعلُ مشتملًا عليها؛ فإنها لو كانت صفاتٍ نفسيةً للفعل]

(2)

لَزِمَ من ذلك أن تكون الحركةُ الواحدةُ مشتملةً على صفاتٍ متناقضةٍ وأحوالٍ متنافرة.

وليس معنى قولنا: «إنَّ العقل استنبط منها» أنها كانت موجودةً في الشيء فاستخرجَها العقلُ، بل العقلُ تردَّد بين إضافات الأحوال بعضها إلى بعض، ونِسَبِ الأشخاص والحركات نوعًا إلى نوع، وشخصًا إلى شخص،

(1)

مهملة في الأصول. والمثبت مما سيأتي (ص: 1107).

(2)

مستدركٌ من «نهاية الأقدام» وما سيأتي (ص: 1114، 1116).

ص: 987

فيطرأ عليه من تلك المعاني ما حكيناه وأحصيناه، وربَّما يبلغُ مبلغًا يَشِذُّ عن الإحصاء.

فعُرِف بذلك أنَّ المعاني لم ترجع إلى الذَّات، بل إلى مجرَّد الخواطر الطَّارئة على العقل

(1)

، وهي متعارضة

(2)

.

قالوا: وأيضًا، لو ثبتَ الحُسْن والقُبح العقليَّين

(3)

لتعلَّق بهما الإيجابُ والتَّحريمُ شاهدًا وغائبًا على العبد والربِّ، واللازمُ محال، فالملزومُ كذلك.

أمَّا الملازمة؛ فقد كفانا أهلُ الإثبات

(4)

تقريرَها بالتزامهم أنه يجبُ على العبد عقلًا بعضُ الأفعال الحسنة، ويحرُم عليه القبيح، ويستحقُّ الثَّوابَ والعقابَ على ذلك، وأنه يجبُ على الربِّ تعالى فعلُ الحسن ورعايةُ الصَّلاح والأصلح، ويحرُم عليه فعلُ القبيح والشرِّ وما لا فائدة فيه كالعبَث، ووضعوا بعقولهم شريعةً أوجبوا بها على الربِّ تعالى، وحرَّموا عليه، وهذا عندهم ثمرةُ المسألة وفائدتها.

وأمَّا انتفاءُ اللازم؛ فإنَّ الوجوبَ والتَّحريمَ بدون الشرع ممتنع؛ إذ لو ثبت بدونه لقامت الحجَّةُ بدون الرُّسل، والله سبحانه إنما أثبتَ الحجَّة بالرُّسل خاصَّة، كما قال تعالى:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].

(1)

في الأصول: «الأصل» . وهو خطأ. والمثبت من «نهاية الأقدام» .

(2)

«نهاية الأقدام» (387 - 388).

(3)

كذا في الأصول هنا وفيما سيأتي (ص: 1121).

(4)

إثبات الحسن والقبح العقليين. والمراد المعتزلة منهم، كما سيأتي.

ص: 988

وأيضًا؛ فلو ثبت بدون الشَّرع لاستُحِقَّ الثَّوابُ والعقابُ عليه، وقد نفى الله سبحانه العقابَ قبل البعثة، فقال:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].

وقال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37]؛ فإنما احتجَّ عليهم بالنَّذير.

وقال تعالى: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 77 - 78]؛ والحقُّ هاهنا هو ما بُعِثَ به المرسَلون

(1)

، باتفاق المفسِّرين.

وقال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 8 - 9].

وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65]؛ فلا يسألهم تبارك وتعالى عن مُوجِبات عقولهم، بل عمَّا أجابوا به رسلَه، فعليه يقعُ الثَّوابُ والعقاب.

وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 60 - 61]؛ فاحتجَّ عليهم تبارك وتعالى بما عَهِدَ إليهم على ألسنة رسله خاصَّة؛ فإنَّ عهدَه هو أمرُه ونهيُه الذي بلَّغته رسلُه.

ص: 989

وقال تعالى: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام: 130]؛ فهذا في حكم الوجوب والتَّحريم على العباد قبل البعثة.

وأمَّا انتفاءُ الوجوب والتحريم على من له الخلقُ والأمرُ ولا يُسألُ عمَّا يفعَل؛ فمن وجوهٍ متعدِّدة:

أحدها: أنَّ الوجوبَ والتَّحريمَ في حقِّه سبحانه غيرُ معقولٍ على الإطلاق، وكيف يُعْلَمُ أنه سبحانه يجبُ عليه أن يَمْدَحَ ويَذُمَّ ويثيبَ ويعاقِب على الفعل بمجرَّد العقل؟ وهل ذلك إلا مغيَّبٌ

(1)

عنَّا؟

فبم نَعْرِفُ

(2)

أنه رَضِيَ عن فاعلٍ وسَخِط على فاعل، وأنه يثيبُ هذا ويعاقِبُ هذا، ولم يخبر عنه بذلك مخبرٌ صادق، ولا دلَّ على مواقع رضاه وسخطه عقل، ولا أخبَر عن محكومه ومَعْلُومه مخبر؟!

فلم يَبْق إلا قياسُ أفعاله على أفعال عبادِه، وهو مِنْ أفسد القياس وأعظمه بطلانًا؛ فإنه تعالى كما أنه ليس كمثله شيءٌ في ذاته ولا في صفاته، فكذلك ليس كمثله شيءٌ في أفعاله، وكيف يقاسُ على خلقه في أفعاله فيحسُن منه ما يحسُن منهم، ويقبُح منه ما يقبُح منهم، ونحن نرى كثيرًا من الأفعال تقبُح منَّا وهي حسنةٌ منه تعالى، كإيلام الأطفال والحيوان، وإهلاك من لو أهلكناه نحن لقبُح منَّا من الأموال والأنفس، وهو منه تعالى مستحسنٌ غيرُ مستقبَح، وقد سئل بعض العلماء عن ذلك

(3)

، فأنشَد السَّائلَ:

(1)

«نهاية الأقدام» (379) وما سيأتي (ص: 1144): «غيب» .

(2)

«نهاية الأقدام» وما سيأتي (ص: 1144): «فبم يعرف» .

(3)

انظر: «منهاج السنة» (3/ 190)، و «مجموع الفتاوى» (11/ 354).

ص: 990

ويقبُح مِنْ سِواكَ الفعلُ عندي

فتفعلُه فيحسُن منك ذاكا

(1)

ونحن نرى تركَ إنقاذ الغرقى والهلكى قبيحًا منَّا، وهو سبحانه إذا أغرقهم وأهلكهم لم يكن قبيحًا منه، ونرى تركَ أحدنا عبيدَه وإماءه يقتلُ بعضهم بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا، ويفسدُ بعضهم بعضًا، وهو متمكِّنٌ من منعهم= قبيحًا، وهو سبحانه قد ترك عبادَه كذلك، وهو قادرٌ على منعهم، وهو منه حسنٌ غيرُ قبيح.

وإذا كان هذا شأنه سبحانه وشأننا، فكيف يصحُّ قياسُ أفعاله على أفعالنا؟! فلا يُدْرَكُ إذَن الوجوبُ والتَّحريمُ عليه بوجه، كيف والإيجابُ والتَّحريمُ يقتضي مُوجِبًا محرِّمًا، آمرًا ناهيًا، وبينه فرقٌ وبين الذي يجبُ عليه ويحرُم. وهذا محالٌ في حقِّ الواحد القهَّار، فالإيجابُ والتَّحريمُ طلبٌ للفعل والتَّرك على سبيل الاستعلاء، فكيف يُتصَوَّرُ غائبًا؟!

قالوا: وأيضًا، فلهذا الإيجاب والتَّحريم اللذَيْن زعمتم على الله لوازمُ فاسدة

(2)

، يدلُّ فسادُها على فساد الملزوم:

اللازم الأوَّل: إذا أوجبتم على الله تعالى رعايةَ الصَّلاح والأصلح في أفعاله، فيجبُ أن توجبوا على العبد رعايةَ الصَّلاح والأصلح أيضًا في أفعاله، حتى يصحَّ اعتبارُ الغائب بالشَّاهد، وإذا لم يجب علينا رعايتُهما بالاتفاق ــ بحسب المقدور ــ بَطَل ذلك في الغائب.

ولا يصحُّ تفريقُكم بين الغائب والشَّاهد بالتَّعب والنَّصَب الذي يلحقُ

(1)

البيت لأبي نواس، في ديوانه (383). ونُسِبَ لغيره.

(2)

انظر: «نهاية الأقدام» (406 - 410).

ص: 991

الشَّاهدَ دون الغائب؛ لأنَّ ذلك لو كان فارقًا في محلِّ الإلزام لكان فارقًا في أصل الصَّلاح، فإن ثبتَ الفرقُ في صفته ومقداره ثبتَ في أصله، وإن بَطَل الفرقُ ثبتَ الإلزام المذكور.

اللازم الثَّاني: أنَّ القُربات من النَّوافل صلاح، فلو كان الصَّلاحُ واجبًا وجبَ وجوبَ الفرائض.

اللازم الثَّالث: أنَّ خلودَ أهل النَّار في النَّار يجبُ أن يكون صلاحًا لهم دون أن يُرَدُّوا فيُعْتِبوا ربَّهم

(1)

ويتوبوا إليه.

ولا ينفعكم اعتذاركم عن هذا الإلزام بأنهم لو رُدُّوا لعادوا لما نُهوا عنه؛ فإنَّ هذا حقٌّ، ولكن لو أماتهم وأعدَمهم فقطع عِتابهم كان أصلحَ لهم، ولو غَفَر لهم ورحمهم وأخرجهم من النَّار كان أصلحَ لهم من إماتتهم وإعدامهم ولم يتضرَّر سبحانه بذلك.

اللازم الرابع: أنَّ ما فَعَله الربُّ تعالى من الصَّلاح والأصلح، وتَرَكه من الفساد والعبَث، لو كان واجبًا عليه لما استَوجب بفعله له حمدًا وثناءً، فإنه في فعله ذلك قد قضى ما وَجَبَ عليه، وما استَوجبه العبدُ بطاعته من ثوابه؛ فإنه عندكم حقُّه الواجبُ له على ربِّه، ومن قضى دينَه لم يستوجب بقضائه شيئًا آخر.

اللازم الخامس: أنَّ خلقَ إبليسَ وجنوده أصلحُ للخلق وأنفعُ لهم من أن لم يُخْلَق، مع أنَّ إقطاعَه من العباد من كلِّ ألفٍ تسعُ مئةٍ وتسعةٌ وتسعون.

اللازم السَّادس: أنه مع كون خَلْقه أصلحَ لهم وأنفعَ أن يكونَ إنظارُه إلى

(1)

انظر ما مضى (ص: 340).

ص: 992

يوم القيامة أصلحَ لهم وأنفعَ من إهلاكه وإماتته.

اللازم السَّابع: أن يكونَ تمكينُه من إغوائهم وجَرَيانه منهم مجرى الدَّم في أبشارهم أنفعَ لهم وأصلحَ لهم من أنْ يحال بينهم وبينه.

اللازم الثَّامن: أن يكون إماتةُ الرُّسل

(1)

أصلحَ للعباد من بقائهم بين أظهرهم، مع هدايتهم لهم، وأصلحَ من أن يحال بينهم وبينها

(2)

.

اللازم العاشر

(3)

: ما ألزَمه أبو الحسن الأشعريُّ للجُبَّائيِّ وقد سأله عن ثلاثة إخوةٍ أمات الله أحدَهم صغيرًا وأحيا الآخرَين، فاختار أحدُهما الإيمان والآخرُ الكفر، فرفَع درجةَ المؤمن البالغ على أخيه الصَّغير في الجنَّة لعمله، فقال أخوه: يا ربِّ لم لا تبلِّغُني منزلة أخي؟ فقال: إنه عاش وعمل أعمالًا استحقَّ بها هذه المنزلة، فقال: يا ربِّ فهلَّا أحييتني حتى أعمل مثلَ عمله! فقال: كان الأصلحُ لك أن توفَّيتُك صغيرًا؛ لأني علمتُ أنك إن بلغتَ اخترتَ الكفر، فكان الأصلحُ في حقِّك أن أمتُّك صغيرًا، فنادى أخوهما الثَّالثُ من أطباق النَّار: يا ربِّ فهلَّا عملتَ معي هذا الأصلح، واختَرمْتَني صغيرًا كما عملتَه مع أخي واخترمتَه صغيرًا؟ فأُسكِتَ الجُبَّائيُّ ولم يُجِبه بشيء

(4)

.

(1)

(ق): «إماتته الرسل» .

(2)

بين الرسل والإماتة. وفي (ت): «وبين أن يحال بينهم وبينها» .

(3)

كذا في (ق، د)، وفي الطرة إشارة إلى سقوط اللازم التاسع. وفي (ت):«التاسع» ، وسقط منها الحادي عشر.

(4)

انظر: «وفيات الأعيان» (4/ 267)، و «السير» (15/ 89)، و «منهاج السنة» (3/ 117).

ص: 993

فإذا عَلِمَ الله سبحانه أنه لو اختَرم العبدَ قبل البلوغ وكمال العقل لكان ناجيًا، ولو أمهَله وسهَّل له النَّظر لعَنَد وكَفَر وجَحَد، فكيف يقال: إنَّ الأصلحَ في حقِّه إبقاؤه حتى يبلُغ، والمقصودُ عندكم بالتكليف الاستصلاحُ والتَّعريض لأسنى الدَّرجات

(1)

التي لا تُنالُ إلا بالأعمال؟!

أوليس الواحدُ منَّا إذا عَلِمَ من حال ولده أنه إذا أُعطِيَ مالًا يتَّجرُ به فهلكَ وخَسِر بسبب ذلك فإنه لا يعرِّضه لذلك، ويقبُح منه تعريضه له، وهو مِنْ ربِّ العالمين حسنٌ غيرُ قبيح؟!

وكذلك من عَلِمَ من حال ولده أنه لو أعطاه سيفًا أو سلاحًا يقاتِلُ به العدوَّ، فقتل به نفسَه وأعطى السِّلاحَ لعدوِّه، فإنه يقبُح منه إعطاؤه ذلك السِّلاح، والرَّبُّ تعالى قد عَلِمَ من أكثر عباده ذلك، ولم يقبُح منه سبحانه تمكينُهم وإعطاؤهم الآلات، بل هو حسنٌ منه.

كيف وقد ساعدوا على نفوسِهم بأنَّ الله سبحانه لو عَلِمَ أنه لو أرسل رسولًا إلى خلقه وكلَّفه الأداءَ عنه، مع علمه بأنه لا يؤدِّي، فإنَّ علمَه سبحانه بذلك يَصْرِفُه عن إرادة الخير والصَّلاح

(2)

، وهذا بمثابة من أدلى حبلًا إلى غريقٍ ليخلِّصَ نفسَه من الغرق، مع علمه بأنه يخنُق نفسَه به.

وقد ساعدوا أيضًا على نفوسِهم بأنَّ الله سبحانه إذا عَلِمَ أنَّ في تكليفه عبدًا من عباده فسادَ الجماعة فإنه يقبُح تكليفُه، لأنه استفسادٌ لمن يَعْلَمُ أنه

ص: 994

يكفُر عند تكليفه.

الإلزام الحادي عشر

(1)

: أنهم قالوا ــ وصدَقوا ــ: إنَّ الرَّبَّ تعالى قادرٌ على التفضُّل بمثل الثَّواب ابتداءً بلا واسطة عمل، فأيُّ غَرَضٍ له في تعريض العباد للبلوى والمشاقِّ؟!

ثمَّ قالوا - وكذَبوا ــ: الغرض في التكليف أنَّ استيفاء المستحِقِّ حقَّه أهنأ له وألذُّ من قبول التفضُّل واحتمال المِنَّة. وهذا كلامُ أجهل الخلق بالرَّبِّ تعالى وبحقِّه وبعظمته، ومُساوٍ بينه وبين آحاد النَّاس، وهو من أقبح التشبيه

(2)

وأخبثه، تعالى الله عن ضلالهم علوًّا كبيرًا.

فكيف يستنكفُ العبدُ المخلوقُ المربوبُ من قبول فضل الله تعالى ومِنَّته؟! وهل المِنَّةُ في الحقيقة إلا لله المانِّ بفضله؟!

قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17]، وقال تعالى:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، ولما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم للأنصار:«ألم أجِدْكم ضُلَّالًا فهداكم الله بي؟ وعالةً فأغناكم الله بي؟» أجابوه بقولِهم: الله ورسولُه أمَنُّ

(3)

.

(1)

(ت): «الإلزام العاشر» .

(2)

في الأصول: «أقبح النسبة» . والمثبت من (ط)، وهو أشبه.

(3)

أخرجه البخاري (4330)، ومسلم (1061) من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه.

ص: 995

ويا للعقول التي قد خُسِف بها! أيُّ حقٍّ للعبد على الرَّبِّ حتى يمتنع من قبول مِنَّته عليه؟! فبأيِّ حقٍّ استحقَّ الإنعامَ عليه بالإيجاد، وكمال الخِلقة، وحُسْن الصُّورة، وقوام البِنية، وإعطائه القُوى والمنافع والآلات والأعضاء، وتسخير ما في السَّموات وما في الأرض له؟!

ومِنْ أقلِّ ما له عليه من النِّعم التنفُّسُ في الهواء الذي لا يكادُ يخطُر بباله أنه من النِّعم، وهو في اليوم والليلة أربعةٌ وعشرون ألف نفَس، فإذا كانت أقلَّ نِعَمه عليهم ــ ولا أقلَّ منها ــ أربعةٌ وعشرون ألف نعمةٍ كلَّ يومٍ وليلة، فما الظَّنُّ بما هو أجلُّ منها من النِّعم؟!

فيا للعقول السَّخيفة المخسوف بها! أيُّ علمٍ لكم

(1)

وأيُّ سعيٍ يقابلُ القليلَ من نِعَمه الدُّنيويَّة حتى لا يبقى لله عليكم منَّةٌ إذا أثابكم، لأنكم استوفيتم ديونكم قِبَله ولا نعمة له عليكم فيها؟!

فأيُّ أمَّةٍ من الأمم بلغ جهلُها بالله هذا المبلغ، واستنكفَت عن قبول مِنَّته، وزعمَت أنَّ لها الحقَّ على ربها، وأنَّ تفضُّلَه عليها ومِنَّتَه مكدِّرٌ لالتذاذها بعطائه؟!

ولو أنَّ العبدَ استعمل هذا الأدبَ مع ملكٍ من ملوك الدُّنيا لمَقَته وأبعَده وسَقط من عينِه، مع أنه لا نعمة له عليه في الحقيقة، إنما المنعِمُ في الحقيقة هو الله وليُّ النِّعم ومُولِيها.

ولقد كشَف القومُ عن أقبح عورةٍ من عورات الجهل بهذا الرَّأي السَّخيف والمذهب القبيح، والحمدُ لله الذي عافانا مما ابتلى به أربابَ هذا المذهب، المستنكِفين من قبول مِنَّة الله، الزَّاعمين أنَّ ما أنعم الله به عليهم

(1)

كذا في الأصول. ولعل الصواب: أيُّ عمل لكم.

ص: 996

حقُّهم عليه وحقُّهم قِبَله، وأنه لا يستحقُّ الحمدَ والثَّناء على أداء ما عليه من الدَّين والخروج مما عليه من الحقِّ؛ لأنَّ أداء الواجب يقتضي غيره

(1)

. تعالى الله عن إفكهم وكذبهم علوًّا كبيرًا.

الإلزام الثَّاني عشر: أنه يلزمهم أن يوجبوا على الله عز وجل أن يميتَ كلَّ من عَلِمَ من الأطفال أنه لو بلَغ لكفَر وعاند، فإنَّ اخترامَه هو الأصلحُ له بلا ريب. أو أن يجحَدوا علمَه سبحانه بما سيكونُ قبل كونه، كما التزمه سلفُهم الخبيث الذين اتفق سلفُ الأمَّة الطيِّبُ على تكفيرهم، ولا خلاصَ لهم عن أحد هذين الإلزامَيْن إلا بالتزام مذهب أهل السُّنَّة والجماعة أنَّ أفعال الله تعالى

(2)

لا تقاسُ بأفعال عباده، ولا تدخُل

(3)

تحت شرائع عقولهم القاصرة، بل أفعالُه لا تُشْبِهُ أفعالَ خلقه، ولا صفاتُه صفاتِهم؛ ولا ذاتُه ذواتِهم؛ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

الإلزام الثَّالث عشر: أنه سبحانه لا يُؤْلِم أحدًا من خلقه أبدًا؛ لعدم المنفعة في ذلك بالنسبة إليه وإلى العبد.

ولا ينفعكم اعتذارُكم بأنَّ الإيلام سببُ مضاعفة الثَّواب ونيل الدَّرجات العُلى؛ فإنَّ هذا

(4)

ينتقض بالحيوان البهيم، وينتقض بالأطفال الذين لا يستحقُّون ثوابًا ولا عقابًا

(5)

.

(1)

كذا في الأصول. وانظر ما مضى في اللازم الرابع.

(2)

(ت): «وأن الله تعالى» .

(3)

(ت): «ولا يدخل» .

(4)

(د، ت): «وأن هذا» . ولعل الصواب ما أثبت.

(5)

من قوله: «ولا ينفعكم» إلى هنا ساقط من (ق).

ص: 997

ولا ينفعكم اعتذارُكم بأنَّ الطِّفل ينتفعُ به بالآخرة في زيادة ثوابه؛ لانتقاضه عليكم بالطِّفل الذي عَلِمَ الله أنه يبلُغ ويختارُ الكفرَ والجحود، فأيُّ مصلحةٍ له في إيلامه؟!

وأيُّ معنًى ذكرتُموه على أصولكم الفاسدة فهو منتقضٌ عليكم بما لا جوابَ لكم عنه.

الإلزام الرَّابع عشر: أنَّ من عَلِمَ الله سبحانه [أنه] إذا بَلَغ [من] الأطفال يختارُ الإيمانَ والعمل الصَّالح

(1)

، فإنَّ الأصلحَ في حقِّه أن يُحْيِيَه حتى يبلُغ ويؤمِن، فينال بذلك الدَّرجة العالية، وأن لا يخترمه صغيرًا. وهذا مما لا جوابَ لكم عنه.

الإلزام الخامس عشر: وهو مِنْ أعظم الإلزامات وأصحِّها إلزامًا؛ وقد التزمه القدريَّة، وهو أنه ليس في مقدور الله تعالى لطفٌ لو فَعَله الله تعالى بالكفَّار لآمنوا، وقد التزم المعتزلةُ القدريَّةُ هذا اللَّازم، وبنَوه على أصلهم الفاسد: أنه يجبُ على الله تعالى أن يفعل في حقِّ كلِّ عبد ما هو الأصلحُ له، فلو كان في مقدوره فعلٌ يؤمِنُ العبدُ عنده لوَجَب عليه أن يفعله به.

والقرآنُ من أوَّله إلى آخره يردُّ هذا القول ويكذِّبه، ويخبرُ تعالى أنه لو شاء لهدى النَّاسَ جميعًا، ولو شاء لآمنَ من في الأرض كلُّهم جميعًا، ولو شاء لآتى كلَّ نفسٍ هُداها.

الإلزام السَّادس عشر: وهو مما التزمه القومُ أيضًا؛ أنَّ لطفَه ونعمته وتوفيقَه بالمؤمن كلُطفه بالكافر، وأنَّ نعمتَه عليهما سواءٌ لم يخُصَّ المؤمنَ بفضلٍ عن الكافر!

(1)

ما بين المعكوفات ليس في الأصول.

ص: 998

وكفى بالوحي وصريح المعقول وفطرة الله والاعتبار الصَّحيح وإجماع الأمَّة ردًّا لهذا القول وتكذيبًا له.

الإلزام السَّابع عشر: أنَّ ما مِنْ أصلحَ إلا وفوقه ما هو أصلحُ منه، والاقتصار على رتبةٍ واحدةٍ

(1)

كالاقتصار على الصَّلاح، فلا معنى لقولكم: يجبُ مراعاة الأصلح، إذ لا نهاية له، فلا يمكنُ في العقل

(2)

رعايتُه.

الإلزام الثَّامن عشر: أنَّ الإيجابَ والتَّحريمَ يقتضي سؤال الموجِب المحرِّم لمن أوجَب عليه وحرَّم: هل فَعَل مقتضى ذلك أم لا؟ وهذا محالٌ في حقِّ من لا يُسْألُ عمَّا يفعل، وإنَّما يُعْقَلُ في حقِّ المخلوقين وأنهم يُسْألون.

وبالجملة؛ فتحتُم بهذه المسألة طريقًا للاستغناء عن النُّبوَّات

(3)

، وسلَّطتم بها الفلاسفةَ والصَّابئةَ والبَراهِمة وكُلَّ منكِرٍ للنُّبوَّات، فهذه المسألةُ بابٌ بيننا وبينهم

(4)

؛ فإنكم إذا زعمتم أنَّ في العقل حاكمًا يحسِّن ويقبِّح، ويوجبُ ويحرِّم، ويتقاضى الثَّوابَ والعقاب، لم تكن الحاجةُ إلى البعثة ضروريَّة، لإمكان الاستغناء عنها بهذا الحاكم.

ولهذا قالت الفلاسفةُ ــ وزادت عليكم حجَّةً وتقريرًا ــ: قد اشتمل الوجودُ على خيرٍ مطلق، وشرٍّ مطلق، وخيرٍ وشرٍّ ممتزجَيْن

(5)

، والخيرُ

(1)

(ت) و «نهاية الأقدام» (410): «مرتبة واحدة» .

(2)

في الأصول: «الفعل» . والمثبت من «نهاية الأقدام» .

(3)

في الأصول: «عن الصواب» . وهو تحريف. والمثبت مما سيأتي (ص: 1149).

(4)

في الأصول: «فهذه المسألة بيننا وبينهم» . والمثبت مما سيأتي (ص: 1149).

(5)

(ت): «ممزوجين» .

ص: 999

المطلقُ مطلوبٌ في العقل لذاته، والشرُّ المطلقُ مرفوضٌ في العقل لذاته

(1)

، والممتزجُ مطلوبٌ من وجهٍ ومرفوضٌ من وجه، وهو بحسب الغالب من جهته.

ولا يشكُّ العاقلُ أنَّ العلمَ بجنسه ونوعه خيرٌ ومحمودٌ ومطلوب، والجهلَ بجنسه ونوعه شرٌّ في العقل

(2)

، فهو مستقبَحٌ عند الجمهور، والفِطرُ السَّليمةُ داعيةٌ إلى تحصيل المستحسَن ورفض المستقبَح، سواءٌ حَمَله عليه شارعٌ أو لم يحمله.

ثمَّ الأخلاقُ الحميدةُ والخِصالُ الرَّشيدةُ من العِفَّة والجود والسَّخاء

(3)

والنَّجدة مستحسَناتٌ فعليَّة، وأضدادُها مستقبَحاتٌ فعليَّة

(4)

، وكمالُ حال الإنسان أن تستكمِل النَّفسُ قُوى العلم الحقِّ والعمل الخير.

والشرائعُ إنما تَرِدُ بتمهيد ما تقرَّر في العقل لا بتغييره، لكنَّ العقول الجزئيَّة

(5)

لما كانت قاصرةً عن اكتساب المعقولات بأسْرِها، عاجزةً

(6)

(1)

«نهاية الأقدام» (375): «مطلوب العقل لذاته

مرفوض العقل لذاته».

(2)

«نهاية الأقدام» : «شر مذموم غير مطلوب» .

(3)

«نهاية الأقدام» : «والجود والشجاعة» .

(4)

«نهاية الأقدام» : «علمية» . وفي نسخة: «عملية» .

(5)

(ق): «الحرورية» . والمثبت من «نهاية الأقدام» (375، 393، 339)، وهو الصواب. وفي نسخة من «النهاية»:«الجزوية» بتسهيل الهمز، وهي كذلك في (د) لكن مهملة، وما في (ق) محرَّفٌ عنها.

وانظر للعقل الجزئي والكلي عند الفلاسفة: «الملل والنحل» (2/ 117)، و «الصفدية» (2/ 199)، و «بغية المرتاد» (187).

(6)

من قوله: «ولكن العقول» إلى هنا ساقط من (ت).

ص: 1000

عن الاهتداء إلى المصلحة الكليَّة الشاملة لنوع الإنسان= وَجَبَ مِنْ حيث الحكمة أن يكونَ بين النَّاس شرعٌ يفرضُه شارعٌ يحمِلُهم على الإيمان بالغيب جملة

(1)

، ويهديهم إلى مصالح معاشهم ومعادهم تفصيلًا؛ فيكونُ قد جمَع لهم بين حظَّي العلم والعمل

(2)

على مقتضى العقل، وحمَلهم على التَّوجُّه إلى الخير المحض، والإعراض عن الشرِّ المحض؛ استبقاءً لنوعِهم، واستدامةً لنظام العالم.

ثمَّ ذاك الشارع

(3)

يجبُ أن يكون مميَّزًا من بينِهم بآياتٍ تدلُّ على أنها من عند ربِّه سبحانه، راجحًا عليهم بعقله الرَّزين، ورأيه المتين، وحَدْسِه النَّافذ

(4)

، وخلقه الحسن، وسَمْته وهَدْيه، يَلِينُ لهم في القول، ويشاورُهم في الأمر، ويكلِّمهم على قَدر عقولهم، ويكلِّفهم بحسب وُسْعِهم وطاقتهم.

قالوا

(5)

: وقد أخطأت المعتزلةُ حين ردُّوا الحُسْنَ والقُبحَ إلى الصِّفات الذَّاتية للأفعال، وكان من حقِّهم تقريرُ ذلك في العلم والجهل، إذ الأفعالُ تختلفُ بالأشخاص والأزمان وسائر الإضافات، وليست هي على صفاتٍ نفسيَّةٍ لازمةٍ لها بحيث لا تفارقها البتَّة.

(1)

(ق): «جملة جملة» . وهو خطأ.

(2)

في الأصول: «العلم والعدل» . تحريف. والمثبت من «نهاية الأقدام» .

(3)

أي: النبي.

(4)

(د، ق): «وحديثه الناقد» . (ت): «وحديثه النافذ» . وفي «نهاية الأقدام» : «وحدسه النافذ، وبصره الناقد» .

(5)

أي: الفلاسفة.

ص: 1001

ثمَّ زادت الصَّابئةُ

(1)

في ذلك على الفلاسفة، وقالوا: لما كانت الموجوداتُ في العالم السُّفليِّ مركَّبةً

(2)

على تأثير الكواكب والرُّوحانيَّات

(3)

التي هي مدبِّراتُ الكواكب، وكان في اتصالاتها نظرُ سعدٍ

(4)

ونَحْس، وَجَبَ أن يكونَ في آثارها حُسْنٌ وقُبحٌ في الأخلاق والخَلق والأفعال.

والعقولُ الإنسانيةُ متساويةٌ في النَّوع، فوَجَبَ أن يدركها كلُّ عقلٍ سليمٍ وطبعٍ قَوِيم، ولا تتوقَّفُ معرفةُ المعقولات على من هو مثلُ ذلك العاقل في النَّوع، فنحن لا نحتاجُ إلى من يُعَرِّفُنا حُسْنَ الأشياء وقُبحَها، وخيرَها وشرَّها، ونفعَها وضرَّها، وكما أنَّا نستخرجُ بالعقول من طبائع الأشياء منافعَها ومضارَّها، كذلك نستنبطُ من أفعال نوع الإنسان

(5)

حَسَنَها وقبيحَها، فنُلابِسُ ما هو حَسَنٌ منها

(6)

بحسب الاستطاعة، ونجتنبُ ما هو قبيحٌ منها بحسب الطَّاقة، فأيُّ حاجةٍ بنا إلى شارعٍ يتحكَّمُ على عقولنا؟!

(1)

المشركون منهم، الذين يعظِّمون الروحانيات، كهياكل الكواكب السبعة، يجعلونها وسائط بينهم وبين الله. ومنهم طائفةٌ أخرى موحِّدون. انظر:«الملل والنحل» (2/ 7)، و «درء التعارض» (7/ 334)، و «الرد على المنطقيين» (288، 480)، و «الرد على الشاذلي» (136)، و «إغاثة اللهفان» (2/ 295)، و «أحكام أهل الذمة» (231)، وما سيأتي (ص: 1172).

(2)

«نهاية الأقدام» : «مرتبة» .

(3)

بضمِّ الراء وفتحها، من الرُّوح أو الرَّوح. انظر:«الملل والنحل» (2/ 6).

(4)

في الأصول: «سعيد» . والمثبت من «نهاية الأقدام» .

(5)

(ت): «أنواع فعل الإنسان» .

(6)

في الأصول: «أحسن منها» . والمثبت من «نهاية الأقدام» .

ص: 1002

وزادت التَّناسُخيَّةُ

(1)

على الصَّابئة بأن قالوا: نوعُ الإنسان لمَّا كان موصوفًا بنوع اختيارٍ في أفعاله، مخصوصًا بنُطقٍ وعقلٍ في علومه وأحواله؛ ارتفَع عن الدَّرجة الحيوانية ارتفاعَ اسْتِسْخارٍ لها

(2)

، فإن كانت أعمالُه على مناهج الدَّرجة الإنسانية ارتفعَت إلى الملائكة

(3)

، وإن كانت على مناهج الدَّرجة الحيوانية انخفضت إليها أو إلى أسفل، وهو أبدًا في أحد أمرين: إمَّا فعلٍ يقتضي جزاءً

(4)

، أو مجازاةٍ على فِعل، فما باله يحتاجُ في أفعاله وأحواله إلى شخصٍ مثله يحسِّنُ أو يقبِّح؟!

فلا العقلُ يحسِّنُ ويقبِّحُ، ولا الشَّرع، ولكنْ حُسْنُ أفعاله جزاءٌ على حُسْن أفعال غيره، وقُبح أفعاله كذلك، وربَّما يَظْهَرُ

(5)

حُسْنُها وقبحُها صُورًا حيوانيةً روحانية

(6)

، وربَّما يصيرُ

(7)

الحُسْن والقُبح في الحيوانات أفعالًا إنسانية، وليس بعد هذا العالم عالمٌ آخر

(8)

يُحْكَمُ فيه ويحاسَبُ ويثابُ ويعاقَب.

(1)

الذين قالوا بتناسخ الأرواح في الأجساد، وانتقالها من شخصٍ إلى شخص، وما يلقى الإنسانُ من الراحة والتعب فمرتَّبٌ على ما أسلفه من قبل وهو في بدن آخر، جزاءً على ذلك. انظر:«الملل والنحل» (1/ 253)، و «الروح» (304)، و «طريق الهجرتين» (249 - 250).

(2)

الاستسخار من التسخير، بمعنى: الاستخدام. وذلك شأن الإنسان مع الحيوان.

(3)

«نهاية الأقدام» : «إلى الملكية» .

(4)

«نهاية الأقدام» : «إما فعل الجزاء» .

(5)

«نهاية الأقدام» : «وربما يصير» .

(6)

(ت): «وريحانية» . وليست في «نهاية الأقدام» .

(7)

في الأصول: «وانما يصير» . والمثبت من «نهاية الأقدام» .

(8)

«نهاية الأقدام» : «عالم جزاء» .

ص: 1003

وزادت البَراهِمَةُ

(1)

على التَّناسُخية بأن قالوا: نحن لا نحتاجُ إلى شريعةٍ وشارعٍ أصلًا؛ فإنَّ ما يأمرُ به النَّبيُّ لا يخلو إمَّا أن يكون معقولًا أو غيرَ معقول، فإن كان معقولًا فقد استُغْنِي بالعقل عن النَّبيِّ، وإن لم يكن معقولًا لم يكن مقبولًا

(2)

.

فهذه الطَّوائفُ كلُّها لما جعلت في العقل حاكمًا بالحُسْن والقُبح أدَّاها إلى هذه الآراء الباطلة والنِّحَل الكافرة، وأنتم يا معاشِرَ المُثْبِتة

(3)

يصعُب عليكم الرَّدُّ عليهم وقد وافقتموهم على هذا الأصل، وأمَّا نحنُ فأخَذنا عليهم رأسَ الطَّريق، وسَدَدنا عليهم الأبواب، فمَن طرَّق لهم الطَّريق، وفتح لهم الأبواب، ثمَّ رام مُناجَزة القوم، فقد رام مرتقًى صعبًا.

فهذه مَجامعُ جيوش النُّفاة قد وافَتك بعَدَدها وعُدَدها، وأقبلَت إليك بحَدِّها وحَدِيدها، فإن كنتَ من أبناء الطَّعن والضَّرب فقد التقى الزَّحفان، وتقابَل الصَّفَّان، وإن كنتَ من أصحاب التُّلول

(4)

فالزَم مقامَك، ولا تَدْنُ من الوطيس فإنه قد حَمِي، وإن كنتَ من أهل الأسراب

(5)

الذين يسألونَ عن الأنباء ولا يثبُتون عند اللقاء:

(1)

نسبةً إلى رجلٍ منهم اسمه «براهم» ، يقرُّون بالله، ويجحدون الرسل. وهم طوائفُ ثلاث. انظر:«الملل والنحل» (2/ 250 - 255).

(2)

«نهاية الأقدام» (375 - 378).

(3)

مثبتة الحُسن والقُبح العقليين.

(4)

أي: من حظُّه من المعركة الجلوسُ على التلول للنظر إليها فحسب، فهم نظَّارةُ الحرب، كما قال المصنف فيما مضى (ص: 86). والتلُّ: ما ارتفع من الأرض عما حوله، وهو دون الجبل.

(5)

جمع: سَرَب، وهو الجُحر والنَّفق. «اللسان» (سرب).

ص: 1004

فَدَع الحُروبَ لأقوامٍ لها خُلِقوا

وما لها مِنْ سوى أجسامِهم جُنَنُ

ولا تَلُمْهُم على ما فيكَ مِنْ جُبُنٍ

فبِئسَتِ الخَلَّتانِ اللُّؤمُ والجُبُنُ

(1)

قال المتوسِّطون من أهل الإثبات: ما منكم أيها الفريقان إلا من معه حقٌّ وباطل، ونحن نُساعِدُ كلَّ فريقٍ على حقِّه ونصيرُ له، ونُبْطِلُ ما معه من الباطل ونردُّه عليه؛ فنجعلُ حقَّ الطَّائفتين مذهبًا ثالثًا يخرُج من بين فَرْثٍ ودمٍ لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين، من غير أن ننتسبَ

(2)

إلى ذي مقالةٍ وطائفةٍ معيَّنةٍ انتسابًا يحمِلُنا على قبول جميع أقوالها

(3)

، والانتصار لها بكلِّ غثٍّ وسمين، وردِّ جميع أقوال خصومها ومكابرتها

(4)

على ما معها من الحقِّ، حتى لو كانت تلك الأقوالُ منسوبةً إلى رئيسِها وطائفتِها لبالغَت في نصرتها وتقريرها، وهذه آفةٌ ما نجا منها إلا من أنعَم الله عليه وأهَّله لمتابعة الحقِّ أين كان ومع من كان، وأمَّا من يرى أنَّ الحقَّ وقفٌ مؤبَّدٌ على طائفته وأهل مذهبه، وحِجْرٌ محجورٌ على من سواهم ممَّن لعلَّه أقربُ إلى الحقِّ والصَّواب منه، فقد حُرِم خيرًا كثيرًا، وفاته هدًى عظيم.

قالوا: وها نحن

(5)

نجلسُ مجلسَ الحكومة بين هاتين المقالتين، فمن أدلى بحجَّته في موضعٍ كان المحكومَ له في ذلك الموضع، وإن كان المحكومَ عليه حيث يُدْلي خصمُه بحجَّته.

(1)

الجُبُن، بالتحريك، لغةٌ في الجُبْن، وليست ضرورة.

(2)

في الأصول: «ننسب» . والمثبت من (ط)، ويؤيده ذكر المصدر عقبه.

(3)

في الأصول: «أحوالها» . والمثبت أولى، بدلالة ما بعده.

(4)

(ت): «ومكابريها» . (ق): «ومكابروها» . وأهملت في (د). والمثبت أشبه بالصواب.

(5)

(ق، د): «وهنا نحن» . (ت): «وهنا» . والمثبت أشبه بنمط كلام المصنف.

ص: 1005

والله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحقِّ

(1)

والعدل بين الطَّوائف المختلفة، قال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى: 13 - 15].

فأخبَر تعالى أنه شَرع لنا دينَه الذي وصَّى به نوحًا والنَّبيِّين من بعده، وهو دينٌ واحد، ونهانا عن التفرُّق فيه

(2)

، ثمَّ أخبَرنا أنه ما تفرَّق مَنْ قبلنا في الدِّين إلا بعد العلم الموجِب للاتفاق

(3)

وعدم التفرُّق، وأنَّ الحامل على ذلك التفرُّق البغيُ من بعضهم على بعض، وإرادةُ كلِّ طائفةٍ أن يكون العلوُّ والظُّهورُ لها ولقولها دون غيرها. وإذا تأمَّلتَ تفرُّق أهل البدع والضَّلال رأيتَه صادرًا عن هذا بعَيْنه.

ثمَّ أمر سبحانه نبيَّه أن يدعو إلى دينه الذي شرعَه لأنبيائه، وأن يستقيمَ كما أمره ربُّه، وحذَّره من اتِّباع أهواء المتفرِّقين، وأمره أن يؤمنَ بكلِّ ما أنزله

(1)

(ت): «ودين الحق ليظهره على الدين كله» .

(2)

(ق): «التفريق فيه» .

(3)

في الأصول: «للاثبات» . والمثبت أشبه.

ص: 1006

الله من الكتب. وهذه حالُ المُحِقِّ؛ أن يؤمنَ بكلِّ ما جاءه من الحقِّ على لسان أيِّ طائفةٍ كانت.

ثمَّ أمره أن يخبرهم بأنه أُمِرَ بالعدل بينهم، وهذا يَعُمُّ العدلَ في الأقوال والأفعال والآراء والمحاكمات، فنَصَبَه ربُّه ومُرْسِلُه للعدل بين الأمم. فهكذا وارثُه ينتصبُ للعدل بين المقالات والآراء والمذاهب، ونسبته

(1)

منها إلى القَدْر المشتَرك بينها من الحقِّ فهو أولى به وبتقريره والحُكم لمن خاصمَ به.

ثمَّ أمره أن يخبرهم بأنَّ الرَّبَّ المعبود واحد، فما الحاملُ للتفرُّق والاختلاف، وهو ربُّنا وربُّكم، والدِّينُ واحد، ولكلِّ عاملٍ عملُه لا يَعْدُوه إلى غيره؟!

ثمَّ قال: {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} والحجَّةُ هاهنا هي الخصومة، أي: لا خصومة، ولا وجه لخصومةٍ بيننا وبينكم بعد ما ظهرَ الحقُّ وأسفَر صبحُه، وبانت أعلامُه، وانكشفت الغمَّةُ عنه.

وليس المرادُ نفيَ الاحتجاج من الطَّرفين، كما يظنُّه بعض من لا يدري ما يقول، وأنَّ الدِّين لا احتجاجَ فيه. كيف، والقرآنُ من أوَّله إلى آخره حُجَجٌ وبراهينُ على أهل الباطل قطعيَّةٌ يقينيَّة، وأجوبةٌ لمعارضاتهم وإفسادٌ لأقوالهم بأنواع الحُجَج والبراهين، وإخبارٌ

(2)

عن أنبيائه ورسله بإقامة

(1)

كذا في (ت، ق). وهي مهملة في (د). ولستُ منها على ثلج.

(2)

في الأصول: «وإخبارا» ، بالنصب، وما قبله من المعطوفات. ولعل المثبت هو الصواب.

ص: 1007

الحُجَج والبراهين، وأمرٌ لرسوله بمجادلة المخالفين بالتي هي أحسن، وهل تكونُ المجادلةُ إلا بالاحتجاج وإفساد حُجَج الخصم؟!

وكذلك أمَر المسلمينَ بمجادلة أهل الكتابِ بالتي هي أحسن، وقد ناظر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جميعَ طوائف الكفر أتمَّ مُناظرة، وأقام عليهم ما أفحَم به

(1)

من الحُجَج، حتى عَدَل بعضهم إلى محاربته بعد أن عجَز عن ردِّ قوله وكَسْر حجَّته، واختار بعضُهم مسالمَته ومتاركَته، وبعضُهم بذَل الجزيةَ عن يدٍ وهو صاغر، كلُّ ذلك بعد إقامة الحُجَج عليهم، وأخْذِها بكَظَمِهم

(2)

، وأسْرِها لنفوسهم، وما استجاب له من استجاب إلا بعد أن وضحَت له الحجَّة، ولم يجد إلى ردِّها سبيلًا، وما خالفه أعداؤه إلا عنادًا منهم وميلًا إلى المكابرة، بعد اعترافهم بصحَّة حُجَجه، وأنها لا تُدْفَع؛ فما قام الدِّينُ إلا على ساق الحجَّة

(3)

.

فقوله: {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} أي: لا خصومة؛ فإنَّ الرَّبَّ واحد، فلا وجه للخصومة فيه، ودينُه واحد، وقد قامت الحجَّةُ وتحقَّق البرهان، فلم يَبْق للاحتجاج والمخاصَمة فائدة، فإنَّ فائدة الاحتجاج ظهورُ الحقِّ ليتَّبع، فإذا ظهر وعانده المخالفُ وترَكه جحودًا وعنادًا لم يَبْق للاحتجاج فائدة، فلا حجَّة بيننا وبينكم أيها الكفَّار، فقد وضحَ الحقُّ واستبان، ولم يَبْق إلا الإقرارُ به أو العناد، والله يجمعُ بيننا يوم القيامة فيقضي للمُحِقِّ على المُبْطِل، وإليه المصير.

(1)

كذا في الأصول. وفي (ط): «ما أفحمهم به» .

(2)

الكَظَم: الحَلق، أو مخرج النَّفَس منه. «اللسان» (كظم).

(3)

(ت): «إلا ببيان الحجة» .

ص: 1008

قالوا: وها نحنُ نتحرَّى القِسْط بين الفريقين، عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم:«المُقْسِطون عند الله يوم القيامة على منابرَ مِنْ نور، عن يمين الرَّحمن، الذين يَعْدِلون في حُكمهم وأهليهم وما وَلُوا»

(1)

.

ويكفي في هذا قولُه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].

قالوا: قد أصاب أهلُ الإثبات من المعتزلة في قولهم: إنَّ الحُسْن والقُبحَ صفاتٌ ثبوتيةٌ للأفعال، معلومةٌ بالعقل والشَّرع، وأنَّ الشَّرع جاء بتقرير ما هو مستقرٌّ في الفِطر والعقول، مِنْ تحسين الحسَن والأمر به، وتقبيح القبيح والنهي عنه، وأنه لم يجِاء بما يخالفُ العقلَ والفطرة، وإن جاء بما تَعْجَزُ العقولُ عن إدراكه

(2)

والاستقلال به؛ فالشرائعُ جاءت بمَحَارات العقول لا مُحَالاتها

(3)

، وفرقٌ بين ما لا تُدْرِكُ العقولُ حُسْنَه وبينَ ما تَشْهَدُ بقُبْحِه، فالأوَّلُ مما يأتي به الرُّسلُ دون الثَّاني. وأخطؤوا في ترتيب العقاب على هذا القبيح عقلًا، كما تقدَّم.

وأصابوا في إثبات الحكمة لله تعالى، وأنه سبحانه لا يفعلُ فعلًا خاليًا

(1)

أخرجه مسلم (1827) من حديث عبد الله بن عمرو.

(2)

(ق، ت): «عن أحواله» . وهو تحريف.

(3)

هذه العبارة البليغة من بديع كَلِم شيخ الإسلام ابن تيمية. انظر: «درء التعارض» (1/ 147، 2/ 314، 5/ 297، 7/ 327)، وغيره.

وتحرفت «محارات» في (ط) وبعض المصادر إلى: «مجازات» . انظر: «درء التعارض» (2/ 314).

ص: 1009

عن الحكمة، بل كلُّ أفعاله مقصودةٌ لعواقبها الحميدة، وغاياتها المحبوبة له.

وأخطؤوا في موضعين:

أحدهما: أنهم أعادوا تلك الحكمة إلى المخلوق، ولم يعيدوها إلى الخالق سبحانه، على فاسد أصولهم في نفي قيام الصِّفات به، فنفَوا الحكمةَ من حيث أثبتوها، وجَحَدوها من حيث أقرُّوا بها.

الموضع الثَّاني: أنهم وضعوا لتلك الحكمة شريعةً بعقولهم، وأوجبوا على الرَّبِّ تعالى بها وحرَّموا، وشبَّهوه بخلقه في أفعاله، بحيث ما حَسُنَ منهم حَسُنَ منه، وما قَبُحَ منهم قَبُحَ منه، فلَزِمَتْهم بذلك

(1)

اللوازمُ الشَّنيعة، وضاق عليهم المجال، وعَجَزوا عن التَّخلُّص عن تلك الإلزامات

(2)

، ولو أنهم أثبتوا له حكمةً تليقُ به لا يُشْبِهُ خلقَه فيها، بل نسبتُها إليه كنسبة صفاته إلى ذاته، فكما أنه لا يُشْبِهُ خلقَه في صفاته فكذلك في أفعاله

(3)

، ولا يصحُّ الاستدلالُ بقُبح القبيحِ وحُسْن الحسَن منهم على ثبوت ذلك في حقِّه تعالى.

ومِنْ هاهنا استطال عليهم النُّفاة، وصاحوا عليهم مِنْ كلِّ قُطر، وأقاموا عليهم ثائرةَ الشناعة

(4)

.

(1)

(ق): «فلزمته بذلك» . وهو خطأ.

(2)

في الأصول: «الالتزامات» . والمثبت أولى.

(3)

جواب (لو) محذوف، وتقديره ظاهر.

(4)

(ق): «نايرة الشناعة» . وفي «جمهرة اللغة» (808): «نارت نائرةٌ، أي ثارت ثائرة» .

ص: 1010

وأصابوا ــ أيضًا ــ في قولهم بأنَّ الربَّ تعالى لا يمتنعُ في نفسه الوجوبُ والتَّحريم.

