الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأمَّةُ الوسطُ تشهدُ عِزَّ الرُّبوبية، وقَهْرَ المشيئة ونفوذها في كلِّ شيء، وتشهدُ مع ذلك فِعْلَها وكسبها واختيارها وإيثارها شهواتها على مرضاة ربها.
فيوجبُ الشُّهودُ الأوَّلُ لها سؤالَ ربها والتَّذلُّل له والتَّضرُّع إليه
(1)
أن يوفِّقها لطاعته، ويحُول بينها وبين معصيته، وأن يثبِّتها على دينه ويعصمها بطواعِيَتِه
(2)
.
ويوجبُ الشُّهودُ الثَّاني لها اعترافَها بالذَّنب وإقرارها به على نفسها وأنها هي
(3)
الظَّالمةُ المستحقَّةُ للعقوبة، وتنزيهَ ربها عن الظُّلم وأن يعذِّبها بغير استحقاقٍ منها، أو يعذِّبها على ما لم تعمله
(4)
.
فيجتمعُ لها من الشُّهودَين شهودُ التَّوحيد والشرع والعدل والحكمة.
وقد ذكرنا في «الفتوحات القُدُسيَّة»
(5)
مشاهدَ الخَلق في مُواقعة الذَّنب
، وأنها تنتهي إلى ثمانية مشاهد
(6)
:
(1)
(ح، ن): «والتذلل والتضرع له» . (ت): «والتذلل له» .
(2)
أي: بطاعته.
(3)
(ت، ح، ق، ن): «وأنما هي» .
(4)
(ق، د، ت): «تعلمه» . والمثبت من (ح، ن) أشبه.
(5)
لعله هو «الفتح القدسي» ، وهو من كتب المصنف التي لم يُعْثَر عليها بعد، وقد ذكره في بعض كتبه، وذكره له غيرُ واحد. انظر:«ابن القيم» للشيخ بكر (278).
(6)
ذكرها المصنف في «طريق الهجرتين» (350 - 372). وأفاض في «مدارج السالكين» (1/ 399 - 433) القول فيها، فبلغت ثلاثة عشر مشهدًا، وأفردها بعض النساخ، ومنها نسخة في تشستربتي، ونشرها المكتب الإسلامي.
وهذا البابُ مما اعتنى ابن القيم بتحريره وتجويده، ولم أره في المطبوع من تراث شيخه. وقال في «المدارج»:«وهذا الفصل من أجلِّ فصول الكتاب، وأنفعها لكل أحد، وهو حقيقٌ بأن تثنى عليه الخناصر، ولعلك لا تظفر به في كتابٍ سواه إلا ما ذكرناه في كتابنا المسمى: سفر الهجرتين في طريق السعادتين» .
وسيأتي تنبيهه على قلَّة من استفتحه من الناس، وأن جلَّ بحثهم هو في شهود حِكَم المخلوقات والأوامر والنواهي.
أحدها: المشهدُ الحيوانيُّ البهيميُّ؛ الذي شُهودُ صاحبه مقصورٌ على شُهود لذَّته به فقط، وهو في هذا المشهد مشاركٌ لسائر الحيوانات، وربَّما يزيدُ عليه
(1)
في اللذَّة وكثرة التمتُّع.
والثَّاني: مشهدُ الجَبْر؛ وأنَّ الفاعل فيه سواه، والمحرِّك له غيرُه، ولا ذنبَ له هو. وهذا مشهدُ المشركين وأعداء الرُّسل.
الثَّالث: مشهدُ القَدَر؛ وهو أنه هو الخالقُ لفعله المُحْدِثُ له بدون مشيئة الله
(2)
وخَلْقِه. وهذا مشهدُ القَدَريَّة المجوسيَّة.
الرَّابع: مشهدُ أهل العلم والإيمان، وهو مشهدُ القدر والشَّرع، يَشْهَدُ فعلَه وقضاءَ الله وقدرَه، كما تقدَّم.
الخامس: مشهدُ الفقر والفاقة والعجز والضَّعف وأنه إن لم يُعِنْه الله
(3)
ويثبِّته ويوفِّقه فهو هالك. والفرقُ بين هذا
(4)
ومشهد الجبريَّة ظاهر.
السَّادس: مشهدُ التَّوحيد الذي يُشْهَدُ فيه انفرادُ الله عز وجل بالخَلق والإبداع ونفوذ المشيئة، وأنَّ الخلقَ أعجزُ من أن يعصُوه بغير مشيئته.
(1)
أي: يزيد الحيوانُ عليه.
(2)
(ت): «من غير مشيئة الله» .
(3)
(ح، ن): «يغثه الله» .
(4)
(ح، ن): «مشهد هذا» .
والفرقُ بين هذا وبين المشهد الخامس أنَّ صاحبَه شاهدٌ لكمال فقره وضعفه وحاجته، وهذا شاهدٌ لتفرُّد الله بالخلق والإبداع، وأنه لا حول ولا قوَّة إلا به.
السَّابع: مشهدُ الحكمة، وهو أن يَشْهَد حكمةَ الله عز وجل في قضائه وتخليته بين العبد وبين الذَّنب.
ولله في ذلك حِكَمٌ تعجزُ العقولُ عن الإحاطة بها، وذكرنا منها في ذلك الكتاب
(1)
قريبًا من أربعين حكمة
(2)
، وقد تقدَّم في أوَّل هذا الكتاب التنبيهُ على بعضها
(3)
.
الثَّامن: مشهدُ الأسماء والصِّفات، وهو أن يَشْهَد ارتباط الخلق والأمر والقضاء والقدر بأسمائه تعالى وصفاته، وأنَّ ذلك مُوجَبُها ومقتضاها؛ فأسماؤه الحسنى اقتضت ما اقتضته من التَّخلية بين العبد وبين الذَّنب؛ فإنه الغفَّارُ التوَّابُ العفوُّ الحليم، وهذه أسماءُ تطلُب آثارَها ومُوجِباتها ولا بدَّ، «فلو لم تذنبوا لذهبَ الله بكم ولجاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون فيغفرُ لهم»
(4)
.
وهذا المشهدُ والذي قبله أجلُّ هذه المشاهد وأشرفُها، وأرفعُها قدرًا، وهما لخواصِّ الخليقة. فتأمَّل بُعْد ما بينهما وبين المشهد الأول.
(1)
أي: «الفتوحات القدسية» المتقدِّم ذكره.
(2)
وذكرها كذلك في كتاب «التحفة المكية» . انظر: «بدائع الفوائد» (1552). وسيبسط القول فيما يأتي في إحدى وثلاثين حكمةٍ منها، وساقها مختصرةً في «طريق الهجرتين» (362 - 372).
(3)
(ص: 12، 65). وانظر التعليق عليه.
(4)
كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم (2749) عن أبي هريرة.
وهذان المشهدان يَطْرحان العبدَ على باب المحبة، ويفتحان له من المعارف والعلوم أمورًا لا يُعَبَّرُ عنها.
وهذا بابٌ عظيمٌ من أبواب المعرفة قلَّ من استفتحه من النَّاس، وهو شهودُ الحكمة البالغة في قضاء السيِّئات وتقدير المعاصي، وإنما استفتح النَّاسُ بابَ الحِكَم في الأوامر والنَّواهي، وخاضوا فيها، وأتوا بما وصلت إليه علومُهم، واستفتحوا أيضًا بابها في المخلوقات، كما قدَّمناه، وأتوا فيه بما وصلت إليه قُواهم، وأمَّا هذا البابُ فكما رأيتَ كلامهم فيه، فقلَّ أن ترى لأحدهم
(1)
فيه ما يشفي أو يُلِمُّ
(2)
.
وكيف يطَّلعُ على حكمة هذا الباب من عنده أنَّ أعمال العباد ليست مخلوقةً لله، ولا داخلةً تحت مشيئته أصلًا؟! وكيف يتطلَّبُ لها حكمةً أو يثبتُها؟!
أم كيف يطَّلعُ عليها من يقول: هي خلقُ الله، ولكنَّ أفعاله غيرُ معلَّلةٍ بالحِكَم ولا تَدْخُلها لامُ تعليلٍ أصلًا، وإن جاء شيءٌ من ذلك صُرِف إلى لام العاقبة لا إلى لام العلَّة والغاية، فإذا جاءت الباءُ في أفعاله صُرِفت إلى باء المصاحبة لا إلى باء السَّببية؟!
وإذا كان المتكلِّمون عند النَّاس هم هؤلاء الطَّائفتين، فإنهم لا يرون الحقَّ خارجًا عنهما، ثمَّ كثيرٌ من الفضلاء يتحيَّر إذا رأى بعض أقوالهم الفاسدة من
…
(3)
، ولا يدري أين يذهب.
(1)
(ح): «لأحد» .
(2)
أي: أو يأتي بقريبٍ من الشِّفاء.
(3)
بياض بمقدار كلمة في (ت، د، ق). وفي (ح): «مر» بدل «من» . والعبارة في (ن): «من لا يدري أين يذهب» .
ولما عُرِّبت كتبُ الفلاسفة صار كثيرٌ من النَّاس إذا رأى أقوال المتكلِّمين الضعيفة، وقد قالوا: إنَّ هذا هو الذي جاء به الرسول= قَطَع القنطرةَ وعدَّى
(1)
إلى ذلك البرِّ
(2)
، وكلُّ هذا من الجهل القبيح والظَّنِّ الفاسد أنَّ الحقَّ لا يخرجُ عن أقوالهم، فما أكثر خروجَ الحقِّ عن أقوالهم! وما أكثر ما يذهبون في المسائل التي هي حقٌّ وصوابٌ
(3)
إلى خلاف الصَّواب!
والمقصودُ أنَّ المتكلِّمين لو أجمعوا على شيءٍ لم يكن إجماعُهم حجَّةً عند أحدٍ من العلماء، فكيف إذا اختلفوا؟!
والمقصودُ أنَّ مشاهدة حكمة الله في أقضيته وأقداره التي يُجْرِيها على عباده باختياراتهم وإراداتهم هي من ألطف ما تكلَّم فيه النَّاسُ وأدقِّه وأغمضِه، وفي ذلك حِكَمٌ لا يعلمها إلا الحكيمُ العليمُ سبحانه، ونحن نشيرُ إلى بعضها:
فمنها: أنه سبحانه يحبُّ التَّوابين، حتى إنَّ مِنْ محبَّته لهم أنه يفرحُ بتوبة أحدهم أعظمَ من فرح الواجد
(4)
لراحلته التي عليها طعامُه وشرابُه في الأرض الدَّوِّيَّة المَهْلَكة
(5)
إذا فقدها وأيِسَ منها
(6)
، وليس في أنواع الفرح
(1)
(ح): «فقطع القنطرة وعبر» .
(2)
أي: صار إلى قول الفلاسفة وكتبهم.
(3)
(ح): «الحق والصواب» .
(4)
(ت، ن، ق): «الواحد» .
(5)
الدوية: الفلاة الواسعة. وهي المهلكة؛ لأن الأرواح تهلك فيها.
(6)
انظر ما تقدم (ص: 18).
أكملُ ولا أعظمُ من هذا الفرح، كما سنوضِّحُ ذلك ونزيدُه تقريرًا عن قريبٍ إن شاء الله
(1)
، ولولا المحبةُ التامَّةُ للتَّوبة ولأهلها لم يحصل هذا الفرح.
ومن المعلوم أنَّ وجود المُسَبَّب بدون سببه ممتنع، وهل يوجدُ ملزومٌ بدون لازمه، أو غايةٌ بدون وسيلتها؟!
وهذا معنى قول بعض العارفين: «لو لم تكن التَّوبةُ أحبَّ الأشياء إليه لما ابتلى بالذَّنب أكرمَ المخلوقات عليه»
(2)
.
فالتَّوبةُ هي غايةُ كمال كلِّ آدميٍّ، وإنما كان كمالُ أبيهم بها، فكم بين حاله وقد قيل له:{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 118 - 119] وبين قوله: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122]!
فالحالُ الأوَّلُ حالُ أكلٍ وشربٍ وتمتُّع، والحالُ الأخرى حالُ اجتباءٍ واصطفاءٍ وهداية، فيا بُعْدَ ما بينهما!
ولمَّا كان كمالُه بالتَّوبة كان كمالُ بَنِيه أيضًا بها، كما قال تعالى:{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 73].
(1)
لم يقع ذلك في باقي الكتاب. وانظر ما كتبناه في المقدمة.
(2)
أخرجه الخطيب في «الزهد» (114 - منتخبه) عن يحيى بن معاذ، بلفظ: «لولا أن العفو من أحب الأشياء إليه
…
». وانظر: «صفة الصفوة» (4/ 92). وهو بلفظ التوبة في مصنفات ابن تيمية، وعنه المصنف. انظر:«منهاج السنة» (2/ 432، 6/ 210)، و «مجموع الفتاوى» (10/ 294)، و «جامع المسائل» (4/ 41)، و «طريق الهجرتين» (510)، و «مدارج السالكين» (1/ 297)، و «شفاء العليل» (617).
فكمالُ الآدميِّ في هذه الدَّار
(1)
بالتَّوبة النَّصُوح، وفي الآخرة بالنَّجاة من النَّار ودخول الجنة، وهذا الكمالُ مرتَّبٌ على كماله الأوَّل.
والمقصودُ أنه سبحانه لمحبَّته التَّوبةَ وفرحه بها يقضي على عبده بالذَّنب، ثمَّ إن كان ممَّن سبقت له الحسنى قضى له بالتَّوبة، وإن كان ممَّن غَلَبت عليه شقاوتُه
(2)
أقام عليه حجَّةَ عدله وعاقبه بذنبه.
فصل
ومنها
(3)
: أنه سبحانه يحبُّ أن يتفضَّل على عباده
(4)
، ويُتِمَّ عليهم نِعَمَه، ويُرِيهم مواقع برِّه وكرمه، فلمحبَّته الإفضالَ والإنعامَ ينوِّعُه عليهم أعظمَ الأنواع وأكثرها في سائر الوجوه الظَّاهرة والباطنة.
ومِنْ أعظم أنواع الإحسان والبرِّ أن يحسِن إلى من أساء، ويعفُو عمَّن ظَلم، ويغفر لمن أذنب، ويتوب على من تابَ إليه، ويقبل عذرَ من اعتذر إليه.
وقد نَدَبَ عبادَه إلى هذه الشِّيَم الفاضلة والأفعال الحميدة، وهو أولى بها منهم وأحقُّ، وكان له في تقدير أسبابها من الحِكَم والعواقب الحميدةِ ما يَبْهَرُ العقول، فسبحانه وبحمده
(5)
.
