المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تأمل خلق الأرض على ما هي عليه - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ تأمل خلق الأرض على ما هي عليه

فصل

(1)

ثمَّ‌

‌ تأمَّل خَلْقَ الأرض على ما هي عليه

، حين خُلِقَت واقفةً ساكنةً

(2)

لتكونَ مِهادًا ومستقرًّا للحيوان والنَّبات والأمتعة، ويتمكَّنَ الحيوانُ والنَّاسُ من السَّعي عليها في مآربهم، والجلوس لراحاتهم، والنوم لهدوئهم، والتمكُّن من أعمالهم، ولو كانت رَجْراجَةً متكفِّئةً

(3)

لم يستطيعوا على ظَهْرِها قرارًا ولا هدوءًا، ولا ثَبَتَ لهم عليها بناء، ولا أمكنهم عليها صناعةٌ ولا تجارةٌ ولا حِراثةٌ ولا مصلحة، وكيف كانوا يتهنَّون

(4)

بالعيش والأرضُ تَرتَجُّ

(5)

من تحتهم؟!

واعْتَبِر ذلك بما يصيبُهم من الزَّلازل، على قلَّة مكثها، كيف تصيِّرهم إلى ترك منازلهم والهرب عنها.

وقد نبَّه الله تعالى على ذلك بقوله: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15]، وقوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا} [غافر: 64]، وقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مِهَادًا

(6)

} [طه: 53، الزخرف: 10]،

(1)

«الدلائل والاعتبار» (13)، «توحيد المفضل» (91).

(2)

(ض): «راتبة راكنة» . (ر): «راتبة راكدة» .

(3)

(ق، ر، ض): «منكفئة» . والمثبت من باقي الأصول و «بحار الأنوار» (3/ 121، 57/ 87). والتكفُّؤ: التمايل. «اللسان» (كفأ).

(4)

(ن): «يهنأون» . (ق، د): «يتهنؤون» . والمثبت من (ت، ح، ض).

(5)

(ت): «ترتج بهم» .

(6)

أصلحها ناسخ (ح) ــ وتابعته المطبوعات ــ إلى: «مهدا» . وإنما قدَّم المصنفُ قراءة «مهادا» لأنها قراءة أبي عمرو، وهي قراءته وقراءة أهل الشام لعصره.

ص: 619

وفي القراءة الأخرى: {مَهْدًا}

(1)

.

وفي «جامع الترمذي»

(2)

وغيره من حديث أنس بن مالكٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لمَّا خلقَ الله الأرض جَعَلت تَمِيد، فخَلَق الجبالَ عليها فاستقرَّت، فعَجِبَت الملائكةُ من شدَّة الجبال، فقالوا: يا ربِّ، هل من خَلْقِك شيءٌ أشدُّ من الجبال؟ قال: نعم، الحديد. قالوا: يا ربِّ، هل من خَلْقِك من شيءٍ أشدُّ من الحديد؟ قال نعم، النَّار. قالوا يا ربِّ، فهل من خَلْقِك شيءٌ أشدُّ من النَّار؟ قال: نعم، الماء. قالوا: يا ربِّ، هل من خَلْقِك شيءٌ أشدُّ من الماء؟ قال: نعم، الرِّيح. قالوا: يا ربِّ، فهل من خَلْقِك شيءٌ أشدُّ من الرِّيح؟ قال: نعم، ابن آدم يتصدَّقُ صدقةً بيمينه يخفيها عن شماله» .

ثمَّ تأمَّل الحكمةَ البالغةَ في لُيونة الأرض مع يُبْسِها؛ فإنها لو أفرطَت في اللِّين ــ كالطِّين ــ لم يستقرَّ

(3)

عليها بناءٌ ولا حيوان

(4)

، ولا تمكَّنَّا

(5)

من

(1)

قرأ بها الكوفيون: عاصم وحمزة والكسائي. انظر: «التبصرة» لمكِّي (591).

(2)

(3369)، وأحمد (3/ 124)، وأبو يعلى (4310)، وغيرهم بإسنادٍ فيه سليمان بن أبي سليمان، لا يكاد يُعْرَف، وقد تفرَّد به عن أنسٍ مرفوعًا، وأورده الذهبي في ترجمته من «الميزان» (2/ 211).

وقال الترمذي: «هذا حديثٌ غريبٌ لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه» .

وخرَّجه الضياء في «المختارة» (2148، 2149، 2150)، وحسَّن إسناده ابن حجر في «الفتح» (2/ 147).

ورُوِي من وجهٍ آخر مقطوعًا من قول قيس بن عُباد، وهو أشبه، أخرجه أبو الشيخ في «العظمة» (873)، وغيره.

(3)

(ق): «يشتد» .

(4)

(ت): «حراث» .

(5)

(ت): «تمكن» .

ص: 620

الانتفاع بها، ولو أفرطَت في اليُبْس ــ كالحجر والحديد

(1)

ــ لم يمكن حرثُها ولا زرعُها، ولا شَقُّها ولا فَلْحُها، ولا حفرُ عُيونها ولا البناءُ عليها؛ فنَقَصَت عن يُبْس الحجارة وزادت على لُيونة الطِّين، فجاءت بتقدير ربها وفاطرها

(2)

على أحسن ما جاء عليه مِهادُ الحيوان

(3)

من الاعتدال بين اللِّين واليُبوسة، فتهيَّأ عليها جميعُ المصالح.

فصل

(4)

ثمَّ تأمَّل الحكمةَ البالغةَ في أنْ جَعَل مَهَبَّ الشَّمال عليها

(5)

أرفعَ من مَهَبِّ الجنوب

(6)

، وحكمةُ ذلك أن تنحدر

(7)

المياهُ على وجه الأرض فتسقيها وترويها ثمَّ تفيض فتصبَّ في البحر؛ فكما أنَّ الباني إذا رفعَ سطحًا رفعَ أحد جانبيه وخَفَض الآخرَ ليكون مصبًّا للماء، ولو جعله مستويًا لقام عليه الماءُ فأفسده، كذلك جُعِل

(8)

مَهَبُّ الشَّمال في كلِّ بلدٍ أرفعَ من مَهَبِّ الجنوب، ولولا ذلك لبقي الماءُ واقفًا

(9)

على وجه الأرض، فمنعَ النَّاسَ من العمل والانتفاع، وقطَعَ الطُّرقَ والمسالك، وأضرَّ بالخَلْق.

(1)

«والحديد» ليست في (ن، ح).

(2)

(ت): «ربها وخالقها وفاطرها» .

(3)

(ق، د): «مهاد للحيوان» .

(4)

«الدلائل والاعتبار» (13)، «توحيد المفضل» (91 - 92).

(5)

أي: الأرض.

(6)

انظر شرح المراد بهذا في «بحار الأنوار» (57/ 89).

(7)

(ن، ت، ح): «تتحدر» . والمثبت من (د، ق، ر، ض).

(8)

(ن، ح): «جعلت» . (ت): «فجعلت» .

(9)

(ر، ض): «متحيرا» .

ص: 621

أفيَحْسُنُ عند من له مُسْكةٌ من عقلٍ أن يقول: هذا كلُّه اتفاقٌ من غير تدبير العزيز الحكيم الذي أتقَنَ كلَّ شيء؟!

فصل

(1)

ثمَّ تأمَّل الحكمةَ العجيبةَ في الجبال التي قد يحسبُها الجاهلُ الغافلُ فَضْلةً في الأرض لا حاجة إليها. وفيها من المنافع ما لا يحصيه إلا خالقُها وناصِبُها.

وفي حديث إسلام ضِمام بن ثعلبة قولُه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: بالذي نَصَبَ الجبالَ وأودعَ فيها المنافع، آللهُ أمَرك بكذا وكذا؟ قال:«اللهمَّ نَعَم»

(2)

.

