المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تأمل العبرة في السمك وكيفية خلقته: - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ تأمل العبرة في السمك وكيفية خلقته:

فيقلبُه الله تبارك وتعالى مِنْ صورة الدَّم وطبعه وطعمه إلى صورة اللَّبن وطبعه وطعمه؛ فاستُخرِجَ من الفَرْث والدَّم.

فسَل المعطِّل الجاحد: من الذي دبَّر هذا التَّدبير، وقدَّر هذا التقدير، وأتقنَ هذا الصُّنع، ولَطَف هذا اللُّطفَ سوى اللطيف الخبير؟!

فصل

(1)

ثمَّ‌

‌ تأمَّل العِبرة في السَّمك وكيفية خِلْقته:

فإنه خُلِق غيرَ ذي قوائم؛ لأنه لا يحتاجُ إلى المشي؛ إذ كان مسكنُه

(2)

الماء.

ولم تُخلق له رئةٌ؛ لأنَّ منفعةَ الرِّئة التنفُّسُ، والسَّمكُ لم يحتج إليه؛ لأنه ينغمسُ في الماء.

وخُلِقَت له عِوَض القوائم أجنحةٌ شدادٌ يَقْذِفُ بها مِنْ جانبيه، كما يَقْذِفُ صاحبُ المركب بالمقاذيف

(3)

مِنْ جانبي السَّفينة.

وكُسِيَ جلدُه قشورًا متداخلةً كتداخُل الجَوْشَن

(4)

ليَقِيَه من الآفات.

وأُعِينَ بقوَّة الشمِّ؛ لأنَّ بصره ضغيفٌ، والماءُ يحجُبه، فصار يشمُّ الطَّعام مِنْ بُعْدٍ فيقصدُه.

(1)

«الدلائل والاعتبار» (42)، «توحيد المفضل» (75 - 77).

(2)

(ت): «مسلكه» .

(3)

(ت): «المقاديف» . وهي المجاديف.

(4)

الدرع. «اللسان» (جشن). (ض): «كتداخل الدروع والجواشن» .

ص: 715

وقد ذُكِر في بعض كتب الحيوان

(1)

أنَّ مِنْ فِيه إلى صِماخَيْه

(2)

منافذَ فهو يعُبُّ

(3)

الماءَ فيها بفِيه، ويرسلُه من صِماخَيْه، فيتروَّحُ بذلك، كما يأخذُ الحيوانُ النَّسيمَ الباردَ بأنفه ثمَّ يرسلُه ليتروَّحَ به

(4)

.

فإنَّ الماء للحيوان البحريِّ كالهواء للحيوان البريِّ، فهما بَحْران أحدُهما ألطفُ من الآخَر: بحرُ هواءٍ يَسْبَحُ فيه حيوانُ البرِّ، وبحرُ ماءٍ يَسْبَحُ فيه حيوانُ البحر، فلو فارق كلٌّ من الصِّنفين بحرَه إلى البحر الآخر مات، فكما يختنقُ الحيوانُ البرِّيُّ في الماء يختنقُ الحيوانُ البحريُّ في الهواء.

فسبحان من لا يحصي العادُّون آياته، ولا يحيطون بتفصيل آيةٍ منها على الانفراد، بل إن علموا منها وجهًا جَهِلوا منها أوجهًا.

فتأمَّل الحكمةَ البالغة في كَوْن السَّمك أكثر الحيوان نسلًا، ولهذا ترى في جوف السَّمكة الواحدة من البيض ما لا يحصى كثرة.

وحكمةُ ذلك أن يتَّسع لما يغتذي به من أصناف الحيوان؛ فإنَّ أكثرها يأكلُ السَّمك، حتى السِّباع؛ فإنَّ غالبها

(5)

في حافَات الآجام

(6)

جاثمةٌ

(1)

(ر): «وقد ذكر أرسطاطاليس» .

(2)

(ت، ق، ح): «صماخه» .

(3)

(ت، ن، ح): «يصب» . تحريف.

(4)

انظر: «حياة الحيوان» (2/ 553).

(5)

(ق، ح، ن): «حتى السباع؛ لأنها» .

(6)

جمع أجَمة، وهي الشجر الكثير الملتفُّ. والمراد: أجَمة القصب، وهو نباتٌ مائي له سوقٌ طوال، ينمو حول الأنهار.

ص: 716

تعكُف على الماء الصَّافي

(1)

، فإذا تعذَّر عليها صيدُ البرِّ رَصَدَت السَّمكَ

(2)

فاختطفَته.

فلمَّا كانت السِّباعُ تأكلُ السَّمك، والطَّيرُ تأكلُه، والنَّاسُ تأكلُه، والسَّمكُ الكبارُ تأكلُه، وداوبُّ البرِّ تأكلُه، وقد جعله الله سبحانه غذاءً لهذه الأصناف اقتضت حكمتُه أن يكون بهذه الكثرة.

ولو رأى العبدُ ما في البحر مِنْ ضروب الحيوانات والجواهر والأصناف التي لا يحصيها إلا الله، ولا يعرفُ النَّاسُ منها إلا الشيء القليل الذي لا نسبة له أصلًا إلى ما غاب عنهم= لرأى العجب، ولعَلِمَ سَعةَ مُلك الله وكثرة جنوده التي لا يعلمُها إلا هو.

