الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهذا مِنْ فعله يشهدُ بأنه معطوفٌ على فِراخه لعلَّةٍ لا يعلمُها هو ولا يفكِّرُ فيها مِنْ دوام النَّسل وبقائه.
فصل
(1)
ثمَّ
تأمَّل خِلْقَة البيضة
وما فيها من المُحِّ الأصفر الخاثر والماء الأبيض الرقيق، فبعضُه ينشأ منه الفَرخ، وبعضه يغتذي منه
(2)
إلى أن يخرجَ من البيضة، وما في ذلك من الحكمة.
فإنه لمَّا كان نشوءُ الفَرخ في تلك القشرة
(3)
المستحصِفة
(4)
التي لا نفاذَ فيها للواصِل
(5)
مِن خارج، جعَل معه في جوف البيضة
(6)
من الغذاء ما يكتفي به إلى خروجه.
فصل
(7)
و
تأمَّل الحكمةَ في حَوْصَلة الطَّائر
(8)
وما قُدِّرَت له؛ فإنَّ مسلك
(1)
«الدلائل والاعتبار» (38)، «توحيد المفضل» (69).
(2)
(ت، ح، ن): «يتغذى منه» .
(3)
(ت، ح، ق): «البشرة» . وأهملت في (د).
(4)
(د): «المتحفضة» . (ن): «المحتفظة» . (ق، ت): «المنخفضة» . (ض): «المستحفظة» . وكله تحريف. والمثبت من (ر).
(5)
(ح): «للأصل» . (ن): «لأصل» .
(6)
(ض): «التي لا مساغ لشيء إليها جعل معه في جوفها» .
(7)
«الدلائل والاعتبار» (38)، «توحيد المفضل» (69).
(8)
وهي انتفاخٌ في المريء يُختَزنُ فيه الغذاء قبل وصوله إلى المعدة. «المعجم الوسيط» .
الطَّعام
(1)
إلى القانِصة
(2)
ضيِّقٌ لا ينفُذ فيه الطَّعامُ إلا قليلًا، فلو كان الطَّائرُ لا يلتقطُ حبَّةً ثانيةً حتى تصل الأولى إلى جوفه لطال ذلك عليه، فمتى كان يستوفي طعامَه؟! وإنما يختلسُه اختلاسًا؛ لشدَّة الحذر، فجُعِلت له الحوصلةُ كالمِخلاة المعلَّقة أمامه ليُوعِيَ فيها ما ازدَردَ
(3)
من الطُّعم بسرعة، ثمَّ ينفُذ إلى القانِصة على مهَل.
وفي الحوصلة أيضًا خصلةٌ أخرى؛ فإنَّ من الطَّير ما يحتاجُ إلى أن يَزُقَّ فراخَه
(4)
، فيكون ردُّه الطُّعمَ
(5)
مِنْ قُربٍ ليسهُل عليه.
فصل
(6)
ثمَّ تأمَّل هذه الألوانَ والأصباغَ والوَشْيَ التي تراها في كثيرٍ من الطير، كالطاووس والدُّرَّاج وغيرهما، التي لو خُطَّت بدقيق الأقلام ووُشِيَت بالأيدي لم يكن هذا.
فمِن أين في الطبيعة المجرَّدة هذا التشكيلُ والتخطيطُ والتلوينُ والصَّبغُ
(7)
العجيبُ البسيطُ والمركَّب، الذي لو اجتمعت الخليقةُ على أن
(1)
(ح، ن): «فإن في مسلك الطعام» .
(2)
وهي جزءٌ عضليٌّ من المعدة يتمُّ فيه طحنُ الغذاء. «المعجم الوسيط» . وتحرفت في (ح، ن) إلى: «القابضة» في الموضعين.
(3)
(ض): «أدرك» .
(4)
تقدَّم تفسير ذلك قريبًا.
(5)
(ح، ن): «رد الطعم» . (ض): «رده للطعم» .
(6)
«الدلائل والاعتبار» (39)، «توحيد المفضل» (70).
(7)
(ق): «والصنع» .
يحاكوهُ لتعذَّر عليهم؟!
فتأمَّل ريشَ الطاووس كيف هو، فإنك تراه كنَسْج الثَّوب الرفيع من خيوطٍ رِفاعٍ جدًّا
(1)
، قد أُلِّف بعضُها إلى بعضٍ كتأليف الخيط إلى الخيط، بل الشَّعرة إلى الشَّعرة، ثمَّ ترى النَّسجَ إذا مَدَدتَه ينفتحُ قليلًا قليلًا ولا ينشقُّ؛ ليتداخَله الهواءُ، فيُقِلُّ
(2)
الطَّائر إذا طار، فترى في وسط الرِّيشة عمودًا غليظًا متينًا
(3)
قد نُسِجَ عليه ذلك الثَّوبُ الذي
(4)
كهيئة الشَّعر ليُمْسِكه بصلابته؛ وهو القَصَبةُ التي تكونُ في وسط الرِّيشة، وهو مع ذلك أجوفُ؛ ليشتمل على الهواء، فيحمل الطَّائر.
فأيُّ طبيعةٍ فيها هذه الحكمةُ والخبرةُ واللُّطف؟!
