الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن قلت: فما بالُه لم يُخْلَق ذا عُنقٍ كسائر الأنعام؟ وما الحكمةُ في ذلك؟
قيل: ذلك ــ والله أعلمُ بحكمته في مصنوعاته ــ لأنَّ رأسَه وأذنيه أمرٌ هائلٌ عظيم، وحملٌ ثقيل
(1)
، فلو كان ذا عُنقٍ كسائر الأعناق لانهدَّت رقبتُه بثقله
(2)
، ووَهَنت بحمله؛ فجُعِل رأسُه مُلْصَقًا بجسمه لئلَّا يناله منه شيءٌ من الثِّقَل والمؤنة، وخُلِق له مكان العُنق هذا المِشْفرُ الطَّويل يتناولُ به غذاءه.
ولما طالت عنقُ البعير للحكمة في ذلك صَغُر رأسُه بالنسبة إلى عِظَم جثَّته؛ لئلَّا يؤذيه
(3)
ثِقَلُه ويُوهِن عنقَه.
فسبحان من فاتت أدلَّةُ حكمته
(4)
عدَّ العادِّين وحصرَ الحاصرين.
فصل
(5)
ثمَّ
تأمَّل خَلْق الزَّرافة
واختلافَ أعضائها وشبهَها بأعضاء جميع الحيوان؛ فرأسُها رأسُ فَرَس
(6)
، وعنقُها عنقُ بعير، وأظلافُها أظلافُ بقرة، وجلدُها جلدُ نَمِر، حتى زعم بعضُ النَّاس أنَّ لقاحَها من فحولٍ شتَّى.
(1)
(ح، ن): «أمر هائل ثقيل» . (ر، ض): «أمر عظيم وثقل ثقيل» .
(2)
(ت): «لثقله» .
(3)
(ق): «يوده» . لعلها: يؤوده.
(4)
(ق، د، ت): «فاتت حكمته» .
(5)
«الدلائل والاعتبار» (32 - 33)، «توحيد المفضل» (59 ــ 60).
(6)
«الحيوان» (7/ 242): «وللزرافة خَطْم الجمل» ، وفي «حياة الحيوان» (2/ 481):«رأسها كرأس الإبل» .
وذكروا أنَّ أصنافها من حيوان البرِّ إذا وَرَدَت الماءَ ينزو بعضُها على بعض، فتنزو المستوحشةُ على السَّائمة؛ فتُنتِجُ مثل هذا الشخص الذي هو كالمُلْتقَط من أناسٍ شتَّى
(1)
.
وما أرى هذا القائل إلا كاذبًا عليها وعلى الخِلْقة
(2)
؛ إذ ليس في الحيوان صنفٌ يَلْقَحُ صنفًا آخر، فلا الجملُ يلقحُ البقر، ولا الثَّورُ يلقحُ النَّاقة، ولا الفرسُ يلقحُها ولا يلقحانه، ولا الوحوشُ يلقحُ بعضُها بعضًا، ولا الطُّيور، وإنما يقعُ هذا نادرًا فيما يتقارب، كالبقر الوحشيِّ والأهليِّ، والضَّأن
(3)
والمَعْز، والفَرس والحمار، والذِّئب والضَّبُع؛ فيتولَّدُ من ذلك: البغلُ، والسِّمْع، والعِسْبار
(4)
.
وقولُ الفقهاء: «هل تجبُ الزَّكاةُ في المتولِّد من الوحشيِّ والأهليِّ؟ فيه وجهان»
(5)
؛ هذا إنما يُتَصوَّرُ في واحدٍ أو اثنين أو ثلاثةٍ يَكْمُلُ بها النِّصاب، فأمَّا نصابٌ كلُّه متولِّدٌ
(6)
من الوحشيِّ والأهليِّ فلا وجود لذلك.
(1)
انظر: «الحيوان» (1/ 142، 151، 7/ 241 ــ 243)، و «مروج الذهب» (2/ 111)، و «وفيات الأعيان» (4/ 400)، و «عجائب المخلوقات» (248)، و «حياة الحيوان» (2/ 481).
(2)
وكذَّب الجاحظُ ذلك أيضًا.
(3)
(د): «والضبع» . وفي الطرَّة: «لعلها: والضأن» .
(4)
السِّمْع: ولد الذئب من الضبع. والعِسْبار: ولد الضبع من الذئب. والبغل: متولِّد من الفرس والحمار، وانظر: كتاب «البغال» للجاحظ (2/ 298 ــ رسائله).
(5)
انظر: «المغني» (4/ 35).
(6)
في الأصول: «كل متولد» . وهو تحريف.
