المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تأمل الحكمة في شجر اليقطين والبطيخ - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ تأمل الحكمة في شجر اليقطين والبطيخ

فجديرٌ بمن له مُسْكةٌ من عقلٍ أن يسافر بفكره في هذه النِّعَم والآلاء، ويكرِّر ذِكرَها، لعلَّه يُوقِفُه على المراد منها ما هو؟ ولأيِّ شيءٍ خُلِق؟ ولماذا هُيِّاء؟ وأيُّ أمرٍ طُلِب منه على هذه النِّعَم

(1)

؛ كما قال تعالى: {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: 69].

فذِكرُ آلائه تبارك وتعالى ونِعَمه على عبده سببُ الفلاح والسَّعادة؛ لأنَّ ذلك لا يزيدُه إلا محبةً لله وحمدًا وشكرًا وطاعةً وشُهودَ تقصيره ــ بل تفريطه ــ في القليل مما يجبُ لله عليه.

ولله درُّ القائل:

قد هيَّؤُوكَ لأمرٍ لو فَطِنْتَ له

فاربَأ بنفسِكَ أن ترعى مع الهَمَلِ

(2)

فصل

(3)

ثمَّ‌

‌ تأمَّل الحكمةَ في شجر اليَقْطين والبِطِّيخ

والخِرْبِز

(4)

، كيف لما اقتضت الحكمةُ أن يكونَ حملُه ثمارًا كبارًا جُعِل نباتُه منبسطًا على الأرض؛ إذ لو انتصبَ قائمًا كما ينتصبُ الزَّرعُ لضَعُفَت قوَّتُه عن حمل هذه الثِّمار الثَّقيلة، ولنَفَضت

(5)

قبل إدراكها وانتهائها إلى غاياتها.

(1)

(ت): «في هذه النعم» .

(2)

مضى تخريج البيت (ص: 380).

(3)

«الدلائل والاعتبار» (23)، «توحيد المفضل» (104).

(4)

(ق، د، ت): «والجزر» . تحريف. والمثبت من (ن، ر). وفي (ض): «الدباء والقثاء والبطيخ» .

(5)

سقَطَت. والنَّفَض: ما تساقط من الثمر. وفي (ت): «ولنقضت» . (ح): «ولانقضت» . (ق، ن): «ولنقصت» . وأهملت في (د). (ر، ض): «ولتقصفت» .

ص: 653

فاقتضت حكمةُ مُبدعِه وخالقه أن بَسَطه ومدَّه على الأرض، ليُلقِيَ عليها ثمارَه فتحملها عنه الأرض. فترى العِرْقَ الضعيفَ الدَّقيقَ من ذلك منبسطًا على الأرض وثمارُه مبثوثةٌ حواليه، كأنه حيوانٌ

(1)

قد اكتنفها جِراؤها

(2)

فهي ترضعُها.

ولما كان شجرُ اللُّوبيا والباذنجان والباقِلَّاء وغيرها مما يَقْوى على حمل ثمرته، أنبتَه الله منتصبًا قائمًا على ساقه؛ إذ لا يَلقى من حمل ثماره مؤنةً ولا يَضْعُف عنها.

فصل

(3)

ثمَّ تأمَّل كيف اقتضت الحكمةُ الإلهيةُ موافاةَ أصناف الفواكه والثِّمار للنَّاس بحسب الوقت المُشاكِل لها المقتضي لها، فتُوافيهم

(4)

كمُوافاة الماء للظَّمآن، فتلقَّاها

(5)

الطَّبيعةُ

(6)

بانشراحٍ واشتياق، منتظرةً لقدومها كانتظار الغائب للغائب.

ولو كان الصيفُ

(7)

ونباتُه إنما يوافي في الشتاء لصادفَ من النَّاس كراهةً واستثقالًا بوُروده، مع ما كان فيه من المضرَّة للأبدان والأذى لها، وكذلك لو وافى ربيعُها في الخريف أو خريفُها في الرَّبيع لم يقع من النفوس

(1)

(ر، ض): «كأنه هرة ممتدة» .

(2)

صِغارها.

(3)

«الدلائل والاعتبار» (23)، «توحيد المفضل» (105).

(4)

(ن): «فتوافيهم فيه» .

(5)

(ن): «فتتلقاها» .

(6)

(ض): «النفوس» .

(7)

(ن): «فلو كانت فاكهة الصيف» .

ص: 654

ذلك الموقِع، ولا استطابتْه واستلذَّته ذلك الالتذاذ.

ولهذا تجدُ المتأخِّرَ منها عن وقته فائتًا مملولًا محلول

(1)

الطَّعم، ولا تظنَّ

(2)

أنَّ هذا لجريان العادة المجرَّدة بذلك؛ فإنَّ العادة إنما جرت به لأنه وَفْقَ الحكمة والمصلحة التي لا يُخِلُّ بها الحكيمُ الخبير.

