المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تأمل نعمة الله على الإنسان بالبيان - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ تأمل نعمة الله على الإنسان بالبيان

للإنسان آمِرَين وزاجِرَين: فله آمرٌ وزاجرٌ من جهة الحياء، فإذا أطاعه امتنع من فعل كلِّ ما يشتهي، وله آمرٌ وزاجرٌ من جهة الهوى والشهوة والطَّبيعة، فمن لم يُطِع آمِرَ الحياء وزاجِرَه أطاع آمِرَ الهوى والشهوة ولا بدَّ؛ فإخراجُ الكلام في قالب الطَّلب يتضمَّنُ هذا المعنى دون أن يقال: من لا يستحي يصنعُ ما يشتهي.

تنبيه:‌

‌ تأمَّل نعمة الله على الإنسان بالبيانَ

يْن: البيان النُّطقيِّ، والبيان الخطِّيِّ، وقد اعتدَّ بهما سبحانه في جملة ما اعتدَّ به مِنْ نِعَمه على العبد؛ فقال تعالى في أوَّل سورةٍ أنزلت على رسوله صلى الله عليه وسلم:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5].

فتأمَّل كيف جمع في هذه الكلمات مراتبَ الخلق كلَّها، وكيف تضمَّنت مراتبَ الموجودات الأربعة بأوجز لفظٍ وأوضحه وأحسنه:

* فذكر أوَّلًا عمومَ الخَلق، وهو إعطاءُ الوجود الخارجيِّ.

* ثمَّ ذكر ثانيًا خصوصَ خَلق الإنسان؛ لأنَّ موضع العِبرة

(1)

والآية فيه عظيمة، ومن شُهوده عن ما فيه محض تعدُّد النِّعم

(2)

.

وذكر مادَّة خَلقه هاهنا من العَلقة، وفي سائر المواضع يذكُر ما هو سابقٌ عليها، إمَّا مادَّةً أصليَّةً وهو التُّرابُ أو الطِّين أو الصَّلصالُ كالفخَّار، وإمَّا مادَّة الفرع وهو الماءُ المَهِين، وذكر في هذا الموضع أوَّل مباداء تعلُّق التَّخليق

(1)

(ح، ن): «لأنه موضع العبرة» . والمثبت أصح.

(2)

كذا في الأصول.

ص: 791

به وهي العَلقة؛ فإنه كان قبلها نطفة، فأوَّلُ انتقالها إنما هو إلى العَلقة.

* ثمَّ ذكر ثالثًا التعليمَ بالقلم الذي هو من أعظم نِعَمه على عباده؛ إذ به تُخَلَّدُ العلوم، وتثبتُ الحقوق، وتُعْلمُ الوصايا، وتُحْفظُ الشهادات، ويُضْبطُ حسابُ المعاملات الواقعة بين النَّاس، وبه تقيَّدُ أخبارُ الماضين للباقين، وأخبارُ الباقين للَّاحقين

(1)

.

ولولا الكتابةُ لانقطعت أخبارُ بعض الأزمنة عن بعض، ودَرَسَت السُّنن

(2)

، وتخبَّطت الأحكام، ولم يَعْرِف الخلَفُ مذاهبَ السَّلف، وكان يعظُم الخللُ الدَّاخلُ على النَّاس في دينهم ودنياهم؛ لِمَا يعتريهم من النِّسيان الذي يمحو صُوَر العلم من قلوبهم، فجَعَل لهم الكتابَ وعاءً حافظًا للعلم من الضياع، كالأوعية التي تحفظُ الأمتعة من الذَّهاب والبطلان.

فنعمةُ الله عز وجل بتعليم القلم

(3)

مِنْ أجلِّ النِّعم، والتعليمُ به وإن كان مما يتخلَّصُ إليه الإنسانُ بالفطنة والحيلة فإنَّ الذي بلغ به ذلك وأوصله إليه عطيَّةٌ وهبها الله منه، وفضلٌ أعطاه الله إياه، وزيادةٌ في خَلْقه وفضيلة

(4)

؛ فهو الذي علَّمه الكتابة، وإن كان هو المتعلِّم ففعلُه فعلُ مُطاوعٍ لتعليم الذي علَّم بالقلم؛ فإنه علَّمه فتعلَّم، كما أنه علَّمه الكلام فتكلَّم.

هذا، ومن أعطاه الذِّهن الذي يَعِي به، واللسانَ الذي يُتَرْجِمُ به، والبنانَ الذي يَخُطُّ به؟! ومن هيَّأ ذهنَه لقبول هذا التعليم دون سائر الحيوانات؟!