(1)
(ن): «مشاهدة هذه الدار» . (ت): «فكمال الآدمي مشاهدة الدار» .
(2)
(ح): «الشقاوة» .
(3)
أي: ومن حِكَم الله في قضاء السيئات وتقدير المعاصي على العباد.
(4)
(ح، ن): «يتفضل عليهم» .
(5)
«وبحمده» ليست في (ح، ن).
وحكى بعض العارفين
(1)
أنه قال: طفتُ في ليلةٍ مطيرةٍ شديدة الظُّلمة وقد خلا الطَّوافُ وطابت نفسي، فوقفتُ عند الملتَزم ودعوتُ، فقلت:«اللهمَّ اعصمني حتى لا أعصيك» ، فهَتَف به هاتفٌ: أنت تسألني العصمة، وكلُّ عبادي يسألوني العصمة، فإذا عصمتُهم فعلى من أتفضَّل؟ ولمن أغفر؟ قال: فبقيتُ ليلتي إلى الصَّباح أستغفرُ الله حياءً منه
(2)
.
هذا ولو شاء الله عز وجل أن لا يعصى في الأرض طرفةَ عَيْنٍ لم يُعْصَ، ولكن اقتضت مشيئتُه
(3)
ما هو مُوجَبُ حكمته سبحانه، فمن أجهلُ بالله ممَّن يقول: إنه يعصى قسرًا
(4)
بغير اختياره ومشيئته؟! سبحانه وتعالى
(5)
عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا.
فصل
ومنها: أنه سبحانه له الأسماءُ الحسنى، ولكلِّ اسمٍ من أسمائه أثرٌ من الآثار في الخلق والأمر لا بدَّ من ترتيبه عليه
(6)
، كترتُّب المرزوق والرِّزق على
(1)
هو إبراهيم بن أدهم، في «قوت القلوب» (2/ 102)، و «الإحياء» (4/ 152)، و «العاقبة» لعبد الحق (320). وانظر:«مدارج السالكين» (1/ 301)، و «شفاء العليل» (617).
(2)
في رواية ابن ماجه (757) لحديث أبي هريرة مرفوعًا في دعاء الخروج من المسجد: «اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم» . وروي بلفظ: «اللهم باعدني من الشيطان» ، «اللهم أجِرني من الشيطان الرجيم» . ولا يصحُّ رفعه، إنما هو عن كعب الأحبار. انظر:«نتائج الأفكار» (1/ 280).
(3)
(ت): «حكمته ومشيئته» .
(4)
(ت): «قهرا» .
(5)
(ت): «سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى» .
(6)
(ح، ن): «ترتبه عليه» .
الرَّازق، وترتُّب المرحوم وأسباب الرَّحمة على الرَّاحِم
(1)
، وترتُّب المرئيَّات والمسموعات على السَّميع والبصير، ونظائر ذلك في جميع الأسماء.
فلو لم يكن في عباده من يخطاء ويذنبُ ليتوب عليه، ويغفر له، ويعفُو عنه، لم يَظْهَرْ أثرُ أسمائه الغفور، والعفوِّ، والحليم، والتَّواب، وما جرى مجراها.
وظهورُ أثر هذه الأسماء ومتعلَّقاتها في الخليقة كظهور آثار سائر الأسماء الحسنى ومتعلَّقاتها؛ فكما أنَّ اسمه «الخالق» يقتضي مخلوقًا، و «البارئ» يقتضي مبروءًا، و «المصوِّر» يقتضي مصوَّرًا ولا بدَّ، فأسماؤه «الغفَّار، التَّواب، العفوُّ، الحليم» تقتضي مغفورًا له
(2)
وما يغفرُه له، وكذلك من يتوبُ عليه، وأمورًا يتوبُ عليه مِنْ أجلِها، ومَنْ يَحْلُمُ عنه ويعفو عنه، وما يكونُ متعلَّق الحِلْم والعفو؛ فإنَّ هذه الأمور متعلِّقةٌ بالغير ومعانيها مستلزمةٌ لمتعلَّقاتها.
وهذا بابٌ أوسعُ
(3)
من أنْ يُدْرَك، واللبيبُ يكتفي منه باليسير، وغليظُ الحجاب في وادٍ ونحنُ في واد.
وإن كان أثلُ الوادِ يجمعُ بيننا
…
فغيرُ خفيٍّ شِيحُه مِنْ خُزامِه
(4)
(1)
كذا وقع في الأصول: الرازق، الراحم. وليسا من الأسماء الحسنى. وإنما هما: الرزاق، الرحيم. فلو أوردهما لكان أولى.
(2)
(ح، ن): «والمصور يقتضي مصورا، والغفور يقتضي مغفورا له» .
(3)
(ق): «واسع» . (ت): «واسع أوسع» .
(4)
مأخوذٌ من قول أبي العلاء:
وإن يكُ وادينا من الشِّعر واحدًا
…
فغيرُ خفيٍّ أثلُه من ثمامِه
انظر: «شروح سقط الزند» (2/ 474)، و «الانتصار» للبطليوسي (22).
والشِّيح والخُزامى نبتان طيِّبا الرائحة، إلا أن الخزامى أطيب. قال بعضهم: لم نجد من الزهر زهرةً أطيب نفحةً من زهرة الخزامى. «اللسان» . والمقابلة بين الأثل والثمام أظهر منها بين الشِّيح والخزامى.
فتأمَّل ظهور هذين الاسمين: اسم الرزَّاق واسم الغفَّار في الخليقة، ترى ما يُعْجِبُ العقول، وتأمَّل آثارهما حقَّ التأمُّل في أعظم مجامع الخليقة، وانظر كيف وَسِعَهم رزقُه ومغفرتُه، ولولا ذلك لما كان لهم
(1)
مِنْ قيامٍ أصلًا، فلكلٍّ منهم نصيبٌ من الرِّزق والمغفرة؛ فإمَّا متَّصلًا
(2)
بنشأته الثَّانية، وإمَّا مختصًّا بهذه النَّشأة.
فصل
ومنها: أنه سبحانه يعرِّفُ عبدَه
(3)
عِزَّه في قضائه وقدره، ونفوذ مشيئته، وجريان حُكمه
(4)
، وأنه لا محيصَ للعبد عمَّا قضاه عليه، ولا مفرَّ له منه، بل هو في قبضة مالكه وسيِّده، وأنه عبدُه وابنُ عبده وابنُ أمته، ناصيتُه بيده، ماضٍ فيه حكمُه، عدلٌ فيه قضاؤه
(5)
.
(1)
في الأصول: «له» .
(2)
(ت): «مختصا» .
(3)
(ت، ح، ق، ن): «عباده» .
(4)
في الأصول: «حكمته» . تحريف. انظر: «طريق الهجرتين» (353، 355، 362)، و «مدارج السالكين» (2/ 500).
(5)
كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود مرفوعًا، عند أحمد (1/ 391).
وصححه ابن حبان (972)، والمصنف في بعض كتبه، وحسنه ابن حجر. انظر التعليق على «الوابل الصيب» (298)، و «علل الدارقطني» (5/ 201)، و «مسند أحمد» (6/ 247) طبعة الرسالة.
فصل
ومنها: أنه سبحانه يعرِّفُ العبدَ حاجتَه إلى حفظه له ومعونته وصيانته، وأنه كالوليد
(1)
الطِّفل في حاجته إلى من يحفظُه ويصونُه، فإن لم يحفظه مولاه الحقُّ ويصونه ويعينه
(2)
فهو هالكٌ ولا بدَّ، وقد مَدَّت الشياطينُ أيديها إليه من كلِّ جانبٍ تريدُ تمزيقَ حاله كلِّه، وإفسادَ شأنه كلِّه، وأنَّ مولاه وسيِّده إن وَكَلَه إلى نفسه وكَلَه إلى ضيعةٍ وعجزٍ وذنبٍ وخطيئةٍ وتفريط، فهلاكُه أدنى إليه من شِراك نعله.
فقد أجمع العلماءُ بالله على أنَّ التَّوفيق أن لا يَكِل الله العبدَ إلى نفسه، وأجمعوا على أنَّ الخِذلان أن يخلِّي بينه وبين نفسه
(3)
.
فصل
ومنها: أنه سبحانه يَسْتَجْلِبُ مِنْ عبده بذلك ما هو من أعظم أسباب السَّعادة له
(4)
؛ من استعاذته واستعانته به من شرِّ نفسه، وكيد عدوِّه، ومن أنواع الدُّعاء والتضرُّع، والابتهال والإنابة، والفاقة والمحبة، والرَّجاء والخوف، وأنواعٍ من كمالات العبد تبلغُ نحو المئة
(5)
، ومنها ما لا تدركُه
(1)
(ت): «كالولد» .
(2)
كذا في الأصول، في الفعلين. والجادة حذف حرف العلة.
(3)
انظر: «مدارج السالكين» (1/ 180، 413)، و «الفوائد» (141)، و «الوابل الصيب» (10).
(4)
(ق): «أسباب سعادة العبد» .
(5)
يريد المنازل التي ذكرها أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في «منازل السائرين» ، وهي مئة منزلة، وقد شرحها المصنف في كتابه «مدارج السالكين» .
العِبارة، وإنما يُدْرَكُ بوجوده، فيحصُل للرُّوح بذلك قُربٌ خاصٌّ لم يكن يحصُل بدون هذه الأسباب، ويجدُ العبدُ من نفسه كأنه مُلقًى على باب مولاه بعد أن كان نائيًا عنه، وهذا الذي أثمَر له:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} ، وهو ثمرة:«لَلَّهُ أفرحُ بتوبة عبده»
(1)
.
وأسرارُ هذا الوجه يضيقُ عنها القلبُ واللسان، وعسى أن يجيئك في القسم الثَّاني من الكتاب ما تقرُّ به عينُك إن شاء الله تعالى
(2)
.
فكم بين عبادة مُدِلٍّ على ربِّه بعبادته، شامخٍ بأنفه، كلَّما طُلِبَت منه
(3)
أوصافُ العبد قامت صُوَرُ تلك الأعمال في نفسه فحجبَته عن معبوده وإلهه، وبين عبادة من قد كَسَرَ الذلُّ قلبَه كلَّ الكَسْر
(4)
، وأحرَق ما فيه من الرُّعونات والحماقات والخيالات، فهو لا يرى نفسَه مع الله إلا مسيئًا، كما لا يرى ربَّه إليه إلا محسنًا؛ فهو لا يرضى
(5)
نفسَه لله طرفةَ عين؛ قد كَسَرَ إزراؤه
(6)
على نفسه قلبَه، وذلَّل لسانَه وجوارحَه، وطأطأ منه ما ارتفع من غيره، فقلبُه واقفٌ بين يدي ربِّه وقوفَ ناكسِ الرَّأس، خاضعٍ
(7)
غاضِّ البصر، خاشع الصَّوت،
(1)
والحديث في الصحيحين، وقد تقدم قريبًا.
(2)
انظر ما كتبناه في المقدمة حول تقسيم الكتاب.
(3)
(د، ق، ن، ت): «كلما طلب منه» .
(4)
(ح): «كل الكسرة» .
(5)
(د، ت): «يرى» . وفي طرة (د): «لعله: يرضى» . ولم يتنبه ناسخ (ق)، فجعلها:«يرضى يرى» . والعبارة في (ح، ن): «لا يرى نفسه طرفة عين» . والصواب المثبت. وانظر: «مدارج السالكين» (2/ 94).
(6)
(ن): «ازدراؤه» .
(7)
(د، ت، ق): «خاشع» . (ن): «خاشع خاضع» .
هادئ الحركات، قد سَجَد بين يديه سجدةً إلى الممات.
فلو لم يكن من ثمرة ذلك القضاء والقدر إلا هذا وحده لكفى به حكمة، والله المستعان.
فصل
ومنها: أنه سبحانه يستخرجُ بذلك مِنْ عبده تمامَ عبوديَّته؛ فإنَّ تمام العبوديَّة هو بتكميل مقام الذُّلِّ والانقياد، وأكملُ الخلق عبوديَّةً أكملُهم ذلًّا لله وانقيادًا وطاعة.
والعبدُ ذليلٌ لمولاه الحقِّ بكلِّ وجهٍ من وجوه الذلِّ؛ فهو ذليلٌ لعِزِّه، وذليلٌ لقهره
(1)
، وذليلٌ لربوبيَّته وتصرُّفه فيه، وذليلٌ لإحسانه إليه وإنعامه عليه؛ فإنَّ من أحسَن إليك فقد استَعْبَدك وصار قلبُك معبَّدًا له، وذليلٌ لغِنَاه
(2)
؛ لحاجته إليه
(3)
على مدى الأنفاس في جلب كلِّ ما ينفعُه ودفع كلِّ ما يضرُّه.
وبقي نوعان
(4)
من أنواع التذلُّل والتعبُّد، لهما أثرٌ عجيب، ويقتضيان من صاحبهما من الطَّاعة والفوز
(5)
ما لا يقتضيه غيرُهما:
أحدهما: ذلُّ المحبة، وهذا نوعٌ آخرُ غيرُ ما تقدَّم، وهو خاصَّةُ المحبة ولبُّها، بل روحُها وقِوامُها وحقيقتُها، وهو المرادُ على الحقيقة من العبد لو فَطِن.
(1)
(ت): «فهو ذليل العزة وذليل القهرية» .
(2)
(ت، د، ق، ح): «تعبد» . تحريف.
(3)
(ن): «وذليلا بقدر الحاجة إليه» .
(4)
(ت، ح، ن): «وهنا نوعان» .
(5)
(ت، ق، د): «والنور» .
وهذا يستخرجُ مِنْ قلب المُحِبِّ من أنواع التقرُّب والتودُّد والتملُّق والإيثار والرِّضا والحمد والشُّكر والصَّبر والتقدُّم وتحمُّل العظائم ما لا يستخرجُه الخوفُ وحده، ولا الرَّجاءُ وحده؛ كما قال بعض الصَّحابة:«إنه ليسْتَخْرِجُ محبتُه من قلبي من طاعته ما لا يستخرجُه خوفُه»
(1)
أو كما قال.
فهذا ذلُّ المحبِّين.