فصل

(3)

ثمَّ تأمَّل هذه النَّخلةَ التي هي أحدُ آيات الله

(4)

تجدْ فيها من العجائب والآيات ما يَبْهَرُك؛ فإنه لما قدِّر أن يكون فيه إناثٌ تحتاجُ إلى اللِّقاح جُعِلَت فيها ذكورٌ تَلْقَحُها بمنزلة ذكور الحيوان وإناثه، ولذلك اشتدَّ شَبهُها من بين سائر الأشجار بالإنسان، خصوصًا بالمؤمن، كما مَثَّله النبيُّ صلى الله عليه وسلم

(5)

، وذلك من وجوهٍ كثيرة:

أحدها: ثباتُ أصلها في الأرض واستقرارُه فيها، وليست بمنزلة الشجرة التي اجتُثَّت من فوق الأرض ما لها من قرار

(6)

.

الثاني: طِيبُ ثمرتها وحلاوتُها وعمومُ المنفعة بها، كذلك المؤمنُ طيِّبُ الكلام طيِّبُ العمل، فيه المنفعةُ لنفسه ولغيره.

(1)

كذا في الأصول. وفي (ط): «مخلول» بالمعجمة، لعله من الخَلِّ، وسمِّي بذلك لأنه اختلَّ منه طعمُ الحلاوة.

(2)

مهملة في (د). وفي (ح، ت): «يظن» .

(3)

«الدلائل والاعتبار» (23)، «توحيد المفضل» (105 - 106).

(4)

كذا في الأصول، من باب الحمل على المعنى، وهو كثيرٌ في كتب المصنف.

(5)

أخرجه البخاري (61)، ومسلم (2811) من حديث ابن عمر.

(6)

انظر: «إعلام الموقعين» (1/ 173).

ص: 655

الثالث: دوامُ لباسها وزينتها، فلا يسقطُ عنها صيفًا ولا شتاءً، كذلك المؤمنُ لا يزولُ عنه لباسُ التقوى وزينتُها حتى يُوافي ربَّه تعالى.

الرابع: سهولةُ تناول ثمرتها وتيسيره؛ أمَّا قصيرُها فلا يُحْوِجُ المتناوِلَ أن يَرقاها، وأمَّا باسِقُها فصعودُه سهلٌ بالنسبة إلى صعود الشَّجر الطِّوال وغيرها، فتراها كأنها قد هُيِّئت منها المراقي

(1)

والدَّرَجُ إلى أعلاها؛ وكذلك المؤمنُ خيرُه سهلٌ قريبٌ لمن رام تناوله لا بالعَسِر

(2)

ولا باللئيم.

الخامس: أنَّ ثمرتها من أنفع ثمار العالم؛ فإنه يؤكلُ فاكهةً رطبةً

(3)

وحلاوةً يابسة؛ فيكونُ قُوتًا وأُدْمًا وفاكهة، ويُتَّخَذُ منه الخَلُّ والنَّاطِفُ

(4)

والحلوى، ويدخلُ في الأدوية والأشربة، وعمومُ المنفعة به وبالعنب فوق كلِّ الثِّمار.

وقد اختلف النَّاسُ في أيهما أنفعُ وأفضل؟ وصنَّف الجاحظُ في المحاكمة بينهما مجلَّدًا

(5)

، فأطال فيه الحِجَاجَ والتفضيل من الجانبين.

وفصلُ النِّزاع في ذلك أنَّ النَّخل في مَعْدِنه ومحلِّ سلطانه أفضلُ من

(1)

(ح، ن): «فتراها كأنها منها المراقي» .

(2)

(ق، ت): «بالغر» . (د): «بالغز» . وكلاهما خطأ.

(3)

(ق): «رطبه فاكهة» . وسقطت «رطبة» من (ت).

(4)

ضربٌ من الحلوى. انظر: «المعجم الوسيط» (نطف)، وحواشي «الحيوان» (3/ 376)، و «نشوار المحاضرة» (3/ 271).

(5)

وهو كتاب «الزرع والنخل» ، ولم يُعْثَر عليه بعد. واختار فيه تفضيل النخل؛ فعابه بذلك بعض الناس. انظر: رسائله (1/ 231، 240)، و «الحيوان» (1/ 4)، و «إرشاد الأريب» (2118).

ص: 656

العنب وأعمُّ نفعًا وأجدى على أهله كالمدينة

(1)

والحجاز والعراق، والعنبُ في مَعْدِنه ومحلِّ سلطانه أفضلُ وأعمُّ نفعًا وأجدى على أهله كالشام والجبال والمواضع الباردة التي لا تقبلُ النَّخل

(2)

.

وحضرتُ مرَّةً في مجلسٍ بمكَّة ــ شرَّفها الله تعالى ــ فيه من أكابر البلد، فجَرَت هذه المسألة

(3)

، وأخذ بعضُ الجماعة الحاضرين يُطْنِبُ في تفضيل النَّخلِ وفوائده، وقال في أثناء كلامه: ويكفي في تفضيله أنَّا نشتري بِنَواهُ العنبَ؛ فكيف يفضَّلُ عليه ثمرٌ يكون نواهُ ثمنًا له؟!

(4)

.

وقال آخرُ من الجماعة: قد فَصَل النبيُّ صلى الله عليه وسلم النِّزاعَ في هذه المسألة، وشفى فيها بنَهْيِه عن تسمية شجر العنب كَرْمًا، وقال:«الكَرْمُ قلبُ المؤمن»

(5)

، فأيُّ دليلٍ أبينُ من هذا؟! وأخذوا يبالغون في تقرير ذلك.

