المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ سبب الإذكار والإيناث - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ سبب الإذكار والإيناث

ولا يؤخِّرها عنه؟!

ثمَّ إنه أعطاك الأظفارَ وقتَ حاجتك إليها لمنافع شتى؛ فإنها تُعِينُ الأصابعَ وتقوِّيها، فإنَّ أكثر العمل لما كان برؤوس الأصابع، وعليها الاعتماد، أُعِينَت بالأظفار قوَّةً لها، مع ما فيها من منفعة حَكِّ الجسم وقَشْط الأذى الذي لا يخرجُ باللحم عنه، إلى غير ذلك من فوائدها

(1)

.

ثمَّ جمَّلك بالشَّعر على الرَّأس زينةً ووقايةً وصيانةً من الحرِّ والبرد؛ إذ هو مجمَعُ الحواسِّ ومعدِنُ الفِكر والذِّكر وثمرةُ العقل تنتهي إليه

(2)

.

ثمَّ خَصَّ الذَّكر بأن جمَّل وجهَه باللِّحية وتوابعها؛ وقارًا وهيبةً وجمالًا، وفصلًا له عن سِنِّ الصِّبا

(3)

، وفرقًا بينه وبين الإناث، وبقَّى الأنثى على حالها لما خُلِقَت له من استمتاع الذَّكر بها، فبقَّى وجهَها على حاله ونضارته ليكون أهيجَ للرجُل

(4)

على الشَّهوة وأكمل للذَّة الاستمتاع.

فالماءُ واحد، والجوهرُ واحد، والوعاءُ واحد، واللِّقاحُ واحد، فمن الذي أعطى الذَّكر الذُّكورية والأنثى الأنوثية؟!

ولا تلتفِت إلى ما يقوله الجهلةُ من الطَّبائعيِّين في‌

‌ سبب الإذكار والإيناث

، وإحالةِ ذلك على الأمور الطَّبيعية التي لا تكادُ تصدُق في هذا الموضع إلا اتفاقًا، وكذبُها أكثر من صدقها.

(1)

انظر ما مضى (ص: 549، 559).

(2)

(ت): «تنتهي» . (د): «ينتهي إليه» . (ق): «وينتهي إليه» .

(3)

(ق، ن): «سن الصبي» .

(4)

(ح، ن): «أبهج للرجل» .

ص: 733

وليس استنادُ الإذكار والإيناث إلا إلى محض المرسوم الإلهيِّ

(1)

الذي يلقيه إلى ملَك التَّصوير حين يقول: يا ربِّ ذكرٌ أم أنثى؟ شقيٌّ أم سعيد؟ فما الرِّزق؟ فما الأجل؟ فيوحي ربُّك ما يشاء، ويكتبُ الملَك؛ فإذا كان للطَّبيعة تأثيرٌ في الإذكار والإيناث فلها تأثيرٌ في الرِّزق والأجل والشَّقاوة والسَّعادة، وإلا فلا؛ إذ مخرجُ الجميع ما يوحيه الله إلى الملَك.

ونحن لا ننكرُ أنَّ لذلك أسبابًا أُخَر، ولكنَّ تلك من الأسباب التي استأثر الله بها دون البشر، قال الله تعالى:{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49 - 50].

فذَكَر أصنافَ النساء الأربعة مع الرجال:

إحداها: من تلدُ الإناثَ فقط.

الثانية: من تلدُ الذُّكورَ فقط.

الثالثة: من تلدُ الزَّوجين الذَّكر والأنثى. وهو معنى التَّزويج هنا، أي: يجعلُ ما يهبُ له زوجين ذكرًا وأنثى

(2)

.

الرابعة: العقيمُ التي لا تلدُ أصلًا.

ومما يدلُّ على أنَّ سببَ الإذكار والإيناث لا يعلمُه البشر، ولا يُدْرَكُ بالقياس والفكر، وإنما يُعْلَمُ بالوحي، ما روى مسلمٌ في «صحيحه»

(3)

من

(1)

(ت): «إلا إلى الأمر الإلهي» .

(2)

من قوله: «وهو معنى التزويج

» إلى هنا ليس في (ت).

(3)

(315)، وابن خزيمة (232)، وابن حبان (7422).

ص: 734

حديث ثوبان، قال: كنتُ قائمًا عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم فجاء حَبْرٌ من أحبار اليهود، فقال: السَّلامُ عليك

(1)

يا محمَّد. فدفعتُه دفعةً كاد يُصْرَعُ منها، فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول: يا رسول الله؟! فقال اليهودي: إنما ندعُوه باسمه الذي سمَّاه به أهلُه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اسمي محمدٌ الذي سمَّاني به أهلي» . فقال اليهودي: جئتُ أسألك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أينفعُك شيءٌ إن حدَّثتك؟!» قال: أسمعُ بأذني. فنكَت رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعُودٍ معه، فقال:«سَل» . فقال اليهودي: أين يكونُ الناسُ يوم تبدَّلُ الأرضُ غيرَ الأرض والسموات؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «هم في الظُّلمة دون الجِسْر» . قال: فمن أوَّلُ الناس إجازةً؟ قال: «فقراء المهاجرين» . قال اليهودي: فما تحفتُهم حين يدخلون الجنَّة؟ فقال: «زيادةُ كبد النُّون

(2)

». قال: فما غذاؤهم

(3)

على إثرها؟ قال: «يُنْحَرُ لهم ثَورُ الجنَّة الذي يأكلُ من أطرافها» . قال: فما شرابهم عليه؟ قال: «مِنْ عَيْن تسمَّى سلسبيلًا» . قال: صَدَقْتَ، وجئتُ أسألك عن شيءٍ لا يعلمُه إلا نبيٌّ أو رجلٌ أو رجلان. قال:«ينفعُك إن حدَّثتك؟!» قال: أسمعُ بأذني.