ثمَّ لو كان ذلك في الطبيعة كما يقولون
(5)
لكانت من أدلِّ الدَّلائل وأعظم البراهين على قدرة مبدعها ومنشئها وعلمِه وحكمته، فإنه لم يكن لها ذلك من نفسها، بل إنما هو لها ممَّن خلقها وأبدعها.
فما كذَّبه المعطِّل هو أحدُ البراهين والآيات التي
(6)
على مثلها يزدادُ إيمانُ المؤمنين. وهكذا آياتُ الله يضلُّ بها من يشاء ويهدي من يشاء.
(1)
(ر، ض): «سلوك دقاق» . وهي الخيوط.
(2)
(د، ت، ق): «فيقتل» . (ح): «فيثقل» . (ن): «فينتقل» . والمثبت من (ر، ض)، وهو الصواب، وانظر آخر الفقرة.
(3)
(ت): «منبنيا» . (ح، ن): «مبنيا» .
(4)
(ح، ن): «التي» . وسقطت من (ق).
(5)
(ق، ت): «تقولون» .
(6)
«التي» ليست في (ق).
فصل
(1)
تأمَّل هذا الطَّائر الطَّويل السَّاقين، واعرِف المنفعةَ في طول ساقَيْه؛ فإنه يرعى أكثر مرعاهُ في ضَحْضاحٍ من الماء، فتراه يركزُ
(2)
على ساقَيه كأنه ربيئةٌ فوق مَرْقَب
(3)
، ويتأمَّلُ ما دبَّ في الماء؛ فإذا رأى شيئًا من حاجته خطا خطوًا رفيقًا حتى يتناوله، ولو كان قصيرَ القائمتين كان [حين]
(4)
يخطو نحو الصَّيد ليأخذَه يَصْفِقُ بطنُه الماءَ
(5)
فيثوِّرُه، ويَذْعَرُ الصَّيدُ منه فيَنْفِر
(6)
، فخُلِقَ له ذانِك العمودان ليدرك بهما حاجتَه ولا يَفْسُدَ عليه مطلبُه.
وكلُّ طائرٍ فله نصيبٌ من طول السَّاقين والعُنق؛ ليمكنَه تناولُ الطُّعم
(7)
من الأرض، ولو طال ساقاه وقَصُرَت عنقُه لم يمكنه أن يتناول شيئًا من الأرض، وربَّما أعينَ مع طول عنقه
(8)
بطول المنقار ليزداد مطلبُه سهولةً عليه وإمكانًا.
(1)
«الدلائل والاعتبار» (39)، «توحيد المفضل» (71)، «المدهش» (589).
(2)
(ح): «يتركز» . (ن): «تركز» .
(3)
(ح، ن): «كأنه دسة فوق مركب» . والربيئة: الطليعة الذي يَرْقُبُ العدوَّ، ولا يكون إلا على جبلٍ أو شَرَفٍ ينظر منه. والمَرْقَب: الموضعُ المُشْرِف يرتفعُ عليه الرقيب.
(4)
زيادة يقتضيها السياق من (ر) و «المدهش» (589). وفي (ض): «وكان» .
(5)
(ح): «لصق بطنه في الماء» . (ق): «يصفق بطنه بالماء» . (ن): «لصق بطنه بالماء» . (د): «لصفق بطنه الماء» . (ض): «يصيب بطنه الماء» . (ر): «يشق بطنه الماء» . وفي «المدهش» : «يضرب الماء ببطنه» .
(6)
(ح): «فيقفز» . (ض): «فيفرق عنه» . (ر): «فيتفرق عنه» .
(7)
«المدهش» : «تناول طعمه» .
(8)
(ق، ح، ن): «مع عنقه» .
ثمَّ تأمَّل هذه العصافيرَ كيف تطلُب أكلَها بالنَّهار كلِّه، فلا هي تفقدُه ولا هي تجدُه مجموعًا مُعَدًّا، بل تنالُه بالحركة والطلب في الجهات والنَّواحي، فسبحان الذي قدَّره ويسَّره، كيف لم يجعله مما يتعذَّرُ عليها إذا التمسَته، ولا مما يفُوتها إذا قعدَت عنه، وجعلها قادرةً عليه في كلِّ حينٍ وأوان، وبكلِّ أرضٍ ومكان، حتى من الجدران والأسطحة والسُّقوف، تنالُه بالهُوَينا من السَّعي، فلا يشاركُها فيه غيرُ بني جنسها من الطير.
ولو كان ما تقتاتُ به يوجدُ مُعَدًّا مجموعًا كلُّه كانت الطيرُ تَشْرَكُها فيه وتغلبُها عليه
(1)
. ولحكمة
(2)
أخرى بديعة؛ وذلك
(3)
أنها لو وجدَته مُعَدًّا مجموعًا لأكبَّت عليه بحرص الرَّغبة فلا تقلعُ
(4)
عنه وإن شبعَت حتى تَبْشَم وتهلك.
وكذلك الناسُ لو جُعِل طعامُهم مُعَدًّا لهم بغير سعيٍ ولا تعبٍ لأخرجهم وُجدانُهم له كذلك
(5)
إلى الشَّره والبِطْنة والبَرَدة
(6)
، ولكثُر الفسادُ وعمَّت الفواحش، ولبغَوا في الأرض.
فسبحان اللطيف الخبير الذي لم يخلق شيئًا سدًى ولا عبثًا.