الثَّاني: ذلُّ المعصية؛ فإذا انضاف هذا إلى هذا هناك فَنِيَت الرُّسوم، وتلاشَت الأنفُس، واضمحلَّت القُوى
(2)
، وبطَلَت الدَّعاوى جملة، وذهبت الرُّعونات، وطاحت الشَّطحات، ومُحِيَ من القلب واللسان: أنا وأنا، واستراح المسكينُ من شكاوى الصُّدود والإعراض والهجر، وتجرَّد الشُّهود، فلم يبق إلا شهودُ العزِّ والجلال المحض الذي تفرَّد به ذو الجلال والإكرام، الذي لا يشاركه أحدٌ من خلقه في ذرَّةٍ من ذرَّاته، وشهودُ الذُّلِّ والفقر المحض من جميع الوجوه بكلِّ اعتبار؛ فيشهدُ غاية ذلِّه وانكساره، وعزَّة محبوبه وجلاله وعظمته وقدرته وغِناه.
فإذا تجرَّد له هذان الشُّهودان، ولم يبق ذرَّةٌ من ذرَّات الذُّلِّ والفقر والضرورة إلى ربِّه شَهِدَها فيه بالفعل
(3)
، وقد شَهِد مقابِلها هناك= فلِلَّه أيَّ
(1)
أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (2/ 363) عن الفضيل بن عياض، عن حكيمٍ من الحكماء. وأخرجه ابن المبارك في الزهد (219) - ومن طريقه أبو نعيم في «الحلية» (4/ 54) - عن وهب بن منبه عن حكيمٍ من الحكماء. ونسبه أبو طالب في «قوت القلوب» (2/ 90) لصهيب رضي الله عنه.
وانظر: «بدائع الفوائد» (95)، وما سيأتي (ص: 1082).
(2)
(ح): «القلوب» .
(3)
(ح، ن): «إلا شاهدها فيه بالعقل» .
مقامٍ أُقِيم هذا القلبُ إذ ذاك؟! وأيَّ قربٍ حَظِي به؟! وأيَّ نعيمٍ أدركه؟! وأيَّ رَوْحٍ باشره؟!
فتأمَّل الآن موقعَ الكَسْرة التي حصلت له بالمعصية في هذا الموطن، ما أعجبَها! وما أعظمَ موقعَها!
كيف جاءت فمحقَت
(1)
من نفسه الدَّعاوى والرُّعونات وأنواع الأماني الباطلة، ثمَّ أوجَبَت له الحياءَ والخجل من صالح ما عَمِل، ثمَّ أوجبت له استكثارَ قليلِ ما يَرِدُ عليه من ربِّه لعِلْمه بأنَّ قَدْرَه أصغرُ من ذلك وأنه لا يستحقُّه، واستقلالَ أمثال الجبال من عمله الصَّالح بأنَّ سيِّئاته
(2)
وذنوبَه تحتاجُ من المكفِّرات والماحيات إلى أعظم من هذا.
فهو لا يزالُ محسنًا وعند نفسه المسيء المذنب منكسرًا ذليلًا خاضعًا، لا يرفعُ له رأسًا، ولا يقيمُ له صدرًا
(3)
، وإنما ساقه إلى هذا الذلُّ الذي أورثه إياه مباشرةُ الذَّنب، فأيُّ شيءٍ أنفعُ له من هذا الدَّواء؟!
لعلَّ عَتْبَكَ محمودٌ عواقبُه
…
وربَّما صَحَّتِ الأجسامُ بالعِلَلِ
(4)
ونكتةُ هذا الوجه أنَّ العبدَ متى شَهِد صلاحَه واستقامتَه شَمَخ بأنفه وتعاظمت إليه نفسُه، وظَنَّ أنه
…
وأنه
…
، فإذا ابتُلي بالذَّنب تصاغرت إليه نفسُه، وذلَّ وخضع، وتيقَّن أنه
…
وأنه
…
!
(5)
.
(1)
(ت): «فحققت» .
(2)
أي: لعلمه بأنَّ سيئاته.
(3)
(ح، ن): «لا يرتفع له رأس ولا ينقام له صدر» .
(4)
البيت للمتنبي، في ديوانه (331).
(5)
انظر: «طريق الهجرتين» (363).
فصل
ومنها: أنَّ العبد يعرفُ حقيقة نفسه، وأنها الظَّالمة، وأنَّ ما صَدَر منها من شرٍّ فقد صَدَر من أهله ومعدنه؛ إذ الجهلُ والظُّلمُ
(1)
منبعُ الشرِّ كلِّه، وأنَّ كلَّ ما فيها من خيرٍ وعلمٍ وهدًى وإنابةٍ وتقوًى فهو من ربها تعالى، هو الذي زكَّاها به، وأعطاها إياه، لا منها، فإذا لم يشأ تزكيةَ العبد تركه مع دواعي جهله وظلمه، فهو تعالى الذي يزكِّي من يشاءُ من النُّفوس، فتزكُو وتأتي بأنواع الخير والبرِّ، ويتركُ تزكية من يشاءُ منها، فتأتي بأنواع الشرِّ والخبث.
وكان من دعاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «اللهمَّ آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها»
(2)
.
فإذا ابتلى اللهُ العبدَ بالذَّنب عَرَفَ به نفسَه ونقصَها، فرُتِّب له على ذلك التَّعريف حِكَمٌ ومصالحُ عديدة:
منها: أنه يأنفُ مِنْ نقصها، ويجتهدُ في كمالها.
ومنها: أنه يعلمُ فقرَها دائمًا إلى من يتولَّاها ويحفظُها.
ومنها: أنه يستريحُ ويُرِيحُ العباد من الرُّعونات والحماقات التي ادَّعاها أهلُ الجهل في أنفسهم، مِنْ قِدَمٍ، أو اتصالٍ بالقديم واتحادٍ به، أو حُلولٍ أو غير ذلك من المحالات؛ فلولا أنَّ هؤلاء غاب عنهم شُهودُهم لِنَقْص أنفسهم وحقيقتها لم يقعوا فيما وقعوا فيه
(3)
.
(1)
«والظلم» ليست في (ح، ن).
(2)
أخرجه مسلم (2722) من حديث زيد بن أرقم.
(3)
(ت، د، ق): «وقعوا به» .
فصل
ومنها: تعريفُه سبحانه عبدَه سَعة حِلْمه وكرمه في سَتره عليه، وأنه لو شاء لعاجَله على الذَّنب ولهَتَكه بين عباده، فلم يَطِب له معهم عيشٌ أبدًا، ولكن جلَّله بستره، وغشَّاه بحِلْمه، وقيَّض له من يحفظُه وهو في حالته تلك، بل كان شاهدًا وهو يبارزُه
(1)
بالمعاصي والآثام، وهو مع ذلك يحرُسه بعينه التي لا تنام.
وقد جاء في بعض الآثار: «يقولُ الله تعالى: أنا الجوادُ الكريم، من أعظمُ مني جودًا وكرمًا؟! عبادي يبارزونني بالعظائم وأنا أكلؤهم في منازلِهم»
(2)
.
فلولا حِلمُه ومغفرتُه
(3)
لما استقرَّت السَّمواتُ والأرض في أماكنهما.
وتأمَّل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41]، هذه الآيةُ تقتضي الحِلمَ والمغفرة، فلولا حِلمُه ومغفرتُه لزالتا عن أماكنهما.
ومن هذا قولُه تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 90 - 91].
(1)
«وهو» ليست في (د، ت، ق).
(2)
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (8/ 93) عن الفضيل بن عياضٍ في سياقٍ طويل.
وهو في «مسند الفردوس» للديلمي (5/ 247) مرفوعًا من حديث إبراهيم بن هدبة عن أنس، وإسناده تالف، ابن هدبة كذاب. انظر:«الميزان» (1/ 71).
(3)
(ق): «حلمه وكرمه ومغفرته» .
فصل
ومنها: تعريفُه عبدَه أنه لا سبيل له إلى النَّجاة إلا بعفوه ومغفرته
(1)
، وأنه رَهِينٌ بحقِّه، فإن لم يتغمَّده بعفوه ومغفرته وإلا فهو
(2)
من الهالكين لا محالة، فليس أحدٌ من خلقه إلا وهو محتاجٌ إلى عفوه ومغفرته، كما هو محتاجٌ إلى فضله ورحمته.
فصل
ومنها: تعريفُه عبدَه
(3)
كرمَه سبحانه في قبول توبته، ومغفرته له على ظلمه وإساءته؛ فهو الذي جاد عليه بأن وفَّقه للتَّوبة، وألهمه إياها، ثمَّ قَبِلها منه؛ فتاب عليه أوَّلاً وآخرًا.
فتوبةُ العبد محفوفةٌ بتوبةٍ قبلها عليه من الله إذنًا وتوفيقًا، وتوبةٍ ثانيةٍ منه عليه قبولًا ورضًا؛ فله الفضلُ في التَّوبة والكرمُ أوَّلاً وآخرًا، لا إله إلا هو.
فصل
ومنها: إقامةُ حجَّة عدله على عبده ليعلم العبدُ أنَّ لله عليه الحجَّة البالغة، فإذا أصابه ما أصابه
(4)
من المكروه فلا يقل: أنى هذا؟ ولا: مِنْ أين أُتِيت؟ ولا: بأيِّ ذنبٍ أُصِبت؟ فما أصاب العبدَ من مصيبةٍ قطُّ دقيقةٍ ولا جليلةٍ إلا
(1)
(ت): «بعفوه ومعونته ومغفرته» .
(2)
كذا في الأصول. واستعمال (إلا) في مثل هذا يقع في كتب المصنف، وبخطه في «طريق الهجرتين» (44، 227). وهو خلاف الجادة.
(3)
(د، ن، ق، ح): «عباده» .
(4)
(ت، ق): «فإذا أصابه بما أصابه» .
بما كسبت يداه وما يعفو الله عنه أكثر، و «ما نزل بلاءٌ قطُّ إلا بذنبٍ ولا رُفِع إلا بتوبة»
(1)
.
ولهذا وضع اللهُ المصائبَ والبلايا والمحن رحمةً بين عباده يكفِّرُ بها مِنْ خطاياهم، فهي من أعظم نِعَمه عليهم وإن كرهتها أنفسُهم، ولا يدري العبدُ أيُّ النعمتين عليه أعظم: نعمتُه عليه فيما يكره، أو نعمتُه عليه فيما يحبُّ؟ و «ما يصيبُ المؤمن من همٍّ ولا وَصَبٍ ولا أذًى، حتى الشوكة يُشاكُها إلا كفَّر الله بها من خطاياه»
(2)
.
وإذا كان للذُّنوب عقوباتٌ ولا بدَّ، فكلُّ ما عُوقِب به العبدُ من ذلك قبل الموت خيرٌ له مما بعده وأيسرُ وأسهلُ بكثير.
فصل
ومنها: أن يعامِل العبدُ بني جنسه في إساءتهم إليه وزلاتهم معه بما يحبُّ أن يعامله الله به في إساءته وزلَّاته وذنوبه؛ فإنَّ الجزاء من جنس العمل؛ فمن عفا عفا الله عنه، ومن سامح أخاه في إساءته إليه سامحه الله في إساءته
(3)
، ومن أغضى وتجاوز تجاوز اللهُ عنه، ومن استقصى استقصى اللهُ عليه.
(1)
كما قال العباس بن عبد المطلب حين استسقى به عمر رضي الله عنهما، فيما أخرجه الدينوري في «المجالسة» (727)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (26/ 359) بإسناد ضعيفٍ جدًّا. وانظر:«الفتح» (2/ 497).
(2)
أخرجه البخاري (5641)، ومسلم (2573) من حديث أبي سعيد وأبي هريرة.
(3)
(ت، ق): «في سيئاته» .
ولا تنسَ حال الذي قبضت الملائكةُ روحَه، فقيل له: هل عملتَ خيرًا؟ هل عملتَ حسنةً؟ قال: ما أعلمُه. قيل: تذكَّرْ. قال: كنتُ أبايعُ النَّاسَ فكنتُ أُنظِرُ المُوسِرَ وأتجاوزُ عن المُعْسِر. أو قال: كنتُ آمر فتياني أن يتجاوزوا في السِّكَّة
(1)
. فقال الله: نحن أحقُّ بذلك منك. وتجاوَز عنه
(2)
.
فالله عز وجل يعامِلُ العبدَ في ذنوبه بمثل ما يعامِلُ به العبدُ النَّاسَ في ذنوبهم.
فإذا عرف العبدُ ذلك كان في ابتلائه بالذُّنوب
(3)
من الحِكَم والفوائد ما هو مِنْ أنفع الأشياء له
(4)
.
فصل
ومنها: أنه إذا عَرَف فأحسَن إلى من أساء إليه، ولم يقابلهُ بإساءته إساءةً مثلها
(5)
تعرَّض بذلك لمثلها من ربِّه تعالى، وأنه سبحانه يقابلُ إساءته وذنوبه بإحسانه
(6)
، كما كان هو يقابلُ بذلك إساءة الخلق إليه، والله أوسعُ فضلًا وأكرمُ وأجزلُ عطاءً.
فمن أحبَّ أن يقابل الله إساءته بالإحسان فليقابل هو إساءة النَّاس إليه
(1)
وهي الدَّنانير والدراهم المضروبة. «النهاية» (سكك). وفي رواية مسلم: «في السِّكَّة أو في النقد» .
(2)
أخرجه البخاري (2077) ومسلم (1560) من حديث حذيفة.
(3)
(ح، ن): «كان ابتلاؤه بالذنوب» .
(4)
(ح، ن): «ما هو أنفع الأشياء له» .
(5)
(ن): «ولم يقابله بإساءته مثلها» .
(6)
(ح، ت، ن): «وذنوبه وإحسانه» .
بالإحسان، ومن عَلِمَ أنَّ الذُّنوبَ والإساءة لازمةٌ للإنسان لم تعظُم عنده إساءةُ النَّاس إليه.
فليتأمَّل هو حاله مع الله، كيف هي، مع فَرْط إحسانه إليه وحاجته هو إلى ربِّه، وهكذا هو له
(1)
؛ فإذا كان العبدُ هكذا لربِّه فكيف يُنكِرُ أن يكون النَّاسُ له بتلك المنزلة؟!
فصل
ومنها: أنه يقيمُ
(2)
معاذيرَ الخلائق، وتتَّسعُ رحمتُه لهم، وينفرِجُ بِطانُه
(3)
، ويزولُ عنه ذلك الحَصَرُ والضِّيقُ والانحراجُ
(4)
وأكلُ بعضِه بعضًا، ويستريحُ العصاةُ من دعائه عليهم، وقُنوته عليهم
(5)
، وسؤال الله أن يخسِف بهم الأرض ويسلِّط عليهم البلاء؛ فإنه حينئذٍ يرى نفسَه واحدًا منهم، فهو يسألُ الله لهم ما يسأله لنفسه، وإذا دعا لنفسه بالتَّوبة والمغفرة والعفو أدخلهم معه؛ فيرجو لهم فوق ما يرجو لنفسه، ويخافُ على نفسه أكثر مما يخافُ عليهم.