قال: جئتُ أسألك عن الولد؟ قال: «ماءُ الرَّجل أبيض، وماءُ المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فَعَلا منيُّ الرَّجل منيَّ المرأة أذكَرا بإذن الله، وإن علا منيُّ المرأة منيَّ الرَّجل آنثا

(4)

بإذن الله». قال اليهودي: لقد صَدَقْتَ، وإنك لنبيٌّ. ثم انصرف، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:«لقد سألني عن هذا الذي سألني عنه وما لي علمٌ به، حتى أتاني الله به» .

(1)

(ق، د، ت): «السام عليك» . والمثبت من (ن، ح) ورواية «الصحيح» .

(2)

النون: الحوت. وفي (ح، ن): «كبد حوت النون» .

(3)

(ح، ت، ن): «غداهم» . وفي بعض الروايات: «غداؤهم» .

(4)

(ن): «أذكر

أنث». وفي باقي النسخ: «ذكر

أنثى». والمثبت رواية «الصحيح» .

ص: 735

والذي دلَّ عليه العقلُ والنقلُ

(1)

أنَّ الجنينَ يُخلقُ من الماءين جميعًا، فالذَّكر يقذفُ ماءه في رَحِم الأنثى، وكذلك هي تُنزلُ ماءها

(2)

إلى حيث ينتهي ماؤه، فيلتقي الماآن على أمرٍ قد قدَّره الله وشاءه، فيُخلقُ الولدُ منهما

(3)

جميعًا، وأيهما غَلَبَ كان الشَّبهُ له؛ كما في «صحيح البخاري»

(4)

عن حميد، عن أنسٍ قال: بلغَ عبد الله بن سلام مَقْدَمُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأتاه، فقال: إني سائلُك عن ثلاثٍ لا يعلمهنَّ إلا نبيٌّ. قال: ما أوَّلُ أشراط السَّاعة؟ وما أوَّلُ طعامٍ يأكله أهلُ الجنَّة؟ ومن أيِّ شيءٍ يَنْزِعُ الولدُ إلى أبيه؟ ومن أيِّ شيءٍ يَنْزِعُ إلى أخواله؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أخبرني بهنَّ آنفًا جبريل» . فقال عبد الله: ذاك عدوُّ اليهود من الملائكة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمَّا أوَّلُ أشراط السَّاعة فنارٌ تحشرُ النَّاسَ من المشرق إلى المغرب، وأمَّا أوَّلُ طعامٍ يأكلُه أهلُ الجنَّة فزيادةُ كبدِ حُوتٍ، وأمَّا الشَّبه في الولد فإنَّ الرَّجل إذا غَشِي المرأة فسبقَها ماؤه كان الشَّبهُ له، وإذا سبقت كان الشَّبهُ لها» ، فقال: أشهدُ أنك رسولُ الله. وذَكَر الحديث.

وفي «الصحيحين»

(5)

عن أم سلمة [أنَّ أمَّ سُلَيم]

(6)

قالت: يا رسول الله! إنَّ الله لا يستحي من الحقِّ؛ هل على المرأة مِنْ غُسلٍ إذا هي احتلمَت؟

(1)

«والنقل» ليست في (ن).

(2)

(د، ق): «ينزل ماؤها» . (ت): «ماؤها ينزل» .

(3)

(ح، ن): «بينهما» . تحريف.

(4)

(3329).

(5)

«صحيح البخاري» (130)، و «صحيح مسلم» (313).

(6)

زيادة ضرورية من «الصحيحين» ، وليست في الأصول.

ص: 736

قال: «نعم، إذا رأت الماء»

(1)

، فضحكت أمُّ سلمة، فقالت: أو تحتلمُ المرأة؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فبِمَ يُشْبِهُ الولد؟!» .

فهذه الأحاديثُ الثَّلاثة تدلُّ على أنَّ الولدَ يُخلقُ من الماءين، وأنَّ الإذكارَ والإيناثَ يكونُ بغلبة أحد الماءين وقَهْرِه للآخر وعلوِّه عليه، وأنَّ الشَّبه يكون بالسَّبق، فمن سبقَ ماؤه إلى الرَّحم كان الشَّبهُ له.

وهذه أمورٌ ليس عند أهل الطَّبيعة ما يدلُّ عليها، ولا يعلمُه إلا بالوحي

(2)

، وليس في صناعتهم أيضًا ما ينفيها.

على أنَّ في النَّفس من حديث ثوبان ما فيها، وأنه يُخافُ أن لا يكون أحدُ رواته حَفِظه كما ينبغي، وأن يكون السُّؤالُ إنما وقعَ فيه عن الشَّبه لا عن الإذكار والإيناث، كما سأل عنه عبد الله بن سلام، ولذلك لم يخرجه البخاري

(3)

.

وفي «الصحيحين»

(4)

من حديث عبيد الله بن أبي بكر بن أنس، عن

(1)

(ح، ن): «الماء الأصفر» . وليست هذه الرواية في الصحيحين، وأخرجها الطبراني في «الكبير» (23/ 297).

(2)

كذا في الأصول. أي: ولا يَعْلم النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذه الأمور إلا بالوحي. وفي (ط): «ولا تُعْلَمُ إلا بالوحي» .

(3)

وقال ابن تيمية عن الإذكار والإيناث في الحديث: «في صحَّة هذا اللفظ نظر» . نقله عنه المصنف في «الطرق الحكمية» (584)، و «إعلام الموقعين» (4/ 269). وانظر:«أيمان القرآن» (511)، و «تحفة المودود» (221)، و «التمهيد» (8/ 335)، و «تفسير القرطبي» (16/ 50).