وأخطؤوا في جَعْل ذلك تابعًا لمقتضى عقولهم وآرائهم، بل يجبُ عليه ما أوجبه على نفسه، ويحرُم عليه ما حرَّمه هو على نفسه، فهو الذي كتبَ على نفسه الرَّحمة، وأحقَّ على نفسه نصرَ المؤمنين، وأحقَّ على نفسه ثوابَ المطيعين، وحرَّم على نفسه الظُّلم، كما جعله محرَّمًا بين عباده.

وأصابوا في قولهم: إنه سبحانه لا يحبُّ الشرَّ والكفرَ وأنواع الفساد، بل يكرهها، وأنه يحبُّ الإيمانَ والخير والبرَّ والطَّاعة.

ولكن أخطؤوا في تفسير هذه المحبة والكراهة بمجرَّدِ معانٍ مفهومةٍ من ألفاظٍ خَلَقها في الهواء أو في الشَّجرة، ولم يجعلوها صفاتٍ قائمةً

(1)

به تعالى، على فاسد أصولهم في التَّعطيل ونفي الصِّفات، فنفَوا المحبةَ والكراهةَ من حيث أثبتوها، وأعادوها إلى مجرَّد الشَّرع، ولم يثبتوا لها حقيقةً قائمةً بذاته؛ فإنَّ شرع الله هو أمرُه ونهيُه، ولم يقُم به عندهم أمرٌ ولا نهي؛ فحقيقةُ قولهم أنه لا شَرْع ولا محبة ولا كراهة، وإن زخرفوا القول

(2)

وتحيَّلوا لإثبات ما سَدُّوا على نفوسهم طريقَ إثباته.

وأصابوا ــ أيضًا ــ في قولهم: إنَّ مصلحة المأمور تنشأ من الفعل تارةً، ومن الأمر أخرى، فرُبَّ فعلٍ لم يكن مَنْشَأً لمصلحة المكلَّف، فلما أُمِرَ به صار مَنْشَأً لمصلحته بالأمر.

(1)

(ت): «معاني مايهتدي» . وهي مهملة في (د، ق). والمثبت أقرب ما يحتمله الرسمُ من الصواب.

(2)

(ت): «قولهم» .

ص: 1011

ولو توسَّطوا هذا التَّوسُّط، وسلكوا هذا المسلك، وقالوا: إنَّ المصلحة تنشأ من الفعل المأمور به تارةً، ومن الأمر تارةً، ومنهما تارةً، ومن العزم المجرَّد تارةً؛ لانتصَفوا مِنْ خصومهم.

فمثال الأوَّل: الصِّدق، والعِفَّة، والإحسان، والعدل؛ فإنَّ مصالحها ناشئةٌ منها.

ومثال الثَّاني: التَّجرُّد في الإحرام، والتَّطهُّر بالتُّراب، والسَّعيُ بين الصَّفا والمروة، ورميُ الجمار، ونحو ذلك؛ فإنَّ هذه الأفعال لو تجرَّدت عن الأمر لم تكن مَنْشَأً لمصلحة، فلما أُمِرَ بها نشأت مصلحتُها من نفس الأمر.

ومثال الثَّالث: الصَّوم، والصَّلاة، والحجُّ، وإقامةُ الحدود، وأكثر الأحكام الشرعيَّة؛ فإنَّ مصلحتَها ناشئةٌ من الفعل والأمر معًا، فالفعلُ يتضمَّنُ مصلحةً والأمرُ به يتضمَّنُ مصلحةً أخرى، فالمصلحةُ فيها مِنْ وجهين.

ومثال الرَّابع: أمرُ الله تعالى خليلَه إبراهيمَ بذبح ولده؛ فإنَّ المصلحة إنما نَشَأت مِنْ عزمِه على المأمور به، لا من نفس الفعل، وكذلك أمرُه نبيَّه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بخمسين صلاة

(1)

.

فلما حَصَرتم المصلحة في الفعل وحده تسلَّط عليكم خصومُكم بأنواع المناقَضات والإلزامات.

قالوا: وقد أصابَ النُّفاةُ حيث قالوا: إنَّ الحجَّة إنما تقوم على العباد بالرِّسالة، وأنَّ الله لا يعذِّبهم قبل البعثة، ولكنهم نَقَضوا الأصل ولم يَطْرُدوه،

(1)

انظر: «تنبيه الرجل العاقل» (111، 525)، و «مجموع الفتاوى» (17/ 201، 203)، و «الأصفهانية» (204).

ص: 1012

حيث جوَّزوا تعذيبَ من لم تقُم عليه الحجَّةُ أصلًا من الأطفال والمجانين ومن لم تبلُغه الدَّعوة.

وأخطؤوا في تسويتهم بين الأفعال التي خالفَ الله بينها فجَعَل بعضها حسنًا وبعضها قبيحًا، وركَّب في العقول والفِطر التَّفرِقة بينهما كما ركَّب في الحواسِّ التَّفرِقة بين الحُلو والحامض، والمُرِّ والعَذْب، والسُّخن والبارد، والضَّارِّ والنَّافع.

فزَعَمَ النُّفاةُ أنه لا فرق في نفس الأمر أصلًا بين فعلٍ وفعلٍ في الحُسْن والقُبح، وإنما يعودُ الفرقُ

(1)

إلى عادةٍ مجرَّدةٍ أو وَهمٍ أو خيالٍ أو مجرَّد الأمر والنهي، وسَلَبوا الأفعالَ خواصَّها التي جعلها الله عليها من الحُسْن والقُبْح.

فخالفوا الفِطر والعقول، وسلَّطوا عليهم خصومَهم بأنواع الإلزامات والمناقَضات الشنيعة جدًّا، ولم يجدُوا إلى ردِّها سبيلًا إلا بالعناد وجَحْدِ الضرورة.

وأصابوا في نفيهم الإيجابَ والتَّحريمَ على الله الذي أثبتته القَدَرِيَّةُ من المعتزلة، ووضعوا على الله شريعةً بعقولهم قادتْهم إلى ما لا قِبَل لهم به من اللوازم الباطلة.

وأخطؤوا في نفيهم عنه إيجابَ ما أوجبه على نفسه، وتحريمَ ما حرَّمه على نفسه بمقتضى حكمته وعدله وعزَّته وعلمه.

وأخطؤوا ــ أيضًا ــ في نفيهم حكمتَه تعالى في خلقه وأمره، وأنه لا

(1)

(ت): «يعود الأمر» .

ص: 1013

يفعلُ شيئًا لشيء

(1)

، ولا يأمرُ بشيءٍ لشيء، وفي إنكارهم الأسبابَ والقُوى التي أودعها اللهُ في الأعيان والأعمال، وجَعْلِهم كلَّ لامٍ دَخَلت في القرآن لتعليل أفعاله وأوامره لامَ عاقبة، وكلَّ باءٍ دَخَلت لرَبْطِ المسبَّب بسببه باءَ مصاحَبة.

فنفَوا الحِكَم والغايات المطلوبة في أوامره وأفعاله، وردُّوها إلى العلم والقدرة، فجَعَلوا مطابقةَ المعلوم للعلم ووقوعَ المقدور على وَفْقِ القدرة هو الحكمة، ومعلومٌ أنَّ وقوعَ المقدور بالقدرة ومطابقةَ المعلوم للعلم غيرُ الحكمة

(2)

والغايات المطلوبة من الفعل، وتعلُّقُ القدرة بمقدورها والعلم بمعلومه أعمُّ من كون المعلوم والمقدور مشتملًا على حكمةٍ ومصلحةٍ أو مجرَّدًا عن ذلك، والأعمُّ لا يُشْعِرُ بالأخصِّ ولا يستلزمه، وهل هذا في الحقيقة إلا نفيٌ للحكمة وإثباتٌ لأمرٍ آخر؟!

وأخطؤوا ــ أيضًا ــ في تسويتهم بين المحبة والمشيئة، وأنَّ كلَّ ما شاءه الله من الأفعال والأعيان فقد أحبَّه ورَضِيَه، وما لم يَشَأه فقد كَرِهَه وأبغضه، فمحبتُه مشيئتُه وإرادتُه العامة، وكراهتُه وبغضه عدمُ مشيئته وإرادته.

فلَزِمَهم من ذلك أن يكون إبليسُ محبوبًا له، وفرعونُ وهامانُ وجميعُ الشياطين والكفَّار، بل أن يكون الكفرُ والفسوقُ والظُّلمُ والعدوانُ الواقعةُ في العالم محبوبةً له مَرْضِيَّة، وأن يكون الإيمانُ والهدى ووفاءُ العهد

(3)

والبِرُّ ــ التي لم توجد من النَّاس ــ مكروهةً مسخوطةً له، ممقوتةً عنده!

(1)

(ت): «لأجل شيء» .

(2)

(ت): «عين الحكمة» . وهو تحريف.

(3)

(ت): «والهدى والعدل» .

ص: 1014

فسوَّوا بين الأفعال التي فاوَتَ الله بينها، وسوَّوا بين [المشيئة] المتعلِّقة بتكوينها وإيجادها والمحبة المتعلِّقة بالرِّضا بها واختيارها، وهذا مما استطال به عليهم خصومُهم، كما استطالوا هم عليهم حيث أخرجوها عن مشيئة الله وإرادته العامَّة، ونفَوا تعلُّق قدرته وخَلْقِه بها.

فاستطال كلٌّ من الفريقين على الآخر بسبب ما معهم من الباطل، وهدى الله أهلَ السُّنَّة الذين هم وَسَطٌ في المقالات والنِّحَل لما اختلف الفريقان فيه من الحقِّ بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم.

فالقَدَرِيَّةُ حَجَرُوا على الله وألزموه شريعةً حرَّموا عليه الخروجَ عنها، وخصومُهم من الجبريَّة جوَّزوا عليه كلَّ فعلٍ ممكنٍ يتنزَّه عنه سبحانه، إذ لا يَلِيقُ بغِناهُ وحمدِه

(1)

وكماله ما نزَّه نفسَه عنه وحَمِدَ نفسَه بأنه لا يفعلُه. فالطَّائفتان متقابلتان غايةَ التقابل.

والقَدَريَّةُ أثبتوا له حكمةً وغايةً مطلوبةً من أفعاله على حسب ما أثبتوه لخلقه، والجبريَّةُ نفَوا حكمتَه اللائقةَ به التي لا يشابهه فيها أحد.

والقَدَرِيَّةُ قالت: إنه لا يريدُ من عباده طاعتَهم وإيمانهم، وإنه لا يشاء

(2)

ذلك منهم، والجبريَّةُ قالت: إنه يحبُّ الكفرَ والفسوق والعصيان ويرضاه مِنْ فاعله.

والقَدَرِيَّةُ قالت: إنه يجبُ عليه سبحانه أن يفعل بكلِّ شخصٍ ما هو الأصلحُ له، والجبريَّةُ قالت: إنه يجوزُ أن يعذِّب أولياءه وأهلَ طاعته ومن لم

(1)

(ت): «وحكمته» .

(2)

في الأصول: «لا يسال» . وهو تحريف.

ص: 1015

يَعْصِه قطُّ، وينعِّمَ أعداءه ومن كفَر به وأشرَك، ولا فرق عنده بين هذا وهذا

(1)

!

فلْيَعْجَب العاقلُ من هذا التَّقابل والتَّباعُد الذي يزعُم كلُّ فريقٍ أنَّ قولهم هو محض العقل

(2)

، وما خالفه باطلٌ بصريح العقل!

وكذلك القَدَرِيَّةُ قالت: إنه ألقى إلى عباده زمام الاختيار، وفوَّض إليهم المشيئة والإرادة، وإنه لم يخُصَّ أحدًا منهم دون أحدٍ بتوفيقٍ ولا لُطفٍ ولا هداية، بل ساوى بينهم في مقدوره، ولو قَدَرَ أن يهدي أحدًا ولم يهده كان بُخْلًا، وإنه لا يهدي أحدًا ولا يضلُّه إلا بمعنى البيان والإرشاد، وأمَّا خَلْقُ الهدى والضَّلال فهو إليهم ليس إليه.

وقالت الجبريَّة: إنه سبحانه أجبَر عبادَه على أفعالهم. بل قالوا: إنَّ أفعالهم هي نفسُ أفعاله، ولا فِعْلَ لهم في الحقيقة ولا قدرة ولا اختيار ولا مشيئة، وإنما يعذِّبهم على ما فَعَلَه هو لا على ما فعلوه، ونسبةُ أفعالهم إليه كنسبة حركات الأشجار

(3)

والمياه والجمادات.

فالقَدَريَّةُ سَلَبوه قدرتَه على أفعال العباد ومشيئته لها، والجبريَّةُ جعلوا أفعالَ العباد نفسَ أفعاله، وأنهم ليسوا فاعلينَ لها في الحقيقة، ولا قادرين عليها. فالقَدَرِيَّةُ سَلَبَته كمالَ مُلكِه، والجبريَّةُ سَلَبَته كمالَ حكمته، والطَّائفتان سَلَبَته كمالَ حمدِه.

(1)

(ت): «ولا فرق بينه وبين هذا وهذا» .

(2)

(ت): «محض القول» .

(3)

(ق): «كحركات الأشجار» .

ص: 1016

وأهلُ السُّنَّة الوسطُ أثبتوا كمالَ الملك والحمد والحكمة؛ فوصفوه بالقدرة التَّامَّة على كلِّ شيءٍ من الأعيان وأفعال العباد وغيرهم، وأثبتوا له الحكمةَ التَّامَّة في جميع خلقه وأمره، وأثبتوا له الحمدَ كلَّه في جميع ما خلقه وأمر به، ونزَّهوه عن دخوله تحت شريعةٍ يضعُها العبادُ بآرائهم، كما نزَّهوه عمَّا نزَّه نفسَه عنه مما لا يليقُ به؛ فاستولوا على محاسن المذاهب، وتجنَّبوا أردأها، ففازوا بالقِدْح المُعَلَّى، وغيرُهم طافَ على أبواب المذاهب ففاز بأخسِّ المطالب، والهدى هدى الله

(1)

يختصُّ به من يشاء من عباده.

فصل

إذا عرفتَ هذه المقدِّمة، فالكلام على كلمات النُّفاة من وجوه:

أحدها: قولكم: «لو قدَّر الإنسانُ نفسَه وقد خُلِقَ تامَّ الخِلقة، تامَّ العقل، دفعةً [واحدةً]، مِنْ غير تأدُّبٍ بتأديب الأبوين ولا تعلُّمٍ من معلِّم، ثمَّ عُرِض عليه أمران: أحدهما: أنَّ الواحدَ أكثرُ من الاثنين، والآخر: أنَّ الكذبَ قبيح، لم يتوقَّف في الأوَّل، ويتوقَّفُ في الثَّاني»

(2)

= تقديرٌ مستحيل

(3)

، ركَّبتم عليه غيرَ معلوم الصحَّة؛ فإنَّ تقديرَ الإنسان كذلك محال.

الوجه الثَّاني: سلَّمنا إمكانَ التَّقدير، لكن لِمَ قلتم بأنه لا يتوقَّفُ في كون الواحد نصفَ الاثنين، ويتوقَّفُ في كون الكذب قبيحًا بعد تصوُّر حقيقته؟ فلا نسلِّم أنه إذا تصوَّر ماهيَّةَ الكذب توقَّف في الجزم بقُبْحِه، وهل هذا إلا دعوى مجرَّدة؟!

(1)

(ت): «ولهذا هدى الله» .

(2)

انظر ما مضى: (ص: 972).

(3)

(ق): «فهذا تقدير مستحيل» .

ص: 1017

الوجه الثَّالث: سلَّمنا أنه قد يتوقَّفُ في الحكم بقُبْحِه، ولكن لا يلزمُ من ذلك أن لا يكونَ قبيحًا لذاته، وقُبْحُه معلومٌ للعقل، وتوقُّفُ الذِّهن في الحكم العقليِّ لا يخرجُه عن كونه عقليًّا، ولا يجبُ التَّساوي في العقليَّات؛ إذ بعضها أجلى من بعض.

فإن قلتم: فهذا التَّوقُّفُ ينفي أن يكونَ الحكمُ بقُبْحِه ضروريًّا، وهو يُبْطِلُ قولَكم.

قلنا: هذا إنما لَزِم من التقدير المستحيل في الواقع، والمحالُ قد يَلْزَمه محالٌ آخر.

سلَّمنا أنه ينفي كونَ الحكم بقُبْحِه ضروريًّا ابتداءً، فلِمَ قلتم: إنه لا يكونُ ضروريًّا بعدَ التأمُّل والنَّظر؟ والضروريُّ أعمُّ من كونه ضروريًّا ابتداءً بلا واسطةٍ أو ضروريًّا بواسطة، ونفيُ الأخصِّ لا يستلزمُ نفيَ الأعمِّ، ومن ادَّعى سَلْبَ الوسائط عن الضروريَّات فقد كابَر، أو اصطَلحَ مع نفسه على تسمية الضروريَّات بما لا يتوقَّفُ على واسطة!

الوجه الرَّابع: أن تصوُّر ماهيَّة الكذب يقتضي جَزْمَ العقل بقُبْحِه، ونسبةُ الكذب إلى العقل

(1)

كنسبة المتنافرات الحِسِّيَّة إلى الحِسِّ، فكما أنَّ إدراك الحواسِّ المتنافرات يقتضي نُفْرَتها عنها، فكذلك إدراكُ العقل لحقيقة الكذب، ولا فرق بينهما إلا فرقُ ما بين إدراك الحِسِّ وإدراك العقل، فإن جاز القدحُ في مُدْرَكات العقول وحُكمها فيها بالحُسْن والقُبْح جاز القدحُ في مُدْرَكات الحواسِّ.

(1)

(ق) و (ت): «الفعل» . والمثبت من (ط).

ص: 1018

الوجه الخامس: أنكم فتحتم بابَ السَّفْسَطة

(1)

؛ فإنَّ القدحَ في معلومات العقول ومُوجَباتها كالقدح في مُدْرَكات الحواسِّ ومُوجَباتها، فمن لجأ إلى المكابرة في المعقولات فقد فَتَحَ بابَ المكابرة في المحسوسات.

ولهذا كانت السَّفْسَطةُ حالًا تَعْرِض في هذا وهذا، وليست مذهبًا لأمَّةٍ من النَّاس يعيشون عليه كما يظنُّه بعض أهل المقالات

(2)

، ولا يمكنُ أن تعيش أمَّةٌ ولا أحدٌ على ذلك، ولا تتمُّ له مصلحة، وإنما هي حالٌ عارضةٌ لكثيرٍ من النَّاس، وهي تكثُر وتقلُّ، وما مِنْ صاحب مذهبٍ باطلٍ إلا وهو مرتكبٌ للسَّفْسَطة شاء أم أبى، وسنذكرُ إن شاء الله فصلًا فيما بعدُ نبيِّن فيه أنَّ جميعَ أرباب المذاهب الباطلة سُوفسطائيَّة؛ صريحًا ولزومًا، قريبًا وبعيدًا

(3)

.

الوجه السَّادس: قولكم: «من حكمَ بأنَّ هذين الأمرين سِيَّان بالنسبة إلى عقله خَرَجَ عن قضايا العقول»

(4)

.

جوابه: أنكم إن أردتم بالتَّسوية كونَهما معقولان

(5)

في الجملة، فمِنْ

(1)

كلمة يونانيةٌ معرَّبة، معناها: الحكمة المموَّهة، وتقوم على الخداع والمغالطة، وصارت في عرف المتكلمين عبارة عن جحد الحقائق. وتنقسم إلى أقسام. انظر:«التعريفات» (158)، و «المعجم الفلسفي» (1/ 658)، و «التسعينية» (254)، و «الصفدية» (1/ 98)، و «منهاج السنة» (2/ 525).

(2)

انظر: «الرد على المنطقيين» (329)، و «الرد على البكري» (1/ 178)، و «درء التعارض» (5/ 130، 7/ 404)، و «مجموع الفتاوى» (13/ 151)، و «التسعينية» (252)، و «نقض التأسيس» (1/ 322، 2/ 54).

(3)

لم أجد الفصل المشار إليه في باقي الكتاب وسائر كتب المصنف.

(4)

انظر: (ص: 972).

(5)

كذا في الأصول. والصواب: معقولين. خبر كان.

ص: 1019

أين يخرُج عن قضايا العقول من حَكَمَ بذلك؟ وهل الخارجُ في الحقيقة عنها إلا من مَنَعَ هذا الحكم؟

وإن أردتم بالتَّسوية الاستواءَ في الإدراك، وأنَّ كليهما على رتبةٍ واحدةٍ من الضرورة، فلا يلزمُ مِنْ عَدَم هذا الاستواء أن لا يكون العلمُ بقُبْح الكذب عقليًّا.

الوجه السَّابع: قولكم: «لو تقرَّر عند المُثْبِت أنَّ الله تعالى لا يتضرَّر بكذبٍ ولا ينتفعُ بصدقٍ كان الأمران في حُكم التكليف على وتيرةٍ واحدة»

(1)

كلامٌ لا يرتضيه عاقل؛ فإنَّ من المتقرِّر أنَّ الله تعالى لا يتضرَّرُ بكذبٍ ولا ينتفعُ بصدق، وإنما يعودُ نفعُ الصِّدق وضررُ الكذب على المكلَّف، ولكن ليتَ شعري مِنْ أين يلزمُ أن يكون هذان الضِّدَّان بالنسبة إلى التكليف على وتيرةٍ واحدة؟ وهل هذا إلا مجرَّدُ تحكُّمٍ ودعوى باطلة؟!

الوجه الثَّامن: أنه لا يَلْزَمُ من كَون الحكيم لا يتضرَّرُ بالقُبْح ولا ينتفعُ بالحُسْن أن لا يحبَّ هذا ولا

(2)

يبغض هذا، بل تكون نسبتُهما إليه نسبةً واحدة. بل الأمرُ بالعكس، وهو أنَّ حكمتَه تقتضي بُغْضَه للقبيح وإن لم يتضرَّر به، ومحبَّته للحَسَن وإن لم ينتفع به.

وحينئذٍ فيُقْلَبُ هذا الكلامُ عليكم، ونكونُ أسعَد به منكم، فنقول: لو تقرَّر عند النَّافي أنَّ الله تعالى حكيمٌ عليمٌ يضعُ الأشياء مواضعَها، ويُنْزِلها منازلها، لعَلِمَ أنَّ الأمرين ــ أعني: الصِّدق والكذب ــ بالنسبة إلى شرعه

(1)

انظر: (ص: 972).

(2)

(ق، د): «وأن» . (ت): «أو أن» . والمثبت من (ط).

ص: 1020

وتكليفه متباينان غايةَ التَّباين، متضادَّان، وأنه يستحيلُ في حكمته التَّسويةُ بينهما، وأن يكونا على وتيرةٍ واحدة، ومعلومٌ أنَّ هذا هو المعقول، وما ذكرتموه خارجٌ عن المعقول.

الوجه التَّاسع: قولكم: «إنَّ الصِّدق والكذبَ على حقيقةٍ ذاتيَّة، وإنَّ الحُسْن والقُبحَ غيرُ داخلَيْن في صفاتهما الذَّاتيَّة، ولا يلزمهما في الوهم بالبديهة ولا في الوجود ضرورةً»

(1)

.

جوابه: أنكم إن أردتم أنَّ الحُسْن والقُبحَ لا يدخُل في مسمَّى الصِّدق والكذب، فمُسَلَّم، ولكن لا يفيدكُم شيئًا؛ فإنَّ غايتَه إنما يدلُّ على تغايُر المفهومَيْن، فكان ماذا؟!

وإن أردتم أنَّ ذاتَ الصِّدق والكذب لا تقتضي الحُسْن والقُبْح ولا تستلزمهما، فهل هذا إلا مجرَّدُ المذهب ونفسُ الدَّعوى؟! وهو مُصَادَرةٌ على المطلوب.

وخصومكم يقولون: إنَّ معنى كونهما ذاتيَّين للصِّدق والكذب: أنَّ ذاتَ الصِّدق والكذب تقتضي الحُسْن والقُبْح، وليس مرادهم أنَّ الحُسْن والقُبْح صفةٌ داخلةٌ في مسمَّى الصِّدق والكذب، وأنتم لم تُبْطِلوا عليهم هذا.

الوجه العاشر: قولكم: «ولا يَلْزمهما في الوهم بالبديهة ولا في الوجود» دعوى مجرَّدة، كيف وقد عُلِمَ بطلانها بالبرهان والضرورة؟!

الوجه الحادي عشر: قولكم: «إنَّ من الأخبار التي هي صادقةٌ ما يلامُ عليه؛ مثل الدَّلالة على من هَرَبَ من ظالم، ومن الأخبار التي هي كاذبةٌ ما

(1)

انظر: (ص: 972).

ص: 1021

يثابُ عليها؛ مثل إنكار الدلالة عليه، فلم يدخل كونُ الكذب قبيحًا في حدِّ الكذب، ولا لَزِمه في الوهم ولا في الوجود، ولا يجوز أن يُعَدَّ من الصِّفات الذَّاتية التي تَلْزَمُ النَّفسَ وجودًا وعَدمًا»

(1)

.

جوابه مِنْ وجوه:

أحدها: أنَّا لا نُسَلِّمُ أنَّ الصِّدق يقبُح في حال، ولا أنَّ الكذبَ يحسُن في حالٍ أبدًا، ولا تنقلبُ ذاتُه، وإنما يحسُن اللَّومُ على الخبر الصَّادق من حيثُ

(2)

لم يُعَرِّض المُخْبِرُ ولم يُوَرِّ بما يقتضي سلامةَ النَّبيِّ أو الوليِّ.

الوجه الثَّاني: أنه أخبَر بما لا يجوز له الإخبارُ به؛ لاستلزامه مفسدةً راجحة، ولا يقتضي هذا كونَ الصِّدق قبيحًا، بل الإخبار بالصِّدق هو القبيح، وفرقٌ بين النسبة المطابِقة التي هي صدقٌ وبين الإعلام بها، فالقُبح إنما نشَأ من الإعلام لا من النسبة الصَّادقة، والإعلامُ غيرُ ذاتيٍّ للخبر، ولا داخلٍ في حدِّه، إذ الخبرُ غيرُ الإخبار، ولا يَلْزَمُ من كون الإخبار قبيحًا أن يكون الخبرُ قبيحًا، وهذه الدَّقيقةُ غَفَل عنها الطَّائفتان كلاهما.

الوجه الثالث: أنَّ قُبحَ الصِّدق وحُسْنَ الكذب المذكورَيْن في بعض المواضع لمعارضة مصلحةٍ أو مفسدةٍ راجحة= لا يقتضي عدمَ اتصافِ ذات كلٍّ منهما بحُكمه

(3)

عقلًا؛ فإنَّ العِلَل العقلية والأوصافَ الذَّاتية المقتضية لأحكامها قد تتخلَّف عنها لِفَوَات شرطٍ أو قيام مانع، ولا يوجبُ ذلك سلبَ

(1)

انظر: (ص: 973).

(2)

في الأصول: «هو حيث» . والمثبت من (ط).

(3)

(ق): «بحكمة» .

ص: 1022

اقتضائها لأحكامها عند عدم المانع وقيام الشَّرط، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك.

الوجه الثَّاني عشر: قولكم: «إنه لم يَبْق للمُثْبِتين إلا الاسترواحُ إلى عادات النَّاس، مِنْ تسمية ما يضرُّهم قبيحًا، وما ينفعُهم حسنًا»

(1)

كلامٌ باطل؛ فإنَّ استرواحَهم إلى ما ركَّبه الله تعالى في عقولهم وفِطرهم، وبعَث رسلَه بتقريره وتكميلِه، مِنْ استحسان الحسَن واستقباح القبيح.

الوجه الثَّالث عشر: قولكم: «إنها تختلفُ بعادة قومٍ دون قوم، وزمانٍ دون زمان، ومكانٍ دون مكان، وإضافةٍ دون إضافة»

(2)

.

فقد تقدَّم أنَّ هذا الاختلافَ لا يخرِجُ هذه القبائحَ والمستحسَنات عن كون الحُسْن والقُبْح ناشئًا من ذواتها

(3)

، وأنَّ الزَّمانَ المعيَّن، والمكانَ المخصوص، والشَّخصَ القابِلَ

(4)

، والإضافةَ= شروطٌ لهذا الاقتضاء، على حدِّ اقتضاء الأغذية والأدوية والمساكن والملابس آثارَها؛ فإنَّ اختلافها بالأزمنة والأمكنة والأشخاص والإضافات لا يخرجها عن الاقتضاء الذَّاتيِّ، ونحن لا نعني بكون الحُسْن والقُبْح ذاتيَّين إلا هذا.

والمشاحَّةُ

(5)

في الاصطلاحات لا تنفعُ طالبَ الحقِّ، ولا تُجْدِي عليه إلا المُناكَدة والتعنُّت، فكم تُعِيدوا وتُبْدوا في الذَّاتيِّ وغير الذَّاتيِّ! سَمُّوا هذا

(1)

انظر: (ص: 973).

(2)

انظر: (ص: 973).

(3)

في الأصول: «ذواتهما» . وهو تحريف.

(4)

في الأصول: «والقابل» . وهو تحريف.

(5)

في الأصول: «والمشاحنة» . والمثبت أشبه. وانظر: «مدارج السالكين» (3/ 306)، و «الصواعق المرسلة» (970)، وما سيأتي (ص: 1587).

ص: 1023

المعنى بما شئتم، ثمَّ إن أمكنكم إبطالُه فأبطِلوه!

الوجه الرَّابع عشر: قولكم: «نحن لا ننكرُ اشتهارَ القضايا الحسنة والقبيحة بين الخلق، وكونها محمودةً مشكورة

(1)

، مُثنًى على فاعلها أو مذمومًا، ولكنَّ سببَ ذكرها إمَّا التَّديُّن بالشرائع وإمَّا الأغراض، ونحن إنما ننكرها في حقِّ الله عز وجل لانتفاء الأغراض عنه»

(2)

.

فهذا مُعْتَركُ القول بين الفِرَق في هذه المسألة وغيرها؛ فنقول لكم: ما تَعنُون ــ معاشرَ النُّفاة ــ بالأغراض التي نفيتموها عن الله عز وجل، ونفيتم لأجلها حُسْنَ أوامره الذَّاتية وقُبحَ نواهيه الذَّاتية، وزعمتم لأجلها أنه لا فرق عنده بين مذمومها ومحمودها، وأنها بالنسبة إليه سواء؟

فأخبرونا عن مرادكم بهذه اللفظة البدعيَّة المحتَملة:

أتعنُون بها الحِكَم والمصالحَ والعواقبَ الحميدة والغاياتِ المحبوبة التي يفعل ويأمرُ لأجلها؟ أم تعنُون بها أمرًا وراء ذلك يجبُ تنزيهُ الرَّبِّ عنه ــ كما يُشْعِرُ به لفظُ «الأغراض» ــ من الإرادات الفاسدة والأمور التي يكون الفاعلُ محتاجًا إليها، مستفيدًا لها من غيره؟ أم ماذا تعنُون بالأغراض؟

فإن أردتم المعنى الأوَّل، فنفيُكم إياه عن أحكم الحاكمين مذهبٌ لكم خالفتم به صريحَ المنقول وصريحَ المعقول، وأتيتم ما لا تُقِرُّ به العقولُ مِن فِعْل فاعلٍ حكيمٍ مختارٍ لا لحكمةٍ ولا لمصلحةٍ ولا لغايةٍ محمودةٍ ولا عاقبةٍ

(1)

(ت): «منكورة» . وهي أقربُ للسياق بإضافة حرف عطف. وتقدمت (ص: 974) كما هنا لكن في سياقٍ أطول. وفي «المستصفى» (1/ 116): «مشهورة» .

(2)

انظر: (ص: 974).

ص: 1024

مطلوبة، بل الفعلُ وعَدمُه بالنسبة إليه سِيَّان، وقلتم ما تنكره الفِطرُ والعقول، ويردُّه التَّنزيلُ

(1)

والاعتبار.

وقد قرَّرنا مِنْ ذِكر الحِكَم الباهرة في الخلق والأمر ما تقَرُّ به عينُ كلِّ طالبٍ للحقِّ، وهاهنا من أدلَّة إثبات الحِكَم المقصودة بالخلق والأمر أضعافُ أضعاف ما ذكرنا، بل لا نسبة لما ذكرناه إلى ما تركناه.

وكيف يمكنُ إنكارُ ذلك والحكمةُ في خَلْق العالم وأجزائه ظاهرةٌ لمن تأمَّلها، باديةٌ لمن أبصَرها، وقد رُقِمَت سطورُها على صفحات المخلوقات، يقرؤها كلُّ عاقلٍ كاتبٍ وغير كاتب؟! نُصِبَت شاهدةً لله بالوحدانيَّة والرُّبوبيَّة، والعلم والحكمة، واللُّطف والخِبْرة.

تأمَّل سُطورَ الكائنات فإنها

من الملأ الأعلى إليكَ رسائلُ

وقد خُطَّ فيها لو تأمَّلتَ خطَّها

ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ

(2)

وأمَّا النُّصوصُ على ذلك؛ فمن طلبها بَهَرَته كثرتُها وتطابقها، ولعلَّها أن تزيدَ على المِئين.

وما يخيِّلُه

(3)

النُّفاة لحكمة الله تعالى: أنَّ إثباتها يستلزمُ افتقارًا منه، واستكمالًا بغيره؛ فهَوَسٌ ووساوس؛ فإنَّ هذا بعَيْنه واردٌ عليهم في أصل الفعل.

(1)

(ت): «التنزيه» .

(2)

البيتان لركن الدين ابن القوبع المالكي (ت: 738) في ترجمته من «أعيان العصر» (5/ 163)، و «الدرر الكامنة» (4/ 183).

(3)

مهملة في (د). وفي (ت، ق): «يحيله» . ولعل المثبت أشبه.

ص: 1025

وأيضًا؛ فهذا إنما هو إكمالٌ للصُّنع

(1)

، لا استكمالٌ بالصُّنع.

وأيضًا؛ فإنه سبحانه فِعالُه عن كماله، فإنه كَمُلَ ففَعَل، لا أنَّ كماله عن فِعاله، فلا يقال: فَعَلَ فكَمُل، كما يقال للمخلوق

(2)

.

وأيضًا؛ فإنَّ مَصْدرَ الحكمة ومتعلَّقها وأسبابها عنه سبحانه؛ فهو الخالق، وهو الحكيم، وهو الغنيُّ من كلِّ وجهٍ أكملَ الغِنى وأتمَّه، وكمالُ الغِنى والحمد في كمال القدرة والحكمة، والمحالُ أن يكون سبحانه وتعالى فقيرًا إلى غيره، فأمَّا إذا كان كلُّ شيءٍ فهو فقيرٌ إليه من كلِّ وجه، وهو الغنيُّ المطلقُ عن كلِّ شيء= فأيُّ محذورٍ في إثبات حكمته مع احتياج مجموع العالم وكلِّ ما يقدَّرُ معه إليه [دون] غيره؟! وهل الغِنى إلا ذلك؟!

ولله سبحانه في كلِّ صُنعٍ من صنائعه وأمرٍ من شرائعه حكمةٌ باهرة، وآيةٌ ظاهرة، تدلُّ على وحدانيَّته وحكمته وعلمه، وغِناهُ وقيُّوميَّته ومُلكِه، لا تنكرُها إلا العقولُ السَّخيفة، ولا تنبُو عنها إلا الفِطرُ المنكوسة.

وللهِ في كلِّ تسكينةٍ

وتحريكةٍ أبدًا شاهدُ

وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ

تدلُّ على أنه واحدُ

(3)

وبالجملة؛ فنحن لا ننكرُ حكمةَ الله ولا نُساعِدُكم على جحدها لتسميتكم إياها: «أغراضًا» وإخراجِكم لها في هذا القالب، فالحقُّ لا يُنْكَرُ لسوء التَّعبير عنه، وهذا اللفظُ بدعيٌّ لم يَرِد به كتابٌ ولا سُنَّة، ولا أطلقَه أحدٌ

(1)

(ت): «كمال للصنيع» .

(2)

انظر: «بدائع الفوائد» (287)، و «الصواعق المرسلة» (1564).

(3)

تقدم تخريج البيتين (ص: 642).

ص: 1026

من أئمَّة الإسلام وأتباعهم على الله، وقد قال الإمام أحمد:«لا نُزِيلُ عن الله صفةً من صفاته لأجل شناعةٍ شُنِّعَت»

(1)

، فهل ننكرُ

(2)

صفات كماله سبحانه لأجل تسمية المعطِّلة والجهميَّة لها: «أعراضًا»

(3)

؟!

ولأرباب المقالات أغراضٌ في سوء التَّعبير عن مقالات خصومهم وتخيُّرهم لها أقبحَ الألفاظ، وحُسْن التَّعبير عن مقالات أصحابهم وتخيُّرهم لها أحسنَ الألفاظ، وأتباعُهم محبوسون في قيود تلك العبارات

(4)

، ليس معهم في الحقيقة سواها، بل ليس مع المتبوعين غيرها.

وصاحبُ البصيرة لا تَهُولُه تلك العباراتُ الهائلة، بل يجرِّدُ المعنى عنها، ولا يكسُوه عبارةً منها، ثمَّ يَحْمِلُه على محلِّ الدَّليل السَّالم عن المعارِض، فحينئذٍ يتبيَّنُ له الحقُّ من الباطل، والحالي من العاطِل.

الوجه الخامس عشر: قولكم: «مستندُ الاستحسان والاستقباح التَّديُّنُ بالشرائع» .

فيقال: لا ريب أنَّ التَّديُّن بالشرائع يقتضي الاستحسانَ والاستقباح، ولكنَّ الشرائعَ إنما جاءت بتكميل الفِطر وتقريرها، لا بتحويلها وتغييرها، فما كان في الفطرة مستحسَنًا جاءت الشريعةُ باستحسانه، فكَسَتْهُ حُسْنًا إلى حُسْنه، فصار حسَنًا من الجهتين، وما كان في الفطرة مستقبَحًا جاءت

(1)

(د، ق): «شناعة المشنعين» . والمثبت من (ت) والمصادر المتقدمة في التعليق (ص: 396).

(2)

(ت): «فهل ننكر» .

(3)

انظر: «الصواعق المرسلة» (439، 935، 1213)، و «مدارج السالكين» (3/ 359).

(4)

(ت): «تلك المقالات» .

ص: 1027

الشريعةُ باستقباحه، فكَسَتْهُ قُبحًا إلى قُبحه، فصار قبيحًا من الجهتين.

وأيضًا؛ فهذه القضايا مستحسَنةٌ ومستقبَحةٌ عند من لم تبلُغه الدَّعوة، ولم يقرَّ بنبوَّة.

وأيضًا؛ فمجيء الرَّسول بالأمر بحسَنها، والنهي عن قبيحها دليلٌ على نبوَّته، وعَلَمٌ على رسالته، كما قال بعض الصَّحابة وقد سئل عمَّا أوجبَ إسلامَه؛ فقال:«ما أمَر بشيءٍ فقال العقل: ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيءٍ فقال العقل: ليته أمَر به»

(1)

.

فلو كان الحُسْنُ والقُبْح لم يكن مركوزًا في الفِطر والعقول لم يكن ما أمَر به الرسولُ ونهى عنه عَلَمًا من أعلام صِدقه، ومعلومٌ أنَّ شرعَه ودينَه عند الخاصَّة من أكبر أعلام صِدقه وشواهد نبوَّته، كما تقدَّم.

الوجه السَّادس عشر: قولكم في مَثارات الغَلط التي يَغْلَطُ الوهمُ فيها: إنها ثلاثُ مثارات:

الأولى: أنَّ الإنسان يُطْلِقُ اسمَ القبيح على ما يخالفُ غرضَه، وإن كان يوافقُ غرضَ غيره، من حيث إنه لا يلتفتُ إلى الغير، فإنَّ كلَّ طبعٍ مشغوفٌ بنفسه، فيقضي بالقُبح مطلقًا؛ [فأصاب في أصل الاستقباح]

(2)

، وأخطأ في إضافة القُبح إلى ذات الشيء، وغَفَل عن كونه قبيحًا لمخالفة غَرَضِه، وأخطأ في حكمه بالقُبح مطلقًا، ومنشؤه عدمُ الالتفات إلى غيره

(3)

.

(1)

تقدم (ص: 874).

(2)

ليست في الأصول. ويدلُّ عليها نصُّ كلام الغزالي المتقدم (ص: 975).

(3)

انظر: (ص: 975).

ص: 1028

فحاصلُه أمران:

أحدهما: أنه إنما قضى بالحُسْن والقُبح لموافقته غَرَضَه ومخالفته.

الثَّاني: أنَّ هذه الموافقة والمخالفة ليست عامَّةً في حقِّ كلِّ شخصٍ وزمانٍ ومكان، بل ولا في جميع أحوال الشَّخص.

هذا حاصلُ ما طوَّلتم به.

فيقال: لا ريب أنَّ الحُسْن يوافقُ الغَرَض، والقُبحَ يخالفه، لكنَّ موافقة هذا ومخالفة هذا هي لِمَا قام بكلِّ واحدٍ من الصِّفات التي أوجبَت الموافقةَ والمخالفة؛ إذ لو كانا سواءً في نفس الأمر وذواتُهما

(1)

لا تقتضي حُسْنًا ولا قُبحًا لم يختَصَّ أحدُهما بالموافقة والآخرُ بالمخالفة، ولم يكن أحدُهما بما اختَصَّ به أولى من العكس.

فما لجأتم إليه من موافقة الغَرض ومخالفته من أكبر الأدلَّة على أنَّ ذاتَ الفعل متَّصفةٌ بما لأجله وافق الغَرض وخالفه، وهذا كموافقة الغَرض ومخالفته في الطُّعوم والأغذية والرَّوائح؛ فإنَّ ما لاءم منها الإنسانَ ووافقه مخالفٌ بالذَّات والوصف لما نافَره منها وخالفَه، ولم تكن تلك الملاءمةُ والمنافرةُ لمجرَّد العادة، بل لِمَا قام بالمُلائم والمُنافِر من الصِّفات؛ ففي الخبز والماء واللَّحم والفاكهة من الصِّفات التي اقتضت ملاءمتها الإنسانَ ما ليس في التُّراب والحجر والقَصَب والعَصْف وغيرها، ومن ساوى بين الأمرين فقد كابر حِسَّه وعقله.

فهكذا ما لاءم العقولَ والفِطر من الأعمال والأحوال وما خالفها هو لِمَا

(1)

(ق): «وذاتهما» .

ص: 1029

قام بكلٍّ منها من الصِّفات التي اختصَّت به، فأوجبَ الملاءمةَ والمنافرة؛ فملاءمةُ العدل والإحسان والبِرِّ للعقول والفِطر والحيوان [هي] لِمَا اختصَّت به ذواتُ هذه الأفعال من أمورٍ ليست في الظُّلم والإساءة

(1)

، وليست هذه الملاءمةُ والمنافَرةُ لمجرَّد العادة والتَّديُّن بالشرائع، بل هي أمورٌ ذاتيةٌ لهذه الأفعال، وهذا مما لا ينكرُه العقلُ بعد تصوُّره.

الوجه السَّابع عشر

(2)

: أنَّا لا ننكِرُ أنَّ للعادة واختلاف الزَّمان والمكان والإضافة والحال تأثيرًا في الملاءمة والمنافَرة، ولا ننكرُ أنَّ الإنسان يلائمُه ما اعتاده من الأغذية والمساكن والملابس، وينافِرُه ما لم يَعْتَدْه منها وإن كان أشرفَ منها وأفضل، ومن هذا إلفُ الأوطان، وحبُّ المساكن والحنينُ إليها.

ولكن هل يلزمُ من هذا أن تكون الملاءمةُ والمنافَرةُ كلُّها ترجعُ إلى الإلف والعادة المجرَّدة؟ ومعلومٌ أنَّ هذا مما لا سبيل إليه؛ إذ الحكمُ على فردٍ جزئيٍّ من أفراد النَّوع لا يقتضي الحكمَ على جميع النَّوع، واستلزامُ الفرد المعيَّن من النَّوع للازمٍ معيَّنٍ لا يقتضي استلزامَ النَّوع له، وثبوتُ خاصَّةٍ معيَّنةٍ للفرد الجزئيِّ لا يقتضي ثبوتها للنَّوع الكليِّ.

الوجه الثَّامن عشر: أنَّ غاية ما ذكرتم من خطأ الوهم في اعتقاده إضافةَ القُبح إلى ذات الفعل، وحُكمه بالاستقباح مطلقًا، مما قد يَعْرِض في بعض الأفعال، فهل يلزمُ من ذلك أنه

(3)

حيث قضى بهاتين القضيَّتين يكونُ غالطًا بالنسبة إلى كلِّ فعل؟ ونحن إنما عَلِمنا غلطَه فيما غَلِط فيه لقيام الدَّليل

(1)

(ت): «ليست من الظلم والإساءة» .

(2)

وقع في أرقام الأوجه اضطراب في الأصول، والمثبت من (ط).

(3)

في الأصول: «أثر» . وفي طرة (د، ق): «لعله: أنه» ، وهو ما أثبتُّ.

ص: 1030

العقليِّ على غلطه، فأمَّا إذا كان الدَّليلُ العقليُّ مطابقًا لحكمه فمِن أين لكم الحكمُ بغَلَطِه؟!

فإن قلتم: إذا ثبتَ أنه يغلطُ في حكمٍ ما لم يكن حكمُه مقبولًا؛ إذ لا ثقةَ بحكمه.

قلنا: إذا جوَّزتم أن يكون في الفطرة حاكمان: حاكمُ الوهم، وحاكمُ العقل، ونسبتم حُكمَ العقل إلى حُكم الوهم

(1)

، وقلتم في بعض القضايا التي يجزم العقلُ بها: هي مِنْ حُكم الوهم= لم يَبْق لكم وثوقٌ بالقضايا التي يجزم بها العقلُ ويحكمُ بها؛ لاحتمال أن يكونَ مستندُها حُكمَ الوهم لا حُكمَ العقل، فلا بدَّ لكم من التفريق بينهما، ولا بدَّ للتفريق أن تكونَ قضاياه ضروريَّةً ابتداءً وانتهاءً، وإذا جوَّزتم أن يكونَ بعض القضايا الضروريَّة وهميَّةً لم يَبْق لكم طريقٌ إلى التفريق!

الوجه التَّاسع عشر: أنَّ هذا الذي فرضتموه فيمن يستقبِحُ شيئًا لمخالفة غَرضِه ويستحسِنُه لموافقة غَرضِه، أو بالعكس؛ إنما مَوْرِدُه الحِسِّيَّاتُ غالبًا، كالمآكل والملابس والمساكن والمناكِح؛ فإنها بحسب الدَّواعي والميول والعوائد والمناسبات، فهو إنما يكونُ في الجزئيَّات

(2)

وأمَّا الكلِّيَّاتُ العقليةُ فلا يكاد يَعْرِضُ فيها ذلك

(3)

، فلا يكون العدلُ والصِّدقُ والإحسانُ حَسَنًا عند بعض العقول قبيحًا عند بعضها، كما يكون اللونُ الأسودُ مُشْتهًى حَسَنًا موافقًا لبعض النَّاس مبغوضًا لبعضهم، ومن اعتَبر هذا بهذا فقد خَرَجَ واعتَبر

(1)

(ت): «ونسبتم حكم الوهم إلى حكم العقل» .

(2)

في الأصول: «الحركات» . وهو تحريف.

(3)

(ق): «فلا تكاد تعرض ذلك» .

ص: 1031

الشيءَ بما لا يصحُّ اعتبارُه به.

ويؤيِّد هذا الوجه العشرون: أنَّ العقل إذا حكم بقُبح الكذب والظُّلم والفواحش، فإنه لا يختلفُ حكمُه بذلك في حقِّ نفسه ولا غيره، بل يعلمُ أنَّ كلَّ عقلٍ يستقبحُها وإن كان يرتكبُها لحاجته أو جهلِه، فكما أصابَ في استقباحها أصابَ في نسبة القُبح إلى ذاتها، وأصابَ في حُكمه بقُبحها مطلقًا، ومن غلَّطه في بعض هذه الأحكام فهو الغالطُ عليه.

وهذا بخلاف ما إذا حَكَمَ باستحسان مطعمٍ أو ملبسٍ أو مسكنٍ أو لونٍ فإنه يعلمُ أنَّ غيرَه يحكمُ باستحسان غيره، وأن هذا مما يختلفُ باختلاف العوائد والأمم والأشخاص، فلا يحكمُ به حكمًا كلِّيًّا إلا حيث يعلمُ أنه لا يختلف، كما يحكمُ حكمًا كلِّيًّا بأنَّ كلَّ ظمآنٍ يستحسنُ شربَ الماء ما لم يَمْنَع منه مانع، وكلَّ مَقْرورٍ يستحسنُ لباسَ ما فيه دِفؤه ما لم يَمْنَع منه مانع، وكذلك كلُّ جائعٍ يستحسنُ ما يَدْفعُ به سَوْرَة الجوع.

فهذا حكمٌ كلِّيٌّ

(1)

في هذه الأمور المحسوسة لا غَلَط فيه، مع كون المحسوسات عُرضةً لاختلاف النَّاس في استحسانها واستقباحها بحسب الأغراض والعوائد والإلف، فما الظَّنُّ بالأمور الكلِّيَّة العقليَّة التي لا تختلف، إنما هي نفيٌ وإثبات؟!

الوجه الحادي والعشرون: قولكم: «مِنْ مَثارات الغَلَط: أنَّ ما هو مخالفٌ للغَرض في جميع الأحوال إلا في حالةٍ نادرة، قد لا يَلْتَفِتُ

(2)

(1)

«كلي» ليست في (ت).

(2)

في الأصول: «بل لا يلتفت» . وهو تحريف.