فأين هذا مِنْ حاله الأولى وهو ناظرٌ إليهم بعَين الاحتقار والازدراء، لا يجدُ في قلبه رحمةً لهم ولا دعوةً ولا يرجو لهم نجاةً؟!
(1)
(ن): «وهكذا هو حاله» .
(2)
في طرة (ن): «لعله: يقبل» .
(3)
(ق، ت): «ويتفرج بطانه» . أي: يتسع صدره. تقول العرب: «التقت حلقتا البِطان» للأمر يبلغ الغاية في الشِّدَّة. والبِطانُ: الحزامُ الذي يلي البطن. انظر: «اللسان» (بطن)، و «جمهرة الأمثال» (1/ 188).
(4)
في الأصول: «والانحراف» . والمثبت أشبه. انظر: «زاد المعاد» (2/ 24).
(5)
«وقنوته عليهم» ليس في (ت).
فالذَّنبُ في حقِّ مثل هذا من أعظم أسباب رحمته، ومع هذا فيقيمُ أمرَ الله فيهم، طاعةً لله ورحمةً بهم وإحسانًا إليهم، إذ هو عينُ مصلحتهم
(1)
، لا غلظةً ولا قوَّةً ولا فظاظة.
فصل
ومنها: أن يخلع صَوْلة الطَّاعة من قلبه، ويَنْزِع عنه رداء الكِبْر والعظمة الذي ليس له، ويلبس رداء الذلِّ والانكسار والفقر والفاقة، فلو دامت تلك الصَّولةُ والعزَّةُ في قلبه لخِيفَ عليه ما هو مِنْ أعظم الآفات، كما في الحديث:«لو لم تذنبوا لخِفتُ عليكم ما هو أشدُّ من ذلك: العُجْب»
(2)
، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فكم بين آثار العُجْب والكِبْر وصَوْلة الطَّاعة، وبين آثار الذُّلِّ والانكسار!
كما قيل: «يا آدم! لا تجزع من كأس زلَّةٍ
(3)
كانت سبب كَيْسِك، فقد
(1)
(ت): «عين حظهم» .
(2)
أخرجه البزار (4/ 244 - كشف الأستار)، والعقيلي في «الضعفاء» (2/ 159)، وابن عدي في «الكامل» (3/ 306)، والبيهقي في «الشعب» (12/ 525)، وغيرهم من حديث سلام بن أبي الصهباء عن ثابت عن أنس.
وسلَّام ضعيف، وقال العقيلي:«لا يتابع عليه عن ثابت. وقد رُوِي بغير هذا الإسناد بإسنادٍ صالح» . وقال الذهبي في «الميزان» (2/ 180): «ما أحسنه من حديثٍ لو صحَّ!» . وانظر: «الكامل» (7/ 240)، و «المداوي» (5/ 317)، و «السلسلة الصحيحة» (658).
وفي طرة (ق): «هو في جامع أبي مسلم الكسي من حديث أنس» .
(3)
(د، ت، ق): «كأس زلل» . وفي «المدهش» (162): «كأس خطإ» .
استخرج منك داء العُجْب، وأُلبِستَ رداء العبوديَّة
(1)
.
يا آدم! لا تجزع من قولي لك: اخرج منها، فلك خلقتُها، ولكن انزل إلى دار المجاهدة، وابذُر بَذْر العبوديَّة، فإذا كمُل الزَّرعُ واستحصد فتعال فاستَوفِه»
(2)
.
لا يُوحِشَنَّكَ ذاكَ العَتْبُ إنَّ له
…
لُطفًا يُرِيكَ الرِّضا في حالةِ الغضب
فبينما هو لابسٌ ثوب الإدلال الذي لا يليقُ بمثله، تداركه ربُّه برحمته فنزعه عنه، وألبسَه ثوبَ الذُّلِّ الذي لا يليقُ بالعبد غيرُه.
فما لبس العبدُ ثوبًا أكمل عليه ولا أحسن ولا أبهى من ثوب العبوديَّة، وهو ثوبُ المذلَّة الذي لا عزَّ له بغيره.
فصل
ومنها: أنَّ لله عز وجل على القلوب أنواعًا من العبوديَّة؛ من الخشية والخوف والإشفاق وتوابعها؛ ومن المحبة
(3)
والإنابة وابتغاء الوسيلة إليه وتوابعها.
وهذه العبوديَّاتُ لها أسبابٌ تهيِّجُها وتبعثُ عليها، فكلُّ ما قيَّضه الربُّ تعالى لعبده من الأسباب الباعثة على ذلك المهيِّجة له فهو من أسباب رحمته له، ورُبَّ ذنبٍ قد هاجَ لصاحبه من الخوف والإشفاق والوَجَل
(1)
«المدهش» : «وألبسك رداء النسك» .
(2)
انظر ما تقدم (ص: 26). والمدهش (162، 701).
(3)
(ق): «من المحبة» .
والإنابة والمحبة والإيثار
(1)
والفرار إلى الله ما لا يَهِيجُه له كثيرٌ من الطَّاعات.
وكم من ذنبٍ كان سببًا لاستقامة العبد وفراره إلى الله وبُعْده عن طرق الغيِّ، وهو بمنزلة من خَلَط فأحسَّ بسوء مِزاجه، وكان عنده أخلاطٌ مُزْمِنةٌ قاتلةٌ وهو لا يشعُر بها، فشرب دواءً أزال تلك الأخلاط العَفِنَة التي لو دامت لترامت به إلى الفساد والعطب.
وإنَّ من تبلغُ رحمتُه ولطفُه وبرُّه بعبده هذا المبلغَ وما هو أعجبُ وألطفُ منه، فحقيقٌ به أن يكون الحبُّ كلُّه له، والطَّاعةُ كلُّها له، وأن يُذْكَر فلا يُنسى، ويُطاع فلا يُعصى، ويُشْكَر فلا يُكْفَر.
فصل
ومنها: أن يعرف العبد مقدار نعمة معافاته وفضله في توفيقه له وحفظه إياه؛ فإنه من تربَّى في العافية لا يعلمُ ما يقاسيه المبتلى، ولا يعرفُ مقدار النِّعمة.
فلو عرف أهلُ طاعة الله أنهم هم المُنْعَمُ عليهم في الحقيقة، وأنَّ لله عليهم من الشُّكر أضعافَ ما على غيرهم، وإن توسَّدوا التُّرابَ ومَضَغوا الحصى، فهم أهلُ النعمة المطلقة، وأنَّ من خلَّى اللهُ بينه وبين معاصيه فقد سقط من عينه وهان عليه، وأنَّ ذلك ليس مِنْ كرامته على ربِّه، وإنْ وسَّع اللهُ عليه في الدُّنيا
(2)
ومَدَّ له من أسبابها، فإنهم أهلُ الابتلاء على الحقيقة.
فإذا طالبت العبدَ نفسُه بما تطالبه به من الحظوظ والأقسام وأرَتْه أنه في بليَّةٍ وضائقةٍ تداركه الله برحمته، وابتلاه ببعض الذُّنوب، فرأى ما كان فيه من المعافاة والنعمة، وأنه لا نسبة لما كان فيه من النِّعم إلى ما طلبته نفسُه من الحظوظ؛ فحينئذٍ يكون أكثرُ أمانيه وآماله العَوْدَ إلى حاله وأن يمتِّعه الله بعافيته.
فصل
ومنها: أنَّ التَّوبة توجبُ للتَّائب آثارًا عجيبةً من المعاملة التي لا تحصُل بدونها، فتوجبُ له من المحبة والرقَّة واللُّطف وشكر الله وحمده والرِّضا عنه عبوديَّاتٍ أُخَر؛ فإنه إذا تابَ إلى الله قَبِل الله توبتَه، فرتَّب له على ذلك القبول أنواعًا من النِّعم لا يهتدي العبدُ لتفاصيلها، بل لا يزالُ يتقلَّبُ في بركتها وآثارها ما لم ينقضها
(1)
ويفسدها.
فصل
ومنها: أنَّ الله سبحانه يحبُّه ويفرحُ بتوبته أعظمَ فرح؛ وقد تقرَّر أنَّ الجزاء من جنس العمل، فلا ينسى
(2)
الفرحة التي يظفرُ
(3)
بها عند التَّوبة النَّصوح
(4)
.
(1)
(ت): «ينقصها» . بالمهملة.
(2)
مهملة في (د). (ت): «تنسى» . وفي «غذاء الألباب» (2/ 467): «تنس» . ولستُ منها على ثقة.
(3)
(ت) و «غذاء الألباب» : «تظفر» . وحرف المضارعة مهمل في (د).
(4)
انظر: «طريق الهجرتين» (529)، و «الروح» (249).
وتأمَّل كيف تجدُ القلبَ يرقُص فرحًا وأنت لا تدري سببَ ذلك الفرح ما هو، وهذا أمرٌ لا يحسُّ به إلا حيُّ القلب، وأمَّا ميِّتُ القلب فإنما يجدُ الفرحَ عند ظفره بالذَّنب، ولا يعرفُ فرحًا غيره.
فوازِنْ إذن بين هذين الفرحَيْن، وانظر ما يُعْقِبُه فرحُ الظَّفر بالذَّنب من أنواع الأحزان والهموم والغموم والمصائب؛ فمن يشتري فرحة ساعةٍ بغمِّ الأبد؟! وانظر ما يُعْقِبُه فرحُ الظَّفر بالطَّاعة والتَّوبة النَّصوح من الانشراح الدَّائم والنَّعيم وطِيب العَيْش، ووازِنْ بين هذا وهذا، ثمَّ اختَر ما يليقُ بك ويناسبك. وكلٌّ يعملُ على شاكلته.
* وكلُّ امراءٍ يصبو إلى ما يناسبُه *
(1)
فصل
ومنها: أنه إذا شهد ذنوبَه ومعاصيه وتفريطه في حقِّ ربِّه استَكثر القليلَ من نِعَم ربِّه عليه ــ ولا قليلَ منه ــ لعلمه بأنَّ الواصل إليه منها
(2)
كثيرٌ على مسيءٍ مثله، واستقلَّ الكثير من عمله لعلمه بأنَّ الذي ينبغي أن يغسل به نجاستَه وأوضارَه وأوساخَه أضعافُ ما يأتي به؛ فهو دائمًا مستقلٌّ لعمله كائنًا ما كان، مستكثرٌ لنعمة الله عليه وإن دقَّت.
وقد تقدَّم التنبيهُ على هذا الوجه
(3)
، وهو من ألطف الوجوه، فعليك
(1)
عجز بيتٍ ذكره المصنف في «مدارج السالكين» (2/ 386)، و «بدائع الفوائد» (673) دون نسبة. وصدره:
* وكل امرئٍ يهفو إلى من يحبُّه *
(2)
(ت، ن، ق، د): «إليه فيها» .
(3)
(ص: 822).
بمراعاته، فله تأثيرٌ عجيب. ولو لم يكن في فوائد الذَّنب إلا هذا لكفى به.
فأين حالُ هذا مِنْ حال من لا يرى لله عليه نعمةً إلا ويرى أنه كان ينبغي أن يُعطى ما هو فوقها وأجلَّ منها، وأنه لا يَقْدِرُ أن يتكلَّم، وكيف يعاندُ القَدَر وهو مظلومٌ مع الرَّبِّ لا يُنصِفُه ولا يعطيه مرتبتَه، بل هو مُغرًى
(1)
بمعاندته لفضله وكماله، وأنه كان ينبغي له أن ينال الثُّريَّا ويطأ بأخمصه هنالك، ولكنَّه مظلومٌ مَبْخوسُ الحظِّ؟!!
وهذا الضَّربُ من أبغض الخلق إلى الله، وأشدِّهم مقتًا عنده، وحكمةُ الله تقتضي أنهم لا يزالون في سَفَال، فهم بين تعتُّبٍ
(2)
على الخالق، وشكوى له، وذلٍّ لخلقه، وحاجةٍ إليهم، وخدمةٍ لهم، أشغلُ النَّاس قلوبًا بأرباب الولايات والمناصب، ينتظرون ما يقذفون به إليهم من عظامهم وغُسَالة أيديهم وأوانيهم
(3)
، وأفرغُ النَّاس قلوبًا عن معاملة الله، والانقطاع إليه، والتلذُّذ بمناجاته، والطُّمأنينة بذكره، وقُرَّة العين بخشيته، والرِّضا به.
فعياذًا بالله من زوال نعمته، وتحوُّل عافيته، وفجأة نقمته، ومن جميع سخطه.
فصل
ومنها: أنَّ الذَّنبَ يوجبُ لصاحبه التيقُّظ والتحرُّز من مصايد عدوِّه ومكامنه، ومن أين يدخلُ عليه اللصوصُ والقُطَّاعُ ومكامِنُهم، ومن أين يخرجون عليه، وفي أيِّ وقتٍ يخرجون، فهو قد استعدَّ لهم وتأهَّب، وعرف
بماذا يَسْتَدْفِعُ شرَّهم وكيدَهم؛ فلو أنه مرَّ عليهم على غِرَّةٍ
(1)
وطمأنينةٍ لم يأمن أن يظفروا به ويجتاحُوه جملةً.
فصل
ومنها: أنَّ القلبَ يكونُ ذاهلًا عن عدوِّه معرضًا عنه، مشتغلًا ببعض مهمَّاته، فإذا أصابه سهمٌ من عدوِّه اسْتَجْمَعَت له قوَّتُه وجأشُه
(2)
وحميَّته، وطلب بثأره إن كان قلبُه حرًّا كريمًا، كالرَّجل الشجاع إذا جُرِحَ فإنه لا يقومُ له شيء، بل تراه بعدها هائجًا طالبًا مِقْدامًا
(3)
، والقلبُ الجبانُ المَهِينُ إذا جُرِح كالرَّجل الضعيف المَهِين إذا جُرحَ ولى هاربًا
(4)
والجِراحاتُ في أكتافه، وكذلك الأسدُ إذا جُرِح فإنه لا يُطاق.
فلا خير فيمن لا مروءة له بطلب أخذ ثأره من أعدى عدوِّه، فما شيءٌ أشفى للقلب من أخذه بثأره من عدوِّه، ولا عدوَّ أعدى له من الشيطان، فإن كان من قلوب الرجال المتسابقين في حَلَبة المجد جدَّ في أخذ الثَّأر، وغاظ عدوَّه كلَّ الغَيظ، وأنضاه
(5)
، كما جاء عن بعض السَّلف:«إنَّ المؤمن ليُنضِي شيطانَه كما يُنضِي أحدُكم بعيرَه في سفره»
(6)
.