(4)

«صحيح البخاري» (318)، و «صحيح مسلم» (2646).

ص: 737

أنس

(1)

، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الله وكَّل بالرَّحم ملَكًا، فيقول: يا ربِّ نطفة

(2)

، يا ربِّ علقة، يا ربِّ مضغة، فإذا أراد أن يخلقها قال: يا ربِّ أذكرٌ أم أنثى؟ يا ربِّ شقيٌّ أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيُكتَبُ كذلك في بطن أمِّه».

أفلا تراهُ كيف أحال بالإذكار والإيناث على مجرَّد المشيئة، وقَرَنه بما لا تأثير للطَّبيعة فيه مدخل؟!

أوَلا ترى عبد الله بن سلامٍ لم يسأل إلا عن الشَّبه الذي يمكنُ الجوابُ عنه، ولم يسأل عن الإذكار والإيناث، مع أنه أبلغُ من الشَّبه؟! والله أعلم.

وإن كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قد قاله فهو عينُ الحقِّ.

وعلى كلِّ تقديرٍ فهو يُبْطِلُ ما زعمه بعض الطَّبائعيِّين من معرفة أسباب الإذكار والإيناث، والله أعلم.

فصل

(3)

فانظُر كيف جُعِلت آلاتُ الجماع في الذَّكر والأنثى جميعًا على وَفْق الحكمة.

فجُعِلت في حقِّ الذَّكر آلةٌ ناشِزَة

(4)

تمتدُّ حتى تُوصِل المنيَّ إلى قَعْر

(1)

في الأصول: «عن أبيه» . وهو تحريف. والتصويب من الصحيحين.

(2)

أي: وَقَعَت في الرحم نطفةٌ. وفي رواية بالنصب، أي: خلقتَ يا رب نطفةً. «فتح الباري» (1/ 498).

(3)

«الدلائل والاعتبار» (45)، «توحيد المفضل» (17 ــ 18).

(4)

(ض، ق، ح، ت، ن): «ناشرة» ، بالمهملة، أي: منشورة مبسوطة. والوجهان محتملان، والمثبت أقرب. وانظر ما سيأتي (ص: 772).

ص: 738

الرَّحِم، بمنزلة من يناولُ غيرَه شيئًا فهو يَمُدُّ يدَه

(1)

إليه حتى يُوصِله إياه، ولأنه يحتاجُ إلى أن يقذفَ ماءه في قَعْر الرَّحِم.

وأمَّا الأنثى فجُعِل لها وعاءٌ مجوَّف؛ لأنها تحتاجُ إلى أن تقبل ماءَ الرجل وتمسكه وتشتمل عليه؛ فأُعطِيَت آلةً تليقُ بها.

ثمَّ لما كان ماءُ الرجل ينحدرُ من أجزاء الجسد رقيقًا ضعيفًا لا يُخلقُ منه الولد، جُعِل له الأُنثَيان وعاءً يُطبخُ فيهما، ويُحْكَمُ إنضاجُه؛ فيشتدُّ

(2)

وينعقدُ ويصيرُ قابلًا لأن يكون مبدأً للتَّخليق، ولم تحتَجْ المرأةُ إلى ذلك؛ لأنَّ رقَّة مائها ولطافتَه إذا مازجَ غِلَظ ماء الرجل وشدَّتَه قَوِيَ به واستحكم، ولو كان الماآن رقيقَيْن ضعيفَيْن لم يتكوَّن الولدُ منهما.

وخُصَّ الرجلُ بآلة النُّضج والطَّبخ لحِكَم:

منها: أنَّ حرارته أقوى، والأنثى باردة، فلو أُعطِيَت تلك الآلةَ لم يَسْتَحْكِم طبخُ الماء وإنضاجُه فيها.

ومنها: أنَّ ماءها لا يخرجُ عن محلِّه، بل ينزلُ من بين ترائبها إلى محلِّه، بخلاف ماء الرجل، فلو أُعطِيَت المرأةُ تلك الآلة لكانت تحتاجُ إلى آلةٍ أخرى يوصَلُ بها الماءُ إلى محلِّه.

ومنها: أنها لمَّا كانت محلًّا للجماع أُعطِيَت من الآلة ما يليقُ بها، فلو أُعطِيَت آلةَ الرجل لم تحصُل لها اللذَّةُ والاستمتاع بها

(3)

، ولكانت تلك

(1)

(ق، ن): «يديه» . (د): «بدنه» .

(2)

(ح، ن): «ليشتد» .

(3)

«بها» ليست في (ن، ح).

ص: 739

الآلةُ معطَّلةً بغير منفعة، فالحكمةُ التَّامَّةُ فيما وُجِدَت خلقةُ كلٍّ منهما عليه.

فصل

(1)

فارجِع الآن إلى نفسك، وكرِّر النَّظر فيك، فهو يكفيك

(2)

.

وتأمَّل أعضاءك وتقديرَ كلِّ عضوٍ منها للأرب والمنفعة المهيَّأ لها:

فاليدان للعلاج والبطش، والأخذ والإعطاء، والمحاربة والدَّفع.

والرِّجلان لحمل البدن

(3)

، والسَّعي والرُّكوب، وانتصاب القامة.

والعينان للاهتداء، والجمال، والزِّينة، والملاحة، ورؤية ما في السَّموات والأرض وآياتهما وعجائبهما.

والفمُ للغذاء، والكلام، والجمال، وغير ذلك.

والأنفُ للنفَس، ولإخراج فضلات الدِّماغ، وزينةٌ للوجه.

واللسانُ للبيان والتَّرجمة عنك.