هذا الجرادُ نَثْرةُ حوتٍ من حيتان البحر ينثُره مِنْ مِنْخَريه

(3)

،

وهو جندٌ

(1)

(ض): «على الماء أيضا كي ترصد السمك» . تحريف.

(2)

(ق): «صادت السمك» . (ت): «تصدت للسمك» .

(3)

علَّق العلَّامة شهاب الدين محمود الآلوسي على طرَّة نسخة (ق) بخطِّه: «ليس كذلك؛ بل المراد من كونه نثرة حوت اتحادُ حكمهما، كحِلِّ ميتتهما، كما صرَّح بذلك شرَّاحُ الحديث» .

قلت: اختلف أهل العلم في الأخبار الواردة في أن الجراد نثرة حوتٍ ــ ولا يصحُّ منها شيءٌ مرفوعًا، إنما هو عن كعب الأحبار، من أخبار أهل الكتاب، أخرجه مالك في «الموطأ» (784) ــ هل هي على ظاهرها؟

فظاهر كلام المصنف وبعض رواة الخبر المرفوع أنها كذلك، وحملها ابن قتيبة في «غريب الحديث» (2/ 361) وغيره على ما ذكر الآلوسي، وتوسَّط ابنُ عبد البر فحملها في «الاستذكار» (11/ 290) على أن أول خلق الجراد كان من منخر حوتٍ، لا أنه اليوم مخلوقٌ من نثرة حوت؛ لأن المشاهدة تدفع ذلك.

ص: 717

من جنود الله، ضعيفُ الخِلْقة، عجيبُ التَّركيب، فيه خَلْقُ سبع حيوانات

(1)

؛ فإذا رأيتَ عساكرَه قد أقبلت أبصرتَ جندًا لا مردَّ له، ولا يحمي منه عَدَدٌ ولا عُدَّة، فلو جمع الملكُ خيلَه ورَجِلَه ودوابَّه وسلاحَه ليصدَّه عن بلده لما أمكنه ذلك.

فانظر كيف ينسابُ على الأرض كالسَّيل، فيغشى السَّهل والجبل، والبَدْو والحضر، حتى يستُر نورَ الشمس بكثرته، ويَسُدَّ وجهَ السَّماء بأجنحته، ويبلغ من الجوِّ إلى حيثُ لا يبلغُ طائرٌ أكبرُ جناحين منه.

فسَل المعطِّل: من الذي بعث هذا الجندَ الضعيفَ الذي لا يستطيعُ أن يردَّ

(2)

عن نفسه حيوانًا رام أخذَه بفِيه

(3)

على العسكر أهل القوَّة والكثرة والعَدَد والعُدَّة والحيلة، فلا يقدرون بأجمعهم على دفعه، بل ينظرون إليه يستبدُّ بأقواتهم دونهم، ويمزِّقها كلَّ ممزَّق، ويذرُ الأرض قفرًا منها، وهم لا يستطيعون أن يردُّوه ولا يحولوا بينه وبينها؟!

وهذا من حكمته سبحانه أن يسلِّط الضعيفَ مِنْ خلقه الذي لا مؤنة له على القويِّ، فينتقم به منه، ويُنْزِل به ما كان يَحْذَرُه منه، حتى لا يستطيع لذلك مردًّا ولا صرفًا، قال الله تعالى:{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5 - 6].

(1)

انظر: «الجليس والأنيس» (3/ 273)، و «وفيات الأعيان» (4/ 247)، و «فتح الباري» (9/ 620).

(2)

(د): «يدفع» . (ت): «يرفع» .

(3)

(ح، ن): «بعثه» . تحريف. ولم تحرر في (ت، ق).

ص: 718

فواحسرتاه على استقامةٍ مع الله وإيثارٍ لمرضاته في كلِّ حالٍ يمكَّنُ به الضعيفُ

(1)

المُسْتضعَفُ حتى يَرى من استضعفَه أنه أولى بالله ورسوله منه!

ولكن اقتضت حكمةُ الله العزيز الحكيم أنْ يأكل الظَّالمُ الباغي ويتمتَّع

(2)

في خَفارة ذنوب المظلوم المبغيِّ عليه، فذنوبُه مِنْ أعظم أسباب الرحمة في حقِّ ظالمه، كما أنَّ المسؤول إذا رَدَّ السَّائل فهو في خَفارة كذبه، ولو صَدَق السَّائلُ لما أفلحَ من ردَّه

(3)

، وكذلك السَّارقُ وقاطعُ الطَّريق في خَفارة مَنْع أصحاب الأموال حقوقَ الله فيها، ولو أدَّوا ما لله عليهم فيها لحفظها الله عليهم.

وهذا أيضًا بابٌ عظيمٌ من حكمة الله، يُطْلِعُ النَّاظرَ فيه على أسرارٍ من أسرار التقدير

(4)

، وتسليطِ العالم بعضِهم على بعض، وتمكين الجُناة والبُغاة.