والأحكامُ المتعلقةُ بهذه المتولِّدات تُذْكَرُ في الزَّكاة وجزاء الصَّيد والأضاحي والأطعمة
(1)
، فيغلَّبُ في كلِّ بابٍ الأحوط
(2)
؛ ففي الأضاحي يغلَّبُ عدمُ الإجزاء، وفي الإحرام والحَرَم يغلَّبُ وجوبُ الجزاء، وفي الأطعمة يغلَّبُ جانبُ التحريم، وفي الزَّكاة اختلافٌ مشهور
(3)
.
وسئل شيخنا أبو العبَّاس ابنُ تيميَّة ــ قدَّس الله روحه ــ عن حمارٍ نَزَا على فَرسٍ فأحبَلها، فهل يكونُ لبنُ الفَرس حلالًا أو حرامًا؟
فأجاب بأنه حلال
(4)
، ولا حكمَ للفحل في اللَّبن في هذا الموضع، بخلاف الأناسيِّ؛ لأنَّ لبنَ الفَرس حادثٌ من العلَف فهو تابعٌ لِلَحْمِها، ولم يَسْرِ وطءُ الفحل إلى هذا اللبن؛ فإنه لا حُرمة هناك تنتشر، بخلاف لبن الفحل في الأناسيِّ فإنه تنتشرُ به حُرمةُ الرَّضاع، ولا حُرمة هاهنا
(5)
تنتشرُ من جهة الفحل إلا إلى الولد خاصَّة؛ فإنه يتكوَّنُ منه ومن الأمِّ، فغُلِّب عليه التحريم، وأمَّا اللبنُ فلم يتكوَّن بوطئه وإنما تكوَّن
(6)
من العلَف، فلم يكن حرامًا.
(1)
في الأصول: «والأحوط» . وهو خطأ، بدلالة اللحاق، وواقع مدونات الفقه.
(2)
العبارة مضطربة في (ح، ن).
(3)
انظر: «المغني» (5/ 399، 13/ 319، 368).
(4)
أي: من هذه الجهة. وذلك ما لم يُسْكِر. أما المسكر منه ــ وهو شرابٌ مشهورٌ في عهد المماليك، يسمى: القِمِزُّ، انظر:«رحلة ابن بطوطة» (1/ 220)، و «نهاية الأرب» (27/ 231) ــ فحرام. انظر:«جامع المسائل» (4/ 344)، و «مجموع الفتاوى» (34/ 193)، و «الأشربة» لابن قتيبة (129).
(5)
(ح، ن): «هناك» .
(6)
(ح، ت، ن): «يكون» .
هذا بسطُ كلامه وتقريرُه.
والمقصودُ إبطالُ زعم
(1)
أنَّ هذه الحيوانات المختلفة يلقحُ بعضُها بعضًا عند الموارد، فتتكوَّنُ الزَّرافة، وأنه كاذبٌ عليها وعلى الإبداع.
والذي يدلُّ على كذبه أنه ليس الخارجُ من بين ما ذكرنا من الفَرس والحمار، والذِّئب والضَّبُع، والضَّأن والمَعْز، له عضوٌ من كلِّ واحدٍ من أبيه وأمِّه كما يكونُ للزَّرافة عضوٌ من الفَرس وعضوٌ من الجمل، بل يكونُ كالمتوسِّط بينهما الممتزج منهما، كما نشاهده في البغل؛ فإنك ترى رأسَه وأذنيه وكَفَلَه
(2)
وحوافره وسطًا بين أعضاء أبيه وأمِّه، مشتقَّةً منهما، حتى تجدَ شَحِيجَه
(3)
كالممتزج من صَهِيل الفَرس ونهيق الحمار.
فهذا يدلُّ على أنَّ الزَّرافة ليست بنِتاج آباءٍ مختلفةٍ كما زعمَ هذا الزَّاعم، بل من خَلْقٍ عجيبٍ وصُنْعٍ بديعٍ من خَلْق الله الذي أبدعه آيةً ودلالةً على قدرته وحكمته التي لا يُعْجِزُها شيء؛ ليُرِيَ عبادَه أنه خالقُ أصناف الحيوان كلِّها كما شاء، وفي أيِّ صورةٍ شاء
(4)
، وفي أيِّ لونٍ شاء؛ فمنها: المتشابهُ الخِلْقة المتناسبُ الأعضاء، ومنها: المختلفُ التَّركيب والشكل والصُّورة.
كما أرى عبادَه قدرتَه التَّامَّة في خلقه لنوع الإنسان على الأقسام الأربعة الدَّالَّة على أنه مخلوقٌ بقدرته ومشيئته تابعٌ لها:
(1)
(ن): «من زعم» .