والأذنان صاحبا الأخبار يؤدِّيانها إليك.

فاللسانُ رسولٌ إلى خارج، والأذنان رسولان من خارجٍ إليك؛ فهما يؤدِّيان إليك

(4)

، واللسانُ يبلِّغُ عنك.

والمعدةُ خزانةٌ يستقرُّ فيها الغذاء، فتطبخُه وتنضجُه، وتصلحُه إصلاحًا آخرَ وطبخًا آخرَ غيرَ الإصلاح والطَّبخ الذي تولَّيتَه مِنْ خارج، فأنت تُعاني

(1)

«الدلائل والاعتبار» (46)، «توحيد المفضل» (18 - 20).

(2)

(ت): «ويكفيك» . (ن): «وكرر النظر فيك يكفيك» .

(3)

(ح): «لحملان البدن» . (ن): «يحتملان البدن» .

(4)

من قوله: «فاللسان رسول

» إلى هنا ساقط من (ح، ن).

ص: 740

إنضاجَه وطبخَه وإصلاحَه مِنْ خارجٍ

(1)

حتى تظنَّ أنه قد كَمُل، وأنه قد استغنى عن طبخٍ آخرَ وإنضاجٍ آخر، وطبَّاخُه الدَّاخلُ ومُنْضِجُه يعاني من نضجه وطبخه ما لا تهتدي أنت إليه ولا تقدرُ عليه؛ فهو يوقدُ عليه نيرانًا تذيبُ الحصى

(2)

وتذيبُ ما لا تذيبُه النَّار، وهي في ألطف موضعٍ منك، لا تحرقُك ولا تلتهبُ عليك، وهي أشدُّ حرارةً من النَّار، وإلا فما يذيبُ هذه الأطعمة الغليظة الشديدة جدًّا

(3)

حتى يجعلها ماءً ذائبًا؟!

وجَعَل الكبد للتَّخليص وأخذِ صَفْو الغذاء وألطفه، ثمَّ رتَّب منها مجاري وطُرقًا يَسُوقُ بها الغذاء إلى كلِّ عضوٍ وعظمٍ وعَصَبٍ ولحمٍ وشَعرٍ وظُفر.

وجَعَل المنافذَ والأبوابَ لإدخال ما ينفعُك وإخراج ما يضرُّك.

وجَعَل الأوعيةَ المختلفةَ خزائنَ تحفظُ مادَّة حياتك؛ فهذه خزانةٌ للطَّعام، وهذه خزانةٌ للحرارة، وهذه خزائنُ للدَّم

(4)

، وجَعَل منها خزائن مؤديات

(5)

لئلَّا تختلط بالخزائن الأُخر، فجعل خزانةً للمِرَّة السَّوداء، وأخرى للمِرَّة الصَّفراء، وأخرى للبول، وأخرى للمنيِّ.

(1)

«من خارج» ليست في (ح، ن).

(2)

(ت): «تذيبه وتذيب الحصى» .

(3)

«جدًّا» ليست في (ق، ت).

(4)

(ن): «خزانة للدم» .

(5)

كذا في الأصول. ولعلَّها: «مؤدِّيات» ، أي: تؤدِّي الدم إلى جهاتٍ أخرى. والجملة معترضة. وقد تكون الكلمة محرفة. أفاده شيخنا الإصلاحي.

ص: 741

فتأمَّل حال الطَّعام في وصوله إلى المعدة، وكيف يَسْري منها في البدن؛ فإنه إذا استقرَّ فيها اشتملت عليه وانضمَّت، فتطبخُه وتجيدُ صَنْعتَه، ثمَّ تبعثُه إلى الكبد في مجارٍ دِقاق، وقد جُعِل بين الكبد وبين تلك المجاري غشاءٌ

(1)

كالمِصْفاة الضيِّقة الأبخَاش

(2)

تصفِّيه، فلا يصلُ إلى الكبد منه شيءٌ غليظٌ خَشِنٌ فينكؤها؛ لأنَّ الكبد رقيقةٌ لا تحملُ الغليظ

(3)

.

فإذا قَبِلتْه الكبدُ أنفَذتْه إلى البدن كلِّه في مجارٍ مهيَّأةٍ له بمنزلة المجاري المعدَّة للماء ليسلُك في الأرض فيعُمَّها بالسَّقي، ثمَّ يبعثُ ما بقي من الخَبث والفُضول إلى مغَايِض

(4)

ومصارف قد أُعِدَّت لها، فما كان مِنْ مِرَّةٍ صفراء بعثَت به إلى المَرارة، وما كان مِنْ مِرَّةٍ سوداء بعثَت به إلى الطُّحال، وما كان من الرُّطوبةِ المائية بعثَت به إلى المَثانة.

فمن ذا الذي تولى ذلك كلَّه وأحكمَه ودبَّره وقدَّره فأحسَن تقديرَه؟!

وكأني بك أيها المسكينُ تقول: هذا كلُّه مِنْ فعل الطَّبيعة، وفي الطبيعة عجائبُ وأسرار.

فلو أراد الله أن يهديَك لسألتَ نفسك بنفسك، وقلتَ: أخبريني عن هذه

(1)

(ن): «غشاء رقيق» .

(2)

جمع: بخش، بمعنى الثُّقب والمنفذ. وهي عامية سريانية الأصل. انظر:«حياة الحيوان» (1/ 650)، و «البراهين الحسية على تقارض السريانية والعربية» لأغناطيوس يعقوب (65). وتحرفت في (ت، ح). وستأتي (ص: 765).

(3)

(ر، ض): «لا تحتمل العنف» .

(4)

المواضع التي يغيض فيها الماء، أي: ينزل في الأرض ويغيب فيها. «المعجم الوسيط» (غاض). (ق): «مقايض» . وفي بعض نسخ (ض): «مفائض» .