فمن منافعها: أنَّ الثَّلجَ يسقطُ عليها فيبقى في قُلَلِها حاملًا

(3)

لشراب النَّاس إلى حين نفاده، وجُعِل فيها ليذوبَ أوَّلًا فأوَّلًا، فتجري منه العيونُ

(4)

الغزيرة، وتسيل منه الأنهارُ والأودية، فيُنْبِتُ في المُروج والوِهاد

(5)

والرُّبى ضروبَ النَّبات والفواكه والأدوية التي لا يكونُ مثلُها في السَّهل والرِّمال.

فلولا الجبالُ لسقط الثَّلجُ على وجه الأرض فانحلَّ جملةً، وساحَ دَفْعةً

(6)

؛ فعُدِمَ وقت الحاجة إليه، وكان في انحلاله

(7)

جملةً السُّيولُ التي

(1)

«الدلائل والاعتبار» (14)، «توحيد المفضل» (96 - 97).

(2)

أخرجه مسلم (12) من حديث أنس بن مالك.

(3)

(ق، ح، ن، د): «حاصلا» .

(4)

(ح، ن): «السيول» . والمثبت من باقي الأصول و (ر، ض).

(5)

المواضع المنخفضة المطمئنة من الأرض. وفي (ق، ت): «المهاد» .

(6)

(د، ق): «وسال دفعة» .

(7)

(ن): «من انحلاله» .

ص: 622

تُهلِكُ ما مرَّت عليه، فيُضِرُّ بالنَّاس ضررًا لا يمكنُ تلافيه ولا دفعُ أذيَّته.

ومن منافعها: ما يكون في حُصونها وقُلَلِها

(1)

من المغارات والكهوف والمعاقل التي هي بمنزلة الحصون والقِلاع، وهي ــ أيضًا ــ أكنانٌ للنَّاس والحيوان.

ومن منافعها: ما يُنْحَتُ من أحجارها للأبنية على اختلاف أصنافها، والأرْحِيَة

(2)

وغيرها.

ومن منافعها: ما يوجدُ فيها

(3)

من المعادن على اختلاف أصنافها، من الذَّهب والفضة والنُّحاس والحديد والرَّصاص والزَّبَرْجَد والزُّمُرُّد وأضعاف ذلك من أنواع المعادن الذي يعجزُ البشرُ عن معرفتها على التفصيل، حتى إنَّ فيها ما يكونُ الشيءُ اليسيرُ منه تزيدُ قيمتُه ومنفعتُه على قيمة الذَّهب بأضعافٍ مضاعفة، وفيها من المنافع ما لا يعلمه إلا فاطرُها ومبدعُها سبحانه وتعالى.

ومن منافعها أيضًا: أنها تردُّ الرياحَ العاصفة، وتَكْسِرُ حِدَّتها، فلا تدعُها تَصْدِمُ ما تحتها؛ ولهذا السَّاكنون تحتها في أمانٍ من الرياح العِظام المؤذية.

ومن منافعها أيضًا: أنها تردُّ عنهم السُّيولَ إذا كانت في مجاريها، فتَصْرِفُها عنهم ذاتَ اليمين وذات الشمال، ولولاها لأَخْرَبَت

(4)

السُّيولُ في

(1)

جمع «قُلَّة» ، وهي أعلى الجبل. وقُلَّة كل شيء: أعلاه. «اللسان» .

(2)

جمع: رحى.

(3)

(ق، د): «يؤخذ منها» . والمثبت من باقي الأصول و (ر، ض).

(4)

(ن): «لخربت» . (ح): «خربت» .

ص: 623

مجاريها ما مرَّت به؛ فتكون لهم بمنزلة السَّدِّ والسِّكْر

(1)

.

ومن منافعها: أنها أعلامٌ يُسْتَدلُّ بها في الطُّرقات، فهي بمنزلة الأدلَّة المنصوبةِ المرشدَة إلى الطُّرق

(2)

، ولهذا سمَّاها الله أعلامًا؛ فقال:{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الشورى: 32]، فالجواري: هي السُّفن، والأعلامُ: الجبال؛ واحدُها عَلَم.

قالت الخنساء

(3)

:

وإنَّ صَخْرًا لتأتمُّ الهُداةُ به

كأنه عَلَمٌ في رأسِه نارُ

فسُمِّي الجبلُ عَلَمًا من العلامة والظُّهور.

ومن منافعها أيضًا: ما ينبتُ فيها من العقاقير والأدوية التي لا تكونُ في السُّهول والرمال، كما أنَّ ما ينبتُ في السُّهول والرمال لا ينبتُ مثلُه في الجبال، وفي كلٍّ من هذا وهذا منافعُ وحِكَمٌ لا يحيطُ بها إلا الخلَّاقُ العليم

(4)

.

(1)

وهو ما يُسَدُّ به الشقُّ ومُنفَجَر الماء. «اللسان» (سكر). وتحرفت في (د، ق، ت، ن) إلى: «والسكن» . وانظر استعمال المصنف له في «المدارج» (1/ 191)، و «عدة الصابرين» (111).

(2)

هل في هذا إشارةٌ إلى نصب الناس في عهد المصنف علاماتٍ وإشاراتٍ على الطرق تهدي المسافرين؟!. وانظر: «رحلة ابن بطوطة» (4/ 22).

(3)

من كلمةٍ بليغةٍ في رثاء أخيها. ديوانها (49)، و «التعازي والمراثي» (100)، وغيرهما.

(4)

(ت): «الواحد الخلاق العليم» .

ص: 624

ومن منافعها: أنها تكون حُصونًا من الأعداء، يتحرَّزُ فيها عبادُ الله من أعدائهم كما يتحصَّنون بالقِلاع، بل تكونُ أبلغَ وأحصنَ من كثيرٍ من القِلاع والمدن.

ومن منافعها: ما ذكره الله تعالى في كتابه أنه جَعَلها للأرض أوتادًا تثبِّتها، ورواسي بمنزلة مراسي السُّفن، وأعْظِم بها منفعةً

(1)

وحكمة.

هذا، وإذا تأمَّلْتَ خِلْقَتها العجيبةَ البديعةَ على هذا الوضع وجدتها في غاية المطابقة للحكمة:

فإنها لو طالت واستَدَقَّت كالحائط، لتعذَّر الصُّعودُ عليها والانتفاعُ بها وسَتَرَت عن النَّاس الشمسَ والهواءَ فلم يتمكَّنوا من الانتفاع بها.

ولو بُسِطَت على وجه الأرض، لضيَّقت عليهم المزارعَ والمساكن، ولملأت السَّهْل، ولما حصل لهم بها الانتفاعُ من التَّحصُّن والمغارات والأكنان، ولما سَتَرَت عنهم الرياح، ولما حَجَبَت السُّيول.

ولو جُعِلَت مستديرةً على الكُرة

(2)

لم يتمكَّنوا من صُعودها، ولما حَصَل لهم بها الانتفاعُ التَّام.

فكان أولى الأشكال والأوضاع بها وأليقَها وأوقعَها على وَفْق المصلحة هذا الشكلُ الذي نُصِبَت عليه.

ولقد دعانا الله سبحانه في كتابه إلى النَّظر فيها وفي كيفيَّة خلقها؛ فقال: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ

(1)

(ح، ن): «من منفعة» .

(2)

(ح): «شكل الكرة» . (ن): «مثل الكرة» .

ص: 625

كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17 - 20].

فخَلْقُها ومنافعُها من أكبر الشواهد على قدرة باريها

(1)

وفاطرها، وعلمه وحكمته ووحدانيَّته.

هذا مع أنها تسبِّحُ بحمده، وتخشعُ له، وتسجدُ له، وتتشقَّقُ وتهبطُ من خشيته، وهي التي خافت من ربها وفاطرها وخالقها ــ على شدَّتها وعِظَم خَلْقِها ــ من الأمانة إذ عَرَضَها عليها وأشفَقَت مِنْ حملِها.

ومنها: الجبلُ الذي تجلَّى له ربُّه فساخَ وتَدكْدَك.

ومنها: الجبلُ الذي كلَّم اللهُ عليه موسى كليمَه ونَجِيَّه.

ومنها: الجبلُ الذي حَبَّبَ اللهُ رسولَه وأصحابَه إليه، وأحبَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه

(2)

.