(1)
(ح، ن): «كانت يشركها فيه ويغلبها عليه» .
(2)
(ت، ق، د): «وبحكمة» . (ح، ن): «وحكمة» . والمثبت أقوم.
(3)
(د، ق، ت): «وكذلك» .
(4)
(ض): «تنقلع» .
(5)
(ح، ن): «ولا تعب أدى ذلك» .
(6)
مهملة في (ق). (ت، د): «والرده» . وعلق ابن بردس في طرة (د): «لعلها: والبرده» . وليست في (ح، ن). والبَرَدة: التُّخمة وثقل الطعام على المعدة. سمِّيت بذلك لأنها تبرد المعدة فلا تستمرئ الطعام. «النهاية» (برد).
وانظر في هذه الطير التي لا تخرجُ إلا بالليل، كالبُوم والهام والخفَّاش، فإنَّ أقواتها هيِّئت لها في الجوِّ، لا من الحَبِّ ولا من اللحم، بل من البعوض والفَراش وأشباههما مما تلتقطُه من الجوِّ، فتأخذُ منه بقَدْر حاجتها ثمَّ تأوي إلى بيوتها فلا تخرجُ إلى مثل ذلك الوقت من الليل.
وذلك أنَّ هذه الضُّروبَ من البعوض والفَراش وأشباههما مبثوثةٌ في الجوِّ لا يكادُ يخلو منها موضعٌ منه. واعتبِرْ ذلك بأن تضعَ سراجًا بالليل في سطح أو عَرْصَة الدَّار
(1)
، فيجتمعُ عليه من هذا الضَّرب شيءٌ كثير.
وهذا الضَّربُ من الفَراش ونحوها ناقصُ الفطنة، ضعيفُ الحيلة، ليس في الطَّير أضعفُ منه ولا أجهل، وفيما ترى مِنْ تهافُته
(2)
في النَّار وأنت تطرده عنها حتى يحرق نفسَه
(3)
دليلٌ على ذلك.
فجعل معاشَ هذه الطُّيور التي تخرجُ بالليل من هذا الضَّرب، فتقتاتُ منه، فإذا أتى بالنهار انقطعَت إلى أوكارها؛ فالليلُ لها بمنزلة نهار غيرها من الطَّير، ونهارُها بمنزلة ليل غيرها، ومع ذلك فسَاق لها الذي تكفَّل بأرزاق الخلقِ رزقَها، وخلَقه لها في الجوِّ، ولم يَدَعها بلا رزقٍ مع ضعفها وعجزها.
وهذه إحدى الحِكَم والفوائد في خَلْق هذه الفَراش والجنادِب والبعوض؛ فكم فيها من رزقٍ لأمَّةٍ تسبِّحُ بحمد ربها! ولولا ذلك لانتشرَت وكثُرت حتى أضرَّت بالنَّاس ومنعتهم القرار.
(1)
وهي وسطُها. وقيل: كل بقعةٍ بين الدور واسعةٍ ليس فيها بناء. «اللسان» .
(2)
(ت): «تساقطه» .
(3)
(ن): «حتى يحترق ويحرق نفسه» .
فانظُر إلى عجيب تقدير الله وتدبيره، كيف اضطرَّ العقولَ إلى أن شَهِدَت بربوبيَّته وقدرته وعلمه وحكمته، وأنَّ ذلك الذي تشاهدُه ليس باتِّفاقٍ ولا بإهمالٍ من سائر وجوه الأدلَّة التي لا تتمكَّنُ الفِطَر من جَحْدِها أصلًا.
وإذ قد جرى الكلامُ إلى ذكر الخفَّاش؛ فهو من الحيوانات العجيبة الخِلقَة بين خِلقَة الطَّير وذوات الأربع، وهو إلى ذوات الأربع أقرب، فإنه ذو أذنين ناشزتَين
(1)
وأسنانٍ ووَبَر
(2)
، وهو يلدُ وِلادًا، ويُرضِع
(3)
، ويمشي على أربع، وكلُّ هذا صفةُ ذوات الأربع، وله جناحان يطيرُ بهما مع الطُّيور.
ولما كان بصرُه يضعُف عن نور الشمس كان نهارُه كلَيْلِ غيره، فإذا غابت الشمسُ انتشر، ومِنْ ذلك سمِّي ضعيفُ البصر: أخفَش، والخَفَشُ ضعفُ البصر، ولما كان كذلك جُعِلَ قوتُه
(4)
من هذه الطُّيور الضِّعاف التي تطيرُ بالليل
(5)
.
وقد زعمَ بعض
(6)
من تكلَّم في الحيوان أنه ليس يَطْعَمُ شيئًا، وإنما غذاؤه من النَّسيم البارد فقط
(7)
.
(1)
في الأصول و (ر) وبعض نسخ (ض) بالراء المهملة. والمثبت أصوب.
(2)
(ح، ن): «ودبر» . والمراد أنه ليس بذي ريشٍ كالطيور. انظر: «الحيوان» (3/ 527).
(3)
(ر، ض): «ويرضع ويبول» .
(4)
في الأصول: «جعلت قوته» . لعله سبق قلم في أصل المصنف.
(5)
(ح): «لا تطير إلا بالليل» .
