الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فتأمَّل الحكمةَ في إخراجه ــ سبحانه ــ هذه الحبوبَ لمنافعَ فيها، وكسوتها لحمًا لذيذًا شهيًّا يتفكَّهُ به ابنُ آدم.
ثمَّ تأمَّل هذه الحكمةَ البديعةَ في أنْ جَعَل للثَّمرة الرَّقيقة اللطيفة التي يُفسِدُها الهواءُ والشمسُ غلافًا يحفظُها، وغشاءً يواريها؛ كالرُّمَّان والجَوز واللَّوز ونحوه. وأمَّا ما لا يَفْسُدُ إذا كان بارزًا فجَعَل له في أوَّل خروجه غشاءً يواريه؛ لضعفه ولقلَّة صبره على الحرِّ، فإذا اشتدَّ وقَوِيَ تفتَّق عنه ذلك الغشاءُ وضَحَا للشمس
(1)
والهواء؛ كطَلْع النَّخل وغيره.
فصل
(2)
ثمَّ
تأمَّل خلقَ الرُّمَّان
وماذا فيه من الحِكَم والعجائب؛ فإنك ترى داخلَ الرُّمَّانة كأمثال التِّلال
(3)
شحمًا متراكمًا في نواحيها، وترى ذلك الحَبَّ فيها مرصوفًا رصفًا ومنضودًا نضدًا لا يمكنُ الأيدي أن تنضِّده، وترى الحَبَّ مقسومًا أقسامًا وفِرَقًا، وكلَّ قسمٍ وفرقةٍ منه ملفوفًا
(4)
بلفائفَ وحُجُبٍ منسوجةٍ أعجبَ نسجٍ وألطفَه وأدقَّه
(5)
على غير منوالٍ إلا منوال {كُنْ فَيَكُونُ} ، ثمَّ ترى الوعاءَ المحكَم الصُّلبَ قد اشتمل على ذلك كلِّه وضمَّه أحسنَ ضمٍّ.
(1)
أي: بَرَز لها، وأصابه حرُّها.
(2)
«الدلائل والاعتبار» (22)، «توحيد المفضل» (103 - 104).
(3)
في الأصول: «القلال» ، تحريف. والمثبت من (ر، ض). وإنما ذُكِرت القِلالُ في الحديث في مثَل ثمار الجنة لعِظَمها، وليست كذلك ثمار الدنيا. ثم إن المقصود ههنا تمثيل تراكمها لا عِظَمها.
(4)
(ح): «ملفوفة» . (ن): «ملفوف» .
(5)
«وأدقه» ليست في (ح).
فتأمَّل هذه الحكمةَ البديعةَ في الشَّحم المودَع فيها؛ فإنَّ الحَبَّ لا يمدُّ بعضه بعضًا، إذ لو مدَّ بعضُه بعضًا لاختلط وصار حبَّةً واحدة، فجُعِل ذلك الشحمُ خِلاله
(1)
ليمدَّه بالغذاء.
والدليلُ عليه أنك ترى أصول الحَبِّ مركوزةً في ذلك الشَّحم، وهذا بخلاف حَبِّ العنب فإنه استغنى عن ذلك بأن جَعَل لكلِّ حبَّةٍ مجرًى تشربُ منه، فلا تشربُ حقَّ أختها، بل يجري الغذاءُ في ذلك العِرْق مجرًى واحدًا، ثمَّ ينقسمُ منه في مجاري الحبوب كلِّها، فينصبُّ منه
(2)
في كلِّ مجرًى غذاءُ تلك الحبَّة، فتبارك الله أحسنُ الخالقين.
ثمَّ إنه لَفَّ ذلك الحَبَّ في تلك الرُّمَّانة بتلك اللفائف؛ لتضُمَّه وتمسكه فلا يضطرب ولا يتبدَّد، ثمَّ غشَّى فوق ذلك بالغشاء الصُّلب
(3)
، صِوانًا له
(4)
وحافظًا
(5)
وممسكًا له بإذن الله وقدرته.