(1)
(ن): «فلو أنه مر عليهم في عزة» .
(2)
(ح، ن): «وحاسته» . وهو تحريف.
(3)
(ح): «مقدما» .
(4)
(ح، ن): «ذل هاربا» .
(5)
أي: أهزله وأتعبه. وفي (د، ق، ن، ت): «وأضناه» ، تحريف.
(6)
جاء مرفوعًا عند أحمد (2/ 380) من حديث أبي هريرة بإسنادٍ فيه ضعف.
وانظر: «المداوي» (2/ 414)، و «السلسلة الصحيحة» (3586).
فصل
ومنها: أنَّ مثل هذا يصيرُ كالطَّبيب ينتفعُ به المرضى في علاجهم ودوائهم، والطَّبيبُ الذي كان المرضُ يباشرُه
(1)
وعَرَف دواءه وعلاجَه أحذقُ وأخبرُ من الطَّبيب الذي إنما عَرَفه وصفًا، هذا في أمراض الأبدان، وكذلك في أمراض القلوب وأدوائها.
وهذا معنى قول بعض الصُّوفية: «أعرفُ النَّاس بالآفات أكثرُهم آفات»
(2)
.
وقال عمرُ بن الخطَّاب رضي الله عنه: «إنما تُنقض عُرى الإسلام عُروةً عُروةً إذا نشأ في الإسلام من لا يعرفُ الجاهليَّة»
(3)
.
(1)
(ت، د، ق): «كان المرض مباشره» .
(2)
أخرجه أبو عبد الرحمن السلمي في «طبقات الصوفية» (161)، وأبو نعيم في «الحلية» (10/ 267) عن الجنيد.
(3)
أخرج ابن أبي شيبة في «المصنف» (12/ 193)، وابن سعد في «الطبقات» (6/ 129)، وأبو نعيم في «الحلية» (7/ 243)، وصححه الحاكم (4/ 428) ولم يتعقبه الذهبي، عن عمر رضي الله عنه قال:«قد علمتُ وربِّ الكعبة متى تهلكُ العرب، إذا ساس أمرَهم من لم يصحب الرسول ولم يُعالِج أمرَ الجاهلية» .
وتفسيره في «الجعديات» (2/ 180)، و «شعب الإيمان» (13/ 205).
ولم أر من سبق ابن تيمية إلى إيراد هذا اللفظ الذي ذكره المصنف. انظر: «درء التعارض» (5/ 259)، و «مجموع الفتاوى» (10/ 301)، و «منهاج السنة» (4/ 590).
ولعله لفَّقه سهوًا من حديث أبي أمامة وأثر عمر (الذي ذكرتُ روايته)، حيث ساقهما البيهقي في «الشعب» متتابعين، كما نبَّه على ذلك بعضهم.
ولهذا كان الصَّحابةُ أعرفَ الأمَّة بالإسلام وتفاصيله وأبوابه وطرقه، وأشدَّ النَّاس رغبةً فيه، ومحبةً له، وجهادًا لأعدائه، وتكلُّمًا بأعلامه، وتحذيرًا من خلافه؛ لكمال علمهم بضدِّه، فجاءهم الإسلامُ كلُّ خصلةٍ منه مضادَّةٌ لكلِّ خصلةٍ مما كانوا عليه، فازدادوا له معرفةً وحبًّا، وفيه جهادًا؛ بمعرفتهم بضدِّه.
وذلك بمنزلة من كان في حَصَرٍ شديدٍ وضيقٍ ومرضٍ وفقرٍ وخوفٍ ووَحْشَة، فقيَّض الله له من نقله منه إلى فضاءٍ وسَعةٍ وأمنٍ وعافيةٍ وغِنًى وبهجةٍ ومسرَّة، فإنه يزدادُ سرورُه وغِبطتُه ومحبتُه بما نُقِل إليه بحسب معرفته بما كان فيه.
وليس حالُ هذا كمن وُلِد في الأمن والعافية والغِنى والسُّرور، فإنه لم يشعُر بغيره، وربما قُيِّضت
(1)
له أسبابٌ تخرجُه عن ذلك إلى ضدِّه وهو لا يشعُر، وربما ظنَّ أنَّ كثيرًا من أسباب الهلاك والعَطب تفضي به إلى السَّلامة والأمن والعافية، فيكون هلاكُه على يَدَي نفسه وهو لا يشعُر. وما أكثر هذا الضَّربَ من النَّاس!
فإذا عَرَف الضدَّين، وعَلِم مباينةَ الطَّرفين
(2)
، وعَرَف أسبابَ الهلاك على التفصيل، كان أحرى أن تدُوم له النِّعمة، ما لم يُؤْثِر أسبابَ زوالها على عِلم، وفي مثل هذا قال القائل:
عرفتُ الشَّرَّ لا للشَّرْ
…
رِ لكنْ لِتَوقِّيهِ
(1)
(ن): «اقتضت» .
(2)
(ت، ق): «الطريقين» .
ومن لا يَعْرِف الشَّرَّ
…
من النَّاسِ يَقَعْ فيهِ
(1)
وهذه حالُ المؤمن؛ يكونُ فَطِنًا حاذقًا، أعرَف النَّاس بالشرِّ، وأبعدَهم منه، فإذا تكلَّم في الشرِّ وأسبابه ظننتَه مِنْ شرِّ النَّاس، فإذا خالطتَه وعرفتَ طويَّته رأيتَه من أبرِّ النَّاس.
والمقصودُ أنَّ من بُلي بالآفات صار من أعرف النَّاس بطرقها، وأمكنه أن يسدَّها على نفسه وعلى من استنصحه من النَّاس ومن لم يستنصحه
(2)
.
فصل
ومنها: أنه سبحانه يذيقُ عبدَه ألمَ الحجاب عنه، والبُعد، وزوال ذلك الأُنس والقُرب؛ ليمتحن عبدَه:
فإن أقام على الرِّضا بهذه الحال، ولم يجد نفسَه تطالبُه بحالها الأوَّل مع الله، بل اطمأنت وسكنت إلى غيره= عَلِم أنه لا يصلُح، فوضعه في مرتبته التي تليقُ به.
وإن استغاث استغاثة الملهوف، وتقلَّق تقلُّق المكروب
(3)
،
ودعا دعاء المضطرِّ، وعَلِم أنه قد فاته حياتُه
(4)
حقًّا، فهو يهتفُ بربِّه أن يردَّ عليه حياته،
(1)
البيتان لأبي فراس، في ديوانه (369)، و «اليتيمة» (1/ 84)، و «الحماسة المغربية» (1253). ودون نسبة في مصادر كثيرة.
(2)
(ح، ن): «وعلى من استصحبه من الناس ومن لم يستصحبه» .
(3)
كذا في الأصول. والتقلُّق تفعُّلٌ من القَلَق، كالتفزُّع. ولم تذكره المعاجم. قال ابن قلاقس (ت: 567):
هو راتبٌ قد كنتُ أرقبُ نجمَه
…
فهوى وقد جعل التقلُّقَ راتبي
(4)
كذا في الأصول، بتذكير الفعل، كقوله تعالى:{فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} .
ويعيد عليه ما لا حياة له بدونه= عَلِم أنه موضعٌ لما أُهِّل له، فردَّ عليه أحوجَ ما هو إليه، فعظُمت به فرحتُه، وكمُلت به لذَّتُه، وتمَّت به نعمتُه
(1)
، واتصل به سرورُه، وعَلِم حينئذٍ مقدارَه، فعَضَّ عليه بالنَّواجذ، وثنى عليه الخناصر، وكان حالُه كحال ذلك الفاقد لراحلته التي عليها طعامُه وشرابُه في الأرض المَهْلَكة إذا وجدها بعد معاينة الهلاك؛ فما أعظم موقع ذلك الوِجْدان عنده!
ولله أسرارٌ وحِكَمٌ ومنبِّهاتٌ وتعريفاتٌ لا تنالها عقولُ البشر.
فقُل لغليظِ القلب ويحكَ ليسَ ذا
…
بِعُشِّكَ فادْرُجْ طالبًا عُشَّكَ البالي
ولا تكُ ممَّن مَدَّ باعًا إلى جَنًى
…
فقَصَّرَ عنه قال ذا ليسَ بالحالي
(2)
فالعبدُ إذا بُلي بعد الأُنس بشيءٍ من الوَحْشة، وبعد القُرب صَلِي بنار البِعاد
(3)
، اشتاقت نفسُه إلى لذَّة تلك المعاملة، فحنَّت وأنَّت وتضرَّعت
(4)
وتعرَّضت لنفحات من ليس لها منه عِوَضٌ أبدًا، ولا سيَّما إذا تذكَّرت برَّه ولطفه وحنانه وقُربه؛ فإنَّ هذه الذكرى تمنعُها القرار وتهيِّجُ منها البلابل
(5)
، كما قال القائل ــ وقد فاته طوافُ الوداع، فركب الأخطار ورجع إليه ــ:
ولما تذكَّرتُ المنازلَ بالحِمى
…
ولم يُقْضَ لي تسليمةُ المتزَوِّد
تيقَّنتُ أنَّ العَيْشَ ليس بنافعي
…
إذا أنا لم أنظُر إليها بموعدِ
(6)
(1)
«وتمت به نعمته» ليست في (ح، ن).
(2)
أي: ليس بالحلو. والبيتان أشبه بنظم المصنف.
(3)
(ن، ح): «بعد الأنس بالوحشة وبعد القرب بنار البعاد» .
(4)
(ن، ح): «وتصدعت» .
(5)
وهي الهموم والوساوس في الصدر. «اللسان» (بلل).
(6)
البيت الأول في «الموازنة» (2/ 47)، و «شرح نهج البلاغة» (8/ 128) للعلوي البصري صاحب الزنج، وفي «ذيل الأمالي» (120) من إنشاد الزبير بن بكار لبعض البصريين القشيريين، و «التذكرة الحمدونية» (6/ 60) لبعض بني قشير، وأنشده ثعلب من أبياتٍ في «المحب والمحبوب» (2/ 81).
قال شيخنا الإصلاحي: وجواب (لما) في الأبيات المرويَّة: زفرتُ إليها زفرةً
…
، وهنا: تيقنتُ
…
؛ فالظاهر أن بعضهم ضمَّن البيت القديم في شعره.
وإن استمرَّ إعراضها ولم تَحِنَّ إلى مَعْهَدها الأوَّل
(1)
، ولم تحسَّ بفاقتها الشديدة وضرورتها إلى مراجعة قربها من ربها؛ فهي ممَّن إذا غاب لم يُطْلب، وإذا أبَق لم يُسْتَرجع، وإذا جنى لم يُسْتَعتَب. وهذه هي النُّفوسُ التي لم تُؤهَّل لما هنالك. وبحَسْب المُعْرِض هذا الحرمان، فإنه يكفيه، وذلك ذنبٌ عقابُه فيه.
فصل
ومنها: أنَّ الحكمة الإلهيَّة اقتضت تركيبَ الشَّهوة والغضب في الإنسان، وهاتان القُوَّتان فيه بمنزلة صفاته الذَّاتية، لا ينفكُّ عنها، وبهما وقعت المحنةُ والابتلاء، وعُرِّض لنيل الدَّرجات العُلى، واللَّحاق بالرفيق الأعلى، والهبوط إلى أسفل سافلين.
فهاتان القُوَّتان لا يَدَعان العبدَ حتى يُنيلانه منازل الأبرار، أو يضعانه تحت أقدام الأشرار، ولن يجعل الله مَن شهوتُه مصروفةٌ إلى ما أُعِدَّ له في دار النَّعيم، وغضبُه حميَّةٌ لله ولكتابه ولرسوله ولدينه، كمن شهوتُه
(2)
مصروفةٌ في هواه وأمانيه العاجلة، وغضبُه مقصورٌ على حظِّه، ولو انتُهِكت محارمُ الله وحدودُه، وعُطِّلت شرائعُه وسننُه، بعد أن يكون هو ملحوظًا بعَيْن
الاحترام والتَّعظيم والتَّوقير ونفوذ الكلمة. وهذه حالُ أكثر الرُّؤساء أعاذنا الله منها.
فلن يجعل الله هذين الصِّنفين في دارٍ واحدة، فهذا رَكَض
(1)
بشهوته وغضبه إلى أعلى عِلِّيِّين، وهذا هوى بهما إلى أسفل سافلين.
والمقصودُ أنَّ تركيبَ الإنسان على هذا الوجه هو غايةُ الحكمة، ولا بدَّ أن يقتضي كلُّ واحدٍ من القوَّتين أثرَه
(2)
، فلا بدَّ من وقوع الذَّنب والمخالفات والمعاصي، ولا بدَّ من ترتُّب آثار هاتين القُوَّتين عليهما، ولو لم يُخْلقا
(3)
في الإنسان لم يكن إنسانًا، بل كان مَلَكًا؛ فالترتُّبُ
(4)
من موجَبات الإنسانيَّة، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«كلُّ بني آدم خطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوَّابون»
(5)
.
(1)
(ح، ن): «فهذا صعد» .
(2)
كذا في الأصول، حملًا على المعنى. والجادة: كل واحدة من القوتين أثرها.
(3)
(ح، ن): «ولو لم يختلفا» .
(4)
(ق): «فالترتيب» . وفي طرة (د): «لعله: فالذنب» . وهو محتمل.
(5)
أخرجه الترمذي (2499)، وابن ماجه (4251)، وأحمد (3/ 198)، وغيرهم من حديث علي بن مسعدة عن قتادة عن أنس.
قال الإمام أحمد ــ كما في «المنتخب من العلل للخلال» (92) ــ: «هذا حديثٌ منكر» . وقال الترمذي: «هذا حديث غريبٌ لا نعرفه إلا من حديث علي بن مسعدة عن قتادة» . وقال أبو أحمد الحاكم في «الأسامي والكنى» (4/ 81): «هذا حديثٌ منكر لا يتابع عليه علي بن مسعدة» . وانظر: «مسند البزار» (7236).
وأخرجه ابن عدي في «الكامل» (5/ 207)، وابن حبان في «المجروحين» (2/ 111) في ترجمة علي بن مسعدة، وأنكراه عليه.
وخالفه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة فلم يرفعه، بل جعله من أخبار أهل الكتاب. أخرجه أحمد في «الزهد» (96). وهذا هو المحفوظ.