ص: 1032

الوهمُ إلى تلك الحالة النَّادرة، بل لا يخطُر بالبال، فيقضي بالقُبح مطلقًا؛ لاستيلاء قُبحِه على قلبه، وذهاب الحالة النَّادرة عن ذِكره، كحُكمِه

(1)

على الكذب بأنه قبيحٌ مطلقًا، وغفلته عن الكذب [الذي] يستفادُ به عصمةُ دم نبيٍّ أو وليٍّ.

وإذا قضى بالقُبح مطلقًا واستمرَّ عليه مدَّةً، وتكرَّر ذلك على سمعه ولسانه، انغَرس في قلبه استقباحٌ منفِّرٌ

(2)

» إلى آخره

(3)

.

فمضمونه ــ بعد الإطالة ــ أنه لو كان الكذبُ قبيحًا لذاته لما تخلَّف عنه القُبح، ولكنه يتخلَّف إذا تضمَّن عصمةَ دم نبيٍّ أو وليٍّ، ففي هذه الحالة ونحوها لا يكونُ قبيحًا، وهي حالةٌ نادرةٌ لا تكاد تخطُر بالبال، فيقضي العقلُ بقُبح الكذب مطلقًا، ويغفلُ عن هذه الحالة، وهي تنافي حكمَه بقُبحه مطلقًا، ثمَّ يترك

(4)

ويَنْشَأ على ذلك الاعتقاد، فيَظنُّ أنَّ قُبحَه لذاته مطلقًا. وليس كذلك.

وهذا ــ بعد تسليمه ــ لا يمنعُ كونَه قبيحًا لذاته وإن تخلَّف القبحُ عنه لمعارضٍ راجح، كما أنَّ الاغتذاء بالميتة والدَّم ولحم الخنزير يوجبُ نباتًا خبيثًا وإن تخلَّف عنه ذلك عند المَخْمَصة.

كيف، وقد بيَّنَّا أنَّ القُبحَ لا يتخلَّف عن الكذب أصلًا، وأمَّا إذا تضمَّن عصمةَ وليٍّ فالحسَنُ إنما هو التَّعريض، والصِّدقُ لا يقبُح أبدًا، وإنما القبيحُ

(1)

في الأصول: «فحكمه» . وهو تحريف.

(2)

(ت): «مفتقر» . (ق، د): «مستقر» . (ط): «مستند» . وكله تحريف.

(3)

انظر: (ص: 975).

(4)

كذا في (ت). ولم تحرَّر في (د، ق). ولستُ منها على ثلج.

ص: 1033

الإعلامُ به، وفرقٌ بين الخبر والإخبار، فالقُبح إنما وقعَ في الإخبار لا في الخبر.

ولو سلَّمنا ذلك كلَّه؛ فتخلُّف الحُكم العقليِّ لقيام مانعٍ أو لفوات شرطٍ غيرُ مستنكَر.

فهذه الشُّبهة مِنْ أضعف الشُّبه

(1)

، وحَسْبك ضعفًا بحكمٍ إنما يستندُ إليها وإلى أمثالها!

الوجه الثَّاني والعشرون: أنَّ الوهمَ قد سبق إلى العكس

(2)

، كمن يرى شيئًا مقرونًا بشيءٍ فيَظنُّ الشيءَ لا محالة مقرونًا به مطلقًا، ولا يدري أنَّ الأخصَّ أبدًا مقرونٌ بالأعمِّ، مِنْ غير عكس.

وتمثيلكم ذلك بنُفرة السَّليم من الحَبل المرقَّش، ونفور الطَّبع عن العسل إذا شُبِّه بالعَذِرَة، إلى آخر ما ذكرتم من الأمثال

(3)

، كنُفرة الطَّبع عن الحسناء ذات الاسم القبيح، ونُفرة الرَّجُل عن البيت الذي فيه الميِّت، ونُفرة كثيرٍ من النَّاس عن الأقوال الصَّحيحة التي تضافُ إلى من يسيئون الظَّنَّ بهم.

فنحن لا ننكرُ أنَّ للوهم تأثيرًا في النُّفوس وفي الحبِّ والبُغض، بل هو غالبٌ على أكثر النُّفوس في كثيرٍ من الأحوال، ولكن إذا سُلِّط عليه العقلُ الصَّريحُ تبيَّن غلطُه، وأنَّ ما حَكَم به إنما هو موهومٌ لا معقول.

كما إذا سُلِّط العقلُ الصَّريحُ

(4)

والحِسُّ على الحَبل المرقَّش تبيَّن أنَّ نُفرة الطَّبع عنه مستندُها الوهمُ الباطل.

(1)

(ت): «أعظم الشبه» .

(2)

أي: قولكم بأن من مثارات الغلط: سبقُ الوهم إلى العكس.

(3)

انظر: (ص: 976).

(4)

«الصريح» ليست في (ت).

ص: 1034

وكذلك إذا سُلِّط الذَّوقُ والعقلُ على العسل تبيَّن أنَّ نُفرة الطَّبع عنه مستندُها الوهمُ الكاذب.

وإذا تأمَّل الطَّرفُ محاسنَ الجميلة البديعة الجمال تبيَّن أنَّ نُفرتَه عنها لقُبح اسمها وهمٌ فاسد.

وإذا سُلِّط العقلُ الصَّريحُ على الميِّت تبيَّن أنَّ نُفرة الرَّجل عنه لتَوهُّم حركته وثَوَرانه خيالٌ باطلٌ ووهمٌ فاسد.

وهكذا نظائر ذلك.

أفترى يَلْزَمُ من هذا أنَّا إذا سلَّطنا العقلَ الصَّريحَ على الكذب، والظُّلم، والفواحش، والإساءة إلى النَّاس، وكُفران النِّعم، وضَرْب الوالدين، والمبالغة في إهانتهما وسبِّهما، وأمثال ذلك= تبيَّن أنَّ حُكمَه بقُبحِها وهمٌ منه، ليكون نظيرَ ما ذكرتم من الأمثلة؟!

وهل في الاعتبار أفسدُ من اعتباركم هذا؟!

فإنَّ الحُكمَ فيما ذكرتم قد تبيَّن بالعقل الصَّريح والحِسِّ أنه حكمٌ وهميٌّ، ونحن لا ننازعُ فيه ولا عاقل؛ لأنَّا لمَّا سلَّطنا عليه العقلَ والحِسَّ ظهر أنَّ مستندَه الوهم، وأمَّا في القضايا التي رُكِّبَ في العقول والفِطر حُسْنُها وقُبحها فإنَّا إذا سلَّطنا العقلَ الصَّريحَ عليها لم يحكُم لها بخلاف ما هي عليه أبدًا، إلا أن يَلْجَؤوا إلى دبُّوس الشِّلاق

(1)

؛

وهو الصِّدقُ المتضمِّنُ هلاكَ

(1)

الدبُّوس: هراوةٌ مُدَمْلَكةُ الرأس، شديدة البأس. والشِّلاق: لعبةٌ داميةٌ في العهد المملوكي، يتقاتلُ فيها الفريقان أشدَّ القتال، وكان يترتبُ عليها شرٌّ كبيرٌ ومفاسد بدمشق، كما يقول الذهبي، ووصفها القزوينيُّ في «آثار البلاد» (123).

انظر: «تاريخ الإسلام» (14/ 361، 15/ 614، 897)، و «السلوك» للمقريزي (2/ 695، 3/ 170)، و «الخطط» (2/ 96)، و «النجوم الزاهرة» (10/ 122)، و «المدخل» لابن الحاج (2/ 53).

والفعل منها: يُشَالِق، ويَشْتَلِق. وأصل المادة من الشَّلْق، وهو الضَّرب. وليست بعربيةٍ محضة. انظر:«العين» (5/ 41)، و «الجمهرة» (875).

ولشدَّة بأس هذا الدبُّوس في الشِّلاق فهو كنايةٌ عن أمضى ما يعتمدُ عليه المرء، وأبلغه نكاية. وكان البلقيني يحفظ مختصر المنذري لسنن أبي داود ويستشهدُ به، ويقول:«هو دبُّوسٌ شافٍ» !. انظر: «لحظ الألحاظ» لابن فهد (139).

وقد وردت هذه الكناية الغريبة في مواضع من كتب المصنف. انظر: «الكافية الشافية» (2/ 533)، وما مضى من الكتاب (ص: 36).

وتحرفت «الشلاق» في بعض الأصول، (ق):«السلاق» ، (ت):«التلاق» ، وفي بعض أصول «الكافية»:«الشقاق» .

ص: 1035

وليٍّ والكذبُ المتضمِّنُ عِصْمَته، وليس معكم ما تصُولون به سواه، وقد بيَّنَّا حقيقةَ الأمر فيه بما فيه كفاية

(1)

، وحتى لو كان الأمرُ فيهما كما ذكرتم قطعًا لم يجُز أن يُبْطَل بهما ما ركَّبه الله في العقول والفِطر وألزَمها إياه التزامًا لا انفكاك لها عنه، مِنْ استحسان الحسَن، واستقباح القبيح والحكم بقُبحه، والتَّفرِقة العقلية ــ التَّابعة لذواتهما وأوصافهما ــ بينهما.

وقد أنكر الله سبحانه على العقول التي جوَّزت أن يجعل اللهُ فاعلَ القبيح وفاعلَ الحسَن سواءً، ونزَّه نفسَه عن هذا الظَّنِّ وعن نسبة هذا الحكم الباطل إليه، ولولا أنَّ ذلك قبيحٌ عقلًا لما أنكره على العقول التي جوَّزته؛ فإنَّ الإنكار إنما كان يتوجَّه عليهم بمجرَّد الشَّرع والخبر لا بإفساد ما ظنُّوه عقلًا.

ولا يقال: «فلو كان هذا الحكمُ باطلًا قطعًا لما جوَّزه أولئك العقلاء» ؛

(1)

انظر: (ص: 948).

ص: 1036

لأنَّ هذا احتجاجٌ بعقول أهل الشرك الفاسدة التي عابها اللهُ وشَهِدَ عليهم بأنهم لا يعقلون، وشَهِدُوا على أنفسهم بأنهم لو كانوا يسمعون أو يعقلون ما كانوا في أصحاب السَّعير.

وهل يقال: إنَّ استحسانَ عبادة الأصنام بعقولهم، واستحسانَ التَّثليث والسُّجود للقمر وعبادة النَّار وتعظيم الصَّليب، يدلُّ على حُسْنها؛ لاستحسان بعض العقلاء لها؟!

فإن قيل: فهذا حجَّةٌ عليكم؛ فإنَّ عقول هؤلاء قد قضت بحُسنها، وهي أقبحُ القبائح.

قيل: ما مثَلنا ومثَلكم في ذلك إلا كمثَل من قال: إذا كان الأحولُ يرى القمرَ اثنين لم يَبْق لنا وثوقٌ برؤية الصحيح العينَين له واحدًا، وإن كان المَحرورُ

(1)

يجدُ طعمَ الماء العَذب والعسل مُرًّا لم يَبْق لنا وثوقٌ

(2)

بكون صحيح الفم يذوقُه عذبًا وحُلوًا، وإذا كان صاحبُ الفهم السَّقيم يعيبُ القولَ الصَّحيح ويشهدُ ببطلانه لم يَبْق لنا وثوقٌ بشهادة صاحب الفهم المستقيم بصحَّته، إلى أمثال ذلك.

فإذا كانت فطرةُ أمَّةٍ من الأمم وشِرذمةٍ من النَّاس وعقولُهم قد فَسَدَت، فهل يلزمُ من هذا إبطالُ شهادة العقول السَّليمة والفِطر المستقيمة؟!

ولو صحَّ لكم هذا الاعتراض لبَطَل استدلالكم على كلِّ منازعٍ لكم في كلِّ مسألة؛ فإنه عاقلٌ وقد شَهِد عقلُه بها بخلاف قولكم!

(1)

وهو من غلبت عليه الحرارة، ضد المبرود. وخصُّوه في كتب اللغة بمن تداخَلته حرارةُ الغيظ. انظر:«اللسان» (حرر).

(2)

من قوله: «برؤية الصحيح

» إلى هنا ساقطٌ من (ق).

ص: 1037

وكفى بهذا فسادًا وبطلانًا، وكفى بردِّ العقول وسائر العقلاء له، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

الوجه الثَّالث والعشرون: قولكم: «إنَّ المَلِك العظيمَ إذا رأى مسكينًا مُشْرِفًا على الهلاك اسْتَحْسَنَ إنقاذَه، والسَّببُ في ذلك دفعُ الأذى الذي يَلْحَقُ الإنسانَ مِنْ رِقِّة الجنسية، وهو طبعٌ يستحيلُ الانفكاكُ عنه

»

(1)

إلى آخره= كلامٌ في غاية الفساد.

فإنَّ مضمونه أنَّ هذا الإحسانَ العظيمَ والتَّنزُّل مِنْ مثل هذا الملك القادر إلى الإحسان إلى مجهُودٍ مَضرورٍ قد مسَّه الضُّرُّ، وتقطَّعت به الأسباب، وانقطعت به الحِيَل= ليس فعلًا حسنًا في نفسه، ولا فرق عند العقل بين ذلك وبين أن يُلقِي عليه حجرًا يُغْرِقُه، وإنما مال إليه طبعُه لرقَّة الجنسيَّة، ولتصويره نفسَه في تلك الحال واحتياجه إلى من يُنْقِذُه، وإلا فلو جرَّدنا النَّظرَ إلى ذات الفعل، وضَرَبنا صفحًا عن لوازمه وما يقترنُ به ويبعثُ عليه، لم يَقْضِ العقلُ بحُسنه، ولم يفرِّق بينه وبين إلقاء حجرٍ عليه حتى يُغْرِقَه!!

فهذا قولٌ يكفي في فساده مجرَّدُ تصوُّره، وليس في المقدِّمات البديهيَّة ما هو أجلى وأوضحُ من كون مثل هذا الفعل حسنًا لذاته حتى يُحْتَجَّ بها عليه؛ فإنَّ الاحتجاج إنما يكونُ بالأوضح على الأخفى، فإذا كان المطلوبُ المستَدلُّ عليه أوضحَ من الدَّليل كان الاستدلالُ عناءً وكُلْفَة، ولكنْ تُصَوَّرُ الدَّعوى ومُقابِلتُها تصويرًا مجرَّدًا، ويُعْرَضان على العقول التي لم يَسْبِق إليها تقليدُ الآراء، ولم يتواطأ عليها ويتلقَّاها صاغرٌ عن كابر، وولدٌ عن والد، حتى نَشَأت معها بنشوئها، فهي تسعى في نُصرتها بما دَبَّ ودَرَجَ من الأدلَّة؛

(1)

انظر: (ص: 978).

ص: 1038

لاعتقادها ــ أوَّلًا ــ أنها حقٌّ في نفسها؛ لإحسانها الظَّنَّ بأربابها، فلو تجرَّدَت من حبِّ من والَتْهُ وبُغض من خالفَته، وجرَّدَت النَّظر، وصابرَت العلمَ، وتابعَت المسيرَ في المسألة إلى آخرها= لأوشَك أن تعلَم الحقَّ من الباطل، ولكن حبُّك الشيءَ يُعْمِي ويُصِمُّ

(1)

،

والنَّاظرُ بعَيْن البُغض يَرى المحاسنَ مساواء، هذا في إدراك البصر مع ظهوره ووضوحه، فكيف في إدراك البصيرة، لا سيَّما إذا صادفَ مُشْكِلًا، فهذه بليَّةُ أكثر العالَم.

فإن تَنْجُ منها تَنْجُ مِنْ ذي عَظِيمةٍ

وإلا فإني لا إخالُكَ ناجِيا

(2)

الوجه الرَّابع والعشرون: أنَّ اقتران هذه الأمور التي ذكرتموها، مِنْ رِقَّة الجنسيَّة، وتَصَوُّر نفسِه بصورة

(3)

من يريدُ إنقاذَه، ونحوها، هي أمورٌ تقترنُ بهذا الإحسان، فيقوى الباعثُ على فعله، ولا يوجبُ تجرُّدَه عن وصفٍ يقتضي حُسْنَه، وأن لا تكون ذاتُه مقتضيةً لحُسْنه، وإن اقتَرن بفاعله

(4)

هذه الأمور.

(1)

مثلٌ مشهور. انظر: «جمهرة الأمثال» (1/ 356).

وروي مرفوعًا بإسنادٍ ضعيف. وروي موقوفًا، وهو أشبه. انظر:«المقاصد الحسنة» (216)، و «السلسلة الضعيفة» (1868).

(2)

البيت للأسود بن سريع في «البيان والتبين» (1/ 367)، و «المعارف» لابن قتيبة (557) وقال:«فسرقه الفرزدق» . ونُسِب للفرزدق في مصادر كثيرة، وليس في ديوانه. انظر:«طبقات فحول الشعراء» (182، 363)، و «التمثيل والمحاضرة» (69). وورد في مصادر أخرى منسوبًا لذي الرمَّة، ولعسعس بن سلامة.

(3)

(ق، د): «تصوره» . (ت): «تصور» . والمثبت من (ط).

(4)

(ت): «بفاعليه» .

ص: 1039

وما مثَلكم في ذلك إلا كمثَل من قال: إنَّ تناول الأطعمة والأغذية والأدوية ليس حَسَنًا لذاته، فإنه يقترنُ بتناولها مِنْ لَذْعَة المِرَّة لفم المعدة

(1)

ما يوجبُ نزوعَها إلى طلب الغذاء لقيام البِنية، وكذلك الأدويةُ وغيرها.

ومعلومٌ أنَّ هذه البواعثَ والدَّواعي وأسبابَ الميول لا تنافي الاقتضاءَ الذَّاتيَّ وقيامَ الصِّفات التي تقتضي الانتفاعَ بها، فكذلك تلك البواعثُ والدَّواعي وأسبابُ الميول التي تحصُل لفاعل الإحسان، ومُنْقِذ الغريق والحريق، ومُنْجِي الهالك، لا تنافي ما عليه هذه الأفعالُ في ذواتها من الصِّفات التي تقتضي حُسْنَها وقُبْحَ أضدادها.

الوجه الخامس والعشرون: قولكم: «إنه يقدِّرُ نفسَه في تلك الحال، ويقدِّرُ غيرَه مُعْرِضًا عن الإنقاذ، فيستقبحُه منه، لمخالفته غرضَه، فيَدْفَعُ عن نفسه ذلك القُبْحَ المتوهَّم»

(2)

.

فيقال: هذا القُبح المتوهَّمُ إنما نَشَأ عن القُبح المتحقِّق في ترك الإحسان إليه مع قدرته عليه وعدم تضرُّره به، فالقُبح محقَّقٌ في ترك إنقاذه، ومتوهَّمٌ في تصويره نفسَه بتلك الحال وعدم إنقاذ غيره له، فلولا تلك الحقيقةُ لم يحكُم العقلُ بهذا القُبح الموهوم، وكونُ الإنقاذ موافقًا للغَرض وتركُه مخالفًا له لا ينفي أن يكون في ذاته حَسَنًا وقبيحًا، وإنما

(3)

وافقَ الغَرض

(1)

تحرفت في الأصول «لذعة» إلى: لذة. ومن شأن المِرَّة أن تلذع فمَ المعدة، فتحرِّك شهوة الجوع بحموضتها وتثيرها. انظر:«الإحياء» (4/ 114)، و «القانون» (1/ 16، 62، 73)، و «الحاوي» (2/ 211) و «أيمان القرآن» (590).

(2)

انظر: (ص: 979).

(3)

في الأصول: «ملائما» . وهو تحريف.

ص: 1040

وخالفه لما اتصفت به ذاتُه من الصِّفات المقتضية لهذه الموافقة والمخالفة.

الوجه السَّادس والعشرون: قولكم: «فلو فُرِض هذا في بهيمةٍ أو شخصٍ لا رِقَّة فيه، فيبقى أمرٌ آخر، وهو طلبُ الثَّناء على إحسانه»

(1)

.

فيقال: طلبُ الثَّناء يقتضي أنَّ هذا الفعلَ مما يتعلَّقُ الثَّناء به، وما ذاك إلا لأنه في نفسه على صفةٍ تقتضي الثَّناءَ على فاعله، ولو كان هذا الفعلُ مساويًا لضدِّه في نفس الأمر لم يتعلَّق الثَّناءُ به والذَّمُّ بضدِّه، وفِعْلُه لتوقُّع الثَّناء لا ينفي أن يكون على صفةٍ لأجلها استحقَّ فاعلُه الثَّناء، بل هو باقتضاء ذلك أولى مِنْ نفيه.

الوجه السَّابع والعشرون: قولكم: «فإن فُرِض في موضعٍ يستحيلُ أن يُعْلَم، فيبقى ميلٌ وترجيحٌ يضاهي نُفرة طبع السَّليم عن الحَبل، وذلك أنه رأى هذه الصُّورة مقرونةً بالثَّناء، فيظُنُّ أنَّ الثَّناء مقرونٌ بها بكلِّ حال، كما أنه لما رأى الأذى مقرونًا بصورة الحَبل، وطبعُه ينفرُ عن الأذى، فينفِرُ عن المقرون به؛ فالمقرونُ باللذيذ لذيذ، والمقرونُ بالمكروه مكروه»

(2)

.

فيقال: يا عجبًا، كيف يُرَدُّ أعظمُ الإحسان الذي فَطر اللهُ عقولَ عباده وفِطَرهم على استحسانه

(3)

، حتى لو تُصُوِّر نُطْقُ الحيوان البهيم لشَهِد باستحسانه= إلى مجرَّد وهمٍ وخيالٍ فاسدٍ يُشْبه نُفرةَ طبع الرَّجل السَّليم

(4)

عن حَبلٍ مرقَّش؟!

(1)

انظر: (ص: 979).

(2)

انظر: (ص: 979).

(3)

(ق): «احسانه» . وهو تحريف.

(4)

السليم: الملدوغ. كما تقدم.

ص: 1041

فتأمَّل كيف تحمِلُ نُصْرَةُ

(1)

الآراء المتقلَّدة وبُغض مخالفيها

(2)

على أمثال هذه الشُّنَع

(3)

.

وهل سوَّى اللهُ سبحانه في العقول والفِطر بين إنقاذ الغريق والحريق، وتخليص الأسير من عدوِّه، وإحياء النُّفوس، وبين نُفْرَة طبع السَّليم عن حبلٍ مرقَّشٍ لتوهُّمه أنه حَيَّة؟!

وقد كان مجرَّدُ تصوُّر هذه الشُّبهة

(4)

كافيًا في العلم ببطلانها، ولكنَّنا زِدنا الأمرَ إيضاحًا وبيانًا.

الوجه الثَّامن والعشرون: قولكم: «الإنسانُ إذا جالَس من عَشِقَه في مكان، فإذا انتهى إليه أحسَّ في نفسه تَفرِقَةً بين ذلك المكان وغيره» ، واستشهادكم على ذلك بقول الشاعر:

* أمُرُّ على الدِّيار ديارِ ليلى *

وقوله:

* وحَبَّبَ أوطانَ الرِّجال إليهمُ *

(5)

فيقال: لا ريب أنَّ الأمرَ هكذا، ولكن هل يلزمُ من هذا استواءُ الصِّدق والكذب في نفس الأمر، واستواءُ العدل والظُّلم والبرِّ والفُجور والإحسان

(1)

مهملة في (د). وفي (ت، ق): «بصره» . (ط): «نفرة» . وكلاهما تحريف.

(2)

في الأصول: «مخالفتها» . والمثبت أشبه.

(3)

أي: القبائح.

(4)

(ت): «الشبه» .

(5)

انظر: (ص: 980). وسلف تخريج البيتين هناك.

ص: 1042

والإساءة؟!

بل هذا المثال نفسُه حجَّةٌ عليكم، فإنه لم يَمِل طبعُه إلى ذلك المكان مع مساواته لجميع الأمكنة عنده، وكذلك حنينُه إلى وطنه ومحبتُه له، وكذلك حنينُه إلى إلْفِه من النَّاس وغيرهم؛ فإنَّ هذا لا يقعُ منه مع تساوي تلك الأماكن والأشخاص عنده، بل لظنِّه اختصاصَها بأمورٍ لا توجدُ في سواها، فتَرتَّبَ ذلك الحبُّ والميلُ على هذا الظَّنِّ.

ثمَّ له حالان:

أحدهما: أن لا يكون كما ظنَّه

(1)

، بل ذلك المكانُ أو الشخصُ مُساوٍ لغيره، وربَّما يكون غيرُه أكملَ منه في الأوصاف التي تقتضي حبَّه والميلَ إليه، فهذا إذا سُلِّط العقلُ والحسُّ

(2)

على سبب مَيْله وحبِّه عُلِمَ أنه مجرَّدُ إلفٍ أو عادةٍ أو تذكُّرٍ أو تخيُّل.

وهذا الوهمُ مستنِدٌ إلى ما تقرَّر في العقل من أنَّ اختصاصَ الحبِّ والميل بالشيء دونَ غيره لِمَا اختصَّ به من الصِّفات التي اقتضت ذلك، وكذلك تعلُّق النُّفرة والبغض به، ثمَّ يَغْلِبُ الوهمُ حتى يتخيَّل تلك الصِّفات ثابتةً

(3)

في المحلِّ، وليست فيه، بل يكونُ المحلُّ مقارِنًا تلك الصِّفات

(4)

،

(1)

في الأصول: «أن يكون كما ظنه» . وأرجو أن الصواب ما أثبت، والحالة الثانية التي طواها المصنف هي: أن يكون كما ظنه.

(2)

(ت): «والحسن» . تحريف.

(3)

مهملةٌ في (ق، د). وفي (ط): «بائنة عن المحل» . وهو غلط.

(4)

من قوله: «تلك الصفات ثابتة

» إلى هنا ساقط من (ت).

ص: 1043

فيُحِبُّ ويُبْغِضُ لأجل تلك المقارنة

(1)

، فمقارِنُ المحبوب محبوبٌ، ومقارنُ المكروه مكروه، كقوله:

وما حُبُّ الدِّيار شَغَفْنَ قلبي

ولكنْ حُبُّ من سَكَنَ الدِّيارا

وقولِ الآخر:

إذا ذَكَروا أوطانَهم ذَكَّرَتهمُ

عُهودًا جَرَت فيها فَحَنُّوا لذلِكا

الوجه التَّاسع والعشرون: قولكم: «إنَّ الصَّبرَ على السَّيف في ترك كلمة الكفر لا يستحسنُه العقلاءُ لولا الشرع، بل ربَّما استقبَحوه، إنَّما يُستَحسَنُ للثَّواب أو الثَّناء بالشجاعة، وكذلك بالصَّبر

(2)

على حِفظ السرِّ والوفاء بالعهد، لِمَا في ذلك من المصالح، فإن فُرِض حيث لا ثناء فيه فقد وُجِدَ مقرونًا بالثَّناء، فيبقى ميلُ الوهم للمقرون»

(3)

.

فيقال لكم: استحسانُ الشرع له مطابقٌ لاستحسان العقل لا مخالف، وكذلك انتظارُ الثَّواب به هو لحُسْنه في نفسه.

وكذلك المصالحُ المترتِّبةُ على حِفظ السرِّ والوفاء بالعهد هي لِمَا قام بذوات هذه الأفعال من الصِّفات التي أوجبت المصالح؛ إذ لو ساوت غيرَها لم تكن باقتضاء المصلحة أولى منها.

وقولكم: «إنه إذا فُرِض حيث لا ثناء، يبقى

(4)

ميلُ الوهم للمقارنة»، فقد

(1)

(د، ق): «المفارقة» . وهو تحريف.

(2)

كذا في الأصول. ولعل الصواب حذف باء الجر.

(3)

انظر: (ص: 980).

(4)

غير محررة في (د). وفي (ق، ت): «ينفي» . وهو تحريف.

ص: 1044

تقدَّم أنَّ هذا الميلَ تبعٌ للحقيقة، وأنه يستحيلُ وجودُه في فعلٍ لا تقتضي ذاتُه المصلحةَ والاستحسان، وأنَّ حصولَ الوهم المقارن تبعٌ للحقيقة الثَّابتة؛ لاستحالة حصول هذا الوهم في فعلٍ لا تكونُ ذاتُه مَنْشَأً للأمر الموهوم

(1)

، فيتوهَّمُ الذِّهنُ حيث تنتفي الحقيقة.

الوجه الثَّلاثون: قولكم: «إنَّ من عَرَضت له حاجة، وأمكنَ قضاؤها بالصِّدق والكذب، فإنه يُؤثِرُ الصِّدقَ لأنه وَجَده مقرونًا بالثَّناء، فهو يُؤثِره لما يقترنُ به من الثَّناء»

(2)

.

فجوابه أيضًا ما تقدَّم، وأنَّ اقترانَه بالثَّناء لِمَا اختُصَّ به من الصِّفاتِ التي اقتضت الثَّناءَ على فاعله.

كيف، والكذبُ متضمِّنٌ لفساد نظام العالم، ولا يمكن قيامُ العالم عليه، لا في معاشهم ولا في معادهم، بل هو متضمِّنٌ لفساد المعاش والمعاد؟! ومفاسدُ الكذب اللازمةُ له معلومةٌ عند خاصَّة النَّاس وعامَّتهم.

كيف، وهو منشأ كلِّ شرٍّ وفساد، وشرُّ الأعضاء لسانٌ كذوب

(3)

؟!

وكم قد أُزِيلت بالكذب مِنْ دُولٍ وممالِك، وخرِّبت به مِنْ بلاد، واستُلِبت به مِنْ نِعَم، وتعطَّلت به مِنْ معايش، وفَسَدَت به مِنْ مصالح، وغُرِسَت به مِنْ عداوات، وقُلِعَت به مِنْ مودَّات، وافتَقر به غنيٌّ، وذَلَّ به عزيزٌ، وهُتِكَت به مَصُونةٌ، ورُمِيَت به محصَنةٌ، وخَلَت به دُورٌ وقصور،

(1)

(ت): «وأن حصول الوهم المقارن مع الحقيقة الثانية» .

(2)

انظر: (ص: 981).

(3)

انظر: «روضة العقلاء» (52)، و «حلية الأولياء» (1/ 288).

ص: 1045

وعمِّرت به قبور، وأُزيل به أُنس، واستُجلِبت به وَحْشَة، وأُفسِد به بين الابن وأبيه، وغاض بين الأخ وأخيه

(1)

، وأحال الصَّديقَ عدوًّا مبينًا، ورَدَّ الغنيَّ العزيزَ ذليلًا مسكينًا!

وكم فرَّق بين الحبيب وحبيبه، فأفسَد عليه عِيشتَه ونغَّص عليه حياتَه! وكم جَلا عن الأوطان! وكم سوَّد مِنْ وجوه، وطمَس مِنْ نور، وأعمى مِنْ بصيرة، وأفسَد مِنْ عقل، وغيَّر مِنْ فِطرة، وجلَب مِن مَعَرَّة، وقطِّعت به [مِن] السُّبل، وعَفَت به [مِنْ] معالم الهداية، ودَرَسَت به مِنْ آثار النُّبوَّة، وخَفِيَت به مِنْ طرق الرَّشاد، وتعطَّلت به مِنْ مصالح العباد في المعاش والمعاد!

وهذا وأضعافُه ذرَّةٌ من مفاسده وجناحُ بعوضةٍ من مضارِّه ومَقابِحه

(2)

، وإلا فما يجلِبُه من غضب الرَّحمن، وحِرمان الجِنان، وحلول دار الهوان، أعظمُ من ذلك.

وهل مُلِئت الجحيمُ إلا بأهل الكذب، الكاذبين على الله وعلى رسوله وعلى دينه وعلى أوليائه، المكذِّبين بالحقِّ حَمِيَّةً وعصبيَّةً جاهليَّة؟! وهل عُمِّرت الجِنانُ إلا بأهل الصِّدق، الصَّادقين المصدِّقين بالحقِّ؟!

قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 32 - 34].

(1)

نقَص ما بينهما من المودة.

(2)

(ق، د): «ومصالحه» . وهو تحريف. وسقطت من (ت).

ص: 1046

وإذا كانت هذه حال الكذب والصِّدق، أفليس مِنْ أبطل الباطل دعوى تساويهما، وأنَّ العقلَ إنما يُؤثِرُ الصِّدقَ لتوهُّم اقترانه بالثَّناء، وإنما يتجنَّبُ الكذبَ لتوهُّم اقترانه بالقُبح، كتوهُّم اقتران اللَّسْع في الحبل المرقَّش، وردُّ استقباح

(1)

هذه المفاسد والمَقابِح التي لا أقبَح منها إلى مجرَّد وهمٍ باطلٍ يُشْبِه نفرة الطَّبع عن الحبل المرقَّش؟!

ونفسُ العلم بهذه المقالة كافٍ في الجزم ببطلانها.

ولو ذهبنا نعدِّدُ قبائحَ الكذب النَّاشئة من ذاته وصفاته لزادت على الألف، وما مِنْ عاقلٍ إلا وعنده العلمُ ببعض ذلك علمًا ضروريًّا مركوزًا في فطرته، فما سوَّى اللهُ بينه وبين الصِّدق أبدًا، ودعوى استوائهما كدعوى استواء النُّور والظُّلمة، والكفر والإيمان، وخَراب العالم وإهلاك الحرث والنَّسل وعمارته، بل كدعوى استواء الجوع والشِّبَع، والرِّيِّ والظَّمأ، والفرح والغمِّ، ولا فرق عند العقل بين علمه بهذا وهذا.

الوجه الحادي والثَّلاثون: قولكم: «الصِّدقُ والكذبُ متنافيان، ومن المحال تساوي المتنافيَين في جميع الصِّفات

»

(2)

إلى آخره= إقرارٌ منكم بالحقِّ، ونقضٌ لما أصَّلتموه.

فإنهما إذا كانا متنافيَيْن ذاتًا وصفاتٍ لم يرجع الفرقُ بينهما استحسانًا واستقباحًا إلى مجرَّد العادة والمنشأ والمَرْبى أو مجرَّد التَّديُّن بالشرائع، بل يكون مرجعُ الفرق إلى ذاتيهما، وأنَّ ذاتَ هذا

(1)

معطوفٌ على: «دعوى تساويهما

».

(2)

انظر: (ص: 981).

ص: 1047

مقتضيةٌ

(1)

لحُسْنه وذاتَ هذا مقتضيةٌ لقُبحه، وهذا هو عينُ الصَّواب لولا أنكم لا تُثْبِتون علَّتَه

(2)

، وتصرِّحون بأنَّ الفرق بينهما سببُه العادةُ والتَّربيةُ والمنشأُ والتَّديُّنُ بشرائع الأنبياء، حتى لو فُرِض انتفاءُ ذلك لم يُؤثِر الرَّجلُ الصِّدقَ على الكذب. وهل في التَّناقض أقبحُ من هذا؟!

الوجه الثَّاني والثَّلاثون: قولكم: «إنَّ غاية هذا أن يَدُلَّ على قُبح الكذب وحُسن الصِّدق شاهدًا، ولا يلزم منه حسنُه وقبحُه غائبًا إلا بطريق قياس الغائب على الشاهد، وهو باطلٌ؛ لوضوح الفَرق» ، واستنادكم في الفَرق إلى ما ذكرتم مِنْ تخلية الله بين عباده يموجُ بعضهم في بعضٍ ظلمًا وإفسادًا، وقُبح ذلك شاهدًا

(3)

.

فيا لله العَجَب! كيف يجوِّزُ العقلُ التزامَ مذهبٍ يُلْتَزمُ معه

(4)

جوازُ الكذب على ربِّ العالمين وأصدق الصَّادقين، وأنه لا فرق أصلًا بالنسبة إليه بين الصِّدق والكذب، بل جوازُ الكذب عليه ــ سبحانه وتعالى عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا ــ كجواز الصِّدق، وحُسْنُه كحُسْنِه؟!

وهل هذا إلا مِنْ أعظم الإفك والباطل؟!

ونِسبتُه إلى الله تعالى جوازًا كنسبة ما لا يليقُ بجلاله إليه من الولد والزَّوجة والشريك، بل كنسبة أنواع الظُّلم والشرِّ إليه جوازًا، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، فمن أصدقُ من الله حديثًا؟! ومن أصدقُ من الله قِيلًا؟!

(1)

(ت): «مفضية» . في الموضعين.

(2)

كذا في الأصول. ويمكن أن تقرأ: «تَثْبُتون عليه» .

(3)

انظر: (ص: 982).

(4)

في الأصول: «ملتزم معه» . والمثبت أشبه.

ص: 1048

وهل هذا الإفكُ المفترى إلا رافعٌ للوثوق بأخباره ووعده ووعيده، وتجويزٌ عليه وعلى كلامه ما هو من أقبح القبائح التي يتنزَّه عنها بعضُ عبيده، ولا تليقُ به، فضلًا عنه سبحانه؟!

فلو التزمتم كلَّ إلزامٍ يَلْزَم مثبتي

(1)

الحُسْن والقُبح العقليَّين لكان أسهَل من التزام هذا الإدِّ التي تكادُ السَّمواتُ يتفطَّرن منه وتنشقُّ الأرض وتَخِرُّ الجبالُ هدًّا.

ولا نسبة في القُبح بين الولد والشَّريك والزَّوجة وبين الكذب، ولهذا فَطَر اللهُ عقولَ عباده على الإزارء والذَّمِّ والمَقْت للكاذب دون من له زوجةٌ وولدٌ وشريك؛ فتنزُّهُ أصدق الصَّادقين عن هذا القبيح كتنزُّهه عن الولد والزَّوجة والشريك، بل لا يُعْرَفُ أحدٌ من طوائف العالم جوَّز الكذبَ على الله؛ لِمَا فَطَر اللهُ عقولَ البشر وغيرهم على قُبحه ومَقْتِ فاعله وخِسَّته ودناءته، ونَسَبَت إليه طوائفُ المشركين الشريكَ والولدَ لَمَّا لم يكن قبحُه عندهم كقُبح الكذب.

وكفى بمذهبٍ بطلانًا وفسادًا هذا القولُ العظيمُ والإفكُ المبينُ لازِمُه، ومع هذا فأهلُه لا يتحاشَون من التزامه!! فلو التَزم القائلُ أيَّ مذهبٍ أُلْزِم

(2)

كان خيرًا له من هذا.

ونحن نستغفرُ الله من التقصير في ردِّ هذا المذهب القبيح، ولكنَّ ظهورَ قُبحه للعقول والفِطر أقوى شاهدٍ على ردِّه وإبطاله، ولقد كان كافينا مِنْ ردِّه نفسُ تصويره وعَرْضِه على عقول النَّاسِ وفِطرهم.

(1)

(د، ق): «كل الذم بلزوم مسمى» . (ت): «كل اللزوم بلزوم مسمى» . وهو تحريفٌ عن المثبت.

(2)

في الأصول: «أن يذهب الذم» . ولعل الصواب ما أثبت.

ص: 1049

فليتأمَّل اللبيبُ الفاضلُ ماذا يعودُ إليه نصرُ المقالات، والتَّعصُّبُ لها، والتزامُ لوازمها، وإحسانُ الظَّنِّ بأربابها بحيث يَرى مساوئهم محاسنَ، وإساءةُ الظَّنِّ بخصومهم بحيث يَرى محاسنَهم مساواء، كم أفسَد هذا السُّلوكُ من فطرةٍ وصاحبُها من الذين يحسبون أنهم على شيءٍ، ألا إنهم هم الكاذبون!

ولا تتعجَّب من هذا؛ فإنَّ مرآة القلب لا يزالُ يُتَنفَّسُ فيها

(1)

حتى يَسْتَحْكِمَ صدؤها، فليس ببِدْعٍ لها أن ترى الأشياء على خلاف ما هي عليها، فمبدأ الهدى والفلاح صِقالُ تلك المرآة، ومنعُ الهوى من التنفُّس فيها، وفتحُ عَيْن البصيرة في أقوال من تسيءُ الظَّنَّ بهم كما تفتحُها في أقوال من تحسنُ الظَّنَّ بهم، وقيامُك لله، وشهادتُك بالقِسط، وأن لا يحملك بغضُ منازعيك وخصومك على جَحْد زَيْنِهم

(2)

، وتقبيح محاسنهم، وترك العدل فيهم، فإنَّ الله لا يعتدُّ بتعب مَنْ هذا شأنُه، ولا يُجْدِي علمُه نفعًا أحوجَ ما يكونُ إليه، والله يحبُّ المقسطين، ولا يحبُّ الظَّالمين.

الوجه الثَّالث والثَّلاثون: قولكم: «إنَّ مستندَ الحكم بقُبح الكذب غائبًا قياسُ الغائب على الشاهد، وهو فاسد» .

فيقال: الرَّبُّ تعالى لا يدخُل مع خلقه في قياس تمثيلٍ ولا قياس شمولٍ يستوي أفرادُه، فهذان النوعان من القياس يستحيلُ ثبوتُهما في حقِّه، وأمَّا قياسُ الأولى فهو غيرُ مستحيلٍ في حقِّه، بل هو واجبٌ له، وهو مستعملٌ في حقِّه عقلًا ونقلًا:

(1)

انظر: «مدارج السالكين» (2/ 473)، و «روضة المحبين» (140)، و «بدائع الفوائد» (42).

(2)

في الأصول: «دينهم» . والمثبت أشبه بالصواب.

ص: 1050

* أمَّا العقل، فكاستدلالنا على أنَّ معطي الكمال أحقُّ بالكمال، فمن جعل غيرَه سميعًا بصيرًا عالمًا متكلِّمًا حيًّا حكيمًا قادرًا مريدًا رحيمًا محسنًا فهو أولى بذلك وأحقُّ منه، ويثبتُ له مِنْ هذه الصِّفات أكملُها وأتمُّها.

وهذا مقتضى قولهم

(1)

: «كمالُ المعلول مستفادٌ من كمال علَّته» ، ولكن نحن ننزِّه الله عز وجل عن إطلاق هذه العبارة في حقِّه، بل نقول: كلُّ كمالٍ ثبتَ للمخلوق غير مستلزمٍ للنَّقص فخالقُه ومُعْطِيه إياه أحقُّ بالاتصاف به، وكلُّ نقصٍ في المخلوق فالخالقُ أحقُّ بالتنزُّه عنه، كالكذب والظُّلم والسَّفَه والعبث

(2)

، بل يجبُ تنزيهُ الربِّ تعالى عن النَّقائص والعيوب مطلقًا وإن لم يتنزَّه عنها

(3)

بعض المخلوقين.

وكذلك إذا استدللنا على حكمته تعالى بهذه الطَّريق، نحو أن يقال: إذا كان الفاعلُ الحكيمُ الذي لا يَفْعَلُ فعلًا إلا لحكمةٍ وغايةٍ مطلوبةٍ له مِنْ فعله أكملَ ممَّن يفعلُ لا لغايةٍ ولا لحكمةٍ ولا لأجل عاقبةٍ محمودةٍ وهي مطلوبةٌ مِنْ فعله في الشاهد= ففي حقِّه تعالى أولى وأحرى، فإذا كان الفعلُ للحكمة كمالًا فينا فالربُّ تعالى أولى به وأحقُّ، وكذلك إذا كان التنزُّه عن الظُّلم والكذب كمالًا في حقِّنا فالربُّ تعالى أولى وأحقُّ بالتنزُّه عنه.

* وبهذا ونحوه ضرب اللهُ الأمثالَ في القرآن، وذكَّر العقولَ ونبَّهها وأرشدَها إلى ذلك:

(1)

أي: الفلاسفة. انظر: «النبوات» (893)، و «الصفدية» (1/ 91، 2/ 26)، و «الجواب الصحيح» (3/ 208)، و «مجموع الفتاوى» (12/ 193، 16/ 358).

(2)

مهملة في (د). وفي (ق): «والعيب» . وهو تحريف.

(3)

(ت): «ينزه عنها» .

ص: 1051

كقوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [الزمر: 29]، فهذا مثلٌ ضرَبه يتضمَّنُ قياسَ الأولى في حقِّه

(1)

، يعني: إذا كان المملوكُ فيكم له مُلَّاكٌ مشتركون فيه، وهم متنازعون، ومملوكٌ آخرُ له مالكٌ واحد، فهل يكونُ هذا وهذا سواءً؟! فإذا كان هذا ليس عندكم كمن له ربٌّ واحدٌ ومالكٌ واحد، فكيف ترضون أن تجعلوا لأنفسكم آلهةً متعدِّدةً تجعلونها شركاءَ لله، تحبُّونها كما تحبُّونه، وتخافونها كما تخافونه، وترجونها كما ترجونه؟!

وكقوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف: 17]، يعني: أنَّ أحدكم

(2)

لا يرضى أن يكون له بنتٌ، فكيف تجعلون لله ما لا ترضونه لأنفسكم؟!

وكقوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 75 - 76]، يعني: إذا كان لا يستوي عندكم عبد مملوكٌ لا يَقْدِرُ على شيءٍ وغنيٌّ مُوسَّعٌ عليه يُنْفِقُ مما رزقه الله، فكيف تجعلون الصَّنمَ الذي هو أسوأ حالًا من هذا العبد شريكًا لله؟!

(1)

«حقه» ساقطة من (ق).

(2)

(ت): «أحدهم» .

ص: 1052

وكذلك إذا كان لا يستوي عندكم رجلان أحدُهما أبكمُ لا يَعْقِلُ ولا يَنْطِق، وهو مع ذلك عاجزٌ لا يَقْدِرُ على شيء، وآخرُ على طريقٍ مستقيمٍ في أقواله وأفعاله، وهو آمرٌ بالعدل عاملٌ به لأنه على صراطٍ مستقيم، فكيف تُسَوُّون بين الله وبين الصَّنم في العبادة؟!

ونظائرُ ذلك كثيرةٌ في القرآن وفي الحديث، كقوله في حديث الحارث الأشعريِّ:«وإنَّ الله أمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وإنَّ مثَل من أشرك كمثَل رجلٍ اشترى عبدًا من خالص ماله، وقال له: اعمَل وأدِّ إليَّ، فكان يعملُ ويؤدِّي إلى غيره، فأيكم يحبُّ أن يكون عبدُه كذلك؟!»

(1)

.

فالله سبحانه لا تُضرَبُ له الأمثالُ التي يشتركُ هو وخلقُه فيها شمولًا ولا تمثيلًا، وإنَّما يُستعمَلُ في حقِّه قياسُ الأولى كما تقدَّم.

الوجه الرابع والثَّلاثون: أنَّ النُّفاة إنما ردُّوا على خصومهم من الجهمية والمعتزلة في إنكارهم الصِّفات

(2)

بقياس الغائب على الشاهد

(3)

.

فقالوا: العالِمُ شاهدًا من له العلم، والمتكلِّمُ من قام به الكلام، والحيُّ والمريدُ والقادرُ من قام به الحياةُ والإرادةُ والقدرة، ولا يُعْقَلُ إلا هذا.

(1)

أخرجه أحمد (4/ 202)، والترمذي (2863)، وغيرهما.

وصححه الترمذي، وابن خزيمة (930)، وابن حبان (6233)، والحاكم (1/ 118) ولم يتعقبه الذهبي.

(2)

(ق): «إنكار الصفات» .

(3)

انظر: «التمهيد» للباقلاني (32)، و «الإرشاد» للجويني (82)، و «نهاية الأقدام» (171، 182، 186).

ص: 1053

قالوا: ولأنَّ شرطَ إطلاق الاسم شاهدًا وجودُ هذه الصِّفات، ولا يستحقُّ الاسمَ في الشاهد إلا من قامت [به]، فكذلك في الغائب.

قالوا: ولأنَّ شرطَ العلم والقدرة والإرادة في الشاهد الحياةُ، فكذلك في الغائب.

قالوا: ولأنَّ علَّة

(1)

كون العالِم عالمًا شاهدًا وجودُ العلم وقيامُه به، فكذلك في الغائب.

فقالوا بقياس الغائب على الشاهد في العلَّة والشرط والاسم والحدِّ؛ فقالوا: حدُّ العالِم شاهدًا من قام به العلم، فكذلك غائبًا، وشرطُ صحَّة إطلاق الاسم عليه شاهدًا قيامُ العلم به، فكذلك غائبًا، وعلَّةُ

(2)

كونه عالمًا شاهدًا قيامُ العلم به، فكذلكَ غائبًا.

فكيف تُنكِرون هنا قياسَ الغائب على الشاهد، وتحتجُّون به في مواضع أخرى؟! وأيُّ تناقضٍ أكثر من هذا؟!

فإن كان قياسُ الغائب على الشاهد باطلًا بَطَل احتجاجُكم علينا به في هذه المواضع، وإن كان صحيحًا بَطَل ردُّكم في هذا الموضع، فأمَّا أن يكون صحيحًا إذا استدللتم به، باطلًا إذا استدلَّ به خصومكم، فهذا أقبحُ التَّطفيف، وقبحُه ثابتٌ بالعقل والشرع

(3)

.

(1)

(ق): «علم» . وهو تحريف.

(2)

في الأصول: «وعليه» . وهو تحريف.

(3)

الاستدلال بقياس الشاهد على الغائب مسلك متقدمي الأشاعرة، وضعَّفه بعض متأخريهم، كالجويني في «البرهان» (1/ 127، 129)، والآمدي في «غاية المرام» (45). وانظر:«شرح المقاصد» (2/ 73)، و «المواقف» (3/ 67، 69).

ص: 1054

الوجه الخامس والثَّلاثون: قولكم: «إنَّ الله خلَّى بين العباد وظُلم بعضهم بعضًا، وأنَّ ذلك ليس بقبيحٍ منه، فإنه قبيحٌ منَّا»

(1)

.

فذلك فاسدٌ على أصل التكليف؛ فإنَّ التكليفَ إنما يتمُّ بإعطاء القدرة والاختيار، والله تعالى قد أقدَرَ عبادَه على الطَّاعات والمعاصي، والصَّلاح والفساد، وهذا الإقدارُ هو مناطُ الشرع والأمر والنهي، فلولاه لم يكن شرعٌ ولا رسالة، ولا ثوابٌ ولا عقاب، وكان النَّاسُ بمنزلة الجمادات والأشجار والنَّبات.