فهذا قليلٌ من كثيرٍ من حكمة هذه الثَّمرة الواحدة، ولا يمكنُنا ــ ولا غيرَنا ــ استقصاءُ ذلك، ولو طالت الأيامُ واتَّسعَ الفِكْر
(6)
، ولكنَّ هذا منبِّهٌ على ما وراءه، واللبيبُ يكتفي ببعض ذلك، وأما من غَلبت عليه الشقاوة، فكأيِّن من آيةٍ في السَّموات والأرض يمرُّ عليها وهو معرضٌ عنها
(7)
، غافلٌ
(1)
(ح): «غلافه» . وسقطت من (ن).
(2)
(ح): «فينبعث منه» .
(3)
(ر، ض): «بالقشرة المستحصفة» .
(4)
(ت): «صنوانا» . (ن، ح): «صونا» .
(5)
(ق، ن): «وحفظا» . (ح): «وحفاظا» . (ض): «لتصونه وتحصنه» .
(6)
(ت): «الذكر» .
(7)
سها ناسخ (ق) فكتب بدل هذه الجملة آية سورة يوسف: 105، التي اقتبس منها المصنفُ عبارته، ثم عاد فصحَّحها في الطرَّة بما يوافق باقي النسخ.
عن موضع الدَّلالة فيها.
فصل
(1)
ثمَّ تَأمَّل هذا الرَّيعَ
(2)
والنَّماء الذي وضعه الله في الزَّرع، حتى صارت الحبَّةُ الواحدةُ ربما أنبتت سبعَ مئة حبَّة
(3)
، ولم تنبت الحبَّةُ حبَّةً واحدةً مثلها؛ ليكون في الغَلَّة متَّسعٌ لما يُرَدُّ في الأرض من الحَبِّ وما يكفي النَّاس ويَقُوتُ الزَّارعَ إلى إدراك زرعه. فصار الزرعُ يَرِيعُ هذا الرَّيعَ ليفيَ بما يحتاجُ إليه للقوت والزِّراعة.
وكذلك ثمارُ الأشجار والنَّخيل، وكذلك ما يخرجُ مع الأصل الواحد منها من الصِّنوان؛ ليكون لما يقطعُه النَّاسُ
(4)
من ذلك ويستعملونه في مآربهم خَلَفًا، فلا تَبطُل المادَّةُ عليهم ولا تَنقُص.
ولو أنَّ صاحبَ بلدٍ من البلاد أراد عِمارتَه لأعطى أهلَه ما يَبْذُرونه فيه
(5)
وما يُقِيتهُم إلى استواء الزَّرع، فاقتضت حكمةُ اللطيف الخبير أن أخرجَ من الحبَّة الواحدة حبَّاتٍ عديدة؛ ليُقِيتَ الخارجُ النَّاسَ ويدَّخرون منه ما يزرعون.
(1)
«الدلائل والاعتبار» (19)، «توحيد المفضل» (99 - 100).
(2)
وهو النماء والزيادة. «اللسان» (ريع).
(3)
(ر، ض): «مئة حبة وأكثر وأقل» . وهو أجود.
(4)
(ت، د): «افلس» ، وفي طرة (د):«لعله: الناس» . وكذلك هي في (ر، ض).
(5)
(ق، د، ت): «فيهم» .
فصل
(1)
ثمَّ تأمَّل الحكمةَ في الحبوب
(2)
، كالبُرِّ والشعير ونحوهما؛ كيف يخرجُ الحَبُّ مُدْرَجًا في قُشورٍ على رؤوسها أمثالُ الأسنَّة، فلا يتمكَّنُ جُنْدُ الطَّير من إفسادها والعبث فيها؛ فإنه لو صادفَ الحَبَّ بارزًا لا صِوانَ عليه
(3)
ولا وقاية تحولُ دونه لتمكَّن منه كلَّ التَّمكُّن، فأفسدَ وعاثَ وعَثَا وأكبَّ عليه أكلًا ما استطاع، وعَجَز أربابُ الزَّرع عن ردِّه.