(1)

«وأخبار الباقين للاحقين» ليست في (ح، ن).

(2)

أي: ذَهَبَت ومُحِيَت آثارها. وفي (ح، ت، ن): «السنين» .

(3)

(ح، ن): «بتعليم القلم بعد القرآن» .

(4)

(ح، ن): «وفضله» .

ص: 792

ومن الذي أنطق لسانه، وحرَّك بنانه؟! ومن الذي دَعَمَ البنانَ بالكفِّ، ودَعَمَ الكفَّ بالسَّاعد؟!

فكم لله من آيةٍ نحنُ غافلون عنها في التعليم بالقلم!

فقِف وقفةً في حال الكتابة، وتأمَّل حالك وقد أمسكتَ القلمَ وهو جماد، ووضعتَه على القرطاس وهو جماد، فيتولَّدُ من بينهما أنواعُ الحِكَم، وأصنافُ العلوم، وفنونُ المراسلات والخُطب، والنَّظم والنَّثر، وجوابات المسائل!

فمن الذي أجرى تلك المعاني

(1)

على قلبك ورَسَمها

(2)

في ذهنك، ثمَّ أجرى العبارات الدَّالَّة عليها على لسانك، ثمَّ حرَّك بها بنانك حتى صارت نقشًا عجيبًا، معناه أعجبُ مِنْ صورته، فتقضي به مآربك وتبلُغ

(3)

به حاجةً في صدرك، وترسله إلى الأقطار النَّائية والجهات المتباعدة فيقومُ مقامَك، ويُتَرْجِمُ عنك، ويتكلَّمُ على لسانك، ويقومُ مقام رسولك، ويُجْدِي عليك ما لا يُجْدِي من ترسلُه= سوى من علَّم بالقلم، علَّم الإنسانَ ما لم يعلم؟!

والتعليمُ بالقلم يستلزمُ المراتبَ الثلاثة: مرتبة الوجود الذِّهنيِّ، والوجود اللفظيِّ، والوجود الرَّسميِّ.

فقد دلَّ التعليمُ بالقلم على أنه سبحانه هو المعطي لهذه المراتب، ودلَّ قولُه:{خَلَقَ} على أنه يعطي الوجود العينيَّ؛ فدلَّت هذه الآياتُ ــ مع

(1)

(د، ق، ح، ن): «فلك المعاني» .

(2)

(ت): «ورتبها» .

(3)

(ح، ن): «وتقضي» .

ص: 793

اختصارها ووجازتها وفصاحتها ــ على أنَّ مراتبَ الوجود بأسرها مسندةٌ إليه تعالى خلقًا وتعليمًا.

وذكر خَلقَين وتعليمَين: خَلقًا عامًّا وخَلقًا خاصًّا، وتعليمًا خاصًّا وعامًّا.

وذكر مِنْ صفاته هاهنا: اسمَ {الْأَكْرَمُ} الذي فيه كلُّ خيرٍ وكلُّ كمال؛ فله كلُّ كمالٍ وُصِف

(1)

، ومنه كلُّ خيرٍ فُعِل

(2)

، فهو الأكرمُ في ذاته وأوصافه وأفعاله، وهذا الخَلقُ والتعليمُ إنما نشأ مِنْ كرمه وبِرِّه وإحسانه، لا من حاجةٍ دَعَتْهُ إلى ذلك، وهو الغنيُّ الحميد.

وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 ــ 4]، دلَّت هذه الكلماتُ على إعطائه سبحانه مراتبَ الوجود بأسرها:

* فقوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} إخبارٌ عن الإيجاد الخارجيِّ العَينيِّ، وخَصَّ الإنسانَ بالخَلق لِمَا تقدَّم.

* وقوله: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} إخبارٌ عن إعطاء الوجود العلميِّ الذِّهنيِّ؛ فإنما تعلَّم الإنسانُ القرآنَ بتعليمه، كما أنه إنما صار إنسانًا بخَلقه، فهو الذي خلقه وعلَّمه.

* ثمَّ قال: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} ، والبيانُ هنا يتناولُ مراتبَ ثلاثةً كلٌّ منها يسمَّى بيانًا:

(1)

(ق): «وصفا» .

(2)

(ق، د): «فعلا» .

ص: 794

أحدها: البيانُ الذِّهنيُّ الذي يميِّز فيه بين المعلومات.

الثاني: البيانُ اللفظيُّ الذي يعبِّر به عن تلك المعلومات ويُتَرْجِمُ عنها فيها

(1)

غيره.