(6)
«بعض» ليست في (ح).
(7)
في طرة (د) علَّق أحد القراء بقوله: «قد شاهدته ليلًا وهو يأكل من ثمر النبق ويلقي النوى، ويأكل من ثمر التوت» .
وهذا كذبٌ عليه وعلى الخِلْقة؛ لأنه يبُول، وقد تكلَّم الفقهاءُ في بوله: هل هو نجسٌ لأنه بولُ غيرِ مأكولٍ؟ أو نجسٌ معفوٌّ عن يسيره لمشقَّة التحرُّز منه؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد.
وبعضُ الفقهاء لا ينجِّسُ بولَه بحالٍ، وهذا أقيسُ الأقوال
(1)
؛ إذ لا نصَّ فيه، ولا يصحُّ قياسُه على الأبوال النَّجسة؛ لعدم الجامع المؤثِّر، ووضوح الفرق. وليس هذا موضع استيفاء الحجج في هذه المسألة من الجانبين
(2)
.
والمقصودُ أنه لو كان لا يأكلُ شيئًا لم يكن له أسنان، إذ لا معنى للأسنان في حقِّ من لا يأكلُ شيئًا، ولهذا لما عَدِم الطفلُ الرضيعُ الأكلَ لم يُعْط الأسنان، فلما كبر واحتاج إلى الغذاء أُعِينَ عليه بالأسنان التي تقطعُه والأضراس التي تطحنُه.
وليس في الخليقة شيءٌ مهمل، ولا عن الحكمة بمعطَّل، ولا شيءٌ لا معنى له.
وأمَّا الحِكَمُ والمنافعُ في خَلْق الخفَّاش، فقد ذكر منها الأطبَّاءُ في كتبهم ما انتهت إليه معرفتُهم
(3)
، حتى إنَّ بوله
(4)
يدخلُ في بعض الأكحال
(5)
،
(1)
«الأقوال» ليست في (ت).
(2)
انظر: «روضة الطالبين» (1/ 280)، و «المحلى» (1/ 191)، و «المغني» (2/ 486)، و «البحر الرائق» (1/ 398)، و «مجموع الفتاوى» (21/ 17).
(3)
انظر: «التذكرة» لداود (1/ 142)، و «المفردات» لابن البيطار (2/ 65)، و «حياة الحيوان» (2/ 232).
(4)
(ر، ض): «زبله» .
(5)
(ض): «الأعمال» .
فإذا كان هذا بوله الذي لا يخطرُ بالبال أنَّ فيه منفعةً البتة، فما الظَّنُّ بجُملته؟!
ولقد أخبَر بعض من شُهِدَ
(1)
بصدقه أنه رأى دُخَّلًا
(2)
ــ وهو طائرٌ معروف ــ قد عَشَّش في شجرة، فنظر إلى حيَّةٍ عظيمةٍ قد أقبلت نحو عُشِّه فاتحةً فاها لتبتلعه، فبينما هو يضطربُ في حيلة النَّجاة منها إذ وَجَد حَسَكةً
(3)
في العُشِّ، فحملها فألقاها في فَم الحيَّة، فلم تزل تلتوي حتى ماتت
(4)
.
فصل
(5)
ثمَّ تأمَّل أحوال النَّحل وما فيها من العِبَر والآيات.
(1)
(ق): «شهر» .
(2)
(ق، د): «رخلا» . (ن): «رخما» . (ح): «رخا» . (ت): «رجلا» !. وكل أولئك تحريف. والمثبت من (ر). وفي (ض)، و «بحار الأنوار» (3/ 108، 61/ 69): «ابن تمرة» ، وهو طائر صغير. وفي «البصائر والذخائر»:«عصفورا» . والدُّخَّل: طائر صغير مثل العصفور يأوي إلى الغِيران والشجر الملتف. «معجم الحيوان» (242، 243، 261). أما الرخُّ فطائرٌ أسطوريٌّ ضخم جدًّا، والرخمة تشبه النسر ولا تعشِّش في الأشجار بل تختار لبيضها أطراف الجبال الشاهقة وصدع الصخور، كما في «معجم الحيوان» (207، 259)؛ فلا يناسب ذكرهما ما ترومه القصة من بيان عظيم لطف الله في هبة الضعيف ما يحتال به للدفاع عن نفسه.
(3)
وهي شوكةٌ صلبةٌ معروفة. وفي طرة (ح): «لعله: خفاشًا» ، ذهَب إلى أن السِّياق في بيان منافع وحِكَم خلق الخفاش، فلم يصب.
(4)
انظر: «البصائر والذخائر» (6/ 78). وفي «الحيوان» (7/ 23)، و «الإمتاع والمؤانسة» (2/ 104)، و «محاضرات الأدباء» (4/ 747) قصةٌ أخرى نحوها.
(5)
«الدلائل والاعتبار» (41)، «توحيد المفضل» (74)، ولم ينقل عنه شيئًا ذا بال.
فانظُر إليها وإلى اجتهادها
(1)
في صَنعة العسل وبنائها البيوتَ المسدَّسة التي هي من أتمِّ الأشكال وأحسنها استدارةً وأحكمها صنعًا، فإذا انضمَّ بعضُها إلى بعضٍ لم يكن بينها
(2)
فُرجةٌ ولا خَلَل، كلُّ هذا بغير مقياسٍ ولا آلةٍ ولا بِرْكار
(3)
.