(1)

في الأصول: «بالمدينة» . تحريف. وسيرد على الصواب في قوله: «كالشام» .

(2)

انظر: «النخلة» لأبي حاتم السجستاني (42، 46)، و «طريق الهجرتين» (808)، و «زاد المعاد» (4/ 399)، و «تهذيب السنن» (13/ 218).

(3)

وقد جرت من قبلُ في مجلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه. انظر: «الحيوان» (6/ 140)، و «غريب الحديث» لابن قتيبة (1/ 281)، و «اللآلي» للبكري (2/ 690)، وغيرها.

وفي «العقود اللؤلؤية» (2/ 263) خبرُ مناظرةٍ أخرى حول المسألة في مجلس أحد أمراء الدولة الرسولية باليمن.

وللقاضي جمال الدين الريمي (ت: 791) رسالة بعنوان: «تحفة أهل الأدب في تفضيل العنب على الرطب» . انظر: حاشية الرملي على «أسنى المطالب» (2/ 393)، و «نهاية المحتاج» (5/ 246).

(4)

قلب بعضهم هذا الدليل. انظر: «بهجة المجالس» (1/ 130).

(5)

أخرجه البخاري (6183)، ومسلم (2247) من حديث أبي هريرة.

ص: 657

فقلتُ للأوَّل: ما ذكرتَه من كَوْن نوى التَّمر ثمنًا للعنب فليس بدليل؛ فإنَّ هذا له أسباب:

أحدها: حاجتُكم إلى النَّوى للعَلف، فيرغبُ صاحبُ العنب فيه لعَلف ناضحه وحمولته.

الثاني: أنَّ نوى العنب لا فائدة فيه ولا يجتمع.

الثالث: أنَّ الأعنابَ عندكم قليلةٌ جدًّا، والتَّمر فأكثرُ شيءٍ عندكم، فيكثرُ نواهُ، فيشترى به الشيءُ اليسيرُ من العنب، وأمَّا في بلادٍ فيها سلطانُ العنب فلا يشترى بالنَّوى منه شيءٌ ولا قيمة لنوى التَّمرِ فيها.

وقلتُ لمن احتجَّ بالحديث: هذا الحديثُ من حُجَج فضل العنب

(1)

؛ لأنهم كانوا يسمُّونه شجرةَ الكَرْم؛ لكثرة منافعه وخيره، فإنه يؤكلُ رطبًا ويابسًا وحُلوًا وحامضًا، وتجنى

(2)

منه أنواعُ الأشربة والحلوى والدِّبْس وغير ذلك، فسمَّوه كَرْمًا لكثرة خيره؛ فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ قلبَ المؤمن أحقُّ منه بهذه التَّسمية؛ لكثرة ما أودع الله فيه من الخير والبِرِّ والرَّحمة واللِّين والعدل والإحسان والنُّصح وسائر أنواع البرِّ والخير التي وضعها الله

(3)

في قلب المؤمن، فهو أحقُّ بأن يسمَّى كَرْمًا من شجر العنب

(4)

.

ولم يُرِد النبيُّ صلى الله عليه وسلم إبطالَ ما في شجر العنب من المنافع والفوائد، وأنَّ

(1)

(ن): «من حجج من فضل العنب» .

(2)

مهملة في (د). وفي (ن): «وتجيء» . وهي قراءة محتملة.

(3)

(ت، ح): «وصفها الله» .

(4)

من هنا إلى آخر الفصل ساقطٌ من (ح، ن)، وفي (ن):«بياض في الأصل» .

ص: 658

تسميتَه كَرْمًا كذبٌ، وأنها لفظةٌ لا معنى تحتها كتسمية الجاهل عالِمًا والفاجر بَرًّا والبخيل سخيًّا، ألا ترى أنه لم يَنْفِ فوائدَ شجر العنب، وإنما أخبر أنَّ قلبَ المؤمنِ أغزرُ فوائدَ وأعظمُ منافعَ منها؟!

هذا الكلامُ أو قريبٌ منه جرى في ذلك المجلس.

وأنت إذا تدبَّرتَ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الكَرْمُ قلبُ المؤمن» وجدتَه مطابقًا لقوله في النَّخلة: «مَثَلُها مثلُ المسلم» ؛ فشبَّه النَّخلةَ بالمسلم في حديث ابن عمر

(1)

، وشبَّه المسلمَ بالكَرْم في الحديث الآخر، ونهاهم أن يخصُّوا شجرَ العنب باسم الكَرْم دون قلب المؤمن.

وقد قال بعض النَّاس في هذا معنًى آخر؛ وهو أنه نهاهم عن تسمية شجر العنب كَرْمًا لأنه يُقْتَنى منه أمُّ الخبائث؛ فيُكرَهُ أن يسمَّى باسمٍ يرغِّبُ النفوسَ فيها ويحضُّهم عليها؛ من باب سدِّ الذَّرائع في الألفاظ

(2)

. وهذا لا بأس به لولا أن قوله: «فإنَّ الكَرْمَ قلبُ المؤمن» كالتَّعليل لهذا النَّهي والإشارة إلى أنه أولى بهذه التَّسمية من شجر العنب.

ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم أعلمُ بما أراد من كلامه، فالذي قَصَدَه هو الحقُّ.