ومنها: الجبلان اللذان جعلهما الله سُورًا

(3)

على بيته، وجَعَل الصَّفا في ذيل أحدهما والمروةَ في ذيل الآخر، وشرع لعباده السَّعيَ بينهما، وجَعَله من مناسكهم ومُتَعبَّداتهم.

ومنها: جبلُ الرحمة المنصوبُ عليه ميدانُ عرفات

(4)

، فلِلَّه كم به

(5)

(1)

(ت): «بانيها» .

(2)

وهو جبلُ أحد، كما في الصحيحين.

(3)

(ح، ن): «ستورا» . وفوقها في (د) بخطٍّ دقيق: «كذا» .

(4)

وهو جبل إلال (على وزن: هلال). وتسميته بـ «جبل الرحمة» محدثة، ووقعت في كلام كثير من العلماء. انظر:«شرح مسلم» للنووي (8/ 185)، و «مجموع الفتاوى» (26/ 133، 161)، و «تفسير ابن كثير» (2/ 515)، وغيرها. وللشيخ بكر أبو زيد فيه جزءٌ مطبوع.

(5)

«به» ليست في (ن، ح).

ص: 626

من ذنبٍ مغفور، وعَثْرةٍ مُقالة، وزلَّةٍ معفُوٍّ عنها، وحاجةٍ مقضيَّة، وكربةٍ مفروجة، وبليَّةٍ مدفوعة، ونعمةٍ متجدِّدة، وسعادةٍ مُكتَسبة، وشقاوةٍ ممحُوَّة!

كيف، وهو الجبلُ المخصوصُ بذلك الجمع الأعظم والوفد الأكرم الذين جاؤوا من كلِّ فجٍّ عميق، وقوفًا لربِّهم، مستكينين لعظمته، خاضعين

(1)

لعزَّته، شُعثًا غُبرًا، حاسرين عن رؤوسهم، يستقيلونه عثراتهم، ويسألونه حاجاتهم، فيدنو منهم، ثمَّ يُباهي بهم الملائكة؟! فلِلَّه ذاك الجبلُ وما ينزلُ عليه من الرحمة والتَّجاوُز عن الذُّنوب العِظام!

ومنها: جبلُ حراءَ الذي كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يخلو فيه بربِّه

(2)

، حتى أكرمه الله برسالته

(3)

وهو في غاره، فهو الجبلُ الذي فاض منه النُّورُ على أقطار العالم، فإنه ليفخَرُ على الجبال، وحُقَّ له ذلك.

فسبحان من اختَصَّ برحمته وتكريمه من شاء من الجبال والرِّجال، فجَعَل منها جبالًا هي مِغْناطيسُ القلوب كأنها مركَّبةٌ منها، فهي تَهْوِي إليها كلَّما ذكرتْها وتهفُو نحوَها، كما اختَصَّ من الرِّجال من اختصَّه بكرامته، وأتمَّ عليه نعمتَه، ووضع عليه محبَّةً منه؛ فأحبَّه وحبَّبه إلى ملائكته وعباده المؤمنين ووَضَع له القبولَ بينهم.

وإذا تأمَّلتَ البِقاعَ وجدتَها

تشقى كما تشقى الرِّجالُ وتَسْعَدُ

(4)

(1)

(ت): «برسالاته» .

(2)

كما أخرجه البخاري (3)، ومسلم (160) من حديث عائشة.

(3)

(ق): «خاضعين لعزته» .

(4)

البيت لأبي تمام في ديوانه بشرح التبريزي (3/ 195)، و «وفيات الأعيان» (1/ 443). وفي «الوفيات»:«تشقى الرجال وتنعم» . ورواية الديوان:

* تثري كما تثري الرجال وتنعم *

وبالرواية التي أورد المصنف في ديوان ابن نباتة وكثيرٍ من المصادر دون نسبة.

ص: 627

فدَع عنكَ الجبلَ الفلاني، وجبلَ بني فُلان، وجبلَ كذا

(1)

.

خُذ ما تراهُ ودَع شيئًا سَمِعتَ به

في طَلْعة الشَّمس ما يُغْنِيكَ عن زُحَلِ

(2)

هذا؛ وإنها لتَعْلمُ أنَّ لها موعدًا ويومًا تُنْسَفُ فيها نسفًا وتصيرُ كالعِهْن

(3)

من هَوْلِه وعِظَمِه، فهي مشفقةٌ من هَوْل ذلك الموعد منتظرةٌ له.

وكانت أمُّ الدَّرداء رضي الله عنها إذا سافرَت فصعدَت على جبلٍ تقولُ لمن معها: أَسْمِع الجبالَ ما وَعَدَها ربُّها فيقول: ما أُسْمِعُها؟ فتقول: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [طه: 105 - 107]

(4)

.

فهذا حالُ الجبال وهي الحجارةُ الصُّلبة، وهذه رِقَّتُها وخشيتُها وتَدَكْدُكُها من جلال ربها وعظمته، وقد أخبر عنها فاطرُها وباريها أنه لو أنزل عليها كلامَه لخشَعَت ولتصدَّعَت من خشيته.

فيا عجبًا مِنْ مضغة لحمٍ أقسى من هذه الجبال! تسمعُ

(5)

آيات الله تتلى عليها، ويُذْكَرُ الرَّبُّ تبارك وتعالى، فلا تَلِينُ ولا تخشع ولا تُنِيب

(6)

فليس

(1)

أي: من الجبال التي لم تثبت لها فضيلةٌ خاصة، ويتوهَّم الجهلةُ فيها ذلك.

(2)

تقدم تخريجُ البيت (ص: 418).

(3)

وهو الصُّوف. «اللسان» (عهن).

(4)

أخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (22/ 342).

(5)

(ق، ت، ح): «يسمع» .

(6)

(د، ق، ت، ح): «يلين ولا يخشع ولا ينيب» .

ص: 628

بمُسْتَنْكَرٍ لله عز وجل ولا يخالفُ حكمتَه أن يخلقَ لها نارًا تُذِيبُها إذْ لم تَلِن لكلامه

(1)

وذِكْره وزواجره ومواعظه.

فمن لم يَلِن لله في هذه الدَّار قلبُه، ولم يُنِب إليه، ولم يُذِبْهُ بحبِّه والبكاء من خشيته، فليتمتَّع قليلًا، فإنَّ أمامه المُلَيِّن الأعظم، وسيُردُّ إلى عالِم الغيب والشَّهادة فيَرى ويَعْلَم.

فصل

ولمَّا اقتضت حكمتُه تبارك وتعالى أنْ جَعَل من الأرض السَّهْلَ والوَعْر

(2)

، والجبالَ والرِّمال؛ ليُنتَفعَ بكلِّ ذلك

(3)

في وَجْهِه، ويحصُل منه ما خُلِقَ له، وهُيِّئت الأرض بهذه الآية

(4)

= لَزِمَ من ذلك أن صارت كالأمِّ التي تحملُ في بطنها أنواعَ الأولاد من كلِّ صنف، ثمَّ تُخْرِجُ إلى النَّاس والحيوان من ذلك ما أذِنَ لها فيه ربُّها أن تخرجَه، إمَّا بعلمهم

(5)

، وإمَّا بدونه، ثمَّ يردُّ إليها ما خرج منها.

وجَعَلها سبحانه كِفاتًا للأحياء ما داموا على ظهرها، فإذا ماتوا استُودِعَتْهم

(6)

في بطنها فكانت كِفاتًا لهم؛ تَضُمُّهم على ظهرها أحياءً وفي بطنها أمواتًا، فإذا كان يومُ الوقت المعلوم وقد أثقَلَها الحَمْلُ وحانَ وقتُ

(1)

(د، ق، ت، ح): «على كلامه» .

(2)

(ق، ت، د): «السهول والوعور» .

(3)

(ن): «بكل شيء» .

(4)

كذا في الأصول. ولعلها: الهيأة. وفي (ط): «المثابة» .

(5)

(ت): «بعلمه» . (ح، ن): «بعملهم» .

(6)

(ق، د): «استودعهم» .