فجعل اللطيفُ الخبيرُ عليه هذه الوقايات لتصونه، فينال الطَّيرُ منه مقدارَ قُوتِه، ويبقى أكثرُه للإنسان؛ فإنه أولى به؛ لأنه هو الذي كَدَحَ فيه وشَقِيَ به
(4)
، وكان الذي يحتاجُ إليه أضعاف حاجة الطَّير.
فصل
(5)
ثمَّ تأمَّل الحكمةَ الباهرة في هذه الأشجار؛ كيف تراها في كلِّ عامٍ لها حملٌ ووَضْع، فهي دائمًا في حملٍ وولادة.
فإذا أذِنَ لها ربُّها في الحمل احتبسَت
(6)
الحرارةُ الطَّبيعيةُ في داخلها واختبأت فيها؛ ليكون فيها حملُها في الوقت المقدَّر لها، فيكون ذلك الوقتُ
(1)
«الدلائل والاعتبار» (20)، «توحيد المفضل» (100).
(2)
(ن): «أكثر الحبوب» .
(3)
الصُّوان (بالضم والكسر): الوعاء الذي يصان فيه الشيء. «اللسان» .
(4)
(ح): «كدح فيه وسعى» . وفي طرَّة (ن) إشارةٌ إلى أن ذلك في نسخة.
(5)
«الدلائل والاعتبار» (22)، «توحيد المفضل» (103).
(6)
(د): «اجتننت» . (ت): «اجتبت» . (ق): «اجتنبت» . والمثبت من (ح، ن)، وهو الصواب. وفي (ر):«فتحتبس الحرارة» .
بمنزلة وقت العُلُوق ومبدأ تكوين النُّطَف، فتعملُ المادَّةُ في أجوافها عملَها، وتهيِّئها للعُلُوق، حتى إذا آن وقتُ الحمل دَبَّ فيها الماءُ، فلانت أعطافُها
(1)
، وتحرَّكت للحَمْل، وسرى الماءُ في أفنانها، وانتشرت فيها الحرارةُ والرُّطوبة.
حتى إذا آنَ وقتُ الولادة كُسِيَت من سائر الملابس الفاخرة من النَّوْر والوَرَق ما تتبخترُ فيه
(2)
وتَمِيسُ به وتفخَرُ على العقيم، فإذا أظهرت أولادها
(3)
، وبانَ للنَّاظر حملُها، عُلِم حينئذٍ كرمُها وطِيبُها مِنْ لؤمها وبخلها؛ فتولى تغذيةَ ذلك الحمل من تولى غذاءَ الأجنَّة في بطون أمَّهاتها وكساها الأوراق وصانها من الحرِّ والبرد.
فإذا تكامل الحملُ وآن وقتُ الفطام، تَدَلَّت إليك أفنانُها كأنما تناولكَ ثمرةَ كبدها
(4)
، فإذا قابلتَها رأيتَ الأفنانَ كأنها تلقاك بأولادها وتحيِّيكَ وتكرمكَ بهم وتقدِّمهم إليك، حتى كأنَّ مناوِلًا يناولكَ إياها بيده، ولا سيَّما قطوفُ جنَّات النَّعيم الدَّانيةُ التي يتناولها المؤمنُ قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا، وكذلك ترى الرَّياحينَ كأنها تحيِّيكَ بأنفُسِها، وتقابلكَ بطِيب رائحتها.
وكلُّ هذا إكرامًا لك، وعنايةً بأمرك، وتخصيصًا لك، وتفضيلًا على غيرك من الحيوانات، أفيَجْمُلُ بك الاشتغالُ بهذه النِّعَم عن المُنعِم بها؟! فكيف إذا استعنتَ بها على معاصيه وصرفتَها في مساخطه؟! فكيف إذا جحدتَه وأضفتَها إلى غيره، كما قال:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82]؟!
(1)
(ت): «فملأت أعطافها» .
(2)
(ن، ح): «تفتخر به» .
(3)
(ح، ن): «ظهرت أولادها» . (ت): «ظهرت ولادتها» .
(4)
(ح): «ثمر درها» .