فلو حالَ سبحانه بين العباد وبين القدرة على المعاصي لارتفع الشرعُ والرِّسالةُ والتكليف، وانتفت فوائدُ البعثة، ولَزِم من ذلك لوازمُ لا يحبُّها الله، وتعطَّلت به غاياتٌ محمودةٌ محبوبةٌ لله وهي ملزومةٌ لإقدار العباد وتمكينهم من الطَّاعة والمعصية، ووجودُ الملزوم بدون اللازم محال، وقد نبَّهنا على شيءٍ يسيرٍ من الحِكَم المطلوبة والغايات المحمودة فيما سَلَف من هذا الفصل وفي أوَّل الكتاب

(2)

.

فلو أنَّ الربَّ تعالى خلق خلقَه ممنوعين من المعاصي غيرَ قادرين عليها بوجهٍ

(3)

لم يكن لإرسال الرسل وإنزال الكتب والأمر والنهي والثَّواب والعقاب سببٌ يقتضيه، ولا حكمةٌ تستدعيه، وفي ذلك تعطيلُ الأمر جملة، بل تعطيلُ المُلك والحمد، والربُّ تعالى له الخلقُ والأمر، وله الملكُ والحمد.

(1)

انظر: (ص: 982).

(2)

انظر: (ص: 12، 810، 812 - 847).

(3)

«بوجه» ليست في (ت).

ص: 1055

والغاياتُ المطلوبةُ والعواقبُ المحمودةُ التي لأجلها أنزَل كتبَه، وأرسل رسلَه، وشرع شرائعَه، وخلَق الجنةَ والنَّار، ووضعَ الثَّوابَ والعقاب، لا تحصُل

(1)

إلا بإقدار العبادِ على الخير والشرِّ، وتمكينهم من ذلك، وإعطائهم

(2)

الأسبابَ والآلات التي يتمكَّنون بها مِنْ فعل هذا وهذا.

فلهذا حَسُنَ منه تبارك وتعالى التَّخلِيةُ بين عباده وبين ما هم فاعِلُوه، وقَبُحَ من أحدنا أن يخلِّيَ بين عبيده وبين الإفساد وهو قادرٌ على منعهم، هذا مع أنه سبحانه لم يخلِّ بينهم، بل مَنَعَهم منه، وحرَّمه عليهم، ونَصَبَ لهم العقوبات الدُّنيوية والأخروية على القبائح، وأحلَّ بهم مِنْ بأسه وعذابه وانتقامه

(3)

ما لا يفعلُه السيِّدُ من المخلوقين بعبيده ليمنعَهم ويزجُرهم.

فقولكم: «إنه خلَّى بين عباده وبين إفساد بعضهم بعضًا وظُلم بعضهم بعضًا» كذبٌ عليه، فإنه لم يخلِّ بينهم شرعًا ولا قَدَرًا، بل حالَ بينهم وبين ذلك شرعًا أتمَّ حَيْلُولة، ومَنَعَهم قَدَرًا بحسب ما تقتضيه حكمتُه الباهرةُ وعلمُه المحيط، وخلَّى بينهم وبين ذلك بحسب ما تقتضيه حكمتُه وشرعُه ودينُه.

فمنعُه سبحانه لهم وحيلولتُه بينهم وبين الشرِّ أعظمُ من تخلِيَته، والقَدْرُ الذي خلَّاه بينهم في ذلك هو ملزومُ أمره وشرعه ودينه؛ فالذي فعَله في الطَّرفين غايةُ الحكمة والمصلحة، ولا نهاية فوقه لاقتراح عقل.

(1)

مهملة في (د)، وفي طرتها:«لعله: وذلك» . (ق): «وذلك لا يحصل» . وهو خطأ، سببه توهُّم أن قوله:«والغايات المطلوبة» معطوفٌ على «الملك والحمد» .

(2)

(ق): «فأعطاهم» .

(3)

(ت): «وعقابه» .

ص: 1056

ولو خلَّى بينهم ــ كما زعمتم ــ لكانوا بمنزلة الأنعام السَّائمة، بل لو تركهم ودواعي طباعهم لأهلَك بعضُهم بعضًا، ولخَرِبَ العالمُ ومن عليه، بل ألجمهم لجامَ العجز والمنع من كلِّ ما يريدون، فلو أنه خلَّى بينهم وبين ما يريدون لفسَدت الخليقة، كما ألجمهم بلجام الشرع والأمر، ولو منَعهم جملةً ولم يمكِّنهم ولم يُقْدِرهم لتعطَّل الأمرُ والشرعُ جملة، وانتفت

(1)

حكمةُ البعثة والإرسال والثَّواب والعقاب.

فأيُّ حكمةٍ فوق هذه الحكمة؟! وأيُّ أمرٍ أحسنُ مما فعله بهم؟!

ولو أعطى النَّاسُ هذا المقام بعض حقِّه لعلموا أنه مقتضى الحكمة البالغة، والقدرة التَّامَّة، والعلم المحيط، وأنه غايةُ الحكمة.

ومن فُتِحَ له بفهمٍ في القرآن رآه من أوَّله إلى آخره، ينبِّه العقولَ على هذا، ويرشدُها إليه، ويدلُّها عليه، وأنه يتعالى ويتنزَّه أن يكون هذا منه عبثًا، أو سُدًى، أو باطلًا، أو بغير الحقِّ، أو لا لمعنًى ولا لداعٍ وباعث، وأنَّ مصدَر ذاك جميعه عن عزَّته وحكمته.

ولهذا كثيرًا ما يَقْرِنُ تعالى بين هذين الاسمين (العزيز الحكيم) في آيات التَّشريع والتكوين والجزاء؛ ليَدُلَّ عبادَه على أنَّ مصدَر ذلك كلِّه عن حكمةٍ بالغة، وعزَّةٍ قاهرة

(2)

.

(1)

(ت): «فانتفت» .

(2)

انظر: «مدارج السالكين» (1/ 36)، و «طريق الهجرتين» (230).

كما يقرن سبحانه بين الاسمين (العليم الحكيم) عند ذكر مصدر خلقه وشرعه. انظر: «شفاء العليل» (561)، و «التبوكية» (79).

ص: 1057

ففَهِمَ الموفَّقون عن الله عز وجل مرادَه وحكمتَه، وانتهَوا إلى ما وَقَفوا عليه ووصلت إليه أفهامُهم وعلومُهم، وردُّوا علمَ ما غاب عنهم من ذلك إلى أحكم الحاكمين ومن هو بكلِّ شيءٍ عليم، وتحقَّقوا بما عَلِمُوه من حكمته التي بَهَرت عقولهم أنَّ لله في كلِّ ما خلق وأمرَ وأثابَ وعاقبَ من الحِكَم البوالغ ما تقصُر عقولهم عن إدراكه، وأنه تعالى هو الغنيُّ الحميد، العليمُ الحكيم، فمصدَر خلقه وأمره وثوابه وعقابه غناهُ وحمدُه وعلمُه وحكمتُه، ليس مصدرُه مشيئةً مجرَّدةً وقدرةً خاليةً من الحكمة والرَّحمة والمصلحة والغايات المحمودة المطلوبة له خلقًا وأمرًا، وأنه سبحانه لا يُسْألُ عمَّا يفعل؛ لكمال حكمته وعلمه ووقوع أفعاله كلِّها على أحسن الوجوه وأتمِّها على الصَّواب والسَّداد ومطابقة الحِكَم، والعباد يُسْألون؛ إذ ليست أفعالهم كذلك.

ولهذا قال خطيبُ الأنبياء شعيبٌ صلى الله عليه وسلم

(1)

: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56]، فأخبر عن عموم قدرته تعالى، وأنَّ الخلقَ كلَّهم تحت تسخيره وقدرته، وأنه آخذٌ بنواصيهم، فلا محيصَ لهم من نفوذ مشيئته وقدرته فيهم.

ثمَّ عقَّبَ ذلك بالإخبار عن تصرُّفه فيهم، وأنه بالعدل لا بالظُّلم، وبالإحسان لا بالإساءة، وبالصَّلاح لا بالفساد، فهو يأمرُهم وينهاهم، إحسانًا إليهم وحمايةً وصيانةً لهم، لا حاجةً إليهم ولا بخلًا عليهم، بل جودًا وكرمًا ولطفًا وبرًّا، ويثيبُهم إحسانًا وتفضُّلًا ورحمة، لا لمعاوَضةٍ واستحقاقٍ منهم

(1)

كذا قال المصنف رحمه الله. وهو وهم؛ فقائل هذا هودٌ عليه السلام. ووقع كذلك في «إعلام الموقعين» (1/ 162)، و «روضة المحبين» (96). وعلى الصواب في «زاد المعاد» (4/ 207)، و «المدارج» (3/ 456)، وغيرها.

ص: 1058

ودَيْنٍ واجبٍ لهم يستحقُّونه عليه، ويعاقبُهم عدلًا وحكمة، لا تشفِّيًا ولا مخافةً ولا ظلمًا كما يعاقبُ الملوكُ وغيرُهم، بل هو على الصِّراط المستقيم، وهو صراطُ العدل والإحسان في أمره ونهيه وثوابه وعقابه.

فتأمَّل ألفاظ هذه الآية، وما جمعَته من عموم القدرة وكمال المُلك، ومن تمام الحكمة والعدل والإحسان، وما تضمَّنته من الرَّدِّ على الطَّائفتين، فإنها من كنوز القرآن، ولقد كَفَت وشَفَت لمن فُتِحَ عليه بفهمها

(1)

.

فكونُه تعالى على صراطٍ مستقيمٍ ينفي ظلمَه للعباد وتكليفَه إياهم ما لا يطيقون، وينفي العبثَ

(2)

من أفعاله وشرعه، ويُثْبِتُ لها غايةَ الحكمة والسَّداد؛ ردًّا على منكري ذلك.

وكونُ كلِّ دابَّةٍ تحت قبضته وقدرته، وهو آخذٌ بناصيتها، ينفي أن يقعَ في مُلكه من أحدٍ من المخلوقات شيءٌ بغير مشيئته وقدرته، وأنَّ من ناصيتُه بيد الله وفي قبضته لا يمكِنُه أن يتحرَّك إلا بتحريكِه، ولا يفعل إلا بإقدارِه، ولا يشاء إلا بمشيئته تعالى؛ ردًّا على مُنكري ذلكَ من القدريَّة.

فالطَّائفتان ما وفَّوا الآيةَ معناها، ولا قَدَرُوها حقَّ قَدْرها، فهو سبحانه على صراطٍ مستقيمٍ في عطائه ومنعه، وهدايته وإضلاله، وفي نفعه وضرِّه، وعافيته وبلائه، وإغنائه وإفقاره، وإعزازه وإذلاله، وإنعامه وانتقامه، وثوابه وعقابه، وإحيائه وإماتته، وأمره ونهيه، وتحليله وتحريمه، وفي كلِّ ما يخلُق وكلِّ ما يأمرُ به.

(1)

(ت): «تفهمها» .

(2)

مهملة في (د). (ت، ق): «العيب» . وهو تحريف. فالعبث تقابله الحكمة، والعيب يقابله الكمال. ويأتي كثيرًا في كتب المصنف.

ص: 1059

وهذه المعرفةُ بالله لا تكونُ إلا للأنبياء ولورثتهم.

ونظيرُ هذه الآية قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76]، فالمثلُ الأوَّلُ للصَّنم وعابديه، والمثلُ الثَّاني ضربه الله تعالى لنفسه، وأنه يأمرُ بالعدل وهو على صراطٍ مستقيم، فكيف يُسَوَّى بينه وبين الصَّنم الذي له مثلُ السَّوء؟!

فما فَعَله الرَّبُّ تبارك وتعالى مع عباده هو غايةُ الحكمة والإحسان والعدل، في إقدارهم وإعطائهم ومنعِهم وأمرهم ونهيهم.

فدعوى المدَّعي أنَّ هذا نظيرُ تخلِيَة السيِّد بين عبيده وإمائه يفجُر بعضُهم ببعض، ويسبي بعضهم بعضًا، أكذبُ دعوى وأبطلُها، والفرقُ بينهما أظهرُ وأعظمُ من أن يُحتاج إلى ذكره والتَّنبيه عليه.

والحمدُ لله الغنيِّ الحميد؛ فغناهُ التَّامُّ فارقٌ، وحَمْدُه ومُلْكُه

(1)

، وعزَّتُه وحكمتُه، وعلمُه وإحسانُه، وعدلُه ودينُه، وشرعُه وحكمُه، وكرمُه ومحبتُه للمغفرة والعفو عن الجناة، والصَّفح عن المسيئين، وتوبةِ التَّائبين، وصبر الصَّابرين، وشُكر الشاكرين، الذين يؤثِرُونه على غيره، ويتطلَّبون مَراضيه، ويعبدونه وحده، ويسيرون في عبيده بسِيرة العدل والإحسان والنَّصائح، ويجاهدون أعداءه، فيبذُلون دماءهم وأموالهم في محبَّته ومرضاته، فيتميَّز الخبيثُ من الطَّيب، ووليُّه من عدوِّه، ويخرجُ طيِّبات هؤلاء وخبائث أولئك إلى الخارج، فيترتَّبُ عليها آثارُها المحبوبةُ للربِّ تعالى من الثَّواب والعقاب، والحمد لأوليائه، والذمِّ لأعدائه.

(1)

أي: وكذا حمدُه وملكُه فارقٌ بين فعل الله تعالى وفعل السيِّد في المثل المتقدم.

ص: 1060

وقد نبَّه تعالى على هذه الحكمة في كتابه في غير موضع، كقوله تعالى:{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 179].

وهذه الآيةُ من كنوز القرآن؛ نبَّه فيها على حكمته تعالى المقتضية

(1)

تمييزَ الخبيث من الطيِّب، وأنَّ ذلك التمييزَ لا يقعُ إلا برسله، فاجتبى منهم من شاء وأرسله إلى عباده، فتميَّز برسالتهم الخبيثُ من الطيِّب، والوليُّ من العدوِّ، ومن يصلُح لمجاورته وقُربه وكرامته ممَّن لا يصلُح إلا للوقود.

وفي هذا تنبيهٌ على الحكمة في إرسال الرُّسل، وأنه لا بدَّ منه، وأنَّ الله تعالى لا يليقُ به الإخلالُ به، وأنَّ من جَحَدَ رسالةَ رسله فما قَدَرَه حقَّ قَدْره، ولا عَرفه حقَّ معرفته، ونَسَبَه إلى ما لا يليقُ به؛ كما قال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91].

فتأمَّل هذا الموضع حقَّ التأمُّل، وأعطِه حظَّه من الفِكر، فلو لم يكن في هذا الكتاب سواه لكان من أجلِّ ما يستفاد، والله الهادي إلى سبيل الرَّشاد.

الوجه السادس والثَّلاثون: قولكم: «إنَّ الإغراق والإهلاك يحسُن منه تعالى، وهو أقبحُ شيءٍ منَّا، فكيف يدَّعون حُسْنَ إنقاذ الغرقى عقلًا

»

(2)

إلى آخره= كلامٌ فاسدٌ جدًّا؛ فإنَّ الإغراق والإهلاك من الربِّ تعالى لا يخرُج قطُّ عن المصلحة والعدل والحكمة.

(1)

(ت): «المفضية» .

(2)

انظر: (ص: 982).

ص: 1061

فإنه إذا أغرَق أعداءه وأهلكهم وانتقم منهم كان هذا غايةَ الحكمة والعدل والمصلحة، وإن أغرَق أولياءه وأهلَ طاعته فهو سببٌ من الأسباب التي نَصَبَها لموتهم وتخليصهم من الدُّنيا والوصول إلى دار كرامته ومحلِّ قُربه، ولا بدَّ من موتٍ على كلِّ حال، فاختار لهم أكمل الموتتَين وأنفعَها لهم في معادهم، ليُوصِلهم بها إلى درجاتٍ عاليةٍ لا تُنالُ إلا بتلك الأسباب التي نَصَبَها الله مُوصِلةً إليها كإيصال سائر الأسباب إلى مسبَّباتها.

ولهذا سلَّط على أنبيائه وأوليائه ما سلَّط عليهم، من القتل وأذى النَّاس وظُلمِهم لهم وعُدوانهم عليهم، وما ذاك لهوانهم عليه ولا لكرامة أعدائهم عليه، بل ذاك عَيْنُ كرامتهم وهوان أعدائهم عليه وسقوطِهم من عَيْنه؛ لينالوا بذلك ما خُلِقُوا له من مساكنهم في دار الهوان، وينال أولياؤه وحِزبُه ما هُيِّاء لهم من الدَّرجات العُلى والنَّعيم المقيم؛ فكان تسليطُ أعدائه وأعدائهم عليهم عَيْنَ كرامتهم وعَيْنَ إهانة أعدائهم.

فهذا مِنْ بعض حِكَمه تعالى في ذلك، ووراء ذلك من الحِكَم ما لا تبلُغه العقولُ والأفهام.

وكان إغراقُه وإهلاكُه وابتلاؤه محضَ الحكمة والعدل في حقِّ أعدائه ومحضَ الإحسان والفضل والرَّحمة في حقِّ أوليائه؛ فلهذا حَسُنَ منه.

ولعلَّ الإغراق وتسليط القتل عليهم أسهلُ الموتتَيْن

(1)

عليهم، مع ما في ضِمنه من الثَّواب العظيم، فيكونُ قد بَلَغَ حُسْنُ اختياره لهم إلى أن خفَّف عليهم المَوتة، وأعاضهم

(2)

عليها أفضلَ الثَّواب؛ فإنه لا يجدُ الشهيدُ من

(1)

(ت): «أهون الموتتين» .

(2)

(ت): «وأعطاهم» .

ص: 1062

ألم القتل إلا كمسِّ القَرْصَة.

ومن لم يَمُتْ بالسَّيف ماتَ بغيره

تنوَّعت الأسبابُ والداءُ واحدُ

(1)

فليس إماتةُ أوليائه شهداءَ بيد أعدائه إهانةً لهم ولا غضبًا عليهم، بل كرامةً ورحمةً وإحسانًا ولطفًا، وكذلك الغَرَقُ والحَرَقُ والهَدْمُ والتَّردِّي

(2)

والبَطْنُ وغيرُ ذلك، والمخلوقُ ليس بهذه المثابة، فلهذا قَبُحَ منه الإغراقُ والإهلاكُ وحَسُنَ من اللطيف الخبير.

الوجه السابع والثَّلاثون: قولكم: «إذا كان لله في إغراقه وإهلاكه سبحانه حكمةٌ وسِرٌّ لا نطَّلعُ عليه نحن، فقدِّروا مثلَه في ترك إنقاذنا الغرقى»

(3)

كلامٌ تغني رِكَّتُه وفسادُه عن تكلُّف ردِّه.

وهل يجوزُ أن يقال: إذا كان لله الحكمةُ البالغةُ والأسرارُ العظيمةُ في إهلاك من يهلكه وابتلاء من يبتليه، ولهذا حَسُنَ منه ذلك= فيَلْزَمُ من هذا أن يقال: يجوزُ أن يكون في تركنا إنجاءَ الغرقى ونصرَ المظلوم وسَدَّ الخَلَّة وسترَ العورة حِكَمًا وأسرارًا لا يعلمها العقلاء؟!

والمُناكَدةُ في البُحوث إذا وصلت إلى هذا الحدِّ سَمُجَت وثَقُلَت على النُّفوس ومجَّتها القلوبُ والأسماع.

(1)

البيت لابن نُباتة السعدي (ت: 405)، في ديوانه (217)، وترجمته من «وفيات الأعيان» (3/ 193)، و «السير» (17/ 234)، وغيرها.

(2)

ورد في حديثٍ شديد الضعف عند الطبراني (18/ 87)، وأبي نعيم في «معرفة الصحابة» (5573) أن المتردِّي شهيد. ووردت الأخبار بشهادة الباقين من وجوهٍ صحاح. والبطن: داء البطن.

(3)

انظر: (ص: 983).

ص: 1063

الوجه الثامن والثَّلاثون: قولكم: «الفعلان من حيث الصِّفات النفسيَّة واحدٌ، فكيف يقبُح أحدُهما من فاعلٍ ويحسُن الآخر من فاعل»

(1)

.

فيقال: هذا في البطلان والفساد مِنْ جنس ما قبله وأبطَلُ، وهو بمنزلة أن يقال: القتلُ من المعتدي ومن المُقْتَصِّ من حيث الصفات النفسيَّة واحدٌ، فكيف يقبُح أحدُهما ويحسُن الآخر؟!

(2)

، وبمنزلة أن يقال: السُّجودُ لله والسُّجودُ للصَّنم واحدٌ من حيث الصِّفات النفسيَّة، فكيف يقبُح أحدُهما ويحسُن الآخر؟! وهل في الباطل أبطَلُ من هذا الوهم؟!

فما جعَل الله ذلك واحدًا أصلًا، وليس إماتةُ الله لعبده مثلَ قتل المخلوق له، ولا إجاعتُه وإعراؤه وابتلاؤه مساويًا في الصِّفات النفسيَّة لفعل المخلوق بالمخلوق ذلك، ودعوى التَّساوي كذبٌ وباطل، فلا أعظمَ من التَّفاوت بينهما، وهل يستوي عند العقل والفطرة فعلُ الله وفعلُ المخلوق؟!

فيا لله العَجب! إن تناولهما اسمُ الفعل المشترك صارا سواءً في الصِّفات النفسيَّة، أترى

(3)

حصل لهما هذا التَّساوي من جهة الفعلَيْن، والذي أوجبَ هذا الخيال الفاسد اتحادُ المحلِّ وتعلُّق الفعلَيْن به، وهل يدلُّ هذا على استواء الفعلَيْن في الصِّفات النفسيَّة؟!

ولقد وَهَتْ أركانُ مسألةٍ بُنِيَت على هذا الشَّفا، فإنه شَفَا جُرُفٍ هار، والله المستعان.

(1)

انظر: (ص: 983).

(2)

من قوله: «فيقال

» إلى هنا ساقط من (ق).

(3)

غير محررة في (د)، رسمها ابن بردس رسمًا على عادته في المشكلات.

ص: 1064

الوجه التاسع والثلاثون: قولكم: «مَواجِبُ العقول في أصل التكليف متعارضةُ الأصول»

(1)

.

فيقال: معاذَ الله من تعارضها

(2)

، بل هي متفقةُ الأصول، مستقرٌّ حُسْنُها في العقول والفِطر، مركوزٌ ذلك فيها، فما شَرَع اللهُ شيئًا فقال العقلُ السَّليم: ليته شرع خلافَه. بل هي متعارضةٌ بين العقل والهوى، فالعقلُ يقتضي حُسْنَها ويدعو إليها، ويأمرُ بمتابعتها جملةً في بعضها وجملةً وتفصيلًا في بعض، والهوى والشهوةُ قد يدعوان غالبًا إلى خلافها.

فالتعارضُ واقعٌ بين مَواجِب العقول ومَواجِب الهوى، وما جعل الله في العقل ولا في الفطرة استقباحَ ما أمَر به، ولا استحسانَ ما نهى عنه، وإن مال الهوى إلى خلاف أمره ونهيه فالعقلُ حينئذٍ يكونُ مأسورًا

(3)

مع الهوى، مقهورًا في قبضته، وتحت سلطانه.

الوجه الأربعون: قولكم: «نطالبكم بإظهار وجه الحُسن في أصل التكليف والإيجاب عقلًا وشرعًا»

(4)

.

فيقال: يا لله العجب! أيحتاجُ أمرُ الله تعالى لعباده بما فيه غايةُ صلاحهم وسعادتهم في معاشهم ومعادهم، ونهيُه لهم عمَّا فيه هلاكهم وشقاؤهم في

(1)

«نهاية الأقدام» (384). وتحرَّف النص في الأصول إلى: «فواجب العقول في أصل التكليف معارضة الأصول» .

(2)

(ت): «معارضتها» . (ق، د): «تعارضهما» . وهو تحريف.

(3)

(ق، د): «مأمورا» . (ت): «مكنوزا» . والمثبت أشبه بالصواب. انظر: «طريق الهجرتين» (441).

(4)

«نهاية الأقدام» (384).

ص: 1065

معاشهم ومعادهم، إلى المطالبة بحُسْنه؟! ثمَّ لا يُقتَصرُ على المطالبة بحُسْنه عقلًا حتى يُطالَب بحُسْنه عقلًا وشرعًا!

فأيُّ حُسْنٍ لم يأمر الله به ويستحبَّه

(1)

لعباده ويندُبهم إليه؟! وأيُّ حُسْنٍ فوق حُسْن ما أمَر به وشرعَه؟! وأيُّ قبيحٍ لم يَنْهَ عنه ولم يزجُر عبادَه عن ارتكابه؟! وأيُّ قُبحٍ فوق قُبح ما نهى عنه؟!

وهل في العقل دليلٌ أوضحُ من علمه بحُسْن ما أمر الله به من الإيمان والإسلام والإحسان، وتفاصيلها: من العدل، والإحسان، وإيتاء ذي القُربى، وأنواع البرِّ والتقوى، وكلِّ معروفٍ تشهَدُ الفِطرُ والعقولُ به: من عبادته وحده لا شريك له على أكمل الوجوه وأتمِّها، والإحسان إلى خلقِه بحسب الإمكان؟!

فليس في العقل مقدِّماتٌ هي أوضحُ من هذا المستدَلِّ عليه فيُجْعَل دليلًا له.

وكذلك ليس في العقل دليلٌ أوضحُ مِنْ قُبح ما نهى عنه من الفواحش ما ظهَر منها وما بطَن، والإثم والبغي بغير الحقِّ، والشِّرك بالله ــ بأن يُجْعَل له عَدِيلٌ من خلقِه فيُعْبَد كما يُعْبَد، ويُحَبَّ كما يُحَبُّ، ويُعَظَّمَ كما يُعَظَّم ــ، ومن الكذب على الله وعلى أنبيائه وعباده المؤمنين، الذي فيه خرابُ العالَم وفسادُ الوجود.

فأيُّ عقلٍ لم يُدْرِك حُسْنَ ذاك وقُبحَ هذا فأحرى أن لا يُدْرِك الدَّليل على ذلك!

(1)

(ت): «ويستحسنه» .

ص: 1066

وليس يَصِحُّ في الأذهانِ شيءٌ

إذا احتاجَ النهارُ إلى دليلِ

(1)

فما أبقى اللهُ عز وجل حَسَنًا إلا أمَر به وشرَعه، ولا قبيحًا إلا نهى عنه وحذَّر منه.

ثمَّ إنه سبحانه أودَع في الفِطر والعقول الإقرارَ بذلك، فأقام عليها الحجَّةَ من الوجهين، ولكن اقتضت رحمتُه وحكمتُه أن لا يعذِّبها إلا بعد إقامتها عليها برسله، وإن كانت قائمةً عليها بما أودَع فيها واستشهَدها عليه من الإقرار به وبوحدانيَّته واستحقاقه الشُّكرَ من عباده - بحسب طاقتهم ــ على نِعَمه، وبما نَصَبَ عليها من الأدلَّة المتنوِّعة المستلزمة إقرارَها بحُسْن الحسن وقُبح القبيح.

الوجه الحادي والأربعون: أنَّا نذكر لكم وجهًا من الوجوه الدَّالَّة على وجه الحُسْن في أصل التكليف والإيجاب، فنقول: لا ريب أنَّ إلزامَ النَّاس شريعةً يأتمرون بأوامرها التي فيها صلاحُهم، وينتهون عن مناهيها التي فيها فسادُهم أحسنُ عند كلِّ عاقلٍ من تركهم همَلًا كالأنعام، لا يَعْرِفُون معروفًا ولا يُنكِرون منكرًا، وينزُو بعضهم على بعضٍ نَزْوَ الكلاب والحُمُر، ويَعْدُو بعضهم على بعضٍ عَدْوَ السِّباع والكلاب والذِّئاب، ويأكلُ قويُّهم ضعيفَهم، ولا يعرفون الله، ولا يعبدونه، ولا يذكرونه، ولا يشكرونه، ولا يمجِّدونه

(2)

، ولا يَدِينُون بدين، بل هم من جنس الأنعام السَّائمة.

ومن كابرَ عقلَه في هذا سَقَط الكلامُ معه، ونادى على نفسه بغاية

(1)

البيت للمتنبي في ديوانه (334)، وروايته:«الأفهام» ، وفي نسخة:«الأوهام» .

(2)

(ت): «يحمدونه» .

ص: 1067

الوَقاحة ومفارقة الإنسانيَّة.

وما نظيرُ مطالبتكم هذه إلا مطالبةُ من يقول: نحن نطالبكم بإظهار وجه المنفعة في خَلق الماء والهواء والرِّياح والتُّراب، وخَلق الأقوات والفواكه والأنعام، بل في خَلق الأسماع والأبصار والألسن والقُوى والأعضاء التي في العبد؛ فإنَّ هذه أسبابٌ ووسائلُ ووسائط، وأمَّا أمرُه وشرعُه ودينُه فكمالُه غايةٌ وسعادةٌ في المعاش والمعاد، ولا ريب عند العقلاء أنَّ وجهَ الحُسْن فيه أعظمُ من وجه الحُسْن في الأمور الحِسِّيَّة، وإن كان الحِسُّ

(1)

هو الغالب على النَّاس، وإنما غايةُ أكثرهم إدراكُ الحُسْن والمنفعة في الحِسِّيَّات، وتقديمُها وإيثارُها على مدارك العقول والبصائر؛ قال تعالى:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6 - 7].

ولو ذهبنا نذكر وجوهَ المحاسن المُودَعة في الشريعة لزادت على الألوف، ولعلَّ الله أن يُساعدَ بمُصَنَّفٍ في ذلك

(2)

، مع أنَّ هذه المسألة بابُه وقاعدتُه التي عليها بناؤه.

الوجه الثاني والأربعون: قولكم: «إنه سبحانه لا يتضرَّرُ بمعصية العبد، ولا ينتفعُ بطاعته، ولا تتوقَّفُ قدرتُه في الإحسان على فعلٍ يصدُر من العبد، بل كما أنعَم عليه ابتداءً فهو قادرٌ على أن ينعمَ عليه بلا توسُّطِ عمل»

(3)

.

(1)

(ت): «الحسن» . وهو تحريف.

(2)

لعله لم يتيسر له، إذ لم أر له ذكرًا عند مترجميه. وانظر:«بدائع الفوائد» (670)، و «ابن القيم» للشيخ بكر (295).

(3)

انظر: (ص: 983).

ص: 1068

فيقال: هذا حقٌّ، ولكن لا يلزمُ منه

(1)

أن لا تكون الشريعةُ والأمرُ والنهيُ معلومةَ الحُسْن عقلًا وشرعًا، ولا يلزمُ منه أيضًا عدمُ حُسْن التكليف عقلًا وشرعًا، فذِكرُكم هذا عديمُ الفائدة؛ فإنه لم يَقُل منازعوكم ولا غيرُهم: إنَّ الله سبحانه يتضرَّرُ بمعاصي العباد وينتفعُ بطاعاتهم، ولا إنه غيرُ قادرٍ على إيصال الإحسان إليهم بلا واسطة. ولكنَّ تركَ التكليف وتركَ العباد همَلًا كالأنعام لا يُؤمَرون ولا يُنهَون منافٍ لحكمته وحمده وكمال مُلكه وإلهيَّته، فيجبُ تنزيهه عنه، ومن نسَبه إليه فما قَدَرَه حقَّ قَدْره، وحكمتُه البالغةُ اقتضت الإنعامَ عليهم ابتداءً وبواسطة الإيمان، والواسطةُ من إنعامه عليهم أيضًا؛ فهو المُنْعِمُ بالوسيلة والغاية، وله الحمدُ والنِّعمةُ في هذا وهذا. يوضِّحُه:

الوجه الثالث والأربعون: وهو أنَّ إنعامَه عليه ابتداءً بالإيجاد وإعطاء الحياة والعقل والسَّمع والبصر والنِّعم التي سخَّرها له إنما فعَلها به لأجل عبادته إياه وشُكره له؛ كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقال تعالى:{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77]، وأصحُّ الأقوال في الآية أنَّ معناها: ما يصنعُ بكم وما يكترثُ بكم لولا عبادتُكم إياه

(2)

، فهو سبحانه لم يخلقكم إلا لعبادته.

فكيف يقالُ بعد هذا: إنَّ تكليفَه إياهم عبادتَه غيرُ حسنٍ في العقل، لأنه قادرٌ على الإنعام عليهم بالجزاء من غير توسُّط العبادة؟!

(1)

في الأصول: «فيه» . وهو تحريف.

(2)

(ق): «ما يصنع بكم ربي لولا عبادتكم إياه» .

ص: 1069

الوجه الرابع والأربعون: أنَّ قدرتَه على الشيء لا تنفي حكمتَه المانعة من وجوده؛ فإنه تعالى يَقْدِرُ على مقدوراتٍ تُمْنَعُ بحكمته، كقدرته على قيام السَّاعة الآن، وقدرته على إرسال الرُّسل بعد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقدرته على إبقائهم بين ظهور الأمَّة إلى يوم القيامة، وقدرته على إماتة إبليسَ وجنوده وإراحة العالَم منهم.

وقد ذكر سبحانه في القرآن قدرتَه على ما لا يفعلُه لحكمته في غير موضع؛ كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام: 65]، وقوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18]، وقوله:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 3 - 4]، أي: نجعلُها كخُفِّ البعير صفحةً واحدة، وقوله تعالى:{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13]، وقوله:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، وقوله:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118].

فهذه وغيرُها مقدوراتٌ له سبحانه، وإنما امتَنعت لكمال حكمته، فهي التي اقتضت عدمَ وقوعها، فلا يلزمُ من كون الشيء مقدورًا أن يكون حسنًا موافقًا للحكمة.

وعلى هذا، فقدرتُه تبارك وتعالى على ما ذكرتم لا تقتضي حُسْنَه وموافقتَه لحكمته، ونحن إنما نتكلَّمُ معكم في الثَّاني لا في الأوَّل، فالكلامُ في الحكمة ومقتضى

(1)

الحكمة والعناية غيرُ

(2)

الكلام في المقدور،

(1)

(ت، ق): «يقتضى» . وأهملت في (د). ولعل الأقرب ما أثبت.

(2)

رسمها ابن بردس في (د) رسمًا بلا إعجام، فرابني صنيعُه.

ص: 1070

فمتَعلَّقُ الحكمة شيءٌ ومتَعلَّقُ القدرة

(1)

شيء، ولكن أنتم إنما أُتِيتم من إنكار الحكمة، فلا يُمْكِنكم التفريقُ بين المُتَعلَّقَين، بل قد اعترفَ سلفُكم وأئمَّتكم بأنَّ الحكمةَ لا تخرُج عن صحَّة تعلُّق القدرة بالمقدور ومطابقته لها أو تعلُّق العلم بالمعلوم ومطابقته له، ولمَّا بنيتُم على هذا الأصل لم يُمْكِنكم الفرقُ بين مُوجَب الحكمة ومُوجَب القدرة، فتوعَّرت عليكم الطَّريق، وألجأتم أنفسَكم إلى أصعب مضيق.

الوجه الخامس والأربعون: قولكم: «إنه تعالى لو ألقى إلى العبد زِمامَ الاختيار، وتركه يفعلُ ما يشاء، جريًا على رُسوم طبعِه

(2)

المائل إلى لذيذ الشهوات، ثمَّ أجزل له في العطاء من غير حساب؛ كان أروَحَ للعبد، ولم يكن قبيحًا عند العقل»

(3)

.

فيقال لكم: ما تعنُون بإلقاء زِمام الاختيار إليه؟ أتعنُون به أنه لا يكلِّفه ولا يأمرُه ولا ينهاه، بل يجعلُه كالبهيمة السَّائمة المهمَلة؟ أم تعنُون به أنه يلقي إليه زمامَ الاختيار مع تكليفه وأمره ونهيه؟

فإن عنيتُم الأوَّل، فهو مِنْ أقبح شيءٍ في العقل وأعظمه نقصًا في الآدميِّ، ولو تُرِك ورسومَ طبعه لكانت البهائمُ أكملَ منه، ولم يكن مكرَّمًا مفضَّلًا على كثيرٍ ممَّن خلق الله تفضيلًا، بل كان كثيرٌ من المخلوقات ــ أو أكثرها ــ مفضَّلًا عليه، فإنه يكونُ مصدودًا عن كماله الذي هو مستعدٌّ له قابلٌ له، وذلك أسوأ حالًا وأعظمُ نقصًا ممَّا مُنِعَ كمالًا ليس قابلًا له.

(1)

(ت): «المقدور» .

(2)

(ت): «شؤم طبعه» . وكذا في الموضعين الآتيين.

(3)

انظر: (ص: 983).

ص: 1071

وتأمَّل حال الآدميِّ المُخَلَّى ورُسومَ طبعه، المتروكَ ودواعي هواه، كيف تجدُه من شرار الخليقة وأفسدها للعالم، ولولا من يأخذُ على يديه لأهلك الحرثَ والنَّسل، وكان شرًّا من الخنازير والذِّئاب والحيَّات؛ فكيف يستوي في العقل أمرُه ونهيُه بما فيه صلاحُه وصلاحُ غيره به، وتركُه وما فيه أعظمُ فساده وفساد النَّوع وغيره به؟! وكيف لا يكونُ هذا القولُ قبيحًا؟! وأيُّ قُبحٍ أعظمُ من هذا؟!

ولهذا أنكر الله سبحانه على من جوَّز عقلُه مثلَ هذا، ونزَّه نفسَه عنه، فقال تعالى:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]، قال الشافعي:«معطَّلًا، لا يُؤمَر ولا يُنهى» . وقيل: «لا يثابُ ولا يعاقَب»

(1)

.

وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]، ثمَّ نزَّه نفسَه عن هذا الظَّنِّ الكاذب، وأنه لا يليقُ به، ولا يجوزُ في العقول نسبةُ مثله إليه؛ لمنافاته لحكمته وربوبيَّته وإلهيَّته وحمدِه، فقال:{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116].

وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان: 38 - 39]، وفُسِّر الحقُّ بالثَّواب والعقاب، وفُسِّر بالأمر والنهي، وهذا تفسيرٌ له ببعض معناه؛ والصَّوابُ أنَّ الحقَّ هو إلهيَّته وحكمتُه المتضمِّنةُ للخلق والأمر والثَّواب والعقاب، فمَصْدَرُ ذلك كلِّه الحقُّ، وبالحقِّ وُجِد، وبالحقِّ قام، وغايتُه الحقُّ

(2)

، وبه قيامُه، فمحالٌ

(1)

انظر ما تقدم (ص: 17، 76، 887).

(2)

(ت): «وبالحق قام، وللحق وجد، والحق سببه وغايته» .

ص: 1072

أن يكون على غير هذا الوجه، فإنه يكونُ باطلًا وعبثًا، فتعالى الله عنه لمنافاته إلهيَّتَه وحكمتَه وكمال ملكه وحمده

(1)

.

وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190 - 191].

وتأمَّل كيف أخبَر سبحانه عنهم

(2)

بنفي الباطليَّة عن خلقه

(3)

، دون إثبات الحكمة؛ لأنَّ نفيَ الباطل

(4)

على سبيل العموم والاستغراق أوغَلُ في المعنى المقصود وأبلغُ من إثبات الحِكَم؛ لأنَّ بيان جميعها لا تَفِي به أفهامُ الخليقة، وبيانَ البعض يُؤذِن بتناهي الحكمة، ونفيُ البطلان والخلُوِّ عن الحكمة والفائدة يفيدُ أنَّ كلَّ جزءٍ من أجزاء العالم عُلويِّه وسُفليِّه متضمِّنٌ لحِكَمٍ جمَّةٍ وآياتٍ باهرة.

ثمَّ أخبَر سبحانه عنهم بتنزيهه عن الخلقِ باطلًا خِلْوًا عن الحكمة، ولا معنى لهذا التَّنزيه عند النُّفاة؛ فإنَّ الباطل عندهم هو المحالُ لذاته، فعلى قولهم نزَّهوه عن المحال لذاته الذي ليس بشيء، كالجمع بين النَّقيضين، وكَوْن الجسم الواحد لا يكونُ في مكانين. ومعلومٌ قطعًا أنَّ هذا ليس مرادَ

(1)

انظر: «مدارج السالكين» (1/ 98)، و «طريق الهجرتين» (522)، و «شفاء العليل» (555)، و «روضة المحبين» (95).

(2)

في الأصول: «عنه» . وستأتي على الصواب بعد قليل.

(3)

(ت): «فتأمل كيف أخذ سبحانه ينفي الباطلية عن خلقه» .

(4)

(ق): «لأن بيان نفي الباطل» .

ص: 1073

الرَّبِّ تعالى مما نزَّه نفسَه عنه، وأنه لا يُمْدَحُ أحدٌ بتنزيهه عن هذا، ولا يكونُ المنزِّه به مُثنِيًا ولا حامدًا، ولم يخطُر هذا بقلب بشرٍ حتى ينكره الله على من زعمه ونسَبه إليه.

وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان: 38 - 39]، فنفى اللَّعبَ عن خلقِه، وأثبتَ أنه إنما خلقهما بالحقِّ، فجمَع تعالى بين نفي اللَّعب الصَّادر عن غير حكمةٍ وغايةٍ محمودة، وإثباتِ الحقِّ المتضمِّن للحِكَم والغايات المحمودة والعواقب المحبوبة.

والقرآنُ مملوءٌ من هذا، بنفي العبث والباطل واللعب تارة، وتنزيه الرَّبِّ نفسَه عنه تارة، وإثبات الحِكَم الباهرة في خلقه تارة.

فكيف يجوزُ أن يقال: إنه لو عطَّل خلقَه وتركهم سُدًى لم يكن ذلك قبيحًا في العقل؟!

فإن عَنَيتم أنه يلقِي إليه زمامَ الاختيار مع أمره ونهيه، فهذا حقٌّ؛ فإنه جعله مختارًا مأمورًا منهيًّا، وإن كان اختيارُه مخلوقًا له تعالى، إذ هو من جملة الحوادث الصَّادرة عن خلقه، ولكنَّ هذا الاختيار لا ينافي التكليف، ولا يكونُ بوجه

(1)

، بل لا يصحُّ التكليفُ إلا به.

الوجه السَّادس والأربعون: قولكم: «فقد تعارض الأمران:

(1)

أي: لا يكون منافيًا بوجه. وفي (ق): «إلا بوجه» . وهو خطأ. وفي طرة (د): «لعله: ولا يكون الأمر بوجه» .

ص: 1074

أحدهما: أن يكلِّفهم؛ فيأمرَ وينهى حتى يطاع ويُعصى، ثمَّ يثيبهم ويعاقبهم.

الثَّاني: أن لا يكلِّفهم؛ إذ لا يتزيَّنُ منهم بطاعة، ولا تَشِينُه معصيتُهم.

وإذا تعارض في المعقول

(1)

هذان الأمران، فكيف يهتدي العقلُ إلى اختيار أحدهما حقًّا؟! فكيف يعرِّفنا الوجوبَ على نفسه بالمعرفة، وعلى الجوارح بالطَّاعة، وعلى الرَّبِّ تعالى بالثَّواب؟!»

(2)

.

فيقال لكم: لم يتعارض بحمد الله الأمران؛ لأنَّ أحدَهما قد عُلِمَ قبحُه في المعقول، والآخرَ قد عُلِمَ حسنُه في المعقول، فكيف يتعارض في العقل جواز الأمرين، وأن تكون نسبتُهما إلى الرَّبِّ تعالى نسبةً واحدة؟! وإنما تتعارض الجائزاتُ على حدٍّ

(3)

سواء، بحيث لا يترجَّحُ بعضها على بعض، فأمَّا الحُسْن والقُبح فلم يتعارض في العقل قطُّ استواؤهما.

وقد قرَّرنا بما لا مَدْفَع له قُبحَ التَّرك سُدًى بمنزلة الأنعام السَّائمة، وحُسْنَ الأمر والنهي واستصلاحهم في معاشهم ومعادهم، فكيف يقال: إنَّ هذين الأمرين سواءٌ في العقل بحيث يتعارضا فيه ويقضي باستوائهما بالنسبة إلى أحكم الحاكمين؟!

فإن قيل: إنما تعارضا في المقدُوريَّة؛ إذ نسبةُ القدرة إليهما واحدة.

قلنا: قد تقدَّم أنه لا يلزمُ من كون الشيء مقدورًا أن لا يكون ممتنعًا

(1)

في الموضع الماضي (ص: 984)، والآتي (ص: 1092): «العقول» .

(2)

انظر: (ص: 984).

(3)

في الأصول: «كل» . وهو تحريف.

ص: 1075

لمنافاته الحكمة؛ وقد بيَّنَّا ذلك قريبًا

(1)

، فيكون تركُهم همَلًا وسُدًى مقدورًا للرَّبِّ تعالى لا يقتضي معارضته لمقدوره الآخَر مِنْ تكليفهم وأمرهم ونهيهم.

الوجه السابع والأربعون: قولكم: «إذ لا يتزيَّنُ منهم بطاعةٍ ولا تَشِينُه معصيتُهم» .

قلنا: ومن الذي نازع في هذا؟! ولكنَّ حُسْنَ التكليف لا ينفي ذلك عن الرَّبِّ تعالى، وأنه إنما يكلِّفهم تكليفَ من لا يبلغوا ضرَّه فيضرُّوه ولا يبلغوا

(2)

نفعَه فينفعوه، وأنهم لو كانوا كلُّهم على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئًا، ولو كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منهم ما نقَص ذلك من ملكه شيئًا.

وهاهنا اختلفت الطُّرقُ بالنَّاس في علَّة التكليف وحكمته، مع كونه سبحانه لا ينتفِعُ بطاعتهم، ولا تضرُّه معصيتُهم:

* فسلكت الجبريَّة مسلكها المعروف، وأنَّ ذلك صادرٌ عن محض المشيئة وصِرْف الإرادة، وأنه لا علَّة له ولا ما يحثُّ عليه سوى محض الإرادة.

* وسلكت القَدَرِيَّة مسلكها المعروف، وهو أنَّ ذلك استئجارٌ منه لعبيده، لينالوا أجرَهم بالعمل، فيكون ألذَّ من اقتضائهم الثَّوابَ بلا عمل، لما فيه من تكدير المِنَّة.

(1)

(ص: 1070).

(2)

كذا في الأصول، بحذف النون.

ص: 1076

والمسلكان كما ترى! وحسبك ما يدلُّ عليه العقلُ الصريحُ والنقلُ الصحيحُ من بطلانهما وفسادهما.

* وليس عند النَّاس غيرُ هذين المسلكين إلا مسلك من هو خارجٌ عن الدِّيانات وأتباع الرُّسل، ممن يرى أنَّ الشرائع وُضِعَت نواميسَ تقومُ عليها مصلحةُ النَّاس ومعيشتُهم، وأنَّ فائدتها تكميلُ قوَّة النَّفس العملية وارتياضها، لتَخْرُجَ عن شَبه الأنعام، فتصيرَ مستعدةً لأن تكون محلًّا لقبول الفلسفة العليا والحكمة.

وهذا مسلكٌ خارجٌ عن مناهج الأنبياء وأممهم

(1)

.

* وأمَّا أتباعُ الرُّسل الذين هم أهلُ البصائر، فحكمةُ الله عز وجل في تكليفهم ما كلَّفهم به أعظمُ وأجلُّ عندهم مما يخطُر بالبال، أو يجري به المقال، ويشهدون له سبحانه في ذلك من الحِكَم الباهرة والأسرار العظيمة أكثر مما يشهدونه في مخلوقاته وما تضمَّنته من الأسرار والحِكَم.

ويعلمون ــ مع ذلك ــ أنه لا نسبة لما أطلَعهم سبحانه عليه من ذلك إلى ما طوى علمَه عنهم واستأثر به دونهم، وأنَّ حكمتَه في أمره ونهيه وتكليفهم أجلُّ وأعظمُ مما تطيقُه عقولُ البشر، فهم يعبدونه سبحانه بأمره ونهيه لأنه تعالى أهلٌ أن يُعْبَد، وأهلٌ أن يكون الحبُّ كلُّه له، والعبادةُ كلُّها له، حتى لو لم يخلُق جنَّةً ولا نارًا، ولا وَضَع ثوابًا ولا عقابًا؛ لكان أهلًا أن يُعْبَد أقصى ما تناله قدرةُ خلقِه من العبادة.

وفي بعض الآثار الإلهيَّة: «لو لم أخلُق جنَّةً ولا نارًا ألم أكُن أهلًا أن

(1)

وهو مسلك الفلاسفة.

ص: 1077

أُعْبَد؟!»

(1)

.

حتى إنه لو قُدِّر أنه لم يرسل رسلَه ولم ينزل كتبَه لكان في الفطرة والعقل ما يقتضي شكرَه وإفرادَه بالعبادة، كما [أنَّ] فيهما ما يقتضي تناولَ المنافع واجتنابَ المضارِّ، ولا فرق بينهما في الفطرة والعقل؛ فإنَّ الله فطر خليقتَه على محبته والإقبال عليه، وابتغاء الوسيلة إليه، وأنه لا شيء على الإطلاق أحبُّ إليها منه، وإن فسدت فِطرُ أكثر الخلق بما طرأ عليها مما اقتَطعها واجتالها عمَّا خُلِق فيها، كما قال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30].

فبيَّن سبحانه أنَّ إقامةَ الوجه ــ وهو إخلاصُ القصد، وبذلُ الوُسع لدينه، المتضمِّنُ محبتَه وعبادته، حنيفًا، مقبلًا عليه، معرضًا عما سواه ــ هو فطرتُه التي فَطَر عليها عبادَه، فلو خُلُّوا ودواعي فِطَرهم لما رَغِبُوا عن ذلك، ولا اختاروا سواه، ولكن غيِّرت الفِطرُ وأُفسِدت، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«ما من مولودٍ إلا يولدُ على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه، كما تُنْتَجُ البهيمةُ بهيمةً جَمْعاء، هل تحسُّون فيها مِنْ جَدعاء؟ حتى تكونوا أنتم تَجْدَعُونها»

(2)

، ثمَّ يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ} [الروم: 30 - 31].

(1)

نقله وهب بن منبه عن الزَّبور. انظر: «قوت القلوب» (2/ 111)، و «الإحياء» (4/ 302).