ص: 742

الطَّبيعة، أهي ذاتٌ قائمةٌ بنفسها لها علمٌ وقدرةٌ على هذه الأفعال العجيبة، أم ليست كذلك، بل عَرَضٌ وصفةٌ قائمةٌ بالمطبوع تابعةٌ له محمولةٌ فيه؟

فإن قالت لك: بل مِنْ ذاتٍ قائمةٍ بنفسها، لها العلمُ التَّامُّ والقدرةُ والإرادةُ والحكمة.

فقل لها: هذا هو الخالقُ الباراءُ المصوِّر، فلِمَ تسمِّينه طبيعةً؟!

* وبالله

(1)

عن ذكر الطَّبائع يُرْغَبُ

(2)

*

فهلَّا سمَّيته بما سمَّى به نفسَه على ألسُن رسله، ودخلْت في جملة العقلاء والسُّعداء؛ فإنَّ هذا الذي وصفْت به الطَّبيعةَ صفتُه تعالى.

وإن قالت لك: بل الطَّبيعةُ عَرَضٌ محمولٌ مفتقرٌ إلى حامل، وهذا كلُّه فعلُها بغير علمٍ منها ولا إرادةٍ ولا قدرةٍ ولا شُعورٍ أصلًا، وقد شُوهِد من آثارها ما شُوهِد.

فقل لها: هذا ما لا يصدِّقُه ذو عقلٍ سليم، كيف تصدُر هذه الأفعالُ العجيبةُ والحِكَمُ الدَّقيقةُ التي تعجزُ عقولُ العقلاء

(3)

عن معرفتها وعن القدرة عليها ممَّن لا فِعل له ولا قدرة ولا حكمة ولا شُعور؟! وهل التَّصديقُ

(1)

(ح، ن): «ويا لله» . ومهملة في (د).

(2)

شطر بيت ينسبُ لزرارة بن أعين، من أبياتٍ يجوِّز فيها القول بالبداء. وصدره:

* وكان كضوءٍ مشرقٍ بطبيعةٍ *

انظر: «اللمع» للشيرازي (29)، و «الإحكام» للآمدي (3/ 110)، و «الواضح» لابن عقيل (4/ 199) وغيرها. وفي بعض المصادر:«نرغب» ، وفي بعضها:«مرغب» . وزيد في الأصول: «فيها» بعد الشطر، ووردت مهملة في (د).

(3)

(ت): «تعجز العقول» .

ص: 743

بمثل هذا إلا دخولٌ في سِلْك المجانين والمُبَرسَمين

(1)

.

ثمَّ قل لها بعدُ: ولو ثبت لكِ ما ادَّعيت فمعلومٌ أنَّ مثل هذه الصِّفة ليست بخالقةٍ لنفسها ولا مبدعةٍ لذاتها، فمن ربُّها ومبدعُها وخالقُها؟! ومن طبَّعها وجعلها تفعلُ ذلك؟!

فهي إذن مِنْ أدلِّ الدَّلائل

(2)

على بارئها وفاطرها، وكمال قدرته وعلمه وحكمته، فلم يُجْدِ عليك تعطيلُك ربَّ العالم وجحدُك لصفاته وأفعاله إلا مخالفتك لموجَب العقل والفطرة

(3)

.

ولو حاكمناك إلى الطَّبيعة لأريناك أنك خارجٌ عن مُوجَبها، فلا أنت مع مُوجَب العقل، ولا الفطرة، ولا الطبيعة، ولا الإنسانيَّة أصلًا، وكفى بذلك جهلًا وضلالًا.

فإن رجعتَ إلى العقل، وقلتَ: لا يوجدُ حكمةٌ إلا من حكيمٍ قادرٍ عليم، ولا تدبيرٌ متقنٌ محكَمٌ إلا من صانعٍ قادرٍ مختارٍ مدبِّر، عليمٍ بما يريد

(4)

، قادرٍ عليه، لا يُعْجِزُه ولا يَصْعُبُ عليه ولا يؤودُه.

قيل لك: فقد أقررتَ ــ ويحكَ ــ بالخلَّاق العظيم الذي لا إله غيره ولا ربَّ سواه، فدَع تسميتَه طبيعةً أو عقلًا فعَّالًا أو مُوجِبًا بذاته، وقل: هذا هو الله

(1)

البِرْسام (بكسر الباء وفتحها): علَّة يهذى فيها. فارسية معرَّبة. انظر: «المعرب» للجواليقي (93)، و «قصد السبيل» (1/ 270).

(2)

(ق، د، ت): «من أدل الدليل» .

(3)

(ح، ن): «مخالفتك العقل والفطرة» .

(4)

(ت): «يدبره» . (ن): «يدبر» .

ص: 744

الخالقُ الباراءُ المصوِّرُ ربُّ العالمين، وقيُّومُ السَّموات والأرضين وربُّ المشارق والمغارب الذي أحسنَ كلَّ شيءٍ خَلَقه، وأتقنَ ما صنع.

فما لك جحدتَ أسماءَه وصفاته، بل وذاتَه، وأضفتَ صُنْعَه إلى غيره وخلقَه إلى سواه، مع أنك مضطرٌّ إلى الإقرار به وإضافة الإبداع والخلق والرُّبوبيَّة والتَّدبير إليه ولا بُدَّ؟! فالحمدُ لله ربِّ العالمين.

