المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تأمل اختلاف سير الكواكب - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ تأمل اختلاف سير الكواكب

فصل

(1)

ثمَّ‌

‌ تأمَّل اختلافَ سَير الكواكب

وما فيه

(2)

من العجائب، كيف تجدُ بعضها لا يسيرُ إلا مع رُفقته، ولا ينفردُ عنهم بسَيره أبدًا

(3)

، بل لا يسيرون إلا جميعًا، وبعضها يسيرُ سيرًا مطلقًا غير مقيَّدٍ برفيقٍ ولا صاحب، بل إذا اتفق له مصاحبتُه في منزلٍ رافقَه فيه

(4)

ليلةً وفارقَه الليلةَ الأخرى، فبينا تراهُ رفيقَه وقرينَه إذ رأيتهما مفترقَين متباعدَين كأنهما لم يتصاحبا قطُّ.

وهذه السيَّارةُ لها في سَيرها سَيران مختلفان غايةَ الاختلاف: سيرٌ عامٌّ يسيرُ بها فلَكُها، وسيرٌ خاصٌّ تسيرُ هي في فلَكها؛ كما شبَّهوا ذلك بنملةٍ تَدِبُّ على رحًى ذاتَ الشمال

(5)

، والرَّحى تأخذُ ذاتَ اليمين، فللنملة في ذلك حركتان مختلفتان إلى جهتين متباينتَين: إحداهما: بنفسها، والأخرى: مُكرَهةٌ عليها تبعًا للرَّحى، تجذبها إلى غير جهة قصدِها

(6)

. وبذلك يجعلُ التقدُّم

(7)

فيها كلَّ منزلةٍ إلى جهة الشرق، ثمَّ يسيرُ فلَكُها وبمنزلتها إلى جهة الغَرب.

(1)

«الدلائل والاعتبار» (8)، «توحيد المفضل» (82 - 84).

(2)

(ح): «وما فيها» .

(3)

(ح، ن): «ولا يفرد عنهم سيره أبدا» .

(4)

(ح، ن): «وافقه فيه» .

(5)

(ح، ن): «ذات اليمين وذات الشمال» .

(6)

(ر، ض): «إحداهما بنفسها متوجهة أمامها، والأخرى مستكرهة مع الرحى تجذبها إلى خلفها» .

(7)

(ت، ح): «التقديم» .

ص: 600

فسَل الزَّنادقة والمعطِّلة: أيُّ طبيعةٍ اقتضت هذا؟! وأيُّ فَلَكٍ أوجَبه؟! وهلَّا كانت كلُّها راتبةً أو منتقلة

(1)

، أو على مقدارٍ واحد، وشكلٍ واحد، وحركةٍ واحدة، وجريانٍ واحد؟!

وهل هذا إلا صُنعُ من بَهَرَت العقولَ حكمتُه، وشَهِدَت مصنوعاتُه ومبتدعاتُه بأنه الخالقُ الباراء المصوِّر الذي ليس كمثله شيء، أحسَن كلَّ شيءٍ خَلَقه، وأتقَن كلَّ ما صَنعَه، وأنه العليمُ الحكيمُ الذي خلق فسوَّى، وقدَّر فهدى، وأنَّ هذه إحدى آياته الدَّالَّة عليه، وعجائب مصنوعاته المُوصِلة للأفكار إذا سافرَت فيها إليه، وأنه خلقٌ مسخَّرٌ مربوبٌ مدبَّر؟!

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].

فإن قلتَ: فما الحكمةُ في كون بعض النُّجوم راتبًا وبعضها منتقِلًا؟

قيل: إنها لو كانت كلُّها راتبةً لبطلت الدَّلالاتُ والحِكَمُ التي نشأت من تنقُّلها في منازلها ومسيرها في بُروجها، ولو كانت كلُّها منتقِلةً لم يكن لمسيرها منازلُ تُعْرَف بها ولا رسمٌ يقاسُ عليه

(2)

؛ لأنه إنما يقاسُ مسيرُ المنتقِلة منها بالرَّاتب، كما يقاسُ مسيرُ السَّائرين على الأرض بالمنازل التي يمرُّون عليها

(3)

.

ص: 601

فلو كانت كلُّها بحالٍ واحدةٍ لاختلط نظامُها، ولبطلت الحِكَمُ والفوائدُ والدَّلالاتُ التي في اختلافها، ولتشبَّث المعطِّلُ بذلك وقال: لو كان فاعلُها ومبدعُها مختارًا لم تكن على وجهٍ واحدٍ وأمرٍ واحدٍ وقَدْرٍ واحد.