فسبحان من له في كلِّ شيءٍ حكمةٌ بالغةٌ وآيةٌ باهرة، حتى إنَّ الحيوانات العادِيَة على الناس في أموالهم وأرزاقهم وأبدانهم تعيشُ في خَفارة ما كسبت أيديهم، ولولا ذلك لم يسلَّط عليهم منها شيء.

ولعلَّ هذا الفصل الطَّرديَّ

(5)

أنفعُ لمتأمِّله من كثيرٍ من الفصول المتقدِّمة؛ فإنه إذا أعطاه حقَّه من النَّظر والفكر عَظُم انتفاعُه به جدًّا، والله الموفق.

(1)

(ق): «للضعيف» .

(2)

(ن): «ويمنع» . (ت): «ويمنع» .

(3)

وفي ذلك حديثٌ مشهورٌ لا يثبت، لكنَّ معناه صحيح. وانظر حوله موقفًا طريفًا في «مسائل الإمام أحمد» (2/ 177) رواية ابن هاناء.

(4)

(ت): «على أسرار التقدير» .

(5)

(ن): «المطرد» .

ص: 719

ويحكى أنَّ بعض أصحاب الماشية كان يشوبُ اللبنَ

(1)

ويبيعُه على أنه خالص، فأرسل الله عليه سيلًا فذهبَ بالغنم، فجعل يعجَب، فأُتي في منامه فقيل له: أتعجبُ مِنْ أخذِ السَّيل غنمَك؟! إنه

(2)

تلك القطراتُ التي شُبْتَ

(3)

بها اللَّبن، اجتمعَت وصارت سيلًا

(4)

.

فقِسْ على هذه الحكاية ما تراه في نفسك وفي غيرك، تعلَمْ حينئذٍ أنَّ الله قائمٌ بالقسط، وأنه قائمٌ على كلِّ نفسٍ بما كسبت، وأنه لا يظلمُ مثقال ذرَّة.

والأثر الإسرائيليُّ معروف: أنَّ رجلًا كان يشوبُ الخمرَ ويبيعُه على أنه خالص، فجَمعَ من ذلك كيسَ ذهبٍ وسافر به، فركبَ البحر ومعه قِرْدٌ له، فلمَّا نام أخذ القردُ الكيسَ وصعد به إلى أعلى المركب، ثمَّ فتحه وجعل يلقي دينارًا في الماء ودينارًا في المركب

(5)

. كأنه يقالُ له

(6)

بلسان الحال: ثمنُ

(1)

(ح، ن): «يشيب اللبن» .

(2)

(ح): «إنما هي» . (ن): «إن» .

(3)

(ق، د): «شيب» . (ح): «التي كنت تشيب» .

(4)

انظر: «المدهش» (1/ 389).

(5)

أخرجه أحمد (2/ 306، 336، 407)، والحارث بن أبي أسامة (425 ــ بغية الباحث)، وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعًا بإسنادٍ ظاهره الحُسْن، إلا أن البيهقيَّ أخرجه في «شعب الإيمان» (4924) من وجهٍ يُعِلُّه.

وروي من طرقٍ أخرى عند الطبراني في «الأوسط» (7585)، وابن عدي في «الكامل» (3/ 253)، والبيهقي في «الشعب» (9/ 500)، وغيرهم.

وروي من حديث أنس. أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (12/ 106) بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا، ونبَّه على الوهم فيه.

وانظر تعليق محققي «المسند» (13/ 420) طبعة الرسالة.

(6)

(ق): «كأنه يقول له» .

ص: 720

الماء صار إلى الماء، ولم نظلِمْك!

وتأمَّل الحكمةَ في حبس الله الغيثَ عن عباده وابتلائهم بالقحط إذا منعوا الزَّكاة وحرموا المساكين، كيف جُوزوا على منع ما للمساكين قِبَلهم من القوت بمنع الله مادَّة القوت والرزق وحبسِها عنهم، يقالُ لهم

(1)

بلسان الحال: مَنعتُم الحقَّ فمُنِعتُم الغيث، فهلَّا استنزلتموه ببذل ما لله قِبَلكم!

وتأمَّل حكمةَ الله تعالى في صَرْفِه الهدى والإيمان عن قلوب الذين يصرفون الناسَ عنه، فصدَّهم عنه كما صدُّوا عبادَه، صدًّا بصدٍّ ومنعًا بمنع.

وتأمَّل حكمتَه تعالى في مَحْقِ أموال المرابينَ وتسليط المتلفات عليها

(2)

، كما فعلوا بأموال الناس ومَحَقُوها عليهم وأتلفوها بالربا؛ جُوزوا إتلافًا بإتلاف، فقلَّ أن ترى مُرابيًا

(3)

إلا وآخرتُه إلى مَحْقٍ وقِلَّةٍ وحاجة.

وتأمَّل حكمتَه تعالى في تسليط العدوِّ على العباد إذا جار قويُّهم على ضعيفهم ولم يؤخذ للمظلوم حقُّه من ظالمه، كيف يسلَّطُ عليهم من يفعلُ بهم كفعلهم برعاياهم وضعفائهم سواءً. وهذه سنَّته تعالى منذ قامت الدُّنيا إلى أن تطوى الأرضُ ويعيدُها كما بدأها.