وصحح الحاكم الرواية المرفوعة (4/ 244)، فتعقبه الذهبي.
فأمَّا من اكتنفته العصمة، وضُرِبت عليه سُرادِقاتُ الحفظ، فهم أقلُّ أفراد النَّوع الإنسانيِّ، وهم خلاصتُه ولبُّه.
فصل
ومنها: أنَّ الله سبحانه إذا أراد بعبده خيرًا أنساه رؤيةَ طاعاته، ورَفَعَها من قلبه ولسانه، فإذا ابتُلي بالذَّنب جعله نُصْبَ عينيه، ونسي طاعاته، وجعل همَّه كلَّه بذنبه
(1)
، فلا يزالُ ذنبُه أمامه إن قام أو قعد أو غدا أو راح، فيكونُ هذا عينَ الرحمة في حقِّه.
كما قال بعض السَّلف: «إنَّ العبد ليعملُ الذَّنبَ فيدخُل به الجنَّة، ويعملُ الحسنةَ فيدخلُ بها النَّار.
قالوا: وكيف ذلك؟
قال: يعملُ الخطيئةَ فلا تزالُ نُصْبَ عينيه كلَّما ذَكَرَها بكى، وندم، وتاب، واستغفر، وتضرَّع، وأناب إلى الله، وذلَّ له وانكَسَر، وعَمِل لها أعمالًا؛ فتكونُ سببَ الرحمة في حقِّه.
ويعملُ الحسنةَ فلا تزالُ نُصْبَ عينيه يَمُنُّ بها ويراها ويعتدُّها على ربِّه وعلى الخلق، ويتكبَّر بها، ويتعجَّبُ من النَّاس كيف لا يعظِّمونه ويكرمونه ويجلُّونه عليها، فلا تزالُ هذه الأمورُ به حتى تقوى عليه آثارُها؛ فتُدخِله
(1)
(ن): «ذنبه» .
النَّار»
(1)
.
فعلامةُ السَّعادة أن تكون حسناتُ العبد خلف ظهره، وسيئاتُه نُصْبَ عينيه. وعلامةُ الشقاوة أن يجعل حسناته نُصْبَ عينيه، وسيئاته خلف ظهره. والله المستعان.
فصل
ومنها: أنَّ شُهود العبد ذنوبَه وخطاياه توجبُ له أن لا يرى لنفسه على أحدٍ فضلًا، ولا له على أحدٍ حقًّا
(2)
؛ فإنه يشهدُ عيوبَ نفسه وذنوبَه، فلا يظنُّ أنه خيرٌ من مسلمٍ يؤمنُ بالله ورسولِه، ويحرِّمُ ما حرَّم الله ورسوله.
وإذا شَهِد ذلك مِنْ نفسه لم يَرَ لها على النَّاس حقوقًا من الإكرام يتقاضاهم إياها ويذمُّهم على ترك القيام بها، فإنها عنده أخسُّ قدرًا وأقلُّ قيمةً من أن يكون لها على عباد الله حقوقٌ يجبُ عليهم مراعاتُها، أو لها عليهم فضلٌ يستحقُّ أن يُكْرَم ويُعَظَّم ويُقَدَّم لأجله.
فيَرى أنَّ من سلَّم عليه أو لَقِيَه بوجهٍ منبسطٍ فقد أحسن إليه، وبذل له ما لا يستحقُّه؛ فاستراحَ هذا في نفسه، وأراح النَّاسَ من شِكايته وغضبه على
(1)
جاء أصلُ هذا المعنى من قول أبي موسى وأبي أيوب رضي الله عنهما، ومن قول الحسن وأبي حازم. انظر:«الزهد» لهناد (910، 911)، ولابن المبارك (163، 164)، ولأحمد (277)، و «الحلية» لأبي نعيم (3/ 242، 7/ 288)، و «شعب الإيمان» للبيهقي (12/ 235).
ورُوِي من مرسل الحسن عند ابن المبارك (162)، وأحمد (397).
(2)
قال ابن تيمية: «العارف لا يرى له على أحدٍ حقًّا، ولا يشهدُ له على غيره فضلًا، ولذلك لا يعاتِب ولا يطالِب ولا يضارِب» . «مدارج السالكين» (1/ 523).
الوجود وأهله، فما أطيبَ عيشَه! وما أنعمَ بالَه! وما أقَرَّ عينَه!
وأين هذا ممَّن لا يزالُ عاتبًا على الخلق، شاكيًا ترك قيامهم بحقِّه، ساخطًا عليهم، وهم عليه أسخط؟!
فسبحان من بَهَرَت حكمتُه عقول العالمين.
فصل
ومنها: أنه يوجبُ له الإمساكَ عن عيوب النَّاس والفِكر فيها؛ فإنه في شُغلٍ بعيب نفسه
(1)
، فطُوبى لمن شغله عيبُه عن عيوب النَّاس، وويلٌ لمن نَسِيَ عيبَه وتفرَّغ لعيوب النَّاس. هذا من علامة الشَّقاوة، كما أنَّ الأوَّل من أمارات السَّعادة.
فصل
ومنها: أنه إذا وقع في الذَّنب شَهِد نفسَه مثل إخوانه الخطَّائين، وشَهِد أنَّ المصيبة واحدة، والجميعَ مشتركون في الحاجة ــ بل في الضرورة ــ إلى مغفرة الله وعفوه ورحمته، فكما يحبُّ أن يستغفر له أخوه المسلم، كذلك هو أيضًا ينبغي أن يستغفر لأخيه المسلم، فيصير هِجِّيراه:«ربِّ اغفر لي ولوالديَّ وللمسلمين والمسلمات وللمؤمنين والمؤمنات» .
وقد كان بعضُ السَّلف يستحبُّ لكلِّ أحدٍ أن يداوم على هذا الدُّعاء كلَّ يومٍ سبعين مرَّة، فيجعل له منه وِرْدًا لا يُخِلُّ به. سمعتُ شيخنا يذكُره، وذكَر
(1)
(ق، د): «بعيبه ونفسه» .
فيه فضلاً عظيمًا لا أحفظُه
(1)
، وربَّما كان من جملة أوراده التي لا يُخِلُّ بها
(2)
. وسمعتُه يقول: إن جَعَله بين السَّجدتين جاز.
فإذا شَهِد العبدُ أنَّ إخوانه مصابون بمثل ما أُصِيبَ به، محتاجون إلى ما هو محتاجٌ إليه، لم يمتنع من مباعدتهم إلا لفَرْط بُخْلٍ
(3)
بمغفرة الله وفضله، وحقيقٌ بهذا أن لا يُساعَد فإنَّ الجزاء من جنس العمل.
وقد قال بعض السَّلف: «إنَّ الله لما عَتَبَ على الملائكة بسبب قولهم:
(1)
لعله ما ذكره في «الروح» (390)، قال:«ولهذا جاء أثرٌ عن بعض السلف أنه من قال كل يوم سبعين مرة: رب اغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، حصل له من الأجر بعدد كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة. ولا تستبعد هذا، فإنه إذا استغفر لإخوانه فقد أحسن إليهم، والله لا يضيع أجر المحسنين» .
وانظر منامًا لبعض السلف في «الحلية» (10/ 113).
وعند الطبراني في «مسند الشاميين» (2155) من حديث عبادة بن الصامت مرفوعًا: «من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب له بكلِّ مؤمن ومؤمنة حسنة» . وإسناده ضعيف، وجوَّده الهيثمي في «المجمع» (10/ 352). ومن حديث أم سلمة في «المعجم الكبير» (23/ 370)، وإسناده ضعيف. وفي الباب حديثٌ ثالث ضعيف. انظر:«السلسلة الضعيفة» (5976).
وانظر تقرير ما دلت عليه في «تحفة الذاكرين» للشوكاني (380).
وربما كان أصل التزام عدد السبعين ما أخرجه الترمذي (3259) وصححه من حديث أبي هريرة في قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} قال: فقال صلى الله عليه وسلم: «إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة» .
(2)
انظر: «مجموع الفتاوى» (22/ 521، 24/ 322).
(3)
(ن): «لفرط جهل» .
{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} ، وامتَحَن هاروتَ وماروتَ بما امتحنهما به، جَعَلت الملائكةُ بعد ذلك تستغفرُ لبني آدم وتدعو الله لهم»
(1)
.
فصل
ومنها: أنه إذا شَهِد نفسَه مع ربِّه مسيئًا خاطئًا مفرِّطًا
(2)
، مع فَرْطِ إحسان الله إليه في كلِّ طرفة عين، وبرِّه به، ودَفْعِه عنه، وشدَّة حاجته إلى ربِّه، وعدم استغنائه عنه نَفَسًا واحدًا، وهذه حالُه معه= فكيف يطمعُ أن يكون النَّاسُ معه كما يحبُّ، وأن يعاملوه بمحض الإحسان وهو لم يعامل ربَّه بتلك المعاملة؟! وكيف يطمعُ أن يطيعه مملوكُه وولدُه وزوجتُه في كلِّ ما يريد، ولا يعصونه
(3)
ولا يخلُّون بحقوقه، وهو مع ربِّه ليس كذلك؟! وهذا يوجبُ له أن يستغفر لمسيئهم، ويعفو عنه، ويسامحه، ويُغْضِي عن الاستقصاء في طلب حقِّه.
فهذه الآثارُ ونحوُها متى اجتناها العبدُ من الذَّنب فهي علامةُ كونه رحمةً في حقِّه، ومتى اجتنى منه
(4)
أضدادَها وأوجبت له خلافَ ما ذكرناه فهي والله علامةُ الشَّقاوة، وأنه مِنْ هوانه على الله وسقوطه من عَيْنه خلَّى بينه وبين معاصيه؛ ليقيم عليه حجَّةَ عدله، فيعاقبه باستحقاقه.
(1)
أخرجه الحاكم في «المستدرك» (2/ 442)، ومن طريقه البيهقي في «شعب الإيمان» (12/ 85) عن ابن عباس. وصححه الحاكم، ولم يتعقبه الذهبي.
(2)
(ن): «مسيئا مخطئا خاطئا مفرطا مع الله» . (ح): «مسيئا خاطئا مع الله» .
(3)
كذا في الأصول.
(4)
(ح، ن): «ومن اجتنى منه» .
وتتداعى السَّيئاتُ في حقِّ مثل هذا وتتولف
(1)
، فيتولَّدُ من الذَّنب الواحد ما شاء الله من المتالف والمعاطب التي يهوي بها في دركات العذاب، فالمصيبةُ كلُّ المصيبة الذَّنبُ يتولَّدُ من الذَّنب، ثمَّ يتولَّدُ من الاثنين ثالث، ثمَّ تقوى الثَّلاثةُ فتوجبُ رابعًا، وهلُمَّ جرًّا.
ومن لم يكن له فقهُ نفسٍ في هذا الباب هلك من حيثُ لا يشعُر.
فالحسناتُ والسَّيئاتُ آخذٌ بعضُها برقاب بعض، يتلو بعضُها بعضًا، ويُثْمِرُ بعضُها بعضًا؛ قال بعض السَّلف:«إنَّ من ثواب الحسنةِ الحسنةَ بعدها، وإنَّ من عقاب السيئةِ السيئةَ بعدها»
(2)
.
وهذا أظهرُ عند النَّاس من أن تُضرب له الأمثالُ وتُطلب له الشَّواهد
(3)
والله المستعان.
فصل
وإذا تأمَّلتَ حكمتَه سبحانه فيما ابتلى به عبادَه وصفوته بما ساقهم به إلى أجلِّ الغايات وأكمل النِّهايات التي لم يكونوا يعبُرون إليها إلا على جسرٍ من الابتلاء والامتحان، وكان ذلك الجسرُ لكماله كالجسر الذي لا سبيل إلى عُبورهم إلى الجنة إلا عليه، وكان ذلك الابتلاءُ والامتحانُ عَيْنَ
(1)
كذا في الأصول. ولعلها: وتتوالف. أي: يأتلف بعضها إلى بعض.
وقال شيخنا الإصلاحي: إذا لم يكن محرفًا، فهو: تتألَّف، كما قالوا: تواليف.
(2)
أخرجه أبو عبد الرحمن السلمي في «طبقات الصوفية» (382)، ومن طريقه البيهقي في «شعب الإيمان» (12/ 505) عن أبي الحسن المزيِّن (ت: 328).
(3)
انظر: «الداء والدواء» (139)، و «طريق الهجرتين» (594).
المنح
(1)
في حقِّهم والكرامة، فصورتُه صورةُ ابتلاءٍ وامتحان
(2)
، وباطنُه فيه الرحمةُ والنِّعمةُ والمنَّة. فكم لله من نعمةٍ جسيمةٍ ومنَّةٍ عظيمة تُجنى من قطوف الابتلاء والامتحان!
فتأمَّل حال أبينا آدم صلى الله عليه وسلم، وما آلت إليه محنتُه من الاصطفاء والاجتباء والتَّوبة والهداية ورفعة المنزلة، ولولا تلك المحنةُ التي جرت عليه ــ بإخراجه
(3)
من الجنَّة، وتوابع ذلك ــ لما وصل إلى ما وصل إليه، فكم بين حالته الأولى وحالته الثَّانية في نهايته!
وتأمَّل حال أبينا الثَّاني نوحٍ صلى الله عليه وسلم، وما آلت إليه محنتُه وصبرُه على قومه تلك القرون كلَّها، حتى أقرَّ اللهُ عينَه، وأغرَق أهلَ الأرض بدعوته، وجَعَل العالم بعده من ذريَّته، وجَعَله خامس خمسةٍ هم أولو العزم الذين هم أفضلُ الرسل، وأمر رسوله ونبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يصبر كصبره، وأثنى عليه بالشُّكر، فقال:{إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3]، فوصفه بكمال الصَّبر والشُّكر.
ثمَّ تأمَّل حال أبينا الثَّالث إبراهيم صلى الله عليه وسلم؛ إمام الحنفاء، وشيخ الأنبياء، وعَمُود العالم
(4)
، وخليل ربِّ العالمين من بني آدم، وتأمَّل ما آلت إليه محنتُه وصبرُه وبذلُه نفسَه لله.
وتأمَّل كيف آل به بذلُه لله نفسَه ونصرُه دينَه إلى أن اتخذه الله خليلًا لنفسه، وأمر رسوله وخليله محمَّدًا صلى الله عليه وسلم أن يتَّبع ملَّته.
(1)
(ق، ت): «عين المنهج» .
(2)
«وامتحان» ليست في (ح، ن).
(3)
(ح، ن): «وهي إخراجه» .