الثالث: البيانُ الرَّسميُّ الخطِّيُّ الذي يرسُم به تلك الألفاظ، فتَبِينُ للنَّاظر معانيها كما تَبِينُ للسَّامع معاني الألفاظ.

فهذا بيانٌ للعَين، وذاك بيانٌ للسَّمع، والأوَّلُ بيانٌ للقلب.

وكثيرًا ما يجمعُ سبحانه بين هذه الثَّلاثة؛ كقوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، وقوله:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]، ويذُمُّ من عَدِم الانتفاع بها في اكتساب الهدى والعلم النَّافع؛ كقوله:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18]، وقوله:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7]. وقد تقدَّم بسطُ هذا المعنى

(2)

.

تنبيه: تأمَّل حكمة اللطيف الخبير فيما أعطى الإنسانَ علمَه

(3)

بما فيه صلاحُ معاشه ومعاده، ومَنَعَ عنه علمَ ما لا حاجة له به، فجهلُه به لا يضرُّ، وعلمُه به لا ينتفعُ به انتفاعًا طائلًا.

ص: 795

ثمَّ يسَّر عليه طرق ما هو محتاجٌ إليه من العلم أتمَّ تيسير، وكلَّما كانت حاجتُه إليه من العلم أعظمَ كان تيسيرُه إياه عليه أتمَّ.

فأعطاه معرفةَ خالقه وبارئه ومبدعه سبحانه، والإقرارَ به، ويسَّر عليه طرق هذه المعرفة؛ فليس في العلوم ما هو أجلُّ منها ولا أظهرُ عند العقل والفطرة، وليس في طرق العلوم التي تُنالُ بها أكثرُ من طرقها، ولا أدلُّ ولا أبينُ ولا أوضح؛ فكلُّ ما تراه بعينك أو تسمعُه بأذنك أو تَعْقِلُه بقلبك، وكلُّ ما يخطرُ ببالك، وكلُّ ما نالته

(1)

حاسَّةٌ من حواسِّك؛ فهو دليلٌ على الرَّبِّ تبارك وتعالى.

فطرقُ العلم بالصَّانع فطريَّةٌ ضروريَّة، ليس في العلوم أجلُّ منها، وكلُّ ما استُدِلَّ به على الصَّانع فالعلمُ بوجوده أظهرُ مِنْ دلالته؛ ولهذا قالت الرسلُ لأممهم:{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10]؛ فخاطَبوهم مخاطبةَ من لا ينبغي أن يخطُر له شكٌّ ما في وجود الله سبحانه.

ونَصَب من الأدلَّة على وجوده ووحدانيَّته وصفات كماله الأدلَّة على اختلاف أنواعها، ولا يطيقُ حصرَها إلا الله.

ثمَّ رَكَز ذلك في الفطرة، ووضَعه في العقل جملة.

ثمَّ بَعَث الرُّسل مذكِّرين به، ولهذا يقول تعالى:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]، وقوله:{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9]، وقوله:{إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 21]، وقوله: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ

(1)

(ت): «تناله» . (ح، ن): «ناله» .

ص: 796

مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49]، وهو كثيرٌ في القرآن، ومفصِّلين

(1)

لما في الفطرة والعقل من العلم به جملة.

فانظر كيف وُجِد الإقرارُ به، وبتوحيده، وصفات كماله، ونُعوت جلاله، وحكمته في خلقه وأمره المقتضية إثباتَ رسالة رسله، ومجازاةَ المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته= مُودَعًا في الفطرة مركوزًا فيها.

فلو خُلِّيت على ما خُلِقت عليه لم يَعْرِض لها ما يفسدُها ويحوِّلها ويغيِّرها عما فُطِرَت عليه= لأقرَّت

(2)

بوحدانيَّته ووجوب شكره وطاعته، وبصفاته وحكمته في أفعاله، وبالثَّواب والعقاب، ولكنَّها لما فَسَدَت وانحرفت عن المنهج الذي خُلِقت عليه، أنكَرت ما أنكَرت، وجَحَدَت ما جَحَدَت.