وبالجملة؛ فالله سبحانه عَدَّدَ على عباده من نِعَمه عليهم ثمراتِ النَّخيل والأعناب، فساقَها فيما عَدَّده عليهم من نِعَمه.

والمعنى الأوَّلُ أظهرُ من المعنى الآخر إن شاء الله

(3)

؛ فإنَّ أمَّ الخبائث

(1)

تقدم تخريجه قريبًا.

(2)

انظر: «المعلم» للمازري (3/ 111)، و «فتح الباري» (10/ 567).

(3)

ومال إلى المعنى الأول أبو الوليد الباجي في «المنتقى» (4/ 244)، وقدَّمه المصنف في «تهذيب السنن» (13/ 217)، وتردَّد فيه في «زاد المعاد» (2/ 349، 4/ 369).

ص: 659

تُتَّخَذُ من ثمر كلِّ النَّخيل والأعناب؛ كما قال تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67]، وقال أنسٌ رضي الله عنه:«نَزَل تحريمُ الخمر وما بالمدينة من شراب الأعناب شيءٌ، وإنما كان شرابُ القوم الفضيخَ المتَّخذَ من التَّمر»

(1)

.

فلو كان نهيُه صلى الله عليه وسلم عن تسمية شجر العنب كَرْمًا لأجل المُسْكِر

(2)

لم يشبِّه النَّخلةَ بالمؤمن؛ لأنَّ المُسْكِرَ يُتَّخَذُ منها، والله أعلم.

الوجهُ السَّادس من وجوه التشبيه: أنَّ النَّخلةَ أصبرُ الشجر على الرياح والجَهْد، وغيرُها من الدَّوْح العِظام تُمِيلها الرِّيحُ تارة، وتَقْلَعُها تارة، وتَقْصِفُ أفنانَها، ولا صبرَ لكثيرٍ منها على العطش كصبر النَّخلة

(3)

؛ فكذلك المؤمنُ صبورٌ على البلاء لا تُزَعْزِعُه الرياح.

السَّابع: أنَّ النَّخلةَ كلها منفعةٌ لا يسقطُ منها شيءٌ بغير منفعة، فثمرها

(4)

منفعةٌ، وجِذْعُها فيه من المنافع ما لا يُجْهَلُ للأبنية والسُّقوف وغير ذلك، وسَعَفُها يُسْقَفُ به البيوتُ مكان القَصَب، ويُسْتَرُ به الفُرَجُ

(5)

والخَلَل، وخُوصُها يُتَّخَذُ منه المَكاتِلُ والزَّنابيلُ وأنواعُ الآنية والحُصُرُ وغيرُها، ولِيفُها وكَرَبُها فيه من المنافع ما هو معلومٌ عند النَّاس.

(1)

أخرجه بنحوه البخاري (2464، 5580)، ومسلم (1980، 1981).

(2)

(ت): «السكر» .

(3)

(ت): «ولا صبر لها، ولا للمثمر منها على العطش» .

(4)

(ق): «فتمرها» . (ت): «فثمرتها» .

(5)

(ت): «الفروج» .

ص: 660

وقد طابَقَ بعضُ النَّاس هذه المنافعَ وصفاتِ المسلم، وجَعَل لكلِّ منفعةٍ منها صفةً في المسلم تقابلُها، فلمَّا جاء إلى الشَّوك الذي في النَّخلة جَعَل بإزائه من المسلم صفةَ الحِدَّة

(1)

على أعداء الله وأهل الفُجور؛ فيكونُ عليهم في الشدَّة والغِلظة بمنزلة الشَّوك، وللمؤمنين والمتقين بمنزلة الرُّطَب حلاوةً ولِينًا، {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].

الثَّامن: أنها كلَّما طال عمرُها ازداد خيرُها وجاد ثمرُها؛ وكذلك المؤمنُ إذا طال عمره ازداد خيرُه وحَسُنَ عملُه.

التَّاسع: أنَّ قلبَها من أطيب القلوب وأحلاه، وهذا أمرٌ خُصَّت به دون سائر الشجر؛ وكذلك قلبُ المؤمن من أطيب القلوب.

العاشر: أنها لا يتعطَّلُ نفعُها بالكليَّة أبدًا، بل إن تعطَّلت منها منفعةٌ ففيها منافعُ أُخَر، حتى لو تعطَّلت ثمارُها سنةً لكان للنَّاس في سَعَفِها وخُوصِها ولِيفها وكَرَبها منافعُ وآراب؛ وهكذا المؤمنُ لا يخلو عن شيءٍ من خصال الخير قطُّ، بل إن أجْدَبَ منه جانبٌ من الخير أخصَبَ منه جانب، فلا يزالُ خيرُه مأمولًا وشرُّه مأمونًا.

وفي «الترمذي»

(2)

مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «خيرُكم من يُرْجى خيرُه ويُؤمَنُ شرُّه، وشرُّكم من لا يُرجَى خيرُه ولا يُؤمَنُ شرُّه» .

فهذا فصلٌ مُعتَرِضٌ ذكرناه استطرادًا للحكمة في خلق النَّخلة وهيئتها، فلنرجِع إليه.

(1)

«صفة» ليست في (ت).

(2)

(2263)، وأحمد (2/ 368)، وغيرهما من حديث أبي هريرة.

قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح» . وصححه ابن حبان (527).