ص: 629

الولادة ودنا المَخاض

(1)

، أوحى إليها ربُّها وفاطرُها أن تضع حملَها وتُخرِجَ أثقالها، فتُخرِج النَّاسَ من بطنها إلى ظهرها، وتقول: ربِّ هذا ما اسْتَوْدَعْتَني، وتُخرِجُ كنوزَها بإذنه تعالى، ثمَّ تحدِّثُ أخبارَها، وتشهدُ على بَنِيها بما عملوا على ظهرها من خيرٍ أو شرٍّ.

فصل

ولما كانت الرياح تَجُولُ فيها

(2)

، وتدخلُ في تجاويفها، وتُحْدِثُ فيها الأبخِرَة، فتختنقُ

(3)

الرياح، ويتعذَّرُ عليها المنفَذ= أَذِنَ الله سبحانه لها في الأحيان بالتنفُّس، فتُحْدِثُ فيها الزَّلازلَ العِظام

(4)

، فيحدثُ من ذلك لعباده الخوفُ والخشيةُ والإنابةُ والإقلاعُ عن معاصيه والتضرُّعُ إليه والنَّدم

(5)

.

كما قال بعض السَّلف وقد زُلزِلت الأرض: «إنَّ ربَّكم يَسْتَعْتِبكم»

(6)

.

وقال عمر بن الخطَّاب، وقد زُلزِلت المدينة، فخطَبهم ووعظهم، وقال:«لئن عادت لا أساكِنكم فيها»

(7)

.

(1)

(ن، ح): «ودنو المخاض» .

(2)

أي: في الأرض.

(3)

(د، ق، ت): «وتنخنق» . (ح): «وتتخفق» .

(4)

انظر: «مجموع الفتاوى» (24/ 264).

(5)

(ق، ت): «والتوبة» .

(6)

تقدم تخريجه (ص: 340).

(7)

أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 473)، وابن أبي الدنيا في «العقوبات» (20)، والبيهقي (3/ 342) بإسنادٍ صحيح.

ص: 630

فصل

(1)

ثمَّ تأمَّل حكمةَ الله عز وجل في عِزَّة هذين النقدين: الذَّهب والفضة، وقصور حيلة

(2)

العالَم عما حاولوا من صَنْعَتهما والتشبُّه بخَلْق الله إياهما، مع شدَّة حرصهم وبلوغ أقصى جهدهم واجتهادهم في ذلك، فلم يظفروا بسوى الصِّبغة

(3)

.

ولو مُكِّنوا من أن يصنعوا مثلَ ما خَلَق الله من ذلك لفَسَد أمرُ العالَم، واستفاض الذَّهبُ والفضةُ في النَّاس حتى صارا كالشَّقَف

(4)

والفَخَّار، وكانت تتعطَّل المصلحةُ التي وُضِعَا لأجلها، وكانت كثرتُهما جدًّا سببَ تعطُّل الانتفاع بهما؛ فإنه لا يبقى لهما قيمة

(5)

، ويبطُل كونُهما قِيَمًا لنفائس

(1)

«الدلائل والاعتبار» (14 - 15)، «توحيد المفضل» (98).

(2)

(ح): «حيرة» . (ت): «همة» .

(3)

(ق، د): «الضيعة» . (ت): «الصيغة» . والمثبت أدنى إلى الصواب. فإن غاية ما يمكنهم هو صبغ النحاس مثلًا بصبغ الفضة. انظر: «تفسير ابن كثير» (6/ 2675)، و «البداية والنهاية» (2/ 204)، و «شرح المقاصد» للتفتازاني (1/ 374). وكان أصحاب هذه الصناعة يقولون عن أنفسهم:«نحن صبَّاغون» ! «مجموع الفتاوى» (29/ 369).

وفي (ح، ن): «الصنعة» ، وهي قراءة محتملة؛ فالكيمياء يشبَّه فيها المصنوع بالمخلوق. قال ابن تيمية:«ومن زعم أن الذهب المصنوع مثل المخلوق فقوله باطلٌ في العقل والدين» . «الفتاوى» (29/ 368). وكانت كتب الكيمياء تسمى «كتب الصَّنعة» . انظر: المقالة العاشرة من «الفهرست» للنديم، و «مجموع الفتاوى» (29/ 378).

(4)

وهو الخزف المكسَّر. «اللسان» (شقف).

(5)

(ح، ن): «قيمة نفيسة» .

ص: 631

الأموال والمعاملات وأرزاق المقاتِلَة

(1)

، ولم يتسخَّر بعضُ النَّاس لبعض؛ إذ يصيرُ الكلُّ أربابَ ذهبٍ وفضَّة، فلو أغنى خلقَه كلَّهم لأفقَرهم كلَّهم

(2)

، فمن يرضى لنفسه بامتهانها في الصَّنائع التي لا قِوامَ للعالَم إلا بها؟!

فسبحان من جَعَل عِزَّتهما سببَ نظام العالَم، ولم يجعلهما في العزَّة كالكبريت الأحمر الذي لا يوصلُ إليه

(3)

، فتفوتُ المصلحةُ بالكلِّيَّة، بل وضعهما وبثَّهما في العالَم بقَدْرٍ اقتضته حكمتُه ورحمتُه ومصالحُ عباده.

وقرأتُ بخطِّ الفاضل جبريل بن نوح

(4)

الأنباري، قال: أخبرني بعض من تداوَل المعادنَ

(5)

أنهم أوغَلوا في طلبها إلى بعض نواحي الجبل، فانتهوا إلى موضعٍ رأوا فيه

(6)

أمثال الجبال من الفضة، ومن دون ذلك وادٍ يجري مُنْصَلِتًا

(7)

بماءٍ غزيرٍ لا يُدْرَك

(8)

، ولا حيلة في عُبوره، فانصرفوا إلى حيث يعملون ما يَعْبُرون به، فلمَّا هيَّؤوه وعادوا راموا طريقَ النَّهر فما وقعوا

(9)

له

(1)

لعله يريد: الغنائم. وفي (ح): «المعاملة» .

(2)

ليست في (ت، ح، ن).

(3)

انظر: «تاج العروس» (كبرت)، والتعليق على «الحيوان» (5/ 95).

(4)

(ق، د، ت): «روح» . ولعله مؤلف الكتاب أو ناسخه، كما مر في المقدمة.

(5)

(ق، د): «يداول المعادن» .

(6)

(ح، ن): «وإذا فيه» .

(7)

شديد الجري. وفي الأصول: «متصلبا» . (ر): «متصلًا» . والمثبت من (ض).

(8)

(ض): «لا يدرك غوره» .

(9)

، ن»:«وقفوا» .

ص: 632

على أثر، ولا عرفوا إلى أين يتوجَّهون، فانصرفوا آيسين!

(1)

.

وهذا أحدُ ما يدلُّ على بطلان صناعة الكيمياء

(2)

،

وأنها عند التحقيق زَغَلٌ وصِبغةٌ

(3)

لا غير، وقد ذكرنا بطلانها وبيَّنَّا فسادَها من أربعين وجهًا في رسالةٍ مفردة

(4)

.

(1)

الخبر في مطبوعة «توحيد المفضل» مختصرًا، دون لفظ «أخبرني»:«ومن أوغل في المعادن انتهى إلى وادٍ عظيم يجري منصلتًا بماءٍ غزير لا يدرك غوره، ولا حيلة في عبوره، ومن ورائه أمثال الجبال من الفضة» . كأنه مثلٌ مضروبٌ لا قصةٌ محكية. وبنحو ما أورده المصنف في نسخة «الدلائل» المنسوبة للجاحظ (15).

(2)

وهي عند القدماء: علمٌ يُعرَفُ به طرقُ سَلب الخواصِّ من الجواهر المعدنية، وإفادتها خواصَّ لم تكن لها، ولا سيَّما تحويلها إلى ذهب.

واختلفوا في صحتها وإمكانها على قولين مشهورين، وممن قال ببطلانها: ابن سينا، ويعقوب بن سنان الكندي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والأكثرون. واحتجوا بأدلةٍ مادِّية وشرعية وعقلية.