فبعث الله رسلَه مذكِّرين لأصحاب الفطر الصَّحيحة السَّليمة، فانقادوا طوعًا واختيارًا، ومحبَّةً وإذعانًا، بما جَعَل مِنْ شواهد ذلك في قلوبهم، حتى إنَّ منهم من لم يسأل عن المعجزة والخارِق

(3)

، بل عَلِم صحَّة الدَّعوة مِنْ ذاتها، وعَلِم أنها دعوةُ حقٍّ برهانُها فيها، ومُعْذِرين

(4)

ومقيمين البينة على أصحاب الفطر الفاسدة؛ لئلَّا تحتجَّ على الله بأنه ما أرشدها ولا هداها؛ فيحقَّ القولُ عليها بإقامة الحجَّة

(5)

، فلا يكونُ سبحانه ظالمًا لها بتعذيبها

(1)

معطوفٌ على قوله: «ثم بعث الرسل مذكرين به» .

(2)

(ت، ن): «ولأقرت» . وهو خطأ.

(3)

(ت): «والخارقة» .

(4)

معطوفٌ على قوله: «فبعث الله رسله مذكرين» .

(5)

(ت): «الحجج» . (ح): «بعد إقامة الحجة» .

ص: 797

وإشقائها. وقد بيَّن ذلك سبحانه في قوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 69 - 70].

فتأمَّل كيف ظهرت معرفةُ الله والشهادةُ له بالتوحيد، وإثباتُ أسمائه وصفاته، ورسالة رسله، والبعث للجزاء= مسطورةً مثبتةً في الفطرة، ولم يكن ليعرف بها أنها ثابتةٌ في فطرته، فلمَّا ذكَّرته الرسلُ ونبَّهته رأى ما أخبروه به مستقرًّا في فطرته، شاهدًا به عقلُه، بل وجوارحُه ولسانُ حاله.

وهذا أعظمُ ما يكونُ من الإيمان، وهو الذي كتبه سبحانه في قلوب أوليائه وخاصَّته، فقال:{أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة: 22].

فتدبَّر هذا الفصل فإنه من الكنوز في هذا الكتاب، وهو حقيقٌ بأن تثنى عليه الخناصِر، ولله الحمدُ والمنَّة.

والمقصودُ أنَّ الله سبحانه أعطى العبدَ من هذه المعارف وطُرقها ويسَّرها عليه ما لم يُعْطِه من غيرها؛ لعِظَم حاجته في معاشه ومعاده إليها، ثمَّ وضع في العقل من الإقرار بحُسْن شرعه ودينه الذي هو ظلُّه في أرضه، وعدلُه بين عباده، ونورُه في العالم، ما لو اجتمعت عقولُ العالمين كلِّهم فكانوا على أعقل رجلٍ

(1)

واحدٍ منهم لما أمكنَهم أن يقترحوا شيئًا أحسنَ منه، ولا أعدل، ولا أصلح، ولا أنفعَ للخليقة في معاشها ومعادها.

فهو أعظمُ آياته، وأوضحُ بيِّناته، وأظهرُ حُجَجه على أنه الله الذي لا إله إلا هو، وأنه المتَّصفُ بكلِّ كمال، المنزَّهُ عن كلِّ عيبٍ ومثال، فضلًا عن أن

ص: 798

يحتاج إلى إقامة شاهدٍ مِنْ خارجٍ عليه بالأدلَّة والشواهد، لتكثير

(1)

طرق الهدى، وقطع المعذرة، وإزاحة العلَّة والشُّبهة؛ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42].

فأثبتَ في الفطرة حُسْنَ العدل، والإنصاف، والصِّدق، والبِرِّ، والإحسان، والوفاء بالعهد، والنَّصيحة للخلق، ورحمة المسكين، ونصرة المظلوم، ومواساة أهل الحاجةِ والفاقة، وأداء الأمانات، ومقابلة الإحسان بالإحسان والإساءة بالعفو والصَّفح، والصَّبر في مواطن الصَّبر، والبذل في مواطن البذل، والانتقام في موضع الانتقام، والحِلْم في موضع الحِلْم، والسَّكينة، والوقار، والرَّأفة، والرِّفق، والتَّودُّد

(2)

في حُسْن الأخلاق

(3)

، وجميل المعاشرة مع الأقارب والأباعد، وسَتْر العورات، وإقالة العثرات، والإيثار عند الحاجات، وإغاثة اللهفات، وتفريج الكربات، والتَّعاون على أنواع الخير والبرِّ، والشَّجاعة، والسَّماحة، والبصيرة، والثَّبات، والعزيمة، والقوَّة في الحقِّ، واللين لأهله، والشِّدَّة على أهل الباطل، والغلظة عليهم، والإصلاح بين النَّاس، والسَّعي في إصلاح ذات البَيْن، وتعظيم من يستحقُّ التعظيم، وإهانة من يستحقُّ الإهانة، وتنزيل النَّاس منازلهم، وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، وأخذِ ما سَهُل عليهم وطوَّعت به أنفسُهم من الأعمال والأموال والأخلاق، وإرشاد ضالِّهم، وتعليم جاهلهم، واحتمال جَفْوتهم، واستواء قريبهم وبعيدهم في الحقِّ؛ فأقربهم إليه أولاهم بالحقِّ وإن كان بعيدًا، وأبعدُهم عنه أبعدُهم من الحقِّ وإن كان حبيبًا قريبًا.