(4)
ذكر المصنف في «جلاء الأفهام» (306) أن أهل الكتاب يسمونه كذلك.
وأنبِّهك على خصلةٍ واحدةٍ مما أكرمه الله به في محنته بذبح ولده؛ فإنَّ الله تبارك وتعالى جازاه على تسليمه ولدَه لأمر الله بأن بارك في نسله وكثَّره، حتى ملأ السَّهل والجبل؛ فإنَّ الله تعالى لا يتكرَّمُ عليه أحد، وهو أكرمُ الأكرمين، فمن ترك لوجهه أمرًا أو فعله لوجهه بَذَل اللهُ له أضعاف ما تركه من ذلك الأمر أضعافًا مضاعفة، وجازاه بأضعاف ما فعله لأجله أضعافًا مضاعفة.
فلما أُمِرَ إبراهيمُ
(1)
بذبح ولده فبادر لأمر الله، ووافَق عليه الولدُ أباه، رضًا منهما وتسليمًا
(2)
، وعَلِم الله منهما الصِّدق والوفاء= فَدَاه بذِبْحٍ عظيم وأعطاهما ما أعطاهما من فضله، وكان من بعض عطاياه أن بارك في ذريَّتهما حتى ملؤوا الأرض؛ فإنَّ المقصود بالولد إنما هو التناسلُ وتكثيرُ الذُّريَّة، ولهذا قال إبراهيم:{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]، وقال:{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40].
فغايةُ ما كان يَحْذَرُ ويخشى مِنْ ذبح ولده
(3)
انقطاع نسله، فلمَّا بذل ولده لله وبذل الولدُ نفسَه، ضاعفَ الله النَّسل، وبارك فيه، وكثَّره، حتى ملؤوا الدُّنيا، وجعل النبوَّة والكتابَ في ذريَّته خاصَّة، وأخرج منهم محمَّدًا صلى الله عليه وسلم.
وقد ذُكِر أنَّ داود عليه السلام أراد أن يَعْلمَ عَدَد بني إسرائيل، فأمَر بإحضارهم، وبَعَث لذلك نُقَباء وعُرَفاء، وأمرهم أن يرفعوا إليه ما بَلَغ
(1)
(ت): «فلما أمر الله إبراهيم» .
(2)
(ت): «ووافق عليه الولد أباه رضي الله عنهما» .
(3)
(د، ق، ن): «ذبح الولد» .
عددُهم، فمكثوا مدَّةً لا يقدرون على ذلك، فأوحى الله إلى داود: أن قد عَلِمْتَ أني وعدتُ أباك إبراهيم لما أمرتُه بذبح ولده فبادَر إلى طاعة أمري أن أُبارِك له في ذريَّته حتى يصيروا في عدد النُّجوم، وأجعلهم بحيث لا يحصى عددُهم، وقد أردتَ أنت أن تحصي عددًا قدَّرتُ أنه لا يحصى
(1)
…
وذكر باقي الحديث
(2)
.
فجَعَل مِنْ نسله هاتين الأمَّتين العظيمتين الذين
(3)
لا يحصي عددَهم إلا الله خالقُهم ورازقُهم، وهم بنو إسرائيل وبنو إسماعيل، هذا سوى ما أكرمه الله به مِنْ رفع الذِّكر والثَّناء الجميل على ألسنة جميع الأمم وفي السَّموات بين الملائكة.
فهذا من بعض ثمرة معاملته، فتبًّا لمن عَرَفه ثمَّ عامل غيره، ما أخسرَ صفقتَه وما أعظمَ حسرتَه!
فصل
ثمَّ تأمَّل حال الكليم موسى عليه السلام وما آلت إليه محنتُه وفُتُونُه
(4)
من أوَّل ولادته إلى منتهى أمره، حتى كلَّمه الله منه إليه تكليمًا، وكتب له التَّوراة بيده، ورفَعه إلى أعلى السَّموات، واحتَمل له ما لا يَحْتمِلُ لغيره، فإنه رمى الألواحَ على الأرض حتى تكسَّرت، وأخذ بلحية نبيِّ الله هارون وجرَّه
(1)
(ح، ن): «وقد أردت أن تحصي عددهم أقدرت أن تحصي» .
(2)
أخرجه الطبري في «التاريخ» (1/ 485) عن وهب بن منبه. فهو من أخبار بني إسرائيل.
(3)
(ت): «الذي» . (ح): «اللذين» .
(4)
كما قال تعالى عنه: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40]. وسقطت الكلمة من (ت).
إليه، ولَطَم وجه ملَك الموت ففقأ عينَه، وخاصَم ربَّه ليلة الإسراء في شأن محمدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربُّه يحبُّه على ذلك كلِّه، ولا سقط شيءٌ منه من عينه، ولا سقطت منزلتُه عنده، بل هو الوجيهُ عند الله، القريب، ولولا ما تقدَّم من السَّوابق، وتحمُّل الشَّدائد والمِحَن العِظام في الله، ومقاساة الأمَّتين الشَّديدتَين
(1)
: فرعونَ وقومه، ثمَّ بني إسرائيل وما آذَوْهُ به وما صَبَر عليهم لله
(2)
.
ثمَّ تأمَّل حال المسيح صلى الله عليه وسلم؛ وصبرَه على قومه، واحتمالَه في الله
(3)
ما تحمَّله منهم، حتى رفعه الله إليه، وطهَّره من الذين كفروا، وانتقم من أعدائه، وقطَّعهم في الأرض، ومزَّقهم كلَّ ممزَّق، وسَلَبهم مُلْكَهم وفخرَهم إلى آخر الدَّهر.
فصل
فإذا جئتَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتأمَّلتَ سيرته مع قومه، وصبرَه في الله، واحتمالَه ما لم يحتمله نبيٌّ قبله، وتلوُّنَ الأحوال عليه مِنْ سِلْمٍ وحرب، وغنًى وفقر، وخوفٍ وأمن
(4)
، وإقامةٍ في وطنه وظعْنٍ عنه وتَركِه لله، وقتلِ أحبابه وأوليائه بين يديه، وأذى الكفَّار له بسائر أنواع الأذى من القول والفعل، والسِّحر والكذب، والافتراء عليه والبهتان؛ وهو مع ذلك كلِّه صابرٌ على أمر الله، يدعو إلى الله.
(1)
(ن، ح): «ومقاساة الأمر الشديد بين» .
(2)
جواب (لولا) محذوفٌ، وتقديره: لم يكن له ذلك. وانظر ما تقدم (ص: 506).
(3)
(ت): «واحتماله لله» .
(4)
(ح، ن): «من سلم وخوف وغنى وفقر وأمن» . وهو تحريف.
فلم يُؤذ نبيٌّ ما أُوذِي، ولم يَحْتَمِل في الله ما احتَمَله
(1)
، ولم يُعْط نبيٌّ ما أُعطِيَه، فرفَع الله له ذِكْرَه، وقَرَن اسمه باسمه، وجعله سيِّد النَّاس كلِّهم، وجعله أقربَ الخلق إليه وسيلة، وأعظمهم عنده جاهًا، وأسمَعهم عنده شفاعة.
وكانت له تلك المحنُ والابتلاءُ عينَ كرامته، وهي مما زاده الله بها شرفًا وفضلًا، وساقه بها إلى أعلى المقامات.
وهذا حالُ ورثته من بعده الأمثل فالأمثل، كلٌّ له نصيبٌ من المحنة، يسوقُه الله به إلى كماله بحسب متابعته له، ومن لا نصيب له من ذلك فحظُّه من الدُّنيا
(2)
حظُّ من خُلِق لها وخُلِقت له وجُعِل خَلاقُه ونصيبُه فيها، فهو يأكلُ منها رغَدًا، ويتمتَّعُ فيها حتى يناله نصيبُه من الكتاب، يُمْتَحَنُ أولياءُ الله وهو في دَعَةٍ وخَفْض عَيْش
(3)
، ويخافون وهو آمِن، ويحزنون وهو في أهله مسرور، له شأنٌ ولهم شأن، وهو في وادٍ وهم في واد، همُّه ما يُقِيمُ به جاهَه، ويَسْلَمُ به مالُه، وتُسْمَعُ به كلمتُه، لَزِم من ذلك ما لَزِم، ورَضِي من رَضِي وسَخِط من سَخِط، وهمُّهم إقامةُ دين الله، وإعلاء كلمته، وإعزاز أوليائه، وأن تكون الدَّعوةُ له وحده، فيكون هو وحده المعبود لا غيره، ورسولُه المطاعَ لا سواه.
فللَّه سبحانه من الحِكَم في ابتلائه أنبياءه ورسله وعباده المؤمنين ما تتقاصرُ عقولُ العالمين عن معرفته، وهل وَصَل من وَصَل إلى الغايات
(1)
(ح): «فلم يؤذ نبي ما أوذي ولم يحتمله» .
(2)
(ت، د، ق): «فحظه في الدنيا» .
(3)
(ت): «في دعة وحفظ وخفض عيش» .
المحمودة
(1)
والنِّهايات الفاضلة إلا على جِسْر المحنة والابتلاء؟!
كذا المعالي إذا ما رُمْتَ تُدْرِكُها
…
فاعبُر إليها على جِسْرٍ من التَّعبِ
(2)
فصل
(3)
وإذا تأمَّلتَ الحكمة الباهرة في هذا الدِّين القيِّم
(4)
، والملَّة الحنيفية، والشريعة المحمَّدية، التي لا تنالُ العبارةُ كمالَها، ولا يُدْرِكُ الوصفُ حُسْنَها، ولا تقترحُ عقولُ العقلاء ــ ولو اجتمعت وكانت على عقل أكمل
(5)
رجلٍ منهم ــ فوقها، وحسبُ العقول الكاملة الفاضلة أن أدركَت حُسْنَها، وشَهِدت بفضلها، وأنه ما طَرَق العالمَ شريعةٌ أكملُ ولا أجلُّ
(6)
ولا أعظمُ منها.
فهي نفسُها الشاهدُ والمشهودُ له، والحجَّةُ والمحتجُّ له، والدَّعوى والبرهان، ولو لم يأت المرسَلُ
(7)
ببرهانٍ عليها لكفى بها برهانًا وآيةً وشاهدًا على أنها من عند الله، وكلُّها شاهدةٌ له بكمال العلم، وكمال
(1)
(ح، ن): «المقامات المحمودة» .
(2)
مأخوذٌ من قول أبي تمام في بائيته الذَّائعة، «ديوانه» (1/ 73):
بَصُرْتَ بالراحةِ الكبرى فلم تَرَها
…
تُنَالُ إلا على جِسْرٍ من التَّعبِ
(3)
قبل الكلمة في (ح، ن): «والحمد لله وحده، وصلى الله على محمَّد وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا دائمًا أبدًا إلى يوم الدين، ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين» . وليست في (د، ت، ق).
(4)
(ن، ح): «الدين القويم» .
(5)
(ق، ن، د، ت): «وكانت على محل كل» .
(6)
(ح): «ولا أجمل» .
(7)
(ت، ح، ق، د): «الرسل» .
الحكمة، وسَعة الرحمة والبرِّ والإحسان، والإحاطة بالغيب والشَّهادة، والعلم بالمباداء والعواقب، وأنها مِنْ أعظم نِعَمه التي أنعَم بها على عباده.
فما أنعَم عليهم بنعمةٍ أجلَّ من أن هداهم لها؛ وجعلهم من أهلها، وممَّن ارتضاها لهم وارتضاهم لها، فلهذا امتنَّ على عباده بأن هداهم لها؛ قال تعالى:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].
وقال معرِّفًا لعباده ومذكِّرًا لهم عظيمَ نعمته عليهم بها، مُسْتَدعيًا منهم شُكرَهم
(1)
على أن جَعَلهم من أهلها: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
وتأمَّل كيف وَصَف الدِّين الذي اختاره لهم بالكمال، والنِّعمةَ التي أسبَغها عليهم بالتَّمام، إيذانًا في الدِّين بأنه لا نقصَ فيه ولا عيبَ ولا خلل ولا شيءَ خارجًا عن الحكمة بوجهٍ، بل هو الكاملُ في حُسْنه وجلالته، ووَصَف النِّعمة بالتَّمام إيذانًا بدوامها واتصالها، وأنه لا يَسْلُبهم إياها بعد إذ أعطاهموها
(2)
، بل يُتِمُّها لهم بالدَّوام في هذه الدَّار وفي دار القرار
(3)
.
وتأمَّل حُسْنَ اقتران التَّمام بالنِّعمة، وحُسْنَ اقتران الكمال بالدِّين، وإضافةَ الدِّين إليهم إذ هم القائمون به المقيمون له، وإضافةَ النِّعمة إليه إذ هو
(1)
(ن): «شكرها» .
(2)
(ح): «أعطاهاهم إياه» . وفي (ن): «أعطاها» .
(3)
(ق، ت، د): «دار البقاء» .
وليُّها ومُسْدِيها والمنعمُ بها عليهم
(1)
، فهي نعمتُه حقًّا وهم قابِلُوها.
وأتى في الإكمال باللام المُؤْذنة بالاختصاص وأنه شيءٌ خُصُّوا به دون الأمم، وفي إتمام النِّعمة بـ (على) المُؤْذنة بالاستعلاء والاشتمال والإحاطة؛ فجاء {أَتمَمْتُ} في مقابلة {أَكْمَلْتُ} ، و {عَلَيْكُمْ} في مقابلة {لَكُمُ} ، و {نِعْمَتِي} في مقابلة {دِينَكُمْ} ، وأكَّد ذلك وزاده تقريرًا وكمالًا وإتمامًا للنِّعمة بقوله:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} .
وكان بعض السَّلف يقول: «يا له مِنْ دينٍ، لو أنَّ له رجالًا»
(2)
.
وقد ذكرنا فصلًا مختصرًا في دلالة خلقه على وحدانيَّته
(3)
، وصفات كماله، ونُعوت جلاله، وأسمائه الحسنى، وأردنا أن نختمَ به القسمَ الأوَّل من الكتاب
(4)
، ثمَّ رأينا أن نتبعه فصلًا في دلالة دينه وشرعه على وحدانيَّته وعلمه وحكمته ورحمته وسائر صفات كماله؛ إذ هذا من أشرف العلوم التي يكتسبُها العبدُ في هذه الدَّار، ويدخُل بها إلى الدَّار الآخرة.