(2)

أخرجه البخاري (1358)، ومسلم (2658).

ص: 1078

و {مُنِيبِينَ} نُصِبَ على الحال من المفعول، أي: فَطَرهم منيبين إليه. والإنابةُ إليه تتضمَّنُ الإقبالَ عليه بمحبته وحده والإعراض عمَّا سواه.

وفي «صحيح مسلم»

(1)

عن عِيَاض بن حِمَار، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:«إنَّ الله أمرني أن أعلِّمكم ما جهلتم مما علَّمني في مقامي هذا ــ أنه قال ــ: كلُّ مالٍ نَحَلتُه عبدًا فهو له حلال، وإني خلقتُ عبادي حنفاء فأتتهم الشياطينُ فاجتالتهم عن دينهم، وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزِّل به سلطانًا، وحرَّمَت عليهم ما أحللتُ لهم» ؛ فأخبر سبحانه أنه إنما خلق عبادَه على الحنيفيَّة المتضمِّنة لكمال حبِّه، والخضوع له، والذُّلِّ له، وكمال طاعته وحده دونَ غيره.

وهذا من الحقِّ الذي خُلِقَت له، وبه قامت السَّمواتُ والأرض وما بينهما، وعليه قام العالم، ولأجله خُلِقت الجنةُ والنَّار، ولأجله أرسَل رسلَه وأنزل كتبَه، ولأجله أهلَك القرونَ التي خرجت عنه وآثرت غيرَه.

فكونُه سبحانه أهلًا أن يُعْبَد

(2)

ويُحَبَّ ويُحْمَد ويُثنى عليه أمرٌ ثابتٌ له لذاته، فلا يكونُ إلا كذلك، كما أنه الغنيُّ القادرُ الحيُّ القيُّومُ السَّميعُ البصير، فهو سبحانه الإلهُ الحقُّ المبين، والإلهُ هو الذي يستحقُّ أن يُؤْلَه محبةً وتعظيمًا، وخشيةً وخضوعًا، وتذلُّلًا وعبادة، فهو الإلهُ الحقُّ ولو لم يخلُق خلقَه، وهو الإلهُ الحقُّ ولم لم يعبدوه.

فهو المعبودُ حقًّا، الإلهُ حقًّا، المحمودُ حقًّا، ولو قُدِّر أنَّ خلقَه لم يعبدوه

(1)

(2865). وفي سياق المصنف تصرُّفٌ يسيرٌ واختصار.

(2)

(ت): «فإنه سبحانه أهل أن يعبد» .

ص: 1079

ولم يحمدوه ولم يَأْلَهوه، فهو الله الذي لا إله إلا هو قبل أن يخلقهم وبعد أن خلقهم وبعد أن يفنيهم، لم يَسْتَحْدِث بخلقه لهم ولا بأمره إياهم استحقاقَ الإلهية والحمد، بل إلهيتُه وحمدُه ومجدُه وغِناه أوصافٌ ذاتيةٌ له يستحيلُ مفارقتُها له، كحياته

(1)

ووجوده وقدرته وعلمه وسائر صفات كماله.

فأولياؤه وخاصَّتُه وحِزبُه لمَّا شَهِدت عقولهم وفِطرُهم أنه أهلٌ أن يُعْبَد وإن لم يرسِل إليهم رسولًا ولم ينزِّل عليهم كتابًا، ولو لم يخلُق جنةً ولا نارًا= علموا أنه لا شيء في العقول والفِطر أحسن من عبادته، ولا أقبح من الإعراض عنه.

وجاءت الرُّسلُ وأنزلت الكتبُ بتقرير ما استَودع سبحانه في الفِطر والعقول من ذلك، وتكميله، وتفصيله

(2)

، وزيادته حُسْنًا إلى حُسْنِه.

فاتفقت شريعتُه وفطرتُه، وتطابقَا وتوافقَا، وظهر أنهما من مشكاةٍ واحدة.

فعبدُوه وأحبُّوه ومجَّدوه وحمدُوه بداعي الفطرة وداعي الشرع وداعي العقل، فاجتمعَت لهم الدَّواعي ونادتهم من كلِّ جهة، ودَعَتهم إلى وليِّهم وإلههم وفاطرهم، فأقبلوا إليه بقلوبٍ سليمةٍ لم يعارِض خبَره عندها شبهةٌ توجبُ ريبًا وشكًّا، ولا أمرَه شهوةٌ توجبُ رغبتَها عنه وإيثارَها سواه.

فأجابوا دواعي المحبة والطَّاعة إذ نادت بهم: حيَّ على الفلاح، وبذلوا أنفسَهم في مرضاة مولاهم الحقِّ بَذْلَ أخي السَّماح، وحَمِدُوا عند الوصول

(1)

(ق، ت): «لحياته» . تحريف.

(2)

(د، ق): «وتفضيله» ، بالمعجمة. وهو تحريف.

ص: 1080

إليه مَسْراهم، وإنما يَحْمَدُ القومُ السُّرى عند الصَّباح، فدينُهم دينُ الحبِّ، وهو الدِّينُ الذي لا إكراه فيه، وسَيرُهم سَيرُ المحبِّين، وهو السَّيرُ الذي لا وقفةَ تعتريه.

إني أدِينُ بدين الحُبِّ ويحَكمُ

فذاك ديني ولا إكراه في الدِّينِ

ومن يكن دينُه كُرهًا فليس له

إلا العنَاءُ وإلا السَّيرُ في الطِّينِ

وما استوى سَيرُ عبد في محبته

وسَيرُ خالٍ من الأشواقِ في دينِ

فقُل لغير أخي الأشواق ويحكَ قد

غُبِنتَ حظَّكَ

(1)

لا تَغتَرَّ بالدُّونِ

نجائبُ الحُبِّ تعلُو بالمحبِّ إلى

أعلى المراتبِ مِن فوقِ السَّلاطينِ

وأطيبُ العيشِ في الدَّارينِ قد رَغِبَت

عنه التِّجَارُ فباعت بَيْعَ مغبونِ

فإن تُرِد علمَه فاقرأهُ ويحكَ في

آياتِ طهَ وفي آياتِ ياسينِ

(2)

ولا ريب أنَّ كمال العبوديَّة تابعٌ لكمال المحبة، وكمال المحبة تابعٌ لكمال المحبوب في نفسه، والله سبحانه له الكمالُ المطلقُ التَّامُّ من كلِّ وجه، الذي لا يعتريه توهُّمُ نقصٍ أصلًا

(3)

، ومَن هذا شأنُه فإنَّ القلوبَ لا يكونُ شيءٌ أحبَّ إليها منه ما دامت فِطرُها وعقولها سليمة، وإذا كان

(4)

أحبَّ الأشياء إليها فلا محالة أنَّ محبتَه توجبُ عبوديتَه وطاعتَه، وتتبُّعَ مرضاته، واستفراغ الجهد في التعبُّد له والإنابة إليه.

(1)

(ت): «حقك» .

(2)

البيت الأول لابن رَشِيق، في «الحماسة المغربية» (1040). وتتمة الأبيات أظنُّها من نسج المصنف.

(3)

(ت): «لا يعتريه توهم ولا نقص أصلا» .

(4)

في الأصول: «كانت» . وهو تحريف.

ص: 1081

وهذا الباعثُ أكملُ بواعث العبوديَّة وأقواها، حتى لو فُرِض تجرُّده عن الأمر والنهي والثَّواب والعقاب استَفرَغ الوُسعَ واستَخلَص القلبَ للمعبود الحقِّ

(1)

.

ومن هذا قولُ بعض السَّلف: «إنه ليَسْتَخْرِجُ حبُّه من قلبي ما لا يسْتَخْرِجُه خوفُه»

(2)

، ومنه قول عمر في صُهيب:«لو لم يَخَف اللهَ لم يَعْصِه»

(3)

.

وقد كان هذا هو الواجبَ على كلِّ عاقل، كما قال بعضهم:

هَبِ البَعْثَ لم تَأتِنا رُسْلُه

وجَاحِمَةُ النَّارِ لم تُضْرَمِ

أليسَ من الواجب المُسْتَحَقْـ

ـقِ طاعةُ ربِّ الورى الأكرمِ

(4)

(1)

في (ت) زيادة: «ومن هذا شأنه فهو المعبود الحق» .

(2)

(ق، ت): «ما لا يستخرجه قوله» . وهو تحريف. وقد سلف الأثر وتخريجه (ص: 821).

(3)

يعني: أنه لو لم يخف من الله لكان في قلبه من محبة الله وإجلاله ما يمنعه من معصيته. انظر: «طريق الهجرتين» (590)، و «بدائع الفوائد» (92)، و «مجموع الفتاوى» (10/ 64)، و «جامع المسائل» (3/ 315).

وقد اشتهر هذا الأثر في كلام الأصوليين وأصحاب المعاني وأهل العربية، وبعضهم يذكره مرفوعًا، وقال العراقي وغيره: لا أصل له. انظر: «المقاصد الحسنة» (526)، و «تدريب الراوي» (2/ 162).

وورد مرفوعًا بمعناه في سالم مولى أبي حذيفة. أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (1/ 177) من حديث عمر، ولا يصح. انظر:«السلسلة الضعيفة» (3179).

(4)

الأول للوزير المهلَّبي في «يتيمة الدهر» (2/ 285)، والثاني عنده:

أليس بكافٍ لذي فكرةٍ

حياءُ المسيء من المنعم

وأنشدهما ابن الجوزي في «المدهش» (699) دون نسبة.

ص: 1082

وقد قام النبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى تفطَّرت قدماه، فقيل له: تفعلُ هذا وقد غُفِرَ لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟! قال: «أفلا أكونُ عبدًا شكورًا؟»

(1)

، واقتَصر صلى الله عليه وسلم من جوابهم على ما تُدْرِكه عقولهم، وتنالُه أفهامهم، وإلا فمن المعلوم أنَّ باعثَه على ذلك الشُّكر أمرٌ يجِلُّ عن الوصف، ولا تنالُه العبارةُ ولا الأذهان.

فأين هذا الشُّهودُ مِنْ شُهود طائفة القَدَريَّة والجبريَّة؟!

فليعرِض العاقلُ اللبيبُ ذَينِك المشهدَين على هذا المشهد، ولينظُر ما بين الأمرين من التفاوت.

فالله سبحانه يُعْبَدُ ويُحْمَدُ ويُحَبُّ لأنه أهلٌ لذلك ومُستَحِقُّه، بل ما يستحقُّه سبحانه من عباده أمرٌ لا تنالُه قدرتهم ولا إرادتُهم، ولا تتصوَّره عقولهم، ولا يُمْكِنُ أحدٌ

(2)

من خلقِه قطُّ أن يعبُده حقَّ عبادته، ولا يوفِّيه حقَّه من المحبة والحمد.

ولهذا قال أفضلُ خلقه وأكملُهم وأعرفُهم به وأحبُّهم إليه وأطوعُهم له: «لا أحصي ثناءً عليك»

(3)

، وأخبَر أنَّ عملَه صلى الله عليه وسلم لا يستقلُّ بالنَّجاة، فقال:«لن يُنْجِي أحدًا منكم عملُه» ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: «ولا أنا إلا أن يتغمَّدني اللهُ برحمةٍ منه وفضل»

(4)

. فصلواتُ الله وسلامه عليه عَدَد ما خَلَق في السَّماء، وعَدَد ما خَلَق في الأرض، وعَدَد ما بينَهما، وعَدَد ما هو خالق.

(1)

أخرجه البخاري (1130)، ومسلم (2819) من حديث المغيرة بن شعبة.

(2)

كذا ضبطها ابن بردس في (د) بالرفع. كأنه على تضمين: يقدر، أو يستطيع.

(3)

أخرجه مسلم (486) من حديث عائشة.

(4)

أخرجه البخاري (6467)، ومسلم (2816) من حديث عائشة.

ص: 1083

وفي الحديث المرفوع المشهور أنَّ من الملائكة من هو ساجدٌ لله لا يرفعُ رأسَه منذ خُلِق، ومنهم راكعٌ لا يرفعُ رأسَه من الرُّكوع منذ خُلِق إلى يوم القيامة، وأنهم يقولون يوم القيامة: سبحانك ما عبدناك حقَّ عبادتك

(1)

.

ولمَّا كانت عبادتُه تعالى تابعةً لمحبته وإجلاله، وكانت المحبةُ نوعان

(2)

: محبةً تنشأ عن الإنعام والإحسان، فتُوجِبُ شكرًا وعبوديَّةً بحسب كمالها ونقصانها، ومحبةً تنشأ عن جمال المحبوب وكماله

(3)

، فتُوجِبُ عبوديَّةً وطاعةً أكمَل من الأولى= كان الباعثُ على الطاعة والعبوديَّة لا يخرُج عن هذين النَّوعين.

وأمَّا أن تقعَ الطَّاعةُ صادرةً عن خوفٍ محضٍ غير مقرونٍ بمحبة، فهذا قد ظنَّه كثيرٌ من المتكلِّمين، وهي عندهم غايةُ العارِف

(4)

، بناءً على أصلهم الباطل: أنَّ الله لا تتعلَّق المحبةُ بذاته، وإنما تتعلَّق بمخلوقاته مما هو في الجنَّة من النَّعيم؛ فهم لا يحبُّونه لذاته وكماله ولا لإحسانه، ويُنْكِرون محبتَه لذلك، وإنما المحبوبُ عندهم في الحقيقة غيرُه.

(1)

أخرجه محمد بن نصر في «تعظيم قدر الصلاة» (260)، وأبو الشيخ الأصبهاني في «العظمة» (515)، وغيرهما من حديث رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن كثير في «التفسير» (8/ 3662): «وهذا إسناد لا بأس به» .

وروي نحوه من حديث جابر وعبد الله بن عمرو.

(2)

كذا في الأصول. بالألف.

(3)

(ت): «ومحبة تنشأ عن كمال المحبوب» .

(4)

(ق): «المعارف» . وكلاهما محتمل. وانظر: «الصواعق المرسلة» (158)، و «مدارج السالكين» (3/ 124، 505).

ص: 1084

وهذا من أبطَل الباطل، وسنذكُر في القسم الثَّاني إن شاء الله من هذا الكتاب بطلانَ هذا المذهب من أكثر من مئة وجه

(1)

.

ولو عرَف القومُ صفاتِ الأرواح وأحكامَها لعلموا أنَّ طاعةَ من لا يُحَبُّ

(2)

وعبادتَه محال، وأنَّ من أتى بصورة الطَّاعة خوفًا مجرَّدًا عن الحبِّ فليس بمطيعٍ ولا عابد، وإنما هو كالمُكْرَه، أو كأجير السَّوء الذي إن أُعطِيَ عَمِل وإن لم يُعْطَ كَفَر وأبَق.

وسَيَرِدُ عليك بسطُ الكلام في هذا عن قريبٍ إن شاء الله

(3)

.

والمقصودُ أنَّ الطَّاعةَ والعبادة النَّاشئة عن محبة الكمال والجمال أعظمُ من الطَّاعة النَّاشئة عن رؤية الإنعام والإحسان، وفرقٌ عظيمٌ بين ما تعلَّق بالحيِّ الذي لا يموت، وبين ما تعلَّق بالمخلوق، وإن شَمِل النَّوعين اسمُ المحبة، ولكنْ كم بين من يحبُّك لذاتك وأوصافك وجمالك، وبين من يحبُّك لخَيْرِك ودراهمك؟!

فصل

والأسماء الحسنى والصِّفاتُ العُلى مقتضيةٌ لآثارها من العبوديَّة والأمر اقتضاءها لآثارها من الخلق والتكوين، فلكلِّ صفةٍ عبوديَّةٌ خاصَّةٌ هي من مُوجَباتها ومقتضياتها، أعني: مِنْ مُوجَبات العلم بها والتَّحقُّق

(4)

بمعرفتها.

(1)

لم يقع ذلك. وراجع ما كتبناه في المقدمة عن تقسيم الكتاب.

(2)

(ق): «تجب» . تحريف.

(3)

انظر التعليق المتقدم قبل قليل.

(4)

في الأصول: «والتحقيق» . والمثبتُ من (ط) أشبه.

ص: 1085

وهذا مطَّردٌ في جميع أنواع العبوديَّة التي على القلب والجوارح:

* فعِلمُ العبد بتفرُّد الرَّبِّ تعالى بالضُّرِّ والنَّفع، والعطاء والمنع، والخلق والرَّزق، والإحياء والإماتة= يُثمِرُ له عبوديَّة التَّوكُّل عليه باطنًا، ولوازمَ التَّوكُّل وثمراته ظاهرًا.

* وعِلمُه بسمعه تعالى وبصره وعِلمه

(1)

، وأنه لا يخفى عليه مثقالُ ذرَّةٍ في السَّموات ولا في الأرض، وأنه يعلمُ السِّرَّ وأخفى، ويعلمُ خائنةَ الأعيُن وما تخفي الصُّدور= يُثمِرُ له حِفظ لسانه وجوارحه وخَطراتِ قلبه عن كلِّ ما لا يرضي الله، وأن يجعل تعلُّق هذه الأعضاء بما يحبُّه الله ويرضاه؛ فيُثمِرُ له ذلك الحياءَ باطنًا، ويُثمِرُ له الحياءُ اجتنابَ المحرَّمات والقبائح.

* ومعرفتُه بغِناه وجوده، وكرمه وبِرِّه، وإحسانه ورحمته= توجبُ له سَعَة الرَّجاء، ويُثمِرُ له ذلك من أنواع العبوديَّة الظَّاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه.

* وكذلك معرفتُه بجلال الله وعظمته وعِزِّه تُثمِرُ له الخضوعَ

(2)

والاستكانة والمحبة، وتُثمِرُ له تلك الأحوالُ الباطنةُ أنواعًا من العبوديَّة الظَّاهرةِ هي مُوجَباتها.

* وكذلكَ عِلْمُه بكمالِه وجمالِه وصفاتِه العُلى يُوجِبُ له محبةً خاصَّةً تُثمِرُ له

(3)

أنواعَ العبوديَّة.

(1)

«وعلمه» ليست في (ت).

(2)

(ت): «الخضوع له» .

(3)

في الأصول: «بمنزلة» . وهو تحريف.

ص: 1086

فرجَعَت العبوديَّةُ كلُّها إلى مقتضى الأسماء والصِّفات، وارتبطت بها ارتباط الخلق بها؛ فخلقُه سبحانه وأمرُه هو مُوجَبُ أسمائه وصفاته في العالَم وآثارُها ومقتضاها، لا أنه يتزيَّنُ مِنْ عباده بطاعتهم، ولا تَشِينُه معصيتُهم.

وتأمَّل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصَّحيح الذي يرويه عن ربِّه تبارك وتعالى: «يا عبادي، إنكم لن تبلُغوا ضُرِّي فتضرُّوني، ولن تبلُغوا نفعي فتنفعوني»

(1)

، ذَكَر هذا عقبَ قوله:«يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفرُ الذُّنوبَ جميعًا، فاستغفروني أغفِر لكم» .

فتضمَّن ذلك أنَّ ما يفعلُه تعالى بهم، مِنْ غفران زلَّاتهم، وإجابة دعَواتهم، وتفريج كُرباتهم؛ ليس لجلْب منفعةٍ منهم، ولا لدفع مضرَّةٍ يتوقَّعها منهم، كما هو عادةُ المخلوق الذي ينفعُ غيرَه ليكافئه بنفعٍ مثله، أو ليدفع عنه ضررًا.

فالرَّبُّ تعالى لم يحسِن إلى عباده ليكافئوه، ولا ليدفعوا عنه ضررًا؛ فقال:«لن تبلُغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلُغوا ضُرِّي فتضرُّوني» ؛ إني

(2)

لستُ إذا هديتُ مُسْتَهْدِيكم، وأطعمتُ مُسْتَطْعِمَكم، وكسوتُ مُسْتَكْسِيكم، وأرويتُ مُسْتَسْقِيكم، وكفَيتُ مُسْتَكْفِيكم، وغفرتُ لمستَغْفِركم= بالذي أطلبُ منكم أن تنفعوني، أو تدفعوا عني ضررًا، فإنكم لن تبلُغوا ذلك، وأنا الغنيُّ الحميد.

(1)

أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذر.

(2)

(ت): «وإني» . وانظر: «مجموع الفتاوى» (18/ 193).

ص: 1087

كيف والخلقُ عاجزون عمَّا يَقْدِرُون عليه من الأفعال إلا بإقداره وتيسيره وخلقه، فكيف بما لا يَقْدِرون عليه؟!

فكيف يبلُغوا

(1)

نفعَ الغنيِّ الصَّمد الذي يمتنعُ في حقِّه أن يَسْتَجْلِبَ من غيره نفعًا أو يَسْتَدْفِعَ منه ضررًا، بل ذلك مستحيلٌ في حقِّه؟!

ثمَّ ذَكَر بعد هذا قوله: «يا عبادي، لو أنَّ أوَّلكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، ولو أنَّ أوَّلكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أفجَر قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما نقصَ ذلك من ملكي شيئًا» ؛ فبيَّن سبحانه أنَّ ما أمرهم به من الطَّاعات، وما نهاهم عنه من السيِّئات، لا يتضمَّنُ استجلابَ نفعهم، ولا استدفاعَ ضررهم؛ كأمر السيِّد عبدَه، والوالد ولدَه، والإمام رعيَّتَه، بما ينفعُ الآمرَ والمأمور، ونهيِهم عمَّا يضرُّ النَّاهي والمنهيَّ؛ فبيَّن تعالى أنه المنزَّه عن لحوق نفعهم وضرِّهم به، في إحسانه إليهم بما يفعلُه بهم، وبما يأمرُهم به.

ولهذا لمَّا ذَكَر الأصلَيْن بعد هذا، وأنَّ تقواهم وفجورَهم الذي هو طاعتُهم ومعصيتُهم لا يزيدُ في مُلكه شيئًا ولا ينقُصه، وأنَّ نسبة ما يسألونه كلُّهم إياه فيعطيهم إلى ما عنده كَلا نسبة؛ فتضمَّن ذلك أنه لم يأمرهم ولم يحسن إليهم بإجابة الدَّعوات، وغفران الزلَّات، وتفريج الكُربات، لاستجلاب منفعةٍ، ولا لاستدفاع مَضرَّة، وأنهم لو أطاعوه كلُّهم لم يزيدوا في مُلكه شيئًا، ولو عصَوه كلُّهم لم ينقُصوا من مُلكه شيئًا، وأنه الغنيُّ الحميد.

(1)

كذا في الأصول. بحذف النون.

ص: 1088

ومن كان هكذا فإنه لا يتزيَّنُ بطاعة عباده، ولا تَشِينُه معاصيهم، ولكن من له الحِكَمُ البوالغُ

(1)

في تكليف عباده وأمرِهم ونهيهم ما يقتضيه ملكُه التَّامُّ وحمدُه وحكمتُه، ولو لم يكن في ذلك إلا أنه يستوجِبُ من عباده شكرَ نِعَمه التي لا تحصى، بحسب قُواهم وطاقتهم، لا بحسب ما ينبغي له، فإنه أعظمُ وأجلُّ من أن يَقْدِر خلقُه عليه، ولكنه سبحانه يرضى من عباده بما تسمحُ به طبائعُهم وقُواهم.

فلا شيء أحسنُ في العقول والفِطر مِنْ شُكر المُنْعِم

(2)

، ولا أنفعُ للعبد منه.

فهذان مسلكان آخران في حُسْن التكليف والأمر والنهي:

أحدهما: يتعلَّق بذاته وصفاته، وأنه أهلٌ لذلك، وأنَّ جماله تعالى وكماله وأسماءه وصفاته تقتضي من عباده غايةَ الحبِّ والذُّلِّ والطَّاعة له.

الثَّاني: متعلِّقٌ بإحسانه وإنعامه، ولا سيَّما مع غِناه عن عباده، وأنه إنما يحسِنُ إليهم رحمةً منه وجودًا وكرمًا، لا لمعاوَضةٍ ولا لاستجلاب منفعةٍ ولا لدفع مضرَّة.

وأيُّ المسلكين سَلَكه العبدُ أوقعَه على محبته وبذلِ الجهد في مرضاته. فأين هذان المسلكان من ذَيْنِك المسلكين

(3)

؟!

وإنما أُتي القومُ من إنكارهم المحبة، وذلك الذي حَرَمهم من العلم

(1)

(ط): «ولكن له من الحكم البوالغ» .

(2)

(ت): «النعم» .

(3)

مسلكي القدرية والجبرية في علة التكليف وحكمته. وقد تقدَّما قريبًا.

ص: 1089

والإيمان ما حَرَمهم، وأوجبَ لهم سلوكَ تلك الطُّرق المسدودة، والله الفتَّاحُ العليم.

الوجه الثَّامن والأربعون: قولكم: «فلا تكونُ نِعَمُه تعالى ثوابًا، بل ابتداءً»

(1)

= كلامٌ يحتملُ حقًّا وباطلًا.

فإن أردتم به أنه لا يثيبُهم على أعمالهم بالجنَّة ونعيمها، ويجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون= فهو باطل، والقرآنُ أعظمُ شاهدٍ ببطلانه:

قال تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195]، وقال تعالى:{لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 35].

وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف: 13 ــ 14].

وقال تعالى: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 136]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ

(1)

انظر: (ص: 984).

ص: 1090

خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [العنكبوت: 58].

وهذا في القرآن كثير، يبيِّن أنَّ الجنَّة ثوابُهم وجزاؤهم، فكيف يقال: لا تكونُ نِعَمُه ثوابًا على الإطلاق؟! بل لا تكونُ نِعَمُه تعالى في مقابلة الأعمال والأعمالُ ثَمَنًا لها؛ فإنه لن يُدْخِل أحدًا الجنَّةَ عملُه، ولا يدخُلها أحدٌ إلا بمجرَّد فضل الله ورحمته.

وهذا لا ينافي ما تقدَّم من النُّصوص؛ فإنها إنما تدلُّ على أنَّ الأعمال أسبابٌ لا أعواضٌ وأثمان، والذي نفاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الدُّخول بالعمل هو نفيُ استحقاق العِوَض ببذل عِوَضِه؛ فالمثبَتُ باءُ السَّببيَّة، والمنفيُّ باءُ المعاوَضة والمقابَلة. وهذا فصلُ الخطاب في هذه المسألة

(1)

.

والقَدَرِيَّةُ الجبريَّةُ تنفي باءَ السَّببيَّة جملة، وتنكرُ أن تكون الأعمالُ سببًا في النَّجاة ودخول الجنَّة، وتلك النُّصوصُ وأضعافُها تُبْطِلُ قولَهم.

والقَدَريَّةُ النُّفاةُ تثبتُ باءَ المعاوَضة والمقابَلة، وتزعمُ أنَّ الجنَّة عِوَضُ الأعمال، وأنها ثمنٌ لها، وأنَّ دخولها إنما هو بمحض الأعمال، والنُّصوصُ النَّافيةُ لذلك تُبْطِلُ قولَهم.

والعقلُ والفِطرُ تُبْطِلُ قول الطَّائفتين، ولا يصحُّ في النُّصوص والعقول إلا ما ذكرناه من التَّفصيل، وبه يتبيَّن أنَّ الحقَّ مع الوَسَط بين الفِرَق في جميع المسائل، لا يستثنى من ذلك شيء، فما اختلفت الفِرَقُ إلا كان الحقُّ مع الوَسَط

(2)

.

(1)

انظر ما مضى (ص: 21) والتعليق عليه.

(2)

والقول الصواب في مسائل النزاع هو الوسط بين طرفين متباعدَيْن، كما قال المصنف في «روضة المحبين» (262). وانظر:«مدارج السالكين» (2/ 392)، و «الصلاة وحكم تاركها» (226).

وهذا الأصل كما هو في المسائل الخبرية العلمية، فكذلك هو في مسائل الفروع العملية. انظر:«مجموع الفتاوى» (21/ 141).

ص: 1091

وكلٌّ من الطَّائفتين معه حقٌّ وباطل:

فأصاب الجبريَّةُ في نفي المعاوَضة، وأخطؤوا في نفي السَّببيَّة.

وأصاب القَدَرِيَّةُ في إثبات السَّببيَّة، وأخطؤوا في إثبات المعاوَضة.

فإذا ضممتَ أحد نفيَي الجبريَّة إلى أحد إثباتَي القَدَرِيَّة، ونفيتَ باطلَهما؛ كنتَ أسعدَ بالحقِّ منهما.

فإن أردتم بأنَّ نِعَمه لا تكونُ ثوابًا هذا القَدْر، وأنها لا تكونُ عِوَضًا، بل هو المنعِمُ بالأعمال والثَّواب، وله المنَّةُ في هذا وهذا، ونعمتُه

(1)

بالثَّواب مِنْ غير استحقاقٍ ولا ثمنٍ يُعاوَضُ عليه، بل فضلٌ منه وإحسان= فهذا هو الحقُّ، فهو المانُّ بهدايته للإيمان، وتيسيره للأعمال، وإحسانه بالجزاء، كلُّ ذلك مجرَّدُ منَّته وفضله؛ قال تعالى:{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17].

الوجه التاسع والأربعون: قولكم: «وإذا تعارض في العقول هذان الأمران، فكيف يهتدي العقلُ إلى اختيار أحدهما؟!»

(2)

.

قلنا: قد تبيَّن ــ بحمد الله ــ أنه لا تعارض في العقول بين الأمرين أصلًا،

(1)

(ق): «ونعمه» .

(2)

انظر: (ص: 984).

ص: 1092

وإنما يُقَدَّرُ التعارضُ بين العقل والهوى، وأمَّا أن يتعارض في العقول إرشادُ العباد إلى سعادتهم في المعاش والمعاد، وتركُهم همَلًا كالأنعام السَّائمة لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا؛ فلم يتعارض هذان في عقلٍ صحيحٍ أبدًا.

الوجه الخمسون: قولكم: «فكيف يُعَرِّفنا العقلُ وجوبًا على نفسِه بالمعرفة، وعلى الجوارح بالطَّاعة وعلى الرَّبِّ بالثَّواب والعقاب؟!»

(1)

.

فيقال: وأيُّ استبعادٍ في ذلك؟! وما الذي يُحِيلُه؟! فقد عرَّفنا العقلُ من الواجبات عليه ما يقبُح من العبد تركُها، كما عرَّفنا وعرَّف أهلَ العقول وذوي الفِطَر التي لم تتواطأ على الأقوال الفاسدة وجوبَ الإقرار بالله وربوبيَّته وشكر نعمته ومحبته، وعرَّفنا قُبحَ الإشراك به والإعراض عنه ونسبته إلى ما لا يليقُ به، وعرَّفنا قُبحَ الفواحش والظُّلم والإساءة والفجور والكذب والبَهْت والإثم والبغي والعدوان.

فكيف يُسْتَبْعَدُ منه أن يعرِّفنا وجوبًا على نفسه بالمعرفة، وعلى الجوارح بالشُّكر المقدور المسْتَحْسَن في العقول، التي جاءت الشرائعُ بتفصيل ما أدركه العقلُ منه جملةً، وبتقرير ما أدركه منه تفصيلًا؟!

وأمَّا الوجوبُ على الله بالثَّواب والعقاب؛ فهذا مما تتباينُ فيه

(2)

الطَّائفتان أعظمَ تبايُن:

* فأثبتت القَدَرِيَّةُ من المعتزلة عليه تعالى وجوبًا عقليًّا وضعوه شريعةً

(1)

انظر: (ص: 984).

(2)

في الأصول: «تتباين منه» . والمثبت من (ط).

ص: 1093

له بعقولهم، وحرَّموا عليه الخروجَ عنه، وشبَّهوه في ذلك كلِّه

(1)

. وبدَّعهم في ذلك سائرُ الطَّوائف، وسفَّهوا رأيهم فيه، وبيَّنوا مُناقَضتَهم، وألزموهم بما لا محيدَ لهم عنه.

* ونفَت الجبريَّةُ أن يجبَ عليه ما أوجبه على نفسه ويحرُم عليه ما حرَّمه على نفسه، وجوَّزوا عليه ما يتعالى ويتنزَّه عنه وما لا يليقُ بجلاله مما حرَّمه على نفسه، وجوَّزوا عليه تركَ ما أوجبه على نفسه مما يتعالى ويتنزَّه عن تركه وفعلِ ضدِّه.

فتباينَ الطَّائفتان أعظمَ تبايُن.

* وهدى الله الذين آمنوا ــ أهلَ السُّنَّة الوَسط ــ للطَّريقة المثلى التي جاء بها رسولُه، ونزل بها كتابُه، وهي أنَّ العقول البشريَّة ــ بل وسائر المخلوقات ــ لا توجبُ على ربِّها شيئًا ولا تحرِّمه، وأنه يتعالى ويتنزَّه عن ذلك، وأمَّا ما كَتَبه على نفسه وحرَّمه على نفسه فإنه لا يُخِلُّ به، ولا يقعُ منه خلافُه، فهو إيجابٌ منه على نفسه بنفسه، وتحريمٌ منه على نفسه بنفسه، فليس فوقه تعالى مُوجِبٌ ولا محرِّم. وسيأتي إن شاء الله تعالى بسطُ ذلك وتقريرُه

(2)

.

الوجه الحادي والخمسون: قولكم: «إنه على أصول المعتزلة يستحيلُ الأمرُ والنهيُ والتكليف»

(3)

، وتقريرُكم ذلك= فكلامٌ لا مَطْعَن فيه، والأمرُ فيه كما ذكرتم، وأنَّ حقيقةَ قول القوم أنه لا أمرَ ولا نهيَ ولا شرعَ أصلًا؛ إذ

(1)

أي: بخلقه. تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.

(2)

انظر: (ص: 1136).

(3)

انظر: (ص: 984).

ص: 1094

ذلك إنما يصحُّ إذا ثبت قيامُ الكلام بالمُرْسِل الآمر النَّاهي وقيامُ الاقتضاء والطَّلب والحبِّ لما أمَر به والبغض لما نهى عنه.

فأمَّا إذا لم يثبُت له كلامٌ ولا إرادةٌ ولا اقتضاءٌ ولا طلبٌ ولا حبٌّ ولا بغضٌ قائمٌ به، فإنه لا يُعْقَلُ أصلًا كونُه آمرًا ولا ناهيًا، ولا باعثًا للرُّسل، ولا محبًّا للطَّاعة باغضًا للمعصية.

فأصولُ هذه الطَّائفة تعطلُ الصَّانع

(1)

عن صفات كماله، فإنها تستلزمُ إبطالَ الرِّسالة والنبوَّة جملةً، ولكن رُبَّ لازمٍ لا يلتزمُه صاحبُ المقالة، ويتناقضُ في القول بملزومه دونَ القول به، ولا ريبَ أنَّ فسادَ اللازم مستلزمٌ لفساد الملزوم.

ولكن يقالُ لكم معاشرَ الجبريَّة: لا تكونوا ممَّن يرى القذاةَ في عين أخيه ولا يرى الجِذْعَ المُعْتَرِض في عينه، فقد ألزمَتكم القَدَرِيَّةُ ما لا محيدَ لكم عنه، وقالوا: من نفى فعلَ العبد جملةً فقد عطَّل الشرائعَ والأمرَ والنهي؛ فإنَّ الأمرَ والنهيَ لا يتعلَّقُ إلا بالفعل المأمور به، فهو الذي يُؤمَرُ به ويُنهى عنه، ويثابُ عليه ويعاقَب، فإذا نفيتم فعلَ العبد فقد رفعتم متعلَّقَ الأمر والنهي، وفي ذلك إبطالُ الأمر والنهي، فلا فرقَ بين رفع المأمور به المنهيِّ عنه ورفع المأمور المنهيِّ نفسِه؛ فإنَّ الأمرَ يستلزمُ آمرًا ومأمورًا به، ولا تصحُّ له حقيقةٌ إلا بهذه الثَّلاث.

(1)

في الأصول: «الصفات» . ولعل الصواب ما أثبت. انظر: «الصواعق المرسلة» (819، 1111، 1121)، و «شفاء العليل» (447)، و «مدارج السالكين» (1/ 26).

ص: 1095

ومعلومٌ أنَّ أمرَ الآمِر [غيرَه]

(1)

بفعلِ نفسِه ونهيَه عن [فعلِ]

(2)

نفسِه يُبْطِلُ التكليفَ جملةً؛ فإنَّ التكليف لا يُعْقَلُ معناه إلا إذا كان المكلَّفُ قد كُلِّفَ بفعله [الذي] هو المقدورُ له، التَّابعُ لإرادته ومشيئته.

وأمَّا إذا رفعتم ذلك من البَيْن

(3)

، وقلتم: بل هو مكلَّفٌ بفعل الله حقيقةً، لا يدخُل تحت قدرة العبد، ولا هو متمكِّنٌ من الإتيان به، ولا هو واقعٌ بإرادته ومشيئته؛ فقد نفيتم التكليف جملةً من حيث أثبتموه، وفي ذلك إبطالٌ للشرائع والرِّسالة جملة.

قالوا: فليتأمَّل المنصفُ الفَطِنُ ــ لا البليدُ المتعصِّب ــ صحَّةَ هذا الإلزام، فلن يجد عنه محيدًا.

قالوا: فأنتم معاشرَ الجبريَّة قَدَرِيَّةٌ من حيث نفيُكم

(4)

الفعلَ المأمورَ به، فإن كان خصومكم قَدَرِيَّةً من حيث نفَوا تعلُّقَ القدرة القديمة، فأنتم أولى أن تكونوا قَدَرِيَّةً من حيث نفيتم فعلَ العبد له، وتأثيرَه فيه، وتعلُّقه بمشيئته، فأنتم أثبتُّم قَدَرًا على الله وقَدَرًا على العبد:

* أمَّا القَدَرُ على الله، فحيث زعمتم أنه تعالى يأمرُ بفعلِ نفسِه، وينهى عن فعلِ نفسِه. ومعلومٌ أنَّ ذلك لا يصلُح أن يكون مأمورًا به منهيًّا عنه، فأثبتُّم أمرًا ولا مأمورَ به، ونهيًا ولا منهيَّ عنه. وهذه قَدَرِيَّةٌ محضةٌ في حقِّ الرَّبِّ.

(1)

زيادة توضيحية. وانظر: «شفاء العليل» (226، 412، 413).

(2)

ساقطة من الأصول. وهي لازمة. وستأتي العبارة على الصواب.

(3)

أي: الوسط.

(4)

(ت): «نفيتم» .

ص: 1096

* وأمَّا في حقِّ العبد، فإنكم جعلتموه مأمورًا منهيًّا من غير أن يكون له فعلٌ يُؤمَرُ به ويُنهى عنه. فأيُّ قَدَرِيَّةٍ أبلغُ من هذه؟!

فمن الذي تضمَّن قولُه إبطالَ الشَّرائع وتعطيلَ الأوامر؟!

فليتنبَّه اللبيبُ لمَواقع

(1)

هذه المساجَلة، وسهام هذه المناضَلة، ثمَّ ليَخْتَر منهما إحدى خُطَّتين، ولا والله «ما فيهما حظٌّ لمختار»

(2)

.

ولا ينجو من هذه الوَرَطاتِ إلا من أثبت كلامَ الله القائمَ به، المتضمِّنَ لأمره ونهيه ووعده ووعيده، وأثبت له ما أثبت لنفسه من صفات كماله، ومن الأمور الثُّبوتيَّة القائمة به، ثمَّ أثبت مع ذلك فعلَ العبد واختيارَه ومشيئتَه وإرادتَه التي هي مناطُ الشرائع ومتعلَّقُ الأمر والنهي، فلا جَبْريٌّ ولا جهميٌّ ولا قَدَريٌّ.

وكيف يختارُ العاقلُ آراءً ومذاهبَ هذه بعض لوازمها؟! ولو صابَرها إلى آخرها لاستبانَ له من فسادها وبطلانها ما يتعجَّبُ معه من قائلها ومُنْتَحِلها، والله الموفِّق للصَّواب.

الوجه الثَّاني والخمسون: قولكم: «إنه ما مِن معنًى يُستَنبطُ من قولٍ أو فعلٍ ليُربَط به معنًى مناسبٌ له إلا ومن حيث العقلُ يعارضُه معنًى آخرُ يساويه في الدَّرجة أو يفضُل عليه في المرتبة، فيتحيَّر العقلُ في الاختيار، إلى أن يَرِدَ شرعٌ يختارُ أحدَهما أو يرجِّحُه من تلقائه، فيجبُ على العاقل اعتبارُه

(1)

في الأصول: «لمواقعة» . وهو تحريف.

(2)

اقتباسٌ من قول الأعشى:

فقال: ثكلٌ وغدرٌ أنت بينهما

فاختر، وما فيهما حظٌّ لمختار

ص: 1097

واختيارُه لترجيح الشَّرع له، لا لرجحانه في نفسه»

(1)

.

فيقال: إن أردتم بهذه المعارضة أنها ثابتةٌ في جميع الأفعال والأقوال المشتملة على الأوصاف المناسبة التي رُبِطت بها الأحكام ــ كما يدلُّ عليه كلامكم ــ؛ فدعوى باطلةٌ بالضرورة، وهي كذبٌ محضٌ. وكذلك إن أردتم أنها ثابتةٌ في أكثرها.

فأيُّ معارضةٍ في العقل للوصف القبيح في الكذب والفجور، والظُّلم وإهلاك الحرث والنَّسل، والإساءة إلى المحسنين، وضرب الوالدَيْن واحتقارهما والمبالغة في إهانتهما بلا جُرْم؟! وأيُّ معارضةٍ في العقل للأوصاف القبيحة في الشِّرك بالله ومشيئته وكفران نِعَمه؟! وأيُّ معارضةٍ في العقل للوصف القبيح

(2)

في أنواع الفواحش التي فُطِرَت العقولُ والفِطرُ على استقباحها؟! وأيُّ معارضةٍ في العقل للوصف القبيح في نكاح الأمَّهات واستفراشهنَّ كاستفراش الإماء والزَّوجات؟! إلى أضعاف أضعاف ما ذكرنا مما تَشْهَدُ العقول بقُبحه من غير مُعارِضٍ فيها.

بل نحن لا ننكرُ أن يكونَ داعي الشهوة والهوى وداعي العقل يتعارضان؛ فإن أردتم هذا التعارض فمُسَلَّمٌ، ولكن لا يُجْدِي عليكم إلا عكسَ مطلوبكم.

وكذلك أيُّ معارضةٍ في العقول للأوصاف المقتضية حُسْنَ عبادة الله وشكره، وتعظيمه وتمجيده، والثَّناء عليه بآلائه وإنعامه وصفات جلاله ونُعوت كماله، وإفراده بالمحبة والعبادة والتَّعظيم؟!

(1)

انظر: (ص: 986).

(2)

(ت): «وأي معارضة للقبيح» . والعبارة برمتها ليست في (ق).

ص: 1098

وأيُّ معارضةٍ في العقول للأوصاف المقتضية حُسْنَ الصِّدق والبِرِّ، والإحسان والعدل، والإيثار، وكشف الكُربات وقضاء الحاجات وإغاثة الَّلهَفات، والأخذ على أيدي الظَّالمين، وقَمْع المفسدين، ومنع البُغاة والمعتدين، وحِفظ عقول العالمين وأموالهم ودمائهم وأعراضهم بحسب الإمكان، والأمر بما يُصْلِحُها ويكمِّلها، والنهي عمَّا يُفْسِدُها وينقُصها؟!

وهذه حالُ جملة الشَّرائع وجمهورها، إذا تأمَّلها العقلُ جَزَم أنه يستحيلُ على أحكم الحاكمين أن يشرَع خلافَها لعباده.

وأمَّا إن أردتم أنَّ في بعض ما يَدِقُّ منها مسائلَ تتعارض فيها الأوصافُ المستنبَطةُ في العقول، فيتحيَّر العقلُ بين المناسب منها وغير المناسب؛ فهذا وإن كان واقعًا فإنه لا ينفي

(1)

حُسْنَها الذَّاتيَّ وقُبحَ منهيِّها الذَّاتي، وكونُ الوصف خفيَّ المناسبة والتَّأثير في بعض المواضع مما لا يَدْفَعُه. وهذه حالُ كثيرٍ من الأمور العقليَّة المحضة، بل الحِسِّيَّة.

وهذا الطِّبُّ مع أنه حِسِّيٌّ تجريبيٌّ تُدْرَكُ منافعُ الأغذية والأدوية وقُواها وحرارتُها وبرودتُها ورطوبتُها ويبوستُها فيه بالحِسِّ، ومع هذا فأنتم ترونَ اختلافَ أهله في كثيرٍ من مسائلهم في الشيء الواحد، هل هو نافعٌ كذا، ملائمٌ له أو منافرٌ مؤذٍ

(2)

؟ وهل هو حارٌّ أو بارد؟ وهل هو رطبٌ أو يابس؟ وهل فيه قوَّةٌ تصلُح لأمرٍ من الأمور أو لا قوَّة فيه؟

ومع هذا فالاختلافُ المذكورُ لا ينفي عند العقلاء ما جُعِلَ في الأغذية والأدوية من القُوى والمنافع والمضارِّ والكيفيَّات؛ لأنَّ سببَ الاختلاف

(1)

(ق): «فإنها لا تنفي» . وهو تحريف.

(2)

(ت، ق): «مود» .

ص: 1099

خفاءُ تلك الأوصاف على بعض العقلاء، ودِقَّتُها، وعجزُ الحِسِّ والعقل عن تمييزها ومعرفة مقاديرها والنِّسَب الواقعة بين كيفيَّاتها وطبائعها.

ولم يكن هذا الاختلافُ بمُوجِبٍ عند أحدٍ من العقلاء إنكارَ جملة العلم وجمهور قواعده ومسائله، ودعوى أنه ما مِنْ وصفٍ يُستنبَطُ من دواءٍ مفرَدٍ أو مركَّبٍ أو من غذاءٍ إلا وفي العقل ما يعارضه فيتحيَّر العقل! ولو ادَّعى هذا مُدَّعٍ لضَحِك منه العقلاء، بما عَلِمُوه بالضرورة والحسِّ من ملاءمة الأوصاف ومنافرتها، واقتضاءِ تلك الذَّوات للمنافع والمضارِّ في الغالب، ولا يكون اختلافُ بعض العقلاء يُوجِبُ إنكارَ ما عُلِمَ بالضرورة والحسِّ. فهكذا الشرائع.

الوجه الثالث والخمسون: إنَّ قولكم: «إذا قتَل إنسانٌ إنسانًا مثله عرَض للعقل هاهنا آراءٌ متعارضةٌ مختلفة

»

(1)

إلى آخره.

فيقال: إن أردتم أنَّ العقل يسوِّي بين ما شرَعه الله من القصاص وبين تركِه لمصلحة الجاني، فبَهْتٌ للعقل وكذبٌ عليه؛ فإنه لا يستوي عند عاقلٍ قطُّ حُسْنُ الاقتصاص من الجاني بمثل ما فَعَلَ وحُسْنُ تركِه والإعراض عنه، ولا يُعْلَمُ عقلٌ صحيحٌ يسوِّي بين الأمرين.

وكيف يستوي أمران: أحدُهما يستلزمُ فسادَ النَّوع، وخرابَ العالم، وتركَ الانتصار للمظلوم، وتمكينَ الجُناة من البغي والعدوان. والثَّاني يستلزمُ صلاحَ النَّوع، وعمارةَ العالم، والانتصارَ للمظلوم، ورَدْعَ الجُناة والبُغاة والمعتدين؟!

(1)

انظر: (ص: 986).

ص: 1100

فكان في القِصاص حياةُ العالَم وصلاحُ الوجود.

وقد نبَّه تعالى على ذلك بقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]، وفي ضِمْن هذا الخطاب ما هو كالجواب لسؤالٍ مقدَّر: أنَّ إعدام

(1)

هذه البِنْية الشريفة

(2)

، وإيلامَ هذه النَّفس وإعدامَها، في مقابلة إعدام المقتول تكثيرٌ لمفسدة القتل، فلأيَّة حكمةٍ صَدَرَ هذا ممَّن وَسِعَت رحمتُه كلَّ شيء، وبَهَرت حكمتُه العقول؟!

فتضمَّن الخطابُ جوابَ ذلك بقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ، وذلك لأنَّ القاتلَ إذا توهَّم أنه يُقْتَلُ قِصاصًا بمن قَتَله كَفَّ عن القتل وارتَدَع، وآثَر حُبَّ حياته ونفسِه؛ فكان فيه حياةٌ له ولمن أراد قتلَه.

ومن وجهٍ آخر؛ وهو أنهم كانوا إذا قُتِل الرَّجلُ من عشيرتهم وقبيلتهم قَتَلوا به كلَّ من وجدوه من عشيرة القاتل وحَيِّه وقبيلته، وكان في ذلك من الفساد والهلاك ما يَعُمُّ ضررُه، وتشتدُّ مُؤنتُه؛ فشرَع الله تعالى القِصاص، وأن لا يُقْتَل بالمقتول غيرُ قاتله، ففي ذلك حياةُ عشيرته وحَيِّه وأقاربه.

ولم تكن الحياةُ في القِصاص مِنْ حيث إنه قتلٌ، بل مِنْ حيث كونُه قِصاصًا يُؤخَذُ القاتلُ وحده بالمقتول، لا غيرُه.

فتضمَّن القِصاصُ الحياةَ في الوجهين جميعًا.

وتأمَّل ما تحت هذه الألفاظ الشَّريفة من الجلالة والإيجاز، والبلاغة والفصاحة، والمعنى العظيم:

(1)

في الأصول: «عدم» . والمثبت من (ط).

(2)

وهي جسم الإنسان. انظر: «نهاية الرتبة» للشيزري (97).

ص: 1101

* فصَدَّر الآيةَ بقوله: {وَلَكُمْ} المُؤْذِن بأنَّ منفعة القِصاص مختصَّةٌ بكم عائدةٌ إليكم، فشرعُه إنما كان رحمةً بكم وإحسانًا إليكم، فمنفعتُه ومصلحتُه لكم، لا لمن لا يبلغُ العبادُ ضرَّه ونفعَه.