(1)

(ق): «لتكثر» . (ت): «ليكثر» . ومهملة في (د).

(2)

(ت، ق): «والمودة» . (ت): «والتودة» .

(3)

كذا في الأصول. وفي (ط): «والتؤدة، وحسن الأخلاق» .

ص: 799

إلى غير ذلك مِنْ معرفة العدل

(1)

الذي وضعه بينهم في المعاملات والمناكحات والجنايات، وما أودع في فِطرهم مِنْ حُسْن شكره وعبادته وحده لا شريك له، وأنَّ نِعَمه عليهم توجبُ بذل قدرتهم وطاقتهم في شكره والتقرُّب إليه وإيثاره على ما سواه، وأثبت في الفِطر عِلْمَها

(2)

بقبح أضداد ذلك.

ثمَّ بعث رسله في الأمر بما أثبت في الفِطر حُسْنَه وكماله، والنَّهي عمَّا أثبت فيها قبحَه وعيبه وذمَّه.

فطابقت الشريعةُ المنزَّلةُ للفطرة المكمِّلة مطابقةَ التفصيل لجملته، وقامت شواهدُ دينه في الفطرة تنادي للإيمان: حيَّ على الفلاح!، وصدَّعت تلك الشواهدُ والآياتُ دياجي ظُلَم الإباء

(3)

كما صدَّع الليلَ ضوءُ الصَّباح، وقَبِل حاكمُ الشريعة شهادةَ العقل والفطرة لمَّا كان الشاهدُ غير متَّهمٍ ولا معرَّضٍ للجِرَاح

(4)

.

فصل

(5)

وكذلك أعطاهم من الأمور المتعلِّقة بصلاح معاشهم ودنياهم بقَدْر حاجاتهم؛ كعلم الطبِّ والحساب، وعلم الزِّراعة والغِرَاس

(6)

، وضروب

(1)

(د، ت، ح، ن): «العقل» . (ق): «العاقل» . والمثبت أشبه.

(2)

«علمها» ليست في (ت). وفي (د، ن، ق): «عليها» .

(3)

كذا في الأصول. والإباء: الامتناع مع تكرُّهٍ واستعصاء.

(4)

(ت): «للجرح» . والمثبت أنسبُ للفاصلة.

(5)

«الدلائل والاعتبار» (60)، «توحيد المفضل» (41).

(6)

(ق): «الغرس» . (ر، ح): «الغراسة» .

ص: 800

الصَّنائع، واستنباط المياه، وعَقْد الأبنية، وصَنْعة السُّفن، واستخراج المعادن وتهيئتها لما يرادُ منها، وتركيب الأدوية، وصَنْعة الأطعمة، ومعرفة ضروب الحِيَل في صيد الوحش والطَّير ودوابِّ الماء، والتصرُّف في وجوه التِّجارات، ومعرفة وجوه المكاسب، وغير ذلك مما فيه قيامُ معاشهم

(1)

.

ثمَّ منعَهم سبحانه عِلْمَ ما سوى ذلك مما ليس مِنْ شأنهم، ولا فيه مصلحةٌ لهم، ولا نشأتُهم قابلةٌ له؛ كعِلْم الغيب، وعِلْم ما كان وكلِّ ما يكون، والعلم بعدد القَطْر وأمواج البحر وذرَّات الرِّمال ومَساقط

(2)

الأوراق، وعدد الكواكب ومقاديرها، وعِلْم ما فوق السَّموات

(3)

وما تحت الثَّرى، وما في لُجَج البحار وأقطار العالم، وما يُكِنُّه الناسُ في صدورهم، وما تحملُ كلُّ أنثى وما تَغِيضُ الأرحامُ وما تزداد، إلى سائر ما حَجَبَ

(4)

عنهم علمَه؛ فمن تكلَّف معرفة ذلك فقد ظلم نفسَه، وبَخَسَ من التَّوفيق حظَّه، ولم يحصل إلا على الجهل المركَّب والخيال الفاسد في أكثر أمره.