(2)
(ض): «وكفله وذنبه» .
(3)
الشَّحِيجُ والشُّحاج: صوتُ البغل. «اللسان» (شحج).
(4)
«وفي أي صورة شاء» ليست في (ح، ن).
* فمنه ما خُلِق من غير أبٍ ولا أمٍّ؛ وهو أبو النَّوع الإنساني.
* ومنه ما خُلِق من ذكرٍ بلا أنثى؛ وهي أمُّهم التي خُلِقَت من ضِلَع آدم.
* ومنه ما خُلِق من أنثى بلا ذكرٍ؛ وهو المسيحُ بن مريم.
* ومنه ما خُلِق من ذكرٍ وأنثى؛ وهو سائرُ النَّوع الإنسانيِّ.
ليُرِيَ عبادَه آياتِه، ويتعرَّف إليهم بآلائه وقدرته، وأنه إذا أراد شيئًا فإنما يقول له:«كُن» ؛ فيكون.
وأما طولُ عنُق الزَّرافة وما لها فيه من المصلحة؛ فلأنَّ منشأها ومَرْعاها ــ كما ذكر المعتنونَ
(1)
بمحالِّها ومساكنها ــ في غَيَاطِلَ
(2)
ذوات أشجارٍ
(3)
شاهقةٍ ذاهبةٍ طولًا؛ فأُعِينَت بطول العُنق لتتناول أطرافَ الشجر التي هناك وثمارَها.
فهذا ما وصلت إليه معرفتُهم، وحكمةُ اللطيف الخبير فوق ذلك وأجلُّ منه.
(1)
(ن): «المعنون» . (ت): «المعينون» . (ح): «المفتون» .
(2)
جمع غيطل، وهو الشجر الكثير الملتف. «اللسان» (غطل). والمثبت من (ر، ض). وتحرفت في (ن، ح): «عناظل» ، وفي (د، ت، ق): «عياطل» ، وناقةٌ عيطل: طويلة العنق. وهضبةٌ عيطل: طويلة. «اللسان» (عطل). ولا علاقة لعلو المكان بما نحن بسبيله، إنما الشأن علو الأشجار. ونقل الجاحظ في «الحيوان» (7/ 242) أنها في أعالي بلاد النُّوبة. وانظر:«مروج الذهب» (2/ 111)، و «جمهرة الأمثال» (1/ 531)، و «وصف أفريقيا» (2/ 258)، و «معجم البلدان» (بربرة)، و «آثار البلاد» (7، 12، 15). وفي «الموسوعة العربية الميسرة» (923): «تعيش في أفريقيا بالمناطق المكشوفة جنوبي الصحراء الكبرى» .
(3)
(ح): «تحت أشجار» . وفي طرتها إشارةٌ إلى أن في نسخة: «ذوات» .
فصل
(1)
ثمَّ تأمَّل هذه النَّملةَ الضعيفةَ وما أُعطِيَته من الفطنة والحيلة في جمع القُوت وادِّخاره وحِفْظه ودفع الآفة عنه؛ فإنك ترى في ذلك عِبَرًا وآيات.
فترى جماعةَ النَّمل إذا أرادت إحراز القُوت خرجت من أسرابها طالبةً له، فإذا ظَفِرَت به أخذت طريقًا من أسرابها إليه وشَرَعت في نقله، فتراها رِفْقتين: رِفْقةً
(2)
حاملةً تحملُه إلى بيوتها سِرْبًا ذاهبًا، ورِفْقةً خارجةً من بيوتها إليه لا تخالطُ تلك في طريقها، بل هما كالخيطيْن، بمنزلة جماعة النَّاس الذَّاهبينَ في طريقٍ والجماعة الرَّاجعينَ من جانبهم في طريق.
فإذا ثَقُل عليها حملُ الشيء من ذلك اجتمعت عليه جماعةٌ من النَّمل وتساعدَت على حمله، بمنزلة الخشبة والحجر الذي تتساعدُ الفئةُ من النَّاس عليه.
فإذا كان الذي ظَفِرَ به منهنَّ واحدةً ساعدَها رِفقتُها عليه إلى بيتها وخلَّوا بينها وبينه، وإن كان الذي صادفه جماعةً منهنَّ تساعَدنَ عليه ثمَّ تقاسمنَه على باب البيت.
ولقد أخبرني
(3)
بعض الصادقينَ
(4)
أنه شاهدَ منهنَّ يومًا عجبًا، قال: رأيتُ نملةً جاءت إلى شِقِّ جرادةٍ فزاولَتْهُ، فلم تُطِق رفعَه
(5)
من الأرض،
(1)
«الدلائل والاعتبار» (36)، «توحيد المفضل» (65 ــ 66).