وتأمَّل حكمتَه تعالى في أن جَعَل ملوكَ العباد وأمراءهم وولاتهم من جنس أعمالهم، بل كأنَّ أعمالهم ظهرت في صُوَر وُلاتهم وملوكهم؛ فإن استقاموا استقامت ملوكُهم، وإن عدلوا عدلوا عليهم، وإن جاروا جارت

(1)

(ت، ق): «فقال له» . (د): «فقال لهم» .

(2)

(ح): «عليهم» .

(3)

(ق): «مراب» .

ص: 721

ملوكُهم وولاتهم، وإن ظهر فيهم المكرُ والخديعةُ فوُلاتهم

(1)

كذلك، وإن منعوا حقوق الله لديهم وبَخِلوا بها منعت ملوكُهم وولاتهم ما لهم عندهم من الحقِّ وبَخِلوا بها عليهم، وإن أخذوا ممَّن يستضعفونه ما لا يستحقُّونه في معاملاتهم أخذت منهم الملوكُ ما لا يستحقُّونه وضربوا عليهم المُكوسَ والوظائف

(2)

، وكلُّ ما يستخرجونه من الضعيف يستخرجُه الملوكُ منهم بالقوَّة؛ فعمَّالهم ظهرت في صُوَر أعمالهم. وليس في الحكمة الإلهيَّة أن يولَّى على الأشرار الفجَّار إلا من يكونُ من جنسهم

(3)

.

ولما كان الصَّدرُ الأوَّلُ خيارَ القرون وأبرَّها كانت ولاتُهم كذلك، فلمَّا شابوا شِيبَت

(4)

لهم الولاة، فحكمةُ الله تأبى أن يولَّى علينا في هذه الأزمان مثلُ معاوية وعمر بن عبد العزيز، فضلًا عن مثل أبي بكرٍ وعمر، بل ولاتُنا على قَدْرِنا وولاةُ من قبلنا على قَدْرِهم، وكلٌّ من الأمرين مُوجَبُ الحكمة ومقتضاها، ومن له فطنةٌ إذا سافر بفكره في هذا الباب رأى الحكمةَ الإلهيَّة سائرةً

(5)

في القضاء والقدر، ظاهرةً وباطنةً فيه، كما في الخلق والأمر سواء.

فإياك أن تظنَّ بظنك الفاسد أنَّ شيئًا من أقضيته وأقداره عارٍ عن الحكمة البالغة، بل جميعُ أقضيته تعالى وأقداره واقعةٌ على أتمِّ وجوه الحكمة

(1)

(ق، ت): «فملوكهم» .

(2)

وهي الضرائب، جمع وظيفة، ما يقدَّر في زمانٍ معين.

(3)

انظر: «سراج الملوك» (467)، و «منهاج السنة» (4/ 328)، و «كشف الخفاء» (2/ 184).

(4)

(ح): «شيب» .

(5)

(ت، ق): «سارية» .

ص: 722

والصَّواب، ولكنَّ العقول الخفَّاشيَّة محجوبةٌ بضعفها عن إدراكها، كما أنَّ الأبصار الخفَّاشيَّة محجوبةٌ بضعفها عن ضوء الشمس، وهذه العقولُ الصِّغارُ

(1)

إذا صادفها الباطلُ جالت فيه وصالت، ونطقت وقالت، كما أنَّ الخفَّاش إذا صادفه ظلامُ الليل طار وسار.

خفافيشُ أعشاها النَّهارُ بضوئه

ولازَمها قِطْعٌ من الليلِ مُظْلِمُ

(2)

وتأمَّل حكمتَه تبارك وتعالى في عقوبات الأمم الخالية، وتنويعها عليهم بحسب تنوُّع جرائمهم

(3)

، كما قال تعالى:{وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 38 - 40].

وتأمَّل حكمتَه تعالى في مَسْخ مَنْ مُسِخ من الأمم في صُوَرٍ مختلفةٍ مناسبةٍ لتلك الجرائم؛ فإنهم لما مُسِخَت قلوبهم وصارت على قلوب تلك الحيوانات وطباعها اقتضت الحكمةُ البالغةُ أن جُعِلت صورُهم على صورها؛

(1)

(ت): «الضعفاء» . ولعلها: «الضعيفة» أو «الضعاف» .

(2)

البيت لابن الرومي، في ديوانه (1/ 157)، و «التمثيل والمحاضرة» (374)، وغيرهما. وروايةُ الشطر الثاني في «الديوان» وغيره:

* ولاءمها قِطْعٌ من الليل غيهبُ *

(3)

(ق، ن، ت، د): «تنويع جرائمهم» .

ص: 723

لتتمَّ المناسبةُ ويكمُل الشَّبه

(1)

، وهذا غايةُ الحكمة.

واعتبِر هذا بمن مُسِخوا قردةً وخنازير، كيف غَلبت عليهم صفاتُ هذه الحيوانات وأخلاقُها وأعمالها.

ثمَّ إن كنتَ من المتوسِّمين

(2)

فاقرأ هذه النُّسخةَ من وجوه أشباههم ونظرائهم، كيف تراها باديةً عليها وإن كانت مستورةً بصورة الإنسانية.