انظر: «الإمتاع والمؤانسة» (2/ 38)، و «الهوامل والشوامل» (324)، و «الغيث الذي انسجم» (1/ 9)، و «كشف الظنون» (2/ 1526).

وعند المُحْدَثين: علمٌ يُبحَثُ فيه عن خواصِّ العناصر المادية، والقوانين التي تخضع لها في الظروف المختلفة، وبخاصةٍ عند اتحاد بعضها ببعض.

انظر: «المعجم الوسيط» (808)، و «المعجم الفلسفي» (2/ 254).

والخلافُ السابق لا يجري على هذا العلم؛ لاختلاف حقيقته عن الأول.

(3)

(ت): «وصيغة» . (ن، ح): «وصنعة» . والمثبت من (د، ق)، وهو أقرب، كما تقدم.

(4)

ذكرها ابن رجب والداوودي وغيرهما. انظر: «ابن القيم» للشيخ بكر (223). ولم يُعثَر عليها بعد، وذكر بعضهم وجودها في إحدى المكتبات الخاصة.

وانظر: «الطرق الحكمية» (630).

ولشيخ الإسلام ابن تيمية رسالةٌ في إبطالها. انظر: «العقود الدرية» (77). وردَّ عليه نجم الدين الربعي برسالة. انظر: «أعيان العصر» (3/ 101)، و «الغيث الذي انسجم» (1/ 9). وانظر:«مجموع الفتاوى» (28/ 72، 29/ 368 - 391).

ص: 633

والمقصودُ أنَّ حكمةَ الله تعالى اقتضت عِزَّة هذين الجوهرَين وقلَّتهما بالنسبة إلى الحديد والنُّحاس والرَّصاص؛ لصلاح أمر النَّاس

(1)

.

واعتَبِر ذلك بأنه إذا ظهرَ الشيءُ الظَّريفُ المستَحسَنُ مما يحدِثُه النَّاسُ من الأمتعة، كان نفيسًا عزيزًا ما دام فيه قِلَّةٌ وهو مرغوبٌ فيه، فإذا فشا وكثُر في أيدي النَّاس وقَدَرَ عليه الخاصُّ والعامُّ سقط عندهم وقلَّت رغباتُهم فيه، ومن هذا قولُ القائل:«نفاسةُ الشيء مِنْ عِزَّتِه»

(2)

، ولهذا كان أزهدَ النَّاس في العالِم أهلُه وجيرانُه وأرغبَهم فيه البُعداءُ عنه.

فصل

(3)

وتأمَّل الحكمةَ البديعةَ في تيسيره سبحانه على عباده ما هم أحوجُ إليه وتوسيعه وبَذْلِه، فكلَّما كانوا أحوجَ إليه كان أكثرَ وأوسع، وكلَّما استغنَوا عنه كان أقلَّ، وإذا توسَّطت الحاجةُ توسَّط وجودُه، فلم يكن بالعامِّ ولا بالنادر، على مراتب الحاجات وتفاوتها.

فاعتَبِر هذا بالأصول الأربعة: التُّراب والماء والهواء والنَّار، وتأمَّل سَعة ما خلق الله منها وكثرتَه وعمومَه.

فتأمَّل سَعة الهواء وعمومَه ووجودَه بكلِّ مكان؛ لأنَّ الحيوانَ المخلوق

(1)

(ح، ن): «أمر المسلمين» .

(2)

انظر: «المثل السائر» (1/ 101).

(3)

«الدلائل والاعتبار» (15)، «توحيد المفضل» (90، 93).

ص: 634

في البرِّ لا يمكنُه الحياةُ إلا به، فهو معه أين كان وحيثُ كان؛ لأنه لا يستغني عنه لحظةً واحدة، ولولا كثرتُه وسَعتُه وامتدادُه في أقطار العالم لاختنقَ أهل العالَم

(1)

من الدُّخان والبُخَار المتصاعد المُنعقِد.

فتأمَّل حكمةَ ربك في أنْ سخَّر له الرياح، فإذا تصاعدَ إلى الجوِّ أحالتهُ سحابًا أو ضبابًا، فأذهبَت عن العالم شرَّه وأذاه.

فسَلِ الجاحدَ: من الذي دبَّر هذا التَّدبيرَ وقدَّر هذا التقدير؟ وهل يقدرُ أهل العالَم

(2)

كلُّهم لو اجتمعوا أن يُحِيلوا ذلك ويقلبوه سحابًا أو ضبابًا، أو يُذْهِبوه عن النَّاس ويكشفوه عنهم؟

ولو شاء ربُّه تعالى لحبَسَ عنه الرياح فاختنقَ على وجه الأرض، فأهلَك ما عليها من الحيوان والنَّاس.

فصل

(3)

ومِنْ ذلك: سَعةُ هذه الأرض وامتدادُها، ولولا ذلك لضاقت عن مساكن الإنس والحيوان، وعن مزارعهم ومراعيهم، ومنابت ثمارهم وأعشابهم.

فإن قلت: فما حكمةُ هذه القِفَار الخالية، والفَلَوات الفارغة المُوحِشَة؟

فاعلم أنَّ فيها معايشَ

(4)

ما لا يحصيه إلا الله من الوحوش والدَّوابِّ، وعليها أرزاقُهم، وفيها مَطْرَدُهم ومنزلهم؛ كالمدن والمساكن للإنس، وفيها

(1)

(ت): «كل العالم» . (ن، ح): «لاختنق العالم» . (ر، ض): «هذا الأنام» .

(2)

(ت، ن): «يقدر العالم» .

(3)

«الدلائل والاعتبار» (16)، «توحيد المفضل» (90، 92).

(4)

(د، ق): «معاش» .

ص: 635

مجالهم ومرعاهم ومَصِيفُهم ومَشْتاهُم.

ثمَّ فيها ــ بعدُ ــ متَّسعٌ ومتنفَّسٌ للنَّاس ومُضطرَبٌ إذا احتاجوا إلى الانتقال والبَدْوِ

(1)

والاستبدال بالأوطان؛ فكم من بيداءَ سَمْلَقٍ

(2)

صارت قصورًا

(3)

وجِنانًا ومساكن. ولولا سَعةُ الأرض وفَسْحُها

(4)

لكان أهلُها كالمحصورين والمحبوسين في أماكنهم، لا يجدون عنها انتقالًا إذا فَدَحَهم

(5)

ما يزعجُهم عنها ويضطرُّهم إلى النُّقلة منها.

وكذلك الماء، لولا كثرتُه وتدفُّقه في الأودية والأنهار لضاق عن حاجة النَّاس إليه، ولغَلَبَ القويُّ فيه الضعيفَ واستبدَّ به دونه، فيحصلُ الضررُ وتَعْظُمُ البليَّة، مع شدَّة حاجة جميع الحيوان إليه من الطَّير والوحوشِ والسِّباع، فاقتضت الحكمةُ أن كان بهذه الكثرة والسَّعة في كلِّ وقت.

وأما النَّار، فقد تقدَّم أنَّ الحكمةَ اقتضت كُمونَها

(6)

؛ متى شاء العبدُ أَوْراها عند الحاجة، فهي وإن لم تكن مبثوثةً

(7)

في كلِّ مكانٍ فإنها عَتِيدةٌ

(8)

حاصلةٌ متى احتيجَ إليها، واسعةٌ لكلِّ ما يُحتاجُ إليه منها، غير أنها مُودَعةٌ في أجسامٍ جُعِلَت معادنَ لها؛ للحكمة التي تقدَّمت.

(1)

(ت): «والبدول» .

(2)

وهي: القَفْر الذي لا نبات فيه. أو القاع المستوى الأملس. «اللسان» (سملق).

(3)

(ض): «فكم بيداء وكم فدفد حالت قصورا» .

(4)

(ر، ض): «وفسحتها» .

(5)

(ق، ت، ح، ن): «قدحهم» .

(6)

(ح): «كونها» .

(7)

(ن): «مشبوبة» .

(8)

أي: حاضرةٌ مُعَدَّة. «اللسان» (عتد).