(2)
الرفقة ــ بضم الراء وكسرها ــ: الجماعة المترافقون. «اللسان» .
(3)
(ح، ق، ن): «أخبر» . وفي «شفاء العليل» (239): «حدثني من أثق به» .
(4)
(ن): «العارفين» .
(5)
(ح، ن): «حمله» .
فذهبَت غيرَ بعيد، ثمَّ جاءت معها بجماعةٍ من النَّمل. قال: فرفعتُ ذلك الشِّقَّ من الأرض، فلمَّا وصلَت النَّملةُ برِفْقتها إلى مكانه دارت حوله ودُرْنَ معها فلم يجدنَ شيئًا، فرجَعْن، فوضعتُه، ثمَّ جاءت فصادفَتْهُ فزاوَلَتْهُ فلم تُطِق رفعَه من الأرض، فذهبَت غيرَ بعيد، ثمَّ جاءت بهنَّ، فرفعتُه، فدُرْنَ حول مكانه فلم يجدنَ شيئًا، فذهبنَ، فوضعتُه، فعادت فجاءت بهنَّ، فرفعتُه، فدُرْنَ حول المكان، فلمَّا لم يجدنَ شيئًا تحلَّقنَ حلقةً وجعلنَ تلك النَّملةَ في وسطها ثمَّ تحامَلْنَ عليها فقطَّعنَها عضوًا عضوًا وأنا أنظُر!!
(1)
.
ومن عجيب الفطنة فيها
(2)
: إذا نَقَلت الحَبَّ إلى مساكنها كسَّرته لئلَّا ينبُت، فإن كان مما ينبتُ الفلقتان منه كسَّرته أربعًا، فإذا أصابه ندًى أو بللٌ وخافت عليه الفسادَ أخرجَتْه للشمس ثمَّ تردُّه إلى بيوتها، ولهذا ترى في بعض الأحيان حَبًّا كثيرًا على أبواب مساكنها مكسَّرًا ثمَّ تعودُ عن قريبٍ فلا ترى منه واحدة.
ومن فطنتها: أنها لا تتَّخذُ قريتَها
(3)
إلا على نَشْزٍ من الأرض
(4)
؛ لئلَّا يَفِيض عليها السَّيلُ فيُغْرِقَها، فلا ترى قرية نملٍ في بطن وادٍ ولكنْ في أعلاه وما ارتفع عن السَّيل منه.
(1)
انظر: «الحيوان» (4/ 6، 7). وانظر تعليق ابن تيمية على القصة ــ وقد حكاها له المصنف ــ في «شفاء العليل» (240).
(2)
(ن، ح): «ومن عجيب أمرها الفطنة فيها» .
(3)
(ر): «الزبية» ، (ض):«زبيتها» . والزُّبية: الرابية لا يعلوها الماء.
(4)
النَّشز ــ بإسكان الشين وفتحها ــ: المتن المرتفعُ من الأرض.
ويكفي من فطنتها ما قصَّ الله سبحانه
(1)
في كتابه من قولها لجماعة النَّمل ــ وقد رأت سليمان عليه الصلاة والسلام وجنودَه ــ: {يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18].
فتكلَّمت بعشرة أنواعٍ من الخطاب في هذه النَّصيحة: النِّداء، والتَّنبيه، والتَّسمية، والأمر، والنَّص، والتَّحذير، والتَّخصيص، والتَّعميم
(2)
، والاعتذار.
فاشتملت نصيحتُها مع الاختصار على هذه الأنواع العشرة
(3)
.
ولذلك أعجبَ سليمانَ قولُها، وتبسَّم ضاحكًا منه، وسأل الله أن يُوزِعَه شُكرَ نعمته عليه لمَّا سمعَ كلامها
(4)
.
ولا تُستبعَدُ هذه الفطنةُ من أمَّةٍ من الأمم تسبِّحُ بحمد ربها كما في «الصَّحيح»
(5)
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نزل نبيٌّ من الأنبياء تحت شجرة، فلدغته نملة، فأمر بجَهازه
(6)
فأُخرِج، ثمَّ أحرقَ قريةَ النَّمل، فأوحى الله إليه: مِنْ أجل أنْ لدغتكَ نملةٌ أحرقتَ أمَّةً من الأمم تسبِّح!، فهلَّا نملةً واحدة؟!».
(1)
(ح، ن): «ما نص الله عز وجل» .