وجرت سنَّةُ الله وحكمتُه أنَّ هذا الضربَ من النَّاس أجهلُهم بالعلم النَّافع وأقلُّهم صوابًا؛ وترى

(5)

عند من لا يرفعون به رأسًا من الحِكَم والعلم الحقِّ النَّافع ما لا يخطرُ ببالهم أصلًا، وذلك مِنْ حكمة الله في خلقه وهو العزيزُ الحكيم.

(1)

(ح، ن): «معايشهم» .

(2)

(ح، ن): «وساقط» .

(3)

(ح): «ما في السموات» .

(4)

(ح، ن): «عزب» .

(5)

(ت، ق): «فيرى» . ومهملة في (د).

ص: 801

ولا يعرفُ هذا إلا من اطَّلع على ما عند القوم من أنواع الخيال، وضروب المُحال، وفُنون الوساوس والهوى

(1)

، والهَوَس والخَبْط، وهم يحسبون أنهم على شيء

(2)

، ألا إنهم هم الكاذبون

(3)

.

فالحمدُ لله الذي منَّ على المؤمنين {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].

فصل

(4)

ومن حكمته سبحانه ما منعهم من العلم، علمِ السَّاعة

(5)

ومعرفة آجالهم، وفي ذلك من الحكمة البالغة ما لا يحتاجُ إلى نظر.

فلو عرف الإنسانُ مقدار عمره؛ فإن كان قصيرَ العمر لم يتهنَّأ بالعيش، وكيف يتهنَّأ به وهو يترقَّبُ الموت في ذلك الوقت؟! فلولا طولُ الأمل لخرِبَت الدُّنيا، وإنما عمارتُها بالآمال.

وإن كان طويلَ العمر ــ وقد تحقَّق ذلك ــ فهو واثقٌ بالبقاء، فلا يبالي بالانهماك في الشهوات والمعاصي وأنواع الفساد، ويقول: إذا قَرُبَ

(1)

«والهوى» ليست في (ق).

(2)

(ت): «وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا على شيء» .

(3)

كأن المصنف رحمه الله تعالى يقصد بهؤلاء القوم من الناس: أهل التنجيم. وسيفصِّل الردَّ عليهم فيما يأتي.

(4)

«الدلائل والاعتبار» (61)، «توحيد المفضل» (41 - 43).

(5)

(ق): «من علم الساعة» .

ص: 802

الوقتُ

(1)

أحدثتُ توبةً. وهذا مذهبٌ لا يرتضيه الله تعالى عز وجل من عباده، ولا يقبلُه منهم

(2)

، ولا يصلُح عليه أحوالُ العالم، ولا يصلُح العالم إلا على هذا الذي اقتضته حكمتُه وسبق في علمه.

فلو أنَّ عبدًا من عبيدك عمل على أن يُسْخِطك أعوامًا ثمَّ يرضيك ساعةً واحدةً إذا تيقَّن أنه صائرٌ إليك لم تَقْبَل منه، ولم يفُز لديك بما يفوزُ به من همُّه رضاك

(3)

.

وكذا سنةُ الله عز وجل أنَّ العبد إذا عاين الانتقال إلى الله تعالى لم تنفعه توبةٌ ولا إقلاع؛ قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء: 18]، وقوله:{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} [غافر: 84 - 85].

والله تعالى إنما يغفرُ للعبد إذا كان وقوعُ الذَّنب منه على وجه غلبة الشَّهوة وقوَّة الطَّبيعة، فيُواقِعُ الذَّنبَ مع كراهته له من غير إصرارٍ

(4)

في نفسه، فهذا تُرجى له مغفرةُ الله وصفحُه وعفوُه؛ لعلمه تعالى بضعفه وغلبة شهوته له، وأنه يرى كلَّ وقتٍ

(5)

ما لا صبر له عليه، فهو إذا واقع الذَّنبَ

(1)

«الوقت» ليست في (ت).

(2)

(ح، ن): «ولا يقبل منهم» .

(3)

(ت): «مرضاتك» . (د، ق): «برضاك» .

(4)

(ت): «إضمار» . (ح، ن): «احتراز» .

(5)

(ت): «كل ساعة» .

ص: 803

واقعَه مواقعةَ ذليلٍ منكسرٍ خاضعٍ لربِّه خائفٍ منه، يَعْتَلِجُ في صدره شهوةُ النفس الذَّنبَ وكراهةُ

(1)

الإيمان له؛ فهو يجيبُ داعي النفس تارةً وداعي الإيمان تارات

(2)

.