ص: 661

فتأمَّل خِلْقةَ الجِذْع الذي لها كيف هو، تجدْه كالمنسوج من خيوطٍ ممدودةٍ كالسَّدى، وأخرى معترضةً كاللُّحْمة

(1)

، كنحو المنسوج باليد، وذلك لتشتدَّ

(2)

وتَصْلُب، فلا تتقصَّف

(3)

مِنْ حَمْل القِنْوان الثقيلة

(4)

، وتصبرَ على هزِّ الرياح

(5)

العاصفة، ولبثِّها في السُّقوف

(6)

والجسور والأواني وغير ذلك مما يُتَّخَذُ منها.

وهكذا سائرُ الخشب غيرها فيه إذا تأمَّلتَه شِبْه النَّسج، ولا تراه مُصْمَتًا كالحجر الصَّلْد، بل ترى بعضَه كأنه يُداخِلُ بعضًا طولًا وعرضًا كتداخُل أجزاء اللُّحَم بعضها في بعض؛ فإنَّ ذلك أمتنُ له وأهيأُ لما يُرادُ منه، فإنه لو كان مُصْمَتًا

(7)

كالحجارة لم يُمْكِن أن يُستَعمل في الآلات والأبواب والأواني والأمتعة والأسِرَّة والتَّوابيت وما أشبهها.

ومن بديع الحكمة في الخشب أنْ جُعِل يطفو على الماء، وذلك للحكمة البالغة؛ إذ لولا ذلك لمَا كانت هذه السُّفنُ تحملُ أمثال الجبال من الحُمولات والأمتعة، وتَمْخُرُ البحرَ مقبلةً ومدبرة، ولولا ذلك لما تهيَّأ للنَّاس هذه المرافقُ لحمل هذه التِّجارات العظيمة والأمتعة الكثيرة ونقلِها

(1)

السَّدى: الخيوطُ التي تُمَدُّ طولًا في النسيج. واللُّحْمة: الخيوطُ التي تُمَدُّ عرضًا يُلْحَمُ بها السَّدى. «المعجم الوسيط» (سدا، لحم).

(2)

أي: جذوع النخل. وفي (ض): «ليشتد» وكذا ما بعده، للمفرد.

(3)

(ت): «تنقص» . (ح، ن): «تنقصف» .

(4)

القِنْوان: جمع قِنْو، وهو العِذْق بما فيه من الرطب.

(5)

(ت): «مر الرياح» .

(6)

(ر، ض): «وليتهيأ للسقوف» . وهي قراءة محتملة.

(7)

وهو ما لا جوف له. وفي (د، ق، ر، ض): «مستحصفا» ، وهو المستحكِم.

ص: 662

من بلدٍ إلى بلد، بحيثُ لو نُقِلَت في البرِّ لعَظُمَت المؤنةُ في نقلها وتعذَّر على النَّاس كثيرٌ من مصالحهم.

فصل

(1)

ثمَّ تأمَّل أحوال هذه العقاقير والأدوية التي يخرجُها اللهُ من الأرض، وما خَصَّ به كلَّ واحدٍ منها وجَعَل عليه من العمل والنَّفع:

فهذا يَغُورُ في المفاصل فيستخرجُ الفُضولَ الغليظةَ القاتلةَ لو احتبسَت، وهذا يستخرجُ المِرَّةَ السَّوداء، وهذا يستخرجُ الصَّفراء، وهذا يحلِّلُ الأورام، وهذا يسكِّنُ الهيَجانَ والقَلق، وهذا يجلبُ النَّومَ ويعيدُه إذا أعوَزه الإنسان، وهذا يخفِّفُ البدنَ إذا وجد الثِّقَل، وهذا يُفْرِحُ القلبَ إذا تراكمَت

(2)

عليه الغُموم، وهذا يَجْلو البلغَم ويكشِطُه، وهذا يُحِدُّ البصر، وهذا يطيِّبُ النَّكهة، وهذا يسكِّنُ هيَجانَ الباه، وهذا يهيِّجُها، وهذا يبرِّدُ الحرارةَ ويطفئها، وهذا يقتلُ البرودةَ ويهيِّجُ الحرارة، وهذا يدفعُ ضررَ غيره من الأدوية والأغذية، وهذا يقاومُ بكيفيَّته كيفيَّةَ غيره، فيعتدلان، فيعتدلُ المزاجُ بتناولِهما، وهذا يسكِّنُ العطش، وهذا يصرفُ الرياح الغليظةَ ويَفُشُّها

(3)

، وهذا يعطي اللونَ إشراقًا ونضارة، وهذا يزيدُ في أجزاء البدن بالسَّمانة، وهذا يُنقِصُ منها، وهذا يَدْبُغ

(4)

المعدة، وهذا يَجْلوها ويغسلها،

(1)

«الدلائل والاعتبار» (24)، «توحيد المفضل» (106 - 107).

(2)

(ن، ح): «تراكب» .

(3)

فَشَّ القِربةَ يَفُشُّها: حَلَّ وكاءَها فخرجَ ريحُها. «اللسان» (فشش). وفي (ن): «ويفتتها» . (ق، د، ت): «ويهيها» . وانظر: «زاد المعاد» (4/ 395).