فهذا التَّرتيبُ والنظامُ الذي هي عليه من أدلِّ الدَّلائل على وجود الخالق

(1)

وقدرته وإرادته وعلمه وحكمته ووحدانيَّته.

فصل

(2)

ثمَّ تأمَّل هذا الفَلَكَ الدوَّار بشمسه وقمره ونجومه وبُروجه، وكيف يدورُ على هذا العالم هذا الدَّورانَ الدَّائمَ إلى آخر الأجل على هذا التَّرتيب والنظام

(3)

، وما في طَيِّ ذلك من اختلاف الليل والنَّهار والفصول والحرِّ والبرد، وما في ضِمن ذلك من مصالح ما على الأرض من أصناف الحيوان والنَّبات.

وهل يخفى على ذي بصيرةٍ أنَّ هذا إبداعُ المبدع الحكيم، وتقديرُ العزيز العليم؟!

ولهذا خاطبَ الرُّسلُ أممَهم مخاطبةَ من لا شكَّ عنده في الله، وإنما دَعَوهم إلى عبادته وحده، لا إلى الإقرار به؛ فقالت لهم:{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10].

فوجودُه سبحانه وربوبيَّته وقدرتُه أظهرُ من كلِّ شيءٍ على الإطلاق، فهو أظهرُ للبصائر من الشمس للأبصار، وأبينُ للعقول من كلِّ ما تَعْقِلُه وتقِرُّ

(1)

(ق): «خالقها» .

(2)

«الدلائل والاعتبار» (9)، «توحيد المفضل» (86).

(3)

(ت): «الترتيب والنمط والنظام» .

ص: 602

بوجوده؛ فما ينكره إلا مكابرٌ بلسانه، وقلبُه وعقلُه وفطرتُه كلُّها تكذِّبه

(1)

.

قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 2 - 4].

وقال تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية: 3 - 6].

وقال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [لقمان: 10 - 11].

وقال تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا

(1)

(د، ت، ق، ن): «وكلها تكذبه» .

ص: 603

جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 4 ــ 17].

وتأمَّل كيف وحَّد سبحانه الآيةَ من قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ} إلى آخرها، وختَمها بأصحاب الفكر: فأمَّا توحيدُ الآية؛ فلأنَّ موضعَ الدَّلالة واحد، وهو الماءُ الذي أنزله من السَّماء فأخرَج به كلَّ ما ذكره من الأرض، وهو على اختلاف أنواعه لقاحُه واحدٌ وأمُّه واحدة؛ فهذا نوعٌ واحدٌ من أنواع آياته

(1)

.

(1)

(ح، ن): «من آياته» .

ص: 604

وأمَّا تخصيصُه ذلك بأهل الفِكْر؛ فلأنَّ هذه المخلوقات التي ذكرها من الماء، فلأنَّ الموضعَ موضعُ فكر، وهو نظرُ القلب وتأمُّلُه، لا موضعُ نظرٍ مجرَّدٍ بالعَين، فلا ينتفعُ النَّاظرُ بمجرَّد رؤية العَين حتى ينتقل منه إلى نظر القلب في حكمة ذلك، وبديع صُنعِه، والاستدلال به على خالقه وباريه؛ وذلك هو الفِكرُ بعينه.

وأمَّا قولُه تعالى في الآية التي بعدها: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، فجمَع الآيات؛ لأنها تضمَّنت الليلَ والنَّهار والشمسَ والقمرَ والنُّجوم، وهي آياتٌ متعدِّدةٌ مختلفةٌ في أنفسها وخَلْقِها

(1)

وكيفيَّاتها:

فإنَّ إظلام الجوِّ بالغروب

(2)

، ومجيء الليل الذي يَلْبَسُ العالَمَ كالثَّوب فيسكنون تحته= آيةٌ باهرة.

ثمَّ وُرودُ جيش الضياء يقدُمه بشيرُ الصَّباح، فينهزمُ عسكرُ الظَّلام، وينتشرُ الحيوان، وينكشِطُ ذلك اللباسُ بجملته= آيةٌ أخرى.

ثمَّ في الشمس التي هي آيةُ النَّهار آيةٌ أخرى، وفي القمر الذي هو آيةُ الليل آيةٌ أخرى، وفي النُّجوم آياتٌ أُخَر ــ كما قدَّمناه ــ، هذا مع ما يَتْبَعُها من الآيات المقارنة لها من الرِّياح واختلافها وسائر ما يحدِثُه الله بسببها= آياتٌ أُخَر.

فالموضعُ موضعُ جَمْع.