* ثمَّ عقَّبه بقوله: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} إيذانًا بأنَّ الحياة الحاصلة إنما هي في العدل، وهو أن يُفْعَل به كما فَعَل.

والقصاصُ في اللغة: المماثلَة، وحقيقتُه راجعةٌ إلى الاتِّباع

(1)

. ومنه قوله: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11] أي: اتَّبعي أثرَه. ومنه قوله: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64] أي: يقُصَّان الأثرَ ويتَّبعانه. ومنه: قَصُّ الحديث واقتصاصُه؛ لأنه يَتْبَعُ بعضُه بعضًا في الذِّكر. فسمِّي جزاءُ الجاني قِصاصًا لأنه يُتَّبعُ أثرُه فيُفْعَلُ به كما فَعَل.

وهذا أحدُ ما يُسْتَدلُّ به على أن يُفْعَل بالجاني كما فَعَل، فيُقْتَل بمثل ما قَتَل به؛ لتحقيق معنى القِصاص.

وقد ذكرنا أدلَّة المسألة من الطَّرفين، وترجيحَ القول الرَّاجح بالنَّصِّ والأثر والمعقول في كتاب «تهذيب السُّنن»

(2)

.

* ونكَّر سبحانه الحياةَ تعظيمًا لها وتفخيمًا لشأنها، وليس المرادُ حياةً ما، بل المعنى أنَّ في القِصاص حصولَ هذه الحقيقة المحبوبة للنُّفوس، المُؤْثَرة عندها، المُسْتَحْسَنة في كلِّ عقل.

(1)

انظر: «مقاييس اللغة» (5/ 11).

(2)

(12/ 273). وانظر: «زاد المعاد» (4/ 84)، و «إعلام الموقعين» (1/ 318)، و «أحكام الجناية على النفس» للشيخ بكر أبو زيد (189 - 202، 204 - 228).

ص: 1102

والتَّنكيرُ كثيرًا ما يجيء للتَّعظيم والتَّفخيم، كقوله:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران: 133]، وقوله:{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72]، وقوله:{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4].

* ثمَّ خَصَّ أولي الألباب، وهم أولو العقول التي عَقَلَت عن الله أمرَه ونهيَه وحكمتَه؛ إذ هم المنتفعون بالخطاب.

ووازِن بين هذه الكلمات وبين قولهم: «القتلُ أنفى للقتل» ، تتبيَّنْ مقدارَ التَّفاوت وعظمةَ القرآن وجلالتَه

(1)

.

الوجه الرابع والخمسون: قولكم: «إنَّ القِصاصَ إتلافٌ بإزاء إتلاف، وعدوانٌ في مقابلة عدوان، ولا يحيا الأوَّلُ بقتل الثَّاني، ففيه تكثيرُ المفسدة بإعدام النَّفْسَيْن، وأمَّا مصلحةُ الرَّدع والزَّجر واستبقاء النَّوع فأمرٌ متوهَّم، وفي القِصاص استهلاكٌ محقَّق»

(2)

.

فيقال: هذا الكلامُ من أفسد الكلام وأبينه بطلانًا؛ فإنه يتضمَّنُ التَّسويةَ بين القبيح الذي اتفقت العقولُ والدياناتُ على قُبحه وفساده، وبين الحسَن

(3)

الذي اتفقت العقولُ والدياناتُ على حُسْنه وصلاح الوجود به.

(1)

انظر: «النكت في إعجاز القرآن» للرماني (77)، و «دلائل الإعجاز» (289)، و «تحرير التحبير» (468)، و «مقدمة تفسير ابن النقيب» (142)، و «سر الفصاحة» (312)، و «الصناعتين» (175)، و «الاعتقاد» للبيهقي (349)، و «الإتقان» للسيوطي (1395)، و «وحي القلم» للرافعي (3/ 397).

(2)

انظر: (ص: 987).

(3)

من قوله: «الذي اتفقت» إلى هنا ساقط من (ت، ق)؛ لانتقال النظر. وتصرف ناشر (ط) فأثبت موضعه: «والحسن ونفي حسن القصاص» .

ص: 1103

وهل يستوي في عقلٍ أو دينٍ أو فطرةٍ القتلُ ظلمًا وعدوانًا بغير حقٍّ والقتلُ قِصاصًا وجزاءً بالحقِّ؟!

ونظيرُ هذه التَّسوية

(1)

: تسويةُ المشركين بين الرِّبا والبيع؛ لاستوائهما في صورة العقد. ومعلومٌ أنَّ استواء الفعلَين في الصُّورة لا يُوجِبُ استواءهما في الحقيقة، ومدَّعي ذلك في غاية المكابرة.

وهل يدلُّ استواءُ السُّجود لله والسُّجود للصَّنم في الصُّورة الظَّاهرة ــ وهو وضعُ الجبهة على الأرض ــ على أنهما سواءٌ في الحقيقة، حتى يتحيَّر العقلُ بينهما، ويتعارضان فيه؟!

ويكفي في فساد هذا إطباقُ العقلاء قاطبةً على قُبح القتل الذي هو ظلمٌ وبغيٌ وعُدوان، وحُسْن القتل الذي هو جزاءٌ وقِصاصٌ ورَدْعٌ وزَجْر، والفرقُ بين هذين مثلُ الفرق بين الزِّنا والنكاح، بل أعظمُ وأظهَر، بل الفرقُ بينهما من جنس الفرق بين الإصلاح في الأرض والإفساد فيها، فما تَعارض في عقلٍ صحيحٍ قطُّ هذان الأمران حتى يتحيَّر بينهما أيهما يُؤثِرُه ويختارُه.

وقولكم: «إنه إتلافٌ بإزاء إتلاف، وعدوانٌ في مقابلة عدوان» ، فكذلك هو، لكن إتلافٌ حسَن، هو مصلحةٌ وحكمةٌ وصلاحٌ للعالم، في مقابلة إتلافٍ هو فسادٌ وسَفَهٌ وخرابٌ للعالم، فأنَّى يستويان؟! أم كيف يعتدلان، حتى يتحيَّر العقلُ بين الإتلاف الحسَن وتَرْكِه؟!

وقولكم: «لا يحيا الأوَّلُ بقتل الثَّاني» .

(1)

(ت): «المسألة» .

ص: 1104

قلنا: يحيا به عددٌ كثيرٌ من النَّاس؛ إذ لو تُرِك ولم يُؤْخَذ على يديه لأهلكَ النَّاسُ بعضُهم بعضًا، فإن لم يكن في قتل الثَّاني حياةٌ للأوَّل، ففيه حياةٌ للعالَم، كما قال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} ، ولكنَّ هذا المعنى لا يُدْرِكه حقَّ الإدراك إلا أولو الألباب.

فأين هذه الشريعةُ وهذه الحكمةُ وهذه المصلحةُ من هذا الهذيان الفاسد، وأن يقال: قتلُ الجاني إتلافٌ بإزاء إتلاف، وعدوانٌ في مقابلة عدوان، فيكونُ قبيحًا لولا الشَّرع؟!

فوازِن بين هذا وبين ما شرَعه الله وجَعَل مصالحَ عباده منُوطةً به.

وقولكم: «فيه تكثيرُ المفسدة بإعدام النَّفْسَيْن» .

فيقال: لو أعطيتم رُتَبَ المصالح والمفاسد حقَّها لم ترتضوا بهذا الكلام الفاسد؛ فإنَّ الشرائعَ والفِطرَ والعقولَ متَّفقةٌ على تقديم المصلحة الراجحة، وعلى ذلك قام العالَم، وما نحن فيه كذلك؛ فإنه احتمالٌ لمفسدة إتلاف الجاني إلى هذه المفسدة العامَّة. فمن تحيَّر عقلُه بين هاتين المفسدتين فلِفَسادٍ فيه!

والعقلاء قاطبةً متَّفقون على أنه يحسُن إتلافُ جزءٍ لسلامة كلٍّ؛ كقطع الإصبع أو اليد المتأكِّلة لسلامة سائر البدن، وكذلك يحسُن الإيلامُ لدفع إيلامٍ أعظمَ منه؛ كقطع العُروق وبَطِّ الخُرَاج

(1)

ونحوه، فلو طَرَد العقلاءُ قياسَكم هذا الفاسد، وقالوا: هذا إيلامٌ متحقِّقٌ لدفع إيلامٍ متوهَّم، لفَسَدَ البدنُ جملةً. ولا فرق عند العقول بين هذا وبين قياسكم في الفساد.

(1)

بَطَّ الجرحَ: شَقَّه. والخُراج (كالغُراب): ورمٌ يخرج في البدن. «اللسان» .

ص: 1105

الوجه الخامس والخمسون: قولكم: «إنَّ مصلحةَ الرَّدع والزَّجر وإحياء النَّوع أمرٌ متوهَّم» = كلامٌ بيِّنٌ فسادُه، بل هو أمرٌ متحقِّقٌ وقوعُه عادةً، ويدلُّ عليه ما نشاهدُه من الفساد العامِّ عند ترك الجُناة والمفسدين وإهمالهم وعدم الأخذ على أيديهم، والمتوهِّم من زَعَمَ أنَّ ذلك موهوم.

وهو بمثابة من دَهَمه العدوُّ، فقال: لا نعرِّض أنفسَنا لمشقَّة قتالهم، فإنه مفسدةٌ متحقِّقة، وأمَّا استيلاؤهم على بلادنا وسَبْيُهم ذرارينا وقتلُ مقاتِلَتنا فموهومٌ!

فياليت شِعْري .. من الموهومُ

(1)

المخطاء في وهمِه؟!

ونظيرُه أيضًا: أنَّ الرَّجلَ إذا تبيَّغ به الدَّم

(2)

، واضطُرَّ إلى إخراجه، أن لا يَعْرِض لشَقِّ جِلْده وقَطْع عُروقه؛ لأنه ألمٌ محقَّقٌ لأمرٍ موهوم!

ولو طُرِدَ هذا القياسُ الفاسدُ لخَرِبَ العالم، وتعطَّلت الشرائع.

والاعتمادُ في طلب مصالح الدَّارين ودفع مفاسدهما مبنيٌّ على هذا الذي سمَّيتموه أنتم موهومًا؛ فالعُمَّالُ في الدُّنيا إنما يتصرَّفون بناءً على الغالب المعتاد الذي اطَّردت به العادة، وإن لم يجزموا به؛ فإنَّ الغالبَ صِدقُ العادة واطِّرادُها عند قيام أسبابها:

فالتَّاجرُ يحتمِلُ مشقَّةَ السَّفر في البرِّ والبحر بناءً على أنه يَسْلَمُ ويَغْنَم، فلو طَرَدَ هذا القياسَ الفاسد، وقال:«السَّفرُ مشقَّةٌ متحقِّقة، والكسبُ أمرٌ موهوم» ، لتعطَّلت أسفارُ النَّاس بالكليَّة.

(1)

(ط): «الواهم» .

(2)

أي: هاجَ به، وذلك حين تظهرُ حمرتُه في البدن. «اللسان» .

ص: 1106

وكذلك عُمَّالُ الآخرة، لو قالوا:«تعبُ العملِ ومشقَّتُه أمرٌ متحقِّق، وحُسْنُ الخاتمة أمرٌ موهوم» ، لعطَّلوا الأعمالَ جملة.

وكذلك الأُجَراءُ والصُّنَّاعُ والملوكُ والجندُ وكلُّ طالب أمرٍ من الأمور الدُّنيويَّة أو الأخرويَّة، لولا بناؤه على الغالب وما جرت به العادةُ لما احتَمل المشقَّة المتيقَّنة لأمرٍ منتَظر.

ومِنْ هاهنا قيل: إنَّ إنكار هذه المسألة يستلزمُ تعطيلَ الدُّنيا والآخرة من وجوهٍ متعدِّدة.

الوجه السادس والخمسون: قولكم: «ويعارضُه معنًى ثالثٌ وراءهما فيفكِّر العقلُ: أيراعِي شروطًا أخرى وراء مجرَّد الإنسانية، من العقل والبلوغ، والعلم والجهل، والكمال والنَّقص، والقَرابة والأجنبية، فيتحيَّر العقلُ كلَّ التحيُّر، فلا بدَّ إذَن من شارعٍ يفصِّلُ هذه الخُطَّة، ويعيِّنُ قانونًا يطَّردُ عليه أمرُ الأمَّة، وتستقيمُ عليه مصالحهم»

(1)

.

فيقال: لا ريبَ أنَّ الشرائعَ تأتي بما لا تستقلُّ العقولُ بإدراكه، فإذا جاءت به الشريعةُ اهتدى العقلُ

(2)

حينئذٍ إلى وجه حُسْن مأموره وقُبح منهيِّه، فنبَّهَته

(3)

الشريعةُ على وجه الحكمة والمصلحة الباعثَين لشرعه.

فهذا مما لا يُنْكَر.

وهذا الذي قلنا فيه: إنَّ الشرائعَ تأتي بمَحَارات العقول لا بمُحَالات

(1)

انظر: (ص: 987).

(2)

(ت): «جاءت به الشرائع اهتدى به العقل» .

(3)

في الأصول: «فسرته» . وفي طرة (د): «لعله: فنبهته» . وهو ما أثبت.

ص: 1107

العقول، ونحن لم ندَّع ــ ولا عاقلٌ قطُّ ــ أنَّ العقلَ يستقلُّ بجميع تفاصيل ما جاءت به الشَّريعة بحيث لو تُرِك وحده لاهتدى إلى كلِّ ما جاءت به.

إذا عُرِفَ هذا، فغايةُ ما ذكرتم أنَّ الشريعةَ الكاملة اشترطت في وجوب القِصاص شروطًا لا يهتدي العقلُ إليها. وأيُّ شيءٍ يَلْزَمُ مِنْ هذا؟! وماذا يُنْتِجُ لكم

(1)

ومُنازِعوكم يسلِّمونه لكم؟!

وقولكم: «إنَّ هذا مُعارِضٌ للوصف المقتضي لثبوت القِصاص مِنْ قيام مصلحة العالم» ، إمَّا غفلةٌ عن شروط المعارَضة، وإمَّا اصطلاحٌ طارٍ سمَّيتم فيه ما لا يهتدي العقلُ إليه من شروط اقتضاء الوصف لمُوجَبه مُعارَضةً!

فيالله العَجب! أيُّ مُعارَضةٍ هاهنا إذا كان العقلُ والفطرةُ قد شَهِدا بحُسْنِ القتل قِصاصًا وانتظامِه للعالَم، وتوقَّفا في اقتضاء هذا الوصف: هل يُضَمُّ إليه شرطٌ آخرُ غيرُه أم يكفي بمجرَّده، وفي تعيينِ

(2)

تلك الشروط؟!

فأدرَك العقلُ ما استقلَّ بإدراكه، وتوقَّف عمَّا لا يستقلُّ بإدراكه حتى اهتدى إليه بنور الشريعة.

يوضِّحُ هذا:

الوجه السَّابعُ والخمسون: أنَّ ما وَرَدَت به الشريعةُ في أصل القِصاص وشروطه منقسمٌ إلى قسمين:

أحدهما: ما حُسْنُه معلومٌ بصريح العقل الذي لا يستريبُ فيه عاقل، وهو أصلُ القِصاص، وانتظامُ مصالح العالم به.

(1)

غير محررة في (د). وفي (ق، ت): «يقبح لكم» . والمثبت أشبه بالصواب.

(2)

(ت): «في تعيين» .

ص: 1108

والثَّاني: ما حُسْنُه معلومٌ بنظر العقل وفكره وتأمُّله، فلا يهتدي إليه إلا الخواصُّ، وهو ما اشترط اقتضاء هذا الوصف، أو جُعِل تابعًا له.

فاشترط له المكافأة في الدِّين؛ وهذا في غاية المراعاة للحكمة والمصلحة؛ فإنَّ الدِّين هو الذي فرَّق بين النَّاس في العِصمة، وليس في حكمة الله وحُسْن شرعِه أن يجعل دمَ وليِّه، وعبده، وأحبِّ خلقه إليه، وخير بريَّته، ومن خَلَقَه لنفسِه، واختصَّه بكرامته، وأهَّله لجواره في جنَّته، والنَّظر إلى وجهه، وسماع كلامه في دار كرامته= كَدَم عدوِّه، وأمقَتِ خلقِه إليه، وشرِّ بريَّته، والعادِل به

(1)

، العادِل

(2)

عن عبادته إلى عبادة الشيطان، الذي خَلَقه للنَّار، وللطَّرد عن بابه، والإبعاد عن رحمته.

وبالجملة؛ فحاشا حكمتَه أن تسوِّي بين دماء خير البريَّة ودماء شرِّ البريَّة في أخذِ هذه بهذه، سيَّما وقد أباح لأوليائه دماءَ أعدائه وجَعَلهم قرابينَ لهم، وإنما اقتضت حكمتُه أن يكفُّوا عنهم إذا صاروا تحت قَهْرهم وإذلالهم كالعبيد لهم، يؤدُّون إليهم الجِزيةَ التي هي خَراجُ رؤوسِهم

(3)

، مع بقاء السَّبب المُوجِب لإباحة دمائهم.

وهذا التَّركُ والكفُّ لا يقتضي استواءَ الدَّمَيْن عقلًا، ولا شرعًا، ولا مصلحة. ولا ريبَ أنَّ الدَّمَيْن قبل القهر والإذلال لم يكونا بمستويَيْن؛ لأجل الكفر، فأيُّ

(1)

أي: المسوِّي به غيرَه. قال سبحانه: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]. وانظر: «زاد المعاد» (3/ 229)، و «المدارج» (1/ 341)، و «إعلام الموقعين» (2/ 27).

(2)

ليست في (ت، ق).

(3)

ويسمى: مال الجماجم. انظر: «مفاتيح العلوم» (40).

ص: 1109

مُوجِبٍ لاستوائهما بعد الاستذلال، والكفرُ قائمٌ بعينِه؟! فهل في الحكمة وقواعد الشريعة ومُوجَبات العقول أن يكون الإذلالُ والقهرُ للكافر مُوجِبًا لمساواة دمه لدم المسلم؟! هذا مما تأباهُ الحكمةُ والمصلحةُ والعقول.

وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى، وكَشَف الغطاء، وأوضحَ المُشْكِل، بقوله:«المسلمون تتكافأُ دماؤهم»

(1)

، أو قال: «المؤمنون

»

(2)

؛ فعلَّق المكافأة بوصفٍ لا يجوزُ إلغاؤه وإهدارُه وتعليقُها بغيره؛ إذ يكونُ إبطالًا لما اعتبره الشارعُ واعتبارًا لما أبطَله، فإذا علَّق المكافأةَ بوصف الإيمان كان كتعليقه سائرَ الأحكام بالأوصاف؛ كتعليق القَطْع بوصف السَّرقة، والرَّجم بوصف الزِّنا، والجَلْدِ بوصف القَذف والشُّرب، ولا فرقَ بينهما أصلًا.

فكلُّ من علَّق الأحكامَ بغير الأوصاف التي علَّقها به الشارعُ كان تعليقُه منقطعًا مُنْصَرِمًا، وهذا مما اتفق أئمَّةُ الفقهاء على صحَّته.

فقد أدَّى نظرُ العقل إلى أنَّ دَمَ عدوِّ الله الكافر لا يساوي دَمَ وَلِيِّه، ولا يكافئه أبدًا، وجاء الشرعُ بمُوجَبه، فأيُّ معارضةٍ هاهنا؟! وأيُّ حَيْرة؟! إن هو إلا بصيرةٌ على بصيرة، ونورٌ على نور.

(1)

أخرجه أبو داود (2751)، وابن ماجه (2685)، وغيرهما من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بإسنادٍ حسن.

وخرَّجه ابن الجارود في «المنتقى» (771، 1073).

وأخرجه الطياليسي (2372) بلفظ: «المؤمنون تتكافأ

».

(2)

أخرجه أبو داود (4530)، والنسائي (4746)، وأحمد (1/ 119)، وغيرهم من طرقٍ عن علي. وصححه الحاكم (2/ 141) ولم يتعقبه الذهبي.

وصححه ابن حبان (5996) من حديث ابن عمر.

ص: 1110

وليس هذا مكانَ استيعاب الكلام على هذه المسألة

(1)

، وإنما الغرض التَّنبيهُ على أنَّ في صريح العقل الشهادةَ لما جاء به الشرعُ فيها.

فصل

وعكسُ هذا أنه لم يَشْترط المكافأةَ في علمٍ وجهل، ولا في كمالٍ وقُبح، ولا في شَرَفٍ وضَعَة، ولا في عقلٍ وجنون، ولا في أجنبيَّةٍ وقَرابة، خلا الوالدَ والولد.

وهذا من كمال الحكمة وتمام النِّعمة، وهو في غاية المصلحة؛ إذ لو رُوعِيَت هذه الأمورُ لتعطَّلت مصلحةُ القِصاص إلا في النَّادر البعيد؛ إذ قلَّ أن يستوي شخصان من كلِّ وجه، بل لا بدَّ من التَّفاوت بينهما في هذه الأوصافِ أو في بعضها؛ فلو أنَّ الشريعة جاءت بأن لا يُقْتَصَّ إلا مِنْ مُكافاءٍ مِنْ كلِّ وجه، لفسدَ العالَم، وعَظُمَ الهَرْج، وانتشر الفساد. ولا يجوزُ على عاقلٍ وضعُ هذه السِّياسة الجائرة، وواضِعُها إلى السَّفه أقربُ منه إلى الحكمة، فلا جَرَمَ أهدَرَت الشَّرائعُ اعتبارَ ذلك

(2)

.

وأمَّا الولدُ والوالدُ فمَنَعَ من جَرَيان القِصاص بينهما حقيقةُ البعضيَّة والجُزئيَّة

(3)

التي بينهما؛ فإنَّ الولد جزءٌ من الوالد، ولا يُقْتَصُّ لبعض أجزاء الإنسان من بعض، وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ

(1)

انظر: «التقريب لعلوم ابن القيم» (351)، و «أحكام الجناية على النفس» للشيخ بكر أبو زيد (167 - 173).

(2)

في الأصول: «(د: أهدررتك، ق: أهدتك، ت: أهدرتك) شرائع الاعتبار ذلك» . والأشبه ما أثبت.

(3)

(د): «والجزوية» . بتسهيل الهمز. وانظر ما مضى (ص: 1000).

ص: 1111

جُزْءًا} [الزخرف: 15]، وهو قولهم:«الملائكةُ بناتُ الله» ؛ فدلَّ على أنَّ الولدَ جزءٌ من والده.

وعلى هذا الأصل امتَنَعَت شهادتُه له، وقطعُه بالسَّرقة من ماله، وحَدُّه إياهُ

(1)

على قَذْفِه.

وعن هذا الأصل ذهبَ كثيرٌ من السَّلف ــ ومنهم الإمامُ أحمدُ وغيره ــ إلى أنَّ له أن يتملَّك ما شاء من مال ولده، وهو كالمباح في حقِّه.

وقد ذكرنا هذه المسألة مستقصاةً بأدلَّتها، وبيَّنَّا دلالةَ القرآن عليها من وجوهٍ متعدِّدةٍ في غير هذا الموضع

(2)

.

وهذا المأخذُ أحسنُ من قولهم: إنَّ الأبَ لمَّا كان هو السَّببَ في إيجاد الولد، فلا يكونُ الولدُ سببًا في إعدامه.

وفي المسألة مسلكٌ آخر، وهو مسلكٌ قويٌّ جدًّا، وهو أنَّ الله سبحانه جَعَل في قلب الوالد من الشَّفقة على ولده والحرص على حياتِه ما يُوازِي شفقتَه على نفسِه وحرصَه على حياة نفسِه، وربَّما يزيدُ على ذلك، فقد يُؤثِرُ الرَّجلُ حياةَ ولده على حياته، وكثيرًا ما يَحْرِمُ الرَّجلُ نفسَه حُظوظَها ويُؤثِرُ بها ولدَه، وهذا القَدْرُ مانعٌ من كونه يريدُ إعدامَه وإهلاكَه، بل لا يَقْصِدُ في الغالب إلا تأديبَه وعقوبتَه على إساءته؛ فلا يقعُ قتلُه في الأغلب عن قصدٍ وتعمُّد، بل عن خطأٍ وسَبْقِ يَدٍ.

وإذا وقعَ ذلك غلطًا أُلْحِقَ بالقتل الذي لم يُقْصَد به إزهاقُ النَّفس،

(1)

(ق، د): «أباه» . وهو تحريف.

(2)

انظر: «التقريب لعلوم ابن القيم» (286).

ص: 1112

فأسبابُ التُّهمة والعداوة الحاملة على القتل لا تكادُ توجدُ في الآباء، وإن وُجِدَت نادرًا فالعبرةُ بما اطَّردَت عليه عادةُ الخليقة.

وهنا للنَّاس طريقان:

أحدهما: أنَّا إذا تحقَّقنا التُّهمةَ وقصدَ القتلِ والإزهاق، بأن يُضْجِعَه ويذبحه ــ مثلًا ــ، أجرَينا القِصاصَ

(1)

بينهما؛ لتحقُّق قصدِ الجناية، وانتفاءِ المانع من القصاص. وهذا قولُ أهل المدينة

(2)

.

والثَّاني: أنه لا يجري القِصاصُ بينهما بحال، وإن تحقَّق قصدُ القتل؛ لمكان الجُزئيَّة والبعضيَّة المانعة من الاقتصاص من بعض أجزاء الإنسان لبعضه. وهو قولُ الأكثرين

(3)

.

ولا يَرِدُ عليهم قتلُ الولد بوالده، وإن كان بعضَه؛ لأنَّ الأبَ لم يُخْلَق من نطفة الابن، فليس الأبُ بجزءٍ له حقيقةً ولا حكمًا، بخلاف الولد فإنه جزءٌ حقيقةً.

وليس هذا موضعَ استقصاء الكلام على هذه المسائل؛ إذ المقصودُ بيانُ اشتمالها على الحِكَم والمصالح التي يُدْرِكُها العقلُ وإن لم يَسْتَقِلَّ بها، فجاءت الشريعةُ بها مقرِّرةً لما استقرَّ في العقل إدراكُه ولو من بعض الوجوه.

(1)

«القصاص» ساقطة من (ق).

(2)

انظر: «النوادر والزيادات» (14/ 33)، و «التفريع» (2/ 217)، و «عقد الجواهر الثمينة» (1096).

(3)

انظر: «مختصر اختلاف العلماء للطحاوي» للجصاص (5/ 106)، و «المغني» (11/ 483).

ص: 1113

وبعد النُّزول عن هذا المقام، فأقصى ما فيه أن يقال: إنَّ الشريعة جاءت بما يَعْجَزُ العقلُ عن إدراكه، لا بما يُحِيلُه العقل، ونحن لا ننكرُ ذلك، ولكن لا يَلْزَمُ منه نفيُ الحِكَم والمصالح التي اشتملت عليها الأفعالُ في ذواتها، والله أعلم.

الوجه الثَّامن والخمسون: قولكم: «وظَهَرَ بهذا أنَّ المعاني المستنبطةَ راجعةٌ إلى مجرَّد استنباط العقل، ووضعِ الذِّهن، من غير أن يكون الفعلُ مشتملًا عليها»

(1)

= كلامٌ في غاية الفساد والبطلان، لا يرتضيه أهلُ العلم والإنصاف، وتصوُّره حقَّ التصوُّر كافٍ في الجزم ببطلانه من وجوهٍ عديدة:

أحدها: أنَّ العقلَ والفطرةَ يشهدان ببطلانه، والوجود يكذِّبه؛ فإنَّ أكثر المعاني المستنبطة من الأحكام ليست من أوضاع الأذهان المجرَّدة عن اشتمال الأفعال عليها، ومُدَّعِي ذلك في غاية المكابرة التي لا تُجْدِي عليه إلا تَوْهِينَ المقالة.

وهذه المعاني المستنبطةُ من الأحكام موجودةٌ مشهودة، يعلمُ العقلاءُ أنها ليست من أوضاع الذِّهن، بل الذِّهنُ أدركها وعَلِمَها، وكان نسبةُ الذِّهن إلى إدراكها كنسبة البصر إلى إدراك الألوان وغيرها، وكنسبة السَّمع إلى إدراك الأصوات، وكنسبة الذَّوق إلى إدراك الطُّعوم، والشَّمِّ إلى إدارك الرَّوائح، فهل يسوغُ لعاقلٍ أن يدَّعيَ أنَّ هذه المُدْرَكاتِ من أوضاع الحواسِّ؟!

وكذلك العقلُ إذا أدرَك ما اشتملَ عليه الكذبُ والفجورُ وخرابُ العالم

(1)

انظر: (ص: 987).

ص: 1114

والظُّلمُ وإهلاكُ الحرث والنَّسل والزِّنا بالأمَّهات وغيرُ ذلك من القبائح، وأدرَك ما اشتملَ عليه الصِّدقُ والبِرُّ والإحسانُ والعدلُ وشُكرانُ المُنعِم والعِفَّةُ وفعلُ كلِّ جميلٍ من الحُسْن= لم تكن تلك المعاني التي اشتملت عليها هذه الأفعالُ مجرَّدَ وضع الذِّهن واستنباط العقل، ومُدَّعِي ذلك مَؤُوفٌ

(1)

في عقله؛ فإنَّ المعاني التي اشتملت عليها المنهيَّاتُ المُوجِبةُ لتحريمها أمورٌ ناشئةٌ من الأفعال ليست أوضاعًا ذهنيَّة، والمعاني التي اشتملت عليها المأموراتُ المُوجِبةُ لحُسْنها ليست مجرَّدَ أوضاعٍ ذهنيَّة، بل أمورٌ حقيقيَّةٌ ناشئةٌ من ذوات الأفعال تَرتُّبُ آثارِها عليها كترتُّب آثار الأدوية والأغذية عليها.

وما نظيرُ هذه المقالة إلا مقالةُ من يزعمُ أنَّ القُوى والآثار المستنبطة من الأغذية والأدوية لا حقيقة لها، إنما هي أوضاعٌ ذهنيَّة! ومعلومٌ أنَّ هذا بابٌ من السَّفْسَطة

(2)

.

فاعْرِض معاني الشريعة الكليَّة على عقلك، وانظر ارتباطَها بأفعالها وتعلُّقَها بها، ثمَّ تأمَّل هل تجدُها أمورًا حقيقيةً تنشأ من الأفعال، فإذا فُعِل الفعلُ نَشَأ منه أثرُه، أو تجدُها أوضاعًا ذهنيَّةً لا حقيقة لها؟

وإذا أردتَ معرفةَ بطلان المقالة فكرِّر النَّظر في أدلَّتها، فأدلَّتُها من أكبر الشواهد على بطلانها، بل العاقلُ يستغني بأدلة الباطل عن إقامة الدَّليل على بطلانه، بل نفسُ دليله هو دليلُ بطلانه.

(1)

أصابته آفة. وفي (د): «مقرز» . (ق، ت): «مقرر» . وهو تحريف. وانظر: «الصواعق المرسلة» (729، 916).

(2)

وهي عبارةٌ عن جحد الحقائق. كما تقدم (ص: 1019).

ص: 1115

الوجه الثَّاني: أنَّ استنباطَ العقول ووضعَ الأذهان لما لا حقيقة له من باب الخيالات والتَّقديرات التي لا يترتَّبُ عليها علمٌ ولا معلوم، ولا صلاحٌ ولا فساد؛ إذ هي خيالاتٌ مجرَّدة، وأوهامٌ مقدَّرة؛ كوضعِ الذِّهن سائرَ ما يضعُه من المقدِّرات الذِّهنيَّة.

ومعلومٌ أنَّ المعاني المستنبطة من الأحكام هي من أجلِّ العلوم، ومعلومُها من أشرف المعلومات وأنفعها للعباد، وهي منشأُ مصالحهم في معاشهم ومعادهم، وترتُّبُ آثارها عليها مشهودٌ في الخارج، معقولٌ في الفِطر، قائمٌ في المعقول، فكيف يُدَّعى أنه مجرَّدُ وضعٍ ذهنيٍّ لا حقيقة له به؟!

الوجه الثَّالث: أنَّ استنباطَ الذِّهن لما يستنبطُه من المعاني، واعتقادَه أنَّ الأفعال مشتملةٌ عليها، مع كون الأمر ليس كذلك= جهلٌ مركَّب، واعتقادٌ باطل؛ فإنه إذا اعتقد أنَّ الأفعال مشتملةٌ على تلك المعاني، وأنها مَنْشَؤها، وليس كذلك؛ كان اعتقادًا للشيء بخلاف ما هو به. وهذا غايةُ الجهل.

فكيف يُدَّعى هذا في أشرف العلوم وأزكاها وأنفعها وأعظمها تضمُّنًا لمصالح العباد في المعاش والمعاد؟! وهل هو إلا لُبُّ الشريعة ومضمونُها؟! فكيف يَسُوغُ أن يُدَّعى فيها هذا الباطلُ ويُرمى بهذا البهتان؟!

وبالجملة؛ فبطلانُ هذا القول أظهرُ من أن يُتَكلَّفَ ردُّه، ولم يقل هذا القولَ من شَمَّ للفقه رائحةً أصلًا.

الوجه التَّاسع والخمسون: قولكم: «لو كانت صفاتٍ نفسيَّةً للفعل لَزِمَ من ذلك أن تكون الحركةُ الواحدةُ مشتملةً على صفاتٍ متناقضةٍ وأحوالٍ متنافرة»

(1)

.

(1)

انظر: (ص: 987).

ص: 1116

فيقال: وما الذي يُحِيلُ أن يكون الفعلُ مشتملًا على صفتَين مختلفتَين تقتضي كلُّ منهما أثرًا غيرَ الأثر الآخر، وتكونُ إحدى الصِّفتَين والأثرَين أولى به، تكونُ مصلحتُه أرجح، فإذا رُتِّبَ على صفته الأخرى أثرُها فاتت المصلحةُ الراجحةُ المطلوبةُ شرعًا وعقلًا؟!

بل هذا هو الواقع، ونحن نجدُ هذا حِسًّا في قُوى الأغذية والأدوية ونحوها من صفات الأجسام الحِسِّية المُدْرَكة بالحِسِّ، فكيف بصفات الأفعال المُدْرَكة بالعقل؟

وأمثلةُ ذلك في الشريعة تزيدُ على الألْف.

فهذه الصَّلاةُ في وقت النهي: فيها مصلحةُ تكثير العبادة، وتحصيل الأرباح، ومزيد الثَّواب، والتقرُّب إلى ربِّ الأرباب، وفيها مفسدةُ المشابهة الصُّوريَّة

(1)

بالكفَّار وعُبَّاد الشمس

(2)

، وفي تركها مصلحةُ سَدِّ ذريعة الشِّرك، وفَطْم النُّفوس عن المشابهة بالكفَّار

(3)

حتى في وقت العبادة.

وكانت هذه المفسدةُ أولى بالصَّلاة في أوقات النهي من مصلحتها، فلو شُرِعَت لما فيها من المصلحة لفاتت مصلحةُ التَّرك، وحَصَلت مفسدةُ المشابهة التي هي أقوى من مصلحة الصَّلاة حينئذ.

ولمَّا

(4)

كانت مصلحةُ أداء الفرائض في هذه الأوقات أرجحَ من

(1)

ليست في (ت، ق).

(2)

(ق): «بالكفار في عبادة الشمس» . وانظر: «زاد المعاد» (4/ 78)، و «الداء والدواء» (309).

(3)

سقط من (ت) من الموضع الأول إلى هنا؛ لانتقال نظر الناسخ.

(4)

في الأصول: «ولهذا» . وهو تحريف.

ص: 1117

مفسدة المشابهة، بحيث انغمَرَت هذه المفسدةُ بالنسبة إلى الفريضة= لم يُمْنَع منها، بخلاف النَّافلة؛ فإنَّ في فعلها في غير هذه الأوقات غُنْيةً عن فعلها فيها، فلا تفُوتُ مصلحتُها، فيقعُ فعلُها في وقت النهي مفسدةً راجحة.

ومِنْ هاهنا جوَّز كثيرٌ من الفقهاء ذواتِ الأسباب في وقت النهي؛ لتَرجُّح مصلحتها؛ فإنها لا تُقْضى، ولا يمكنُ تداركُها، وكانت مفسدةُ تفويتها أرجحَ من مفسدة المشابهة المذكورة.

وليس هذا موضع استقصاء هذه المسألة

(1)

.

فما الذي يُحِيلُ اشتمالَ الحركة الواحدة على صفاتٍ مختلفةٍ بهذه المثابة، ويكونُ بعضها أرجحَ من بعض، فيُقْضى للرَّاجح عقلًا وشرعًا؟!

وعلى هذا المثال مسائلُ عامَّة الشريعة، ولولا الإطالةُ لكتبنا منها ما يبلغُ ألفَ مثال، والعالمُ ينتبهُ للجزئيَّات بالقاعدة الكليَّة.

الوجه الستُّون: قولكم: «وليس معنى قولنا: إنَّ العقلَ استنبطَ منها أنها كانت موجودةً في الشيء فاستخرجَها العقل، بل العقلُ تردَّد بين إضافات الأحوال بعضِها إلى بعض، ونِسَبِ الحركات والأشخاص نوعًا إلى نوع، وشخصًا إلى شخص، فطَرأ عليه من تلك المعاني ما حكيناه، وربَّما يبلُغ مبلغًا يَشِذُّ عن الإحصاء، فعُرِفَ أنَّ المعاني لم تَرجِع إلى الذَّات، بل إلى مجرَّد الخواطر، وهي متعارضة»

(2)

.

(1)

انظر: «إعلام الموقعين» (2/ 161، 342)، و «روضة المحبين» (134)، و «مجموع الفتاوى» (1/ 164، 23/ 186 - 217).

(2)

انظر: (ص: 987).

ص: 1118

فيقال: يا عجبًا لعقلٍ يَرُوجُ عليه مثلُ هذا الكلام، ويبني عليه مثلَ هذه القاعدة العظيمة! وذلك بناءٌ على شَفَا جُرُفٍ هار.

وقد تقدَّم ما يكفي في بطلان هذا الكلام، ونزيدُ هاهنا أنه كلامٌ فاسدٌ لفظًا ومعنًى؛ فإنَّ الاستنباط هو استخراجُ الشيء الثَّابت الخفيِّ الذي لا يَعْثُر عليه كلُّ أحد، ومنه: استنباطُ الماء؛ وهو استخراجُه من موضعه، ومنه قوله تعالى:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، أي: يستخرجون حقيقتَه وتدبيرَه بفطنتهم وذكائهم وإيمانهم ومعرفتهم بمواطن الأمن والخوف.

ولا يصحُّ معنًى إلا في شيءٍ ثابتٍ له حقيقةٌ خفيَّةٌ يستنبطُها الذِّهنُ ويستخرجُها، فأمَّا ما لا حقيقة له فإنه مجرَّدٌ ذِهنيٌّ

(1)

، فلا استنباط فيه بوجه، وأيُّ شيءٍ يُسْتَنْبَطُ منه؟! وإنما هو تقديرٌ وفَرْض، وهذا لا يسمَّى استنباطًا في عقلٍ ولا لغة.

وحينئذٍ، فيُقْلَبُ الكلامُ عليكم، ويكون من يَقْلِبُه أسعدَ بالحقِّ منكم، فنقول: وليس معنى قولنا: «إنَّ العقلَ استنبط من تلك الأفعال» أنَّ ذلك مجرَّدُ خواطرَ طارئة، وإنما معناه أنها كانت موجودةً في الأفعال، فاستخرجَها العقلُ باستنباطِه، كما يُسْتَخْرَجُ الماءُ الموجودُ في الأرض باستنباطِه. ومعلومٌ أنَّ هذا هو المعقولُ المُطابِقُ للعقل واللُّغة، وما ذكرتموه فخارجٌ عن العقل واللغة جميعًا.

فعُرِفَ أنه لا يصحُّ معنى الاستنباط إلا لشيءٍ موجودٍ يستخرجُه العقل،

(1)

في الأصول: «مجرد ذهنه» . تحريف. وانظر: «الصواعق المرسلة» (1324).

ص: 1119

ثمَّ ينسبُ إليه أنواع تلك الأفعال وأشخاصها، فأيُّها

(1)

كان أولى به حكم له بالاقتضاء والتَّأثير.

وهذا هو المعقول، وهو الذي يعرفُه الفقهاءُ والمتكلِّمون على مناسباتِ الشريعة وأوصافها وعِلَلِها التي تُرْبَطُ بها الأحكام، فلو ذَهَبَ هذا من أيديهم لانسَدَّ عليهم بابُ الكلام في القياس والمناسبات والحِكَم، واستخراجِ ما تضمَّنته الشريعةُ من ذلك، وتعليقِ الأحكام بأوصافها المقتضية لها، إذا كان مَرَدُّ الأمر

(2)

بزعمكم إلى مجرَّد خواطرَ طارئةٍ على العقل ومجرَّد وضعِ الذِّهن، وهذا من أبطل الباطل وأبيَن المُحال.

ولقد أنصفكم خصومُكم في ادِّعائهم عليكم لازمَ هذا المذهب، وقالوا: لو رُفِعَ الحُسْن والقُبح من الأفعال الإنسانيَّة، ورُدَّ إلى مجرَّد تعلُّق الخطاب بها، بَطَلَت المعاني العقليَّةُ التي تُستَنبطُ من الأصول الشرعيَّة، فلا يمكنُ أن يقاسَ فعلٌ على فعل، ولا قولٌ على قول، ولا يمكنُ أن يقال: لِمَ كذا؟ إذ لا تعليل للذَّوات، ولا صفات للأفعال هي عليها في نفس الأمر حتى ترتبط بها الأحكام.

وذلك رفعٌ للشَّرائع بالكليَّة مِنْ حيث إثباتُها، لا سيَّما والتعلُّق أمرٌ عَدَمِيٌّ، ولا معنى لحُسْن الفعل أو قُبحه إلا التعلُّقُ العدميُّ بينه وبين الخطاب، فلا حُسْنَ في الحقيقة ولا قُبحَ لا شرعًا ولا عقلًا، لا سيَّما إذا انضمَّ إلى ذلك نفيُ فعل العبد واختياره بالكليَّة، وأنه مجبُورٌ محض، فهذا فعلُه وذلك صفةُ فعلِه، فلا فِعلَ له ولا وصفَ لفعلِه

(3)

البتَّة.

(1)

(ق، د): «فانها» . (ت): «فانه» . وكله تحريف.

(2)

(ت): «يرد الأمر» .

(3)

ساقطة من (ت). وفي (د، ق): «لقوله» . وهو تحريف.

ص: 1120

فأيُّ تعطيلٍ ورفعٍ للشرائع أكثرُ من هذا؟!

فهذا إلزامُهم لكم، كما أنكم ألزمتموهم نظيرَ ذلك في نفي صفة الكلام، وأنصفتموهم في الإلزام.

الوجه الحادي والستُّون: قولكم: «لو ثبت الحُسن والقُبح العقليَّين

(1)

لتعلَّق بهما الإيجابُ والتَّحريمُ شاهدًا وغائبًا، واللازمُ محال، فالملزومُ كذلك

» إلى آخره

(2)

.

فنقول: الكلام هاهنا في مقامين:

أحدهما: في التَّلازُم المذكور بين الحُسْن والقُبح العقليَّين، وبين الإيجاب والتَّحريم غائبًا.

والثَّاني: في انتفاء اللازم وثبوته.

* فأمَّا المقام الأوَّل، فلمُثْبتي الحُسْن والقُبح طريقان:

أحدهما: ثبوتُ التَّلازُم والقولُ باللازم، وهذا القولُ هو المعروفُ عن المعتزلة، وعليه يُناظِرون، وهو القولُ الذي نَصَبَ خصومُهم الخلافَ معهم فيه.

والقول الثَّاني: إثباتُ الحُسْن والقُبح

(3)

، فإنهم يقولون بإثباته، ويصرِّحون بنفي الإيجاب قبل الشَّرع على العبد، وبنفي إيجاب العقل على الله شيئًا البتَّة؛ كما صرَّح به كثيرٌ من الحنفيَّة، والحنابلة كأبي الخطَّاب

(1)

كذا في الأصول. والصواب: العقليان.

(2)

انظر: (ص: 988).

(3)

أي: دون لازم التحريم والإيجاب غائبًا.

ص: 1121

وغيره، والشافعيَّة كسعد بن عليٍّ الزَّنجاني الإمام المشهور وغيره

(1)

.

ولهؤلاء في نفي الإيجاب العقليِّ في المعرفة بالله وثبوته خلاف.

فالأقوالُ إذَن أربعةٌ لا مزيد عليها

(2)

: أحدُها: نفيُ الحُسْن والقُبح

(3)

، ونفيُ الإيجاب العقليِّ في العمليَّات دون العِلْميَّات كالمعرفة، وهذا اختيارُ أبي الخطَّاب وغيره

(4)

.

فعُرِفَ أنه لا تلازُمَ بين الحُسْن والقُبح وبين الإيجاب والتَّحريم العقليَّين.

فهذا أحدُ المقامين.

* وأمَّا المقام الثَّاني، وهو انتفاءُ اللازم وثبوتُه، فللنَّاس فيه هاهنا ثلاثةُ طرق:

أحدها: التزامُ ذلك، والقولُ بالوجوب والتَّحريم العقليَّين شاهدًا وغائبًا. وهذا قولُ المعتزلة.

وهؤلاء يقولون بترتُّب الوجوب شاهدًا، وبترتُّب المدح والذَّمِّ عليه.

وأمَّا العقابُ، فلهم فيه اختلافٌ وتفصيل، ومن أثبتَه منهم لم يُثْبِته على الوجوب الثَّابت بعد البعثة، ولكنهم يقولون: إنَّ العذابَ الثَّابتَ بعد

(1)

انظر ما تقدم (ص: 963، 964) والتعليق عليه.

(2)

الثلاثة المتقدمة (نفي الحسن والقبح، وإثباتهما مع التزام الإيجاب العقلي، وإثباتهما مع نفي الإيجاب العقلي مطلقًا)، والرابع هو الآتي.

(3)

كذا في الأصول. وهو سبقُ قلم أو تحريف. والصواب: إثبات الحسن والقبح.

(4)

انظر ما تقدم (ص: 963) والتعليق عليه.

ص: 1122

الإيجاب الشرعيِّ نوعٌ آخرُ غيرُ العذاب الثَّابت على الإيجاب العقليِّ. وبذلك يجيبون عن النُّصوص النَّافية للعذاب قبل البعثة.

وأمَّا الإيجابُ والتَّحريمُ العقليَّان غائبًا، فهم مصرِّحون بهما، ويفسِّرون ذلك باللُّزوم الذي أوجبَته حكمتُه وحرَّمَته، وأنه يستحيلُ عليه خلافُه، كما يستحيلُ عليه الحاجةُ والنَّومُ والتَّعبُ واللُّغوب.

فهذا معنى الوجوب والامتناع في حقِّ الله عندهم، فهو وجوبٌ اقتضته ذاتُه وحكمتُه وغِناه، وامتناعٌ يستحيلُ عليه الاتصافُ به؛ لمنافاته كمالَه وغِناه.

قالوا: وهذا في الأفعال نظيرُ ما تقولونه

(1)

في الصِّفات أنه يجبُ له كذا، ويمتنعُ عليه كذا، فقولنا نحنُ في الأفعال نظيرُ قولكم في الصِّفات، ما يجبُ له منها وما يمتنعُ عليه، فكما أنَّ ذلك وجوبٌ وامتناعٌ ذاتيٌّ يستحيلُ عليه خلافُه، فهكذا ما تقتضيه حكمتُه وتأباه وجوبٌ وامتناعٌ يستحيلُ عليه الإخلالُ به، وإن كان مقدورًا له، لكنه لا يُخِلُّ به؛ لكمال حكمته وعلمه وغِناه.

والفرقةُ الثَّانية منَعت ذلك جملةً، وأحَالت القولَ به

(2)

، وجوَّزت على الرَّبِّ تعالى كلَّ شيءٍ ممكن، ورَدَّت الإحالةَ والامتناعَ في أفعاله إلى غير الممكن من المُحالات؛ كالجمع بين النَّقيضين، وبابِه

(3)

.

فقابلوا المعتزلةَ أشدَّ مقابلة، واقتسما طَرَفي الإفراط والتفريط.

(1)

في الأصول: «يقولونه» . وهو خطأ.

(2)

(ت): «وأحالت العقول به» .

(3)

أي: باب الجمع بين النقيضين.

ص: 1123

ورَدَّ هؤلاء الوجوبَ والتَّحريمَ الذي جاءت به النُّصوصُ إلى مجرَّد صِدقِ المُخْبِر، فما أخبَر بأنه يكونُ فهو واجب؛ لتصديق خبرِه، وما أخبَر أنه لا يكونُ فهو ممتنع؛ لتصديق خبرِه. فالوجوبُ والتحريمُ عندهم راجعٌ إلى مطابقة

(1)

العلم لمعلومه، والمُخْبَر لخبره.

وقد يفسِّرون التَّحريمَ بالامتناع عقلًا، كتحريم الظُّلم على نفسه؛ فإنهم يفسِّرون الظُّلمَ بالمستحيل لذاته، كالجمع بين النَّقيضين، وليس عندهم في المقدور شيءٌ هو ظلمٌ يتنزَّهُ الله عنه مع قدرته عليه، لغِناهُ وحكمته وعدله.

فهذا قولُ هؤلاء.

والفرقةُ الثَّالثة هم الوَسَطُ بين هاتين الفرقتين:

فإنَّ الفرقة الأولى أوجَبَت على الله شريعةً بعقولها، وحرَّمت عليه وأوجَبَت ما لم يحرِّمه على نفسه ولم يُوجِبه على نفسه.

والفرقة الثَّانية جوَّزت عليه ما يتعالى ويتنزَّه عنه؛ لمنافاته حكمتَه وحمدَه وكمالَه.

والفرقة الوَسَط أثبتَت له ما أثبته لنفسه من الإيجاب والتَّحريم الذي هو مقتضى أسمائه وصفاته، الذي لا يليقُ به نسبتُه إلى ضدِّه؛ لأنه مُوجَبُ كماله وحكمته وعدله، ولم تُدْخِله تحت شريعةٍ وضعَتها بعقولها كما فعلت الفرقةُ الأولى، ولم تجوِّز عليه ما نزَّه نفسَه عنه كما فعلته الفرقةُ الثَّانية.