وذلك مِنْ أثر صُنع الله وإلهامه إياها وإيحائه إليها؛ كما قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 68 - 69].
فتأمَّل كمال طاعتها وحُسْنَ ائتمارها
(4)
لأمر ربها تعالى، كيف
(5)
اتَّخذت بيوتها من هذه الأمكنة الثَّلاثة: في الجبال والشقفانات
(6)
، وفي الشَّجر، وفي بيوت الناس حيثُ يَعْرِشُون، أي: يبنون العُروش
(7)
وهي
(1)
في الأصول: «اجسادها» . والمثبت من (ط)، وهو أشبه.
(2)
(ق): «منها» . (ح، ن): «في بيتها» .
(3)
(ح، ن): «بيكار» . وهي آلةٌ هندسيَّةٌ معروفة. انظر: «التاج» (دور)، و «قصد السبيل» (1/ 272)، و «المعجم الوسيط» (برج).
(4)
(ن): «إيثارها» .
(5)
(ح، ن): «يقال» .
(6)
مفردها: شَقِيف. والجمع: شقفان. وجمع الجمع: شقفانات. كلمة آرامية سريانية، تطلق على الكهف والمغارة والصخر الشاهق المشرف. انظر:«معجم البلدان» (3/ 356)، و «الروضتين» لأبي شامة (3/ 106)، و «معجم أسماء المدن والقرى اللبنانية» لأنيس فريحة (97).
(7)
البيوت. فلا يُرى للنَّحل بيتٌ غير هذه الثَّلاثة البتة.
وتأمَّل كيف أكثرُ بيوتها في الجبال والشقفان، وهو البيتُ المقدَّمُ في الآية، ثمَّ في الأشجار، وهي مِنْ أكثر بيوتها
(1)
، وفيما يَعْرِشُ الناس، وأقلُّ بيوتها بينهم حيثُ يَعْرِشُون، وأما في الجبال والشجر بيوتٌ
(2)
عظيمةٌ يؤخذُ منها من العسل
(3)
الكثيرُ جدًّا.
وتأمَّل كيف أدَّاها حُسْنُ الامتثال إلى أن ا تخذت البيوتَ قبل المرعى؛ فهي تتَّخذ البيوتَ أوَّلًا، ثمَّ إذا استقرَّ لها بيتٌ خرجت منه فرعَت وأكلت من الثِّمار، ثمَّ أوتْ إلى بيوتها؛ لأنَّ ربها سبحانه أمرها با تخاذ البيوت أوَّلًا، ثمَّ بالأكل بعد ذلك، ثمَّ إذا أكلت سلكت سُبلَ ربها مذلَّلةً لها
(4)
لا يستَوعِرُ عليها شيءٌ، ترعى ثمَّ تعود.
ومن عجيب شأنها أنَّ لها أميرًا يسمَّى: «اليَعْسُوب» لا يتمُّ لها رواحٌ ولا إيابٌ ولا عملٌ ولا مرعًى إلا به، فهي مؤتمرةٌ لأمره، سامعةٌ له مطيعة، وله عليها تكليفٌ وأمرٌ ونهي، وهي رعيَّةٌ له
(5)
، منقادةٌ لأمره، متَّبعةٌ لرأيه، يدبِّرها كما يدبِّرُ الملكُ أمرَ رعيَّته، حتى إنها إذا أوتْ إلى بيوتها وقفَ على
(1)
«حياة الحيوان» (4/ 32): «وهي دون ذلك» . وقد نقل الدميريُّ من هذا الموضع دون تصريح، وصرَّح بالنقل في موضعٍ آخر.
(2)
كذا في الأصول، بحذف الفاء من جواب (أما). وهي لغةٌ قليلة، ولها شواهد، وزعم بعضهم أنها ضرورةٌ في الشعر، وليس كذلك، والجادة إثباتها. انظر:«شواهد التوضيح» (136)، و «فتح الباري» (10/ 36).
(3)
(ت): «يؤخذ منها العسل» .
(4)
«لها» ليست في (ن، ح).
(5)
(ن): «وهي راغبة له» .
باب البيت فلا يدعُ واحدةً تزاحمُ الأخرى ولا تتقدَّم عليها في العُبور، بل تَعْبُرُ بيوتها واحدةً بعد واحدةٍ بغير تزاحُمٍ ولا تصادمٍ ولا تراكُم، كما يفعلُ الأميرُ إذا انتهى بعسكره إلى معْبرٍ ضيِّقٍ لا يجُوزه إلا واحدٌ واحد.
ومن تدبَّر أحوالها وسياستَها وهدايتها، واجتماعَ شملها، وانتظامَ أمرها، وتدبيرَ مُلْكِها، وتفويض كلِّ عملٍ إلى واحدٍ منها= يتعجَّبُ منها كلَّ العجب، ويعلمُ أنَّ هذا ليس في مقدورها ولا هو مِنْ ذاتها؛ فإنَّ هذه أعمالٌ محكمةٌ متقنةٌ في غاية الإحكام والإتقان، فإذا نظرتَ إلى العامل
(1)
رأيتَه مِنْ أضعف خلق الله وأجهَلِه بنفسه وبحاله، وأعجَزِه
(2)
عن القيام بمصلحته فضلًا عمَّا يصدُر منه من الأمور العجيبة.