فاقرأ نسخةَ القردة من صور أهل المكر والخديعة والفسق الذين لا عقول لهم، بل هم أخفُّ النَّاس عقولًا، وأعظمُهم مكرًا وخداعًا وفسقًا

(3)

. فإن لم تقرأ نسخةَ القردة من وجوههم فلست من المتوسِّمين.

واقرأ نسخةَ الخنازير من صور أشباههم، ولا سيَّما أعداءُ خيار خلق الله بعد الرُّسل، وهم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ هذه النُّسخة ظاهرةٌ على وجوه الرَّافضة، يقرؤها كلُّ مؤمنٍ كاتبٍ وغير كاتب، وهي تظهرُ وتخفى بحسب خِنزيريَّة القلب وخُبثه؛ فإنَّ الخنزيرَ أخبثُ الحيوانات وأردؤها طباعًا، ومن خاصَّته

(4)

أنه يدعُ الطيِّبات فلا يأكلُها ويقومُ الإنسانُ عن رجيعه فيبادرُ إليه.

فتأمَّل مطابقةَ هذا الوصف لأعداء الصَّحابة كيف تجدُه منطبقًا عليهم! فإنهم عَمَدوا إلى أطيب خلق الله وأطهرهم فعادوهم وتبرَّؤوا منهم، ثمَّ والَوا كلَّ عدوٍّ لهم من النصارى واليهود والمشركين، فاستعانوا في كلِّ زمانٍ على

(1)

(ح، ن): «التشبه» .

(2)

المتفرِّسين. من الوَسْم، وهو السِّمة والعلامة. «اللسان» .

(3)

انظر: «إغاثة اللهفان» (1/ 267، 342، 345).

(4)

(ح): «خاصيته» . (ن): «خاصيتها» .

ص: 724

حرب المؤمنين الموالين لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمشركين والكفَّار وصرَّحوا بأنهم خيرٌ منهم

(1)

. فأيُّ شبهٍ ومناسبةٍ أولى بهذا الضرب من الخنازير؟! فإن لم تقرأ هذه النُّسخة من وجوههم فلستَ من المتوسِّمين.

وأمَّا الأخبارُ التي تكادُ تبلغُ حدَّ التَّواتر

(2)

بمَسْخ مَنْ مُسِخ منهم عند الموت خنزيرًا فأكثرُ من أن تُذكرَ هاهنا، وقد أفرد لها الحافظُ محمَّد بن عبد الواحد المقدسي

(3)

كتابًا

(4)

.

وتأمَّل حكمتَه تعالى في عذابه الأممَ السَّالفةَ بعذاب الاستئصال لمَّا كانوا أطول أعمارًا، وأعظمَ قُوى، وأعتى على الله وعلى رسله، فلما تقاصرت الأعمارُ وضعُفت القُوى رَفَعَ عذابَ الاستئصال وجَعَل عذابهم بأيدي المؤمنين، فكانت الحكمةُ في كلِّ واحدٍ من الأمرين ما اقتضته في وقته

(5)

.

وتأمَّل حكمتَه تبارك وتعالى في إرسال الرُّسل في الأمم واحدًا بعد واحد، كلَّما مات واحدٌ خَلَفه آخر، لحاجتها إلى تتابع الرُّسل والأنبياء؛

(1)

انظر ما تقدم (ص: 199) والتعليق عليه.

(2)

(ت، د): «عدد التواتر» .

(3)

ضياء الدين، صاحب التصانيف والرحلة الواسعة (ت: 643). انظر: «السير» (23/ 126)، و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 236).

(4)

ظاهر كلام المصنف أنه كتابٌ مفردٌ لهذه الأخبار. ولم أقف علاه. ولعلَّه قصد كتابه «النهي عن سبِّ الأصحاب، وما ورد فيه من الذمِّ والعقاب» ؛ فإنَّ فيه بعض تلك الأخبار (39، 46، 49، 50، 51، 52)، وهو الذي ذكره ابن تيمية حين حديثه عن المسألة في «منهاج السنة» (1/ 485)، و «الصارم المسلول» (3/ 1112). وانظر:«الاستقامة» (1/ 365)، و «الرد على البكري» (2/ 693).

(5)

(ن): «وفي وقته» .

ص: 725

لضعفٍ

(1)

في عقولها وعدم اكتفائها بآثار شريعة الرسول السَّابق.

فلما انتهت النَّوبةُ

(2)

إلى محمَّد بن عبد الله رسول الله ونبيِّه صلى الله عليه وسلم، فأرسله إلى أكمل الأمم عقولًا ومعارف، وأصحِّها أذهانًا، وأغزرها علومًا، وبعثَه بأكمل شريعةٍ ظهرت في الأرض منذ قامت الدُّنيا إلى حين مَبْعثه، فأغنى الله الأمَّة بكمال رسولها، وكمال شريعته، وكمال عقولها، وصحَّة أذهانها، عن رسولٍ يأتي بعده، وأقام له من أمَّته ورثةً يحفظون شريعتَه، ووكَّلهم بها حتى يؤدُّوها إلى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم؛ فلم يحتاجوا معه إلى رسولٍ آخر ولا نبيٍّ ولا محدَّث.