قالت الفرقةُ الوَسَط: قد أخبَر تعالى أنه حرَّم الظُّلمَ على نفسه، كما قال

(1)

من قوله: «خبره وما أخبر

» إلى هنا ساقطٌ من (ق).

ص: 1124

على لسان رسوله: «يا عبادي، إني حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي»

(1)

، وقال:{وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، وقال:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصِّلت: 46]، وقال:{وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 49]، وقال:{وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31]؛ فأخبَر عن تحريمه على نفسه، ونفى عن نفسه فِعلَه وإرادتَه.

وللنَّاس في تفسير هذا الظُّلم ثلاثةُ أقوال

(2)

، بحسب أصولهم وقواعدهم:

أحدها: أنَّ الظُّلمَ الذي حرَّمه وتنزَّه عن فعله وإرادته هو نظيرُ الظُّلم من الآدميِّين بعضِهم لبعض

(3)

، وشبَّهوه في الأفعال ــ ما يحسُن منها وما لا يحسُن ــ بعباده، فضربوا له مِنْ قِبَل أنفسِهم الأمثال، وصاروا بذلك مشبِّهةً ممثِّلةً في الأفعال.

فامتنعوا من إثبات المثَل الأعلى الذي أثبته لنفسه، ثمَّ ضربوا له الأمثال ومثَّلوه في أفعاله بخلقه، كما أنَّ الجهميَّة المعَطِّلة امتنعت من إثبات المثَل الأعلى الذي أثبته لنفسه، ثمَّ ضربوا له الأمثالَ ومثَّلوه في صفاته بالجمادات النَّاقصة، بل بالمعدومات.

وأهلُ السنَّة نزَّهوه عن هذا وهذا، وأثبتوا له ما أثبته لنفسه من صفات

(1)

أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذر.

(2)

انظر: «شرح حديث أبي ذر» ضمن «مجموع الفتاوى» (18/ 137)، و «جامع الرسائل» (1/ 121)، و «منهاج السنة» (1/ 134، 2/ 304، 3/ 20، 5/ 96).

(3)

وهذا قول المعتزلة. انظر: «المغني» للقاضي عبد الجبار (6/ 127)، و «شرح الأصول الخمسة» (345).

ص: 1125

الكمال، ونزَّهوه فيها عن الشَّبَه والمِثَال، فأثبتوا له المثَل الأعلى، ولم يَضْرِبوا له الأمثال، فكانوا أسعدَ الطَّوائف بمعرفته، وأحقَّهم بالإيمان به وبولايته ومحبته، وذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء.

ثمَّ التزم أصحابُ هذا التَّفسير عنه من اللوازم الباطلة ما لا قِبَل لهم به:

قالوا عن هذا التفسير الباطل

(1)

: إنه تعالى إذا أمَر العبدَ ولم يُعِنْهُ بجميع مَقْدُوره تعالى من وجوه الإعانة كان ظالمًا له.

والتزموا لذلك: أنه لا يَقْدِرُ أن يهديَ ضالًّا، كما قالوا: إنه لا يَقْدِرُ أن يُضِلَّ مهتديًا.

وقالوا عنه أيضًا: إنه إذا أمَر اثنين بأمرٍ واحد، وخَصَّ أحدهما بإعانته على فعل المأمور، كان ظالمًا.

وقالوا عنه أيضًا: إنه إذا اشترك اثنان في ذنبٍ يُوجِبُ العقاب، فعاقبَ به أحدَهما، وعفا عن الآخَر، كانَ ظالمًا.

إلى غير ذلك من اللوازم الباطلة التي جَعَلوا لأجلها تركَ تسويته بين عباده في فضله وإحسانه ظلمًا.

فعارضهم أصحابُ التفسير الثَّاني، وقالوا: الظُّلمُ المنزَّه عنه من الأمور الممتنعة لذاتها، فلا يجوزُ أن يكون مقدورًا، ولا أنه تعالى ترَكه بمشيئته واختياره، وإنما هو من باب الجمع بين الضِّدَّين، وجَعْل الجسم الواحد في مكانَين، وقَلْب القديم مُحْدَثًا والمُحْدَث قديمًا، ونحو ذلك، وإلا فكلُّ ما يقدِّرُه الذِّهنُ، وكان وجودُه ممكنًا، والربُّ قادرٌ عليه؛ فليس بظُلمٍ، سواءٌ

(1)

الفعل «قالوا» مُضَمَّنٌ معنى «التزَموا» .

ص: 1126

فعَله أو لم يفعله

(1)

.

وتلقَّى هذا القولَ عنهم طوائفُ من أهل العلم

(2)

، وفسَّروا الحديثَ به وأسنَدوا ذلك وقوَّوهُ بآياتٍ وآثارٍ زعموا أنها تدلُّ عليه:

كقوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118]، يعني لم تتصرَّف في غير مُلكِك، بل إن عذَّبتَ عذَّبتَ من تملِك.

وعلى هذا، فجوَّزوا تعذيبَ كلِّ عبد له ولو كان محسِنًا، ولم يرَوا ذلكَ ظلمًا.

وبقوله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].

وبقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله لو عذَّبَ أهلَ سماواته وأهلَ أرضه لعذَّبهم وهو غيرُ ظالمٍ لهم»

(3)

.

وبقوله صلى الله عليه وسلم في دعاء الهمِّ والحزن: «اللهمَّ إني عبدُك وابنُ عبدك، ماضٍ فيَّ حُكمُك، عَدلٌ فيَّ قضاؤك»

(4)

.

وبما رُوِي عن إياس بن معاوية قال: ما ناظرتُ بعقلي كلِّه أحدًا إلا القَدَريَّة، قلتُ لهم: ما الظُّلم؟ قالوا: أن تأخذَ ما ليس لك، أو أن تتصرَّف فيما

(1)

وهذا قول الجهمية والأشاعرة ومن وافقهم. انظر «غاية المرام» للآمدي (245) وحاشيته، و «جامع الرسائل» (1/ 122).

(2)

من أهل الإثبات، من أصحاب مالك والشافعي وأحمد ومن شرَّاح الحديث. انظر:«مجموع الفتاوى» (18/ 139)، و «منهاج السنة» (2/ 304).

(3)

تقدم تخريجه (ص: 21).

(4)

تقدم تخريجه (ص: 817).

ص: 1127

ليس لك. قلت: فللَّه كلُّ شيء

(1)

.

والتزم هؤلاء عن هذا القول لوازمَ باطلة:

كقولهم: إنَّ الله تعالى يجوزُ عليه أن يعذِّبَ أنبياءه ورسلَه وملائكتَه وأولياءه وأهلَ طاعته، ويخلِّدهم في العذاب الأليم، ويُكْرِم أعداءه من الكفَّار والمشركين

(2)

والشياطين، ويخصَّهم بجنَّته وكرامته، وكلاهما عدلٌ وجائزٌ عليه، وأنه يُعْلَمُ أنه لا يفعلُ ذلك بمجرَّد خبره

(3)

؛ فصار ممتنعًا لإخباره أنه لا يفعلُه لا لمنافاته حكمتَه

(4)

، ولا فرق بين الأمرين بالنسبة إليه، ولكن أراد هذا وأخبَر به، وأراد الآخرَ وأخبَر به، فوجبَ هذا لإرادته وخبره، وامتنعَ ضدُّه لعدم إرادته واختياره بأنه لا يكون.

والتزموا له أيضًا: أنه يجوزُ أن يعذِّبَ الأطفالَ الذين لا ذنبَ لهم أصلًا، ويخلِّدهم في الجحيم. وربَّما قالوا بوقوع ذلك

(5)

.

فأنكَر على الطَّائفتين معًا أصحابُ التفسير الثَّالث، وقالوا: الصَّوابُ الذي دلَّت عليه النُّصوص: أنَّ الظُّلمَ الذي حرَّمه اللهُ على نفسه وتنزَّه عنه فعلًا وإرادةً هو ما فسَّره به سلفُ الأمَّة وأئمَّتُها؛ أنه لا يُحْمَلُ عليه

(6)

سيِّئاتُ

(1)

أخرجه عبد الله بن أحمد في «السنة» (946)، واللالكائي (1280)، والبيهقي في «الاعتقاد» (172)، وأبو نعيم في «الحلية» (3/ 124).

(2)

(ت): «الكفار والمنافقين» .

(3)

انظر: «منهاج السنة» (3/ 87)، و «النبوات» (468).

(4)

(ق) و (ت): «إلا لمنافاته حكمته» . وهو تحريف.

(5)

انظر: «النبوات» (468، 469).

(6)

أي: على العبد. وسقطت الكلمة من (ق).

ص: 1128

غيره، ولا يعذَّبُ بما لم تكسِب يداه ولم يكن سعى فيه، ولا يُنْقَصُ من حسناته، فلا يجازى بها

(1)

أو ببعضها إذا قارنها أو طرأ عليها ما يقتضي إبطالَها أو اقتصاصَ المظلومين منها

(2)

.

وهذا الظُّلمُ الذي نفى اللهُ تعالى خوفَه عن العبد بقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112]، قال السَّلفُ والمفسِّرون: لا يخافُ أن يُحْمَل عليه من سيِّئات غيره، ولا يُنْقَصَ من حسناته ما يتحمَّل

(3)

.

فهذا هو المعقولُ من الظُّلم ومِنْ عَدَم خوفِه، وأمَّا الجمعُ بين النَّقيضين وقَلبُ القديم مُحْدَثًا والمُحدَث قديمًا؛ فممَّا يتنزَّه كلامُ آحاد العقلاء عن تسميته ظُلمًا، وعن نفي خوفِه عن العبد، فكيف بكلام ربِّ العالمين؟!

وكذلك قوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76]، فنفى أن يكون تعذيبُه لهم ظلمًا، ثمَّ أخبَر أنهم هم الظَّالمون بكفرِهم، ولو كان الظُّلمُ المنفيُّ هو المحالَ لم يحسُن مقابلةُ قوله:{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} بقوله: {وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} ، بل يقتضي الكلامُ أن يقال:«وما ظلمناهم ولكن تصرَّفنا في مُلكِنا وعبيدنا» . فلمَّا نفى الظُّلمَ عن نفسه وأثبته لهم دلَّ على أنَّ الظُّلمَ المنفيَّ هو أن يعذِّبهم بغير جُرْم، وأنه إنما عذَّبهم بجُرْمِهم وظُلمِهم ولا تحتملُ الآيةُ غيرَ هذا، ولا يجوزُ تحريفُ كلام الله لنصرة المقالات.

(1)

(ت): «ولا يجازى بها» .

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (18/ 146).

(3)

انظر: «تفسير الطبري» (18/ 379).

ص: 1129

وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124]، ولا ريب أنَّ هذا مذكورٌ في سياق التَّحريض على الأعمال الصَّالحة والاستكثار منها؛ فإنَّ صاحبَها يجزى بها، ولا يُنْقَصُ منها بذرَّة، ولهذا يسمِّيه

(1)

تعالى: تَوْفِيَةً، كقوله:{وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185]، وقوله:{وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [الزمر: 70].

فتركُ الظُّلم هو العدل، لا فِعلُ كلِّ ممكِن، وعلى هذا قام الحساب، ووُضِعَ الموازينُ القِسْط، ووُزِنت الحسناتُ والسيِّئات، وتفاوتت الدَّرجاتُ العُلى بأهلها، والدَّركاتُ السُّفلى بأهلها.

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40]، أي: لا يضيعُ جزاءَ من أحسَن ولو بمثقال ذرَّة؛ فدلَّ على أنَّ إضاعتَها وتركَ المجازاة بها

(2)

مع عدم ما يُبْطِلُها ظلمٌ يتعالى الله عنه. ومعلومٌ أنَّ تركَ المجازاة عليها مقدورٌ يتنزَّه الله عنه؛ لكمال عدله وحكمته. ولا تحتملُ الآيةُ قطُّ غيرَ معناها المفهوم منها.

وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، أي: لا يعاقِبُ العبدَ بغير إساءته، ولا يَحْرِمُه ثوابَ إحسانه

(3)

. ومعلومٌ أنَّ ذلك مقدورٌ له تعالى.

(1)

(ق): «يسمى» . (ت، د): «سمى» . والمثبت أشبه.

(2)

(ت): «وترك الجزاء بها» .

(3)

(ت): «حسناته» .

ص: 1130

وهذا نظيرُ قوله تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 36 - 39]؛ فأخبَر أنه ليس على أحدٍ مِن وِزْرِ غيرِه شيء، وأنه لا يستحقُّ إلا ما سَعاه، وأنَّ هذا هو العدلُ الذي نزَّه نفسَه عن خلافه.

[وقال]: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 30 - 31]؛ بيَّن أنَّ هذا العقابَ لم يكن ظلمًا من الله للعباد، بل لذنوبهم واستحقاقهم.

ومعلومٌ أنَّ المحال الذي لا يُمْكِنُ ولا يكونُ مقدورًا أصلًا لا يصلُح أن يُمْدَحَ الممدوحُ بعدم إرادته ولا فعلِه، ولا يُحْمَد على ذلك، وإنما يكونُ المدحُ بترك الأفعال لمن هو قادرٌ عليها وأن يتنزَّه عنها لكماله وغِناه وحمده.

وعلى هذا يَتِمُّ

(1)

قولُه: «إني حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي» ، وما شاكَله من النُّصوص. فأما أن يكون المعنى: إني حرَّمتُ على نفسي ما لا حقيقة له وما ليس بممكِن، مثل خَلْقِ مثلي، ومثل جَعْل القديم مُحْدَثًا والمُحدَث قديمًا، ونحو ذلك من المحالات، ويكون المعنى: إني أخبَرتُ عن نفسي بأنَّ ما لا يكونُ مقدورًا لا يكونُ مني= فهذا مما يتيقَّنُ المُنْصِفُ أنه ليس مرادًا من اللفظ قطعًا، وأنه يجبُ تنزيهُ كلام الله ورسوله عن حمله على مثل ذلك.

قالوا: وأمَّا استدلالكم بتلك النُّصوص الدَّالَّة على أنه سبحانه إن عذَّبهم فإنهم عبادُه، وأنه غيرُ ظالمٍ لهم، وأنه لا يُسْألُ عمَّا يفعل، وأنَّ قضاءه فيهم

(1)

(ت): «هدايتهم» . ولعل «يتم» محرفة عن «يُفْهَم» ، وكلاهما محتمل.

ص: 1131

عدلٌ، وبمناظرة إياسٍ للقَدَرِيَّة= فهذه النُّصوصُ وأمثالها كلُّها حقٌّ يجبُ القولُ بمُوجَبها، ولا تُحَرَّفُ معانيها، والكلُّ من عند الله، ولكن أيُّ دليلٍ فيها يدلُّ على أنه تعالى يجوزُ عليه أن يعذِّبَ أهلَ طاعته، ويُنَعِّمَ أهلَ معصيته، وأنه يعذِّبُ بغير جُرْم، ويَحْرِمُ المحسِنَ جزاءَ عمله، ونحو ذلك؟! بل كلُّها متفقةٌ متطابقةٌ دالَّةٌ على كمال القدرة، وكمال العدل والحكمة.

فالنُّصوصُ التي ذكرناها تقتضي كمالَ عدله وحكمته وغِناه، ووضعَه العقوبةَ والثَّوابَ مواضعَهما وأنه لم يَعْدِلُ بهما عن سَنَنهما.

والنُّصوصُ التي ذكرتموها تقتضي كمالَ قدرته وانفرادَه بالرُّبوبيَّة والحُكم، وأنه ليس فوقه آمرٌ ولا ناهٍ يتعقَّبُ أفعالَه بسؤال، وأنه لو عذَّبَ أهلَ سماواته وأرضه لكان ذلك تعذيبًا لحقِّه عليهم، وكانوا إذ ذاك مستحِقِّين للعذاب؛ لأنَّ أعمالهم لا تَفِي بنجاتهم، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«لن يُنْجِي أحدًا منكم عملُه» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله برحمةٍ منه وفضل»

(1)

.

فرحمتُه لهم ليست في مقابلة أعمالهم، ولا هي ثمنًا لها، فإنها خيرٌ منها، كما قال في الحديث نفسه:«ولو رَحِمَهم لكانت رحمتُه لهم خيرًا من أعمالهم» ؛ أي: فجَمَع بين الأمرين في الحديث: أنه لو عذَّبهم لعذَّبهم باستحقاقهم، فلم يكن ظالمًا لهم، وأنه لو رَحِمَهم لكان ذلك مجرَّدَ فضله وكرمه، لا بأعمالهم، إذ رحمتُه خيرٌ من أعمالهم.

فصلواتُ الله وسلامُه على من خَرَجَ هذا الكلامُ أوَّلًا من شفتَيه، فإنه

(1)

تقدم تخريجه (ص: 20).

ص: 1132

أعرفُ الخلق بالله وبحقِّه، وأعلمُهم به وبعدله وفضله وحكمته، وما يستحقُّه على عباده.

وطاعاتُ العباد كلُّها لا تكونُ مقابلةً لنِعَم الله عليهم، ولا مساويةً لها، بل ولا للقليل منها، فكيف يستحِقُّون بها على الله النَّجاة؟!

وطاعةُ المطيع لا نسبة لها إلى نعمةٍ من نِعَم الله عليه؛ فتبقى سائرُ النِّعم تتقاضاه شكرًا، والعبدُ لا يقومُ بمقدوره الذي يجبُ لله عليه.

فجميعُ عباده تحت عفوه ورحمته وفضله، فما نجا منهم أحدٌ إلا بعفوه ومغفرته، ولا فاز بالجنَّة إلا بفضله ورحمته.

وإذا كانت هذه حالَ العباد فلو عذَّبهم لعذَّبهم وهو غيرُ ظالمٍ لهم، لا لكونه قادرًا عليهم وهم مُلْكُه، بل لاستحقاقهم، ولو رَحِمَهم لكان ذلك بفضله لا بأعمالهم.

وأمَّا قوله: {فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} ؛ فليس المرادُ به أنك قادرٌ عليهم مالِكٌ لهم. وأيُّ مدحٍ في هذا؟! ولو قلتَ لشخص: إن عذَّبتَ فلانًا فإنك قادرٌ على ذلك. أيُّ مدحٍ يكونُ في ذلك؟!

بل في ضِمن ذلك الإخبارُ بغاية العدل، وأنه تعالى إن عذَّبهم فإنهم عبادُه الذين أنعمَ عليهم بإيجادهم وخلقِهم ورَزقهم وإحسانه إليهم، لا بوسيلةٍ منهم، ولا في مقابلة بذلٍ بَذَلُوه، بل ابتدأهم بنِعَمه وفضله، فإذا عذَّبهم بعد ذلك وهم عبيدُه لم يعذِّبهم إلا بجُرْمهم واستحقاقهم وظلمِهم، فإنَّ من أنعَم عليهم ابتداءً بجلائل النِّعَم كيف يعذِّبهم بغير استحقاقِ أعظم النِّقَم؟!

ص: 1133

وفيه أيضًا أمرٌ آخرُ ألطفُ مِنْ هذا؛ وهو أنَّ كونهم عبادَه يقتضي عبادتَه وحده وتعظيمَه وإجلاله، كما يُجِلُّ العبدُ سيِّدَه ومالكه الذي لا يصلُ إليه نفعٌ إلا على يده، ولا يدفعُ عنه ضرًّا إلا هو، فإذا كفَروا به أقبحَ الكفر، وأشركوا به أعظمَ الشِّرك، ونسبُوه إلى كلِّ نقيصةٍ مما تكادُ السَّمواتُ يتفطَّرنَ منه وتنشَقُّ الأرضُ وتخرُّ الجبالُ هدًّا= كانوا أحقَّ عباده وأولاهم بالعذاب. والمعنى: هم عبادُك الذين أشركوا بك، وعَدَلوا بك، وجَحَدوا حقَّك؛ فهم عبادٌ مستحِقُّون للعذاب.

وفيه أمرٌ آخرُ ــ أيضًا ــ لعلَّه ألطفُ مما قبله، وهو: إن تعذِّبهم فإنهم عبادُك، وشأنُ السيِّد المحسِن المنعِم أن يتعطَّف على عبده ويرحمه ويَحْنُو عليه

(1)

، فإن عذَّبتَ هؤلاء وهم عبيدُك لا تعذِّبهم إلا باستحقاقهم وإجرامهم، وإلَّا فكيف يشقى العبدُ بسيِّده وهو مطيعٌ له متَّبعٌ لمرضاته؟!

فتأمَّل هذه المعاني، ووازِن بينها وبين قول من يقول:«إن تعذِّبهم فأنت الملكُ القادر، وهم المملوكون المربوبون، وإنما تصرَّفتَ في مُلكِك، مِن غير أن يكون قد قام بهم سببُ العذاب» ؛ فإنَّ القوم نفاةُ الأسباب، وعندهم أنَّ كفرَ الكافرين وشِرْكَهم ليس سببًا للعذاب، بل العذابُ بمجرَّد المشيئة، ومحض الإرادة.

وكذلك الكلامُ في مناظرة إياسٍ للقَدَرِيَّة، إنما أراد بأنَّ التصرُّفات الواقعةَ منه تعالى في مُلْكه لا تكونُ ظلمًا قطُّ، وهذا حقٌّ؛ فإنَّ كلَّ ما فَعَله الرَّبُّ ويفعلُه لا يخرُج عن العدل والحكمة والمصلحة والرَّحمة، فليس في أفعاله ظلمٌ ولا جَورٌ ولا سَفَه؛ وهذا حقٌّ لا ريب فيه، فإياسٌ بيَّن أنه سبحانه

(1)

(ت): «ويحسن إليه» .

ص: 1134

في تصرُّفه في مُلكِه غيرُ ظالم

(1)

.

فهذه مجامعُ طُرقِ العالَم في هذا المقام، قد أُلقِيَت إليك مختصرةً بذِكْر قواعدها

(2)

وأدلَّتها، وترجيح الصَّواب منها وإبطال الباطل، ولعلَّك لا تجدُ هذا التفصيلَ والكلام على هذه المذاهب وأصولها في كتابٍ من كتب القوم، والله تعالى المسؤولُ إتمامَ نعمته، ومزيدَ العلم والهدى، إنه المانُّ بفضله.

(1)

بموجب حدِّ القدرية للظُّلم. فرأى إياسٌ أن هذا الجواب المطابِقَ لحدِّهم خاصِمٌ لهم، ولم يدخل معهم في التفصيل الذي يطول. انظر:«مجموع الفتاوى» (18/ 139، 140).

(2)

(ت): «مختصرة بجوامع قواعدها» .

ص: 1135

فصل

وكذلك الكلامُ في الإيجاب في حقِّ الله سواء؛ والأقوالُ فيه كالأقوال في التحريم.

وقد أخبَر سبحانه عن نفسه أنه كتبَ على نفسه وأحقَّ على نفسه، قال تعالى:{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، وقال تعالى:{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة: 111].

وفي الحديث الصَّحيح أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: «أتدري ما حقُّ الله على عباده؟» قلت: الله ورسولُه أعلم. قال: «حقُّه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، أتدري ما حقُّ العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟» قلت: الله ورسولُه أعلم. قال: «حقُّهم عليه أن لا يعذِّبهم»

(1)

.

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في غيرِ حديثٍ: من فعلَ كذا كان على الله

(2)

أن يفعلَ به كذا وكذا. في الوعد والوعيد

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري (2856)، ومسلم (30).

(2)

(ق): «كان على الله» .

(3)

انظر - مثلًا - في الوعد: «صحيح البخاري» (2790)، وفي الوعيد:«سنن أبي داود» (3680).

ص: 1136

ونظيرُ هذا ما أخبَر به سبحانه مِن قَسَمِه ليفعلنَّ ما أقسَم عليه، كقوله:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92 - 93]، {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} [مريم: 68]، وقوله:{لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 13]، وقوله:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85]، وقوله:{فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [آل عمران: 195]، وقوله:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6]، وقوله فيما يرويه عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:«وعزَّتي وجلالي لأقتصَّنَّ للمظلوم من الظَّالم ولو لطمةً، ولو ضربةً بيدٍ»

(1)

.

إلى أمثال ذلك من صِيَغ القَسَم المتضمِّن معنى إيجاب المُقْسِم على نفسه أو مَنْعِه نفسَه؛ وهو القَسَمُ الطَّلبيُّ المتضمِّن للحضِّ

(2)

والمنع، بخلاف القَسَم الخبريِّ المتضمِّن للتصديق أو التكذيب، ولهذا قسَّم الفقهاءُ وغيرهم اليمينَ إلى: مُوجِبةٍ للحضِّ والمنع، أو التصديق والتكذيب

(3)

.

(1)

أخرجه أحمد (3/ 495)، والبخاري في «الأدب المفرد» (970)، وابن قدامة في «صفة العلو» (42) واللفظ له، وغيرهم من طرقٍ عن جابر، يثبتُ بمجموعها، وصحَّح أحدها الحاكم (2/ 437) ولم يتعقبه الذهبي، وحسَّنه المنذري في «الترغيب والترهيب» (4/ 404)، وابن حجر في «الفتح» (1/ 174)، وابن ناصر الدين الدمشقي في الجزء الذي أفرده لهذا الحديث (38).

(2)

(ق، د) في الموضعين: «الحظ» . وفي (ت) في الموضع الأول: «الحصر» ، وفي الثاني:«الحظر» . وكله تحريف.

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (33/ 197، 232)، و «إغاثة اللهفان» (2/ 87، 94)، و «بدائع الفوائد» (645)، و «الإنصاف» (9/ 106).

ص: 1137

قالوا: وإذا كان معقولًا من العبد أن يكونَ طالبًا من نفسه، وتكون نفسُه طالبةً منه

(1)

، كقوله تعالى:{إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]، وقوله:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40]، مع كون العبد له آمرٌ وناهٍ فوقه= فالربُّ تعالى الذي ليس فوقه آمرٌ ولا ناهٍ كيف يمتنعُ منه أن يكونَ طالبًا من نفسه، فيكتبَ على نفسه، ويُحِقَّ على نفسه، ويحرِّم على نفسه؟! بل ذلك أولى وأحرى في حقِّه من تصوُّره في حقِّ العبد، وقد أخبَر به عن نفسه وأخبَر به عنه رسولُه.

قالوا: وكتابُه ما كتبه على نفسه وإحقاقُه ما أحقَّه عليها متضمِّنٌ لإرادته ذلك، ومحبته له، ورضاه به، وأنه لا بدَّ أن يفعله. وتحريمُه ما حرَّمه على نفسه متضمِّنٌ لبغضه لذلك، وكراهته له، وأنه لا يفعلُه.

ولا ريب أنَّ محبته لما يريدُ أن يفعلَه ورضاه به يُوجِبُ وقوعَه بمشيئته واختياره، وكراهتَه للفعل وبغضه له يمنعُ وقوعَه

(2)

منه مع قدرته عليه لو شاءه، وهذا غيرُ ما يحبُّه من فعل عبده ويكرهُه منه، فذاك نوعٌ وهذا نوع، ولمَّا لم يميِّز كثيرٌ من الناس بين النوعين، وأدخلُوهما تحت حكمٍ واحد، اضطربت عليهم مسائلُ القضاء والقَدَر والحِكَم والتعليل.

(1)

(د، ق): «فيكون نفسه طالبة منها» . وفي (ت)«فيكون بنفسه طالبًا منها» . ولعل المثبت هو الصواب، وتدلُّ عليه الآياتُ المذكورة بعده. والعبارة في «شرح حديث أبي ذر» ضمن «مجموع الفتاوى» (18/ 150): «وإذا كان معقولًا في الإنسان أنه يكون آمرًا مأمورًا

»، وهو مصدر المصنف.

(2)

(ق): «يمتنع وقوعه» .

ص: 1138

وبهذا التفصيل يُسْفِرُ لك وجهُ المسألة، ويتبلَّجُ صُبْحُها.

ففرقٌ بين فعله هو سبحانه الذي هو فعلُه، وبين فعل عباده الذي هو مفعولُه؛ فمحبتُه تعالى وكراهتُه للأول تُوجِبُ وقوعَه وامتناعَه، وأمَّا محبتُه وكراهتُه للثاني فلا تُوجِبُ وقوعَه ولا امتناعَه.

فإنه يحبُّ الطَّاعةَ والإيمانَ من عباده كلِّهم وإن لم تكن محبتُه مُوجِبةً لطاعتهم وإيمانهم جميعًا؛ إذ لم يحبَّ فعلَه الذي هو إعانتُهم وتوفيقُهم وخَلْقُ ذلك لهم، ولو أحبَّ ذلك لاستلزم طاعتَهم وإيمانهم.

ويُبْغِضُ معاصيهم وكفرَهم وفسوقَهم، ولم تكن هذه الكراهةُ والبغضُ مانعةً من وقوع ذلك منهم؛ إذ لم يكره سبحانه خذلانهم وإضلالَهم؛ لما له في ذلك من الغايات المحبوبة التي فواتُها يستلزمُ فواتَ ما هو أحبُّ إليه من إيمانهم وطاعتهم، وتَعَقُّلُ ذلك ممَّا يقصُر عنه عقولُ أكثر الناس، وقد أشَرنا إليه فيما تقدَّم من الكتاب

(1)

.

فالربُّ تعالى يحبُّ من عباده الطاعةَ والإيمان، ويحبُّ مع ذلك مِن تضرُّعهم وتذلُّلهم وتوبتهم واستغفارهم ومِن توبته ومغفرته وعفوه وصَفْحِه وتجاوزه ما هو ملزومٌ لمعاصيهم وذنوبهم، ووجودُ الملزوم بدون لازمه ممتنع.

وإذا عُقِلَ هذا في حقِّ المذنبين فيُعْقَلُ مثلُه في حقِّ الكفار، وأنَّ خَلْقَهم وإضلالَهم لازمٌ لأمورٍ محبوبةٍ للربِّ تعالى لم تكن تحصُل إلا بوجود لازمها؛ إذ وجودُ الملزوم بدون لازمه ممتنع، فكانت تلك الأمورُ المحبوبةُ

(1)

(ص: 12، 810، 812 - 847).

ص: 1139

والغاياتُ المحمودةُ متوقِّفةً على خلقهم وإضلالهم توقُّفَ الملزوم على لازمه.

وهذا فصلٌ معترِضٌ لم يكن مِن غرَضنا، وإن كان أهمَّ ممَّا سُقْنا الكلامَ لأجله.

ونكتةُ المسألة: الفرقُ بين ما هو فعلٌ له تستلزمُ محبتُه وقوعَه منه، وبين ما هو مفعولٌ له لا تستلزمُ محبتُه له وقوعَه من عبده.

وإذا عُرِفَ هذا، فالظلمُ والكفرُ والفسوقُ والعصيانُ وأنواعُ الشُّرور واقعةٌ في مفعولاته المنفصلة التي لا يتَّصفُ بها، دون أفعاله القائمة به.

ومن انكشفَ له هذا المقامُ فَهِمَ معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «والشرُّ ليس إليك»

(1)

.

فهذا الفرقُ العظيمُ يزيلُ أكثر الشُّبه التي حارت لها عقولُ كثيرٍ من النَّاس في هذا الباب، وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحقِّ بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم.

فما في مخلوقاته ومفعولاته تعالى من الظُّلم والشرِّ فهو بالنسبة إلى فاعله المكلَّف الذي قامَ به الفعل، كما أنه بالنسبة إليه يكون زنًا وسرقةً وعدوانًا وأكلًا وشربًا ونكاحًا، فهو الزاني السارقُ الآكلُ الناكِح، والله خالقُ كلِّ فاعلٍ وفعلِه.

وليست نسبةُ هذه الأفعال إلى خالقها كنسبتها إلى فاعلها الذي قامت به، كما أن نسبةَ صفات المخلوقين إليه ــ كطُوله

(2)

وقِصَره، وحُسْنه وقُبحه،

(1)

أخرجه مسلم (771) من حديث عليٍّ في دعائه صلى الله عليه وسلم في قيام الليل.

(2)

أي: المخلوق.

ص: 1140

وشكله ولونه ــ ليست كنسبتها إلى خالقها فيه.

فتأمَّل هذا الموضع، وأعْطِ الفرقَ حقَّه، وفَرِّق بين النِّسبتَين؛ فكما أن صفات المخلوق ليست صفاتٍ لله بوجهٍ وإن كان هو خالقَها، فكذلك أفعالُه ليست أفعالًا لله تعالى ولا إليه وإن كان هو خالقها.

فلنرجِع الآن إلى ما نحنُ بصدده، فنقول: الأمرُ الذي كتَبه على نفسه مستحِقٌّ عليه الحمدَ والثناء، ويتعالى ويتقدَّسُ عن تركه؛ إذ تركُه منافٍ للثَّناء والحمد الذي يستحقُّه عليه، متضمِّنًا لما يستحقُّه من ذلك لذاته

(1)

، بقَطْع النظر عن كلِّ فعل.

وكذلك ما حرَّمه على نفسه هو مستحِقٌّ للحمد والثَّناء على تركه، فهو يتعالى ويتقدَّس عن فعله؛ لأن فعلَه منافٍ لما يستحقُّه من الحمد والثَّناء على تركه، متضمِّنًا

(2)

لما يستحقُّه لذاته

(3)

.

وهذا بحمد الله بيِّنٌ عند من أوتي العلمَ والإيمان، وهو مستقرٌّ في فِطرهم، لا ينسخُه منها شبهاتُ المُبْطِلين.

وهذا الموضعُ مما خَفِيَ على طائفتي القَدَرِيَّة والجَبْريَّة، فخَبَطُوا في عشواء، وحَطَبُوا في ليلةٍ ظلماء، والله الموفِّق الهادي للصواب

(4)

.

(1)

(ق): «لما يستحقه لذاته» .

(2)

(ت): «متضمن» . والوجه النصب، كالموضع السابق، حالٌ من الحمد.

(3)

من قوله: «بقطع النظر

» إلى هنا ساقط من (ق).

(4)

انظر: «مجموع الفتاوى» (18/ 149).

ص: 1141

فصل

وقد ظهَر بهذا بطلانُ قول الطائفتين معًا:

* الذين وَضعوا لله شريعةً بعقولهم، أوجبوا عليه وحرَّموا منها ما لم يُوجِبه على نفسه ولم يحرِّمه على نفسه، وسَوَّوا بينه وبين عباده فيما يحسُن منهم ويقبُح.

وبذلك استطال عليهم خصومُهم، وأبدَوا مناقضتَهم، وكشَفوا عوراتهم، وبيَّنوا فضائحَهم.

* وكذلك بطلانُ قول الطائفة التي جوَّزت عليه كلَّ شيء، وأنكَرت حكمتَه، وجحدَت في الحقيقة ما يستحقُّه من الحمد والثَّناء على ما يفعلُه مما يُمْدَحُ بفعله، وعلى ترك ما يتركُه مع قدرته عليه مما يُمْدَحُ بتركه، وجعلت النَّوعين واحدًا، ولا فرق عندهم بالنسبة إليه تعالى بين فِعْلِ ما يُمْدَحُ بفعله وبين تركِه، ولا بين تركِ ما يُمْدَحُ بتركه وبين فعلِه.

وبهذا تسلَّط عليهم خصومُهم، وأبدَوا مناقضتَهم، وبيَّنوا فضائحَهم.

قال المتوسِّطون: وأمَّا نحن فلا يَلْزَمُنا شيءٌ من هذه الفضائح والأباطيل، فإنَّا لم نُوافِق طائفةً من الطائفتين على كلِّ ما قالته، بل وافقنا كلَّ طائفةٍ فيما أصابت فيه الحقَّ، وخالفناها فيما خالفت فيه الحقَّ، فكنَّا أسعدَ به من الطائفتين، ولله المنَّةُ والفضل.

وهذا قولُنا قد أوضحناه في هذه المسألة غايةَ الإيضاح، وأفصَحنا عنه بما أمكننا من الإفصاح، فمن وَجَد سبيلًا إلى المعارَضة، أو رامَ طريقًا إلى المناقَضة، فليُبْدِها، فإنَّا من وراء الردِّ عليه، وإهداء عُيوب مقالته إليه، ونحن نعلمُ

ص: 1142

أنه لا يَرُدُّ علينا مقالتنا إلا بإحدى المقالتين اللتَين كشفنا عن عوارهما، وبيَّنا فسادَهما، فلْيستُر عورةَ مقالته، ويُصْلِحْ فسادَها، ويَرُمَّ شَعَثَها، ثمَّ ليَلْقَ خصومَه بها، فالمحاكمةُ إلى النقل الصَّريح والعقل الصَّحيح، والله المستعان.

الوجه الثاني والستون: قولكم: «الوجوبُ والتحريمُ بدون الشَّرع ممتنع؛ لأنه لو ثبتَ لقامت الحجَّةُ بدون الرسل، والله سبحانه إنما أقامَ حجَّتَه برسله

» إلى آخره

(1)

.

فيقال: لا ريب أنَّ الوجوبَ والتحريمَ اللذَين هما متعلَّقُ الثواب والعقاب بدون الشَّرع ممتنع، كما قرَّرتموه، والحجَّةُ إنما قامت على العباد بالرُّسل، ولكنَّ هذا الوجوبَ والتحريمَ أخصُّ من مطلق الوجوب والتحريم

(2)

، ونفيُ الأخصِّ لا يستلزم نفيَ الأعمِّ، فمِنْ أين ينتفي مطلقُ الوجوب والتحريم

(3)

بمعنى حصول المقتضِي للثواب والعقاب، وإن تخلَّف عنه مقتضاه لقيام مانعٍ أو فواتِ شرط، كما تقدَّم تقريره؟!

وقد قال تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 47]؛ فأخبَر تعالى أنَّ ما قدَّمت أيديهم سببٌ لإصابة المصيبة إيَّاهم، وأنه سبحانه أرسلَ رسولَه وأنزل كتابَه لئلَّا يقولوا:{رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} .

(1)

انظر ما تقدم (ص: 988).

(2)

«أخص من مطلق الوجوب والتحريم» ليس من (ت).

(3)

من قوله: «أخص من مطلق

» إلى هنا ساقط من (ق)؛ لانتقال النظر.

ص: 1143

فدلَّت الآية على بطلان قول الطائفتين جميعًا:

* الذين يقولون: إنَّ أعمالهم قبل البعثة ليست قبيحةً لذاتها، بل إنما قَبُحَت بالنَّهي فقط.

* والذين يقولون: إنها قبيحة، ويستحقُّون عليها العقوبةَ عقلًا بدون البعثة.

فتضمَّنت الآية بطلانَ قول الطائفتين، ودلَّت على القول الوسط الذي اخترناه ونصَرناه: أنها قبيحةٌ في نفسها، ولا يستحقُّون العقاب إلا بعد إقامة الحجَّة بالرسالة، فلا تلازم

(1)

بين ثبوت الحُسن والقُبح العقليَّين وبين استحقاق الثَّواب والعقاب

(2)

، فالأدلَّةُ إنما اقتضت ارتباطَ الثواب والعقاب بالرسالة وتوقُّفهما عليها، ولم تَقْتَض توقُّفَ الحُسن والقُبح بكلِّ اعتبارٍ عليها، وفرقٌ بين الأمرين.

الوجه الثالث والستون: قولكم: «كيف يُعْلَمُ أنه سبحانه يجبُ عليه أن يمدَح ويَذُمَّ ويثيبَ ويعاقِبَ على الفعل بمجرد العقل؟ وهل ذلك إلا غيبٌ عنَّا؟ فبم يُعْرَفُ أنه رضي عن فاعلٍ وسخطَ على فاعل، وأنه يثيبُ هذا ويعاقبُ هذا، ولم يُخْبِر عنه بذلك مخبِرٌ صادق، ولا دلَّ على مواقع رضاه وسخطه عقل، ولا أخبَر عن معلومه ومحكومه مخبِر؟ فلم يبقَ إلا قياسُ أفعاله على أفعال عباده، وهو مِنْ أفسد القياس؛ فإنه ليس كمثله شيء»

(3)

.

(1)

غير محررة في (د)، رسمها ابنُ بردس رسمًا.

(2)

في الأصول: «الحسن والقبح العقليين بلازم» . والمثبت من (ط).

(3)

انظر ما تقدم (ص: 990) وبينهما اختلافٌ يسيرٌ في بعض الحروف.

ص: 1144

فيقال: هذا لازمٌ للمعتزلة ومن وافقهم، حيث يُوجِبون على الله تعالى ويحرِّمون بالقياس على عباده، ولا ريب أنَّ هذا مِن أفسد القياس وأبطلِه، ولكن مِن أين ينفي ذلك إثباتَ صفاتٍ لأفعالٍ

(1)

اقتضت حُسْنَها وقُبحَها عقلًا ولم يُعْلَمْ ترتُّبُ الثَّواب والعقاب عليها إلا بالرسالة، كما نصَرناه؟!

فأنتم معاشرَ النفاة سلبتُم الأفعالَ خواصَّها وصفاتها التي لا تنفكُّ عنها ولا تُعْقَلُ مجرَّدةً عنها أبدًا، وظننتم أنَّ قولَ المعتزلة الباطل في إيجابها وتحريمها على الله لا يتمُّ إلا بهذا النفي، فأخطأتم في الأمرين معًا، فإنَّ بطلان قولهم لا يتوقَّفُ على نفي الحُسْن والقُبح، ونفيُهما باطل.

وخصومُكم من المعتزلة أثبتُوا لله شريعةً عقليَّة أوجبوا عليه فيها وحرَّموا بمقتضى عقولهم، وظنُّوا أنهم لا يمكنُهم إثباتُ الحُسْن والقُبح إلا بذلك، فأخطؤوا في الأمرين معًا؛ فإنَّ اللهَ تعالى لا يقاسُ بعباده في أفعاله كما لا يقاسُ بهم في ذاته وصفاته، فليس كمثله شيءٌ في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وإثباتُ الحُسْن والقُبح لا يستلزمُ هذا الإيجابَ والتحريمَ العقليَّين.

فليتأمَّل اللبيبُ هذه الدقائقَ التي هي مجامعُ مآخذ الفِرَق فيها، يتبيَّن أنَّ النَّاسَ إنما تكلَّموا في حواشي المسألة ولم يخوضوا لُجَّتَها ويقتحموا غَمْرَتها، والله المستعان.

وأمَّا إلزامُكم لخصومكم من المعتزلة تلك اللوازم

(2)

، فلا ريب أنها مستلزمةٌ لبطلان قولهم، مع أضعافها من اللوازم التي تبيِّنُ فسادَ مذهبهم،

(1)

في الأصول: «صفات الأفعال» . وفي (ط): «صفات أفعال» .

(2)

انظر ما تقدم (ص: 991 - 999).

ص: 1145

ونحن مُساعِدُوكم عليها، كما لا محيدَ لكم عن إلزاماتهم

(1)

:

فمنها: أنكم سَدَدتم على أنفسكم طريقَ الاستدلال بالمعجزة على النبوَّة؛ حيث جوَّزتم على الله أن يؤيِّد بها الكذَّاب كما يؤيِّدَ الصادق، وعندكم أنَّ كلا الأمرين بالنسبة إليه تعالى سواء

(2)

.

ولم تعتذروا عن هذا الإلزام المُقاوِم لسائر إلزاماتكم بعذرٍ صحيح، وهذه أعذارُكم مسطورةٌ في الصحائف

(3)

.

ومنها: إلزامُ الإفحام

(4)

بنفي

(5)

المكلَّف النظرَ في المعجزة؛ لعدم الوجوب عقلًا.

واعتذارُكم عن هذا الإلزام بأنَّ الوجوبَ ثابتٌ نَظَر أولم ينظُر اعتذارٌ يُبْطِلُ أصلَكم؛ فإنَّ ثبوتَ الوجوب بدون نظر المكلَّف لو كان شرعيًّا لتوقَّفَ على الشَّرع المتوقِّف في حقِّ المكلَّف على النظر في المعجزة، فلمَّا ثبتَ الوجوبُ وإن لم ينظر في المعجزة عُلِمَ أنَّ الوجوبَ عقليٌّ لا يتوقَّفُ على ثبوت الشَّرع.

فإن قيل: هو ثابتٌ في نفس الأمر على تقدير ثبوت الرسالة.

(1)

في الأصول: «كما لا محيد لهم عن إلزاماتكم» . والصواب ما أثبت. أي: لا محيد للنفاة عن إلزامات المعتزلة.

(2)

انظر: «شرح الأصول الخمسة» (564)، و «النبوات» (234، 480، 550).

(3)

انظر: «بيان المختصر» (1/ 312)، وشرح العضد (1/ 216)، و «شرح المقاصد» (4/ 159)، و «العلم الشامخ» للمقبلي (121).

(4)

يعني: إفحام الأنبياء وانقطاعهم وعجزهم عن إثبات نبوتهم.

(5)

في الأصول: «ونفي» . والمثبت أشبه.

ص: 1146

قيل: فحينئذٍ يعودُ الإلزام، وهو أنه لا ينظُر حتى يَجِب، ولا يجبُ حتى تثبُتَ الرسالة، ولا تثبتُ حتى ينظُر.

ولهذا عَدَلَ من عَدَلَ إلى مقابلة هذا الإلزام بمثله، وقالوا:«هذا لازمٌ للمعتزلة؛ لأن الوجوبَ عندهم نظري»

(1)

.

وهذا لا يغني شيئًا، ولا يدفعُ الإلزامَ المذكور، بل غايتُه مقابلةُ الفاسد بمثله، وهو لا يُجْدِي في دفع الإلزام شيئًا.

وهذا يدلُّ على بطلان المقالتين.

وأمَّا نحنُ فلنا في دفع هذا الإلزام عشرةُ مسالك، وليس هذا موضعَ هذه المسألة، وإنما المقصودُ أن المعتزلةَ ألزَمت نظيرَ ما ألزموهم به

(2)

.

ومنها: إلزامُ التعطيل للشرائع جملة. وقد تقدَّم بيانه قريبًا

(3)

، حيث بيَّنَّا أنَّ متعلَّقَ الأمر والنهي إنما هو فعلُ العبد الاختياريُّ، فإذا بطلَ أن يكون له فعلٌ اختياريٌّ بطلَ متعلَّقُ الأمر والنهي، فيلزم بطلانُ الأمر والنهي؛ لأنَّ وجودَه بدون متعلَّقه محال.

إلى سائر تلك اللوازم التي أسلفناها قبلُ، فلا نطيلُ بإعادتها.

قالوا

(4)

: أمَّا نحن، فلا يلزمنا شيءٌ من هذه اللوازم من الطَّرفين، فإنَّا لم

(1)

انظر: «المواقف» (1/ 164)، و «بيان المختصر» (1/ 309)، و «رفع الحاجب» (1/ 466).

(2)

انظر: «الصواعق المرسلة» (1437).

(3)

انظر: (ص: 1120).

(4)

أي المتوسطون.

ص: 1147

نسلك واحدًا من الطريقين، فلا سبيل لإحدى الطائفتين إلى إلزامنا بلازمٍ واحدٍ باطل، ولله الحمد، فمن رام ذلك فَلْيُبْدِه.

فإن قيل: فمِنْ أصلِكم إثباتُ التعليل والحكمة في الخلق والأمر، فما تصنعون بهذه اللوازم التي ألزمناها المعتزلة؟ وماذا جوابكم عنها إذا وجَّهناها إليكم؟

قيل: لا ريب أنَّا نثبتُ لله ما أثبته لنفسه، وشَهِدَت به الفِطرُ والعقولُ من الحكمة في خلقه وأمره، ونقول: إنَّ كلَّ ما خلَقه وأمرَ به فله فيه حكمةٌ بالغة، وآياتٌ باهرة

(1)

، لأجلها خلقه وأمرَ به، ولكن لا نقول: إنَّ لله تعالى في خلقه وأمره كلِّه حكمةً مماثِلةً لما للمخلوق من ذلك، ولا مشابِهةً له، بل الفرقُ بين الحكمتين كالفرق بين الفعلين، وكالفرق بين الوصفين والذَّاتين، فليس كمثله شيءٌ في وصفه، ولا في فعله، ولا في حكمةٍ مطلوبةٍ له من فعله، بل الفرقُ بين الخالق والمخلوق في ذلك كلِّه أعظمُ فرقٍ وأبينُه

(2)

وأوضحُه عند العقول والفِطر.

وعلى هذا، فجميعُ ما ألزمتموه لأصحاب الصَّلاح والأصلح

(3)

ــ بل وأضعافُه وأضعافُ أضعافه ــ لله فيه حكمةٌ يختصُّ بها لا يشاركه فيها غيرُه، ولأجلها حسُن منه ذلك، وقبُح من المخلوق؛ لانتفاء تلك الحكمة في حقِّه.

وهذا كما يحسُن منه تعالى مدحُ نفسه والثناءُ على نفسه

(4)

، وإن قبُح

(1)

(ت): «وآية قاهرة» .

(2)

(ت): «وأثبته» .

(3)

المعتزلة.

(4)

(ت): «والثناء عليه» .

ص: 1148

من أكثر خلقه ذلك، ويليقُ بجلاله الكبرياءُ والعظمة، ويقبُح من خلقه تعاطيهما، كما روى عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:«الكبرياءُ إزاري، والعظمةُ ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عذَّبته»

(1)

، وكما يحسُن منه إماتةُ خلقه وابتلاؤهم وامتحانهم بأنواع المِحَن، ويقبُح ذلك من خلقه.

وهذا أعظمُ من أن تُذْكَر أمثلتُه، فليس بين الله وبين خلقه جامعٌ يوجبُ أن يحسُن منه ما حسُن منهم، ويقبُح منه ما قبُح منهم، وإنما تتوجَّه تلك الإلزاماتُ إلى من قاسَ أفعالَ الله بأفعال عباده، وأمَّا من أثبتَ له حكمةً تختصُّ به

(2)

لا تُشْبِه ما للمخلوقين من الحكمة فهو عن تلك الإلزامات بمَعْزِل، ومنزلُه منها أبعدُ منزِل.