(4)

أي: يقوِّيها، وينشِّف الرطوبة، ويحبس البطن. وفي (ت، ن): «يدفع» . وانظر: «زاد المعاد» (4/ 285، 288، 306، 400).

ص: 663

إلى أضعاف أضعاف ذلك مما لا يحصيه العباد.

فسَلِ المعطِّل: من جَعَل هذه المنافعَ والقُوى في هذه النَّباتات والحشائش والحبوب والعُروق؟! ومن أعطى كلًّا منها خاصيَّته؟! ومن هدى العباد ــ بل الحيوان ــ إلى تناول ما ينفعُ منه

(1)

وتَركِ ما يضرُّ؟! ومن فَطَّن لها النَّاسَ

(2)

والحيوانَ البهيم؟! وبأيِّ عقلٍ وتجربةٍ كان يُوقَفُ على ذلك ويُعْرَفُ ما خُلِقَ له ــ كما زعمَ من قلَّ نصيبُه من التَّوفيق ــ لولا إنعامُ الذي أعطى كلَّ شيءٍ خَلْقَه ثمَّ هدى؟!

وهَبْ أنَّ الإنسانَ فَطِنَ لهذه الأشياء بذهنه وتجاربه وفكره وقياسه، فمن الذي فَطَّن لها البهائمَ

(3)

، في أشياء كثيرةٍ منها لا يهتدي إليها الإنسان؟!

حتى صار بعض السِّباع يتداوى من جراحه ببعض تلك العقاقير من النَّبات فيبرَأ

(4)

، فمن الذي جَعَله يقصدُ ذلك النَّباتَ دون غيره؟!

وقد شُوهِد بعض الطير يحتقنُ عند الحُصْرِ بماء البحر، فيسهلُ عليه الخارج

(5)

، وبعض الطَّير يتناولُ إذا اعتلَّ شيئًا من النَّبات فتعودُ صحَّتُه

(6)

.

وقد ذكر الأطبَّاءُ في مباداء الطِّبِّ في كتبهم من هذا عجائب

(7)

.

(1)

(ت): «ينتفع منه» .

(2)

(د، ق، ت): «ومن فطن لها من الناس» .

(3)

(ت): «لهذه البهائم» .

(4)

انظر: «شفاء العليل» (254).

(5)

انظر: «شفاء العليل» (251).

(6)

انظر: «الحيوان» (7/ 32).

(7)

انظر: «زاد المعاد» (4/ 11).

ص: 664

فسَل المعطِّل: من ألهمَها ذلك؟! ومن أرشدَها إليه؟! ومن دلَّها عليه؟! أفيجوزُ أن يكون هذا من غير مدبِّرٍ عزيزٍ حكيم، وتقديرِ عزيزٍ عليم، وتقديرِ لطيفٍ خبيرٍ بَهَرَت حكمتُه العقول، وشهدت له الفِطَر بما استودعها من تعريفه بأنه الله الذي لا إله إلا هو، الخالقُ الباراء المصوِّر، الذي لا تنبغي العبادةُ إلا له، وأنه لو كان معه في سمواته وأرضه إلهٌ سواه لفسَدَت السَّمواتُ والأرضُ واختلَّ نظامُ المُلك؟! فسبحانه وتعالى عما يقولُ الظَّالمون والجاحدون عُلُوًّا كبيرًا.

ولعلَّك أن تقول: ما حكمةُ هذا النَّبات المبثوث في الصَّحاري والقِفَار والجبال التي لا أنيسَ بها ولا ساكن؟! وتظنَّ أنه فَضْلةٌ لا حاجة إليه ولا فائدة في خلقه. وهذا مقدارُ عقلك ونهايةُ علمك؛ فكم لباريه وخالقه فيه من حكمةٍ وآية: مِنْ طُعْم وَحْشٍ وطيرٍ ودوابَّ مساكنُها حيثُ لا تراها تحت الأرض وفوقها، فذلك بمنزلة مائدةٍ نَصَبها الله لهذه الوحوش والطُّيور والدَّوابِّ تتناولُ منها كفايتَها، ويبقى الباقي كما يبقى الرِّزقُ الواسعُ الفاضلُ عن الضَّيف، لِسَعة ربِّ الطَّعام وغِناهُ التَّامِّ وكثرة إنعامه.

فصل

(1)

ثمَّ تأمَّل الحكمةَ البالغةَ في إعطائه سبحانه بهيمةَ الأنعام الأسماعَ والأبصار؛ ليتمَّ تناولها لمصالحها ويَكْمُل انتفاعُ الإنسان بها؛ إذ لو كانت عُمْيًا وصُمًّا لم يتمكَّن من الانتفاع بها.

ثمَّ سَلَبها العقولَ التي للإنسان

(2)

ليتمَّ تسخيرُه إياها، فيقودها

(1)

«الدلائل والاعتبار» (26)، «توحيد المفضل» (52، 55 - 56).

(2)

(ق): «العقول على كبر خلقها التي للإنسان» . وضرب ابن بردس في (د) على «كبر خلقها» . وفي (ط): «سلبها العقول التي للإنسان على كبر خلقها» .