على أنك لو تأمَّلتَ قولك: «طبيعة» ومعنى هذه اللفظة، لدلَّك على الخالق الباراء لفظُها كما دَلَّ العقولَ عليه معناها

(1)

؛ لأنَّ «طبيعة» فَعِيلة بمعنى مفعولة، أي: مطبوعة، ولا يحتَملُ غيرُ هذا

(2)

البتَّة؛ لأنها على بناء الغرائز التي رُكِّبت في الجسم ووُضِعَت فيه، كالسَّجِيَّة والغريزة والنَّحِيزة

(3)

والسَّليقة والطَّبيعة؛ فهي التي طُبِع عليها الحيوانُ وطُبِعَت فيه.

ومعلومٌ أنَّ طبيعةً مِنْ غير طابعٍ لها محال؛ فقد دلَّ لفظُ الطَّبيعة على الباري تعالى كما دلَّ معناها عليه.

والمسلمون يقولون: إنَّ الطَّبيعة خلقٌ مِنْ خَلْق الله مسخَّرٌ مربوب، وهي سنَّته في خليقته التي أجراها عليها، ثمَّ إنه يتصرَّفُ فيها كيف شاء وكما شاء، فيسلُبها تأثيرَها إذا أراد، ويقلبُ تأثيرَها إلى ضدِّه إذا شاء؛ ليُرِيَ عبادَه أنه

(1)

هذا الموضع غير محرَّر في الأصول كما ينبغي. (د): «المعقول عليه لمعناها» . (ق، ت): «العقول عليه لمعناها» . (ح، ن): «ومعنى هذه اللفظة على الخالق الباراء ولفظها كما دل المعقول عليه لمعناها» ، إلا أن في (ن): «

كما دل المعقول عليه هذه اللفظة لمعناها».

(2)

(ت): «ذلك» . (ن، ح): «هذه» .

(3)

تحرَّفت في الأصول إلى: «والبحيرة» ، وأهملت في (د).

ص: 745

وحده الخالقُ الباراءُ المصوِّر، وأنه يخلقُ ما يشاءُ كما يشاء، وإنما أمرُه إذا أراد شيئًا أن يقول له كُن فيكون، وأنَّ الطَّبيعة التي انتهى نظرُ الخفافيش إليها إنما هي خلقٌ مِنْ خَلْقِه بمنزلة سائر مخلوقاته. فكيف يحسُن بمن له حظٌّ من إنسانيَّةٍ أو عقلٍ أن ينسى من طبَعَها وخلقها ويُحِيل الصُّنعَ والإبداع عليها؟!

ولم يزل الله سبحانه يسلُبها قوَّتها ويُحِيلُها ويقلبُها إلى ضدِّ ما جُعِلَت له حتى يُرِيَ عباده أنها خلقُه وصنعُه مسخَّرةٌ بأمره، {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].

فصل

(1)

فأعِد النَّظر في نفسك، وتأمَّل حكمةَ اللطيف الخبير في تركيب البدن ووَضْع هذه الأعضاء مواضعَها منه، وإعدادها لما أُعِدَّت له، وإعداد هذه الأوعية المُعَدَّة لحمل الفَضلات وجمعِها لكيلا تنتشر في البدن فتفسده.

ثمَّ تأمَّل الحكمةَ البالغةَ في تنميتك

(2)

وكثرة أجزائك

(3)

، مِنْ غير تفكيكٍ ولا تفصيل، ولو أنَّ صانعًا أخذ تمثالًا من ذهبٍ أو فضَّةٍ أو نُحاسٍ فأراد أن يجعله أكبر مما هو، هل كان يمكنُه ذلك إلا بعد أن يكسِرَه ويصُوغه صياغةً أخرى؟! والربُّ تعالى ينمِّي

(4)

جسمَ الطِّفل وأعضاءه الظَّاهرة والباطنة وجميعَ أجزائه وهو باقٍ ثابتٌ على شكله وهيئته لا يتزايلُ ولا ينفكُّ

(1)

«الدلائل والاعتبار» (47)، «توحيد المفضل» (20 - 21).

(2)

(ح، ن): «تنميك» .

(3)

يعني: مع كثرة أجزائك.

(4)

(ح، ن): «يبني» .

ص: 746

ولا ينتقص

(1)

.

وأعجبُ من هذا كلِّه تصويرُه في الرَّحِم حيثُ لا تراه العيون، ولا تلمسُه الأيدي، ولا تصلُ إليه الآلات؛ فيخرجُ بشرًا سويًّا مستوفيًا

(2)

لكلِّ ما فيه مصلحتُه وقِوَامُه مِنْ عضوٍ وحاسَّةٍ وآلةٍ من الأحشاء، والجوارح، والحوامل، والأعصاب، والرِّباطات، والأغشية، والعظام المختلفة الشَّكل والقَدْر والمنفعة والموضع، إلى غير ذلك من اللحم والشَّحم والمخِّ، وما في ذلك من دقيق التَّركيب، ولطيف الخِلْقة، وخفيِّ الحكمة، وبديع الصَّنعة.

كلُّ هذا صنعُ الله أحسن الخالقين، في قطرةٍ من ماءٍ مهين.

وما كرَّر عليك في كتابه مبدأ خَلْقِك وإعادته

(3)

، ودعاك إلى التفكُّر فيه، إلا لما لك من العبرة والمعرفة.

فلا تَسْتَطِل هذا الفصلَ وما فيه من نوع تكرارٍ يشتملُ على مزيد فائدة؛ فإنَّ الحاجة إليه ماسَّة، والمنفعة به عظيمة.

فانظُر إلى بعض ما خصَّك به وفضَّلك به على البهائم المهملة، إذ خلقَك على هيئةٍ تنتصبُ قائمًا، وتستوي جالسًا، وتستقبلُ الأشياء ببدنك، وتُقبِلُ عليها بجملتك، فيمكنُك العملُ والصَّلاحُ والتَّدبير

(4)

، ولو كنت كذوات الأربع المكبوبة على وجهها لم يَظهر لك فضيلةُ التَّمييز

(1)

(ر): «لا يتزيد ولا يتنقص» . (ق): «لا تتزايل ولا تتفكك ولا تنتقص» .