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إنه قد كان قبلكم في الأمم محدَّثون

(3)

، فإن يكن في أمَّتي أحدٌ فعُمَر»

(4)

، فجزم بوجود المحدَّثين في الأمم، وعلَّق وجودَه في أمَّته بحرف الشرط؛ وليس هذا بنقصانٍ لأمَّته عمَّن قبلهم، بل هذا من كمال أمَّته على من قبلها، فإنها لكمالها وكمال نبيِّها وكمال شريعته لا تحتاجُ إلى محدَّث، بل إن وُجِدَ فهو صالحٌ للمتابعة والاستشهاد، لا أنه عمدة؛ لأنها في غنيةٍ بما بعثَ الله به نبيَّها عن كلِّ منامٍ أو مكاشفةٍ أو إلهامٍ أو تحديث، وأمَّا من قبلها فلحاجتهم إلى ذلك

(5)

جُعِل فيهم المحدَّثون

(6)

.

(1)

(د، ق، ت): «لضعفها» .

(2)

(ن): «النبوة» . تحريف.

(3)

أي: مُلْهَمون. فسَّره بهذا عبد الله بن وهب في رواية مسلم.

(4)

أخرجه البخاري (3469)، ومسلم (2398).

(5)

(ن، ح): «فللحاجة إلى ذلك» .

(6)

انظر: «الصفدية» (1/ 259)، و «الأصفهانية» (159)، و «الجواب الصحيح» (2/ 383)، و «مجموع الفتاوى» (17/ 46)، و «مدارج السالكين» (1/ 39).

ص: 726

ولا تظنَّ أنَّ تخصيصَ عمرَ رضي الله عنه بهذا تفضيلٌ له على أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، بل هذا مِنْ أقوى مناقب الصِّدِّيق، فإنه لكمال مَشْرَبه من حوض النُّبوَّة، وتمام رَضاعه من ثَدْي الرسالة، استغنى بذلك عمَّا يتلقَّاه من تحديثٍ أو غيره؛ فالذي يتلقَّاه من مشكاة النُّبوَّة أتمُّ من الذي يتلقَّاه عمرُ من التَّحديث

(1)

.

فتأمَّل هذا الموضعَ وأعطه حقَّه من المعرفة، وتأمَّل ما فيه من الحكمة البالغة الشاهدة لله بأنه الحكيمُ الخبير، وأنَّ رسوله صلى الله عليه وسلم أكملُ خَلْقِه، وأكملُهم شريعة، وأنَّ أمَّته أكملُ الأمم.

وهذا فصلٌ معترض، وهو من أنفع فصول الكتاب

(2)

، ولولا الإطالةُ لوسَّعنا فيه المقال، وأكثرنا فيه من الشواهد والأمثال، ولقد فتحَ الله الكريمُ فيه الباب، وأرشدَ فيه إلى الصَّواب، وهو المرجوُّ لتمام نعمته، ولا قوَّة إلا به

(3)

.

فصل

(4)

فأعِد الآنَ النَّظر فيك وفي نفسك مرَّةً ثانية:

من الذي دبَّرك بألطف التَّدبير وأنت جنينٌ في بطن أمِّك، في موضعٍ لا يدَ تنالُك، ولا بصرَ يُدْرِكُك، ولا حيلةَ لك في التماس الغذاء ولا في دفع

(1)

انظر: «درء التعارض» (5/ 28)، و «منهاج السنة» (6/ 114)، و «الرد على المنطقيين» (514)، و «مجموع الفتاوى» (24/ 377).

(2)

(ح، ن): «وهو أنفع فصول الكتاب» .

(3)

(ح): «ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» .

(4)

«الدلائل والاعتبار» (43)، «توحيد المفضل» (12 - 16).

ص: 727

الضَّرَّاء

(1)

؟!

فمن الذي أجرى إليك من دم الأمِّ ما يَغْذُوك كما يَغْذو الماءُ النَّباتَ، وقَلَبَ ذلك الدَّمَ لبنًا، ولم يزل يغذِّيك به في أضيق المواضع وأبعدها من حيلة التكسُّب والطَّلب؟!

حتى إذا كَمُلَ خَلقُك

(2)

واستحكم، وقَوِي أديمُك على مباشرة الهواء وبصرُك على ملاقاة الضياء، وصَلُبت عظامُك على مباشرة الأيدي والتقلُّب على الغَبراء= هاجَ الطَّلقُ بأمِّك، فأزعجك إلى الخروج أيما إزعاجٍ إلى عالم الابتلاء، فرَكَضَك الرَّحمُ ركضةَ من كأنه لم يضمَّك قطُّ

(3)

، ولم يَشْتَمِل عليك!

فيا بُعْدَ ما بين ذلك القبول والاشتمال حين وُضِعْتَ نطفةً وبين هذا الدَّفع والطَّرد والإخراج! وكان مبتهجًا بحَمْلك فصار يستغيثُ ويَعُجُّ إلى ربِّك مِنْ ثِقَلك.

فمن الذي فتحَ لك بابَه حتى وَلجتَ، ثمَّ ضمَّه عليك حتى حُفِظتَ وكمُلت، ثمَّ فتحَ لك ذلك البابَ ووسَّعه حتى خرجتَ منه كلمح البصر، لم يخنُقك

(4)

ضِيقُه، ولم تحبسك صعوبةُ طريقك فيه؟!