ص: 636

فصل

(1)

ثمَّ تأمَّل الحكمةَ البالغةَ في نزول المطر على الأرض من عُلوٍّ ليعُمَّ بسَقْيه وِهادَها وتِلالها، وظِرابها وآكامها، ومنخفَضها ومرتفعَها، ولو كان ربها تعالى إنما يسقيها

(2)

من ناحيةٍ من نواحيها لما أتى الماءُ على الناحية المرتفعة إلا إذا اجتمع في السُّفلى وكثُر، وفي ذلك ضررٌ وفساد.

فاقتضت حكمتُه أن سقاها من فوقها؛ فينشاءُ سبحانه السَّحابَ ــ وهي روايا الأرض ــ، ثمَّ يرسلُ الرياح فتحملُ الماءَ من البحر وتَلْقَحُها به كما يَلْقَحُ الفحلُ الأنثى. ولهذا تجدُ البلادَ القريبة من البحر كثيرةَ الأمطار، وإذا بَعُدَت من البحر قلَّ مطرُها

(3)

.

وفي هذا المعنى قولُ الشاعر

(4)

يصفُ السَّحاب:

شَرِبْنَ بماءِ البحرِ ثمَّ تَرفَّعَتْ

متى لُجَجٍ خُضْرٍ لهنَّ نَئيجُ

(5)

(1)

«الدلائل والاعتبار» (17)، «توحيد المفضل» (95 - 96).

(2)

(ر، ض): «يأتيها» .

(3)

نقل ناسخ (ح) في الطرَّة بعض كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في تكوُّن المطر.

وانظر: «منهاج السنة» (5/ 439 - 444)، و «مجموع الفتاوى» (16/ 16، 24/ 262)، و «شروح سقط الزند» (1/ 355)، و «إضاءة الراموس» (1/ 195).

(4)

وهو أبو ذؤيب الهذلي. من كلمةٍ في «ديوان الهذليين» (1/ 50). وتخريج البيت في «شرح أشعار الهذليين» (3/ 1387).

(5)

«متى لجج» يعنى: مِنْ لجج. و «لهن نئيج» أي: مَرٌّ سريعٌ بصوت. انظر: «خزانة الأدب» (7/ 97).

ص: 637

وفي «الموطَّأ»

(1)

مرفوعًا، وهو أحدُ الأحاديث الأربعة المقطوعة

(2)

: «إذا نَشَأت سحابةٌ بحريَّةً ثمَّ تشاءمت فتلك عينٌ غُدَيْقَة»

(3)

.

والله سبحانه ينشاء الماءَ في السَّحاب إنشاءً، تارةً يَقْلِبُ الهواءَ ماءً

(4)

وتارةً يحملُه الهواءُ من البحر فيَلْقَحُ به السَّحابَ ثمَّ ينزلُ منه على الأرض للحكمة التي ذكرناها، ولو أنه ساقه من البحر إلى الأرض جاريًا على ظهرها لم يحصُل عمومُ السَّقي إلا بتخريب كثيرٍ من الأرض، ولم يحصُل عمومُ السَّقي لأجزائها.

فصاعَدَه

(5)

سبحانه إلى الجوِّ بلُطفه وقدرته، ثمَّ أنزله على الأرض

(1)

(517) بلاغًا. وأخرجه موصولًا الطبراني في «الأوسط» (7757)، وابن أبي الدنيا في «المطر» (42)، وأبو الشيخ في «العظمة» (722)، عن عائشة مرفوعًا بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا.

وأخرجه الشافعي في «الأم» (2/ 561) من وجهٍ آخر مرسلًا، وإسناده شديد الضعف.

وانظر: «التمهيد» (24/ 377)، و «فتح الباري» لابن رجب (9/ 266).

(2)

ذكر ابن عبد البر في «تجريد التمهيد» (242، 249، 253) أن في «الموطأ» من بلاغات مالك ومرسلاته واحدًا وستين حديثًا، وجَدَها كلَّها متصلةً، حاشا أربعة أحاديث لم يستطع وَصْلَها، وهذا الحديثُ أحدها. وقد صنف ابنُ الصلاح رسالةً في وصل هذه الأحاديث، مطبوعة بذيل «توجيه النظر» للجزائري، وكلامُه عن هذا الحديث فيها (2/ 928).

(3)

«نشأت» : ابتدأت وارتفعت. «بحرية» : من ناحية البحر. «تشاءمت» : أخذت نحو الشام. «فتلك عينٌ غُدَيقة» : سحابةٌ يكون ماؤها غزيرًا.

(4)

(ق): «بقلب الهواء ماء» .

(5)

(ح، ن): «فباعده» .

ص: 638

بغايةٍ

(1)

من اللُّطف والحكمة التي لا اقتراحَ لجميع عقول الحكماء فوقها فأنزله ومعه رحمتُه على الأرض.

فصل

(2)

ثمَّ تأمَّل الحكمةَ البالغةَ في إنزاله بقَدْر الحاجة، حتى إذا أخذت الأرضُ حاجتَها منه، وكان تتابعُه عليها بعد ذلك يضرُّها= أقلَع عنها وأعقَبه بالصَّحو، فهما ــ أعني الصَّحوَ والغَيم ــ يَعْتَقِبان

(3)

على العالم لما فيه صلاحُه، ولو دام أحدُهما كان فيه فسادُه.

فلو توالت الأمطارُ لأهلكت ما على الأرض، ولو زادت على الحاجة أفسدت الحبوبَ والثِّمار، وعفَّنت الزروعَ والخضروات، وأرخَت الأبدان

(4)

، وخثَّرت

(5)

الهواء، فحدثَت ضروبٌ من الأمراض، وفَسَد أكثرُ المآكل، وتقطَّعت المسالكُ والسُّبل.

ولو دام الصَّحوُ لجفَّت الأبدان، وغِيض الماءُ، وانقطع مَعِينُ العيون والآبار والأنهار والأودية، وعَظُمَ الضرر، واحْتَدَم الهواء

(6)

، فيَبِسَ ما على الأرض، وجفَّت الأبدان، وغَلَب اليُبْس، فأحدثَ ذلك ضُروبًا من الأمراض

(1)

في الأصول: «بعناية» . تحريف.

(2)

«الدلائل والاعتبار» (18)، «توحيد المفضل» (94 - 95).

(3)

(ح): «معتقبان» . (ن): «متعاقبان» . (ض): «يتعاقبان» .

(4)

(ر، ض): «واسترخت أبدان الحيوان» .

(5)

جعلته خاثرًا، لتشبعه بالرطوبة. (ح، ن): «وحرت» . (ض): «وحصر» . وفي «البحار» (3/ 125، 56/ 385): «وخصر» . خَصِر: اشتدَّ بردُه.

(6)

اشتدت حرارته.

ص: 639

عَسِرة الزَّوال.

فاقتضت حكمةُ اللطيف الخبير أنْ عاقَبَ بين الصَّحو والمطر على هذا العالم؛ فاعتدل الأمرُ، وصَحَّ الهواءُ، ودَفَع كلُّ واحدٍ منهما عادِيَة الآخر

(1)

، واستقام أمرُ العالم وصلح.

فصل

(2)

ثمَّ تأمَّل الحكمةَ الإلهيَّة في إخراج الأقوات والثِّمار والحبوب والفواكه متلاحقةً شيئًا بعد شيء، متتابعةً، ولم يخلقها كلَّها جملةً واحدة؛ فإنها لو خُلِقَت كذلك على وجه الأرض، ولم تكن تَنبتُ على هذه السُّوق والأغصان، لدَخَل الخللُ وفاتت المصالحُ التي رُتِّبت على تلاحُقها وتتابُعها؛ فإنَّ كلَّ فصلٍ وأوانٍ يقتضي من الفواكه والثِّمار

(3)

غيرَ ما يقتضيه الفصلُ الآخر، فهذا حارٌّ وهذا باردٌ وهذا معتدل، وكلٌّ في فصله موافقٌ للمصلحة لا يليقُ به غيرُ ما خُلِقَ فيه.