(2)

(ن): «مستويا» .

(3)

(ت): «وأعاده» . وهي قراءة محتملة.

(4)

«والتدبير» ليست في (ق).

ص: 747

والاختصاص، ولم يتهيَّأ منك ما تهيَّأ من هذه النِّصبة

(1)

.

قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]؛ فسبحان من ألبَس خِلَع الكرامة كلَّها لبني آدم؛ من العقل، والعلم، والبيان، والنُّطق، والشَّكل، والصُّورة الحسنة، والهيئة الشريفة، والقدِّ المعتدل، واكتساب العلوم بالاستدلال والفِكْر، واقتناص الأخلاق الشريفة الفاضلة من البرِّ والطَّاعة

(2)

والانقياد؛ فكم بين حاله وهو نطفةٌ داخلٌ إلى الرَّحِم، مستَودَعٌ هناك، وبين حاله والمَلَكُ يدخلُ عليه في جنَّات عَدْن

(3)

؛ فتبارك الله ربُّ العالمين وأحسنُ الخالقين.

فالدُّنيا قرية، والمؤمنُ رئيسُها

(4)

، والكلُّ مشغولٌ به ساعٍ في مصالحه تسخُّرًا وتذليلًا، وهو مشغولٌ بربِّه وخالقه

(5)

، والكلُّ قد أُقِيم في خدمته وحوائجه؛ فالملائكةُ الذين هم حملةُ عرش الرحمن ومَنْ حوله يستغفرون له، والملائكةُ الموكَّلون به يحفظونه، والموكَّلون بالقَطر والنَّبات يسعَون في

(1)

وهي «هيئة المتمكن في المكان، كقيامه فيه أو قعوده أو بروكه أو اضطجاعه وما أشبه ذلك» . «التقريب لحد المنطق» لابن حزم (4/ 170 - رسائله). وتحرفت في الأصول، (ق):«المنصة» . (ح): «النسبية» . (ت، د): «المنصبة» . (ن): «النسبة» .

(2)

(ق، ت): «بالبر والطاعة» .

(3)

(ت، د، ق): «والملك يدخل به على ربه في جنات عدن» . والمثبت أحسن؛ وهو إشارةٌ إلى آية الرعد: 23.

(4)

(ت): «زينتها» .

(5)

من قوله: «تسخرا» إلى هنا ليس في (ح، ن).

ص: 748

رزقه ويعملون فيه، والأفلاكُ مسخَّرةٌ منقادةٌ دائرةٌ بما فيه مصالحُه، والشمسُ والقمرُ والنُّجومُ مسخَّراتٌ جارياتٌ بحساب أزمنته وأوقاته، وإصلاح رواتب أقواته، والعالمُ الجويُّ مسخَّرٌ له برياحه وهوائه، وسحابه وطيره، وما أُودِع فيه، والعالمُ السُّفليُّ كلُّه مسخَّرٌ له مخلوقٌ لمصالحه؛ أرضُه وجبالُه، وبحارُه وأنهارُه، وأشجارُه وثمارُه، ونباتُه وحيوانُه، وكلُّ ما فيه.

كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 12 - 13]، وقال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 32 - 34].

فالسَّائرُ

(1)

في معرفة آلاء الله وتأمُّل حكمته وبديع صَنْعته

(2)

أطولُ باعًا وأملأُ صُواعًا من اللصيق بمكانه، المقيم في بلد عادته وطبعه، راضيًا بعَيْش بني جنسه، لا يأنفُ لنفسه أن يكون واحدًا منهم، يقول: لي أسوةٌ بهم،

* وهل أنا إلا مِنْ ربيعة أو مُضَر

(3)

*

(1)

(ن، ق): «فالسير» . وفي (ت): «فالستر» .

(2)

(ت): «صفته» . وفي (ن): «صفاته» .

(3)

عجز بيتٍ للبيد بن ربيعة، في ديوانه (213)، من أبياتٍ قالها لما حضرته الوفاة، يخاطب ابنتيه. وصدرُه:

* تمنَّى ابنتاي أن يعيش أبوهما *

ص: 749

وليست نفائسُ البضائع إلا لمن امتطى غاربَ الاغتراب، وطوَّف في الآفاق حتى رَضِيَ من الغنيمة بالإياب، فاستلانَ ما استَوعَره البطَّالون، وأنِسَ بما استَوحش منه الجاهلون.

فصل

(1)

فأعِد النَّظر في نفسك، وحكمة الخلَّاق العليم في خَلْقِك، وانظُر إلى الحواسِّ التي منها تُشْرِفُ على الأشياء، كيف جعلها الله في الرأس

(2)

كالمصابيح فوق المنارة؛ لتتمكَّن بها من مطالعة الأشياء، ولم تُجْعَل في الأعضاء التي تُمْتَهنُ

(3)

كاليدين والرِّجلين، فتَعْرِضُ للآفات بمباشرة الأعمال والحركات، ولا جعلها في الأعضاء التي في وسط البدن كالبطن والظَّهر، فيعسُر عليها التلفُّتُ

(4)

والاطلاعُ على الأشياء؛ فلما لم يكن لها في شيءٍ من هذه الأعضاء موضعٌ كان الرأسُ أليقَ المواضع بها وأجملها

(5)

، فالرأسُ

(6)

صومعةُ الحواسِّ

(7)

.