(1)

(ح، ن): «وخلقتها» .

(2)

(ح، ن): «لغروب الشمس» .

ص: 605

وخصَّ هذه الآيات بأهل العقل؛ لأنها أعظمُ مما قبلها وأدلُّ وأكثر

(1)

والأولى كالباب لهذه، فمن استدلَّ بهذه الآيات وأعطاها حقَّها من الدَّلالة استحقَّ من الوصف فوق ما يستحقُّه صاحبُ الفِكر، وهو العقلُ. ولأنَّ منزلةَ العقل بعد منزلة الفِكر؛ فلمَّا دلَّهم بالآية الأولى على الفِكر نَقَلَهم بالآية الثَّانية التي هي أعظمُ منها إلى العقل الذي هو فوق الفِكر. فتأمَّله.

فأمَّا قولُه في الآية الثَّالثة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} ، فوحَّد الآية، وخصَّها بأهل التَّذكُّر:

فأمَّا توحيدُها، فكتوحيد الأُولى سواء؛ فإنَّ ما ذَرَأ في الأرض على اختلافه من الجواهر والنَّبات والمعادن والحيوان كلُّه في محلٍّ واحدٍ ومقرٍّ واحد، فهو نوعٌ من أنواع آياته وإن تعدَّدت أصنافُه وأنواعُه

(2)

.

وأمَّا تخصيصُه إياها بأهل التذكُّر؛ فطريقةُ القرآن في ذلك أن يجعَل آياته للتَّبصُّر والتذكُّر؛ كما قال تعالى في سورة ق: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 7 - 8]؛ فالتَّبصرة: التعقُّل

(3)

، والذِّكرى: التذكُّر، والفِكرُ بابُ ذلك ومدخلُه، فإذا فكَّر تبصَّر، وإذا تبصَّر تذكَّر.

فجاء التذكُّرُ في الآية لترتيبه على العقل المرتَّب على الفكر، فقدَّم الفكرَ إذ هو البابُ والمدخل، ووسَّط العقلَ إذ هو ثمرةُ الفكر ونتيجتُه، وأخَّر

(1)

(ح، ن): «وأكبر» .

(2)

(ح، ن): «أوصافه وآياته» .

(3)

(ت، د، ق): «العقل» .

ص: 606

التذكُّرَ إذ هو المطلوبُ من الفكر والعقل.

فتأمَّل ذلك حقَّ التأمُّل.

فإن قلتَ: فما الفرق بين التذكُّر والتفكُّر؟ فإذا تبيَّن الفرقُ ظهرت الفائدة.

قلتُ: التَّفكُّر والتَّذكُّر أصلُ الهدى والصلاح، وهما قُطبا السَّعادة؛ ولهذا وسَّعنا الكلامَ في الفِكر في هذا الوجه؛ لعِظم المنفعة وشدَّة الحاجة إليه.

قال الحسن: «ما زال أهلُ العلم يعودونَ بالتذكُّر على التفكُّر، وبالتفكُّر على التذكُّر، ويُناطِقون القلوبَ حتى نطقَت؛ فإذا لها أسماعٌ وأبصار»

(1)

.

فاعلَم أنَّ التفكُّر طلبُ القلب ما ليس بحاصلٍ من العلوم

(2)

من أمرٍ هو حاصلٌ منها، هذا حقيقتُه؛ فإنَّه لو لم يكن ثَمَّ موادُّ تكونُ

(3)

موردًا للفكر استحال الفكرُ؛ لأنَّ الفكرَ بغير متعلَّقٍ متفكَّرٍ فيه محال، وتلك الموادُّ هي الأمورُ الحاصلة، ولو كان المطلوبُ بها حاصلًا عنده لم يتفكَّر فيه.

فإذا عُرِفَ هذا فالمتفكِّر ينتقلُ من المقدِّمات

(4)

والمباداء التي عنده إلى المطلوب الذي يريدُه، فإذا ظَفِرَ به وتحصَّل له تذكَّر به وأبصَر مواقعَ الفعل والتَّرك وما ينبغي إيثارُه وما ينبغي اجتنابُه؛ فالتذكُّر هو مقصودُ التفكُّر وثمرتُه، فإذا تذكَّر عاد بتذكُّره على تفكُّره فاستخرَج به ما لم يكن حاصلًا

(1)

تقدم تخريجه (ص: 518).

(2)

(ن، ح): «بحاصل يحصل من العلوم» .

(3)

في الأصول: «مراد يكون» . وهو تحريف، وسيأتي على الصواب.

(4)

(ح): «المقامات» . وهو تحريف.