ومن عجيب أمرها أنَّ أميرين فيها لا يجتمعان
(3)
في بيتٍ واحد، ولا يتأمَّران على جمعٍ واحد، بل إذا اجتمع منها جُنْدان وأميران قتلوا أحدَ الأميرين وقطَّعوه واتفقوا على الأمير الواحد، مِنْ غير معاداةٍ بينهم ولا أذًى من بعضهم لبعض، بل يصيرون يدًا واحدةً وجندًا واحدًا.
فصل
ومن عجيب أمرها ما لا يهتدي له أكثرُ الناس ولا يعرفونه؛ وهو النِّتاجُ الذي يكونُ لها، هل هو على وجه الولادة أو التَّولُّد والاستحالة؟
(4)
فقَلَّ من
(1)
(ح، ن): «القائل» .
(2)
(ت): «وأجهلهم
…
وأعجزهم».
(3)
(ح، ن): «أن فيها أميرين لا يجتمعان» . والمثبت أجود.
(4)
(ح): «الولادة والتولد أو الاستحالة» . وفي (ت، ق): «الولادة والتولد والاستحالة» . (د): «الولادة والتوالد والاستحالة» .
يعرفُ ذلك أو يَفْطِنُ له
(1)
.
وليس نِتاجُها على واحدٍ من هذين الوجهين، وإنما نِتاجُها بأمرٍ مِنْ أعجب العجب، فإنها إذا ذهبت إلى المرعى أخذَت تلك الأجزاءَ الصَّافيةَ التي على الوَرَق، من الورد والزَّهر والحشيش وغيره، وهي الطَّلُّ؛ فتمصُّها، وذلك مادةُ العسل، ثمَّ أنها تكبِسُ
(2)
الأجزاءَ المنعقدةَ على وجه الورقة وتَعْقِدُها على رِجْلِها كالعَدَسَة، فتملأ بها المسدَّسات الفارغة من العسل، ثمَّ يقومُ يَعْسُوبها على بيته مبتدئًا منه، فينفخُ فيه، ثمَّ يطوفُ على تلك البيوت بيتًا بيتًا وينفخُ فيها كلِّها، فتدبُّ فيها الحياةُ بإذن الله عز وجل، فتتحرَّكُ وتخرجُ طيورًا بإذن الله
(3)
.
وتلك إحدى الآيات والعجائب التي قلَّ من يتفطَّنُ إليها، وهذا كلُّه من ثمرة ذلك الوحي الإلهيِّ، أفادها وأكسَبها
(4)
هذا التَّدبير والسَّفر والمعاشَ والبناءَ والنِّتاج.
فسَل المعطِّل الضالَّ
(5)
: من الذي أوحى إليها أمرَها وجَعَل ما جَعَل في طباعها؟! ومن الذي سهَّل لها سُبلَه ذُللًا منقادةً لا تستعصي
(6)
عليها ولا
(1)
انظر: «الفِصَل» (5/ 278).
(2)
(ح، ن): «تلبس» .
(3)
الثابت اليوم علميًّا أن ملكة النحل تضع بيضها في تلك البيوت، بعد أن يلقحها الذكر خلال عملية التزاوج بسائله المنوي، فإذا فقست تولت شغَّالات النحل تغذية تلك اليرقات حتى تكبر. «الموسوعة العربية العالمية» .
(4)
(ح، ن): «وألبسها» .
(5)
«الضال» ليست في (ح).
(6)
(ح، ت): «يستعصي» . (ن): «يتعصى» .
تستوعرُها ولا تضلُّ عنها على بُعدها؟! ومن الذي هداها لشأنها؟!
ومن الذي أنزل لها من الطَّلِّ ما إذا جَنَته ردَّته عسلًا صافيًا مختلفًا ألوانُه في غاية الحلاوة واللَّذاذة والمنفعة، مِنْ بين أبيض يُرى فيه الوجهُ أعظمَ من رؤيته في المرآة ــ وسمَّاه لي من جاء به
(1)
، وقال: هذا أفخرُ ما يعرفُ الناسُ من العسل وأصفاه وأطيبُه، فإذا طعمُه ألذُّ شيءٍ يكونُ من الحلوى
(2)
ــ، ومِنْ بين أحمرَ وأخضرَ ومُورَّدٍ وأسودَ وأشقرَ
(3)
وغير ذلك من الألوان والطُّعوم المختلفة فيه بحسب مَراعيه ومادَّتها.
وإذا تأمَّلتَ ما فيه من المنافع والشِّفاء، ودخولَه في غالب الأدوية، حتى كان المتقدِّمون لا يعرفون السُّكَّر ولا هو مذكورٌ في كتبهم أصلًا، وإنما كان الذي يستعملونه في الأدوية هو العسل، وهو المذكورُ في كتب القوم.
ولعمرُ الله إنه لأنفعُ من السُّكَّر، وأجدى وأجلى للأخلاط، وأقمَعُ لها وأذهبُ لضررها، وأقوى للمعدة، وأشدُّ تفريحًا للنفس، وتقويةً للأرواح، وتنفيذًا للدَّواء، وإعانةً له على استخراج الدَّاء من أعماق البدن.