ص: 665

ويصرِّفها

(1)

حيثُ شاء، ولو أُعطِيَت العقولَ على كِبَر خَلْقِها لامتنعَت من طاعته واستعصَت عليه ولم تكُن مسخَّرةً له، فأُعطِيَت من التَّمييز والإدراك ما تَتِمُّ به مصلحتُها ومصلحةُ من ذُلِّلت له، وسُلِبَت من الذِّهن والعقل ما مُيِّز به عليها الإنسانُ، ولتَظْهَر أيضًا فضيلةُ التَّمييز والاختصاص.

ثمَّ تأمَّل كيف قادها وذلَّلها على كِبَر أجسامها، ولم يكن يُطِيقُها

(2)

لولا تسخيرُ الله لها

(3)

؛ قال الله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 12 ــ 13]، أي: مُطِيقين ضابطين.

وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 71 - 72]، فترى البعيرَ على عِظَم خِلْقَته يقودُه الصبيُّ الصغيرُ ذليلًا منقادًا، ولو أُرسِل عليه

(4)

لسوَّاهُ بالأرض ولفصَّله عضوًا عضوًا.

فسَلِ المعطِّل: من الذي ذلَّله وسخَّره وقاده ــ على قوَّته ــ لبشرٍ ضعيفٍ من أضعف المخلوقات، وفرَّغ بذلك التسخير النَّوعَ الإنسانيَّ لمصالح معاشِه

(5)

(1)

(د، ق، ت): «وقودها وتصريفها» .

(2)

(ق، د): «نكن نطيقها» .

(3)

(د، ت، ق): «لولا تسخيره» .

(4)

«عليه» ليست في (ق).

(5)

(ت): «لمصالحه ومعاشه» .

ص: 666

ومعاده؟! فإنه لو كان يُزاوِلُ من الأعمال والأحمال ما يُزاوِلُ الحيوانُ لشُغِل بذلك عن كثيرٍ من الأعمال؛ لأنه كان يحتاجُ مكانَ الجمل الواحد إلى عدَّة أناسِيَّ

(1)

يحملون أثقالَه وحِمْلَه، ويعجزون عن ذلك، وكان ذلك يستفرغُ أوقاتهم ويصدُّهم عن مصالحهم؛ فأُعينوا بهذه الحيوانات، مع ما لهم فيها من المنافع التي لا يحصيها إلا الله: مِن الغذاء والشراب، والدَّواء، واللباس والأمتعة، والآلات والأواني، والرُّكوب والحَرْث، والمنافع الكثيرة، والجَمَال.

فصل

(2)

ثمَّ تأمَّل الحكمةَ في خَلْق آلات البطش في الحيوانات من الإنسان وغيره:

فالإنسانُ لمَّا خُلِق مهيَّأً لمثل هذه الصِّناعات من البناء والخياطة والكتابة والنِّجارة

(3)

وغيرها خُلِق له كفٌّ مستديرةٌ منبسطةٌ وأصابعُ يتمكَّنُ بها من القبض والبسط والطيِّ والنَّشر والجمع والتفريق وضمِّ الشيء إلى مثله.

والحيوانُ البهيمُ لمَّا لم يهيَّأ لتلك الصَّنائع لم يُخْلَق له تلك الأكفُّ والأصابع، بل لمَّا قُدِّر أن يكون غذاءُ بعضها من صَيْده ــ كالسِّباع ــ خُلِق لها أكفٌّ لِطافٌ مُدْمَجَةٌ ذواتُ بَراثِنَ ومخالبَ تصلحُ لاقتناص الصَّيد ولا تصلحُ للصِّناعات.

(1)

(ت): «أناس» .

(2)

«الدلائل والاعتبار» (26)، «توحيد المفضل» (53).

(3)

(د، ت، ن، ض): «والتجارة» . والمثبت من (ق، ح، ر) و «البحار» (61/ 53)، وهو أشبه.

ص: 667

هذا كلُّه في آكِلَة اللَّحم

(1)

من الحيوان.

وأمَّا آكِلةُ النَّباتِ فلمَّا قُدِّر أنها لا تصطادُ ولا صَنْعةَ لها خُلِق لبعضها أظلافٌ تَقِيها خُشونةَ الأرض إذا جالت في طلب المرعى، ولبعضها حوافرُ مُلملَمةٌ مقعَّرةٌ

(2)

كأخمَص القدم

(3)

لتنطبقَ على الأرض وتتهيَّأ للرُّكوب والحُمولة

(4)

، ولم يُخْلَق لها بَراثِنُ ولا أنيابٌ لأنَّ غذاءها لا يحتاجُ إلى ذلك.

فصل

(5)

ثمَّ تأمَّل الحكمةَ في خِلقة الحيوان الذي يأكلُ اللحمَ من البهائم؛ كيف جُعِل له أسنانٌ حِداد، وبراثنُ شِدَاد، وأشداقٌ مَهْرُوتة

(6)

، وأفواهٌ واسعة، وأُعِينت بأسلحةٍ وأدواتٍ تصلحُ للصَّيد والأكل؛ ولذلك تجدُ سباعَ الطَّير ذواتِ مناقيرَ حِدادٍ ومخالبَ كالكلاليب.

ولهذا حرَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم كلَّ ذي نابٍ من السِّباع ومِخْلبٍ من الطَّير

(7)

؛

(1)

(ت، ن): «أكلة اللحم» . (د، ق): «اكله اللحم» .