ص: 607

عنده، فهو لا يزالُ يكررُ

(1)

بتفكُّره على تذكُّره، وبتذكُّره على تفكُّره ما دام عاقلًا؛ لأنَّ العلمَ والإرادة لا يقفان به على حدٍّ، بل هو دائمًا سائرٌ بين العلم والإرادة.

وإذا عرفتَ معنى كون آيات الرَّبِّ تبارك وتعالى تبصرةً وذكرى؛ يُتبصَّرُ بها مِن عمى القلب، ويُتذكَّرُ بها مِنْ غفلتِه= فإنَّ المضادَّ للعلم إمَّا عمى القلب؛ وزوالُه بالتبصُّر، وإمَّا غفلتُه؛ وزواله بالتذكُّر.

والمقصودُ تنبيهُ القلب من رقدته بالإشارة إلى شيءٍ من بعض آيات الله، ولو ذَهبنا نتتبَّعُ ذلك لنَفِدَ الزَّمانُ ولم نُحِط بتفصيل

(2)

واحدةٍ من آياته على التَّمام، ولكن ما لا يُدْرَكُ جملةً لا يُتْرَكُ جملة.

وأحسنُ ما أُنفِقَت فيه الأنفاسُ التفكُّرُ في آيات الله وعجائب صُنْعِه، والانتقالُ منها إلى تعلُّق القلب والهمَّة به دون شيءٍ من مخلوقاته؛ فلذلك عَقَدنا هذا الكتابَ على هذين الأصلين؛ إذ هما أفضلُ ما يكتسبُه العبدُ في هذه الدَّار.

فصل

(3)

فسَل المعطِّل الجاحد

(4)

: ما تقولُ في دُولابٍ

(5)

دائرٍ على نهرٍ قد

(1)

كذا في الأصول. ولعلها: يكرُّ.

(2)

(ت): «بتحصيل» .

(3)

«الدلائل والاعتبار» (9)، «توحيد المفضل» (87).

(4)

(ت): «المعطل الجاهل الجاحد» .

(5)

آلةٌ تديرها الدابة، يستقى بها الماء. فارسيَّة معرَّبة. انظر:«الصحاح» (دلب)، و «قصد السبيل» (2/ 38) وحاشيته.

ص: 608

أُحكِمَت آلاتُه، وأُحكِمَ تركيبُه، وقُدِّرَت أدواتُه أحسنَ تقديرٍ وأبلغَه بحيث لا يرى النَّاظرُ فيه خللًا في مادَّته ولا في صورته، وقد جُعِل على حديقةٍ عظيمةٍ فيها من كلِّ أنواع الثِّمار والزُّروع يسقيها حاجتَها، وفي تلك الحديقة من يقومُ بأمرها ولَمِّ شَعَثِها، ويحسِنُ مراعاتها وتعهُّدَها والقيامَ بجميع مصالحها، فلا يختلُّ منها شيءٌ ولا تَتلفُ ثمارها، ثمَّ يقسِمها قَيِّمُها

(1)

عند الجَذَاذ على سائر المَحاويج

(2)

بحسب حاجاتهم وضروراتهم، فيَقسِمُ لكلِّ صنفٍ منهم ما يليقُ به، ويَقسِمُه

(3)

هكذا على الدَّوام.

أترى هذا اتفاقًا بلا صانعٍ ولا مختارٍ ولا مدبِّر؟! بل اتَّفق وجودُ ذلك الدُّولاب والحديقة وكلِّ ذلك اتفاقًا، من غير فاعلٍ ولا قيِّمٍ ولا مدبِّر!

أفترى ما يقولُ لك عقلُك في ذلك لو كان؟! وما الذي يُفتيك به؟! وما الذي يرشدُك إليه؟!

ولكنَّ مِن حكمة العزيز الحكيم أنْ خَلَق قلوبًا عُميًا لا بصائر لها، فلا ترى هذه الآيات الباهرة إلا رؤيةَ الحيوانات البهيميَّة، كما خَلَق أعينًا عُميًا لا أبصار لها، فالشمسُ والقمرُ والنُّجومُ باديةٌ

(4)

وهي لا تراها، فما ذنبُها إن أنكرَتها وجحدَتها؟! فهي تقولُ في ضوء النَّهار: هذا ليلٌ، ولكنَّ أصحابَ الأعيُن لا يعرفون شيئًا!

(1)

(ن): «قيمتها» . وهو تحريف.

(2)

(ح، ن): «المخارج» . تحريف.

(3)

(د، ق): «ويقيمه» .

(4)

(ح، ن): «والنجوم مسخرات بأمره» .

ص: 609