ثمَّ إنه سبحانه خلق تلك الأقواتَ مقارِنةً لمنافعَ أخرَ من العَصْف والخشب، والوَرَق والنَّوْر

(4)

، والسَّعَف والكَرَب

(5)

، وغيرها من منافع النَّبات والشَّجر غير الأقوات، كعَلَف

(6)

البهائم، وآلات الأبنية والسُّفُن والرِّحال والأواني وغيرها، ومنافعِ النَّوْر من الأدوية والمنظر البهيج الذي

(1)

(ن، ح): «عادة الآخر» .

(2)

«الدلائل والاعتبار» (19)، «توحيد المفضل» (99، 101).

(3)

(ق، ت): «والنبات» .

(4)

نَوْرُ الشجر: زَهْرُه. «اللسان» (نور).

(5)

الكَرَب: أصولُ سَعَف النخل الغِلاظُ العِراض التي تيبس. «اللسان» (كرب).

(6)

(ح): «وكعلف» .

ص: 640

يسرُّ النَّاظرين، وحُسْن مرأى الشجر وخِلْقَتها البديعة الشاهدة لفاطرها ومبدعها بغاية الحكمةِ واللُّطف.

ثمَّ إذا تأمَّلتَ إخراجَ ذلك النَّوْر البهيِّ من نفس ذلك الحطب، ثمَّ إخراجَ الوَرَق الأخضر، ثمَّ إخراجَ تلك الثِّمار على اختلاف أنواعها وأشكالها ومقاديرها، وألوانها وطُعومها وروائحها ومنافعها وما يرادُ منها.

ثمَّ تأمَّل أين كانت مُستودعَةً في تلك الخشبة وهاتيك العِيدان، وجُعِلت الشجرةُ لها كالأمِّ، فهل كان في قدرة الأب العاجز الضعيف إبرازُ هذا التَّصوير العجيب، وهذا التقدير المُحْكَم، وهذه الأصباغ الفائقة، وهذه الطُّعوم اللذيذة والأراييح

(1)

الطيِّبة، وهذه المناظر المستحسَنة؟!

فسَلِ الجاحدَ: من تولى تقديرَ ذلك وتصويرَه وإبرازه وترتيبَه

(2)

شيئًا فشيئًا، وسَوْقَ الغذاء إليه في تلك العُروق اللِّطاف التي يكادُ البصرُ يعجزُ عن إدراكها وتلك المجاري الدِّقاق؟!

فمن الذي تولى ذلك كلَّه؟! ومن الذي أطْلَع لها الشمس، وسخَّر لها الرياح، وأنزَل عليها المطر، ودَفَع عنها الآفات؟!

وتأمَّل تقديرَ اللطيف الخبير؛ فإنَّ الأشجار لما كانت تحتاجُ إلى الغذاء الدَّائم، كحاجة النَّاس وسائر الحيوان، ولم يكن لها أفواهٌ كأفواه الحيوان، ولا حركةٌ تنبعثُ بها لتناول الغذاء؛ جُعِلت أصولُها مركوزةً في الأرض؛

(1)

جمعُ الجمع لكلمة «ريح» ، وهي شاذة، كما في «اللسان». وتقع في كلام الجاحظ وغيره من أمراء البيان. والمصنف يستعملها أحيانًا. انظر:«زاد المعاد» (4/ 91)، و «شفاء العليل» (648).

(2)

(ح): «وتربيته» .

ص: 641

لتنزع منها

(1)

الغذاء وتمتصَّه من أسفل الثَّرى، فتؤدِّيه إلى أغصانها، فتؤدِّيه الأغصانُ إلى الوَرق والثَّمر، كلٌّ له شِرْبٌ معلومٌ لا يتعدَّاه، يصلُ إليه في مَجَارٍ وطرقٍ قد أُحكِمَت غايةَ الإحكام، فتأخذُ الغذاءَ من أسفلَ وتَلْقَمه بعروقها كما يلتقمُ الحيوانُ غذاءه بفمه، ثمَّ تقسِّمه على حملها بحسب ما يحتملُه

(2)

، فتعطي كلَّ جزءٍ منه بحسب ما يحتاجُ إليه لا تظلمُه ولا تزيدُه على قَدْر حاجته.

فسَلِ الجاحدَ

(3)

: من أعطاها هذا؟ ومن هداها إليه ووَضَعَه فيها؟

فلو اجتمعَ الأوَّلون والآخِرون هل كانت قدرتُهم وإرادتُهم تصلُ إلى تربية

(4)

ثمرةٍ واحدةٍ منها هكذا بإشارةٍ أو صناعةٍ أو حيلةٍ أو مزاوَلة؟

وهل ذلك إلا صُنْعُ من شَهِدَت له مصنوعاتُه، ودلَّت عليه آياتُه، كما قيل:

فوا عَجبًا كيف يُعصى الإلـ

ـهُ أم كيف يجحَدُه الجاحِدُ

وللهِ في كُلِّ تحريكةٍ

وتسكينةٍ أبدًا شاهِدُ

وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ

تَدُلُّ على أنه واحِدُ

(5)

(1)

(ت، د، ق): «ليسرع بها» . (ح، ن): «ليسوغ بها» . والمثبت من (ر، ض).

(2)

(ت، ن): «يحمله» .

(3)

(ن): «فاسأل المعطل» .

(4)

(ت): «ترتيب» .

(5)

الأبيات لأبي العتاهية في ديوانه (104)، و «الأغاني» (4/ 37)، و «التمثيل والمحاضرة» (11)، و «بهجة المجالس» (2/ 331)، وغيرها كثير.

ونُسِبَت إلى لبيد، ومحمود الوراق، وأبي نواس، وابن المبارك، في مصادر أخرى، ولا يصحُّ من ذلك شيء.

ص: 642

فصل

(1)

ثمَّ تأمَّل إذا نصبتَ خيمةً أو فُسطاطًا كيف تُمِدُّه

(2)

من كلِّ جانبٍ بالأطنابِ ليثبُتَ فلا يسقُط ولا يتعوَّج.

فهكذا تجدُ النَّبات والشجرَ له عروقٌ ممتدَّةٌ في الأرض منتشرةٌ إلى كلِّ جانبٍ لتُمسِكه وتُقِيمَه، وكلَّما انتشرت أعاليه امتدَّت

(3)

عروقُه وأطنابُه من أسفل في الجهات. ولولا ذلك كيف كانت تثبُت هذه النَّخيلُ الطِّوالُ الباسقاتُ والدَّوْحُ العِظام

(4)

على الرياح العواصف؟!

وتأمَّل سَبْق الخِلْقة الإلهية

(5)

للصِّناعة البشرية؛ حتى يَعْلَم الناسُ نَصْبَ الخِيام والفساطيط من خِلْقة الشَّجر والنَّبات؛ لأنَّ عروقها أطنابٌ لها كأطناب الخيمة، وأغصانُ الشَّجر يُتَّخذُ منها الفساطيط، ثمَّ يحاكى بها الشجرة.

فصل

(6)

ثمَّ تأمَّل الحكمةَ في خَلْق الوَرَق؛ فإنك ترى في الورقة الواحدة من جملة العُروق الممتدَّة فيها المبثوثة فيها ما يَبْهَرُ النَّاظر.

(1)

«الدلائل والاعتبار» (21).

(2)

(ت): «فسطاط كيف يمد» .

(3)

(ت): «اشتدت» .

(4)

الدَّوْح: الشجر العِظام ذات الفروع الممتدة. «التاج» (دوح).

(5)

(د، ت): «الخلق الإلهي» .

(6)

«الدلائل والاعتبار» (21)، «توحيد المفضل» (101 - 102).