ولهذا لا يجيءُ في شيءٍ من الحديث قطُّ ذكرُ السُّكَّر، ولا كانوا يعرفونه أصلًا
(4)
،
ولو عُدِم من العالم لما احتاج إليه، ولو عُدِم العسلُ لاشتدَّت
(1)
(ح، ن): «وسماه لمن جاء به» .
(2)
(ت): «فإذا طعمه الذي أشد من الحلوى» .
(3)
(ق، د): «وأصفر» .
(4)
ورد ذكره في حديثٍ أخرجه الترمذي (2404) بإسناد ضعيفٍ جدًّا. وفي حديثٍ آخر في صفة الحوض صحَّحه المصنفُ في «زاد المعاد» (4/ 355)، وقال:«ولا أعرف السُّكَّر في الحديث إلا في هذا الموضع» . ولم أقف على هذا الحديث ولا أظنه يصحُّ مرفوعًا، ولعل ذكر «السُّكَّر» فيه من تصرُّف بعض الرواة. وانظر:«فيض القدير» (2/ 448).
وأمَّا ما في «الصحيح» من أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلواء والعسل؛ فالمراد بالحلواء كل حُلْوٍ، وإن لم تدخله الصَّنعة، كالفاكهة.
وأصل لفظة «السُّكَّر» فارسيَّةٌ معرَّبة. انظر: «الصحاح» (سكر)، و «قصد السبيل» (2/ 143) وحاشيته.
الحاجةُ إليه، وإنما غَلَب على بعض المدن استعمالُ السُّكَّر حتى هجروا العسلَ واستطابوه عليه ورأوهُ أقلَّ حِدَّةً وحرارةً منه، ولم يعلموا أنَّ من منافع العسل ما فيه من الحِدَّة والحرارة، فإذا لم يوافِق من يستعملُه كَسَرَها بمقابلها فيصيرُ أنفع له من السُّكَّر.
وسنفردُ ــ إن شاء الله ــ مقالةً نبيِّنُ فيها فضل العسل على السُّكَّر من طرقٍ عديدةٍ لا تُمنَع، وبراهين كثيرةٍ لا تُدفَع
(1)
.
ومتى رأيتَ السُّكَّر يجلُو بلغمًا، ويذيبُ خِلْطًا، أو يشفي من داء؟! وإنما غايتُه بعض التنفيذ للدَّواء إلى العُروق؛ للطافته وحلاوته.
وأمَّا الشفاءُ الحاصلُ من العسل فقد حرَمه اللهُ الكثيرَ
(2)
من النَّاس، حتى صاروا يذمُّونه ويخشون غائلتَه من حراراته وحِدَّته. ولا ريب أنَّ كونه شفاءً، وكونَ القرآن شفاءً، والصَّلاةِ شفاءً، وذكرِ الله والإقبال عليه شفاءً = أمرٌ
(1)
لم أقف مِنْ خبرها على شيءٍ عند من بعده؛ فلعله لم يتيسَّر له ذلك. وراجع ما قدمناه (ص: 588). ولم أر المصنف تعرَّض للمسألة في غير «زاد المعاد» (4/ 34، 224، 355). وانظر: «ابن قيم الجوزية» (282)، و «التقريب لعلوم ابن القيم» (80)، والإحالةُ فيهما على «شفاء العليل» وهمٌ.
(2)
(ت، د، ق، ح): «لكثير» .
لا يَعُمُّ الطَّبائعَ والأنفس؛ فهذا كتابُ الله هو الشِّفاءُ النافع، وهو أعظمُ الشِّفاء، وما أقلَّ المُستَشْفِين به! بل لا يزيدُ الطَّبائعَ الرَّديئة إلا رداءةً، ولا يزيدُ الظَّالمين إلا خسارًا.
وكذلك ذكرُ الله والإقبالُ عليه والإنابةُ إليه والفزعُ إلى الصَّلاة، كم قد شُفِي به مِنْ عليل! وكم قد عُوفي به مِنْ مريض! وكم قام مقام كثيرٍ من الأدوية التي لا تبلغُ قريبًا من مبلغه في الشفاء! وأنت ترى كثيرًا من النَّاس ــ بل أكثرهم ــ لا نصيب لهم من الشفاء بذلك إليه أصلًا.
ولقد رأيتُ في بعض كتب الأطبَّاء المسلمين في ذكر الأدوية المفردة ذكر الصَّلاة؛ ذكرها في باب «الصَّاد» وذَكَر من منافعها في البدن التي توجبُ الشفاء وجوهًا عديدةً ومن منافعها في الرُّوح والقلب
(1)
.
وسمعتُ شيخنا أبا العبَّاس ابن تيمية رحمه الله يقول، وقد عَرَض له بعضُ الألم، فقال له الطَّبيب: أضرُّ ما عليك الكلامُ في العلم والفِكرُ فيه والتوجُّه والذِّكر، فقال: ألستم تزعمون أنَّ النفسَ إذا قَوِيَت وفَرِحَت أوجبَ فرحُها لها قوَّةً تُعِينُ بها الطبيعةَ على دفع العارض
(2)
؛ فإنه عدوُّها، فإذا قَوِيَت عليه قهرتْه؟ فقال له الطَّبيب: بلى؛ فقال: وأنا إذا اشتغلتْ نفسي بالتَّوجُّه والذِّكر والكلام في العلم وظَفِرَت بما يُشْكِلُ عليها منه فَرِحَت به وقَوِيَت، فأوجبَ ذلك دفعَ العارض. هذا أو نحوه
(3)
من الكلام
(4)
.
