المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تأمل إنارة القمر والكواكب - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ تأمل إنارة القمر والكواكب

ساعة، فيصيرُ الآخرُ تسعَ ساعات، فإذا زاد على ذلك انحرفَ ذلك الإقليمُ في الحرارة أو البرودة إلى أن ينتهي إلى حدٍّ لا يسكنُه الإنسانُ ولا يتكوَّنُ

(1)

فيه النَّباتُ.

وكلُّ موضعٍ لا تقعُ عليه الشمسُ لا يعيشُ فيه حيوانٌ ولا نبات

(2)

؛ لفَرْطِ بردِه ويُبْسِه، وكلُّ موضعٍ لا تفارقُه كذلك؛ لفَرْط حرِّه ويُبْسِه.

والمواضعُ التي يعيشُ فيها الحيوانُ والنَّباتُ هي التي تطلُعُ عليها الشمسُ وتغيب، وأعدلها المواضعُ التي تتعاقبُ عليها الفصولُ الأربعة، ويكونُ فيها اعتدالان: خريفيٌّ وربيعيٌّ.

فصل

(3)

ثمَّ‌

‌ تأمَّل إنارةَ القمر والكواكب

في ظُلمة الليل، والحكمة في ذلك؛ فإنَّ الله تعالى

(4)

اقتضت حكمتُه خلقَ الظُّلمة لهدوء الحيوان وبَرْدِ الهواء على الأبدان والنَّبات، فتُعادِلُ حرارةَ الشمس، فيقومُ النَّباتُ والحيوان.

فلمَّا كان ذلك مقتضى حكمته شابَ الليلَ بشيءٍ من الأنوار، ولم يجعله ظُلمةً داجيةً حِنْدِسًا

(5)

لا ضوء فيه أصلًا، فكان لا يتمكَّنُ الحيوانُ فيه من شيءٍ من الحركة ولا الأعمال.

(1)

(ح): «ولا يكون» .

(2)

انظر: «الوابل الصيب» (123).

(3)

«الدلائل والاعتبار» (6)، «توحيد المفضل» (82).

(4)

(ق): «أن الله تعالى» .

(5)

الحِندِس: الظُّلمة، أو شدَّتها. «اللسان» .

ص: 597

ولمَّا كان الحيوانُ قد يحتاجُ في الليل إلى حركةٍ وسيرٍ وعملٍ

(1)

لا يتهيَّأ له بالنَّهار؛ لضيق النَّهار، أو لشدَّة الحرِّ، أو لخوفه بالنَّهار؛ كحال كثيرٍ من الحيوانات= جعَل في الليل من أضواء الكواكب وضوء القمر ما يتأتَّى فيه معه أعمالٌ كثيرة؛ كالسَّفر والحرث وغير ذلك من أعمال أهل الحُروث والزُّروع.

فجعَل ضوءَ القمر بالليل معونةً للحيوان على هذه الحركات، وجعَل طلوعَه في بعض الليل دون بعضٍ مع نقص ضوئه عن ضوء الشمس لئلَّا يستويَ الليلُ والنَّهار، فتفوتَ حكمةُ الاختلاف بينهما والتَّفاوت الذي قدَّره العزيزُ العليم.

فتأمَّل الحكمةَ البالغةَ والتَّقديرَ العجيبَ الذي اقتضى أن أعان الحيوانَ على دولة الظَّلام بجُندٍ من النُّور يستعينُ به على هذه الدَّولة المظلمة، ولم يجعل الدَّولةَ كلَّها ظُلمةً صِرفًا بل ظُلمةً مشُوبةً بنور؛ رحمةً منه وإحسانًا.

فسبحان من أتقن ما صنَع، وأحسن كلَّ شيءٍ خَلَقه.

فصل

(2)

ثمَّ تأمَّل حكمتَه تبارك وتعالى في هذه النُّجوم، وكثرتها، وعجيب خَلقِها، وأنها زينةٌ للسَّماء، وأدلَّةٌ يهتدى بها في طرق البرِّ والبحر، وما جعَل فيها من الضوء والنُّور بحيثُ يمكنُنا رؤيتُها مع البُعد المُفرِط، ولولا ذلك لم يحصُل

(3)

لنا بها الاهتداءُ والدَّلالةُ ومعرفةُ المواقيت.

(1)

(ت): «حركة وتبين وعمل» . (ن، ح): «حركة ومسير وعمل» .

(2)

«الدلائل والاعتبار» (7)، «توحيد المفضل» (84 - 85).

(3)

(ق): «يجعل» .

ص: 598

ثمَّ تأمَّل تسخيرَها منقادةً بأمر ربها تبارك وتعالى، جاريةً على سَنَنٍ واحدٍ اقتضتهُ حكمتُه وعلمُه، لا تخرُج عنه؛ فجعَل منها البروجَ والمنازل، والثَّوابتَ والسيَّارة، والكبارَ والصِّغارَ والمتوسِّط، والأبيض الأزهرَ والأبيض الأحمر، ومنها ما يخفى على النَّاظر فلا يدركه.

وجعَل منطقةَ البروج قسمين: مرتفعةً ومنخفضة، وقدَّر سيرَها تقديرًا واحدًا، ونزَّل الشمسَ والقمرَ والسيَّارات منها منازلها؛ فمنها ما يقطعُها في شهرٍ واحدٍ ــ وهو القمر ــ، ومنها ما يقطعُها في عام

(1)

، ومنها ما يقطعُها في عدَّة أعوام، كلُّ ذلك مُوجَبُ الحكمة والعناية.

وجعَل ذلك أسبابًا لِمَا يُحْدِثُه سبحانه في هذا العالم، فيستدلُّ بها النَّاسُ على تلك الحوادث التي تقارنها؛ لمعرفتهم بما يكونُ مع طلوع الثُّريَّا إذا طلعَت، وغروبها إذا سَقَطَت من الحوادث التي تقارنها، وكذلك غيرُها من المنازل والسيَّارات.

ثمَّ تأمَّل جَعْلَه سبحانه بناتِ نَعْشٍ وما قَرُبَ منها ظاهرةً لا تغيب؛ لقُربها من المركز، ولما في ذلك من الحكمة الإلهيَّة، وأنها بمنزلة الأعلام التي يهتدي بها النَّاسُ في الطُّرق المجهولة في البرِّ والبحر، فهم ينظرون إليها وإلى الجدي والفَرقدين

(2)

كلَّ وقتٍ أرادوا من الليل

(3)

، فيهتدون بها حيث شاؤوا.

(1)

من قوله: «وهو القمر» إلى هنا، ساقطٌ من (ت).

(2)

«الثريا» و «بنات نعش» و «الجدي» و «الفرقدان» كواكبُ معروفة.

(3)

«من الليل» ليست في (ح، ن).

ص: 599