ص: 643

فمنها غِلاظٌ ممتدَّةٌ في الطُّول والعرض، ومنها دِقاقٌ تتخلَّلُ تلك الغِلاظ، منسوجةً نسجًا دقيقًا مُعْجِبًا لو كان مما يتولى البشرُ صُنْعَ مثله بأيديهم لما فُرِغ من ورقةٍ في عامٍ كامل، ولاحتاجُوا فيه إلى آلاتٍ وحركاتٍ وعلاجٍ تعجزُ قدرتهم عن تحصيله، فبثَّ الخلَّاقُ العليمُ في أيامٍ قلائل من ذلك ما يملأ الأرض سَهْلَها وجبالها بلا آلاتٍ ولا مُعينٍ ولا فكرةٍ ولا معالجة، إن هي إلا إرادتُه النَّافذةُ في كلِّ شيء، وقدرتُه التي لا يمتنعُ منها شيء؛ {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].

فتأمَّل الحكمةَ في تلك العروق المتخلِّلة للورقة

(1)

بأسْرِها لتسقيها وتُوصِل

(2)

إليها المادَّة فتحفظ عليها حياتها ونضارتها، بمنزلة العروق المبثوثة في الأبدان التي تُوصِلُ الغذاءَ إلى كلِّ جزءٍ منه.

وتأمَّل ما في العروق الغِلاظ من إمساكها الورقَ بصلابتها ومتانتها لئلَّا تتمزَّق وتضمحلَّ

(3)

، فهي بمنزلة الأعصاب لبدن الحيوان، فتراها قد أُحكِمَت صَنْعَتُها ومُدَّت العروقُ في طولها وعرضِها لتتماسك فلا يَعْرِضُ لها التَّمزُّق.

فصل

ثمَّ تأمَّل حكمةَ اللطيف الخبير في كونها

(4)

جُعِلَت زينةً للشجر، وسِتْرًا ولباسًا للثَّمرة، ووقايةً لها من الآفات التي تمنعُ كمالها؛ ولهذا إذا جُرِّدَت

(1)

(د، ق): «الورقة» . (ت): «المورقة» .

(2)

(ح، ن): «ويرسل» .

(3)

(ر، ض): «تنتهك وتتمزق» .

(4)

أي: الوَرَق.

ص: 644

الشجرةُ من ورقها فَسَدَت الثَّمرةُ ولم يُنتفَع بها.

وانظر كيف جُعِلَت وقايةً لِمَنبِت الثَّمرة الضعيف

(1)

من اليُبْس، فإذا ذهبَت الثَّمرةُ بقي الورقُ وقايةً لتلك الأفنان الضعيفة من الحرِّ، حتى إذا طَفِئت تلك الجمرةُ ولم يَضُرَّ الأفنانَ عُرْيُها عن ورقها سُلِبَتها

(2)

لتكتسيَ لباسًا جديدًا أحسنَ منه.

فتبارك الله ربُّ العالمين الذي يعلمُ مَساقِط

(3)

تلك الأوراق ومَنابِتَها، فلا تخرجُ منها ورقةٌ إلا بإذنه ولا تسقطُ إلا بعلمه، ومع هذا فلو شاهدها العبادُ على كثرتها وتنوُّعها وهي تسبِّحُ بحمد ربها

(4)

مع الثِّمار والأفنان والأشجار لشاهدوا من جمالها أمرًا آخر، ولرأوا خِلْقَتها بعَيْنٍ أخرى، ولعلموا أنها لشأنٍ عظيمٍ خُلِقَت

(5)

، وأنها لم تُخْلَق سُدى.

قال تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6]؛ فالنَّجمُ ما ليس له ساقٌ من النَّبات، والشجرُ ما له ساقٌ

(6)

، وكلُّها ساجدةٌ لله مسبِّحةٌ بحمده:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44].

(1)

(ن، ح): «الضعيفة» .

(2)

(ن، ح): «سلبها» .

(3)

(ت، ح، ن): «ساقط» .

(4)

(ت): «بحمد ربها وتقدسه» .

(5)

كتب فوقها في (د) بخطٍّ دقيق: «أي: للاعتبار» .

(6)

رُوِي هذا عن ابن عباس، واختاره الطبري (23/ 12).

ص: 645

ولعلَّك أن تكون ممَّن غَلُظ حِجابُه، فتذهبَ

(1)

إلى أنَّ التَّسبيحَ دلالتُها على صانعها فقط

(2)

؛ فاعلَم أنَّ هذا القول يظهرُ بطلانُه من أكثر من ثلاثين وجهًا قد ذكرنا أكثرها في موضعٍ آخر

(3)

.

وفي أيِّ لغةٍ تسمَّى الدلالةُ على الصَّانع تسبيحًا وسجودًا وصلاةً وتأويبًا وهُبوطًا من خشيته، كما ذكر تعالى ذلك في كتابه؟!

فتارةً يخبرُ عنها بالتَّسبيح، وتارةً بالسُّجود، وتارةً بالصَّلاة؛ كقوله تعالى:{وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41]، أفترى يقبلُ عقلُك أن يكون معنى الآية: كلٌّ قد عَلِمَ اللهُ دلالته عليه؟! وسمَّى تلك الدَّلالةَ صلاةً وتسبيحًا، وفرَّق بينهما وعَطَف أحدَهما على الآخر!

وتارةً يخبرُ عنها بالتَّأويب؛ كقوله: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10].

(1)

(ح، ن): «فذهبت» .

(2)

كما ذهب إليه المتكلمون، الباقلاني، والرازي، والقفال الشاشي، وابن رشد، والزمخشري، وغيرهم. انظر:«مفاتيح الغيب» (1/ 27، 4/ 144، 20/ 348، 29/ 448)، و «مناهج الأدلة» (153)، و «تفسير السمعاني» (5/ 430)، و «الكشاف» (2/ 626)، و «المعيار المعرب» (12/ 345).

(3)

انظر بعضها في «الروح» (264).

وانظر: «مسائل حرب» (427)، و «معاني القرآن» للزجاج (3/ 242، 419، 5/ 121)، و «تفسير السمعاني» (3/ 244، 428، 5/ 245، 364)، و «طبقات الشافعية» للسبكي (8/ 94، 95)، و «رسالة في قنوت الأشياء كلها لله» (1/ 43 - جامع الرسائل)، و «قاعدة في المحبة» (23)، وله في المسألة قاعدةٌ مفردة ذكرها ابن رشيِّق. انظر:«الجامع لسيرة شيخ الإسلام» (304).

ص: 646

وتارةً يخبرُ عنها بالتَّسبيح الخاصِّ بوقتٍ دون وقت، كالعشيِّ والإشراق، أفترى دلالتها على صانعها إنما تكونُ في هذين الوقتين؟!

وبالجملة؛ فبطلانُ هذا القول أظهرُ لذوي البصائر من أن يطلبوا دليلًا على بطلانه، والحمدُ لله.

فصل

(1)

ثمَّ تأمَّل حكمتَه سبحانه في إيداع

(2)

العَجَم والنَّوى في جوف الثَّمرة، وما في ذلك من الحِكَم والفوائد التي منها: أنه كالعَظْم لبدن الحيوان، فهو يُمْسِكُ بصلابته رخاوةَ الثَّمرة ورِقَّتَها ولطافتَها، ولولا ذلك لشُدِخَت

(3)

وتفسَّخَت، ولأسرع إليها الفساد، فهو بمنزلة العَظْم، والثَّمرةُ بمنزلة اللحم الذي يكسوه الله عز وجل العِظام.

ومنها: أنَّ في ذلك بقاءَ المادَّة وحِفْظها؛ إذ ربَّما تعطَّلت الشجرةُ أو نوعُها، فخَلَق فيها

(4)

ما يقومُ مقامها عند تعطُّلها، وهو النَّوى الذي يُغْرَسُ فيعودُ مثلَها.

ومنها: ما في تلك الحبوب من أقوات الحيوانات، وما فيها من المنافع والأدهان والأدوية والأصباغ وضروبٍ أُخَر من المصالح التي يتعلَّمها النَّاس

(5)

، وما خَفِيَ عليهم منها أكثر.

(1)

«الدلائل والاعتبار» (21)، «توحيد المفضل» (102 - 103).

(2)

(ح، ق، د): «إبداع» بالموحَّدة. والعَجَم هو النوى.

(3)

(ر، ض): «لتشدخت» .

(4)

(ح): «فخلف فيها» .

(5)

(ق): «يعلمها الناس» .

ص: 647