(2)

(ر، ض): «ذوات قعر» .

(3)

وهو باطنُ القَدَم وما رَقَّ من أسفلها وتجافى عن الأرض فلا يلصقُ بها عند الوطء. «اللسان» (خمص).

(4)

(ض): «تنطبق على الأرض عند تهيئها للركوب والحمولة» .

(5)

«الدلائل والاعتبار» (27)، «توحيد المفضل» (53 - 54).

(6)

واسعة. والهَرَتُ: سَعَة الشِّدق. والشِّدق: جانب الفم. «اللسان» (هرت). وليست في (ر، ض).

(7)

أخرجه مسلم (1934) وغيره من حديث ابن عباس.

ص: 668

لضرره وعُدوانه

(1)

وشرِّه، والمُغتَذِي شبيهٌ بالغاذِي

(2)

، فلو اغتَذى بها الإنسانُ لصار فيه من أخلاقها وعُدوانها وشرِّها ما يشابهها به، فحرَّم على الأمَّة أكلَها.

ولم يحرِّم عليهم الضَّبُعَ وإن كان ذا ناب؛ فإنه ليس من السِّباع عند أحدٍ من الأمم، والتحريمُ إنما كان لِمَا تضمَّن الوصفين: أن يكون ذا نابٍ، وأن يكون من السِّباع

(3)

.

ولا يقال: «فهذا ينتقضُ بالسَّبُع إذا لم يكن له ناب» ؛ لأنَّ هذا لم يوجد أبدًا.

فصلواتُ الله وسلامُه على من أُوتي جوامعَ الكَلِم، فأوضحَ الأحكامَ وبيَّن الحلال من الحرام.

فانظُر حكمةَ الله عز وجل في خلقِه وأمرِه فيما خَلَقه وفيما شرَعَه تجدْ مصدرَ ذلك كلِّه الحكمةَ البالغةَ التي لا يختلُّ نظامُها ولا ينخرمُ

(4)

ولا يختلُّ أبدًا.

ومن الناس من يكونُ حظُّه من مشاهدة حكمة الأمر أعظمَ من مشاهدة حكمة الخلق، وهؤلاء خواصُّ العباد الذين عَقَلُوا عن الله أمرَه ودينَه، وعرفوا

(1)

(ت): «وعداوته» .

(2)

(د، ق، ت): «والمعتدي شبه بالعادي» . وسيرد على الصواب (ص: 909). وانظر: «زاد المعاد» (5/ 746)، و «إعلام الموقعين» (2/ 15)، و «أيمان القرآن» (565)، و «مدارج السالكين» (1/ 403).

(3)

انظر: «إعلام الموقعين» (2/ 134).

(4)

(ق، ت): «لا يخل نظامها» . والفعل مهمل في (د).

ص: 669

حكمتَه فيما أحكَمه

(1)

، وشهدت فِطَنُهم وعقولهم أنَّ مَصدرَ ذلك حكمةٌ بالغةٌ وإحسانٌ تامٌّ ومصلحةٌ أُريدت بالعباد في معاشهم ومعادهم، وهم في ذلك درجاتٌ لا يحصيها إلا الله.

ومنهم من يكونُ حظُّه من مشاهدة حكمة الخلق أوفرَ من حظِّه من حكمة الأمر، وهم أكثرُ الأطبَّاء والطبائعيِّين الذين صرفوا أفكارَهم إلى استخراج منافع النَّبات والحيوان وقُوَاها وما تصلحُ له مفردةً ومركَّبة، وليس لهم نصيبٌ في حكمة الأمر إلا كما للفقهاء من حكمة الخَلْق، بل أقلُّ من ذلك.

ومنهم من فُتِحَ عليه بمشاهدة حكمة الخلق والأمر

(2)

بحسب استعداده وقوَّته، فرأى الحكمةَ الباهرةَ التي بَهَرَت العقولَ في هذا وهذا، فإذا نظر إلى خَلْقه وما فيه من الحِكَم ازداد إيمانًا ومعرفةً وتصديقًا بما جاءت به الرُّسل، وإذا نظر إلى أمره وما تضمَّنه من الحِكَم الباهرة ازداد إيمانًا ويقينًا وتسليمًا.

لا كمن حُجِبَ بالصَّنعة عن الصَّانع، وبالكواكب عن مُكَوْكِبها؛ فعَمِيَ بصرُه، وغَلُظ عن الله حجابُه، ولو أعطى علمَه حقَّه لكان من أقوى النَّاس إيمانًا؛ لأنه اطَّلع من حكمة الله وباهر آياته

(3)

وعجائب صُنْعِه الدَّالَّة عليه وعلى علمه وقدرته وحكمته على ما خَفِيَ عن غيره. ولكنَّ من حكمة الله أيضًا أنْ سَلَبَ كثيرًا من عقول هؤلاء

(4)

خاصَّتَها

(5)

، وحَجَبَها عن معرفته،

(1)

في الأصول: «أحله» . والمثبت أشبه.

(2)

(ح، ن): «بمشاهدة الخلق والأمر» .

(3)

(ن، ح): «وبراهينه» .

(4)

(ت): «عقول كثير من هؤلاء» .

(5)

(ح، ن): «خاصيتها» . والخاصيَّة نسبة إلى الخاصَّة.

ص: 670