(2)
(ت): «والتفهيم» بدل «والتعميم» . وكذا في (ق)، ثم أصلحت في طرتها. (د):«والتفهم» ، وفي الطرة:«لعله: والتعميم» .
(3)
والاختصار عاشر الأنواع. وانظر لهذه اللطيفة: «اجتماع الجيوش الإسلامية» (328)، و «شفاء العليل» (237)، و «المدهش» (210)، و «زاد المسير» (6/ 162).
(4)
(ح): «لما سمع من كلامها» .
(5)
صحيح البخاري (3019)، ومسلم (2241) من حديث أبي هريرة.
(6)
أي: متاعه ورَحْله.
فصل
(1)
ومِنْ عجيب الفطنة في الحيوان: أنَّ الثَّعلبَ إذا أعوَزه الطَّعامُ ولم يجد صيدًا تَماوَتَ ونفخَ بطنَه حتى يحسبه الطَّيرُ ميتًا، فيقعُ عليه ليأكل منه، فيثبُ عليه الثَّعلبُ فيأخذه
(2)
.
ومِنْ عجيب الفطنة في هذه الذُّبابة الكبيرة التي تسمَّى: «أسد الذُّباب»
(3)
؛ فإنك تراها حين تحسُّ بالذُّباب قد وقعَ قريبًا منه يسكنُ مليًّا حتى كأنه مَوَاتٌ لا حَراك به
(4)
، فإذا رأى الذُّبابَ قد اطمأنَّ وغفلَ عنه دَبَّ دبيبًا رفيقًا
(5)
حتى يكون منه بحيثُ تنالُه وثبتُه
(6)
، ثمَّ يثبُ عليه فيأخذه.
ومِنْ عجيب حِيَل العنكبوت أنه يَنْسِجُ تلك الشبكةَ شَرَكًا للصَّيد، ثمَّ يَكْمُنُ في جوفها، فإذا نَشِبَ فيها البَرْغَشُ
(7)
والذُّبابُ وثبَ عليه وامتصَّ
(1)
«الدلائل والاعتبار» (35)، «توحيد المفضل» (64 ــ 67).
(2)
انظر: «شفاء العليل» (254)، و «الحيوان» (2/ 289، 290، 6/ 312)، و «حياة الحيوان» (1/ 572).
(3)
(ر): «يسمى بالسريانية: أسد الذباب» . ويقال له: «الليث» ، وهو ضربٌ من العناكب. انظر:«الحيوان» (3/ 377، 5/ 412، 414)، و «اللسان» (ليث). ويسمى:«صائد الذباب» ، و «خاطف الذباب». انظر:«ديوان المعاني» (1065)، و «معجم الحيوان» (108).
(4)
(ح، ن): «فيه» . وسقطت من (ت).
(5)
(ض): «دقيقا» .
(6)
(ر): «وثبة» . (د، ق، ت): «يناله ويثبته» . وسقطت الكلمة الثانية من (ح، ن). والمثبت من (ض)، وهو أشبه.
(7)
وهو البعوضُ يَلْسَعُ الناس. «التاج» (برغش). وفي (ر، ض): «الذباب» .
دمَه؛ فهذا يحكي صيدَ الأشراك والشِّباك
(1)
، والأوَّل يحكي صيدَ الكلاب والفُهود.
ولا تزدرِيَنَّ العبرةَ بالشيء الحقير من الذَّرَّة والنملة
(2)
والبعوض والعنكبوت؛ فإنَّ المعنى النفيسَ يُقتَبسُ من الشيء الحقير، والازدراءُ بذلك ميراثٌ من الذين استنكرت عقولهم ضربَ الله تعالى في كتابه المثلَ بالذُّباب والعنكبوت والكلب والحمار؛ فأنزل الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26]، فما أغزرَ الحِكَم وأكثرَها في هذه الحيوانات التي تزدريها وتحتقرُها
(3)
! وكم مِنْ دلالةٍ فيها على الخالق وحكمته ولطفه ورحمته!
فسَلِ المعطِّل: من ألهمَها هذه الحِيَل والتلطُّفَ في اقتناص صيدها الذي جُعِل قوتَها؟!
(4)
ومن جعل هذه الحِيَل فيها بدل ما سَلَبها من القوَّة والقدرة، فأغناها بما أعطاها
(5)
من الحيلة عما سَلَبها من القوَّة والقدرة سوى اللطيف الخبير؟!
(1)
(ر، ض): «الأشراك والحبائل» .
(2)
«والنملة» ليست في (ح، ن).
(3)
(ت، ح): «وتحقرها» .
(4)
(ت): «فوقها» . (ح، ن): «قوامها» .
(5)
(ح، ن): «ما أعطاها» .