فأمَّا من بنى أمرَه على أن لا يَعِفَّ عن ذنب

(3)

، ولا يقدِّم خوفًا، ولا يدَع لله شهوةً وهو فَرِحٌ مسرورٌ يضحكُ ظهرًا لبطنٍ إذا ظفر بالذَّنب، فهذا الذي يُخافُ عليه أن يُحال بينه وبين التَّوبة، ولا يوفَّق لها؛ فإنه مِنْ معاصيه وقبائحه على نقدٍ عاجلٍ يتقاضاه سلفًا وتعجيلًا، ومِنْ توبته وإيابه ورجوعه إلى الله على دَينٍ مؤجَّلٍ إلى انقضاء الأجل.

وإنما كان هذا الضَّربُ من النَّاس يُحالُ بينهم وبين التَّوبة غالبًا لأنَّ النُّزوع عن اللذَّات والشهوات إلى مخالفة الطَّبع والنفس ــ والاستمرار على ذلك ــ شديدٌ على النفس، صعبٌ عليها، أثقلُ من الجبال عليها، ولا سيَّما إذا انضاف إلى ذلك ضعفُ البصيرة، وقلَّةُ النَّصيب من الإيمان، فنفسُه لا تطوِّعُ له

(4)

أن يبيع نقدًا بنسيئةٍ ولا عاجلًا بآجل، كما قال بعضُ هؤلاء وقد سُئل: أيما أحبُّ إليك درهمٌ اليوم أو دينارٌ غدًا؟ فقال: لا هذا ولا هذا، ولكن ربعُ درهمٍ من أوَّل أمس!

فحرامٌ على هؤلاء أن يوفَّقوا للتَّوبة إلا أن يشاء الله.

(1)

(ح، ن): «شهوة النفس وكراهة» . (ت): «شهوة النفس الذنب وكراهته» .

(2)

(ت، ح): «تارة» .

(3)

(ح): «يقف عن ذنب» . (ن): «يقف عن ذلك عن ذنب» .

(4)

(ق): «تطاوع له» .

ص: 804

فإذا بلغ العبدُ حدَّ الكِبَر، وضَعُف نظرُه

(1)

، ووَهَت قُواه

(2)

، وقد أوجبت له تلك الأعمالُ قوَّةً في غيِّه، وضعفًا في إيمانه، صارت كالمَلَكة له بحيثُ لا يتمكَّنُ من تركها؛ فإنَّ كثرة المزاولات تعطي المَلَكات، فتبقى للنفس هيئةٌ راسخةٌ ومَلَكةٌ ثابتةٌ في الغيِّ والمعاصي، وكلَّما صَدَر منه واحدٌ منها أثَّر أثرًا زائدًا على أثر ما قبله، فيقوى الأثران، وهلمَّ جرًّا، فيهجُم عليه الضَّعفُ والكِبَر ووهنُ القوَّة على هذه الحال، فينتقلُ إلى الله بنجاسته وأوساخه وأدرانه لم يتطهَّر للقدوم على الله، فما ظنُّه بربِّه؟!

ولو أنه تاب وأناب وقت القدرة والإمكان لقُبِلت توبتُه، ومُحِيَت سيِّئاتُه، ولكن حِيلَ بينهم وبين ما يشتهون. ولا شيء أشهى لمن انتقل إلى الله على هذه الحال من التَّوبة، ولكن فرَّط في أداء الدَّين حتى نَفِد المال، ولو أدَّاه وقت الإمكان لقَبِله ربُّه، وسيعلمُ المسوِّفُ المفرِّطُ

(3)

أيَّ ديَّانٍ ادَّان! وأيَّ غريمٍ يتقاضاه يوم يكونُ الوفاءُ من الحسنات، فإن فَنِيَت فبحملِ

(4)

السَّيئات!

فبانَ أنَّ من حكمة الله

(5)

ونِعَمه على عباده أن ستر عنهم مقاديرَ آجالهم، ومبلَغ أعمارهم، فلا يزالُ الكيِّسُ يترقَّبُ الموتَ وقد وضعه بين عينيه، فينكفُّ عمَّا يضرُّه في معاده، ويجتهدُ فيما ينفعُه ويُسَرُّ به عند القُدوم.

(1)

(ح، ن): «وضعفت بصيرته» . وسقطت من (ت).

(2)

(ت): «ووهنت قواه» . (ت): «وذهب قوته» .

(3)

(ت، ح، ن): «المسرف والمفرط» . والجملة ساقطة من (ق).

(4)

مهملة في (د). (ح، ق): فيحمل». (ت، ن): «فتحمل» .

(5)

(ن): «أن حكمة الله» .