وقد كان الأولى بنا الإمساكُ عن ذلك؛ لأنَّ ما يصفُه الواصفون منه وتنتهي إليه علومُهم هو كما يُدْخِلُ الرجلُ إصبعَه في اليمِّ ثمَّ ينزعها، فهو يصفُ البحرَ بما يَعْلَق على أصبعه من البلل، وأين ذلك من البحر؟! فيظنُّ
(1)
(ن): «عليهم دون الأمم» .
(2)
أخرجه الذهبي في «السير» (7/ 394) عن إبراهيم بن أدهم.
(3)
يقصدُ ما تقدَّم من (ص: 538) إلى هنا.
(4)
وهو ما يتعلق بمباحث العلم. والقسم الثاني: ما يتعلق بمباحث الإرادة. وراجع ما كتبناه في المقدمة.
السَّامعُ أنَّ تلك الصِّفة أحاطت بالبحر، وإنما هي صفةُ ما عَلِق بالأصبع منه
(1)
، وإلا فالأمرُ أجلُّ وأعظمُ وأوسعُ من أن تحيط عقولُ البشر بأدنى جزءٍ منه.
وماذا عسى أن يصفَ به النَّاظرُ إلى قُرص الشمس مِنْ ضوئها وقَدْرها وحُسْنها وعجائب صُنْع الله فيها، ولكن قد رضي الله من عباده بالثَّناء عليه، وذِكْر آلائه، وأسمائه وصفاته، وحكمته وجلاله، مع أنه لا نحصي
(2)
ثناءً عليه أبدًا، بل هو كما أثنى على نفسه.
فلا يبلغ مخلوقٌ ثناءً عليه تبارك وتعالى، ولا وَصْفَ كتابه ودينه بما ينبغي له، بل لا يبلغُ أحدٌ من الأمَّة ثناءً على رسوله كما هو أهلٌ أن يُثْنى عليه، بل هو فوق ما يُثْنون به عليه، ومع هذا فالله تعالى يحبُّ أن يُحْمَد ويُثْنى عليه وعلى كتابه ودينه ورسوله.
فهذه مقدِّمةُ اعتذارٍ بين يَدَي القصور من راكب هذا البحر الأعظم، والله عليمٌ بمقاصد العباد ونيَّاتهم، وهو أولى بالعُذر والتَّجاوز.
فصل
وبصائر النَّاس في هذا النُّور التامِّ
(3)
تنقسمُ إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: من عَدِم بصيرة الإيمان جملة، فهو لا يرى من هذا الضوء إلا الظُّلمات والرعد والبرق، فهو يجعلُ إصبعيه في أذنيه من الصَّواعق، ويدَه
على عينه من البرق؛ خشية أن يُخْطف بصرُه، ولا يجاوزُ نظرُه ما وراء ذلك من الرحمة وأسباب الحياة الأبديَّة.
فهذا القسمُ هو الذي لم يَرْفَع بهذا الدِّين رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي هَدى به عبادَه ولو جاءته كلُّ آية؛ لأنه ممَّن سبقت له الشَّقاوة، وحقَّت عليه الكلمة، ففائدةُ إنذار هذا إقامةُ الحجَّة عليه؛ ليعذَّب بذنبه لا بمجرَّد علم الله فيه.
القسم الثَّاني: أصحابُ البصائر
(1)
الضعيفة الخُفَّاشيَّة الذين نسبةُ أبصارهم إلى هذا النُّور كنسبة أبصار الخفَّاش إلى جِرْم الشمس، فهم تبعٌ لآبائهم وأسلافهم؛ دينُهم دينُ العادة والمنشأ، وهم الذين قال فيهم أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب: «أو منقادٌ للحقِّ لا بصيرة له في أحنائه
(2)
».
فهؤلاء إذا كانوا منقادين لأهل البصائر، لا يتخالجهُم
(3)
شكٌّ ولا ريب؛ فهم على سبيلِ نجاة.
القسم الثَّالث: وهم خلاصةُ الوجود، ولُبابُ بني آدم؛ وهم أصحابُ البصائر النَّافذة، الذين شَهِدت بصائرُهم هذا النُّور المبين فكانوا منه على بصيرةٍ ويقينٍ ومشاهدةٍ لحسنه وكماله، بحيث لو عُرِض على عقولهم ضدُّه لرأوه كالليل البهيم الأسود.
(1)
(ح، ت، ن): «البصيرة» .
(2)
(ت، ق): «إصابة» . (د): «اصابه» . (ط): «إحيائه» . وهو تحريف. وقد تقدم الكلام عليها عند ورود الأثر (ص: 347، 394).
(3)
(ح، ن): «يختلجهم» .
وهذا هو المِحَكُّ والفرقانُ بينهم وبين الذين قبلهم؛ فإنَّ أولئك بحسب داعِيهم ومن يقترنُ
(1)
بهم، كما قال فيهم عليُّ بن أبي طالب: «أتباعُ كلِّ ناعق، يميلون مع كلِّ صائح
(2)
، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركنٍ وثيق»
(3)
.
وهذا علامةُ عدم البصيرة؛ أنك تراه يستحسنُ الشيءَ وضدَّه، ويمدحُ الشيءَ ويذمُّه بعينه إذا جاء في قالبٍ لا يعرفُه، فيعظِّمُ طاعة الرسول ويرى عظيمًا مخالفتَه، ثمَّ هو من أشدِّ النَّاس مخالفةً له، ونفيًا لما أثبته، ومعاداةً للقائمين بسنَّته، وهذا من عدم البصيرة.
فهذا القسمُ الثَّالث إنما عملُهم على البصائر، وبها تفاوُت مراتبهم في درجات الفضل، كما قال بعض السَّلف ــ وقد ذَكَر السَّابقين فقال:«إنما كانوا يعملون على البصائر» .
وما أوتي أحدٌ أفضل من بصيرةٍ في دين الله، ولو قصَّر في العمل؛ قال تعالى:{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45]، قال ابنُ عبَّاس:«أولي القوَّة في طاعة الله، والأبصار في المعرفة في أمر الله»
(4)
. وقال قتادةُ ومجاهد: «أُعطُوا قوَّةً في العبادة وبصرًا في الدِّين»
(5)
.
(1)
(ت): «يقرب» . (ق): «يقرن» . ومهملة في (د).
(2)
(ح، ن): «مع كل ريح» .
(3)
جزءٌ من الأثر السابق. وقد تقدم الكلام عليه.
(4)
(ت، ح، ن): «المعرفة بالله» . والأثر أخرجه بنحوه الطبري (21/ 215). وعلَّقه البخاري. انظر: «تغليق التعليق» (4/ 296).
(5)
أخرجه الطبري (21/ 216).
وأعلمُ النَّاس أبصرُهم بالحقِّ إذا اختلف النَّاس، وإن كان مقصِّرًا في العمل.
وتحت كلِّ واحدٍ من هذه الأقسام أنواعٌ لا يحصي مقاديرَها وتفاوتها إلا الله.
إذا عُرِف هذا؛ فالقسمُ الأوَّلُ لا ينتفعُ بهذا الباب
(1)
، ولا يزدادُ به إلا ضلالة، والقسمُ الثَّاني ينتفعُ به بقدر فهمه واستعداده، والقسمُ الثَّالث وإليهم هذا الحديثُ يُسَاق، وهم أولو الألباب الذين يخصُّهم الله في كتابه بخطاب التنبيه والإرشاد، وهم المرادون على الحقيقة بالتَّذكرة؛ قال الله تعالى:{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269].
فصل
قد شَهِدت الفِطر
(2)
والعقولُ بأنَّ للعالم ربًّا قادرًا حكيمًا
(3)
عليمًا رحيمًا، كاملًا في ذاته وصفاته، لا يكونُ إلا مريدًا للخير لعباده، مُجْرِيًا لهم على الشريعة والسُّنَّة الفاضلة العائدة باستصلاحهم، الموافقة لما ركَّب في عقولهم من استحسان الحَسَن واستقباح القبيح، وما جَبَل طباعَهم عليه من إيثار النَّافع لهم المصلح لشأنهم وترك الضارِّ المفسد لهم.
وشَهِدت هذه الشريعةُ له بأنه أحكمُ الحاكمين، وأرحمُ الراحمين، وأنه المحيطُ بكلِّ شيءٍ علمًا.
وإذا عُرِف ذلك؛ فليس من الحكمة الإلهية، بل ولا الحكمة في مُلوك العالم، أنهم يسوُّون بين من هو تحت تدبيرهم في تعريفهم كلَّ ما يعرفُه الملوك، وإعلامهم جميعَ ما يَعْلمونه، وإطلاعهم على كلِّ ما يُجْرُون عليه
(1)
سياساتهم في أنفسهم وفي منازلهم، حتى لا يقيموا في بلدٍ قيِّمًا
(2)
إلا أخبروا من تحت أيديهم بالسَّبب في ذلك، والمعنى الذي قصدوه منه
(3)
، ولا يأمرون رعيَّتهم بأمرٍ، ولا يضربون عليهم بعثًا، ولا يَسُوسونهم سياسةً إلا أخبروهم بوجه ذلك وسببه وغايته ومدَّته، بل لا تتصرَّفُ بهم الأحوالُ في مطاعمهم ومشاربهم
(4)
وملابسهم ومراكبهم إلا وَقَفُوهم على أغراضهم فيه
(5)
.
ولا شكَّ أنَّ هذا منافٍ للحكمة والمصلحة بين المخلوقين، فكيف بشأنِ ربِّ العالمين وأحكم الحاكمين، الذي لا يشاركُه في علمه
(6)
ولا في حكمته أحدٌ أبدًا؟!
فحَسْبُ العقول الكاملة أن تستدلَّ بما عرفَت من حكمته على ما غاب عنها، وتعلمَ
(7)
أنَّ له حكمةً في كلِّ ما خلقه وأمر به وشرعه.
(1)
في الأصول: «عليهم» . والتصويب من «محاسن الشريعة» .
(2)
في الأصول: «فيها» . تحريف. والمثبت من «محاسن الشريعة» .
(3)
«محاسن الشريعة» : «قصروه فيه» .
(4)
«ومشاربهم» ليست في (ح، ق).
(5)
«محاسن الشريعة» لأبي بكر القفال الشاشي (ت: 365)(ص: 19). وجلُّ هذا الفصل منه. وسيذكره المصنف (ص: 964)، ويثني عليه.
(6)
(ت): «في حكمه» .
(7)
في الأصول: «واعلم» . والمثبت أشبه.
وهل تقتضي الحكمةُ أن يخبر الله تعالى كلَّ عبد من عباده
(1)
بكلِّ ما يفعلُه، ويُوقِفهم على وجه تدبيره في كلِّ ما يريدُه، وعلى حكمته في صغير ما ذَرَأ وبَرَأ من خليقته؟! وهل في قُوى المخلوق ذلك؟! بل طوى سبحانه كثيرًا من صنعه وأمره عن جميع خلقه، فلم يُطْلِع على ذلك مَلَكًا مقرَّبًا ولا نبيًّا مرسلًا.
والمدبِّر الحكيمُ من البشر إذا ثبتت حكمتُه وابتغاؤه الصَّلاحَ لمن تحت تدبيره وسياسته كفى في ذلك تتبُّعُ مقاصده فيمن يولِّي ويَعْزِل، وفي جنس ما يأمرُ به وينهى عنه، وفي تدبيره لرعيَّته
(2)
وسياسته لهم، دون تفاصيل كلِّ فعلٍ من أفعاله
(3)
، اللهمَّ إلا أن يبلُغ الأمرُ في ذلك مبلغًا لا يوجدُ لفعله منفذٌ ومَسَاغٌ في المصلحة أصلًا، فحينئذٍ يخرجُ بذلك عن استحقاق اسم الحكيم
(4)
.
ولن يجد أحدٌ في خَلْق الله ولا في أمره واحدًا
(5)
من هذا الضرب، بل غايةُ ما يخرجه تفتيشُ المتعنِّت
(6)
أمورٌ يعجزُ العقلُ عن معرفة وجوهها وحكمتها، وأمَّا أن ينفي ذلك عنها فمعاذ الله؛ إلا أن يكون ما أخرجه كذبًا على الخلق والأمر فلم يخلق الله ذلك ولا شرعه.
(1)
(ح، ن): «أن يخبر الله تعالى عباده» .
(2)
(ح، ن): «إلى تدبيره لرعيته» .
(3)
«محاسن الشريعة» : «كفى ذلك عن تتبع مقاصده بمن يولي ويعزل، أو فيما يدبر به نفسه أو أهله أو رعيته» .
(4)
«محاسن الشريعة» (20).
(5)
(د، ت، ق، ن): «ولا واحدا» .
(6)
(ق، د): «نفس المتعنت» . (ت): «تعيس المبعث» !.
وإذا عُرِف هذا فقد عُلِم أنَّ ربَّ العالمين أحكمُ الحاكمين، والعالمُ بكلِّ شيء، والغنيُّ عن كلِّ شيء، والقادرُ على كلِّ شيء، ومن هذا شأنه لم تخرج أفعالُه وأوامرُه قطُّ عن الحكمة والرحمة والمصلحة، وما يخفى على العباد من معاني حكمته في صُنعه وإبداعه وأمره وشرعه فيكفيهم فيه معرفتُه
(1)
بالوجه العامِّ أن تضمَّنته حكمةٌ بالغة، وإن لم يعرفوا تفصيلَها، وأنَّ ذلك من علم الغيب الذي استأثر الله به، فيكفيهم في ذلك الإسنادُ
(2)
إلى الحكمة البالغة العامَّة الشاملة التي عَلِموا ما خَفِي منها مما ظهر لهم.
هذا، وإنَّ الله سبحانه وتعالى بنى أمورَ عباده على أن عرَّفهم معاني جلائل خلقه وأمره دون دقائقهما وتفاصيلهما، وهذا مطَّردٌ في الأشياء أصولها وفروعها.
فأنت إذا رأيتَ الرجلين ــ مثلًا ــ أحدُهما أكثر شَعرًا من الآخر، أو أشدُّ بياضًا، أو أحدُّ ذهنًا، لأمكنك أن تعرف مِنْ جهة السَّبب الذي أجرى الله عليه سُنَّة الخليقة وجه اختصاص كلِّ واحدٍ منهما بما اختصَّ به. وهكذا في اختلاف الصُّور والأشكال.
ولكن لو أردتَ أن تعرف المعنى الذي كان شَعرُ هذا مثلًا يزيدُ على شَعر الآخر بعددٍ معيَّن، أو المعنى الذي فضَّله اللهُ به في القَدْر المخصوص والتَّشكيل المخصوص، ومعرفة القَدْر الذي بينهما من التَّفاوت وسببَه؛ لما أمكن ذلك أصلًا
(3)
.