فلو تأمَّلتَ حالك في دخولك من ذلك الباب وخروجك منه لذهبَ بك

(1)

(ح، ن): «الضرر عنك» .

(2)

(ن): «سوى خلقك» .

(3)

(ح، ن): «ركضة في مكان (ن: مكانه) كأنه لم يضمك قط» .

(4)

(ن): «يخفيك» . (ح): «يحفيك» .

ص: 728

العجبُ كلَّ مذهب؛ فمن الذي أوحى إليه أن يتضايق عليك وأنت نطفةٌ حتى لا تفسُد هناك، ثمَّ أوحى إليه أن يتَّسع لك وينفسح حتى تخرج منه سليمًا؟!

إلى أن خرجتَ فريدًا وحيدًا ضعيفًا، لا قِشْرة ولا لباسَ ولا متاع ولا مال، أحوجَ خلق الله وأضعفَهم وأفقرَهم.

فصُرِف ذلك اللبنُ الذي كنت تتغذَّى به في بطن أمِّك إلى خزانتين معلَّقتين على صدرها، تحملُ غذاءك على صدرها كما حملتْك في بطنها، ثمَّ ساقه إلى تلك الخزانتين ألطفَ سَوْقٍ في مَجارٍ

(1)

وطرقٍ قد تهيَّأت له، فلا يزالُ واقفًا في طرقه ومجاريه حتى تستوفي ما في الخزانتين

(2)

فيجري وينساقُ إليك، فهو بئرٌ لا تنقطعُ مادَّتُها، ولا تنسدُّ طرقُها، يسوقُها إليك في طرقٍ لا يهتدي إليها الطَّوَّاف

(3)

، ولا يسلكُها الرَّجَّال

(4)

.

فمن رقَّقه لك وصفَّاه، وأطابَ طعمَه، وحسَّن لونَه، وأحكمَ طبخَه أعدَل إحكام؛ لا بالحارِّ المؤذي، ولا بالبارد المُردي

(5)

، ولا المُرِّ ولا المالح، ولا الكريه الرائحة، بل قَلَبَه إلى ضربٍ آخرَ من التَّغذية والمنفعة خلاف ما كان في البطن، فوافاك في أشدِّ أوقات الحاجة إليه، على حين ظمأٍ شديدٍ وجوعٍ مُفْرِط، جمعَ لك فيه بين الشراب والغذاء؟!

(1)

(ح، ن): «على مجار» .

(2)

(د، ت، ن): «الخزانة» .

(3)

وهو العسَس، الذي يطوف بالليل يحرس الناس. أو هو كثير التطواف مطلقًا.

(4)

لعله مبالغةٌ من الراجل، الماشي على رجليه، خلاف الفارس. ويمكن أن تقرأ: الرحَّال، بالحاء المهملة، كثير الترحال.

(5)

(ت، ق): «المودي» . (ح، ن): «الردي» .

ص: 729

فحين تُولَدُ قد تَلمَّظتَ وحرَّكتَ شفتيك للرَّضاع، فتجدُ الثَّديَ المعلَّق كالإداوة قد تدلى إليك، وأقبل بدَرِّه عليك، ثمَّ جعل في رأسه تلك الحَلَمة التي هي بمقدار صِغَر فمك فلا يضيقُ عنها ولا يتعب

(1)

بالتقامها، ثمَّ ثقبَ لك في رأسها ثقبًا لطيفًا

(2)

بحسب احتمالك، ولم يوسِّعه فتختنقَ باللبن، ولم يضيِّقه فتمصَّه بكُلفة، بل جعله بقَدْرٍ اقتضته حكمتُه ومصلحتُك.

فمن عطفَ عليك قلبَ الأمِّ ووضعَ فيه الحنانَ العجيبَ والرحمةَ الباهرة، حتى تكون في أهنأ ما يكونُ من شأنها وراحتها ومَقِيلها، فإذا أحسَّت منك بأدنى صوتٍ أو بكاءٍ قامت إليك وآثرتْكَ على نفسها، على مدى الأنفاس، منقادةً إليك بغير قائدٍ ولا سائقٍ إلا قائدَ الرحمة وسائقَ الحنان، تودُّ لو أنَّ كلَّ ما يؤلمك بجسمها، وأنه لم يطرُقكَ منه شيء، وأنَّ حياتها تزادُ في حياتك، فمن الذي وضع ذلك في قلبها؟!

حتى إذا قَوِيَ بدنُك، واتسعت أمعاؤك، وخشُنت عظامُك، واحتجتَ إلى غذاءٍ أصلبَ من غذائك؛ ليشتدَّ به عظمُك، ويقوى عليه لحمُك= وضعَ في فِيك آلةَ القطع والطَّحن، فنَصَبَ لك أسنانًا تقطعُ بها الطَّعام وطواحينَ تطحنُه بها.