ونكتةُ الفَرق: أنَّ بطلانَ الصَّلاح والأصلح لا يستلزمُ بطلانَ الحكمة والتعليل، والله الموفِّق.

الوجه الرابعُ والستون: قولكم: «أنتم فتحتُم بهذه المسألة طريقًا للاستغناء عن النبوَّات، وسلَّطتم عليكم بها الفلاسفةَ والبراهمةَ والصابئةَ وكلَّ منكرٍ للنبوَّات، فإنَّ هذه المسألة بابٌ بيننا وبينهم، فإنكم إذا زعمتم أنَّ في العقل حاكمًا يحسِّنُ ويقبِّح، ويوجبُ ويحرِّم، ويتقاضى الثوابَ والعقاب، لم تكن الحاجةُ إلى البعثة ضروريَّة؛ لإمكان الاستغناء عنها بهذا الحاكم

(3)

.... » إلى آخره

(4)

.

(1)

أخرجه مسلم (2620) بنحوه من حديث أبي سعيد وأبي هريرة.

(2)

(ق): «يختص بها» .

(3)

في الأصول: «فهذا الحاكم» .

(4)

انظر ما تقدم (ص: 999).

ص: 1149

قال المثبتون: هذا كلامٌ هائل، وهو عند التحقيق باطل، لو أنصفَ مُورِدُه لعَلِمَ أنَّا وهو كما قال الأول:«رمتني بدائها وانسلَّت»

(1)

.

وقد بيَّنا أنَّ النفاة سدُّوا على أنفسهم طريقَ إثبات النبوَّة بإنكارهم هذه المسألة، وقالوا: إنه يحسُن من الله كلُّ شيء، حتَّى إظهارُ المعجزة على يد الكاذب، ولا فرق بالنسبة إليه

(2)

بين إظهارها على يد الصادق ويد الكاذب، وليس في العقل ما يدلُّ على استحالة هذا وجواز هذا، وتوقُّفُ معرفته على السمع، لا سيَّما إذا انضمَّ إلى ذلك إنكارُ كون العبد فاعلًا مختارًا

(3)

البتَّة، فإنَّ ذلك يسُدُّ الباب جملة؛ لأنَّ متعلَّق الأمر والنهي إنما هو أفعالُ العباد الاختياريَّة، فمَن لا فعلَ له ولا اختيارَ أصلًا فكيف يُعْقَلُ أن يكون مأمورًا منهيًّا؟! وقد تقدَّم حديثُ الإفحام وعَجْزُكم عن الجواب عنه.

قالوا: وأمَّا نحن؛ فإنَّا سهَّلنا بذلك الطريقَ إلى إثبات النبوَّات، بل لا يمكنُ إثباتُها إلا بالاعتراف بهذه المسألة؛ فإنه إذا ثبتَ أنَّ من الأفعال حسنًا ومنها قبيحًا، وأنَّ إظهارَ المعجزة على يد الكاذب قبيح، وأنَّ الله يتعالى ويتقدَّس عن فعل القبائح= علمنا بذلك صحةَ نبوَّة من أظهرَ الله على يديه الآيات والمعجزات. وأمَّا أنتم فإنكم لا يمكنُكم العلمُ بذلك.

قالوا: وكذلك نحن قلنا: إنَّ العبدَ فاعلٌ مختارٌ لفعله، وأوامرُ الشَّرع ونواهيه متوجِّهةٌ إلى مجرَّد فعله الاختياريِّ القائم به، وهو متعلَّقُ الثواب

(1)

انظر: «جمهرة الأمثال» (1/ 475)، و «مجمع الأمثال» (1/ 286).

(2)

(ق): «إليها» . (ت): «إلى» . وهو تحريف.

(3)

(د، ق): «فاعلًا ولا مختارًا» . (ت): «

ذلك المكان كون العبد لا فاعلًا ولا مختارًا البتة». والمثبت من (ط)، وهو مستقيم.

ص: 1150

والعقاب. وأمَّا أنتم فلا يمكنُكم ذلك؛ لأن تلك الأفعال عندكم هي فعلُ الله في العبد، لا صُنْعَ للعبد فيها أصلًا، فكيف يتوجَّه أمرُ الشَّرع ونهيُه إلى غير فاعل، بل يُؤمَرُ ويُنهى بما لا قدرة له عليه البتَّة، بل بفِعْل غيره؟!

قالوا: فليتدبَّر المنصفُ هذا المقام، فإنه يتبيَّنُ له أنه سَدَّ على نفسه طريقَ النبوَّات، وفتحَ بابَ الاستغناء عنها.

قالوا: وأيضًا؛ فإنَّ الله سبحانه فَطر عبادَه على الفرق بين الحسَن والقبيح، وركَّبَ في عقولهم إدراكَ ذلك والتَّمييزَ بين النوعين، كما فَطرهم على الفرق بين النافع والضَّارِّ، والملائم لهم والمُنافِر، وركَّب في حواسِّهم إدراكَ ذلك والتَّمييزَ بين أنواعه.

والفطرةُ الأولى

(1)

هي خاصَّةُ الإنسان التي تميَّز بها عن غيره من الحيوانات، وأمَّا الفطرةُ الثانية فمشتركةٌ بين أصناف الحيوان

(2)

، وحجَّةُ الله عليه إنما تقومُ بواسطة الفطرة الأولى، ولهذا اختُصَّ من بين سائر الحيوانات بإرسال الرسل إليه، وبالأمر والنهي، والثَّواب والعقاب، فجَعل سبحانه في عقله ما يفرِّقُ بين الحُسْن والقُبح، وما ينبغي إيثارُه وما ينبغي اجتنابُه، ثمَّ أقام عليه حجَّتَه برسالةٍ بواسطة هذا الحاكم الذي يتمكَّن به من العلم بالرسالة، وحُسْن الإرسال، وحُسْن ما تضمَّنته من الأوامر، وقُبح ما نهت عنه؛ فإنه لولا ما رُكِّبَ في عقله من إدراك ذلك لما أمكنه معرفةُ حسن الرسالة، وحُسْن المأمور، وقُبح المحظور.

(1)

وهي الفرق بين الحسن والقبيح. والثانية: الفرق بين النافع والضار.

(2)

(ت): «سائر الحيوانات» .

ص: 1151

ولهذا قلنا

(1)

: إنَّ من أنكر الحُسْنَ والقُبحَ العقليَّين لزمه إنكارُ الحُسْن والقُبح الشَّرعيين

(2)

، وإن زعمَ أنه مُقِرٌّ به؛ فإنَّ إخبارَ الشَّرع عن الفعل بأنه حسنٌ أو قبيحٌ مطابقٌ لكونه في نفسه كذلك، فإذا كان في نفسه ليس بحسنٍ ولا قبيحٍ فإنَّ هذا الخبرَ لا مخبَر له إلا مجرَّدُ تعلُّق:«افعل» أو: «لا تفعل» به، وهذا التعلُّق

(3)

عندكم جائزٌ أن يكون بخلاف ما هو به، وأن يتعلَّق الطلبُ بالمنهيِّ عنه، والنهيُ بالمأمور به، والتعلُّقُ لم يجعله حسنًا ولا قبيحًا، بل غايته أن جَعل الفعلَ مأمورًا منهيًّا، فعاد الحُسْنُ والقبحُ إلى مجرَّد كونه مأمورًا منهيًّا.

ولا فرق عندكم بالنظر إلى ذات الفعل بين النَّوعين، بل ما كان مأمورًا يجوزُ أن يقعَ منهيًّا، وبالعكس، فلم يكتسب الأمرُ والنهيُ صفةَ حُسْنٍ ولا قُبحٍ أصلًا، فلا حُسْنَ ولا قُبحَ إذًا عقلًا ولا شرعًا، وإنما هو تعلُّق الطَّلب بالفعل والتَّرك.

وهذا مما لا خلاصَ منه إلا بالقول بأنَّ للأفعال خواصَّ وصفاتٍ عليها في أنفسها اقتضت أن يُؤمَر بحَسَنِها، ويُنهى عن سيِّئها، ويُخْبَر عن حَسَنها بما هو عليه، ويُخْبَر عن قبيحها بما تكونُ عليه

(4)

، فيكونُ للخبر مخبَرٌ ثابتٌ في نفسه، وللأمر

(5)

والنهي متعلَّقٌ ثابتٌ في نفسه.

(1)

(ق، د): «ما قلنا» .

(2)

(ق): «الشرعية» .

(3)

(ت): «التعليق» .

(4)

في الأصول: «ويخبر غيره بقبحها» . والمثبت أشبه.

(5)

في الأصول: «والأمر» . وهو تحريف.

ص: 1152

قالوا: فعِلمُه من العقل بحُسن الحسَن وقُبح القبيح، ثمَّ عِلمُه بأنَّ ما أمرت به الرسلُ هو الحَسن، وما نهت عنه هو القبيح= طريقٌ إلى تصديق الرسل، وأنهم جاؤوا بالحقِّ من عند الله.

ولهذا قال بعض الأعراب، وقد سئل: بماذا عرفتَ أن محمدًا رسولُ الله؟ فقال: ما أمَر بشيءٍ فقال العقل: ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيءٍ فقال العقل: ليته أمرَ به

(1)

.

أفلا ترى هذا الأعرابيَّ كيف جعلَ مطابقةَ الحُسْن والقُبح ــ الذي ركَّب الله في العقول إدراكَه ــ لِمَا جاء به الرسولُ شاهدًا على صحة رسالته وعَلَمًا عليها، ولم يقل: إنَّ ذلك يفتحُ

(2)

طريقَ الاستغناء عن النبوَّة بحاكم العقل؟!

قالوا: وأيضًا؛ فهذا إنما يلزمُ أن لو قيل بأنَّ ما جاءت به الرسلُ ثابتٌ في العقل إدراكُه مفصَّلًا قبل البعثة، فحينئذٍ يقال: هذا يفتح بابَ الاستغناء عن الرسالة.

ومعلومٌ أن إثباتَ الحُسْن والقُبح العقليَّين لا يستلزم هذا، ولا يدلُّ عليه، بل غاية العقل أن يدركَ بالإجمال حُسْنَ ما أتى الشَّرعُ بتفصيله أو قُبحَه، فيدركُه العقلُ جملةً، ويأتي الشَّرعُ بتفصيله.

وهذا كما أنَّ العقلَ يُدْرِكُ حُسْنَ العدل، وأمَّا كونُ هذا الفعل المعيَّن عدلًا أو ظلمًا فهذا مما يَعْجَزُ العقلُ عن إدراكه في كلِّ فعلٍ وعَقْد

(3)

.

(1)

انظر ما تقدم (ص: 874).

(2)

(ق): «يقبح» . وهو تحريف.

(3)

يعني: اعتقاد.

ص: 1153

وكذلك يَعْجَزُ عن إدراك حُسْن كلِّ فعلٍ وقُبحه إلى أن تأتي

(1)

الشرائعُ بتفصيل ذلك وتبيينه

(2)

، وما أدركه العقلُ الصَّريحُ من ذلك أتت الشرائعُ بتقريره، وما كان حَسَنًا في وقتٍ قبيحًا في وقتٍ ولم يهتد العقلُ لوقت حُسْنِه مِنْ وقتِ قُبحِه أتت الشرائعُ بالأمر به في وقتِ حُسْنِه، وبالنهي عنه في وقتِ قُبحِه.

وكذلك الفعلُ يكون مشتملًا على مصلحةٍ ومفسدة، ولا تَعْلَمُ العقولُ مفسدتَه أرجحَ أم مصلحتَه؟ فيتوقَّفُ العقلُ في ذلك، فتأتي الشرائعُ ببيان ذلك، وتأمُر براجح المصلحة، وتنهى عن راجح المفسدة.

وكذلك الفعلُ يكون مصلحةً لشخصٍ مفسدةً لغيره، والعقلُ لا يُدْرِكُ ذلك، فتأتي الشرائعُ ببيانه، فتأمُر به من هو مَصلحةٌ له، وتنهى عنه من هو مفسدةٌ في حقِّه.

وكذلك الفعلُ يكونُ مفسدةً في الظَّاهر، وفي ضِمْنه مصلحةٌ عظيمةٌ لا يهتدي إليها العقل، فلا تُعْلَمُ إلا بالشَّرع، كالجهاد والقَتل في الله. ويكونُ في الظاهر مصلحةً، وفي ضمنه مفسدةٌ عظيمةٌ لا يهتدي إليها العقل، فتجيء الشرائعُ ببيان ما في ضِمْنه من المصلحة والمفسدة الرَّاجحة.

هذا مع أنَّ ما يَعْجَزُ العقلُ عن إدراكه مِن حُسْن الأفعال وقُبحها ليس بدون ما تُدْرِكُه

(3)

من ذلك.

(1)

في الأصول: «وقبحه وان تاتي» . فإن لم يكن سقطٌ فبما أثبتُّ يستقيم الكلام.

(2)

(ت): «وتثبيته» .

(3)

أي: العقول. ولعل الصواب: يدركه.

ص: 1154

فالحاجةُ إلى الرُّسل ضروريَّة، بل هي فوق كلِّ حاجة، فليس العالَمُ إلى شيءٍ أحوجَ منهم إلى المرسَلين صلواتُ الله وسلامه عليهم أجمعين، ولهذا يذكِّرُ سبحانه عبادَه نِعَمَه عليهم برسوله، ويَعُدُّ ذلك عليهم من أعظم المِنَن؛ لشدَّة حاجتهم إليه، ولتوقُّف مصالحهم الجزئيَّة والكليَّة عليه، وأنه لا سعادةَ لهم ولا فلاحَ ولا قيامَ إلا بالرُّسل.

فإذا كان العقلُ قد أدرك حُسْنَ بعض الأفعال وقُبحَها، فمِن أين له معرفةُ الله تعالى بأسمائه وصفاته وآلائه التي تَعَرَّفَ بها الله إلى عباده على ألسنة رسله؟ ومِن أين له معرفةُ تفاصيل شرعِه ودينه الذي شرعه لعباده؟ ومِن أين له تفاصيلُ مواقع محبته ورضاه، وسَخَطه وكراهته؟ ومِن أين له معرفةُ تفاصيل ثوابه وعقابه، وما أعدَّ لأوليائه وما أعدَّ لأعدائه، ومقادير الثَّواب والعقاب، وكيفيَّتهما، ودرجاتهما؟ ومِن أين له معرفةُ الغيب الذي لم يُظْهِر الله عليه أحدًا مِن خلقه إلا من ارتضاه من رسله؟ إلى غير ذلك مما جاءت به الرُّسلُ وبلَّغته عن الله، وليس في العقل طريقٌ إلى معرفته.

فكيف يكون معرفةُ حُسْن بعض الأفعال وقُبحِها بالعقل مُغْنِيًا عمَّا جاءت به الرُّسل؟!

فظهَر أنَّ ما ذكرتموه مجرَّدُ تهويلٍ مشحونٍ بالأباطيل، والحمد لله.

وقد ظهَر بهذا قصورُ الفلاسفة في معرفة النبوَّات، وأنهم لا عِلمَ عندهم بها إلا كعلم عَوَامِّ النَّاس بما عندهم من العقليَّات، بل عِلمُهم بالنُّبوَّات وحقيقتها وعِظَم قَدرها وما جاءت به أقلُّ بكثيرٍ من علم العامَّة بعقليَّاتهم، فهم عوامُّ بالنِّسبة إليها، كما أنَّ من لم يعرف علومَهم عوامُّ بالنِّسبة إليهم!

فلولا النُّبوَّاتُ لم يكن في العالَم علمٌ نافعٌ البتَّة، ولا عملٌ صالح، ولا

ص: 1155

صلاحٌ في معيشة، ولا قِوامٌ لمملكة، ولكان النَّاسُ بمنزلة البهائم والسِّباع العادِية والكلاب الضَّارِية التي يَعْدو بعضُها على بعض.

وكلُّ زَيْنٍ

(1)

في العالم فمن آثار النُّبوَّة، وكلُّ شَيْنٍ

(2)

وقع في العالم أو سيقعُ فبسبب خفاء آثار النُّبوَّةِ ودُروسِها؛ فالعالَمُ حينئذٍ جسدٌ

(3)

رُوحُه النُّبوَّة، ولا قيام للجسد بدون رُوحه.

ولهذا إذا تمَّ انكسافُ شمس النُّبوَّة من العالم، ولم يَبْقَ في الأرض شيءٌ من آثارها البتَّة، انشقَّت سماؤه، وانتثَرت كواكبُه، وكُوِّرت شمسُه، وخُسِفَ قمرُه، ونُسِفت جبالُه، وزُلزِلت أرضُه، وأُهلِك من عليها؛ فلا قيامَ للعالَم إلا بآثار النُّبوَّة.

ولهذا كان كلُّ موضعٍ ظهَرت فيه آثارُ النُّبوَّة أهلُه أحسنُ حالًا وأصلحُ بالًا من الموضع الذي يخفى فيه آثارُها.

وبالجملة؛ فحاجةُ العالم إلى النُّبوَّة أعظمُ من حاجتهم إلى نور الشمس، وأعظمُ من حاجتهم إلى الماء والهواء الذي لا حياة لهم بدونه.

فصل

وأمَّا ما ذكره الفلاسفةُ من مقصود الشَّرائع، وأن ذلك لاستكمال النَّفس قُوى العلم والعمل، والشَّرائعُ تَرِدُ بتمهيد ما تقرَّر في العقل لا بتغييره

(4)

(1)

(د، ق): «دين» . تحريف.

(2)

في الأصول: «شر» . والمثبت أشبه.

(3)

«جسد» ساقطة من (د، ق). واستُدْرِكت في طرة (ت).

(4)

(ق): «في العقل بتعبيره» . وهو تحريف.

ص: 1156

إلى آخره

(1)

= فهذا مقامٌ يجبُ الاعتناءُ بشأنه، وأن لا نَضْرِبَ عنه صَفْحًا، فنقولُ: للنَّاس في المقصود بالشَّرائع والأوامر والنَّواهي أربعةُ طرق

(2)

:

أحدها: طريقُ من يقولُ من الفلاسفة وأتباعهم من المنتسبين إلى المِلَل: إنَّ المقصودَ بها تهذيبُ أخلاق النُّفوس وتعديلُها، لتستعدَّ بذلك لقبول الحكمة العِلميَّة والعمليَّة.

ومنهم من يقول: لتستعدَّ بذلك لأن تكون محلًّا لانتقاش صُوَر المعقولات

(3)

فيها.

ففائدةُ ذلك عندهم كالفائدة الحاصلة مِن صَقْل المِرآة لتستعدَّ لظهور الصُّوَر فيها، وهؤلاء يجعلون الشرائع من جنس الأخلاق الفاضلة والسِّياسات العادلة.

ولهذا رامَ فلاسفةُ الإسلام الجمعَ بين الشَّريعة والفلسفة، كما فعل ابنُ سينا والفارابي وأضرابهما، وآل بهم إلى أن تكلَّموا في خوارق العادات والمعجزات على طريق الفلاسفة المشَّائين

(4)

، وجعلوا لها أسبابًا ثلاثة:

أحدها: القُوى الفلَكيَّة.

والثَّاني: القُوى النَّفسيَّة.

(1)

انظر ما تقدم (ص: 1000).

(2)

انظر: «الجواب الصحيح» (6/ 23 - 41).

(3)

(ق): «الصور المعقولات» .

(4)

أتباع أفلاطون وأرسطو، من فلاسفة اليونان، سمُّوا بذلك لأنهم كانوا يعلِّمون تلاميذهم وهم يمشون. انظر:«أخبار الحكماء» للقفطي (27، 35، 37)، و «درء التعارض» (1/ 157).

ص: 1157

والثالث: القُوى الطَّبيعيَّة

(1)

.

وجعلوا جنسَ الخوارق جنسًا واحدًا، وأدخلوا ما للسَّحرة وأرباب الرِّياضة والكهَنة وغيرهم مع ما للأنبياء والرُّسل في ذلك، وجعَلوا سببَ ذلك كلِّه واحدًا وإن اختلفت بالغايات، والنَّبيُّ قصدُه الخيرُ والسَّاحرُ قصدُه الشرُّ!

وهذا المذهبُ مِنْ أفسد مذاهب العالم وأخبثها، وهو مبنيٌّ على إنكار الفاعل المختار، وأنه تعالى لا يعلمُ الجزئيَّات، ولا يَقْدِرُ على تغيير العالَم، ولا يخلُق شيئًا بمشيئته وقدرته، وعلى إنكار الجنِّ والملائكة ومَعَادِ الأجسام.

وبالجملة؛ فهو مبنيٌّ على الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وليس هذا موضعَ الرَّدِّ على هؤلاء، وكَشْف باطلهم وفضائحهم، إذ المقصودُ ذِكرُ طُرق النَّاس في المقصود بالشَّرائع والعبادات.

وهذه الفِرقةُ غاية ما عندها في العبادات والأخلاق والحكمة العلميَّة أنهم رأوا النَّفس لها شهوةٌ وغضبٌ بقوَّتها العمليَّة، ولها تصوُّرٌ وعِلمٌ بقوَّتها العلميَّة، فقالوا: كمالُ الشَّهوة في العفَّة، وكمالُ الغضب في الحِلم

(2)

والشَّجاعة، وكمالُ القوَّة النَّظريَّة بالعلم، والتَّوسُّطُ في جميع ذلك بين طرفي الإفراط والتَّفريط هو العدل.

هذا غاية ما عند القوم من المقصود بالعبادات والشَّرائع، وهو عندهم

(1)

انظر: «الإشارات» لابن سينا (4/ 900)، و «الصفدية» (1/ 165).

(2)

(ق): «الحكم» . وهو تحريف.

ص: 1158

غاية كمال النَّفس، وهو استكمالُ قوَّتيها العِلميَّة والعمليَّة، فاستكمالُ قوَّتها العِلميَّة عندهم بانطباع صُوَر المعلومات في النَّفس، واستكمالُ قوَّتها العمليَّة بالعدل.

وهذا غايةُ

(1)

ما عندهم من العلم والعمل، وليس فيه بيانُ خاصِّيَّة النَّفس التي لا كمال لها بدونه البتَّة، وهو الذي خُلِقت له، وأُريد منها، بل ما عرفه القوم؛ لأنه لم يكن عندهم مِن معرفة متعلَّقه إلا نزرٌ يسيرٌ غيرُ مُجْدٍ ولا محصِّلٍ للمقصود، وذلك معرفةُ الله بأسمائه وصفاته، ومعرفةُ ما ينبغي لجلاله، وما يتعالى ويتقدَّسُ عنه، ومعرفةُ أمره ودينه، والتَّمييزُ بين مواقع رضاه وسخطه، واستفراغُ الوُسْع في التقرُّب إليه، وامتلاءُ القلب بمحبته، بحيث يكون سلطانُ حبِّه قاهرًا لكلِّ محبة.

ولا سعادة للعبد في دنياه ولا في أخراه إلا بذلك، ولا كمال للرُّوح بدون ذلك البتَّة، وهذا هو الذي خُلِق له وأُريد منه، بل ولأجله خُلِقت السَّمواتُ والأرض، واتُّخِذَت الجنَّةُ والنَّار، كما سيأتي تقريرُه من أكثر من مئة وجهٍ إن شاء الله

(2)

، ومعلومٌ أنه ليس عند القوم من هذا خبَر، بل هم في وادٍ وأهلُ الشأن في وادٍ.

وهذا هو الدِّينُ الذي أجمعت الأنبياءُ

(3)

عليه من أوَّلهم إلى خاتمتهم، كلُّهم جاء به وأخبَر عن الله أنه دينُه الذي رَضِيَه لعباده وشَرَعَه لهم وأمرهم به، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ

(1)

(د، ق): «وهذا مع أنه غاية» .

(2)

لم يقع ذلك في باقي الكتاب. وراجع ما كتبناه في المقدمة.

(3)

(ت): «اجتمعت الأنبياء» .

ص: 1159

وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وقال تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، وقال تعالى:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45]، وقال:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 51 - 52]، وقال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، وقال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم: 30 - 31]، وقال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

فالغاية الحميدةُ التي يحصُل بها كمالُ بني آدم وسعادتُهم ونجاتُهم هي معرفةُ الله ومحبتُه وعبادتُه وحده لا شريك له، وهي حقيقةُ قول العبد: لا إله إلا الله، وبها بُعِثَت الرُّسل، ونزَلت جميعُ الكتب، ولا تصلُح النَّفس ولا تَزْكو ولا تكمُل إلا بذلك.

قال تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6 - 7]؛ أي: لا يُؤتونَ ما تَزْكى

(1)

به أنفسُهم من التَّوحيد والإيمان. ولهذا فسَّرها

(1)

زَكِيَ يَزْكى، وزكا يزكو، صَلُح وطَهُر. وفي «الجواب الصحيح» (6/ 29):«تزكو» .

ص: 1160

غيرُ واحدٍ من السَّلف

(1)

بأن قالوا: {لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} لا يقولون: لا إله إلا الله.

فعبادةُ الله وحده لا شريك له، وأن يكونَ اللهُ أحبَّ إلى العبد من كلِّ ما سواه، هو أعظمُ وصيَّة جاءت بها الرُّسلُ ودعَوا إليها الأمم.

وسنبيِّن ــ إن شاء الله ــ عن قريبٍ بالبراهين الشَّافية أنَّ النَّفس ليس لها نجاةٌ ولا سعادةٌ ولا كمالٌ إلا بأن يكون اللهُ وحده محبوبها ومعبودَها الذي لا أحبَّ إليها منه، ولا آثَر عندها مِن مرضاته والتقرُّب إليه، وأنَّ النَّفس محتاجةٌ بل مضطرَّةٌ إليه [من] حيث هو معبودُها ومحبوبها وغاية مرادها أعظمَ من اضطرارها إليه من حيث هو ربُّها وخالقُها وفاطرُها

(2)

.

ولهذا كان مَن آمنَ بالله خالقِه ورازقِه وربِّه ومليكِه، ولم يؤمن بأنه لا إله يُعْبَدُ ويُحَبُّ ويُخْشى ويُخافُ غيرُه، بل أشرَك معه في عبادته غيرَه= فهو كافرٌ به، مشركٌ شركًا لا يغفره الله؛ كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48، 116]، وقال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165]، فأخبَر أنَّ من أحبَّ شيئًا سوى الله مثلَ ما يحبُّ اللهَ فقد اتخذ من دون الله ندًّا.

ولهذا يقولُ أهلُ النَّار لمَعْبُودِيهم وهم معهم فيها: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 - 98]، وهذه التَّسوية إنما

(1)

كابن عباس وعكرمة. انظر: «تفسير الطبري» (21/ 430)، و «الدعاء» للطبراني (3/ 1505)، و «الدر المنثور» (7/ 313).

(2)

لم يقع بيان ذلك في باقي الكتاب. وراجع ما كتبناه في المقدمة.

ص: 1161

كانت في الحبِّ والتَّألُّه، لا في الخلق والقدرة والرُّبوبيَّة، وهي العدلُ الذي أخبَر به عن الكفَّار بقوله:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]، وأصحُّ القولين: أنَّ المعنى: ثمَّ الذين كفروا يعدلون بربِّهم، فيجعلون له عِدلًا

(1)

يحبُّونه ويعبدونه كما يحبُّون الله ويعبدونه.

فما ذكره الفلاسفةُ من الحكمة العِلميَّة والعمليَّة ليس فيها من العلوم والأعمال ما تَسْعَدُ به النُّفوسُ وتنجو به من العذاب؛ فليس في حِكمتهم العِلميَّة إيمانٌ بالله، ولا ملائكته، ولا كتبه، ولا رُسله، ولا لقائه، وليس في حِكمتهم العمليَّة عبادتُه وحده لا شريك له، واتِّباعُ مرضاته، واجتنابُ مساخطه، ومعلومٌ أن النُّفوس لا سعادة لها ولا فلاحَ إلا بذلك؛ فليس في حِكمتهم العِلميَّة والعمليَّة ما تَسْعَدُ به النُّفوسُ وتفوز.

ولهذا لم يكونوا داخلين في الأمم السُّعداء في الآخرة؛ وهم الأممُ الأربعةُ المذكورون في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].

وهذه الكمالاتُ الأربعةُ التي ذكرها الفلاسفةُ للنَّفس لا بدَّ منها في كمالها وصلاحها، ولكن قصَّروا غاية التَّقصير في أنهم لم يبيِّنوا متعلَّقها، ولم يحدُّوا لها حدًّا فاصلًا بين ما تحصُل به السَّعادة وما لا تحصُل به.

(1)

(ت): «عديلا» . والعِدل والعديل: المِثل والنظير.

ص: 1162

فإنهم لم يَذْكُروا متعلَّق العِفَّة، ولا عمَّاذا تكون؟ ولا مقدارَها الذي إذا تجاوزه العبدُ وقعَ في الفجور، وكذلك الحِلمُ لم يذكُروا مَواقِعَه، ومقداره، وأين يحسُن؟ وأين يقبُح؟، وكذلك الشَّجاعة، وكذلك العلمُ لم يميِّزوا العلمَ الذي تَزكُو به النُّفوسُ وتَسْعَدُ مِن غيره، بل لم يعرفوه أصلًا.

وأمَّا الرُّسلُ ــ صلواتُ الله وسلامه عليهم ــ فبيَّنوا ذلك غاية البيان، وفصَّلوه أحسنَ تفصيل، وقد جمع الله ذلك في كتابه في آية واحدة، فقال:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].

فهذه الأنواعُ الأربعةُ التي حرَّمها

(1)

تحريمًا مطلقًا لم يُبِح منها شيئًا لأحدٍ من الخلق، ولا في حالٍ من الأحوال، بخلاف الميتة والدَّم ولحم الخنزير فإنها تحرُم في حالٍ وتباحُ في حال، وأمَّا هذه الأربعةُ فهي محرَّمةٌ مطلقًا

(2)

.

فالفواحشُ متعلِّقةٌ بالشَّهوة، وتعديلُ قوَّة الشَّهوة باجتنابها

(3)

، والبغيُ بغير الحقِّ متعلِّقٌ بالغضب، وتعديلُ القوَّة الغضبيَّة باجتنابه، والشركُ بالله ظلمٌ عظيم، بل هو الظُّلمُ على الإطلاق، وهو منافٍ للعَدل والعلم

(4)

.

(1)

«الجواب الصحيح» (6/ 33): «هي التي حرمها» .

(2)

«مطلقًا» ليست في (ق).

(3)

من هنا سقط على ناسخ (ت) مقدار ورقة.

(4)

في «الجواب الصحيح» (6/ 33): «

والشرك بالله فسادُ أصل العدل، فإن الشرك ظلمٌ عظيم، والقول على الله بلا علمٍ فسادٌ في العلم، فقد حرَّم سبحانه هذه الأربعة، وهي فسادُ الشهوة والغضب، وفساد العدل والعلم».

ص: 1163

وقولُه: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [الأعراف: 33] متضمِّنٌ تحريمَ أصل الظُّلم في حقِّ الله، وذلك يستلزمُ إيجابَ العدل في حقِّه، وهو عبادته وحده لا شريك له؛ فإنَّ النَّفس لها القوَّتان: العِلميَّة والعمليَّة، وعملُ الإنسان عملٌ اختياريٌّ تابعٌ لإرادة العبد، وكلُّ إرادةٍ فلها مُراد

(1)

، وهو إمَّا مرادٌ لنفسه، وإمَّا مرادٌ لغيره ينتهي إلى المراد لنفسه ولا بدَّ، فالقوَّةُ العمليَّة تستلزمُ أن يكون للنَّفس مرادٌ تُسْتَكمَلُ بإرادته، فإن كان ذلك المرادُ مضمحِلًّا فانيًا زالت الإرادةُ بزواله ولم يكن للنَّفس مرادٌ غيرُه، ففاتها أعظمُ سعادتها وفلاحها؛ فيجب إذًا أن يكون مرادُها الذي تستكملُ بإرادته وحبِّه وإيثاره باقيًا لا يفنى ولا يزول، وليس ذلك إلا الله وحده.

وسنذكرُ إن شاء الله عن قريبٍ معنى تعلُّق الإرادة به تعالى، وكونه مرادًا والعبدُ مريدٌ له

(2)

، فإنَّ هذا مما أشكَل على بعض المتكلِّمين حيث قالوا: إنَّ الإرادة لا تتعلَّقُ إلا بحادث، وأمَّا القديمُ فكيف يكون مرادًا؟، وخَفِيَ عليهم الفرقُ بين الإرادة الغائيَّة والإرادة الفاعليَّة، وجعلوا الإرادتين واحدةً

(3)

.

والمقصود: أنَّ هؤلاء الفلاسفةَ لم يذكُروا هذا في كمال النَّفس، وإنما جعلوا كمالها في تعديل الشَّهوة والغضب، والشَّهوةُ هي جلبُ ما ينفعُ البدنَ ويبقي النَّوع، والغضبُ دفعُ ما يضرُّ البدن، وما تعرَّضوا لمراد الرُّوح المحبوب لذاته، وجعلوا كمالَها العلميَّ في مجرَّد العلم، وغلطوا في ذلك

(1)

(ط): «مراد وكمال» .

(2)

لم يقع ذكر ذلك في باقي الكتاب. وراجع ما كتبناه في المقدمة.

(3)

انظر: «مدارج السالكين» (2/ 364).

ص: 1164

من وجوهٍ كثيرة

(1)

:

منها: أنَّ ما ذكروه لا يعطي كمالَ النَّفس الذي خُلِقَت له، كما بينَّاه.

ومنها: أنَّ ما ذكروه في كمال القوَّة العمليَّة إنما غايتُه إصلاحُ البدن الذي هو آلةُ النَّفس، ولم يذكروا كمالَ النَّفس الإراديَّ والعمليَّ

(2)

بالمحبة والخوف والرَّجاء.

ومنها: أنَّ كمالَ النَّفس في العلم والإرادة، لا في مجرَّد العلم؛ فإنَّ مجرَّد العلم ليس بكمالٍ للنَّفس ما لم تكن مريدةً محبةً لمن لا سعادة لها إلا بإرادته ومحبته، فالعلمُ المجرَّدُ لا يعطي النَّفس كمالًا ما لم تقترن به الإرادةُ والمحبة.

ومنها: أنَّ العلمَ لو كان كمالًا بمجرَّده لم يكن ما عندهم من العلم كمالًا للنَّفس، فإنَّ غاية ما عندهم:

* [إمَّا] علومٌ رياضيَّة صحيحة، مصالحُها من جنس مصالح الصِّناعات، وربَّما كانت الصِّناعاتُ أصلحَ وأنفعَ من كثيرٍ منها.

* وإمَّا علمٌ طبيعيٌّ صحيح، غايتُه

(3)

معرفةُ العناصر وبعض خواصِّها وطبائعها، ومعرفةُ بعض ما يتركَّبُ منها، وما يستحيلُ من المركَّبات

(4)

إليها،

(1)

انظر: «الصفدية» (2/ 233، 249 وما بعدها)، و «مجموع الفتاوى» (2/ 94)، و «درء التعارض» (3/ 274)، و «الرد على المنطقيين» (144).

(2)

(ط): «والعمل» .

(3)

(ق، د): «علم طبيعي غاية صحيحة» . والمثبت من (ط)، وهو أشبه.

(4)

في الأصول: «الموجبات» . وهو تحريف. انظر: «التعريفات» (24).

ص: 1165

وبعض ما يقعُ في العالم من الآثار بامتزاجها واختلاطها. وأيُّ كمالٍ للنَّفس في هذا؟! وأيُّ سعادةٍ لها فيه؟!

* وإمَّا علمٌ إلهيٌّ كلُّه باطلٌ لم يوفَّقوا لإصابة الحقِّ فيه في مسألةٍ واحدة.

ومنها: أنَّ كمالَ النَّفس وسعادتها المستفادَ من الرُّسل ــ صلواتُ الله وسلامُه عليهم ــ ليس عندهم اليوم منه حِسٌّ ولا خبر، ولا عينٌ ولا أثر؛ فهم أبعدُ النَّاس من كمالات النُّفوس وسعاداتها.

وإذا عُرِفَ ذلك، وأنه لابدَّ للنَّفس من مرادٍ محبوبٍ لذاته لا تصلُح إلا به، ولا تكمُل إلا بحبِّه وإيثاره وقَطْع العلائق عن غيره، وأنَّ ذلك هو النِّهاية وغاية مطلوبها ومرادها الذي إليه ينتهي الطَّلب، فليس ذلك إلا الله الذي لا إله إلا هو، قال تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 21 - 22].

وليس صلاحُ الإنسان وجَدُّه وسعادتُه إلا بذلك، بل وكذلك الملائكةُ والجنُّ وكلُّ حيٍّ شاعرٍ

(1)

لا صلاحَ له إلا بأن يكون الله وحدَه إلهه ومعبودَه وغاية مراده، وسيمرُّ بك إن شاء الله بسطُ القول في ذلك وإقامةُ

(2)

البراهين على هذا المطلوب الأعظم الذي هو غاية سعادة النُّفوس وأشرفُ مطالبها

(3)

.

(1)

من الشُّعور. انظر: «درء التعارض» (10/ 94)، و «شفاء العليل» (830).

(2)

انتهى هنا السقط من (ت).

(3)

لم يقع ذلك في باقي الكتاب. وراجع ما كتبناه في المقدمة.

ص: 1166

فلنرجِع إلى ما كنَّا فيه من بيان طُرق النَّاس في مقاصد العبادات.

الطَّريق الثَّاني: طريقُ من يقولُ من المعتزلة ومن تابعهم: إنَّ الله سبحانه عرَّضهم بها للثَّواب، واستأجَرهم بتلك الأعمال للجزاء، فعاوَضهم عليها معاوَضةً.

قالوا: والإنعامُ منه في الآخرة بدون الأعمال غيرُ حسَن؛ لما فيه من تكدير منَّة العطاء ابتداءً، ولما فيه من الإخلال بالمدح والثَّناء والتَّعظيم الذي لا يُسْتَحقُّ إلا بالتكليف.

ومنهم من يقول: إنَّ الواجبات الشَّرعيَّة لُطْفٌ في الواجبات العقليَّة.

ومنهم من يقول: إنَّ الغاية المقصودة التي يحصُل بها الثَّوابُ هي العمل، والعلمُ وسيلةٌ إليه. حتَّى ربَّما قالوا ذلك في معرفة الله تعالى، وأنها إنما وجبت لأنها لُطْفٌ في أداء الواجبات العمليَّة.

وهذه الأقوالُ تَصَوُّرُ العاقلِ اللبيب لها حقَّ التَّصوُّر كافٍ في جزمه ببطلانها، رافعٌ عنه مؤنةَ الرَّدِّ عليها، والوجوه الدَّالَّةُ على بطلانها أكثرُ من أن تُذْكَرَ هاهنا.

الطَّريق الثَّالث: طريقُ الجَبْريَّة ومن وافقهم؛ أنَّ الله تعالى سبحانه امتحنَ عبادَه بذلك، وكلَّفهم، لا لحكمةٍ ولا لغاية مطلوبةٍ له ولا بسببٍ

(1)

من الأسباب، فلا لامُ تعليلٍ ولا باءُ سببٍ، إن هو إلا محضُ المشيئة، وصِرْفُ الإرادة. كما قالوا في الخَلْق سواء.

(1)

(ت): «لسبب» .

ص: 1167

وهؤلاء قابلوا مَن قبلهم من القَدَرِيَّة والمعتزلة أعظمَ مقابلة؛ فهما طرفا نقيضٍ لا يلتقيان.

والطَّريق الرَّابع: طريقُ أهل العلم والإيمان الذين عقلُوا عن الله أمرَه ودينَه، وعرفوا مرادَه بما أمرهم ونهاهم عنه، وهي أنَّ نفسَ معرفة الله ومحبته وطاعته والتقرُّب إليه

(1)

وابتغاء الوسيلة إليه أمرٌ مقصودٌ لذاته، وأنَّ الله سبحانه يستحقُّه لذاته، وهو سبحانه المحبوبُ لذاته، الذي لا تصلُح العبادةُ والمحبةُ والذُّلُّ والخضوعُ والتَّألُّه إلا له؛ فهو يستحقُّ ذلك لأنه أهلٌ أن يُعْبَد ولو لم يخلُق جنَّةً ولا نارًا، ولو لم يَضَع ثوابًا ولا عقابًا، كما جاء في بعض الآثار:«لو لم أخلُق جنَّةً ولا نارًا، أما كنتُ أهلًا أن أُعْبَد؟»

(2)

.

فهو سبحانه يستحقُّ غاية الحبِّ والطَّاعة والثَّناء والمجد والتَّعظيم؛ لذاته، ولما له من أوصاف الكمال ونُعوت الجلال.

وحبُّه والرِّضا به وعنه والذُّلُّ له والخضوعُ والتَّعبُّدُ هو غاية سعادة النَّفس وكمالها، والنَّفس إذا فقدت ذلك كانت بمنزلة الجسد الذي فقدَ روحَه وحياتَه، والعين التي فقدت ضوءها ونورَها، بل أسوأ حالًا من ذلك مِنْ وجهين:

أحدهما: أنَّ غاية الجسد إذا فقدَ روحَه أن يصيرَ معطَّلًا ميتًا، وكذلك العينُ تصيرُ معطَّلة، وأمَّا النَّفس إذا فقدت كمالَها المذكورَ فإنها تبقى معذَّبةً متألِّمة، وكلَّما اشتدَّ حجابُها اشتدَّ عذابُها وألمُها، وشاهدُ هذا ما يجدُه المُحِبُّ الصادقُ المحبةِ من العذاب والألم عند احتجاب محبوبه عنه، ولا

(1)

(ت، ص): «والندب إليه» .

(2)

تقدم تخريجه (ص: 1078).

ص: 1168

سيَّما إذا يئسَ من قُرْبِه، وحَظِيَ غيرُه بحبِّه ووَصْلِه، هذا مع إمكان التَّعوُّض

(1)

عنه بمحبوبٍ آخرَ نظيرِه أو خيرٍ منه، فكيف بروحٍ فقدت محبوبَها الحقَّ الذي لم تُخْلَق إلا لمحبته، ولا كمال لها ولا صلاحَ أصلًا إلا بأن يكون أحبَّ إليها من كلِّ ما سواه؟! وهو محبوبُها الذي لا يعوِّض عنه سواه بوجهٍ ما

(2)

، كما قال القائل:

مِنْ كلِّ شيءٍ إذا ضيَّعتَه عِوَضٌ

وما مِن الله إن ضيَّعتَه عِوَضُ

(3)

ولو لم يكن احتجابُه سبحانه عن عبده أشدَّ أنواع العذاب عليه لم يتوعَّد

(4)

به أعداءه؛ كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} [المطففين: 15 - 16]؛ فأخبَر أنَّ لهم عذابين:

أحدهما: عذابُ الحجاب عنه.

والثَّاني: صِلِيُّ الجحيم.

وأحدُ العذابين أشدُّ من الآخر.

(1)

(ص): «التعويض» .

(2)

(ق): «تعوض منه سواه بوجه ما» . (ت): «تعويض منه سواه بوجه» . (د): «يعوض منه سواه بوجه ما» . (ص): «تعوض عنه بوجه» . والمثبت أشبه.

(3)

أصله في «الأنساب» (11/ 397)، و «دمية القصر» (1338)، و «المحمدون» للقفطي (149)، رآه أبو جعفر المعدني مكتوبًا على جدار، فأجازه.

وهو في «طبقات الشافعية» (8/ 228)، و «زاد المعاد» (4/ 173)، و «الداء والدواء» (173، 462) دون نسبة.

(4)

كذا في الأصول، بلا ألف. وانظر ما تقدم (ص: 270، 494).

ص: 1169

وهذا كما أنه سبحانه يُنْعِمُ على أوليائه بنعيمَين

(1)

:

* نعيم كَشْفِ الحجاب، فينظرون إليه.

* ونعيم الجنَّة وما فيها.

وأحدُ النَّعيمَين أحبُّ إليهم من الآخر، وآثَر عندهم، وأقرُّ لعيونهم، كما في «الصَّحيح» عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إذا دخلَ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ نادى مُنادٍ: يا أهل الجنَّة، إنَّ لكم عند الله موعدًا يريدُ أن يُنْجِزَكُموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يُبيِّض وجوهَنا، ويُثَقِّل موازينَنا، ويُدْخِلنا الجنَّة، ويُجِرْنا من النَّار؟ قال: فيكشفُ الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئًا أحبَّ إليهم من النَّظر إليه»

(2)

.

وفي حديثٍ غير هذا: أنهم إذا نظروا إلى ربِّهم تبارك وتعالى أنساهم لذَّةُ النَّظر إليه ما هم فيه من النَّعيم

(3)

.

والوجه الثَّاني: أنَّ البدنَ والأعضاء آلاتٌ للنَّفس، ورعيَّة للقلب، وخَدَمٌ له، فإذا فقَد بعضُهم كمالَه الذي خُلِقَ له كان بمنزلة هلاك بعض جُند الملك ورعيَّته، وتعطُّل بعض آلاته، وقد لا يلحقُ الملكَ من ذلك ضررٌ أصلًا، وأمَّا إذا فقَد القلبُ كمالَه الذي خُلِقَ له وحياتَه ونعيمَه كان بمنزلة هلاك المَلك وأسْرِه، وذهاب مُلكه من يديه، وصَيْرورته أسيرًا في أيدي أعاديه.

(1)

(د): «بنعمتين» ، وفي الطرة:«لعله: بنعيمين» .

(2)

أخرجه مسلم (181)، وابن حبان (7441) واللفظ له.

(3)

أخرجه عبد بن حميد (849 - المنتخب)، والدارمي في «الرد على الجهمية» (189)، و «النقض على بشر المريسي» (229)، وغيرهما من حديث ابن عمر مرفوعًا بإسنادٍ فيه انقطاع. وانظر:«الشريعة» للآجري (572).

ص: 1170

فهكذا الروحُ إذا عدمت كمالها وصلاحَها من معرفة فاطرها وبارئها، وكَوْنه أحبَّ شيءٍ إليها، ورضاه وابتغاء الوسيلة إليه آثرُ شيءٍ عندها، حتَّى يكونُ اهتمامُها بمحبته ومرضاته اهتمامَ المُحِبِّ التَّامِّ المحبة بمرضاة محبوبه الذي لا يجدُ منه عوضًا= كانت بمنزلة المَلك الذي ذهب منه مُلكه، وأصبحَ أسيرًا في أيدي أعاديه يسومونه سوءَ العذاب.

وهذا الألمُ كامنٌ في النَّفس، لكن يسترُه سُكْرُ الشَّهوات، ويواريه حجابُ الغفلة، حتَّى إذا كُشِفَ الغطاء، وحِيلَ بين العبد وبين ما يشتهي، وجَد حقيقةَ ذلك الألم، وذاق طعمَه، وتجرَّد ألمُه عمَّا يحجبُه ويواريه.

وهذا أمرٌ يُدْرَكُ بالعِيان والتَّجربة في هذه الدَّار؛ تكون الأسبابُ المؤلمةُ للرُّوح والبدن موجودةً مقتضية لآثارها، ولكن يقومُ للقلب مِن فرحه بحظٍّ ناله من مالٍ أو جاهٍ أو وِصَالِ حبيبٍ ما يواري عنه شُهودَ الألم، وربَّما لا يشعُر به أصلًا، فإذا زال المُعارِضُ

(1)

ذاق طعمَ الألم، ووجَد مسَّه، ومن اعتبر أحوالَ نفسه وغيره عَلِمَ ذلك.

فإذا كان هذا في هذه الدَّار، فما الظَّنُّ عند المفارقة والفِطام عن الدُّنيا، والانتقال إلى الله والمصير إليه؟!

فليتأمَّل العاقلُ الفَطِنُ النَّاصحُ لنفسه هذا الموضعَ حقَّ التَّأمُّل، ولْيَشْغَل به محلَّ أفكاره

(2)

، فإن فَهِمَه وعَقَله واستمرَّ إعراضُه:

(1)

(ت): «العارض» .

(2)

(ط): «كل أفكاره» . وفي (ق): «وليشعل» بالمهملة.

ص: 1171

فما تَبْلُغُ الأعداءُ من جاهلٍ

ما يَبْلُغُ الجاهلُ من نفسِه

(1)

وإن لم يفْهَمه لغِلَظِ حجابه، وكثافة طبعِه، فيكفيه الإيمانُ بما أعدَّ الله تعالى في الجنَّة لأهلها من نعيم الأكل والشُّرب والنكاح والمَناظر المُبْهِجة، وما أعَدَّ في النَّار لأهلها من السَّلاسل والأغلال والحَمِيم ومُقَطَّعات الثِّياب من النَّار ونحو ذلك.

والمقصود بيانُ أن الحاجةَ إلى الرسل ــ صلواتُ الله عليهم وسلامه ــ ضروريَّة، بل هي في أعلى مراتب الضرورة، وليست نظيرًا

(2)

لحاجتهم إلى الحياة

(3)

وأسبابها، بل هي أعظمُ من ذلك.

وأمَّا ما ذُكِر عن الصَّابئة من الاستغناء عن النبوَّة، فهذا ليس مذهبًا لجميعهم، بل فيهم سعيدٌ وشقيٌّ، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]، فأدخَل المؤمنين من الصَّابئين في أهل السَّعادة، ولم ينالوا ذلك إلا بالإيمان بالرسل، ولكنَّ منهم من أنكر النبوَّات وعبَد الكواكب، وهم فِرقٌ كثيرةٌ ليس هذا موضع ذكرهم

(4)

.

(1)

من أبياتٍ مشهورة لصالح بن عبد القدوس، في «الحماسة البصرية» (2/ 40)، و «العقد» (2/ 436)، و «المنتخل» (599)، وغيرها.

(2)

في الأصول: «نظرًا» . والمثبت أشبه.

(3)

غير محررة في (د)، وفي (ق، ت): «الحاجة» . والمثبت أدنى إلى الصواب. انظر: «زاد المعاد» (1/ 69)، و «الفوائد» (227).

(4)

انظر ما تقدم (ص: 1002) والتعليق عليه.

ص: 1172