ص: 805

فإن قلت: فها هو مع ذلك

(1)

قد غُيِّبَ عنه مقدارُ أجله، وهو يترقَّبُ الموتَ في كلِّ ساعة، ومع ذلك يُقارِفُ الفواحشَ وينتهكُ المحارم، فأيُّ فائدةٍ وحكمةٍ حصلت بستر أجله عنه؟!

(2)

.

قيل: لَعَمْرُ الله إنَّ الأمر كذلك، وهو الموضعُ الذي حيَّر ألبابَ العقلاء

(3)

، وافترق النَّاسُ لأجله فِرَقًا شتى:

* ففرقةٌ أنكرت الحكمةَ وتعليلَ أفعال الرَّبِّ جملة، وقالوا بالجَبْر المحض، وسدُّوا على أنفسهم الباب وقالوا: لا تُعلَّلُ أفعالُ الرَّبِّ تعالى، ولا هي مقصودٌ بها مصالحُ العباد، وإنما مصدرُها محضُ المشيئة وصِرْفُ الإرادة. فأنكروا حكمةَ الله في خلقه وأمره

(4)

.

* وفرقةٌ نفت لأجله القَدَر جملة، وزعموا أنَّ أفعال العباد غيرُ مخلوقةٍ لله حتى يُطلبَ لها وجوهُ الحكمة، وإنما هي خَلقُهم وإبداعُهم، فهي واقعةٌ بحسب جهلهم وظلمهم وضعفهم، فلا يقعُ على السَّداد والصَّواب إلا أقلُّ القليل منها.

فهاتان الطَّائفتان متقابلتان أعظمَ تقابُل:

فالأولى غَلَت في الجَبْر وإنكار الحِكَم المقصودة في أفعال الله.

والثَّانية غَلَت في القَدَر وأخرجت كثيرًا من الحوادث، بل أكثرَها، عن مُلك الرَّبِّ وقدرته.

(1)

في الأصول: «فما هو مع ذلك» . ولعل الصواب ما أثبت.

(2)

هذا آخر ما نقله المصنف من كتاب «الدلائل والاعتبار» .

(3)

(ح، ن): «الألباب والعقلاء» .

(4)

(ح، ن): «في أمره ونهيه» .

ص: 806

وهدى الله أهل السنَّة الوَسَطَ لما اختلفوا فيه من الحقِّ بإذنه، فأثبتوا لله عز وجل عموم القدرة والمشيئة، وأنه تعالى

(1)

أن يكون في ملكه ما لا يشاء، أو يشاء ما لا يكون، وأنَّ أهل سمواته وأرضه أعجزُ وأضعفُ مِنْ أن يخلقوا ما لا يخلقُه الله أو يُحْدِثوا ما لا يشاؤه

(2)

، بل ما شاء الله كان ووَجَبَ وجودُه بمشيئته، وما لم يشأ لم يكن وامتنَع وجودُه لعدم مشيئته له

(3)

، وأنه لا حول ولا قوَّة إلا به، ولا تتحرَّك في العالم العُلويِّ والسُّفليِّ ذرَّةٌ إلا بإذنه.

ومع ذلك فله في كلِّ ما خلق وقضى وقدَّر وشرع من الحِكَم البالغة والعواقب الحميدة ما اقتضاه كمالُ حكمته وعلمه، وهو العليمُ الحكيم؛ فما خلق شيئًا ولا قضاه ولا شرعَه إلا لحكمةٍ بالغة، وإن تقاصَرَت عنها عقولُ البشر، فهو الحكيمُ القدير، فلا تُجْحَدُ حكمتُه كما لا تُجْحَدُ قدرتُه.

والطَّائفة الأولى جَحَدت الحكمة، والثَّانية جَحَدت القدرة، والأمَّةُ الوسطُ أثبتت له كمال الحكمة وكمال القدرة.

فالفرقةُ الأولى تشهدُ في المعصية مجرَّدَ المشيئة والخَلق العاري عن الحكمة، وربَّما شَهِدَت الجَبْرَ وأنَّ حركاتهم بمنزلة حركات الأشجار ونحوها.

والفرقةُ الثَّانية تشهدُ في المعصية مجرَّدَ كونها فاعلةً محدِثةً مختارةً هي التي شاءت ذلك بدون مشيئة الله.

(1)

(ح): «وأنه يتعالى» .

(2)

(ح): «ما لا يشاء» . (ق): «ما لم يشأ» . (د): «ما لم يشاءه» .

(3)

(ح): «لعدم المشيئة له» .

ص: 807