(1)
كما فعل المصنف في «زاد المعاد» (4/ 331).
(2)
(د، ق، ت): «المعارض» ، في الموضعين. والمثبت أجود.
(3)
(ح، ن): «أو غيره» !.
(4)
انظر: «روضة المحبين» (109).
والمقصودُ أنَّ ترك كثيرٍ من النَّاس الاستشفاءَ بالعسل لا يخرجُه عن كونه شفاءً، كما أنَّ ترك أكثرهم الاستشفاءَ بالقرآن من أمراض القلوب لا يخرجُه عن كونه شفاءً لها، وهو شفاءٌ لما في الصُّدور وإن لم يَسْتَشفِ به أكثرُ المرضى، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]، فعَمَّ بالموعظة والشِّفاء، وخصَّ بالهدى والرحمة
(1)
؛ فهو نفسُه شفاءٌ استُشْفِيَ به أو لم يُسْتَشْفَ به.
ولم يَصِف الله في كتابه بالشفاء إلا القرآن والعسل، فهما الشِّفاءان؛ هذا شفاءُ القلوب من أمراض غيِّها وضلالها وأدواء
(2)
شبهاتها وشهواتها، وهذا شفاءٌ للأبدان من كثيرٍ من أسقامها وأخلاطها وآفاتها.
ولقد أصابني أيام مُقامي بمكَّة أسقامٌ مختلفة، ولا طبيبَ هناك ولا أدويةَ كما في غيرها من المدن، فكنتُ أستشفي بالعسل وماء زمزم، ورأيتُ فيهما من الشفاء أمرًا عجيبًا
(3)
.
وتأمَّل إخبارَه سبحانه وتعالى عن القرآن بأنه نفسَه شفاءٌ، وقال عن
(1)
تحرفت في (ح، ن) إلى: «والمعرفة» . واقرأ الآية.
(2)
(ت): «ودواء» .
(3)
انظر إخباره بذلك أيضًا في «مدارج السالكين» (1/ 58)، و «زاد المعاد» (4/ 178)، و «الداء والدواء» (8).
وانظر لمجاورة المصنف بمكة: «ابن قيم الجوزية» للشيخ بكر (57 ــ 59).
وقد ذكر ــ رحمه الله ــ في صدر كتابنا هذا أن تأليفه له كان من بعض النُّزل والتُّحف التي فتح الله بها عليه حين انقطاعه إلى بيته.
العسل: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69]؛ وما كان نفسُه شفاءً أبلغُ مما جُعِل فيه شفاءٌ، وليس هذا موضع استقصاء فوائد العسل ومنافعه
(1)
.
فصل
ثمَّ تأمَّل العبرةَ التي ذكرها الله عز وجل في الأنعام وما أسقانا من بطونها من اللبن الخالص السَّائغ الهنيء المريء الخارج من بين الفَرْث والدَّم.
فتأمَّل كيف ينزلُ الغذاءُ من أفواهها إلى المعدة، فينقلبُ بعضُه بإذن الله دمًا يَسْري
(2)
في عروقها وأعضائها وشُعورها ولحومها، فإذا أرسلتْه العروقُ في مجاريها إلى جملة الأجزاء قَلَبه كلُّ عضوٍ وعَصَبٍ وغُضروفٍ وشَعرٍ وظُفرٍ وحافرٍ إلى طبيعته، ثمَّ يبقى الدَّمُ في تلك الخزائن التي له؛ إذ به قِوامُ الحيوان، ثمَّ ينصبُّ ثُفْله إلى الكِرْش فيصيرُ زِبْلاً، ثمَّ ينقلبُ باقيه لبنًا صافيًا أبيضَ سائغًا للشاربين، فيخرجُ من بين الفَرْث والدَّم، حتى إذا أُنهِكَت الشاةُ
(3)
ــ أو غيرها ــ حَلْبًا خرجَ الدَّمُ
(4)
مُشْرَبًا بحُمرته.
فصفَّى الله سبحانه الألطفَ من الثُّفْل بالطَّبخ الأوَّل، وانفصل إلى الكبد وصار دمًا، وكان مخلوطًا بالأخلاط الأربعة
(5)
؛ فأذهبَ الله عز وجل كلَّ خِلْطٍ منها إلى مقرِّه وخزانته المهيَّأة له من المرارة والطِّحال والكُلْية، وباقي الدَّم الخالص يدخلُ في أوردة الكبد، فينصبُّ من تلك العروق إلى الضَّرع،
(1)
انظر: «زاد المعاد» (4/ 34 ــ 36، 51، 224، 340، 356).
(2)
(ق): «وما يسري» . وهو تحريف. وصحِّحت في طرة (د).
(3)
(ح، ن): «أبهلت الشاة» ، ولم أجد في مادة (بهل) ما يناسب المقام.
(4)
كذا في الأصول. وهو سهوٌ وسبق قلم، أراد:«خرج اللبن» .
(5)
راجع ما قدَّمناه بشأنها (ص: 559).