فمن الذي حبسها عنك أيامَ رضاعك رحمةً بأمِّك ولطفًا بها، ثمَّ أعطاكها أيام أكلِك رحمةً بك وإحسانًا إليك ولطفًا بك؟! فلو أنك خرجتَ من البطن ذا سِنٍّ ونابٍ وناجذٍ وضِرس، كيف كان حالُ أمِّك بك؟! ولو أنك مُنِعتَها وقتَ الحاجة إليها كيف كان حالك بهذه الأطعمة التي لا تُسِيغُها إلا

(1)

(ح): «يضعف» .

(2)

(ح، ن): «ثم نقب

نقبا لطيفا».

ص: 730

بعد تقطيعها وطحنها؟!

وكلَّما ازددتَ قوَّةً وحاجةً إلى الافتنان

(1)

في أكل المطاعم المختلفة زِيدَ لك في تلك الآلات

(2)

، حتى تنتهي إلى النَّواجذ فتطيقَ نهشَ اللحم وقطعَ الخبز وكسرَ الصُّلب، ثمَّ إذا ازددتَ قوَّةً زِيدَ لك فيها حتى تنتهي إلى الطَّواحين

(3)

التي هي آخرُ الأضراس؛ فمن الذي ساعدك بهذه الآلات وأنجدَك بها ومكَّنك

(4)

بها من ضروب الغذاء؟!

ثمَّ إنه اقتضت حكمتُه أن أخرجك من بطن أمِّك لا تعلمُ شيئًا، بل غبيًّا لا عقلَ ولا فهمَ ولا عِلم، وذلك مِنْ رحمته بك؛ فإنك على ضعفك لا تحتملُ العقلَ والفهمَ والمعرفة، بل كنت تتمزَّقُ وتتصدَّع، بل جَعَل ذلك ينشأُ فيك

(5)

بالتَّدريج شيئًا فشيئًا، فلا يصادفُك ذلك وَهلةً واحدة، بل يصادفُك يسيرًا يسيرًا حتى يتكامل فيك.

واعتَبِر ذلك بأنَّ الطفل إذا سُبِيَ صغيرًا من بلده ومن بين أبويه ولا عقلَ له فإنه لا يؤلمُه ذلك

(6)

، وكلَّما كان أقربَ إلى العقل كان أشقَّ عليه وأصعب، حتى إذا كان محتنِكًا

(7)

عاقلًا فلا تراه إلا كالوالِه الحيران.

(1)

مهملة في (د). (ح، ت، ن): «الأسنان» .

(2)

(ت، ق، د): «الآلة» .

(3)

(ق): «زيد لك الطواحين» .

(4)

(ق، د، ت): «ومكن لك» .

(5)

(ح، ن): «ينتقل فيك» .

(6)

(ت): «يهيله ذلك» . وكذا رسمها في (د، ق) دون إعجام.

(7)

المحتنك: الذي تمَّ عقله وسنُّه. وليست في (ح، ن).

ص: 731

ثمَّ لو وُلِدتَ عاقلًا فَهِمًا كحالك في كِبَرك لتنغَّصت عليك حياتُك أعظمَ تنغيص، وتنكَّدت أعظمَ تنكيد؛ لأنك ترى نفسك محمولًا رضيعًا، معصَّبًا بالخِرَق، مربَّطًا بالقُمُط

(1)

، مسجونًا

(2)

في المهد، عاجزًا ضعيفًا عمَّا يحاولُه الكبير، فكيف كان يكون عيشُك مع تعقُّلك التَّامِّ في هذه الحالة؟!

ثمَّ لم يكن يوجدُ لك من الحلاوة واللَّطافة والوَقْع في القلب والرحمة بك ما يوجدُ للمولود الطفل، بل تكونُ أنكدَ خلق الله وأثقلَهم وأعنتَهم وأكثرهم فضولًا.

وكان دخولُك هذا العالم وأنت غبيٌّ

(3)

لا تعقلُ شيئًا ولا تعلمُ ما فيه أهلُه محض الحكمة والرحمة بك والتَّدبير، فتلقى الأشياءَ بذهنٍ ضعيفٍ ومعرفةٍ ناقصة، ثمَّ لا يزالُ يتزايدُ فيك العقلُ والمعرفةُ شيئًا فشيئًا حتى تَأْلفَ الأشياءَ وتَمْرُنَ عليها، وتخرجَ من التأمُّل لها والحيرة فيها، وتستقبلها بحُسْن التصرُّف فيها والتَّدبير لها والإتقان لها.

وفي ذلك وجوهٌ أُخرُ من الحكمة غيرُ ما ذكرناه

(4)

.

فمَن هذا الذي هو قيِّمٌ عليك بالمرصاد، يرصدُك

(5)

حتى يُوافيك بكلِّ شيءٍ من المنافع والآراب والآلات في وقت حاجتك، لا يقدِّمها عن وقتها

(1)

جمعُ «قِماط» ، وهي خرقةٌ عريضةٌ يُلَفُّ بها المولود. «اللسان» (قمط). أو هو الحبل الذي يُشَدُّ به الصبيُّ في المهد.

(2)

(ر، ض): «مسجى» . وهي قراءة جيدة.

(3)

«غبي» ليست في (ت).

(4)

ذُكِرت في «دلائل الاعتبار» (45).

(5)

(ت): «فمن رصدك» .

ص: 732