ثمَّ تأمَّل الحكمة في أنْ جعل الحواسَّ خمسًا في مقابلة المحسوسات الخمس؛ ليلقى خمسًا بخمسٍ، كي لا يبقى شيءٌ من المحسوسات لا ينالُه

(1)

«الدلائل والاعتبار» (47)، «توحيد المفضل» (21 - 22).

(2)

(ر): «جعلت في الرأس» . (ض): «جعلت العينان في الرأس» .

(3)

(ض): «تحتهن» .

(4)

(ن): «التقلب» . (ض): «فيعسر تقلبها» .

(5)

(ت): «وأجلها» . (ض): «كان الرأس أسنى المواضع» .

(6)

(ن): «أليق المواضع بها، وجعلها في الرأس» .

(7)

من أمثال المولَّدين. انظر: «مجمع الأمثال» (2/ 101).

ص: 750

بحاسَّة

(1)

.

فجعل البصرَ في مقابلة المبصَرات، والسَّمعَ في مقابلة الأصوات، والشَّمَّ في مقابلة أنواع الرَّوائح المختلفات، والذَّوقَ في مقابلة الكيفيَّات المَذُوقات، واللَّمسَ في مقابلة الملموسات.

فأيُّ محسوسٍ بقي بلا حاسَّة؟! ولو كان في المحسوسات شيءٌ غير هذه لأعطاك له حاسَّةً سادسة.

ولمَّا كان ما عداها إنما يُدْرَكُ بالباطن أعطاك الحواسَّ الباطنة؛ وهي هذه الأخماسُ التي جرت عليها ألسنةُ العامَّة والخاصَّة، حيثُ يقولون للمفكِّر المتأمِّل:«ضَرَبَ أخماسَه في أسداسه» ؛ فأخماسُه حواسُّه الخمس، وأسداسُه جهاتُه السِّت

(2)

،

وأرادوا بذلك أنه جَذبه القلبُ وسار به في

(1)

(ح): «إلا يناله بحاسته» .

(2)

كذا قال المصنف رحمه الله تعالى. وهو تفسيرٌ طريفٌ لاستعمال المتأخرين لهذا المثل في غير موضعه. وإنما هو مثلٌ تضربه العربُ للمماكرة والخِداع. وأصلُه في أوراد الإبل، وهو أن يُظهِرَ الرجلُ أنَّ وِرْدَه سِدْس (وهو أن تُحْبَس عن الماء خمسًا، وترد في اليوم السادس)، وإنما يريد الخِمْس. فيحكى أنَّ رجلًا كان له بنونٌ يرعون مالًا له، ولهم نساء، فكانوا يقولون لأبيهم: إنا نرعى سِدْسًا، فيرعون خِمْسًا، ويسرقون يومًا يأتون فيه نساءهم، وكذلك كانوا يقولون في الخِمْس، فيرعون رِبْعًا ويسرقون يومًا، ففطن لذلك أبوهم، فقال:

وذلك ضَرْبُ أخماسٍ أُريدَتْ

لأسداسٍ عسى ألَّا تكونا

فصارت مثلًا في كلِّ مكر. ويقال للذي لا يعرف المكر والحيلة: إنه لا يعرف ضرب أخماسٍ لأسداس، وذلك إذا لم يكن له دهاء.

انظر: «جمهرة الأمثال» (2/ 4)، و «المستقصى» (2/ 145)، و «فصل المقال» (1/ 105)، و «مجمع الأمثال» (1/ 283).

ص: 751

الأقطار والجهات حتى قلَّب حواسَّه الخمسَ في جهاته السِّتِّ وضربها فيها

(1)

لشدَّة فكره.

فصل

(2)

ثمَّ أُعِينَت هذه الحواسُّ بمخلوقاتٍ أُخَر منفصلةٍ عنها تكونُ واسطةً في إحساسها

(3)

؛ فأُعِينَت حاسَّةُ البصر بالضياء والشُّعاع، فلولاه لم ينتفع النَّاظرُ ببصره، فلو مُنِعَ الضياءَ والشُّعاع لم تنفع

(4)

العينُ شيئًا.

وأُعِينَت حاسَّةُ السَّمع بالهواء يحملُ الأصواتَ في الجوِّ، ثمَّ يلقيه إلى الأذن فتحويه ثمَّ تلقيه إلى القوَّة السَّامعة، ولولا الهواءُ لم يسمع الرَّجلُ شيئًا.

وأُعِينَت حاسَّةُ الشمِّ بالنَّسيم اللطيف يحملُ الرائحة، ثمَّ يؤدِّيها إليها، فيدركُها، فلولا هو لم يشمَّ شيئًا.

وأُعِينَت حاسَّةُ الذَّوق بالرِّيق المتحلِّل في الفم، تُدْرِكُ القوَّةُ الذَّائقةُ به طُعومَ الأشياء، ولهذا لم يكن له طعمٌ لا حلوٌ ولا حامضٌ ولا مالحٌ ولا حِرِّيف

(5)

؛ لأنه كان يُحِيلُ

(6)

تلك الطُّعومَ إلى طعمه فلا يحصلُ به مقصوده.

(1)

(د، ق): «وضربها فيه» . (ح): «وضروبها فيها» . (ت): «وضرب فيها» . (ن): «وضروبها فيه» . ولعل المثبت هو الصواب.

(2)

«الدلائل والاعتبار» (48)، «توحيد المفضل» (22 - 23).

(3)

(ت، ح، ن): «أجسامها» . وهو تحريف.

(4)

(ح، ق، ت): «ينفع» . وأهمل الحرف الأول في (د).

(5)

وهو الذي يلذعُ اللسانَ بحرارة مذاقه. «اللسان» (حرف).

(6)

(ن، ح): «يتحلل» . تحريف.

ص: 752